خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوِصَال لَدَيْهَا ... جَارَةٌ لَمْ تَزَلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا
كَمْ مُحِبٍّ أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا ... حَاوَلَ الزَّوْر صَيَّرَتْهُ ازْوِرَارَا
وكذلك جاءت الأحاديث النبوية والآثار الحكيمة فلهذا كان الأيقاظ من أهلها العلماء العقلاء الزهاد.
العاملون بعلمهم الَّذِينَ لا تأخذهم في الله لومة لائم لم يركنوا إلى الدنيا بل اتخذوها مطية إلى الآخرة.
شِعْرًا: ... إِذَا بَكَيْتُ مَا مَضَى مِنْ زَمَنٍ ... فَحُقِّ لِي أَبْكِي وَمَنْ لِي بِالْبُكَا
مَنْ أَبْصَرَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ عَقْلِهِ ... أَدْرَكَ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَت لِلْبَقَا ِ
مَطِيَّةٌ وَارِدَةٌ إِلَى الرَّدَى ... وَإِنْ تَرَاخَى الْعُمْرُ وَامْتَدَّ الْمَدَى
إِنْ هِيَ أَعْطِيَتْ كَانَتْ هَمًّا حَاضِرًا ... أَوْ مُنِعَتْ كَانَ عَذَابًا وَأَذَى
وَالْمَرْءُ رَهْنُ أَمَلٍ مَا يَنْتَهِي ... حَتَّى يُوَافِي أَجَلاً قَدْ انْتَهَى
بخلاف علماء الألسن الَّذِينَ يلبسون للناس جلود الظأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب الَّذِينَ يتخللون بألسنتهم كما تتخلل البقرة بلسانها. قَالَ بعضهم وأجاد في وصف الدنيا.
أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَجِيفَةِ مَيْتَةٍ ... وَطُلابُهَا مِثْلُ الْكِلابِ الْهَوَامِسِ
وَأَعْظَمُهُمْ ذَمًّا لَهَا وَأَشَدُّهُمْ ... بِهَا شَغَفًا قَوْمٌ طِوَال الْقَلانُسِ
وختاماً فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم فبل أن يقال فلان مريضٌ أو ثقِيلٌ أو مدنفٌ ثقِيل فهل من دليل يدل على الدواء لهذا العليل أو هل إلى الطبيب من سبيل.
فتنقل إلى المستشفى وتدعى لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه وما يقدر على أن يكلم إخوانه.
وها هو في سكرات الموت لا يعرف من عنده من أولاده وإخوانه وجيرانه(6/616)
وعرق عند ذلك جبينك وتتالع أنينك وثبت يقينك وارتفعت جفونك وصدقت ظنونك.
وتلجلج وتحير لسانك وبكى أولادك وإخوانك وقِيلَ لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان وهذه أمك وهذا أبوك وبصرك شاخص وعيونك غرقى من الدمع ولا تقدر على الكلام.
فتصور نفسك يا مسكين ملقى على الأرض التي خلقت منها جثة تتصاعد روحك والناس من حولك يبكون ولكن دون جدوى لأن قضاء الله وقدره لا بد أن ينزل بِكَ.
ثم ختم على لسانك فلا ينطق ثم حل بِكَ القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك أولادك وإخوانك وأحضرت أكفانك وجيء بالنعش والمغسل.
فجردك من الثياب وغسلك وجيء بالكفن فكفنوك وحنطوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهنًا بأعمالك فيا لها من رحلة ويا له من قدوم.
شِعْرًا: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبِين فِي خَرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
هذه قصيدة في مدح النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزلنا ما فيها من الغلو الَّذِي ما تنبه له وتركنا أيضاً التثبيب الَّذِي في أولها.
أَحْمَدُ الْهَادِي إِلَى سُبُلِ الْهُدَى ... كَمْ بَدَى مِنْهُ لآهْلِ الأَرْضِ نُصْحْ
هَاشِمِيٌّ قُرَشِيٌّ طَاهِرٌ ... حَسنَ الأَخْلاقِ زَاكِي الأَصْلِ سَمْحْ ِ
جَاءَ بِالدِّينِ الْحَنيفِيِّ وَقَدْ ... طَبَّقَ الأَرْضُ مِنَ الإِشْرَاكِ جُنْحْ
فَأَرَى النَّاسَ الْهَادِي بَعْدَ الرَّدى ... فَإِذَا الْحَقُّ تَجَلَّى مِنْهُ صُبْحْ
فَآبى مِنْهُمْ كِلابُ كَيْدُهُمْ ... حِينَ خَافُوا أُسْدَ الإِسْلامِ نَبْحْ ِ
ثُمَّ لَمَّا رَامَ تَمْزِيقَ الدُّجَا ... جَاءَهُ مِنْ فَجْرِ نُورِ اللهِ رُمْحْ
فَاِنْجَلَى الشِّرْكُ وَوَلَّى دُبْرَهُ ... وَعَلَتْ لِلَّذينِ آطَامُ وَصُرْحْ(6/617)
وَبَدَتْ أَعْلامُ إِسْلامٍ بِهَا ... صَارَ لِلأَصْنَامِ تَكْسِيرٌ وَطَرْحْ
وَبِهِ الرَّحْمَنُ قَدْ أَنْقَذَنا ... مِنْ لَظَى نَارٍ لأَهْلِ الْكُفرِ تَلْحْ
هُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ طُرًّا وَبِهِ ... لِلنَّبِيِّينَ جَرَى خَتْمٌ وَفَتْحْ
فَاقَ فِي حِلْمٍ وَحُكْمٍ وَحِجِيِّ ... زَانَهُ صِدْقُ وَصَبْرُ ثُمَّ صَفْحْ
عَزْمُهُ مَاضٍِ وَأَمَّا عِلْمِهِ ... فَهُوَ كَالْبَحْرِ فَلا يُزْرِيهِ نَزْحْ
فَهُوَ فِي يَوْم الْوَغى لَيْثُ عِدِيِّ ... وَهُوَ فِي يَوْمَ النَّدَى غَيْثٌ يَسِحْ
كَفُّهُ عَارِضُ جُودٍ هَاطِلُ ... جَادَ بِالِجُودِ فَلا يَعْرُوهُ شُحْ
وَإِذَا مَا ثَارَ نَفْعُ وَعَدَتْ ... عَادِيَاتُ وَبَدَا مِنْهُنَّ ضَبْحْ
وَلْتَقَى الْبِيضُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا ... فِي مَجَالٍ وَحَمَى لِلْبَلِّ نَضْحْ
لَمْ يَكُنْ كَيْدُ الْعِدَى هَائِلُهُ ... أَيَهُولُ الضَّيْغَمَ الْمِقْدَامَ سَرْحْ
كَمْ لَهُ مِنْ مَوْطِنٍ فِيهِ ارْتَوَى ... مِنْ دِمَا أَعْدَائِهِ سَيْفٌ وَرَمْحْ
كُلّ مَنْ حَارَبَهُ دَانَ لَهُ ... بَعْدَ أَنْ يُثْخِنَهُ قَتْلٌ وَجَرْحْ
حَرْبُهُ نَارٌ عَلَى أَعْدَائِهِ ... فَنَجَا مَنْ هُوَ لِلْمُخْتَارِ صُلْحْ
جَاءَهُ الْكُفَّارُ فِي أَحْزَابِهِمْ ... لِيُزِيلُوا شِرْعَةَ الْحَقِّ وَيَمْحْ
فَتَوَلَّوْا هَرَبًا بَلْ خُيَّبَا ... مَا شَفُوا غَيْظًا وَمَا لِلزِّنْدِ قَدحْ
غَنَمٌ بِالنَّطْحِ صَالَتْ وَأَبَى ... جَبَلُ الإِسْلامِ أَنْ يُوهيهِ نَطْحْ
وَلَهُ صَحْبٌ لُيُوثٌ هَمَّهُمْ ... لِدَمِ الْكُفَّارِ فِي الْهَيْجَاءِ سَفْحْ
لَمْ يُلاقُوا أَحَدًا إِلا انْثَنَى ... وَتَوَلَّى وَلَهُ فِي الْعَدْوِ جَمْحْ
فَهُمُ الشُّجَعَانُ إِنْ جَاءَ الضِّيَا ... وَهُمْ الرُّهْبَانُ مَهْمَا جَنَّ جُنْحْ
وَهُمُ الْقَوْمِ إِذَا مَا عَبَسَتْ ... وَاكْفَهَرَّتْ أَوْجُهٌ لِلْحَرْبِ كَلْحْ
لا تَرَى فَخْرًا إِذَا نَالُوا وَلا هُمْ ... جَزعًا إِنْ نَالَهُمْ فِي الْحَرْبِ قَرْحْ(6/618)
.. كَمْ سَقُوا حِزْب الْعِدَى كَأْسَ الرَّدَى ... وَهُوَ فِي الذُّوقِ مِنْ الْعَلْقَمِ صَرْحْ
فَهُمُ الأَنْصَارُ لِلدِّينِ لَهُمْ ... أَبَدًا فِي نُصْرَةِ الإِسْلامِ كَدْحْ
بَذَلُوا الأَنْفُسَ وَالأَنْفُسُ مِنْ ... مَا لَهُمْ للهِ مَا ظَنُّوا وَشَحُّوا
حَسْبُهُمْ مِنْ مَالِهِمْ سَابِغَة ... وَجَوَاد ثُمَّ صَمْصَامٌ وَسَمْحْ
فَاغْفِرْ اللَّهُمَّ ذَنْبِي كُلَّهُ ... وَاسْتُرْ الْعَيْبَ فَلا يُبْدِيهِ فَضْحْ
وَأَجِبْ رَبِّي دُعَائِي إِنَّهُ ... لِقَضَاءِ الْحَاجِ مِفْتَاحٌ وَنَجْحْ
وَأَتِمَّ الْحَمْدَ للهِ عَلَى ... فَضْلِهِ وَالْفَضْلُ مِنْ ذِي الْعَرْشِ مَنْحْ
وَصَلَوَاتُ اللهِ مَعْ تَسْلِيمِهِ ... مَا جَرَى فَلْكٌ لَهُ فِي الْبَحْرِ سَبْحْ
أَبَدًا يَهْدِي إِلَى خَيْرِ الْوَرَى ... مَنْ لَهُ فِي كُتُبِ الرَّحْمَنِ مَدْحْ
أَحْمَدُ وَالآلُ وَالصَّحْبُ وَمَنْ ... لَهُمْ يَقْفُوا عَلَى الأَثْرِ وَيَنْحُوا
مَا حَدَى بِالْعِيسِ حَادِيهَا وَمَا ... أَطْرَبَ السَّمْعَ مِنَ السَّاجِعِ صَدْحْ
اللَّهُمَّ وقفنا للاستعداد لما أمامنا وأهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل صدح ليوم المعاد وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة)
قَالَ الله جل ذكره {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ جل وعلا {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} وَقَالَ عز من قائل {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وَقَالَ تبارك وتعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} . وَقَالَ تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَقَالَ جل وعلا {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} وَقَالَ جل وعلا وتقدس {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} . وكان النَّبِيُّ يتخول أصحابه بالموعظة فالوعظ والتذكير فريضتان واجبتان ماضيتان على أهلهما بكتاب الله وسنة رسوله.
وقد أمر الله الموعظين بالاستماع والإصغاء للموعظة لما فيها من المنافع العظيمة.(6/619)
فعلى كل إنسان مهما جل قدره وعظم خطره أن يحرص ويجتهد على استماع الموعظة وقبول النصيحة لأنه إذا فعل ذلك فاز بقسطه الأوفر وحظه الأجزل واستحق من الله البشرى في العاجل والثواب في الآجل ومن عقلاء خلقه الثناء الحسن والمدح والإكرام والدعاء.
فإن الله جل ذكره يقول {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ثم قَالَ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} .
وقد شبه الله الكفرة المعرضين عن القرآن الَّذِي هو مشتمل على التذكرة الكبري والموعظة العظمي بالحمر قَالَ تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} فليحذر المسلم أن يتشبه بهم ويعرض عن الموعظة.
وقد جعل الله جل ذكره الخير في الاعتبار والاعتبار بالتفكير وحث عليه في عدة مواضع من كتابه قَالَ تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَقَالَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} .
وَقَالَ جلا وعلا {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} وَقَالَ جل وعلا وتقدس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
وَقَالَ عز من قائل {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَقَالَ جل وعلا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
فمن قريب ما يجب أن يفكر فيه اللبيب ويتدبره أن يتذكر أحوال الأمم والقرون الماضية والملوك الأولين الَّذِينَ كانوا من أشد خلق الله وأكثر جمعا وأبين آثاراً وأطول أعماراً بنوا المدائن وجمعوا الخزائن وحفروا الأنهار وعمروا الديار وشيدوا القصور.
ودبروا الأمور وجمعوا الجموع وقادوا الجيوش وساقوا الخيول ودوخوا البلاد وأذلوا العباد ومشوا في الأرض مرحاً واختالوا بما أوتوا فرحاً فأخذهم الله بما كانوا يكسبون لله.(6/620)
فأصبحوا بعد العز والمنعة والملك والرفعة والصوت والسطوة والذكر والصولة عظامًا رميمًا ورفاتًا هشيمًا وأصبحت منازلهم خاوية وقصورهم خالية وأجسادهم بالية وأصواتهم هادئة.
تخبرك آثارهم معاينة وتقرع سمعك أخبارهم مجاهرة فلم يصحبهم من الدنيا ما جمعوا ولم يدفع عنهم الردى ما كسبوا ولعلهم ندموا حيث لم تنفعهم الندامة وتلهفوا حيث لا يغني عنهم التلهف شيئاً.
وإن الباقي عما قليل كالفاني والغابر عما قليل كالماضي وما بينهما إلا أنفاس معلومة وأيام معدودة سريعة الانقضاء قريبة الانتهاء.
فليحذر المغتر بملكه والمتمتع بعزة هذه الصرعة وليستعد لهذه الوجبة والينته لهذه الموعظة فإن الله جعلها في أوائل مواعظه.
وكررها في مواضع من كتابه حيث جل وعلا وتقدس يقول {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
وَقَالَ تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وَقَالَ جل وعلا وتقدس {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} .
وعد جل وعلا كثيراً منهم في كتابه ووصفهم وسماهم في خطابه حيث يقول {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبِكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبِكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبِكَ لَبِالْمِرْصَادِ *} .(6/621)
وَقَالَ: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} . هذا خبر أصدق القائلين وهذا قول حق وقد جعل الله بكل ما شوهد في أيامه وعوين في زمانه ممن رفعوا ثم وضعوا وعلوا ثم صرعوا ودارت عليهم الدوائر ونابتهم النوائب ما في بعضه مقنع لمعتبر وبلاغ لمدكر.
قَالُوا وأشرف أبو الدرداء صاحب رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل حمص فَقَالَ يا أهل حمص أتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وتجمعون ما لا تأكلون.
إن من كان قبلكم بنوا شديدا وأملوا بعيدا وجمعوا كثيرا فأصبحت اليوم مساكنهم قبورا وأملهم غزورا وجمعهم بورا.
وقد قَالَ أحد فصحاء الملوك في خطبته: ألم تروا مصارع من كان قبلكم كيف استدرجتهم الدنيا بزخارفها ونفتهم ثم تركتهم وقد تخلت عنهم فهم في حيرة وظلمة مدلهمة تركوا الآهلين والأولاد والعيال والأموال.
مساكنم القبور وقد خلت منهم الدور وتقطعت منهم الأوصال والصدور وصاروا ترابا باليا وكان الله لهم ناهيا قَالَ تعالى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
(موعظة)
عباد الله سرور المؤمنين يعتبرون القناطر ويأمنون العواثر فذلك يوم عيدهم ومادوا في دار الغرور فلا غبطة ولا سرور.
وأي سرور لمن الموت معقود بناصيته والذنوب راسخة في آنيته والنفس تقوده إلى هواها والدنيا تتزين في عينه بمشتهاها.
والشيطان مستبطن فقار ظهره لا يفتر عن الوسوسة في صدره ونفسه وماله بعرضه للحوادث ولا يدرى في كل نفس ما عليه حادث.
شِعْرًا: ... فِعَالِي قَبِيحٌ وَظَنِّي حَسَنٌ ... وَرَبِّي غَفُورٌ كَثِيرُ الْمِنَنْ(6/622)
.. تُبَارِزْ مَوْلاكَ يَا مَنْ عَصَى ... وَتَخْشَى مِنْ الْجَارِ لَمَّا فَطِنْ
رَكِبْتُ الْمَعَاصِي وَشِيبِي مَعِي ... فَوَاللهِ يَا نَفْسُ مَاذَا حَسَنْ
فَقُومِي الدَّيَاجِي لَهُ وَارْغَبِي ... وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الْمَنَنْ
وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الرَّجَا ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْفُ عَنِّي فَمَنْ
آخر: ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي
ومن ورائه المغير ومسألة منكر ونكير ويتوسد التراب إلى يوم النشور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يوم لا يبلغ وصف أهواله ولا شرح أحواله ما لا يسع المؤمن به أن يستقر له قرار ولا يخلد إلى هذه الدار ولا يكون له هم في هذه الدنيا إلا التقرب بأنواع القرب واجتناب الفواحش والريب وإقامة الدين الَّذِي في إقامته النجاة وفي تضييعه العطب العظيم.
يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ
يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ
يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ ... فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّانِ
يَوْمٌ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمِ ... وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ الْعِقيَاتِ
وَيََجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى ... يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ الْعَطْشَانِ
وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّمِ ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنِ دَائِمَتَانِ
اللَّهُمَّ أتمم علينا نعمتك الوافية وارزقنا الإخلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا وعد علينا بإصلاح قلوبنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)(6/623)
كتب بعضهم إلى أخ له فَقَالَ له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله سبحانه والعمل بما علمك الله تعالى والمراقبة حيث لا يراك إلا الله عز وجل والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة ولا ينتفع بالندم عند نزوله.
شِعْرًا: ... تَفُوزُ بِنَا الْمَنُونَ وَتَسْتَبِدُّ ... وَيَأْخُذُنَا الزَّمَانُ وَلا يَرُدُّ
وَأَنْظُرُ مَاضِيًا فِي عَقْبِ مَاضٍ ... لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ جِدُّ
رُوَيدًا بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَنَايَا ... فَلَيْسَ يَفُوتُهَا السَّارِي الْمُجِدُّ
فاحسر عن رأسك قناع الغافلين وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غداً فإن الدنيا ميدان المسابقين ولا تغتر بمن أظهر النسك وتشاغل بالوصف وترك العمل بالموصوف.
واعلم يا أخي أنه لابد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل يسألنا عن الدقيق الخفي والجليل الخافي ولست آمن أن يسألني وإياك عن وسوسة الصدور ولحظات العيون والإصغاء للاستماع.
واعلم أنه لا يجزي من العمل القول ولا من البذل العدة ولا من التوقي التلاوم.
قَالَ نافع خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راعي فَقَالَ عبد الله بن عمر يا راعي هلم فأصب من هذه السفرة. فَقَالَ إني صائم فَقَالَ عبد الله في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين هذه الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم. فَقَالَ الراعي أبادر أيامي فعجب ابن عم وَقَالَ هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها نطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها.
قَالَ إنها ليست لي إنها لمولاي قَالَ فما عسيت أن يقول مولاك إن قلت أكلها الذئب.
فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله قَالَ فلم يزل ابن عمر يقول الراعي فأين الله فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم. ودعا قوم رجلاً إلى طعامٍ في يوم قائظ حره فَقَالَ إني صائم فقَالُوا أوفي مثل هذا اليوم قَالَ أفاغبن أيامي.(6/624)
ونزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في يوم صائف وقرب غداءه راع من جبل فَقَالَ يا راع هلم إلى الغداء قَالَ إني صائم.
قَالَ له روح بن زنباع أو تصوم في هذا الحر الشديد قَالَ الراعي أفأدع أيامي تذهب باطلاً فأنشأ روح يقول:
لَقَدْ ضَنَنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِي ... إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بنُ زِنْبَاعِ
ودعا قوم رجلاً إلى طعام فَقَالَ إني صائم فقَالُوا أفطر وصم غداً قال ومن لي بأن أعيش إلى غد.
وري أن الحسن رأى رجلاً متعبداًً فَقَالَ يا عبد الله ما يمنعك من مجالسة الناس قَالَ شغلني عن الناس قَالَ فما منعك أن تأتي الحسن فَقَالَ ما أشغلني عن الحسن قَالَ فما الَّذِي أشغلك عن الحسن.
قَالَ إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة فرأيت أن أشغل نفسي بالاستغفار للذنب والشكر لله تعالى على النعمة فَقَالَ أنت عندي أفقه من الحسن.
وَقَالَ بعض العلماء حاثاً على شكر الله جل وعلا فَقَالَ إخواني اشكروا الله على ما أنعم عليكم به من الألسن بكثرة التلاوة لكتاب الله وذكره.
فإن فرطتم في ذلك فاستحيوا من الله أن تخوضوا بالألسن في فنون الآثام فقد ورد عن النبي ? أنه قَالَ: «هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم» .
فالرجل العاقل المستقيم لا يستخدم لسانه إلا في الحق والخير من ذكر الله والثناء عليه وتلاوة كتابه الكريم والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين ولأئمة المسلمين وعامتهم ويجتنب الكذب والافتراء والغيبة والنميمة ويجتنب القبيح وتقبيح الحسن والتملق والنفاق والرياء قَالَ ?: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كل هذه منِ آفاتِ الِلّسَان» .
ألا واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الأنصار بالنظر إلى الحق بالاعتبار شكراً الله على له فإن رغبتم عن ذلك فراقبوا الله أن تنظروا بالأبصار إلى الحرام(6/625)
فتغضبوا الله بنعمه كفعل الكثير من الناس فاتقوا الله عباد الله.
إلا فراقبوه واشكروه على ما أنعم به عليكم من السمع بالاستماع إلى القرآن الكريم وكلام سيد المرسلين والمواعظ الحسنة.
فإن ضيعتم ذلك وفرطتم فيه فاستحيوا من الله أن تنصتوا بأسماعكم إلى الهوى والملاهي والأغاني وجميع المنكرات فإنكم عن جميع ذلك مسؤولون.
واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الأيدي ببسطها إلى الخيرات فإن قصرتم عن ذلك فاستحيوا أن تبسطوها إلى الظلم والأذى كفعل كثير من الناس فإن الظلم ظلمات يوم القيامة قَالَ الله جل وعلا وتقدس {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من الأرجل بالسعي بها إلى الطاعات فإن قصرتم في ذلك فراقبوا الله ولا تسعوا بها إلى الآثام.
فالرجل المستقيم لا يستخدم سمعه وبصره وجميع حواسه ومشاعره إلا فيما أحل الله له وقد جمع الله كثيراً من صفات المؤمنين المستقيمين وعدهم مفلحين مستحقين للخلود في جنات النعيم في قوله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قَالَ الله جل وعلا {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكيف بِكَ والأكبال في الأقدام والأغلال في الأعناق، قَالَ الله جل وعلا {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} .
إلا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من الأقوات فلا تتقووا بها على معاصي الله ألا يا عباد الله فاتقوا الله على ما أنعم به عليكم من اللباس وذلك بأن تبلوه في رضى الله فإن قصرتم عن ذلك فاستحيوا أن تبلوا لباسكم في ما يكره الله.
شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ الْمُطَوَّلِ
إلاَ إنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ ... وَأَفْضَلُ زَادِ الضَّاعِنِ الْمُتَحَّمِلِ(6/626)
.. وَلاَ خَيْرَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وعَيْشِهَا ... إذَا أنْتَ مِنْهَا بالتُّقى لَمْ تَزَوَّدِ
ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما وهبكم من الأموال وذلك بأن تبلوها في سبيل الله فإن بخلتم عن ذلك فاستحيوا من الله أن تنفقوا ما وهبكم من المال في معاصيه.
واشكروا الله على نعمته العظمى وهو ما أنعم به عليكم من الإيمان به وبكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
واشكروه على ما أنعم به عليكم من العقل بالتفكير والتدبر واعتقاد حسن النية والاعتبار وشدة الخوف والحزن وسلامة الصدر للعامة.
واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من العقل بأن تعظموا الله عز وجل وتجلوه وتستحيوا منه وتهابوه وتتقوه وتطيعوه على حسب ما عقلتم من عظمته وكبريائه وعظيم قدره سبحانه وتعالى.
فإن قصرتم في ذلك فراقبوا الله تعالى ولا تكونوا كالَّذِينَ لا يعظمونه ولا يجلونه ولا يهابونه ويستحيون منه ولا يتقونه ولا يطيعونه ولا يقدرونه حق قدره بل يستهينون بكثير من أمره.
فاتقوا الله عباد الله أن تعودوا بعد العلم جهالاً وبعد المعرفة والفهم ظلالاً ويعود العقل والعلم عليكم وبالا.
وهب الله لنا ولكم القيام بطاعته ووفقنا وإياكم شكر نعمه وحسن عبادته إنه جواد كريم رؤوف رحيم وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة)
إن العجب كل العجب من إنسان عاقل أخبر أنه سيسلك طريقاً شائكاً وعراً مليئاً بالمخاوف والمزعجات والمهالك وإن عليه أن يتصور هذه المخاوف والمخاطر والمهالك ويتصور آثارها على مستقبله الأبدي والَّذِي أخبره أصدق القائلين وأوفى الواعدين الَّذِي أحاط بكل شيء علماً.
شِعْرًا: ... أَمَا وَاللهِ لَوْ عَرَفَ الأَنَامُ ... لِمَا خُلِقُوا لَمَا غَفَلُوا وَنَامُوا(6/627)
لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أَبْصَرَتْهُ ... عُيُونُ قُلُوبِهِمْ سَاحُوا وَهَامُوا
مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ ... وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ
لِيَوْمِ الْحَشْرِ قَدْ خُلِّقَتْ رِجَالٌ ... فَصَلُّوا مِنْ مَخَافَتِهِ وَصَامُوا
وَنَحْنُ إِذَا أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا ... كَأَهْلِ الْكَهْفِ أَيْقَاظُ نِيَامُ
ومع ذلك تراه غافلاً لا اهتمام له بذلك منصرفاً عن الابتعاد عن هذه المهالك والمزلات الفظيعة ومشتغلاً بالدنايا والأمور التافهة من شؤون الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه.
وما أصيب الإنسان بمرض أشد من الغفلة الَّذِي ربما تحول إلى جمود وقسوة ثم إلى لجاج وعناد ثم إلى كفر وجحود نسأل الله تعالى العافية.
ومن أكبر الأدلة على حمق الإنسان وغباوته وجهله أنه يكد ويشقى من أجل مستقبل مهما طال فلن يجاوز الثمانين غالباً وإن تجاوزها فهو كالمعدوم ,
ومع هذا فيهمل إهمالاً كلياً أو جزئياً العمل من أجل مستقبل لا نهاية له مستقبل الأبد الخلود فيا لها من خسارة لا عوض لها ولا جبر منها ولا أمل في تلافيها.
فيا الغافل انتبه واستعد لما أمامك وتصوره تصوراً صحيحاً يظهر أثره في جدك واجتهادك فيما يقربِكَ إلى الله لا يفاجئك الأمر وأنت غافل فيفوتك زمن الإمكان وتندم وتتحسر قَالَ تعالى وتقدس {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} .
وَقَالَ الله جل وعلا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} وَقَالَ تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} الآيات.
إن الَّذِينَ غمر الإيمان قلوبهم واستحوذت معرفتهم على مشاعرهم ووجدانهم هم الَّذِينَ أيقنوا بلقاء ربهم وسماع الحكم منه في مصائرهم، هؤلاء(6/628)
هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم الله ينفقون.
الذين قال الله تعالى مخبرًا عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} {الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} الآية {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الآيتين.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} الآيات. هؤلاء هم الذين رعوا للدين حرمته واحترموا آدميتهم وكرامتهم ووفقهم الله جل وعلا فبنو لأنفسهم صروح المجد الخالد والعز الباقي والسعادة الأبدية.
ولا يبعد أن يكون من هؤلاء المذكورين الموصوفين بالصفات الحميدة القائل: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدون عليه بالسيوف. ومنهم الباكي حين حضرته الوفاة القائل: إني لم أبكي جزعًا من الموت حرصًا على الدنيا ولكن أبكي على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل أيام الشتاء. ومنهم الباكي عند ما تفوته تكبيرة الإحرام مع الجماعة ومنهم الذي يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة. ومنهم القائل: لم أصل الفريضة منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما. مع أنه قارب التسعين سنة.
ومنهم من لم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها.
والقائل حين ما قال له رجل: أراك تكثر من حمد الله وشكره مع أنه ابتلاك ببلاءٍ ما ابتلا أحدًا بمثله الجذام في أطرافك وتمزقت الثياب على جسدك ولا زوجة لك ولا ولد لك ولا دار ولا أهل فما شأنك؟ فقال المبتلي:(6/629)
شِعْرًا: ... حَمِدْتُ اللهَ رَبِّي إِذْ هَدَانِي ... إِلَى الإِسْلامِ وَالدِّينِ الْحَنِيفِي
فَيَذْكُرُهُ لِسَانِي كُلَّ وَقْتٍ ... وَيَعْرَفُهُ فُؤَادِي بِاللَّطِيفِ
بينما أبو شريح العابد يمشي جلس فتنع بكسائه وجعل يبكي، فقِيلَ ما يبكيك قَالَ تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي.
وكان بعض الموفقين المحاسبين لأنفسهم يكتل الصلوات الخمس في قرطاس ويدع بين كل صلاتين بياضاً.
وكلما ارتكب خطيئة من كلمة غيبة أو استهزاء أو كذب كذبة أو تكلم فيما لا يعنيه أو نظر إلى ما لايحل نظره إليه أو استمع إلى ما لا يحل الاستماع إليه أو أكل مشتبها أو مشي إلى ما لا يحل أو مد يده إلى ما لا يجوز مدها إليه.
ذكره في هذا البياض ليعتبر ذنوبه ويحصيها حسب قدرته لتضيق المحاسبة مجارى الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
ومقام محاسبة النفس يقلل الكلام فيما لا يعني ويحمل الإنسان على تقليل الذنوب وعلى الإكثار من الطاعات لمقابلة ما صدر منه ولكن هذا الطراز يعز وجوده في زماننا هذا.
نقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قَالَ: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} .
فالمحاسبة تكون بضبط الحواس ورعاية الأوقات وإيثار المهمات وحفظ الأنفاس والحرص على أداء العبادات كاملة وبالأخص الصلاة فيكملها بشروطها المذكورة وأركانها وواجباتها وسننها بخشوع وخضوع وطمأنينة وسكون.
والعبد يحتاج إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض ويحتاج إلى النوافل(6/630)
لتكمل السنن ويحتاج إلى الآداب لتكمل النوافل ومن الآداب ترك ما يشغل عن الآخرة. ومن الآداب الإكثار من زاد الآخرة من ذكر الله وما والاه.
شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمَنِ يَذْكُرُ
قَالَ بعضهم إن الرجل ليشيل عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاه قِيلَ وكيف ذاك، قَالَ لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله علي الله فيها.
روي عن بعض أهل العلم في قول الله جل جلاله {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} قَالَ القنوت الخشوع في الركوع والسجود وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.
وكان العلماء إذا قام أحدهم للصلاة هاب أن يلتفت أو يعبث أو يحدث نفسه بشيء من شئون الدنيا إلا ناسياً.
وبلغنا عن بعض أهل العلم أنه قَالَ: ركعتان خفيفتان مقتصدتان في تفكر وتدبر وتفهم لما يقوله ويفعله خير من قيام ليلة والقلب ساه في أودية الدنيا.
فالواجب على الإنسان إذا كان في الصلاة أن يجعلها همه ويقبل عليها مفرغاً قلبه وفكره من كل ما يشتته ليؤديها كاملة مكملة.
فإنه ليس له منها إلا ما عقل منها من معاني الفاتحة وما يقرأ من القرآن ومعاني الركوع والسجود والقيام بين يدي الله ومعاني العبودية والمناجاة ومعاني التحيات والتكبيرات.
فكم بين رجلين أحدهما قد أشعر قلبه عظمة خالقه الَّذِي هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت له عنقه واستحى من ربه أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه.
وآخر قد انصرف قلبه إلى الدنيا يفكر فيها ملتفتاً يميناً وشمالاً ولا يفهم ما يخاطب به لأن قلبه ليس حاضراً معه فبين صلاتيهما كما قَالَ بعض أهل العلم.(6/631)
إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحد وإن ما بينهما في الفصل كما بين السماء والأرض وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل بقلبه والآخر ساه غافل يفكر في البيوع والخصومات والأماني والخسارات قد ذهب قلبه كل مذهب في أودية الدنيا.
وروي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي في نخل له فشغل بالنظر إلى النخل فسها في صلاته فاستعظم ذلك وَقَالَ أصابني في مالي فتنة فجعل النخيل في الأرض صدقة في سبيل الله فبلغ ثمن النخيل خمسين ألفاً.
فلو أن الواحد منا إذا فاتته الصلاة مع الجماعة تصدق في عشرة فقط لما فاتتنا الصلاة مع الجماعة وهذا علاج من أحسن العلاجات.
وينبغي استعماله عند ما يصدر كذب أو غيبة أو نظر محرم أو سماع محرم أو نحو ذلك مِمَّا يقوله الإنسان أو يفعله عمداً أو سهواً ليتأدب ويستقيم ويقتدي به والله الموفق.
وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَكَ فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شُهَّدِ
وَخَالِطْ إِذَا خَالَطْتَ كُلَّ مُوَفَّق ... مِنَ الْعُلَمَا أَهْلُ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ
يُفِيدُكَ مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوَى ... فَصَاحِبُهُ تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدِ
نصيحة: يسمو قدر الإنسان وتعلو درجته ومنزلته عند الله جل وعلا وعند خلقه بقدر ما يكون له من استقامة وطهارة قلب وسلامة صدر وحب للخير لجميع المسلمين وبعد عن الشر والأذى وتضحية بالنفس والمال في سبيل الله وما يقرب إلى الله وقد امتدح الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام على ما وهبه له من سلامة قلب وعزة نفس وصدق عزيمة وقوة إيمان.
قَالَ تعالى لما ذكر نوحاً عليه السلام وأثني عليه أعقبه بذكر الخليل فَقَالَ {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
ومن دعاء إبراهيم عليه السلام {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .(6/632)
اللَّهُمَّ مكن محبة القرآن في قلوبنا ووفقنا لتلاوته آناء الليل والنهار اللَّهُمَّ وارزقنا العمل به والدعوة إليه واجعله حجة لنا وقائداً لنا إلى جنتك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: وسلامة القلب خلوصه من الشرك وقِيلَ هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقِيلَ هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة انتهى.
قلت والَّذِي أرى أن السلامة الكاملة للقلب هي خلوصه من الشرك والشك والنفاق والرياء وخلوه من الكبر والحقد والحسد والعجب والمكر السيئ والغل والخيلاء.
ونقاؤه من الأمراض التي تكدر الصفو وتشتت الشمل وتخل بالأمن وتقطع الروابط والصلات بين المسلمين وتورث الضغائن والأحقاد وتولد العداوة والبغضاء بين المؤمنين.
وكان ? يقول في دعائه «اللَّهُمَّ إني أسألك قلباً سليماً» فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الَّذِي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته وخشية ما يباعد عنه.
وقد اكتفى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذكر سلامة القلب لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله كما في الحديث و‘إذا فسد فسد الجسد كله.
ولأن القلوب إذا سلمت سلمت الجوارح اليد واللسان من الأذى والشرور وسلمت أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم وقلت الشرور والجرائم والآثام. وقِيلَ إن لقمان كان عبداً حبشياً فدفع إليه سيده شاة وَقَالَ اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان ثم بعد أيام أتاه بشاة أخرى.
وَقَالَ له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان فسأله سيده عن ذلك فَقَالَ هما أطيب شئ إذا طابا وأخبث شئ إذا خبثا.
وذكر العلماء أن صلاح القلب:(6/633)
(1) في قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فيه وفيما صح عن النبي
(2) في تقليل الأكل.
(3) قيام الليل وإحياؤه بالعبادة.
(4) التضرع عند السحر.
(5) مجالسة الصالحين.
(6) الصمت عما لا يعني.
(7) العزلة عن أهل الجهل والسفه ومن فرطت أعمار.
(8) ترك الخوض مع الناس فيما لا يعني.
(9) أكل الحلال وهو رأسها فإنه ينور القلب ويصلحه فتزكوا بذلك الجوارح وتدرأ المفاسد وتكثر المصالح فأكل الحرام والمشتبه يصدي القلب ويظلمه ويقسيه وهو من موانع قبول الدعاء.
وقد قِيلَ يخاف على أكل الحرام والشبهةِ أن لا يقبل له عمل ولا يرفع دعاء لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
روى عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة أجعل كسبه من غير حل إن تزوج تزوج من حرام وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام أهـ.
فالحذر الحذر من الحرام في طلب القوت، فقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وَقَالَ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ويقول: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلك.(6/634)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: تليت هذه الآية عند رسول الله ?: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} .
فَقَامَ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والَّذِي نفس مُحَمَّد بَيّدِهِ إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» .
رواه الطبراني في الصغير.
وروي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مَنِ اشْتَرَى ثَوْباً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عز وجل لَهُ صَلاةً مَادَامَ عَلَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ? سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ رواه أحمد.
شِعْرًا: ... فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمُ ... أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ
وَتُمْحَقُ أَمْوَالُ الرِّبَاءِ وَإِنْ نَمَتْ ... وَيَرْبُو قَلِيلُ الْحِلِّ فِي صِدْق مَوْعِدِ
وصلى الله على محمد وآله وسلم
(فَصْلٌ)
قَالَ الله جل وعلا وتقدس {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
وَقَالَ عز من قائل {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وَقَالَ جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} وَقَالَ تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
وَقَالَ جل وعلا {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .
شِعْرًا: ... يَا نَفْسُ مَا الْوَقْتُ إِلا مَا عَلِمْتِ فَكَمْ ... أَلَسْتَ حَدَّثَتْنِي أَنِّي أَتُوبُ فَلَمْ(6/635)
إِيَّاكِ إيَّاكِ مِنْ سَوْفَ فَكَمْ خَدَعَتْ ... وَأَهْلَكَتْ أُمَمَّا مِنْ قَبْلِهَا وَأُمَمُ
تُوبِي يَكُنْ لَكِ عِنْدَ اللهِ جَاهَ تُقَى ... وَقَدِّمِي مِنْ فِعَالِ الصَّالِحِينَ قَدَمُ
يَا رَاقِدٌ لِلْبَلَى حَثّ الْمَشِيبُ بِهِ ... أَلا فَكُنْ خَائِفًا لا تَقْعُدَنْ وَقُمْ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ? فيما يَرْوِيه عَنْ رَبِّهِ جل وعلا، أَنَّهُ قَالَ: «وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ: إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ في الآخرة» رواه ابن حبان في صحيحه.
وَقَالَ إذا قشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقُها.
وَقَالَ الحسن رضي الله عنه إن الرجل ليذنب فما ينساه ولا يزال متخوفاً حتَّى يدخل الجنة وَقَالَ ابن جبير الخشية هي أن تخشى الله حتَّى تحول خشيته بيتك وبين معاصيه.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ» . رواه مسلم.
وعنه قَالَ: قرأ رسول الله ?: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ثم قَالَ " «أتدرون ما أخبارها» . قَالُوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْراً قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ.
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْساً فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ(6/636)
فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْساً قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» .
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ? خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» . قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ? وُجُوهَهُمْ ولَهُمْ خَنِينٌ. رواه البخاري ومسلم.
عَنْ أبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ? قَالَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِي» . رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله ?: «قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجوا أحد منكم بعمله» . قَالُوا: ولا أنت يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة وفضل» . رواه مسلم.
فيا عباد الله من خاف الله جل وعلا في دنياه أمنه الله في أخراه ولو آمن الإنسان حقّاً بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وجزم بما بعد الحياة من الجنة والنار وما أعد الله لأهلهما إجمالاً وتفصيلاً.
ولو خاف وعيد الله كما يخاف وعيد أحر الأشرار لما اجترأ يوماً أن يتخطى شريعة الله أو ينتهك محارم الله التي حذره من تخطيها بقوله عز وجل: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
فاتق الله أيها المسلم وعظ نفسك في كل وقت بما بعده من الشدائد(6/637)
والكروب والعقبات وحاسب نفسك على ما تقترفه وتفعله من السيئات واتخذ من تقوى الله ستراً يقيك من غضب الله وعذابه.
فما أسعد من جعل التقوى رأس ماله وما أرشد من راقب الله في جميع أحواله فيا ويح من نسي الآخرة وأجهد نفسه في طلب الدنيا وكان بها جل اشتغاله.
أما وعظه من رحل من أعمامه وأخواله فالعجب ممن أفصحت له العبر وليس عنده سمع ولا بصر أيبكي فاقد الإلف وينسى نفسه أين مضى رفقاؤنا أين ذهب معارفنا وأصدقاؤنا هذه دورهم فيها سواهم وهذا محبهم فقد نسيهم وجفاهم.
فتفكروا إخواني في الراحلين واعتبروا بالسالفين وتأملوا في البصائر حال الدفين وتأهبوا فأنتم في أثر الماضين.
فيا مطلقاً اذكر قيودهم ويا متحركاً قد عرفت همودهم فخلص نفسك من أسر الذنوب وتأهب لخلاصك فإنك مطلوب وتذكر بقلبِكَ يوم تقلب القلوب.
واحذر حسرات الموت عند انقضاء المدة واحذر تسويف الَّذِينَ ذهبوا وما تأهبوا.
فكأني بِكَ أيها الغافل في لهوه ولعبه الرافل في أثواب غيه وطربه السعي في معصية ربه وغضبه فلم يشعر إلا وقد نزل به من الموت أسباب عطبه.
فدبت الأمراض في جسده وأبدل من لذيذ العيش بمر السقم ونكده وانتزعه المنون من ماله وأهله وولده.
فزود من ماله كفنا واعتاظ عن القصور محلة الأموات وطنا يتمنى الرجعة إلى الدنيا ليجتهد في الأعمال الصالحات فيقال له: هَيْهَاتَ هيهات حيل بينك وبين الأعمال النافعات.
ألم يأتك خبر هذا المصير ألم تسمع قول أصدق القائلين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} فاحذر أن تكون ممن يمتنون الرجعة فلا يقدرون ولا يجابون.(6/638)
أنشد رجل من أهل الزهد هذه الأبيات:
وَيَوْمَ تَرَى الشَّمْسَ قَدْ كُوِّرَتْ ... وَفِيهِ تَرَى الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ
وَفِيهِ تَرَى كُلُّ نَفْسٍ غَدًا ... إِذَا حُشِرَ النَّاسُ مَا قَدَّمَتْ
أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ يَا مُذْنِبًا ... وَأَعْمَالُكَ السُّوءُ قَدْ دُوِّنَتْ
فَإِمَّا سَعِيدٌ إِلَى جَنَّةٍ ... وَكَفَّاهُ بِالنُّورِ قَدْ خُضِّبَتْ
وَإِمَّا شَقِيٌّ كُسِيَ وَجْهَهُ ... سَوَادًا وَكَفَّاهُ قَدْ غُلِّلَتْ
آخر:
صَرَفْتُ إِلَى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجْهَتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرَبِّي
إِلَى الْمَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهْ ... مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي الْمَتَاعِبِ
إِلَى الصَّمَدِ الْبَرِّ الَّذِي فَاضَ جُودُهُ ... وَعَمَّ الْوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيْلي إِذَا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَاسْمَحْ غِفَارٍ وَأَكْرمَ وَاهِبِ
فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ
وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِينًا وَيَحْمِينِي وَبِيَّ الْمَكَاسِبِ
إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكَ دُونِي قُصُورَهُمْ ... وَنَهْنَهَ عَنْ غِشْيَانِهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إِلَى بَابِ الْمُهَيْمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنَادِي بِاسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ
فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الْكَوَاكِبِ
كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَى وَالْغَيَاهِبِ
سَأَسْأَلُهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَّغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبَّي فِي الْهَزَاهِزِ مَلْجَأً ... وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَام النَّوَائِبِ
اللَّهُمَّ هب لنا ما وهبته لعبادك الأخيار وأنظمنا في سلك المقربين والأبرار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم مكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنا على القيام(6/639)
بطاعتك والانتهاء عن معصيتك اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإنا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسلبت دمعته وانقطعت مدته دعاء من ما لكسره جابراً إلا أنت يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : عن إبراهيم التيمي قَالَ: ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قَالُوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن يكون من أهل الجنة لأنهم قَالُوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} .
وعن الفضيل بن عياض قَالَ: قِيلَ لسليمان التيمي أنت وأنت أي يثنون عليه قَالَ: لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما أكن أحتسب.
وعن عكرمة عن مُحَمَّد بن المنكدر أنه جزع عند الموت فقِيلَ له: لم تجزع فَقَالَ: أخشى آية من كتاب الله عز وجل قَالَ الله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.
قلت: وفيه آيات أخرى ينبغي أن تكون نصب عيني العاقل اللبيب وذلك قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} وقوله: {ن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} .
وَقَالَ عبد الأعلى التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل.
وعن أبي إسحاق قَالَ: أوى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل إلى فراشه فَقَالَ: يا ليت أمي لم تلدني فقالت له امرأته: أبا ميسرة أليس الله قد أحسن إليك هداك للإسلام وفعل بِكَ كذا قَالَ: بلى ولكن الله أخبرنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها.(6/640)
شِعْرًا: ... هَلِ الْوَقْتُ إِلا مَا عَرَفْنَا وَأَدْرَكَنَا ... فَجَائِعُهُ تَبْقَى وَلَذَّاتُهُ تَفْنَى
إِذَا أَمْكَنَتْ فِيهِ مَسَرَّةُ سَاعَةٍ ... تَوَلَّتْ كَمَرِّ الطَّرْفِ وَاسْتَخْلَفَتْ حُزْنَا
إِلَى تُبَعَاتٍ فِي الْمَعَادِ وَمَوْقِفٌ ... نَوَدُّ لَدَيْهِ أَنَّنَا لَمْ نَكُنْ كُنَّا
حَصَلْنَا عَلَى هَمٍّ وَإِثْمٍ وَحَسْرَةٍ ... وَفَاتَ الَّذِي كُنَّا فَلَذَّ بِهِ عَنَّا
كَأَنَّ الَّذِي كُنَّا نُسَرُّ بِكَوْنِهِ ... إِذَا حَقَّقَتْهُ النَّفْسُ لَفْظٌ بِلا مَعْنَى
وَقَالَ الحسن: إن المؤمن يصبح حزيناً وينقلب باليقين في الحزن ويكفيه ما يكفى العنيزة الكف من التمر والشربة من الماء.
وَقَالَ حبيب بن أبي ثابت ما استرقت من أحد شيئاً أحب إلى من نفسي أقول لها أمهلي حتَّى يجيء من حيث أحب.
شِعْرًا: ... إِذَا رُمْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الإِنْفَاقَ مِنْ كِنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِنْضَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مَنُوعُ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ
وَقَالَ الثوري: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة. وسأل رجل سفيان الثوري فلم يكن معه ما يعطيه فبكى سفيان فَقَالَ له مسعر بن كدام: ما يبكيك قَالَ: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه عندك.
وبكى ثابت حتَّى كادت عينه تذهب فجاؤا برجل يعالجها فَقَالَ الرجل: أعالجها على أن تعطيني قَالَ: وأي شيء. قَالَ: على أن لا تبكي قَالَ: فما خيرهما إن لم تبكيا وأبى أن يعالجها.
وكان شقيق بن سلمة إذا صلى في بيته ينشج نشيجاً - أي يخشع ويبكي - ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يسمعه أو يراه ما فعله – أي يخشى من الرياء. والله أعلم وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
وَقَالَ بعضهم يخاطب نفسه ويوبخها على تفريطها وإهمالها:(6/641)
يَا نَفْسُ هَذَا الَّذِي تَأْتِينَهُ عَجَبٌ
عِلْمٌ وَعَقْلٌ وَلا نُسْكٌ وَلا أَدَبُ
وَصَفُ النِّفَاقِ كَمَا فِي النَّصِّ نَسْمَعُهُ
عِلْمُ اللِّسَانِ وَجَهْلُ الْقَلْبِ وَالسَّبَبُ
حُبُّ الْمَتَاعِ وَحُبُّ الْجَاهِ فَانْتَبِهِي
مِنْ قَبْلُ تُطْوَى عَلَيْكَ الصُّحُفُ وَالْكُتُبُ
وَتَصْبَحِينَ بِقَبْرٍ لا أَنِيسَ بِهِ
الأَهْلُ وَالصَّحْبُ لَمَّا أَلْحَدُوا ذَهَبُوا
وَخَلَّفُوكِ وَمَا أَسْلَفْتِ مِنْ عَمَلٍ
الْمَالُ مُسْتَأْخِرٌ وَالْكَسْبُ مُصْطَحَبُ
وَاسْتَيْقِنِي أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مُجْتَمِعًا
لِلْعَالَمِينَ فَتَأْتِي الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ
وَالْخَلْقُ طُرًا وَيَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا
فِي يَوْمِ لا يَنْفَعُ الأَمْوَالُ وَالْحَسَبُ
وَأَخْشَى رُجُوعًا إِلَى عَدْلٍ تَوَعَدَ مَِنْ
لا يَتَّقِيهِ بِنَارٍ حَشْوُهَا الْغَضَبُ
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالأَحْجَارُ حَامِيَةٌ
لا تَنْطَفِي أَبَدَ الآبَادِ تَلْتَهِبُ
وَالْبُعْدِ عَنْ جَنَّةِ الْخُلْدِ الَّتِي حُشَيَتْ
بِالطَّيِّبَاتِ وَلا مَوْتٌ وَلا نَصَبُ
فِيهَا الْفَوَاكِهُ وَالأَنْهَارُ جَارِيَةٌ(6/642)
.. وَالنُّورُ وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ وَالْقُبَبُ
وَهَذِهِ الدَّارُ دَارٌ لا بَقَاءَ لَهَا
لا يَفْتِنَنَّكِ مِنْهَا الْوَرَقُ وَالذَّهَبُ
وَالأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْمَرْكُوبُ تَرْكَبُهُ
وَالثَّوْبُ تَلْبَسُهُ فَالْكُلُّ يَنْقَلِبُ
لا بَارَكَ اللهُ فِي الدُّنْيَا سِوَى عَوَضٍ
مِنْهَا يُعَدُّ إِذَا مَا عُدَّتِ الْقُرُبُ
يُرِيدُ صَاحِبُهُ وَجْهَ الإِلَهِ بِهِ
دُونَ الرِّيَا إِنَّهُ التَّلْبِيسُ وَالْكَذِبُ
لا يَقْبَلُ اللهُ أَعْمَالاً يُرِيدُ بِهَا
عُمَّالُهَا غَيْرَ وَجْهِ اللهِ فَاجْتَنِبُوا
تَمَّتْ وَصَلُّوا عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا
وَالآلُ وَالصَّحْبُ قَوْمٌ حُبُّهُمْ يَجِبُ
ومِمَّا أشير فيه إلى بعض المعجزات التي وردت في القرآن ما يلي:
هُوَ اللهُ مَنْ أَعْطَى هُدَاهُ وَصَحَّ مِنْ
هَوَاهُ أَرَاهُ الْخَارِقَاتِ بِحِكْمَةِ
بِذَاكَ عَلَى الطُّوفَانِ نُوحٌ وَقَدْ نَجَا
بِهِ مَنْ نَجَا فِي قَوْمِهِ فِي السَّفِينَةِ
وَغَاضَ لَهُ مَا فَاضَ عَنْهُ اسْتِجَابَةٌ
وَجَدَّ إِلَى الْجُودِي بِهَا وَاسْتَقَرَّتِ
وَسَارَ وَمَتْنُ الرِّيحِ تَحْتَ بِسَاطِهِ(6/643)
.. سُلَيْمَانُ بِالْجَيْشَيْنِ فَوْقَ البَسْطَةِ
وَقَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ أُحْضِرَ مِنْ سَبَا
لَهُ عَرْشُ بِلْقِيسٍ بِغَيْرِ مَشَّقَةِ
وَأَخْمَدَ لإِبْرَاهِيمَ نَارَ عَدُوِّهِ
وَفِي لُطْفِهِ عَادَتْ لَهُ رَوْضَ جَنَّةِ
وَلَمَّا دَعَا الأَطْيَارَ فِي رَأْسِ شَاهِقٍ
وَقَدْ قُطِّعَتْ جَاءَتْهُ غَيْرَ عَصِيَّةِ
وَفِي يَدِهِ مُوسَى عَصَاهُ تَلَقَّفَتْ
مِنَ السِّحْرِ أَهْوَالاً عَلَى النَّفْسِ شَقَّةِ
وَمِنْ حَجَرٍ أَجْرَى عُيُونًا بِضَرْبَة
بِهَا دَائِمًا سَقَّتْ وَلِلْبَحْرِ شَقَّتِ
وَيُوسُفُ إِذْ أَلْقَى الْبَشِيرُ قَمِيصَهُ
عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبٍ عَلَيْهِ بِأَوْبَةِ
رَآهُ بِعَيْنٍ قَبْلَ مَقْدَمِهِ بَكَى
عَلَيْهِ بِهَا شَوْقًا إِلَيْهِ فَكَفَّتِ
وَفِي آلِ إِسْرَائِيلَ مَائِدَةُ السَّمَا
لِعِيسَى بنِ مَرْيَمْ أُنْزِلَتْ ثُمَّ مُدَّتِ
وَمِنْ أَلَمٍ أَبْرَى وَمِنْ وَضَحٍ غَدَا
شَفَى وَأَعَادَ الطَّيْرَ طَيْرًا بِنَفْخَةِ
وَصَحَّ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ
أَمَاتَ وَأَحْيَا بِالدُّعَا رَبَّ مَيِّتِ(6/644)
.. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا عَنْ السِّحْرِ أَنَّهُ
رَضِيعٌ يُنَادِي بِاللِّسَانِ الْفَصِيحَةِ
يُنَزِّهُ عَنْ رَيْبِ الظُّنُونِ عَفِيفَةً
مُبَرَّأَةً مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَرِيبَةِ
وَقَالَ لأَهْلِ السَّبْتِ كُونُوا إِلَهُنَا
قُرُودًا فَكَانُوا عِبْرَةً أَيَّ عِبْرَةِ
وَصَرَّعَ أَهْلَ الْفِيلِ مِنْ دُونِ بَيْتِهِ
بِطَيْرِ أَبَابِيلٍ صِغَارٍ ضَعِيفَةِ
وَأَحْرَقَ رَوْضَ الْجَنَّتَيْنُ عُقُوبَةً
بِكَافٍ وَنُونٍ عِبْرَةً لِلْبَرِيَّةِ
وَقَالَ يوسف بن مُحَمَّد الصرصري رحمه الله:
مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً
يُشَيِّدُ مَا أَوْهَى الضَّلالُ وَيُصْلِحُ
لَئِنْ سَبَّحَتْ صُمُّ الْجِبَالِ مُجِيبَةً
لِدَاوُدَ أَوْ لانَ الْحَدِيدُ الْمُصَفَّحُ
فَإِنَّ الصُّخُورَ الصُّمَّ لانَتْ بِكَفِّهِ
وَإِنَّ الْحَصَى فِي كَفِّهِ لَيُسَبِّحُ
وَإِنْ كَانَ مُوسَى أَنْبَعَ الْمَاءَ مِنَ الْحَصَى
فَمِنْ كَفِّهِ قَدْ أَصْبَحَ الْمَاءُ يَطْفَحُ
وَإِنْ كَانَتْ الرِّيحُ الرُّخَاءُ مُطِيعَةً
سُلَيْمَانَ لا تَأْلُو تَرُوحُ وَتَسْرَحُ(6/645)
.. فَإِنَّ الصَّبَا كَانَتْ لِنَصْرِ نَبِيِّنَا
بِرُعْبٍ عَلَى شَهْرٍ بِهِ الْخَصْمُ يَكْلَحُ
أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ وَسُخِّرَتْ
لَهُ الْجِنُّ تَشْفِي مَا رِضِيهِ وَتَلْدَحُ
فَإِنَّ مَفَاتِيحَ الْكُنُوزِ بِأَسْرِهَا
أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهِدُ الْمُتَرَجِّحُ
وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ أُعْطِيَ خُلَّةً
وَمُوسَى بِتَكْلِيمٍ عَلَى الطُّورِ يُمْنَحُ
فَهَذَا حَبِيبٌ بَلْ خَلِيلٌ مُكَلَّمٌ
وَخُصِّصَ بِالرُّؤْيَا وَبِالْحَقِّ أَشْرَحُ
وَخُصِّصَ بِالْحُوضِ الْعَظِيمِ وَباللِّوَا
وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ وَالنَّارُ تَلْفَحُ
وَبِالْمَقْعَدِ الأَعْلَى الْمُقَرَّبِ عِنْدَهُ
عَطَاءٌ بِبُشْرَاهُ أُقِرُّ وَأَفْرَحُ
وَبِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا الْوَسِيلَةِ دُونَهَا
مَرَاتِبُ أَرْبَابِ الْمَوَاهِبُ تَلْمَحُ
وَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ أَوَّلُ دَاخِلٍ
لَهُ سَائِرُ الأَبْوَابِ بِالْخَيْرِ تُفْتَحُ
اللَّهُمَّ وفقنا لأتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/646)
(قصص رائعة)
عن بِلاَلُ بن رباح قَالَ: مَا كَانَ لرَسُولِ اللهُ ? شَيْءٌ إلا أَنَا الَّذِي كُنْتُ ألِي ذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ فَرَآهُ عَائلاً يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِي الْبُرْدَةَ وَالشَّيْءَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حتَّى اعْتَرَضَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: يَا بِلاَلُ إِنَّ نَدِي عِنْدِي سَعَةً فَلاَ تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ مِنِّى فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ تَوَضَّأتُ ثُمَّ قُمْتُ لأُؤَذِّنَ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا الْمُشْرِكُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ التُّجَّارِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا حَبَشِي،ُّ قُلْتُ: يَا لَبَّيْهُ؛ فَتَجَهَّمَنِي، وَقَالَ قَوْلاً غَلِيظاً - أَو غَلِيظاً قَالَ: أَتَدْرِى كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟ قُلْتُ: قَرِيبٌ.
قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُ لَيَالٍ، فَآخُذُكَ بِالَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَمْ أُعْطِكَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ مِنْ كَرَامَتِكَ وَلاَ مِنْ كَرَامَةِ صَاحِبِكَ، وإنما أَعْطَيْتُكَ لِتَصيَر َ لِي عَبْداً فَأَرُدُّكَ تَرْعَى في الْغَنَمَ كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَخَذَني فِي نَفْسِي مَا يَأْخُذُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، فَانْطَلَقْتُ فناَديْتُ بِالصَّلاَةِ، حتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ، رَجَعَ رَسُولِ اللهُ ? إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ أَنِّي كُنْتُ أَتَدَيَّنُ مِنْهُ قَدْ قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ مَا تَقْضِى عَنِّي وَلاَ عِنْدِي وَهُوَ فَاضِحِي، فَأْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ إِلَى بَعْضِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا حتَّى يَرْزُقَ اللَّهُ رَسُولَهِ ? مَا يَقْضِي عَنِّى.
فَخَرَجْتُ حتَّى أَتَيْتُ مَنْزِلِي فَجَعَلْتُ سَيْفِي وَجِرَابِي وَرُمْحِي وَنَعْلِي عِنْدَ رَأْسِي، فَاسْتَقْبَلْتُ بِوَجْهِيََ الأُفُقَ فَكُلَّمَا نِمْتُ انْتَبَهْتُ، فَإِذَا رَأَيْتُ عَلَيَّ لَيْلاً نِمْتُ حتَّى انْشَقَّ عَمُودُ الصُّبْحِ الأَوَّلِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ. فَإِذَا إِنْسَانٌ يَدْعُو: يَا بِلاَلُ أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ? فَانْطَلَقْتُ حتَّى آتِيهِ، فَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنْتُ فَقَالَ لِي رَسُولَ اللَّهِ ?: «أَبْشِرْ، فَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِقَضَاءِ دينكَ» . فَحَمِدْتُ اللَّهَ.
وَقَالَ: «أَلَمْ تَمُرَّ عَلَى الرَّكَائِبِ الْمُنَاخَاتِ الأَرْبَعِ؟» قُلْتُ: بَلَى قَالَ: «فَإِنَّ لَكَ رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ» . فإِذَا عَلَيْهِنَّ كِسْوَةٌ وَطَعَامٌ أَهْدَاهُنَّ لَهُ عَظِيمُ فَدَكَ - «فَاقْبِضْهُنَّ إِلَيْكَ(6/647)
، ثُمَّ اقْضِ دَيْنَكَ» . فَفَعَلْتُ فَحَطَطْتُ عَنْهُنَّ أَحْمَالَهُنَّ ثُمَّ عَقَلْتُهُنَّ، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى تَأْذِينِ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ? خَرَجْتُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَجَعَلْتُ إِصْبَعَيَّ فِي أُذُنَيَّ فقُلْتُ: مَنْ كَانَ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ ? دَيْناً فَلْيَحْضُرْ.
فَمَا زِلْتُ أَبِيعُ وَأَقْضِي وَأُعَرِّضُ حتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ? دَيْنٌ فِي الأَرْضِ حتَّى فَضَلَ عِنْدِي أُوقِيَّتَاْنِ أَوْ أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامَّةُ النَّهَارِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ? قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِي: «مَا فَعَلَ مَا قِبَلَكَ؟» قُلْتُ: قَدْ قَضَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ? فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ قَالَ: «فَضَلَ شَيْءٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تُرِيحَنِي مِنْهَما، فَلَسْتُ بِدَاخِلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِي حتَّى تُرِيحَنِي مِنْهمَا» . فَلَمْ يَأْتِنَا أحَدُ، فَبَاتَ فِي الْمَسْجِدِ حتَّى أَصْبَحَ، وَظَلَّ فِي الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ الثَّانِيَ حتَّى كَانَ فِي آخِرِ النَّهَارِ جَاءَ رَاكِبَانِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِمَا فَكَسَوْتُهُمَا وَأَطْعَمْتُهُمَا، حتَّى إِذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ دَعَانِي، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلَكَ؟» . قُلْتُ: قَدْ أَرَاحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ شَفَقاً مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ وَعِنْدَهُ ذَلِكَ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ حتَّى جَاءَ أَزْوَاجَهُ فَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ حتَّى أَتَى فِي مَبِيتَهُ.
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسننا من الكذب وأعيننا من الخيانة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن عبد الله بن عمر قَالَ: بعثت رَسُولِ اللهُ ? جيشاً فيهم رجل يقال له «حدير» ، وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام؛ فزودهم رَسُولِ اللهُ ? ونسي أن يزود حديراً. فخرج حدير صابراً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هو يا رب؛ فهو يرددها، وهو في آخر الركب.(6/648)
فجاء جبريل إلى النبي ? فَقَالَ له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابَكَ ونسيت أن تزود حديراً، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويقول: نعم الزاد هو يا رب؛ فكلامه ذلك له نور يوم القيامة ما بين السماء والأرض، فابعث إليه بزاد، فدعا النبي ? رجلاً، فدفع إليه زاد وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول.
ويقول له: إن رَسُولَ اللهِ ? يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وأن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بِكَ، فذكره جبريل وأعلمه مكانك.
فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب؛فدنا منه، ثم قَالَ له: إن رَسُولَ الله ? يقرئك السلام ورحمة الله.
وقد أرسلني أليك بزادٍ معي، ويقول: إني إنما نسيتك، فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بِكَ؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي ? ثم قَالَ: الحمد لله رب العامين، ذكرني ربي من فوق سبع سموات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي.
يا رب كما لم تنس حديراً فاجعل حديراً لا ينساك؛ فحفظ ما قَالَ، ورجع إلى النبي ? فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قَالَ حين أخبره، فَقَالَ رَسُولِ اللهُ: أما أنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح(6/649)
والمعائب التي تعلمها منا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن محمود بن لبيد قَالَ: أصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل ‘ حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، فكان النبي ? إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قَالَ: كيف أصبحت؟ فيخبره.
حتَّى كانت الليلة التي نقله قومه فيها؛ فاحتملوه إلى بني الأشهل، إلى منازلهم، وجاء رَسُولِ اللهُ ? كما كان يسأل عنه، وقَالُوا: قد انطلقوا به.
فخرج رَسُولُ اللهُ ? وخرجنا معه، فأسرع المشي حتَّى تقطعت شسوع نعالنا، وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، قشكا ذلك إليه أصحابه: يَا رَسُولَ اللهِ، أتعبتنا في المشي.
فَقَالَ: أني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت حنظلة فانتهى رَسُولُ اللهُ ? إلى البيت وهو يغسل وأمه تبكيه، وهي تقول:
وَيْلَ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدًا ... حَزَامَةً وَجِدَّا
فَقَالَ رَسُولُ اللهُ ?: كل نائحة تكذب إلا أم سعد.
ثم خرج به، فَقَالَ له القوم – أو من شاء الله منهم – يَا رَسُولَ اللهِ، ما حملنا ميتاً أخف علينا من سعد.
فَقَالَ: ما يمنعكم من أن يخف عليكم، وقد هبط من الملائكة كذا وكذا، قد سمى عدة كثيرة لم أحفظها، لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم.
عن الحجاج بن علاط قَالَ قلت لرَسُولِ الله: يَا رَسُولَ اللهِ، إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة ... ومالاً متفرقاً في تجار أهل مكة، فأذن يَا رَسُولَ اللهِ؛ (فأذن لي) ، قلت إنه لا بد لي يَا رَسُولَ اللهِ من أن أقول، قَالَ: قل.(6/650)
فخرجت حتَّى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رَسُولِ اللهُ ? وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز، ريفاً ومنعة ورجالاً، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الركبان.
فلما رأوني قَالُوا: الحجاج بن علاط - ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا مُحَمَّد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي يهود وريف الحجاز.
قلت: قد بلغني ذلك، وعندي من الخبر ما يسركم، فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر مُحَمَّد أسراً.
وقَالُوا: لا نقتله حتَّى نبعث به إل أهل مكة، فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم؛ فقاموا وصاحوا بمكة، وقَالُوا: قد جاءكم الخبر، وهذا مُحَمَّد، إنما تنظرون أن يقدم به عليكم، فيقتل بين أظهركم.
قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي،فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب مَن فَلَّ مُحَمَّدٌ وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك؛ فقاموا، فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به.
وجئت صاحبتي فقلت: ما لي، وقد كان لي عندها مال موضوع لعلي الحق بخيبر، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار. فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر، وجاءه عني، أقبل حتَّى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار.
فَقَالَ: يا حجاج، ما هذا الخبر الَّذِي جئت به؟ فقلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قَالَ: نعم قلت: فاستأجر عني حتَّى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف عني حتَّى أفرغ.(6/651)
حتَّى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة، وأجمعت الخروج لقيت العباس، فقلت: أحفظ علي حديثي يا أبا الفضل – فإني أخشى الطلب – ثلاثاً ثم قل ما شئت، قَالَ: أفعل قلت: فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم.
ولقد افتتح خيبر وانتثلَ ما فيها، وصارت له ولأصحابه، فَقَالَ: ما تقول يا حجاج؟ قلت: إي والله، فاكتم عني، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي، فرقاً من أن أغلب عليه.
فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، فهو والله ما تحب. حتَّى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه ثم خرج حتَّى أتي الكعبة، فطاف بها.
فلما رأوه قَالُوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة، قَالَ: كلا، والله الَّذِي خلفتم به، لقد افتتح مُحَمَّد خيبر وترك عروساً على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه.
قَالُوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قَالَ: الَّذِي جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً، فأخذ ماله، فانطلق ليلحق بمُحَمَّد وأصحابه، فيكون معه، قَالُوا: يا لعباد الله! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن؛ ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.
والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن أنس بن مالك قَالَ: أعرس رسول الله ?، ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيساً ثم حطته في تور، فقالت: اذهب إلى رسول الله ? وأخبره أن هذا منا له قليل. والناس يومئذ في جهد
فجئت به فقلت: يَا رَسُولَ اللهِ بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك(6/652)
السلام وتقول: إن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قَالَ: ضعه فوضعته في ناحية البيت، ثم قَالَ: اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً فسمى رجالاً كثيراً.
قَالَ: ومن لقيت من المسلمين فدعوت من قَالَ لي، ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس فَقَالَ لي رسول الله ? جيء به؛ فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وَقَالَ: ما شاء الله.
ثم قَالَ: ليتحلق عشرة ويسموا وليأكل كل إنسان مِمَّا يليه، فجعلوا يسمون ويأكلون حتَّى أكلوا كلهم، فَقَالَ لي رسول الله ? ارفعه فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين رفعته!
وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ? وزوج رسول الله ? التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث فشقوا على رسول الله ? وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً، فَقَامَ رسول الله ? فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا.
وجاء رسول الله ? حتَّى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله ? في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن فخرج وهو يقرأ هذا الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فقرأهن علي قبل الناس وأنا أحدث الناس بهن عهداً
اللَّهُمَّ مكن محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان وثبتنا(6/653)
على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وزحزحنا عن النار وأدخلنا الجنة دار القرار ومتعنا بالنظر إلى وجهك يا أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن عبد الله بن عباس قَالَ: خرج أبو بكر بالهاجرة، فسمع بذلك عمر فخرج فإذا هو بأبي بكر، فَقَالَ يا أبا بكر، ما أخرجك هذه الساعة؟ فَقَالَ: أخرجني والله ما أجد في بطوننا من حاق الجوع.
فَقَالَ: وأنا والله ما أخرجني غيره، فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله ? فَقَالَ: ما أخرجكما هذه الساعة؟ فقالا: أخرجنا ما نجد في بطوننا من حاق الجوع.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا والَّذِي نفسي بَيّدِهِ ما أخرجني غيره فقاموا فانطلقوا حتَّى أتوا باب أبي أيوب الأنصاري وكان أبو أيوب ذكر لرسول الله ? طعاما أو لبنا فأبطأ يومئذ فلم يأت لحينه فأطعمه أهله، وانطلق إلى نخله يعمل فيه.
فلما أتوا باب أبي أيوب خرجت امرأته فقالت: مرحبا برسول الله ? وبمن معه فَقَالَ لها رسول الله ? فأين أبو أيوب؟ فقالت: يأتيك يا نبي الله الساعة.
فرجع رسول الله ? فبصر به أبو أيوب - وهو يعمل في نخل له - فجاء يشتد حتَّى أدرك رسول الله ? فَقَالَ: مرحبا بنبي الله وبمن معه.
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، ليس بالحين الَّذِي كنت تجيئني فيه، فرده، فجاء إلى عذق النخل فقطعه، فَقَالَ له رسول الله ?: ما أردت إلى هذا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أحببت أن تأكل من رطبه وبسره وثمره وتذنوبه، ولأذبحن لك مع هذا.
فَقَالَ: إن ذبحت، فلا تذبحن ذات در، فأخذ عناقاً له، أو جدياً؛(6/654)
فذبحه، وَقَالَ لامرأته: اختبزي وأطبخ أنا، فأنت أعلم بالخبز فعمد إلى نصف الجدي فطبخه، وشوى نصفه.
فلما أدرك بالطعام وضع بين يدي رسول الله ? وأصحابه، فأخذ رسول الله ? من الجدي فوضعه على رغيف، ثم قَالَ: يا أبا أيوب أبلغ بهذا فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام.
فلما أكلوا وشبعوا قَالَ النبي ? خبز ولحم وبسر وتمر ورطب، ودمعت عيناه، ثم قَالَ: هذا من النعيم الَّذِي تسألون عنه يوم القيامة، فكبر ذلك على أصحابه، فَقَالَ رسول الله ? إذا أصبتم مثل هذا، وضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وبركة الله، فإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الَّذِي أشبعنا وأروانا، وأنعم وأفضل، فإن هذا كفاف بهذا.
وكان رسول الله ? لا يأتي إليه أحد معروفاً إلا أحب أن يجازيه؛ فَقَالَ لأبي أيوب: ائتنا غداً فلم يسمع، فَقَالَ له عمر إن رسول الله ? يأمرك أن تأتيه، فلما أتاه أعطاه وليدة، فَقَالَ: يا أبا أيوب، استوص بهذه خيراً فإنا لم نر إلا خيراً ما دامت عندنا؛ فلما جاء بها أبو أيوب قَالَ: ما أجد لوصية رسول الله ? شيئاً خيراً من أن أعتقها؛ فأعتقها.
والله أعلم وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم.
فَهَا سُنَّةُ الْمَعْصُومِ خَيْرَةِ خَلْقِهِ ... شَكَتْ بِلِسَانِ الْحَالِ طُولَ جِفَاهَا
فَنَسْأَلُ رَبُّ الْعَرْشِ تَيِسِيرَ مُخْلِص ... يُزِيلُ ظَلامًا قَدْ طَمَا وَعَلاهَا
فَتَى قَدْ جَنَى مِنْ كُلِّ فَنٍ ثِمَارَهُ ... وَأَمَّ إِلَى هَامِ الْعُلَى فَعَلاهَا
قَرِيبٌ إِلَى أَهْلِ الشَّرِيعَةِ وَالتُّقَى ... وَيَبْعُد عَمَّنْ يَرْتَضِي بِسِوَاهَا
عَفِيفٌ عَن الأَمْوَالِ إِلا بِحَقِّهَا ... وَعَنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا يُطِيلُ جِفَاهَا
يُوَالِي وَيُدْنِي أَهْلَ سُنَّةَ أَحْمَدِ ... بَعِيدٌ لِمَنْ يَهْدِي بِغَيْرِ هُدَاهَا
يَحُفُّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى كُلِّ سَابِحٍ ... مُنَاهُمْ مُنَاوَاةُ الْعِدَى وَلِقَاهَا(6/655)
يَقُودُ أُسُودًا فِي الْحَرْبِ ضَيَاغِمًا ... تَعُدُّ الْمَنَايَا فِي الْحُرُوبِ مُنَاهَا
وَيَعْرُوهُمُوا عِنْدَ الْمُلاقَاتِ هِزِّةً ... وَيُسْكِرُهُمْ دَمْعُ الْعِدَا وَدِمَاهَا
وَيَطْرِبُهُمْ هَزُّ الْقَنَا بِأَكُفِّهِمْ ... وَوَقْعُ الْعَوَالِي فِي صُدُورِ عِدَاهَا
وَلا جَمَعُوا مَالاً وَلا كَسَبُوا لَهُمْ ... مَسَاكِنَ لا يَرْضَى الإِلَهُ بَنَاهَا
وَمَا قَصَدُوا مِنْ سَفْكِهِمْ لِدَمِ الْعِدَى ... وَضَرْبِ طَلاهَا بِالطِّلا لِرَدَهَا
سِوَى أَنَّهُمْ يُحْيُونَ شِرْعَةِ أَحْمَدٍ ... وَيُعْلُونَ مِنْهَا مَا وَهَى لِعُلاهَا
وَلا هَمَّهُمْ جَمْعُ الْحُطَامِ فَزَخْرَفُوا ... قُصُورًا وَلا بَاهَوْا بِرَفْعِ بِنَاهَا
وَلا قَصْدَهُمْ مِمَّنْ أَبَادُوهُ بِالْقَنَا ... وَتَطْوِيقِهِمْ بِالسَّيْفِ بيضَ طَلاهَا
سِوَى رَفْعُ أَعْلامِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَرَى ... وَيَنْفُونَ عَنْهَا بَاطِلاً بِدَوَاهَا
سَيَنْجَابُ عَنْهَا بِالصَّوَارِمِ مَا دَجَا ... فَيُشْرِقُ فِي الآفَاقِ نُورُ سَنَاهَا
وَتَنْفُذُ فِي الطَّاغِي سِهَامُ قَسِيِّهِمْ ... فَتَظْهَرُ أَحْكَامُ الْهُدَى بِهُدَاهَا
فَيَا مَنْ لَهُمْ فِي الدِّينِ أَقْصَرُ هِمَّةٍ ... إِلَى كَمْ تُمَنُّوَن النُّفُوسَ مُنَاهَا
نَرَى كُلَّ يَوْمٍ مُنْكَرَاتٍ فَظِيعَةً ... وَلا نَتَحَامَى عَارَهَا وَعَرَاهَا
وَمَا حَصَلَ الإِنْصَافُ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ ... فَحَيَّ هَلا يَا مَنْ يُرِيدُ حِمَاهَا
تَعَالَوْا بِنَا نُحْيِي رِيَاضًا مِنَ الْعُلَى ... وَنَرْفَعُ أَعْلامَ الْهُدَى وَذُرَاهَا
وَفُكُّوا عَنِ الأَفْكَارِ أَقْيَادَ شُغْلِهَا ... لِتَنْظُرَ فِي عُقْبَى مَآلِ عُلاهَا
فَمَا اللهُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِغَافِلٍ ... سَيَجْزِي الْعِدَى يَوْمَ الْجَزَا بِجَزَاهَا
فَفِي الذِّكْرِ أَخْبَارٌ بِسُوءِ مَآلِهِمْ ... إِذَا رَامَهَا مَنْ شَاءَهَا سَيَرَاهَا
بِرَبِّكُمُوا رُدُّوا سَلامِي عَلَى أَمْرِي ... عَنْ السُّنَّةِ الْغَرَا أَمَاطَ قَذَاهَا
خَلِيلَيَّ هَلْ مِنْ سَامِعٍ لِشَكِّيَّتِي ... إِذَا بُحْتُ بِالشَّكْوَى يَبُلُّ صَدَاهَا
فَإِنْ تَجِدَاهُ فَاكْشِفَا عَنْ نِقَابِهَا ... وَإِلا فَبِالْكُفْءِ الْكَرِيمِ عِدَاهَا(6/656)
أَلَمْ تَسْمَعُوا تَجْرِيفَ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ... وَسَومِ الأَعَادِي فِي مُرُوجِ حِمَاهَا
إِذَا قِيلَ قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ ... يَقُولُونَ قَالَ الأَكْثَرُونَ سِوَاهَا
بِلادٌ جَبِينَاهَا وَسُسْنَا أُمُورَهَا ... فَنَحْنُ كَمَنْ قَدْ سَاسَهَا وَجَبَاهَا
وَإِنْ قِيلَ مَا شَأْنُ الْمَزَامِيرِ وَالْغِنَا ... بَلِ الظُّلْمُ قَالُوا كَيْ نُخِيفَ عِدَاهَا
وَآذَانُهُمْ صُمُّ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى ... وَأَبْصَارُهُمْ قَدْ طَالَ عَنْهُ عَمَاهَا
فَصَدُّوا وَمَا رَدُّوا شَرِيدًا وَهَدَّمُوا ... قَوَاعِدَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ بَنَاهَا
فَتَبًّا لَهَا تَبًّا وَسُحْقًا لِفِرْقَةٍ ... جَمِيعُ الضَّلالاتِ اشْتَرَتْ بِهُدَاهَا
وَبُعْدًا لَهَا بُعْدًا وَتَبًّا لَهَا وَمَنْ ... يُحَاوِلُ مِنْهَا فِي الْجَهَالَةِ جَاهَا
فَغَوْثَاهُ وَاغَوْثَاهُ هَلْ مِنْ مُثَابِرٍ ... يُزِيلُ قَذَاهَا سَيْفُهُ وَشَجَاهَا
إذَا سُلَّ مِنْ نُورِ الشَّرِيعَةِ صَارِمًا ... عَلَى ظُلْمَةٍ لِلْظَّالِمِينَ جَلاهَا
فَيَا لِلْعُقُولِ السَّامِيَاتِ إلَى الْعُلا ... وَيَا مَنْ مَنَحْتُمْ أنْفُسًا وَهُدَاهَا
ألَسْنَا نَرَى في كُلِّ يَوْمٍ مَنَاكِرًا ... فَنُعْرِضُ لا نَنْهَى وَلا نَتَنَاهَا
وَمَا كَانَ مِنَّا صَادِمٌ لِمُشَاغِبْ ... أَدَارَ مِنْ الْحَرْبِ الضَّرُوسِ رَحَاهَا
فَحيِّ هَلا نُحْيِي مِنَ الْوَحْيِ سُنَّةً ... وَقَدْ سَنْحَتْ عَيْنٌ تُطِيلُ كَرَاهَا
وَهُبُّوْا فَقَدْ طَالَ الْمَنامُ وَشَمِّرُوْا ... لِنَسْبَحْ في غَمْرَاتِها وَحَلاهَا
فَقَدْ وَعَدَ الرَّحْمَنُ نُصْرَةَ دِيْنِهِ ... وَلَكِنْ قَضَى أنْ لِلأُمُورِ مَدَاهَا
وَأَنْزَلَ في التَّنْزِيلِ أَخْبَارَ مَنْ طَغَى ... وَكَمْ ضُمِّنَتْ (طَسْ) مِنْه وَ (طَاهَا)
فَيَالَ عِبَادِ اللهِ هَلْ مِنْ مُحَقِّقٍ ... عَلَى شِرْعَةِ الْمُخْتَارِ رَدَّ رُوَاهَا
خَلِيلِي هَلا قَدْ وَجَدْتُمْ مُهَذَّبًا ... إِذَا بَُثَّتِ الشَّكْوَى إِلَيهِ وَعَاهَا
فَإِنْ تَجِدَاهُ فَالْمَرَامُ وَجَدْتُمَا ... وَإِلا فَصُونَا وَجْهَهَا وَقَفَاهَا
فَوَا حَزَنًا مِنْ هَجْرِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ... بِغَيْرِ تَحَاشٍ وَانْتِهَاكِ حِمَاهَا(6/657)
.. إِذَا قِيلَ مَا هَذِي الْمَقَايِسُ وَالْهَوَى ... يَقُولُونَ عَادَاتٌ وَنَحْنُ نَرَاهَا
وَمُلْكٌ وَأَرَاض قَدْ جَبَيْنَا خَرَاجَهَا ... كَمَا سَاسَهَا مِنْ قَبْلَنَا وَجَبَاهَا
وَإِنْ قِيلَ مَا شَأْنُ الْمَظَالِمِ جَهْرَةً ... يَقُولُونَ إِرْهَابُ فَقُلْتُ بَلاهَا
قُلُوبٌ لَهُمْ لا تَعْقِلُ الْحَقَّ بَلْ وَلا ... تَلِينُ لِذِكْرِ اللهِ عِنْدَ قَسَاهَا
اللهُمَّ أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك سميع الدعاء.
اللهُمَّ مكن محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان وألهمنا ذكرك وشكرك بحضور قلب واجعلنا هداة مهتدين وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عن عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قَالَ: جاءنا رسول الله ? في منازلنا بمنى، ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفاً خلفه زيد بن حارثة. فدعانا؛ فوقف ما استجبنا له ولا خير لنا، وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي.
فَقَالَ لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتَّى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي، فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ. فَقَالَ القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به. وطمع رسول الله ? في ميسرة، فكلمه؛ فَقَالَ ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه، فإذا لم يعضدوه، فالعدى أبعد.
فانصرف رَسُولِ اللهُ ? وخرج القوم صادرين إل أهليهم؛ فَقَالَ لهم ميسرة: ميلوا نأتي فدك؛ فإن بها يهوداً نسائلهم عن هذا الرجل؛ فمالوا إلى يهود، فأخرجوا سفراً لهم فوضعوه. ثم درسوا ذكر رَسُولِ اللهُ ? النبي الأمي العربي، يركب الحمار، ويجتزي بالكسرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد، ولا بالبسط، في عينيه حمرة، مشرق(6/658)
اللون، فإن كان هو الَّذِي دعاكم، فأجيبوه، وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه وإنا منه في مواطن بلاء عظيم، ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه، وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.
فَقَالَ ميسرة: يا قوم ألا إن هذا الأمر بين، فَقَالَ القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه، فرجعوا إلى بلادهم، وأبى ذلك عليهم رجالهم، فلم يتبعه أحد منهم، فلما قدم رَسُولِ اللهُ ? المدينة مهاجراً وحج حجة الوداع لقيه ميسرة فعرفه.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما زلت حريصاً على إتباعك من يوم أنخت بنا، حتَّى كان ما كان، وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الَّذِينَ كانوا معي، فأين مدخلهم يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهُ ? كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار.
فَقَالَ: الحمد لله الَّذِي أنقذني؛ فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان.
اللهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين وخصنا بالتوفيق المبين واجعلنا بفضلك من عبادك المخلصين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يخزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عَنْ أَبِى مُوسَى الأشْعَري قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ? أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلاَنَ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ فَقَالَ: «وَاللهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ» . وَوَافَقْتُهُ، وَهْوَ غَضْبَانُ وَلاَ أَشْعُرُ.
فَرَجَعْتُ حَزِيناً مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللهِ ? وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولِ اللهِ ? قَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمُ الَّذِي قَالَ رَسُولِ اللهِ ?، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلاَّ سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلاَلاً يُنَادِى أَيْ عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ. فَأَجَبْتُهُ.(6/659)
فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ اللهِ ? يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللهِ ?، قَالَ: «خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ - لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ - فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ.
فَقُلْ: إِنَّ اللهَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ فَارْكَبُوهُنَّ» . فَانْطَلَقْتُ إِلى أصْحابي بِهِنَّ، فَقُلْتُ: إِنَّ رسول الله ? يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ.
وَلَكِنِّي وَاللهِ لاَ أَدَعُكُمْ حتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللهِ ? حينَ سَألْتُهُ لكُمْ، ومَنْعَهُ في أوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ إعْطاءَهُ إَّيايَ بَعْدَ ذَلِكَ، لاَ تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئاً لَمْ يَقُلْهُ.
فَقَالُوا لِي: والله إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ؛ فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ حتَّى أَتَوُا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ? مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى.
وعن كعب بن مالك قَالَ: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفُقِّهْنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما توجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة.
قَالَ البراء لنا: يا هؤلاء إني قد رأيت رأياً، فوالله ما أدري أتوافقونني عليه، أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قَالَ: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني الكعبة - وأن أصلي إليها.
فقلنا: والله ما بلغنا أن نبيناً ? يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه، فَقَالَ: إني لمصل إليها فقلنا له: لكنا لا نفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتَّى قدمنا مكة.
وقد كنا قد عتبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله ? حتَّى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع فِي نَفْسِي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.(6/660)
فخرجنا نسأل عن رسول الله ? وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله ? فَقَالَ: هل تعرفانه؟ قلنا: لا.
قَالَ: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم - وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً - قَالَ: فإذ دخلتما المسجد؛ فهو الرجل الجالس مع العباس. قَالَ: فدخلنا المسجد، فإذا العباس جالس، ورسول الله ? جالس معه، فسلمنا، ثم جلسنا إليه.
فَقَالَ رسول الله ? للعباس: ((هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» ؟ قَالَ: نعم، هذا البراء بن معرور، سيد قومه، وهذا كعب بن مالك؛ فوالله ما أنسى قول رسول الله ?: ((الشاعر)) ؟ قَالَ: نعم.
فَقَالَ له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتَّى وقع فِي نَفْسِي من ذلك شيء؛ فما ترى يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها؛ فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ? وصلى معنا. إلى الشام وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتَّى مات، وليس ذلك كما قَالُوا، نحن أعلم به منهم. والله أعلم وصلى الله على مُحَمَّد اللهُمَّ اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخبار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ? فِي سَاعَةٍ لاَ يَخْرُجُ فِيهَا، وَلاَ يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ ? وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ.(6/661)
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ؛ فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ» ؟ قَالَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ» . فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِى الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الأَنْصَارِىِّ - وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ النَّخْلِ والشَّجَرِ وَالشَّاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ - فَلَمْ يَجِدُوهُ.
فَقَالُوا لاِمْرَأَتِهِ أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ فَقَالَتِ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا، فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ ? وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ.
ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ، فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطاً، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ فَجَاءَ بِقِنْوٍ، فَوَضَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «أَفَلاَ تَنَقيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ» . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا - أَوْ قَالَ تَخَيَّرُوا - مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ.
فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «وَالَّذِي نَفْسِي بَيّدِهِ مِنَ هَذا النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ظِلٌّ بَارِدٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ» . فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ ِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَاماً فَقَالَ النَّبيُّ ?: «لاَ تَذْبَحَنَّ لنا ذَاتَ دَرٍّ» . فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقاً - أَوْ جَدْياً - فَأَتَاهُمْ بِهَا فَأَكَلُوا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ? «هَلْ لَكَ خَادِمٌ؟» . قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَائْتِنَا» . فَأُتِيَ النَّبِيُّ ? بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبيُّ ?: «اخْتَرْ مِنْهُمَا» . فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ اخْتَرْ لِي. فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هَذَا، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّى، وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفاً» . فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ: فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ?.
فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ? إِلاَّ أَنْ تَعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «إِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً وَلاَ خَلِيفَةً إِلا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوهُ خَبَالاً وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ» . والله أعلم وصلى الله على مُحَمَّد وأله وسلم.
اللهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا،(6/662)
وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهُمَّ ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ ? خَيْبَرَ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالاً وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلاً وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ أفَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أو قُلتُ شَيْئاً.
فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِىَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ.
وَفَشَى ذَلِكَ بِمَكَّةَ فَانْقَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحاً وَسُرُوراً. وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَعَقِرَ وَجَعَلَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ ... فَأَخَذَ ابْناً لَهُ يُقَالَ لَهُ قُثَمٌ وَاسْتَلْقَي، وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
حِبِّي قُثَمْ شَبِيهُ ذِي الأَنْفِ الأَشَمْ ... نَبِيِّ ذِي النِّعَمْ يَزْعُم مَنْ زَعَمْ
ثُمَّ أَرْسَلَ غُلاَماً لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ عِلاَطٍ، فَقَالَ وَيْلَكَ جِئْتَ بِهِ! وَمَاذَا تَقُولُ؟ فَمَا وَعَدَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ فَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ: اقْرَأْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ فَلْيَخْلُ لِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ لآتِيَهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ.
فَجَاءَ غُلاَمُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحاً حتَّى قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْحَجَّاجُ فَأَعْتَقَهُ.
ثُمَّ جَاءَهُ الْحَجَّاجُ فَأَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللهِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللهِ ? صَفِيَّةَ بِنْتَ(6/663)
حُيَىٍّ وَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ، أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ.
وَلَكِنِّى جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ هَا هُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ ? فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْتُ فَأخْفِ عَنِّى ثَلاَثاً، ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ فَجَمَعَتِ امْرَأَتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُلِىٍّ أَوْ مَتَاعٍ فَجَمَعْتهُ ودَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْشَمَرَ بِهِ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاَث أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لاَ يَحْزُنْكَ اللهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ، قَالَ: أَجَلْ فَلاَ يُحْزِنُنِي اللهُ ولَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللهِ إِلا مَا أَحْبَبْنَا، فَتَحَ اللهُ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللهِ وَاصْطَفَى رَسُولُ اللهِ ? صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ.
فَإِنْ كَانَت لَكِ حَاجَةً فِي زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ، قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللهِ صَادِقاً؟ قَالَ: فَإِنِّي لصَادِقٌ، وَالأَمْرُ عَلَى مَا أُخْبِرُتكِ، ثُمَّ ذَهَبَ حتَّى أَتَى مَجْلِسَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ: لاَ يُصِيبِكَ إِلا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ.
قَالَ: لَمْ يُصِبْنِي إِلاَّ خَيْرٌ بِحَمْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ أَنَّ خَيْبَرَ فَتَحَهَا اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ? وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللهِ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِىَ عَنهُ ثَلاَثاً، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ هَا هُنَا ثُمَّ يَذْهَبُ.
فَرَدَّ اللهُ الْكَآبَةَ الَّتِي كَانَتْ بالْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِباً حتَّى أَتَى الْعَبَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ الخبر، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ، وَرَدَّ مَا كَانَ مَنْ كآبةٍ أو غَيْظٍ وَحُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. والله أعلم
اللهُمَّ اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار ووفقنا للتوبة والاستغفار واحطط عنا ثقل الأوزار يا عزيز يا غفار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ(6/664)
يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن جرير بن عبد الله البجلي قَالَ: رجل مع أبي موسى الأشعري، وكان صوت ونكاية في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلقه، فجمع الرجل شعره، ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب، حتَّى قدم عليه.
فدخل على عمر بن الخطاب، وكنت أقرب الناس من عمر، فأدخل على عمر شعره، ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب، ثم قَالَ: أما والله لولا النار؛ فَقَالَ عمر: صدق والله لولا النار.
فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره، وَقَالَ: ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه.
فَقَالَ عمر – رضوان الله عليه -: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا أحب لي من جميع ما أفاء الله علينا.
فكتب عمر إلى أبي موسى: سلام عَلَيْكَ، أما بعد؛ فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذاك في ملأ من الناس، فعزمت عَلَيْكَ لما قعدت له في ملأ من الناس حتَّى يقتص منك.
فقدم الرجل، فَقَالَ له الناس: اعف عنه، فَقَالَ: لا والله لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد أبو موسى ليقتص منه رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قَالَ: اللهُمَّ إني قد عفوت عنه. والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسلم.
(فَصْلٌ)
عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ حتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ.(6/665)
فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ? وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ.
فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الأَنْصَارَ؛ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي.
ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ. فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ.
فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ - وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلاَفَهُ - نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ.
أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطْتَ وَادِياً لَهُ عِدْوَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: خَصْبَةٌ، وَالأُخْرَى: جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ.
فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّباً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْماً؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ» . فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ انْصَرَفَ. والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم.
اللهُمَّ حبب إلينا الإيمانَ وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ
اللهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت(6/666)
تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهُمَّ أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن أنس بن مالك: كنا عند عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - إذ جاءه رجل من أهل مصر، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بِكَ، قَالَ: وما لك؟ قَالَ: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام مُحَمَّد بن عمرو فَقَالَ: فرسي ورب الكعبة؛ فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة فَقَامَ إلي فضربني بالسوط، ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين.
فوالله ما زاده عمر على أن قَالَ له: اجلس، ثم كتب إلى عمرو إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل معك بابنك مُحَمَّد؛ فدعا عمرو ابنه فَقَالَ: أأحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟ قَالَ: لا، قَالَ: فما بال عمر يكتب فيك.
فقدم على عمر؛ فو الله إنا عند عمر حتَّى إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فَقَالَ: أين المصري؟ فَقَالَ: ها أنا ذا،قَالَ: دونك الدرة فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين، فضربه حتَّى أثخنه.
ثم قَالَ: أحلها على صلعة عمرو! فو الله ما ضربكَ إلا بفضل سلطانه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني، قَالَ: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتَّى تكون أنت الَّذِي تدعه، أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً ثم التفت إلى المصري، فَقَالَ: أنصرف راشداً، فإن رابكَ ريب فاكتب إلى.
كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص – عام الرمادة -: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى العاصي ابن العاصي،(6/667)
سلام عَلَيْكَ، أما بعد: أفتراني هالكاً ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه -) .
فكتب إليه عمرو بن العاص: (بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام عَلَيْكَ؛ فإني أحمد إليك الله الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد: (فقد) أتاك الغوث فلبث، لأبعثن إليك بعيراً أولها عندك وآخرها عندي) .
فلما قدم أول الطعام كلم عمر بن الخطاب الزبير بن العوام فَقَالَ له: تعترض للعير فتميلها إلى أهل البادية فتقسمها بينهم؛ فو الله لعلك لا تكون أصبت بعد صحبتك رسول الله شيئاً أفضل منه؛ فأبي الزبير واعتل.
وأقبل رجل من أصحاب النبي ? فَقَالَ عمر: لكن هذا لا يأبي؛ فكلمه عمر ففعل وخرج، فَقَالَ له عمر: أما لقيت من الطعام فمل به إلى أهل البادية.
فأما الظروف فاجعلها لحُفاً يلبسونها، وأما الإبل فأنحرها لهم يأكلون من لحومها، ويحملون من ودكها، ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا، وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتَّى أمر الله لهم بالفرج.
وكان عمر يصنع الطعام وينادي مناديه: من أحب أن يحضر طعاماً فيأكل فليفعل، ومن أحب أن يأخذ ما يكفيه وأهله فليأت، فليأخذه.
اللهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عن عبد الله بن عمر قَالَ: قدمت رفقة من التجار، فنزلوا المصلى فَقَالَ عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ (قَالَ: نعم) ، فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء(6/668)
صبي فتوجه نحوه فَقَالَ لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك.
ثم عاد مكانه، فسمع بكاءه فأتى أمه فَقَالَ (لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتي إلى أمه فَقَالَ لها:) ويحك، إني لأراك أم سوء، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة (من البكاء) ؟
قالت: يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة، إني أريغه عن الفطام فيأبي، قَالَ: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم، قَالَ: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهراً، قَالَ ويحك لا تعجليه (عن الفطام) .
فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم قَالَ: يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر منادياً؛ فنادى: ألا، لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق، إنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
وعن أسلم العدوي مولى عمر قَالَ: بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس بالمدينة إذا أعيا فاتكا على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك فامذقيه بالماء.
قَالَ لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقية بالماء فإنه بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، الله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع ذلك كله، فَقَالَ: يا أسلم علم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه.
فلما أصبح قَالَ: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم من بعل، فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم لا(6/669)
بعل لها، وأذا تيكَ أمها ليس لها بعل.
فأتيت عمر وأخبرته، فدعي عمر ولده فجمعهم، فَقَالَ: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه، لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية.
فَقَالَ عبد الله: لي زوجة، وَقَالَ عبد الرحمن: لي زوجة، وَقَالَ عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي، فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم؛ فولدت له بنتاً، وولدت البنت عمرَ بن عبد العزيز – رحمه الله – والله أعلم
اللهُمَّ وفقنا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّى تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبِ أَحَداً تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ? وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُون عِيرَ قُرَيْشٍ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ.
وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا على الإسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا.
وكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَاللهِ مَا اجْتَمَعَتْ قَبْلَهَا رَاحِلَتَينِ قَطُّ حتَّى جَمَعْتُهُمَا تِلْكَ الْغَزْوَةَ.
وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ ? يُرِيدُ غَزْوَةَ إِلاَّ وَرَّي بِغَيْرِهَا حتَّى كَانَتْ تِلْك(6/670)
الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ ? فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً، وأسْتَقْبَلَ عَدُوّاً كَثِيراً فَجَلاَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهَمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِم الَّذِي يُرِيدُ.
وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? كَثِيرٌ لاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يُرِيدُ بذلك الدِّيوَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَقل رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ ذلِك سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْىٌّ مِنَ اللهِ عزَ وجَلَّ وَغَزَا رَسُولُ اللهِ ? تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ فَأنا إلَيْهَا أصْعَرُ فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ ? وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئاً، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، وَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ.
فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ? وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فرَجَعْتُ، وَلَمْ أَقْضِ شَيْئاً فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ. فياَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثم َلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ وَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ ? يَحْزَنَنِي أَنِّى لاَ أَرَى لي أسْوَةً إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصاً عَلَيْهِ فيَ النِّفَاقِ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ.
وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ ? حتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ بْنُ مَالِك؟» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلِمْنَا إِلاَّ خَيْراً، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ?
فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَأىِ رَجُلاً مُبَيَّضَّاً يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: كُنْ أبا خَيْثَمَةَ، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ المُنافقُونَ.(6/671)
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثَّي فطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْىٍ مِنْ أَهْلِي.
فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ َظَلَّ قَادِماً رَاحَ عَنِّى الْبَاطِلُ حتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لاَ أنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَداً فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ? قَادِماً، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ.
فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» . فَجِئْتُ أَمْشِى حتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ قِد ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنيْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً.
وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فيه عُقْبَي الله عز وجل. وفي رواية: عَفْوَ اللهِ.
وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٌ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ: رَسُولُ اللهِ ?: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حتَّى يَقْضِىَ اللهُ فِيكَ» . فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَاتَّبَعُونِي.
فَقَالُوا: وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، لَقَدْ عَجَزْتَ في أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ? بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافَِيكَ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ ? لَكَ، فَوَ اللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ? فَأُكَذِّبَ نَفْسِي.(6/672)
قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُم: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مَا قِيلَ لَكَ. قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامْرِىُّ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُُّ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قَالَ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ ? المُسْلمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ.
قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، أوْ قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حتَّى تَنَكَّرَتْ لي فِي نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِي بِالأرْضَِ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَاىَ، فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ.
وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ فَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِى رَسُولَ اللهِ ? وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأُسَلِّمُ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ؟ .
ثُمَّ أُصَلِّى قَرِيباً مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي نَظَرَ إِلَىَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حتَّى إِذَا طَالَ عَلَىَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِى قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَ اللهِ مَا رَدَّ عَلَىَّ السَّلاَمَ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ اللهَ هَلْ تَعْلَمُنِ أنَّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاي،َ وَتَوَلَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ.
فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى في سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلى حتَّى جَاءَنِي، فدَفَعَ إِلَىَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ(6/673)
كَاتِباً فَقَرَأتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِيكَ. قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذَه أَيْضاً مِنَ الْبَلاَءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُا حتَّى إِذَا مَضَتْ لَنَا أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، وَإِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ ? يَأتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ? يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ.
قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقْهَا؟ أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حتَّى يَقْضِىَ اللهُ هَذَا الأَمْرَ.
قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ ? فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ» . قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِى مُنذْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِه هَذَا.
قَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ ? فِقد إذن لأمْرَأَة هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ تَخْدُمُهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ ? وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ? إِذا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا؟ وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ.
قَالَ: فَلَبِثْتُ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى عَنْ كَلاَمِنَا.
قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الصبَّحِ صَباحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا.
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِة الَّتِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ! أَبْشِرْ.(6/674)
قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِداً، وَعَلِمْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجُ، قَالَ: وَأَذِنَ رَسُولُ اللهِ ? النَّاس بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونِنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَساً، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ.
فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعَتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبُشارَته وَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ أيَمَّمُ رَسُولَ اللهِ ?.
فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: وَلِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ حتَّى دَخَلْنا الْمَسْجِدَ فَإذَا رَسُولِ اللهِ ? حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ إِلَىَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ.
فَكَانَ كَعْبٌ لاَيَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولُ اللهِ ?، قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، قَالَ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» . قَالَ فقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه ِ؟ قَالَ: «بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ،» . وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا سُرَّ اسْتَنَار وَجْهُهُ حتَّى كَأَنَّ وَجْهُهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ.
قَالَ: وَكَنَّا نَعْرَفُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِه؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» .
قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. قَالَ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا نَجَّانِي الله بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ، فَوَاللهِ مَا أَعْلَمْتُ أَحَداً أبْلاَهُ اللهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لرَسُولَ اللهِ ? إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِىَ.(6/675)
قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حتَّى بلغ {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حتَّى بلغ {اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ لله} .
قَالَ كَعْبٌ: وَاللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَىَّ مِنْ نِعْمَةٍ قط بَعْدَ إذْ هَدَانِي لِلإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لرَسُولَ اللهِ ? أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوهُ، إِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ فَقَالَ:
{سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
قَالَ كَعْبٌ: كُنَّا خَلفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ? حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ ? أَمْرَنَا حتَّى قَضَى اللهُ تعالى فِيهِ بِذَلِكَ.
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَه مَا خَلفَنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْه فَقَبِلَ مِنْهُ. رواه البخاري ومسلم، واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي بنحوه مفرّقاً مختصراً، وروى الترمذي قطعة من أوله، ثم قَالَ وذكر الحديث.
اللهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الَّذِي يربح فيه المتقون اللهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/676)
قال بعضهم:
إِنَّ أُولِي الْعِلْمِ بِمَا فِي الْفِتَنْ ... تَهَيَّبُوهَا مِنْ قَدِيْمِ الزَّمَنْ
فَاسْتَعْصَمُوا الله وَكَانَ التُّقَى ... أَوْفَى لَهُم فِيْهَا مِنْ أوفى الْجُنَنْ
وَاِجتَمَعوا في حُسنِ تَوفيقِهِ ... وَاِفتَرَقوا في كُلِّ سَعيٍ حَسَنْ
فَعالِمٌ مُستَجِدٌ عامِلٌ ... يَسْلُكُ بِالنَّاسِ سَواءَ السُّنَنْ
يَْنثُرُ مِنْ فِيهِ لَهُمْ جَوهَرًا ... مِنْ عِلْمِهِ لَيْسَ لَهُ مِنْ ثَمَنْ
يَقْسِمُهُ طُلابُهُ بَيْنَهُمْ ... قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ بِقَدْرِ الْفِطَنْ
وَبُهْمَةٌ مُخْتَرِطٌ سَيْفَهُ ... يُغْمِدُهُ فِي هَامِ أَهْلِ الْوَثَنْ
يَلْبَسُ مِنْ إِيمَانِهِ لأمْةً ... فَضْفَاضَةً يَغْنَى بِهَا عَنْ مِجَّنْ
وَحَابِسٌ فِي بَيْتِهِ نَفْسَهُ ... مُعْتَزِلٌ مُسْتَمْسِكٌ بِالسُّنَنْ
يَأْخُذُ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتًا لَهُ ... مُقْتَنِعًا مِثْلَ عِذَارِ الرَّسَنْ
قَدْ جَعَلَ الْبَيْتَ كَقَبْرٍ لَهُ ... وَبُرْدُهُ فِيهِ لَهُ كَالْمَفَنْ
فَهُوَ خَفِيفُ الظَّهْرِ لَكِنَّهُ ... أَثْقَلُ فِي مِيزَانِهِ مِنْ حَضَنْ
وَهَارِبٌ شُحًّا عَلَى دِينِهِ ... إِلَى الْبَرَارِي وَرُؤوسِ الْقُنَنْ
يَأْنَسُ بِالْوِحْدَةِ فِي بِيدِهَا ... أَكْثَرَ مِنْ تَأْنِيسِهِ بِالسَّكَنْ
لا يَرْهَبُ الأُسَدَ وَمَنْ لَمْ يَخُنْ ... سَيِّدَهُ فِي عَهْدِهِ لَمْ يُخَنْ
وَتَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ مُشْفِقٌ ... يَبْكِي بُكَاءَ الْوَاكِفَاتِ الْهُتُنْ
تَخَالُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ... فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ كَمِثْلِ الْغُصُنْ
إِنْ مَهَّدَ النَّاسُ لِدُنْيَاهُمُ ... شَمَّرَ فِي تَمْهِيدِهِ لِلْجَنَنْ
كَأَنَّمَا الأَرْضُ لَهُ أَيْكَةٌ ... وَهُوَ بِهَا قُمْرِيَّةٌ فِي فَنَنْ
وَصَامِتٌ فِي قَلْبِهِ مِقْوَلٌ ... بِالذِّكْرِ للهِ طَوِيلٌ لَسِنْ(6/677)
.. تَرَاهُ كَالأَبْلَهِ فِي ظَاهِرٍ ... وَهُوَ مِنْ أذْكَى النَّاسِ فِيمَا يَظُنْ
قَدْ نَوَّرَ اللهُ لَهُ قَلْبَهُ ... بِالذِّكْرِ فِي السِّرِّ لَهُ وَالْعَلَنْ
فَإِنْ يَبِنْ بِالْفِكْرِ عَنْ صَحْبِهِ ... فَجِسْمُهُ بَيْنَهُمُ لَمْ يَبِنْ
وَإِنْ لَغَوا جَلِيسٌ لَهُمْ ... لَمْ يَلِجِ اللَّغْوُ لَهُ فِي أُذُنْ
فِي مَلَكُوتِ اللهِ سُبْحَانَهُ ... تَجُولُ أَلْبَابُ لُبَابِ الْفِطَنْ
فَهُمْ خُصُوصُ اللهِ فِي أَرْضِهِ ... حَقًّا بِهِمْ تُدْرَأُ عَنَّا الْمِحَنْ
سَمَوا بِفَضْلِ اللهِ نَحْوَ الَّتِي ... مَنْ حَلَّ فِي جِيرَتِهَا قَدْ أَمِنْ
وَنَزَّهُوا الأَنْفُسَ عَنْ مَنْزِلٍ ... نَازِلُهُ مُسْتَوْفِزٌ لِلظَّعَنْ
وَسَمَّروا الْخَيْلَ لِيَوْمٍ بِهِ ... يُنْكَبَ مَنْ يَرْكَبُ فَوْقَ الْهُجُنْ
فَلَيْتَنِي كُنْتُ لَهُمْ خَادِمًا ... وَلَيْتَنِي إِذْ لَمْ أَكُنْ لَمْ أَكُنْ
وَمَنْ سِوَاهُمْ فَرِجَالٌ رَجَوا ... أَنْ يَعْبُرُوا الْبَحْرَ بِغَيْرِ السُّفُنْ
وَإِنَّمَا قَصَّرَ بِي عَنْهُمُ ... حُبِّي لِدَارٍ مُلِئَتْ بِالْفِتَنْ
لا غَارَتِ الدُّنْيَا وَلا أَنْجَدَتْ ... فَالْعَاقِلُ الْحُرُّ بِهَا مُمْتَحَنْ
تَمِيلُ لِلأَحْمَقِ مِنْ أَهْلِهَا ... وَهِيَ عَلَى عَاقِلِهِمْ تَضْطَغِنْ
يَا عَجَبًا مِنْ غَفْلَتِي بَعْدَ أَنْ ... نَادَانِيَ الشَّيْبُ أَلا فَارْحَلَنْ!
وَأَدْرِكِ الْفَائِتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ ... يَفْجَأَكَ الْمَوْتُ فَلا تُنْظَرَنْ
أَقْبَحُ مَنْ تَرْمُقُهُ مُقْلَةٌ ... مُبْصِرَةٌ شَيْخٌ خَليِعُ الرَّسَنْ
تَقْتَادُهُ الدَّهْرَ دَوَاعِي الْهَوَى ... إِلَى الصِّبَا مِثْلَ اقْتِيَادِ الْبُدُنْ
يَأْمُلُ آمَالَ فَتَىً يَافِعٍ ... كَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْخٍ يَفَنْ
لَيْسَ جَمَالُ الشَّيْخِ إلا التَّقَى ... وَالْمََحْوُ لِلْسُّوءِ بِفِعْلٍ حَسَنْ
شُغِلْتُ بِالْوَصْفِ وَلَوْ أَنَّنِيْ ... أُشْغَلُ بِالْمَوْصُوْفِ كُنْتُ الفَطِنْ(6/678)
.. وَلَمْ أَبِعْ رُشْدًا بِغَيٍّ وَلَمْ ... أَرْضَ بِعَقْلِي مِثْلَ هَذا الغَبَنْ
إِنّا إِلَى اللهِ لَقَدْ حَاقَ بِي ... مَا يُورِثُ الْخِزْيَ غَدًا وَالْحَزَنْ
وَالْحَمْدُ للهِ فَفِي كَفِّهِ ... مَنْحٌ لِمَنْ شَاءَ وَفِيهَا الْمِنَنْ
وَهْوَ الَّذِي أَرْجُو فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ... عِنْدَ رَجَائِي فِيهِ طَوْلاً فَمَنْ؟
اللهُمَّ احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهُمَّ قو إيماننا بفهم آياتك، وارزقنا العمل بها، وزدنا علماً ينفعنا، وأصلح نياتنا، ووفقنا لذكرك وشكرك، وارزقنا حبِكَ، وحب من يحبِكَ، وحب العمل الَّذِي يقربنا إلى حبِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وبعد فقد رأيت أنه من المناسب أن أختم هذا الكتاب على كثير من الأحكام والآداب الشرعية وأسأل الله الحي القيوم العلي العظيم القوي العزيز الحكيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحَد الفرد الصَّمَد الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ أن ينفع بها نفعاً عاماً من قرأها ومن سمعها ومن حضرها وأن يفتح لنا ولإخواننا المسلمين باب القبول والإجابة اللهُمَّ صَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ آمين يا رب العالمين.
من منظومة الآداب لابن عبد القوي رحمه الله:
بِحَمْدِكَ ذِي الإكْرَامِ مَا رُمْتُ أبْتَدِي
كَثِيرًا كََمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ
وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الأَنَامِ وَآلِهِ
وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ هَادٍ وَمُهْتَدِي(6/679)
وَبَعْدُ فَإِنِّي سَوْفَ أُنْظِمُ جُمْلَةٌ
مِن الأَدَبِ الْمَأْثُورِ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ
مِن السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ أَوْ مِنْ كِتَابِ مَنْ
تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الْغُواةِ وَجُحَّدِ
ومِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَائِنَا
أَئِمَّةِ أَهْلِ السِّلْمِ مِنْ كُلِّ أَمْجَدِ
لَعَلَّ إِلَهَ الْعَرْشِ يَنْفَعُنَا بِهِ
وَيُنْزِلُنَا فِي الْحَشْرِ فِي خَيْرِ مَقْعَدِ
الأمن لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَغْبَةٌ
لِيُصْغِ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُتَرَصِّدِ
وَيَقْبَلَ نُصْحًا مِنْ شَفِيقٍ عَلَى الْوَرَى
حَرِيصٍ عَلَى زَجْرِ الأَنَامِ عَنِ الرَّدِيِ
فَعِنْدِيَ مِن عِلْمِ الْحَدِيثِ أَمَانَةٌ
سَأَبْذُلُهَا جُهْدِي فَأَهْدِي وَأَهْتَدِي
أَلا كُلُّ مَنْ رَامَ السَّلامَةَ فَلْيَصُنْ
جَوَارِحَهُ عَنْ مَا نَهَى اللهُ يَهْتَدِي
يَكُبُ الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ
وَإِرْسَالُ طَرْفِ الْمَرْءِ أنْكَى فَقَيِّدِ
وَطَرْفُ الْفَتَى يَا صَاحِ رَائِدُ فَرْجِهِ
وَمُتْعِبُهُ فَاغْضُضْهُ ما اسْطَعْتَ تَهْتَدِي
وَيَحْرُمُ بُهْتٌ واغْتِيَابٌ نَمِيْمَةٌ(6/680)
.. وإِفْشَاءُ سِرٍ ثُمَّ لَعْنُ مُقَيَّدِ
وَفُحْشٌ وَمَكْر وَالْبِذَا وَخَدِيعَةٌ
وسُخْرِيًّةٌ والهُزْؤُ وَالْكِذْبَ قَيِّدِ
بِغَيْرِ خِدَاعِ الْكَافِرِينَ بِحَرْبِهِم
وَللعرْس أَوْ إِصْلاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ
وَيَحْرُمُ مِزْمَارٌ وَشُبَّابَةٌ وَمَا
يُضَاهِيهِمَا مِنْ آلَةِ اللَّهْوِ والرَّدي
وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْهَا غِنَاءٌ جَمِيعُهَا
فَمنْهَا ذَوُو الأَوْتَارِ دُونَ تَقَيُّدِ
وَلا بَأْسَ بالشِّعْرِ الْمُبَاحَِ وَحِفْظِهِ
وَصَنْعَتِهِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْتَدِي
فَقَدْ سَمَعَ الْمُخْتَارُ شِعْر َصَحَابَةٍ
وَتَشْبِيبِهُمِ مِن غَيْرِ تَعِيِينِ خُرَّدِ
وَحَظْرَ الْهِجَا والْمَدْحِ بالزُّورِ وَالْخَنَا
وَتَشْبِيبِهِ بِالأَجْنَبِيَّاتِ أَكِّدِ
وَوَصْفِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمُرْدِ وَالنِّسَا الْـ
ـفَتِيَّاتِ أَوْ نَوْحِ التَّسَخُّطِ مُورَدِ
وَأَوْجِبْ عَن الْمَحْضُورِ كَفَّ جَوَارِحٍ
وَنَدْبٌ عَنِ الْمَكْرُوهِ غَيْرَ مُشَدِّدِ
وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ يَا فَتَى
عَنِ الْمُنْكَرِ اجْعَلْ فَرْضَ عَيْنٍ تُسَدَّدِ(6/681)
.. عَلَى عَالِمٍ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَقُمْ
سِوَاهُ بِهِ مَعْ أَمْنِ عُدْوَانِ مُعْتَدِي
وَلَوْ كَانَ ذَا فِسْقٍ وَجَهْلٍ وَفِي سِوَى الْـ
لَذِي قِيلَ فَرْضٌ بِالْكِفَايَةِ فَاحْدُدِ
وَبِالْعُلَمَا يَخْتَصُّ مَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ
بِهِمْ وَبِمَنْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ قَدِ
وَأَضْعَفُهُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِسَانِهِ
وَأَقْوَاهُ إِنْكَارُ الْفَتَى الْجَلْدِ بِالْيَدِ
وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبيَانِ كُلَّ مُحْرَّمٍ
لِتَأْدِيْبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ بالرَّدِي
وَبِالأَسْهَلِ ابْدَأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجَةٍ
فَإِنَ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الأَمْرَ فَاصْدُدِ
إِذَا لَمْ يَخَفْ فِي ذَلِكَ الأَمْرَ حَيْفُهُ
إِذَا كَانَ ذَا الإِنْكَارِ حَتْمَ التَّأَكُّدِ
وَلا غُرْمَ فِي دَفِّ الصَّنُوجِ كَسَرْتَهُ
وَلاَ صُوَرٍ أَيْضًا وَلاَ آلَةِ الدُّدِ
وَآلَةِ تَنْجِيمٍ وَسِحْرٍ وَنَحْوِهِ
وَكُتُبٍ حَوَتْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ أَقْدُدِ
(وَقُلْتُ كَذَاكَ السِّينَمَاءُ وَمِثْلُهُ
بِلا رَيْبَ مِذْيَاعٌ وَتِلْفَازُ مُعْتَدِي)
(وَأَوْرَاقُ أَلْعَابٍ بِهَا ضَاعَ عُمْرُهُمْ(6/682)
.. وَكُورَاتِهِمْ مَزِّقْ هُدِيتَ وَقَدِّدِ)
(كَذَا بَكَمَاتٌ وَالصَّلِيبُ وَمِزْمَرٌ
وَآلَةُ تَصْويرٍ بِهَا الشَّرُ مُرْتَدِي)
(كَذَلِكَ دُخَّانٌ وشِيشَةُ شُرْبِهِ
وَآلَةُ تَطْفَاةٍ لَهُ اكْسِرْ وَبَدِّدِ)
(وَمَنْ بَعْدِ ذَا فَاسْمَعْ كَلامًا لِنَاظِمٍ
يَسُوقُ لِكَ الآدَابَ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ)
وَبِيضٍ وَجَوْزِ لِلْقِمَارِ بِقَدْرِ مَا
يُزِيلُ عَنْ الْمَنْكُورِ مَقْصَدِ مُفْسِدِ
وَلا شَقِّ زِقِّ الْخَمْرِ أَوْ كَسْرِ دِنّهِ
إِذَا عَجََز الإِنْكَارُ دُونَ التَّقَدُّدِ
وَإِنْ يَتَأَتَّى دُونَهُ دَفْعُ مُنْكِرٍ
ضَمِنْتَ الَّذِي يَنْقَى بِتَغْسِيلِهِ قَدِ
وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِي سُنَّةٌ
وَقَدْ قِيلَ إِنْ يَرْدَعْهُ أَوْجِبْ وَأَكِّدِ
وَقِيلَ عَلَى الإِطْلاقِ مَا دَامَ مُعْلِنًا
وَلاقِهِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍ مُعَرْبَدِ
وَيَحْرُمُ تَجْسِيسٌ عَلَى مُتَسَتِّرٍ
بِفِسْقٍ وَمَاضِي الْفِسْقِ إِنْ لَمْ يُجَدِّدِ
وَهِجْرَانُ مَنْ يَدْعُو لأَمْرٍ مُضِلٍّ أَوْ
مُفَسِّقٍ أَحْتِمْهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ(6/683)
.. عَلَى غَيْرِ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَحْضِ قَوْلِهِ
وَيَدْفَعُ إِضْرَارَ الْمُضِلِّ بِمِذْوَدِ
وَيَقْضِي أُمُورَ النَّاسِ فِي أَتَيَانِهِ
وَلا هَجْرَ مَعْ تَسْلِيمِهِ الْمُتَعَوِّدِ
وَحَظْرُ انْتِفَا التَّسْلِيمِ فَوْقَ ثَلاثَةٍ
عَلَى غَيْرِ مَنْ قُلْنَا بِهَجْرٍ فَأَكِّدِ
وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ السَّلامَ لِسُنَّةٌ
وَرَدُّكَ فَرْضٌ لَيْسَ نَدْبٌ بِأَوْطَدِ
وَيُجْزِئُ تَسْلِيمُ امْرِئٍ مِنْ جَمَاعَةٍ
وَرَدُّ فَتَىً مِنْهُمْ عَلَى الْكُلِّ يَا عَدِي
وَتَسْلِيمُ نَزْرٍ وَالصَّغِيرِ وَعَابِرِ
سَبِيلِ وَرُكْبَانٍ عَلَى الضِّدِّ أَيِّدِ
وَإِنْ سَلَّمَ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِ مِنْهُمْ
فَقَدْ حَصَلَ الْمَسْنُونُ إِذْ هُوَ مُبْتَدِي
وَسَلَّمْ إِذَا مَا قُمْتَ عَنْ حَضْرَةِ امْرِئٍ
وَسَلِّمْ إِذَا مَا جِئْتَ بَيْتَكَ تَهْتَدِي
وَإِفْشَاؤُكَ التَّسْلِيمَ يُوجِبْ مَحَبَّةً
مِنَ النَّاسِ مَجْهُولاً وَمَعْرُوفًا أَقْصُدِ
وَتَعْرِيفُهُ لَفْظُ السَّلامِ مُجَوَّزٌ
وَتَنْكِيرُهُ أَيْضًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ
وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ وَقِيلَ تَحِيَّةً(6/684)
.. كَلِلْمَيِّتِ وَالتَّوْدِيعِ عَرِّفْ كَرَدِّدِ
وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ
عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أقْرَبِينَ وَبُعَّدِ
ثَلاثًا وَمَكْرُوهٌ دُخُولٌ لِهَاجِمٍ
وَلاسِيَّمَا مِنْ سَفْرَةٍ وَتَبَعُّدِ
وَوَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ بَابٍ وَكُوَّةٍ
فَإِنْ لَمْ يُجَبْ يَمْضِي وَإِنْ يَخْفَ يَزْدَدِ
وَتَحْرِيكُ نَعْلِيهِ وَإِظْهَارُ حِسِّهِ
لِدَخْلَتِهِ حَتَّى لِمَنْزِلِهِ اشْهَدِ
وَكُلُّ قِيَامٍ لا لِوَالٍ وَعَالِمٍ
وَوَالِدِهِ أَوْ سَيِّدٍ كُرْهَهُ امْهَدِ
وَصَافِحْ لِمَنْ تَلْقَاهُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ
تَنَاثَرْ خَطَايَاكُمْ كَمَا فِي الْمُسَنَّدِ
وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ الانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا
وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ حَلَّ وَفِي الْيَدِ
وَحَلَّ عِنَاقٌ لِلْمُلاقِي تَدَيُّنًا
وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْفَمِّ أَفْهَمْ وَقَيِّدِ
وَنَزْعُ يَدٍ مِمَّنْ يُصَافِحُ عَاجِلاً
وَأَنْ يَتَنَاجَى الْجَمْعُ مِنْ دُونِ مُفْرَدِ
وَأَنْ يَجْلِسَ الإِنْسَانُ عِنْدَ مُحَدِّثٍ
بِسِرٍّ وَقِيلَ احْضِرْ وَإِنْ يَأْذَنِ اقْعُدِ(6/685)
.. وَمَرْأَى عَجُوزٍ لَمْ تُرِدْ وَصِفَاحُهَا
وَخُلْوَتُهَا اكْرَهُ لا تَحِيتُهَا أَشْهَدِ
وَتَشْمِيتُهَا وَاكْرَهْ كِلا الْخِصْلَتَيْنِ
لِلشَّبَابِ مِنَ الصَّنْفَيْنِ بُعْدَى وَأَبْعَدِي
وَيَحْرُمُ رَأْيُ الْمُرْدِ مَعْ شَهْوَةٍ فَقَطْ
وَقِيلَ وَمَعْ خَوْفٍ لِلْكُرْهِ جَوِّدِ
وَكُنْ وَاصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لِكَاشِحٍ
تُوَفَّرَ فِي عُمْرٍ وَرِزْقٍ وَتَسْعَدِ
وَيَحْسُن تَحْسِينٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ
وَلاسِيَّمَا لِلْوَالِدِ الْمُتَأَكِّدِ
وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ
سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لأَمْرٍ مُؤَكَّدِ
كَتَطْلابِ عِلْمٍ لا يَضُرُّهُمَا بِهِ
وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ
وَأَحْسِنْ إِلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوِّدِ
وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ كُلَّ قِرَاءَةٍ
وَذِكْرِ لِسَانٍ وَالسَّلامُ لِمُبْتَدِي
وَغَيِّرْ بِغَيْرِ الأَسْوَدِ الشَّيْبَ وَأَبْقِهِ
وَلِلْقَزَعِ اكْرَهْ ثُمَّ تَدْ لَيْسَ نُهَّدِ
وَيُشْرَعُ إِيكَاءُ السِّقَا وَغِطَا الإِنَا(6/686)
.. وَايجَافُ أَبْوَابٍ وَطَفْءٌ لِمُوْقَدِ
وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ وَنَتْفٌ لإِبْطِهِ
وَحَلْقًا وَلِلتَّنْوِيرِ لِلْعَانَةِ أَقْصُدِ
وَيَحْسُنُ خَفْضُ الصَّوْتِ مِنْ عَاطِسٍ وَأَنْ
يُغَطِّي وَجْهًا لاسْتِتَارٍ مِنَ الرَّدِي
وَيَحْمَدُ جَهْرًا وَلْيُشَمِّتْهُ سَامِعٌ
لِتَحْمِيدِهِ وَالْيُبْدِ رَدَّ الْمُعَوَّدِ
وَقُلْ لِلْفَتَى عُوفِيتَ بَعْدَ ثَلاثَةٍ
وَلِلطِّفْلِ بُورِكْ فِيكَ وَأْمُرْهُ يَحْمَدِ
وَغَطِّ فَمًّا وَاكْظُمْ فِي تَثَاؤُبٍ
فَذَلِكَ مَسْنُونٌ لأَمْرِ الْمُرَشِّدِ
وَلا بَأْسَ شَرْعًا أَنْ يَطِبَّكَ مُسْلِمٌ
وَشَكْوَى الَّذِي تَلْقَى وَبِالْحَمْدِ فَابْتَدِي
وَتَرْكُ الدَّوَا أَوْلَى وَفِعْلُكَ جَائِزٌ
وَلَمْ تَتَيَقَّنْ فِيهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ
وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِهِ
وَلاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّكَ تَسْعَدِ
وَيُشْرَعُ لِلْمُرْضَى الْعِيَادَةُ فَأَتِهِمْ
تَخُضْ رَحْمَهً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ
فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلائِكَةِ الرِّضَا
تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ مُمْسِي إِلَى الْغَدِ(6/687)
.. وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَاصَلْتَ
عَلَيْهِ إِلَى اللَّيْلِ الصَّلاةِ فَأَسْنِدِ
فَمِنْهُمْ مُغِبًا عُدْهُ خَفِّفْ وَمِنْهُمْ الْـ
لَذِي يُورِثُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَرِّدِ
وَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ
تَعُودُ وَلا تُكْثِرْ سُؤَالاً تُنَكَّدِ
وَمَكْرُوهٌ اسْتِأْمَانُنَا أَهْلَ ذِمَّةٍ
لإِحْرَازِ مَالٍ أَوْ لِقِسْمَتِهِ اشْهَدِ
وَمَكْرُوهٌ اسْتِطْبَابُهُمْ لا ضَرُورَةً
وَمَا رَكَّبُوهُ مِنْ دَوَاءٍ مُوَصِّدِ
وَإِنْ مَرِضَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا
طَبِيبًا سِوَى فَحْلٍ أَجِزْهُ وَمَهِّدِ
وَيَكْرَهُ حَقْنُ الْمَرْءِ إِلا ضَرُورَةً
وَيَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُهُ حَاقِنٌ قَدِ
كَقَابِلَةٍ حِلٌّ لَهَا نَظَرٌ إِلَى
مَكَانِ وَلادَاتِ النِّسَا فِي التَّوَلُّدِ
وَيَكْرَهُ إِنْ لَمْ يَسْرِ قَطْعُ بَوَاسِرٍ
وَبَطِّ الأَذَى حِلٌّ كَقَطْعٍ مُجَوِّدِ
لآكِلَةٍ تَسْرِي بِعِضْوٍ أبِنْهُ إِنْ
تَخَافَنَّ عُقْبَاهُ ولا تَتَرَدَّدِ
وَقَبْلَ الأَذَى لا بَعْدَهُ الْكَيَّ فَاكْرَهَنْ(6/688)
.. وَعَنْهُ عَلَى الإِطْلاقِ غَيْرَ مُقَيَّدِ
وَفِيهَا عَدَا الأَغْنَامِ قَدْ كَرِهُوا الْخِصَا
لِتَعْذِيبِهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُسْنَدِ
وَقَطْعُ قُرونٍ وَالآذَنِ وَشَقُّهَا
بِلا ضَرَرٍ تَغْيِيرُ خَلْقٍ مُعَوَّدِ
وَيَحْسُنُ فِي الإِحْرَامِ وَالْحِلِّ قَتْلُ مَا
يَضُرُّ بِلا نَفْعٍ كَنِمْرٍ وَمَرْثَدِ
وَغِرْبَانِ غَيْرِ الزَّرْعِ أَيْضًا وَشِبْهُهَا
كَذَا حَشَرَاتُ الأَرْضِ دُونَ تَقَيُّدِ
كَبِقٍ وَبُرْغُوثٍ وَفَأْرٍ وَعَقْرَبٍ
وَدَبْرو حَيَّاتٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ
وَيُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إِلا مَعَ الأَذَى
بِهِ وَاكْرَهَنْ بِالنَّارِ إِحْرَاقَ مُفْسَدِ
وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ ثُمَّ أُجِيزَ مَعْ
أَذَىً لَمْ يَزُلْ إِلا بِهِ لَمْ أُبَعِّدِ
وَقَدْ جَوَّزَ الأَصْحَابُ تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ
وَتَدْخِينَ زُنْبُورٍ وَشَيًا بِمَوْقِدِ
وَيُكْرَه لِنَهْي الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِ ضِفْدعٍ
وَصِرْدَانِ طَيْرٍ قَتْلُ ذَيْنٍ وَهُدْهُدِ
وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْهِرِّ إِلا مَعَ الأَذَى
وَإِنْ مُلِّكَتْ فَاحْظَرْ إِذَا غَيْرَ مُفْسِدِ(6/689)
.. وَقَتْلُكَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ تَقُلْ
ثَلاثًا لَهُ اذْهَبْ سَالِمًا غَيْرَ مُعْتَدِ
وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ أَقْتُلْ وَابْتَرَ حَيَّةٍ
وَمَا بَعْدَ إِيذَانِ تُرَى أَوْ بِفَدْفَدِ
وَمَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُلْكًا فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ
وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظَرْ وَإِنْ تُؤْذِ فَاقْدُدِ
وَيُكْرَهُ نَفْخُ فِي الْغَدَا وَتَنَفُّسٌ
وَجَوْلانُ أَيْدٍ فِي طَعَام مُوَحَّدِ
فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَلا بَأْسَ فَالَّذِي
نُهِي فِي اتِّحَادٍ قَدْ عُفِي فِي التَّعَدُّدِ
وَأَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَأَكْلٌ وَشُرْبُهُ
بِيُسْرَاهُ فَاكْرَهْهُ وَمُتَّكِئًا ذُدِ
وَأَكْلُكَ بِالثِّنْتَيْنِ وَالأَصْبُعِ اكْرَهَنْ
وَمَعْ أَكْلِ شَيْنِ الْعُرْفِ إِتْيَانَ مَسْجِدِ
وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الأَذَى
وَأَوْسَاخِهِ مَعْ نَثْرِ مَا أَنْفِهِ الرَّدِي
كَذَا خَلْعُ نَعْلَيْهِ بِهَا وَاتِّكَاءُهُ
عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَرَا ظَهْرِهِ أَشْهَدِ
وَيُكْرَهُ فِي التَّمْرِ الْقِرَانُ وَنَحْوُهُ
وَقِيلَ مَعَ التَّشْرِيكِ لا فِي التَّفَرُّدِ
وَكُنْ جَالِسًا فَوْقَ الْيَسَارِ وَنَاصِبْ الْـ(6/690)
.. يَمِينِ وَبَسْمِلْ ثُمَّ فِي الانْتِهَا أَحْمَدِ
وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلأَكْلِ نَهْمَةً
وَلَكِنْ رَبَّ الْبَيْتِ إِنْ شَاءَ يَبْتَدِي
وَلا بَأْسَ عِنْدَ الأَكْلِ مِنْ شِبَعِ الْفَتَى
وَمَكْرُوهٌ الإِسْرَافُ وَالثُّلْثُ أَكِّدِ
وَيَحْسُنُ تَصْغِيرُ الْفَتَى لُقْمَةَ الْغَدَا
وَبَعْدَ ابْتِلاعِ ثَنِّ وَالْمَضْغَ جَوِّدِ
وَيَحْسُنُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَعْقُ أَصَابِعٍ
وَأَكْلُ فُتَاتِ سَاقِطٍ بِتَثَرُّدِ
وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَهُ
وَأَلْقِ وَجَانِبْ مَا نَهَى اللهُ تَهْتَدِي
وَغَسْلُ يَدٍ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ
وَيُكْرَهُ بِالْمَطْعُومِ غَيْرَ مُقَيَّدِ
وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَأَلْبَس الَّذِي
تُلاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلا تَتَقَيَّدِ
وَمَا عِفْتَهُ فَاتْرُكْهُ غَيْرَ مُعَنِّفٍ
وَلا عَائِبٍ رِزْقًا وَبِالشَّارِعْ اقْتَدِي
وَلا تَشْرَبَنْ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْـ
إِنَّا وَانْظُرْنَ فِيهِ وَمُصًّا تَزْرَّدِ
وَنَحِّ الانَا عَنْ فِيْكَ وَاشْرَبْ ثَلاثَةً
هُوَ أَهْنَا وَأَمْرَا ثُمَّ أَرْوَى لِمَنْ صُدِي(6/691)
.. وَلا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قَائِمٍ وَلا إِنْ
تِعَالُ الْفَتَى فِي الأَظْهَرِ الْمُتَأَكِّدِ
وَتَكْرَهَنَّ لُبْسٌ فِيهِ شُهْرَةُ لابِسٍ
وَوَاصِفُ جِلْدٍ لا لِزَوْجٍ وَسَيِّدِ
وَأَنْ كَانَ يُبْدِي عَوْرَةُ لِسِوَاهُمَا
فَذَلِكَ مَحْظُورٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
وَخَيْرُ خِلالِ الْمَرْءِ جَمْعًا تَوَسُطُ الْـ
أُمُورِ وَحَالٌ بَيْنَ أَرْدَى وَأَجْوَدِ
وَلُبْس مِثَالِ الْحَيِّ فَاحْضِرْ بِأَجْوَدِ
وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا لِوَهْنٍ فَشَدِّدِ
وَأَحْسنُ مَلْبُوسٍ بَيَاضُ لِمَيِّتٍ
وَحَيٍّ فَبَيِّضْ مُطْلَقًا لا تُسَوِّدِ
وَلا بَأْسَ بِالْمَصْبُوغِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ
مَعَ الْجَهْلِ فِي أَصْبَاغِ أَهْلِ التَّهَوُّدِ
وَقِيلَ اكْرَهَنْهُ مِثْلَ مُسْتَعْمَلِ الانَا
وَإِنْ تَعْلَمِ التَّنْجِيسَ فَاغْسِلْهُ تَهْتَدِي
وَأَحْمَرَ قَانٍ وَالْمُعَصْفَرَ فَاكْرَهَنْ
لِلُبْسِ رِجَالٍ حَسْبُ فِي نَصِّ أَحْمَدِ
وَلا تَكْرَهَنْ فِي نَصِّ مَا قَدْ صَبَغَتَهُ
مِن الزَّعْفَرَانِ الْبَحْتِ لَوْنَ الْمُوَرَّدِ
وَلَيْسَ بِلُبْسِ الصُّوفِ بَأْسٌ وَلا الْقَبَا(6/692)
.. وَلا لِلنَّسَا وَالْبُرْنُسِ افْهَمْهُ وَاقْتَدِي
وَلُبْسُ الْحَرِيرِ احْظِرْ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ
سِوَى لِضَنَىً أَوْ قَتْلٍ أَوْ حَرْبٍ جُحَّدِ
وَيَحْرُمُ بَيْعٌ لِلرِّجَالِ لِلِبْسِهِمْ
وَتَخْيِيطُهُ وَالنَّسْجُ فِي نَصِّ أَحْمَدِ
وَيَحْرُمُ لُبْسٌ مِن لُجَيْنٍ وَعَسْجَدٍ
سِوَى مَا قَدْ اسْتَثْنَيْتُهُ فِي الَّذِي ابْتُدِي
وَيَحْرُمُ سَتْرٌ أَوْ لِبَاسُ الْفَتَى الَّذِي
حَوَى صُورَةً لِلْحَيِّ فِي نَصِّ أَحْمَدِ
وَفِي السِّتْرِ أَوْ مَا هُوَ مَطِنَّةٌ بِذْلِةٍ
لِيُكْرَه كَكَتْبٍ لِلْقُرْآنِ الْمُمَجَّدِ
وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ كِتَابَةُ غَيْرِهِ
مِنَ الذِّكْرِ فِيمَا لَمْ يُدَسْ وَيُمَهَّدِ
وَحَلَّ لِمَنْ يَسْتَأْجِرُ الْبَيْتَ حَكُهُ التَّـ
صَاوِيرَ كَالْحَمَّامِ لِلدَّاخِلِ اشْهَدِ
وَفِي نَصِّهِ اكْرَهْ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَا الرَّ
قِيقَ سِوَى لِلزَّوْجِ يَخْلُو وَسَيِّدِ
وَيَكْرَهُ تَقْصِيرِ اللِّبَاسِ وَطُولُهُ
بِلا حَاجَةِ كِبْرًا وَتَرْكُ الْمُعَوَّدِ
وَأَطْوَلُ ذِيلِ الْمَرْءِ لِلْكَعْبِ وَالنِّسَا
بِلا الأَزْرِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِتَزْدَدِ(6/693)
.. وَأَشْرَفُ مَلْبُوسٍ إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ
وَمَا تَحْتَ كَعْبٍ فَاكْرَهَنْهُ وَصَعِّدِ
وَلِلرُّصْغِ كُمُّ الْمُصْطَفَى فَإِنْ ارْتَخَى
تَنَاهَى إِلَى أَقْصَى أَصَابِعِهِ قِدِ
وَلا بَأْسَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ سِتْرَةً
أَتَمَّ مِن التَّأْزِيرِ فَالْبَسْهُ وَاقْتَدِ
بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ وَأَحْمَدٍ
وَأَصْحَابِهِ وَالأُزْرُ أَشْهَرُ أَكِّدِ
وَيَحْسُنُ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطِيُّهَا
وَيُكْرَهُ مَعْ طُولِ الْغِنَا لُبْسُكَ الرَّدِي
وَلا بَأْسَ فِي لُبْسِ الْفِرَاءِ وَاشْتِرَائِهَا
جُلُودَ حَلالٍ مَوْتُهُ لَمْ يُوَطَّدِ
وَكَاللَّحْمِ الأولَى احْظِرَنْ جِلْدَ ثَعْلَبٍ
وَعَنْهُ لِيُلْبَسْ وَالصَّلاةَ بِهِ اصْدُدِ
وَمَنْ يَرْتَضِي أَدْنَى اللِّبَاسِ تَوَاضَعًا
سَيُكْسَى الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ فِي غَدِ
وَيَحْسُنُ حَمْدُ اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ
وَلاسِيَّمَا فِي لُبْسِ ثَوْبٍ مُجَدَّدِ
وَكُنْ شَاكِرًا للهِ وَارْضَ بِقَسْمِهِ
تُثَبْ وَتُزَدْ رِزْقًا وَازْغَامَ حُسَّدِ
وَقُلْ لأَخٍ ابْلِ وَأَخْلِقِ وَيُخْلِفُ الْـ(6/694)
.. إِلهُ كَذَا قُلََّ عِشْ حَمِيدًا تُسَدَّدِ
وَلا بَأْسَ فِي الْخَاتَامِ مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ
عَقِيقٍ وَبَلُورٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ
وَيُكْرَهُ مِنْ صُفْرٍ رَصَاصِ حَدِيدِهِمْ
وَيَحْرُمُ لِلذُّكْرَانِ خَاتِمُ عَسْجَدِ
وَيَحْسُنُ فِي الْيُسْرَى كَأَحْمَدٌ وَصَحْبِهِ
وَيُكْرَهُ فِي الْوُسْطَى وَسَبَابَةِ الْيَدِ
وَمَنْ لَمْ يَضَعْهُ فِي الدُّخُولِ إِلَى الْخَلا
فَعَنْ كُتب قُرْآنٍ وَذِكْرٍ بِهِ أَصْدُدِ
وَيَحْسُنْ فِي الْيُمْنَى ابْتِدَاءُ انْتِعَالِهِ
وَفِي الْخَلْعِ عَكْسٌ وَاكْرَهِ الْعَكْسَ تَرْشُدِ
وَيُكْرَهُ مَشْيَ الْمَرْءِ فِي فَرْدِ نَعْلِهِ
اخْتِيَارًا أَصِخْ حَتَّى لإِصْلاحِ مُفْسِدِ
وَلا بَأْسَ فِي نَعْلٍ يُصَلِّي بِهِ بِلا
أَذَى وَافْتَقِدْهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدِ
وَيَحْسُنُ الاسْتِرْجَاعُ فِي قَطْعِ نَعْلِهِ
وَتَخْصِيصُ حَافٍ بِالطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ
وَقَدْ لَبِسَ السِّبْتِيَّ وَهُوَ الَّذِي خَلا
مِن الشَّعْرِ مَعْ أَصْحَابِهِ بِهِمْ اقْتَدِي
وَيُكْرَهُ سِنْدِي النِّعَالِ لِعُجْبِهِ
بِصَرَّارِهَا زِيَّ الْيَهُودِ فَأَبْعِدِ(6/695)
.. وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا وَامْشِ وَارْكَبَنْ
تَمَعْدَدْ وَاخْشَوْشَنْ وَلا تَتَعَوَّدِ
وَيُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ الْمُطَيْطَا وَنَحْوُهَا
مَظِنَّةَ كِبْرٍ غَيْرَ فِي حَرْبِ جُحَّدِ
وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْخُفِّ وَالأُزْرِ قَائِمًا
كَذَاكَ الْتِصَاقُ اثْنَيْنِ عُرْيًا بِمَرْقَدِ
وَثَنْتَيْنِ وَافْرُقْ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَهُمْ
وَلَوْ إِخْوَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ تُسَدَّدِ
وَيُكْرَهُ نَوْمُ الْمَرْءِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ
مِنَ الدُّهْنِ وَالأَلْبَانِ لِلْفَمِّ وَالْيَدِ
وَنَوْمُكَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ عَلَى
قَفَاكَ وَرَفْعُ الرِّجْلِ فَوْقَ أُخْتِهَا امْدُدْ
وَيُكْرَهُ نَوْمٌ فَوْقَ سَطْحٍ وَلَمْ يُحَطْ
عَلَيْهِ بِتَحْجِيرٍ لِخَوْفِ مِن الرَّدِي
وَيُكْرَهُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ جَلْسَةٌ
وَنَوْمُ عَلَى وَجْهِ الْفَتَى الْمُتَمَدِّدِ
وَقُلْ فِي انْتِبَاهٍ وَالصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَا
وَنَوْمٍ مِن الْمَرْوِيّ مَا شِئْتَ تَرْشُدِ
وَيَحْسُنُ عِنْدَ النَّوْمِ نَفْضُ فِرَاشِهِ
وَنَوْمُ عَلَى الْيُمْنَى وَكُحْلٌ بِأَثْمُدِ
وَخُذْ لَكَ مِنْ نُصْحِي أَخِي نَصِيحَةً(6/696)
.. وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضِرْ بِقَلْبٍ مُؤَيَّدِ
وَلا تَنْكِحَنْ إِنْ كُنْتَ شَيْخًا فُتَيَّةً
تَعِشْ فِي ضَرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي
وَلا تَنْكَحَنْ مَنْ تَسْمُ فَوْقَكَ رُتْبَةً
تَكُنْ أَبَدًا فِي حُكْمِهَا فِي تَنَكُدِ
وَلا تَرْغَبَنْ فِي مَالِهَا وَأَثَاثِهَا
إِذَا كُنْتَ ذَا فَقْرٍ تُذَلَّ وَتُضْهَدِ
وَلا تَسْكُنَنْ فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا
تَسَمَّعْ إِذَنْ أَنْوَاعَ مَنْ مُتَعَدِّدِ
فَلا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي فَضْلِ عُرْسِهِ
يَرُوحُ عَلَى هُونٍ إِلَيْهَا وَيَغْتَدِي
وَلا تُنْكِرَنْ بِذْلَ الْيَسِيرِ تَنَكُدًا
وَسَامِحْ تَنَلْ أَجْرًا وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ
وَلا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا عَهِدْتَ وَغُضَّ عَنْ
عَوَارٍ إِذَا لَمْ يَذْمُمِ الشَّرْعَ تَرْشُدِ
وَكُنْ حَافِظًا إِنَّ النِّسَاءُ وَدَائِعٌ
عوانٍ لَدَيْنَا احْفَظْ وَصِيَّةَ مُرْشِدِ
وَلا تُكْثِرْ الإِنْكَارَ تُرْمَى بِتُهْمَةٍ
وَلا تَرْفَعَنَّ السَّوْطَ عَنْ كُلِّ مُعْتَدِ
وَلا تَطْمَعَنْ فِي أَنْ تُقِيمَ اعْوِجَاجِهَا
فَمَا هِيَ إِلا مِثْلُ ضِلْعٍ مُرَدَّدِ(6/697)
.. وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةٍ
تَؤُلُ إِلَى تُهْمَى الْبَرِيءِ الْمُشَدِّدِ
وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ
سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبِ إِلَى أَصْلِهَا الرَّدِي
وَلا تَنْكِحَنْ فِي الْفَقْرِ إِلا ضَرُورَة
وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تُهْدَى وَتَهْتَدِي
وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ النِّسَا لُعبٌ لَنَا
فَحَسِّنْ إِذَنْ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ وَجَوِّدِ
وَخَيْرُ النِّسَا مَنْ سَرَّتِ الزَّوْجَ مَنْظِرًا
وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ
قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا
قَصِيرَةِ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ
عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَظْفَرْ بِالْمُنَى الْـ
وَدُودِ الْوَلُودِ الأَصْلِ ذَاتِ التَّعَبُّدِ
حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إِذَنْ
بِوِلْدٍ كِرَامٍ وَالْبَكَارَةِ فَاقْصِدِ
وَوَاحِدَةُ أَدْنَى إِلَى الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ
وَإِنْ شِئْتَ فَابْلُغْ أَرْبعًا لا تَزِيدِ
وَمَنْ عَفَّ تَقْوَىً عَنْ مَحَارِمِ غَيْرِهِ
يُعَفْ أَهْلُهُ حَقًّا وَإِنْ يَزْنِ يَفْسُدِ
فَكَابِدَ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرُهَا(6/698)
.. وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلاعَ انْجُدِ
وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمُرُ مِنْكَ سَبَهْللا
وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ
أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا
وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ
فَلا تَشْتَغِلْ إِلا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلا
وَلا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ بِالرَّدِي
وَفِي خُلْوَةِ الإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ
وَيَسْلُمْ دِينَ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ
وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى
جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بِغِيضٍ وَحُسَّدِ
وَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سَتْرٌ لِعَوْرَةٍ
وَحِرْزٌ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ
وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كتبٌ تُفِيدُهُ
عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيَّدِ
وَخَالِطْ إِذَا خَالَطَتَ كُلَّ مُوَفَّقٍ ٍ
مِنَ الْعُلَمَا أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ
يُفِيدُكَ مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوَى
فَصَاحِبْه تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدِ(6/699)
.. وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إِنْ قُمْتَ عَنْهُ وَالْـ
بَذِيَّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي
وَلا تَصْحَبِ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إِنْ يَرُمْ
صَلاحًا لأَمْرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يُفْسِدِ
وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْتُ فِيهِ وَخِصْلَةٍٍ
تَحَلَّيْتَهَا ذِكْرُ الإِلَهِ بِمَسْجِدِ
وَكُفَّ عَنْ الْعَوَرَا لِسَانَكَ وَالْيَكُنْ
دَوَامًا بِذِكْرِ اللهِ يَا صَاحِبِي نَدِي
وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلِّهَا
تَكُنْ لَكَ فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شُهَّدِ
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا
وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَا مِنْ تَهَجُّدِ
وَنَادِ إِذَا مَا قُمْتَ بِاللَّيْلِ سَامِعًا
قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِي
وَمُدَّ إِلَيْهِ كَفَّ فَقْرِكَ ضَارِعًا
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدِ
وَلا تَسْأَ مَنَّ الْعِلْمِ وَاسْهَرْ لِنَيْلِهِ
بِلا ضَجَرٍ تَحْمِدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَدِ
وَلا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا
فَإِنَّ مِلاكَ الأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصَدِ
وَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتَهُ(6/700)
.. لِيُهْدَى بِكَ الْمَرْءُ الَّذِي بِكَ يَقْتَدِي
حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ
تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ
وَكُنْ صَابِرًا بِالْفَقْرِ وَادَّرِعِ الرِّضَا
بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ تُحْمَدِ
فَمَا الْعِزَّ إِلا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا
بِأَدْنَى كِفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ
فَمَنْ لَمْ يُقْنِّعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إِلَى
رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدِ
فَمَنْ يَتَغَنَّى يُغْنِهِ اللهُ وَالْغِنَى
غِنَى النَّفْسُ لا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ
وَإِيَّاكَ وَالإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تُحْظَ بِالسَّـ
عَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدِ
وَهَا قَدْ بَذَلْتُ النُّصْحَ جُهْدِي وَإِنَّنِي
مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاللهِ أَهْتَدِي
تَقَضَّتْ بِحَمْدِ اللهِ لَيْسَتْ ذَمِيمَةً
وَلَكِنَّهَا كَالدُّرِّ فِي عِقْدِ خُرَّدِ
يَحَارُ لَهُ قَلْبُ اللَّبِيبُ وَعَارِف
كَرِيمَانِ إِنْ جَالا بِفِكْرٍ مُنَضَّدِ
فَمَا رَوْضَةٌ خُفَتْ بِنُورِ رَبِيعِهَا
بِسَلْسَالِهَا الْعَذْبُ الزُّلالِ الْمُبَرَّدِ(6/701)
.. بِأَحْسَنَ مِنْ أَبْيَاتِهَا وَمَسَائِلٍ
أَحَاطَتْ بِهَا يَوْمًا بَغَيْرِ تَرَدُّدِ
فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكَنْ
لأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْل فِي كُلِّ مَشْهَدِ
وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ
عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يُصَدِّدِ
اللهُمَّ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وأمنا من عذابِكَ يوم تبعث عبادك
وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا. وبفنائك أنخنا وإياك أملنا ولما عندك من الكرم والجود والإحسان طلبنا ومن عذابِكَ أشفقنا ولغفرانك تعرضنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ.
اللهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن لنا مؤيداً ولا تجعل لفاجر علينا يداً واجعل لنا عيشاً رغداً ولا تشمت بنا عدواً ولا حاسداً وارزقنا علماً نافعاً وعملاً متقبلاً وفهماً ذكياً وطبعاً صفياً وشفاءً من كل داء وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
[قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية]
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ? أَنَّ النَّبِيَّ ? ابْتَاعَ فَرَساً مِنْ أَعْرَابِىٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ ? لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ.(6/702)
فَأَسْرَعَ النَّبِيِّ ? الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ. فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلاَ يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ? ابْتَاعَهُ. حتَّى زًاد بَعْضُهم الأَعْرابِيَّ في السّومِ على ثَمِنَ الفَرسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ به النَّبِيَّ ?.
فَنَادَي الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ ? فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعاً هَذَا الْفَرَسَ فابِعْتُهُ وإلا بِعْتُه. فقامَ النَّبِيَّ ? حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِيِّ فَقَالَ: «أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ» . قَالَ الأَعْرَابِيُّ: لاَ وَاللهِ مَا بِعْتُكَ. فَقَالَ النبيُّ ?: «بَلَى قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ» . فَطَفِقَ الناسُ يَلُوذُون بالنَّبِيَّ ? والأَعْرَابِيُّ وهَما يَتَراجَعَان فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيداً يَشْهَدُ أنَي بايَعْتكَ.
فَمَنْ جَاَء من المسَلِمِيْن قَالَ للأَعْرَابِيِّ: وَيْلَكَ إنَّ النَّبِيَّ ? لم يَكُنْ لِيَقُولَ إلا حَقاً.
حتَّى جَاء خُزَيْمَةُ فاسْتَمَعَ لمُراجَعَة النَّبِيَّ ? ومُرَاجَعَةِ الأَعْرَابِيِّ وَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيداً أنَي بايَعْتكَ.
فَقَالَ خُزَيْمَةُ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ. فَأَقْبَلَ النَّبِيَّ ? عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: «بِمَ تَشْهَدُ؟» . قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَجَعَلَ النَّبِيَّ ? شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ.
وقد روي في بعض طرق هذا الحديث أن النَّبِيَّ ? قَالَ لخُِزَيْمَةُ: بِمَ تَشْهَدُ ولم تَكْنَ مَعَنا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أنا أُصَدِقُكَ بخَبرِ السماء أفَلاَ أصَدَّقُكَ بما تَقُولُ؟
قَالَ الخطابي: ووجه هذا الحديث أن النَّبِيَّ ? حكم على الأَعْرَابِيِّ بعِلْمِهِ إذ كان النَّبِيَّ ? صادقاً باراً وجرت شهادة خُزَيْمَةَ في ذلك مجرى التوكيد لقوله ? والاستظهار بها على خصمه. فصارت في التقدير مع قول رَسُولِ اللهِ كشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ في سائر القضايا. رحمه الله والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وآلِهِ وسلم.
(فَصْلٌ) قَالَ الواقدي عن أشياخ له: إن شيبة بن عثمان كان يحدث عن إسلامه فيقول: ما رأيت أعجب مِمَّا كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات.
فلما كان عام الفتح ودخل النبي ? عنوة قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من مُحَمَّد غرة فأثار منه فأكون أنا الَّذِي قمت بثأر قريش كلها،(6/703)
وأقول: ولو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً ما اتبعته أبداً. فلما اختلط الناس اقتحم رَسُولُ اللهِ ? عن بغلته وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي، فَرُفِعَ لي شواظ من نار كالبرق حتَّى كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ? وَنَادَانِي: يَا شيبةُ ادْنُ مِنِّي. فدنوت منه فمسح صدري وَقَالَ: «اللهُمَّ أعذه من الشيطان» . فو الله لهو كان ساعتئذٍ أحب إلى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله عز وجل ما كان بي ثم قَالَ: ادن فقاتل. فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حياً لأوقعت به السيف.
فلما تراجع الْمُسْلِمُونَ وكروا كرة رجل واحد قربت بغلة رَسُولِ اللهِ ? فاستوى عليها فخرج في أثرهم حتَّى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكر فدخل خباءه، فدخلت عليه فَقَالَ: يا شيبةُ، الَّذِي أَرَادَ الله بِكَ خير مِمَّا أردت بنفسك.
ثم حَدَّثَنِي بكل ما أضمرت فِي نَفْسِي مِمَّا لم أكن أذكره لأحد قط. فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رَسُولُ اللهُ. ثم قلت: استغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: غفر الله لك.
(فَصْلٌ) وعن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ رسول الله ? «كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه لأبره منهم البراء بن مالك» . وأن البراء لقي زحفاً من المشركين قد أوجع المشركون في المسلمين. فقَالُوا له: يا براء إن رسول الله ? قَالَ: إنك لو أقسمت على الله لأبرك فأقسم على الله فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم فمنحوا أكتافهم. ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين فقَالُوا: أقسم على ربِكَ، فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ? فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً.
(فَصْلٌ) أرسل عمر إِلَى الْكُوفَةِ من يَسْأَلُ عَن سَعْدٍ فكان الناس يُثْنُونَ خيراً حتَّى سئل عنه رجل من بَنِي عَبْسٍ.(6/704)
فَقَالَ: أَمَّا إِذْ أنَشَدْتَمونَا، عن سَعْدٍ فَإِنَّه كَانَ لاَ يَخرج في السَّرِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ بالرعية وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ.
فَقَالَ سَعْدٌ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَعظم فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ.
فَكَانَ يرى وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ قد تدلى حَاجِبَاهُ من الكبر َتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى يَغْمِزُهُنَّ فِي الطُّرُقِات يَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
وكذا سعيد بن زيد كان مجاب الدعوة فقد روى أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقالت: سرق من أرضي وأدخله في أرضه.
فَقَالَ سعيد: اللهُمَّ إن كانت كاذبة فأذهب بصرها وأقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها.
(فَصْلٌ) قَالَ إبراهيم بن أدهم: مرض بعض العباد فدخلنا عليه نعوده، فجعل يتنفس ويتأسف، فقلت له: على ماذا تتأسف؟ قَالَ: على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيها عن ذكر الله عز وجل.
وبكى بعض العباد عند موته، فقِيلَ له ما يبكيك؟ فَقَالَ أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم. تأمل يا أخي هذه الأماني لله دره.
عن ابن أبي مليكة قَالَ: لما كان يوم الفتح ركب عكرمة بن أبي جهل البحر هارباً فخب بهم البحر، فجعلت الصراري (أي الملاحون) يدعون الله ويوحدونه.
فَقَالَ: ما هذا؟ قَالُوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله.(6/705)
قال: هذا إله مُحَمَّد الَّذِي يدعونا إليه، فارجعوا بنا فرجع فأسلم.
وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ? يَوْمَ جِئْتُهُ: «مَرْحَباً بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ مَرْحَباً بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» ، قلت: يَا رَسُولَ اللهِ لا أدع نفقة أنفقتها عَلَيْكَ إلا أنفقت مثلها في سبيل الله.
وعن عبد الله بن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كان إذا اجتهد في اليمن قَالَ: لا والَّذِي نجاني يوم بدر وكان يضع المصحف على وجهه ويقول: كتاب ربي كتاب ربي.
استشهد عكرمة يوم اليرموك في خلافة أبي بكر، فوجدوا فيه بضعاً وسبعين من بين ضربة وطعنة ورمية.
(فَصْلٌ) قَالَ الزبير: وحَدَّثَنِي عمي مصعب بن عبد الله قَالَ: جاء الإسلام ودار بيد حكيم بن حزام فباعها بعد من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.
فَقَالَ له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش؟ فَقَالَ حكيم: ذهبت المكارم ‘ لا التقوى، يا ابن أخي إني اشتريت بها داراً في الجنة أشهدك إني قد جعلتها في سبيل الله.
وعن أبي بكر ابن سليمان قَالَ: حج حكيم بن حزام معه مائة قد أهداها وجللها الحبرة وكفها عن أعجازها ووقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة. الفضة قد نقش في رؤوسها «عتقاء الله [عز وجل] عن حكيم بن حزام» . وأعتقهم وأهدى ألف شاة.
وعن مُحَمَّد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يوماً،(6/706)
فَقَالَ له ابنه: ما يبكيك؟ قَالَ: خصال كلها أبكاني: أما أولها فبطؤ إسلامي حتَّى سبقت في مواطن كلها صالحة، ونجوت يوم بدر واحد فقلت: لا أخرج أبداً من مكة ولا أوضع مع قريش ما بقيت.
فأقمت بمكة ويأبي الله [عز وجل] إن يشرح صدري للإسلام وذلك إني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبإنا وكبرائنا.
فلما غزا النبي ? مكة جعلت أفكر، فخرجت أنا وأبو سفيان نستروح الخبر فلقي العباس أبا سفيان فذهب به النبي ورجعت فدخلت بيتي، فأغلقته علي ودخل النبي ? مكة فآمن الناس، فجئته فأسلمت وخرجت معه إلى حنين.
وعن عروة أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير.
قَالَ ابن سعد: قَالَ مُحَمَّد بن عمر: قدم حكيم بن حزام المدينة ونزلها وبني بها داراً، ومات بها سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة رحمه الله والله أعلم وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسلم.
(فَصْلٌ) عن أبي برزة الأسلمي «أن جليبيباً كان امرءاً من الأنصار، وكان أصحاب النبي ? إذا كان لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتَّى يعلم النبي ? هل له فيها حاجة أم لا؟ فَقَالَ رسول الله ? ذات يوم لرجل من الأنصار: «يا فلان زوجني ابنتك» . قَالَ: نعم ونعمة عين قَالَ: «إني لست لنفسي(6/707)
أريدها» قَالَ: لمن؟ قَالَ: «لجليبيب)) . قَالَ: يا رسول ? حتَّى استأمر (أي أشاورها) وأمها.
فأتاها فَقَالَ: إن رسول الله ? يخطب ابنتك. قالت: نعم ونعمة عين، زوج رسول الله ?.
قَالَ: إنه ليس يريدها لنفسه قالت: فلمن؟ قَالَ: يريدها لجليبيب. قالت: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا. أزوج جليبيباً.
فلما قام أبوها ليأتي النبي ? قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله ? قالت: أفتردون على رسول الله ? أمره ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني.
فذهب أبوها إلى النبي ? فَقَالَ: شأنك بها. فزوجها جليبيباً قَالَ إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النبي ?؟ قَالَ: وما دعا به النبي عليه السلام؟ قَالَ: «اللهُمَّ صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشهما كَداً كداً» .
قَالَ ثابت: فزوجها إياه فبينا رسول الله ? في مغزى له قَالَ: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ونفقد فلاناً ثم قَالَ: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ثم قَالَ: «هل تفقدون من أحد)) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: «لكني أفقد جليبيباً)) فطلب في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فينبغي للإنسان تفقدَ
أصحابه قَالَ بعضهم:(6/708)
مَا كَانَ عَيْبًا لَوْ تَفَقَّدَتْنِي ... وَقُلْتَ هَلْ أَتْهَمَ أَوْ أَنْجدَا
فَعَادَةُ السَّادَةِ مِنْ قَبْلِنَا ... تَفَقُّدُ الأَتْبَاعِ وَالأَعْبُدَا
هَذَا سُلَيْمَانُ عَلَى مُلْكِهِ ... وَهُوَ بِأَخْبَارٍ لَهُ يُقْتَدِي
تَفَقَّدَ الطَّيْرَ وَأَجْنَاسِهَا ... فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهَدَا
وَالْمُصْطَفَى أَيْضًا كَمَا سَمِعْتُمْ بِهِ ... فِي قِصَّةِ الْقَتْلَى كَمَا قَدْ أَتَى
فَقَالَ رسول الله ?: ((هذا مني وأنا منه أقتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه أقتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه)) .
فوضعه رسول الله ? على ساعديه ثم حتَّى حفروا له ما له سرير إلا ساعدي رسول ? حتَّى وضعه في قبره.
لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فما أرفعها! .
وَلَمَّا رَأَوا بَعْضَ الْحَيَاةِ مُذلَّةً ... عَلَيْهِمْ وَعِزَّ الْمَوْتِ غَيْرَ مُحَرَّمِ
أَبَوْا أَنْ يَذُوقُوا الْعَيْشَ وَالذَّمُّ وَاقِعٌ ... عَلَيْهِ وَمَاتُوا مَيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ
وَلا عَجَبٌ لِلأَسَدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمٍ
فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلِيٍّ فِي حُسَامِ ابنِ مُلْجَمِ
(فَصْلٌ) روى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قَالَ
انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ? وَأَصْحَابُهُ إِلَى بَدْرٍ حتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ» .
قَالَ: عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟! قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: بَخٍ بَخٍ. يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» . قَالَ [لاَ] وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» .
قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُهن ثُمَّ قَالَ: إنْ(6/709)
أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَ حتَّى قُتِلَ.
اللهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك في أعمالنا وأجزل لنا الأجر والإثابة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
قال الواقدي: لما أَرَادَ عمرو بن الجموح الخروج إلى أحد منعه بنوه
وقَالُوا: قد عذرك الله. فجاء إلى النبي ? فَقَالَ: إن بني يريدون حبسي عن الخروج معك وأنى لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الجنة، فَقَالَ: «أما أنت فقد عذرك الله» ثم قَالَ لبنيه لا عليكم أن تنعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة فخلوا سبيله.
قالت امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه مولياً، قد أخذ درقته وهو يقول: اللهُمَّ لا تردني إلى خربي وهو منازل بني سلمة.
قَالَ أبو طلحة: فنظرت إليه حين انكشف الْمُسْلِمُونَ ثم ثابوا، وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلع في رجله وهو يقول: إنا والله مشتاق إلى الجنة!
ثم أنظر إلى ابنه خلاد [وهو] يعدو [معه] في إثره حتَّى قتلا جميعاً.
وفي الحديث أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم، فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغيروا كأنهم ماتوا بالأمس.(6/710)
(فَصْلٌ) عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: ? فَقَالَ: يَطْلُعُ الآنَ عَلَيْكُمُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيهِ بيدِهِ الشِّمَالِ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ ? مِثْلَ ذَلِكَ: فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ المَرَّةِ الأُولَى.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ ? مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضاً: فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ ?، تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَلا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثاً، فَإِنْ رَأَيْتَ أنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حتَّى تَمضِيَ، فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تلك الثَلاثَ اللَيَالي، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئاً، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ عَلَى فِرَاشِهِ، ذَكَرَ اللهَ عز وجل، وَكَبَّرَ حتَّى لِصَلاةِ الْفَجْرِ.
قَالَ عبد الله: غَيْرَ أَنَّي لم أسمعه يَقُولُ إِلا خَيْراً: فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلاثُ اللَيَالي، وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ.
قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أبي غَضَبٌ، وَلا هَجْرٌ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ?، يَقُولُ لك ثَلاثَ مَرَّاتٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مَرَّاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ.
فأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فأقتدي بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ عْمَلُتَ كَبيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ?؟
قَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ، دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشّاً، وَلا أَحْسُدُهُ أحداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.(6/711)
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، رواه أحمد بإسناد على شروط البخاري ومسلم والنسائي والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ? «بعث جيشاً فيهم رجل يقال له: حدير، وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله ? ونسي أن يزود حديراً.
فخرج حدير صابراً محتسباً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول: نعم الزاد هو يا رب فهو يرددها وهو في آخر الركب
قال فجاء جبريل إلى النبي ? فَقَالَ له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابَكَ ونسيت إن تزود حديراً، وهو في آخر الركب يقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله
فدعا النبي ? رجلاً، فدفع إليه زاد حدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رَسُولَ اللهِ ? يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وأن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بِكَ، فذكره جبريل وأعلمه مكانك.
فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب؛ فدنا منه، ثم قَالَ له: إن رَسُولَ الله ? يقرئك السلام ورحمة الله، وقد أرسلني أليك بزادٍ معي، ويقول: إني إنما نسيتك، فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بِكَ؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي ?.(6/712)
ثم قَالَ: الحمد لله رب العالمين، ذكرني ربي من فوق سبع سموات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي. يا رب كما لم تنس حديراً فاجعل حديراً لا ينساك.
قَالَ: فحفظ ما قَالَ، ورجع إلى النبي ? فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قَالَ حين أخبره، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أما أنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض.
عن مُحَمَّد بن سعد قَالَ: كان ذو البجادين يتيماً لا مال له. فمات أبوه ولم يورثه شيئاً، وكفله عمه حتَّى أيسر.
فلما قدم النبي المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه من عمه حتَّى مضت السنون والمشاهد. فَقَالَ لعمه: يا عم إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فأذن لي في الإسلام.
فَقَالَ: والله لئن اتبعت محمداً لاأترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلا نزعته منك، حتَّى ثوبيك.
قَالَ: فإنا والله متبع محمداً وتارك عبادة الحجر، وهذا ما بيدي فخذه ما أعطاه حتَّى جرده من إزاره.
فأتى أمه فقطعت له بجاداً لها باثنتين فاتزر بواحد وارتدى بالآخر ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان فاضطجع في المسجد في السحر.
وكان رسول الله ? يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فَقَالَ: «من أنت؟» فانتسب له وكان اسمه عبد العزي، فَقَالَ: «بل أنت عبد الله ذو البجادين» .(6/713)
ثم قَالَ: انزل مني قريباً فكان يكون في أضيافه حتَّى قرأ قرآناً كثيراً.
فلما خرج النبي ? إلى تبوك قَالَ: ادع لي بالشهادة. فربط النبي ? على عضده لحي سمرة قَالَ: اللهُمَّ إني أحرم دمه على الكفار.
فَقَالَ: ليس هذا أردت.
قَالَ النبي ? إنك إذا خرجت غازياً فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، أو وقصتكَ دابتك فأنت شهيد , فأقاموا بتبوك أياماً ثم توفي.
قَالَ بلال بن الحارث: حضرت رسول الله ? ومع بلال المؤذن شعلة من نار عند القبر واقفا بها.
وإذا رسول الله يقول: «أدنيا إلىَّ أخاكما. فلما هيأه لشقه في اللحد قَالَ: «اللهُمَّ إني أمسيت عنه راض فارض عنه» .
فَقَالَ ابن مسعود: ليتني كنت صاحب اللحد
وعن أبي وائل، عن عبد الله قَالَ: والله لكأني أري رسول الله ? في غزوة تبوك وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، وأبو بكر وعمر يقول: أدنيا إليَّ أخاكما.
وأخذه من القبلة حتَّى أسكنه في لحده ثم خرج النبي ? وولياهما العمل.
فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: «اللهُمَّ إني أمسيت عنه راض فارض عنه» .
وكان ذلك ليلاً فوالله لوددت إني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشر سنة والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.(6/714)
(فَصْلٌ) عن مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أتى واثلة رَسُولَ اللهِ ? فصلى معه الصبح. وكان رَسُولُ اللهِ إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه. فلما دنا من واثلة قَالَ: من أنت؟ فأخبره.
فَقَالَ: ما جاء بِكَ؟ قَالَ: جئت أبايع. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: فيما أحببت وكرهت؟ قَالَ: نعم. قَالَ فيما أطقت؟ قَالَ: نعم. فأسلم وبايعه
وكان رَسُولُ اللهِ ? يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قَالَ: قد فعلتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ أبوه: والله لا أكلمك أبداً.
فأتى عمه فسلم عليه فَقَالَ: قد فعلتها؟ قَالَ: نعم قَالَ: فلامه أيسر من ملامة أبيه وَقَالَ: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر.
فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام. فَقَالَ واثلة: أني لك هذا يا أخيه؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت.
فَقَالَ: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رَسُولَ اللهِ ? جناح سفر. جهزي فلحق برَسُولِ اللهِ ? قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من الناس وهم على الشخوص.
فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قَالَ: كنت رجلاً لا رحلة بي.
قَالَ: فدعاني كعب بن عجرة فَقَالَ: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قَالَ واثلة نعم.(6/715)
قَالَ واثلة: جزاه الله خيراً لقد كان يملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتَّى إذا بعث رَسُولُ اللهِ ? خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل.
(فَصْلٌ) خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئاً كثيراً فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتَّى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها.
فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
عن بشر بن عبد الله عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قَالَ: كنا أصحاب الصفة في مسجد رَسُولِ اللهِ ? وما فينا رجل له ثوب.
ولقد اتخذ العرق في جلودنا طرقاً من الغبار، إذ خرج علينا رَسُولُ اللهِ ? فَقَالَ: «لبشر فقراء المهاجرين» ثلاثاً.
(فَصْلٌ) عن نعيم بن ربيعة بن كعب قَالَ: كنت أخدم رَسُولَ اللهِ ? وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتَّى يصلي رَسُولُ اللهِ ? العشاء الآخرة.
فأجلس على بابه إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرَسُولِ اللهِ ? حاجة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتَّى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد.
فَقَالَ لي يوما لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه، يا ربيعة سلني أعطك. قَالَ: فقلت: أنظر في أمري يَا رَسُولَ اللهِ ثم أعلمك ذلك.
فَقَالَ: ففكرت فِي نَفْسِي فعلمت أن الدنيا منقطعة وزائلة(6/716)
وأن لي فيها رزقاً سأتيني، قَالَ: فقلت أسال رَسُولَ اللهِ ? لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الَّذِي هو به.
فجئته فَقَالَ: ما فعلت يا ربيعة؟ فقلت: أسالك يَا رَسُولَ اللهِ أن تشفع لي إلى ربِكَ فيعتقني من النار.
فَقَالَ: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ فقلت: لا والَّذِي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الَّذِي أنت به نظرت في أمري فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقاً سيأتيني.
فقلت أسال رَسُولَ اللهِ ? لآخرتي. قَالَ: فصمت رَسُولُ اللهِ ? طويلاً ثم قَالَ لي: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود.
(فَصْلٌ) وأخرجا في الصحيحين، من حديث قَيْسِ بْنِ عبادٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
فِي نَاسٍ فِيهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ?.
فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وَجْهِهِ أَثَرٌ خُشُوعٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا: ثُمَّ خَرَجَ فَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَدَخَلْتُ فأخْبَرتُه.
فَقَالَ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لاَ يَعْلَمُ، وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ؟ رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهُ ? فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ.
رَأَيْتُني فِي رَوْضَةٍ، وَسْطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ وَأَعْلاَهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلاَهُ عُرْوَةٌ.
فَقِيلَ لَهُ ارْقَهْ. فقُلْتُ: لاَ أَسْتَطِيعُ. فَجاءنِي مِنْصَفٌ، يعني خادماً فَقَالَ بثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ.
فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ? فَقَالَ: «تِلْكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلاَمُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الإِسْلاَمِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ العُرْوَةُ(6/717)
الْوُثْقَى، وَأَنْتَ عَلَى الإِسْلاَمِ حتَّى تَمُوتَ» . وَالرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ.
وعن أبي بردة ابن أبي موسى قَالَ: قدمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام، فإذا رجل متخشع، فجلس إليه فَقَالَ: يا ابن أخي إنك جلست إلينا وقد حان قيامنا، أفتأذن؟ والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عاملاً على حمص فمكث حولاً لا يأتيه خبر فَقَالَ عمر لكاتبه: أكتب إلى عمير: فو الله ما أراه إلا قد خاننا إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا
قَالَ: فأخذ عمير جرابه فوضع فيه زاده وقصعته وعلق أدواته وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتَّى قدم المدينة.
قَالَ: فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه وطالت شعرته فدخل على عمر فَقَالَ: السلام عَلَيْكَ يا أمير المؤمنين ورحمة الله.
قَالَ عمر: ما شأنك؟ قَالَ ما ترى شأني ألست تراني صحيح البدن ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرونها؟
قَالَ عمر: وما معك؟ وظن عمر أنه قد جاء هـ بمال. قَالَ معي جرابي اجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها. وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدواً إن عرض لي، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.
قَالَ عمر: فجئت تمشي؟ قَالَ: نعم قَالَ: أما كان لك أحد يتبرع لك بداية لك تركبها؟ قَالَ: ما فعلوا وما سألتهم ذلك.
فَقَالَ عمر: بئس الْمُسْلِمُونَ خرجت من عندهم.(6/718)
فَقَالَ عمير: اتق الله يا عمر قد نهاك الله عن الغيبة وقد رأيتهم يصلون صلاة الغداة. قَالَ عمر: فأين نصيبِكَ وأي شيء صنعت؟ قَالَ وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟
قَالَ عمر: سبحان الله. فَقَالَ عمير: أما أني لولا أني أخشى أن أغمك ما أخبرتك بعثتني حتَّى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم حتَّى إذا جمعوا مواضعه ولو نالك منه شيء لأتيتك به.
قَالَ: فما جئتنا بشيء؟ قَالَ لا. قَالَ: جددوا لعمير عهداً. قَالَ إن ذلك شيء لا عمله لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني أخزاك الله فهذا ما عرضني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك
ثم استأذنه فأذن له فرجع إلى منزله وبينه وبين المدينة أميال. فَقَالَ عمر حين انصرف عمير: ما أراه إلا قد خاننا.
فبعث رجلاً يقال له الحارث وأعطاه مائة دينار وقال: انطلق إلى عمير حتَّى تنزل به كأنك ضيف فإن رأيت أثر شيء فأقبل. وإن رأيت حالاً شديدةً فادفع إليه هذه المائة دينارا.
فانطلق الحارث فإذا هو بعمير جالس يفلي قميصه إلى جنب الحائط فَقَالَ له عمير: انزل رحمك الله. فنزل ثم سأله فَقَالَ: من أين جئت؟ فَقَالَ: من المدينة.
فَقَالَ كيف تركت أمير المؤمنين؟ فَقَالَ صالحاً. قَالَ: فكيف تركت المسلمين؟ قَالَ: صالحين قَالَ أليس يقيم الحدود؟
قَالَ بلى ضرب ابناً له على فاحشة فمات من ضربه. فَقَالَ عمير: اللهُمَّ أعن عمر فاني لا أعلمه إلا شديداً حبه لك.(6/719)
قَالَ فنزل ثلاثة أيام وليس لهم إلا قرصة من شعير كانوا يخصونه بها ويطوون حتَّى أتاهم الجهد. فَقَالَ له عمير إنك قد أجعتنا فان رأيت أن تتحول عنا فافعل.
قَالَ: فأخرج الدنانير فدفعها إليه فَقَالَ: بعث بها أمير المؤمنين فاستعن بها قَالَ: فصاح وَقَالَ: لا حاجة لي فيها فردها.
فقالت له امرأته إن احتجت إليها وإلا فضعها في مواضعها.
فَقَالَ عمير: والله مالي شيء أجعلها فيه. فشقت امرأته أسفل درعها فأعطته خرقة فجعلها فيها ثم خرج فقسمها على بين أبناء الشهداء والفقراء.
ثم رجع والرسول يظن أنه يعطيه منها شيئاً فَقَالَ له عمير أقرئ مني لأمير المؤمنين السلام.
فرجع الحارث إلى عمر فَقَالَ ما رأيت؟ فَقَالَ رأيت يا أمير المؤمنين حالاً شديداً. قَالَ: فما صنع بالدنانير؟ قَالَ: لا أدري
قَالَ: فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتَّى تقبل. فأقبل إلى عمر فدخل عليه فَقَالَ له عمر: ما صنعت بالدنانير؟ قَالَ صنعت ما صنعت وما سؤالك عنها؟ قَالَ أنشد عَلَيْكَ لتخبرني ما صنعت بها
قَالَ: قدمتها لنفسي. قَالَ رحمك الله. فأمر له بوسقٍ من طعام وثوبين. فَقَالَ: أما الطعام فلا حاجة لي فيه قد تركت في المنزل صاعين من شعير
إلى أن آكل ذلك قد جاء الله بالرزق ولم يأخذ الطعام. وأما(6/720)
الثوبان فإن أم فلان عارية. فأخذهما ورجع إلى منزله.
فلم يلبث أن هلك رحمه الله فبلغ عمر ذلك فشق عليه وترحم عليه وخرج يمشي ومعه المشاؤون إلى بقيع الغرقد.
فَقَالَ لأصحابه: ليتمن كل رجل منكم أمنية. فَقَالَ رجل: يا أمير المؤمنين وددت أن عندي مالاً فأعتق لوجه الله كذا وكذا.
وَقَالَ آخر: وددت أن لي قوة فأميح بدلو زمزم لحجاج بيت الله.
قَالَ عمر بن الخطاب: وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعدٍ استعين به في أعمال المسلمين. رحمه الله ورضي الله عنه.
والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.
[فصل يحتوي على قصصٍ مفيدة]
عن ابن قمادين قَالَ: لم يكن أحد من كبراء قريش، الَّذِينَ تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة، أكثر صلاة ولا صوماً ولا صدقة.
ولا أقبل على ما يعنيه من أمر الآخرة، من سهيل بن عمرو حتَّى إن كان لقد شحب لونه. وكان كثير البكاء رقيقاً عند قراءة القرآن.
لقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل حتَّى يقرئه القرآن وهو بمكة، حتَّى خرج معاذ من مكة.
فَقَالَ له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد، تختلف إلى هذا الخزرجي يقرئك القرآن؟ ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك من قريش؟(6/721)
فَقَالَ: يا ضرار هذا الَّذِي صنع بنا ما صنع (يشير إلى الكبر والعجب) حتَّى سبقنا كل السبق.
أي لعمري أختلف [إليه] لقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ورفع الله بالإسلام قوماً كانوا لا يذكرون في الجاهلية فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا.
وعن الحسن قَالَ: حضر باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهيل بن عمرو، والحارث وبلال، وتلك الموالي الَّذِينَ شهدوا بدراً. فخرج آذن عمر فأذن لهم، وترك هؤلاء.
فَقَالَ أبو سفيان: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ونحن على بابه لا يلتفت إلينا؟
فَقَالَ سهيل بن عمرو: وكان رجلاً عاقلاً: أيها القوم إني والله لقد أرى الَّذِي في وجوهكم، إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم.
دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟
أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مِمَّا لا ترون أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الَّذِي كنتم تنافسونهم عليه. قَالَ: ونفض ثوبه وانطلق.
قَالَ الحسن: وصدق والله سهيل، لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه» .
وعن أبي قدامة السرخسي قَالَ: قام العمري للخليفة على الطريق فَقَالَ له: فعلت وفعلت. فَقَالَ له: ماذا تريد؟ قَالَ: تعمل بكذا وتعمل بكذا. فَقَالَ له هارون: نعم يا عم، نعم يا عم.(6/722)
وعن سعيد بن سليمان قَالَ: كنت بمكة في زقاق الشطوى وإلى جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري وقد حج هارون الرشيد.
فَقَالَ له إنسان: يا أبا عبد الرحمن هو ذا أمير المؤمنين يسعى قد أخلى له المسعى. قَالَ العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيراً، كلفتني أمراً كنت عنه غنياً. ثم تعلق نعليه (أي لبسهما) .
وقام فتبعته وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا فصاح به: يا هارون! فلما نظر إليه قَالَ: لبيك يا عم. قَالَ ارق الصفا: فلما رقيه.
قَالَ: ارم بطرفك إلى البيت. قَالَ: قد فعلت. قَالَ: كم هم؟ قَالَ: ومن يحصيهم؟ قَالَ: فكم في الناس مثلهم؟ قَالَ: خلق لا يحصيهم إلا الله.
قَالَ: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم فانظر كيف تكون؟ قَالَ: فبكى هارون وجلس وجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع.
قَالَ العمري: وأخرى أقولها. قَالَ: قل يا عم. قَالَ والله إن الرجل ليسرف في ماله فيسحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في مال المسلمين؟ ثم مضى وهارون يبكي» .
قَالَ مُحَمَّد بن خلف: سمعت مُحَمَّد بن عبد الرحمن يقول: بلغني أن هارون قَالَ: إني لأحب أن أحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر ثم يسمعني ما أكره.
وقد روى لنا من طريق آخر أنه لقيه في المسعى فأخذ بلجام دابته فأهوت إليه الأجناد فكفهم عنه الرشيد فكلمه فإذا دموع الرشيد تسيل على معرفة دابته.(6/723)
ثم انصرف. وأنه لقيه مرة فَقَالَ: يا هارون فعلت وفعلت. فجعل يسمع منه ويقول: مقبول منك يا عم، على الرأس والعين. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين من حال الناس كيت وكيت فَقَالَ: عن غير علمي وأمري وخرج العمري إلى الرشيد مرة ليعظه فلما نزل الكوفة زحف العسكر حتَّى لو كان نزل بهم مائة ألف من العدو ما زادوا على هيبته. ثم رجع ولم يصل إليه.
وعن أبي يحيى الزهري قَالَ: قَالَ عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث أني لم أصبح أملك إلا سبعة دراهم من لحاء شجر فتلته بيدي، وبنعمة ربي أحدث: لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي ما يمنعني أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها؛ ما أزلتها.
استسقى موسى بن نضير في الناس في سنة 93 حين أقحطوا بإفريقية فأمرهم بصيام ثلاثة أيام ثم خرج بهم وميز أهل الذمة عن المسلمين وفرق بين البهائم وأولادها ثم أمر بالبكاء وارتفاع الضجيج وهو يدعو الله تعالى حتَّى انتصف النهار ثم نزل فقِيلَ له إلا دعوت لأمير المؤمنين؟ فَقَالَ: هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله عز وجل فسقاهم الله عز وجل لما قَالَ ذلك.
كتب زر بن حبيش إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه فيه فكان في آخر: ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك فأنت أعلم بنفسك واذكر ما تكلم به الأولون.
إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلادُهَا ... وَبليت مِنْ كِبَرِ أَجْسَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... فَذِي زُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فلما قرأ عبد الملك الكتب بكى حتَّى بل طرف ثوبه بدموعه ثم قَالَ: صدق زر ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق بنا(6/724)
آخر: ... إِذَا رَأَيْتَ بُرُوقُ الشَّيْبِ قَدْ بَسَمَتْ ... بِمَفْرِقٍ فَمُحَيَّا الْعَيْشِ قَدْ كَلَحَا
يَلْقَى الْمَشِيبَ بِإِجْلالٍ وَتَكْرِمِةٍ ... مِنْ قَدْ أَعَدَّ مِن الأَعْمَالِ مَا صَلِحَا
اللهُمَّ يا من عم العباد فضلُهُ ونعماؤه، ووسع البرية جوده وعطاؤه نسأل منك الجود والإحسان، والعفو والغفران، والصفح والأمان. والعتق من النيران، وتوبة تجلو أنوارها ظلمات الإساءة والعصيان، يا كريم يا منان، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
(فَصْلٌ)
وعن الفضل بن الربيع قَالَ: حج أمير المؤمنين الرشيد: فأتاني فخرجت مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فَقَالَ: ويحك قد حاك فِي نَفْسِي شيء فانظر لي رجلاً أسأله. فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة.
فَقَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت عليه الباب فَقَالَ: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعاً فَقَالَ: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فَقَالَ له: خذ لما جئناك له رحمك الله.
فحدثه ساعة ثم قَالَ له: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم فَقَالَ: أبا عباس اقض دينه فلما خرجنا قَالَ: ما أغنى عني صاحبُكَ شيئاً انظر لي رجلاً أسأله.
فقلت له: ههنا عبد الرزاق بن همام قَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الباب فَقَالَ من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعاً فَقَالَ: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. قَالَ: خذ لما جئناك له.
فحادثه ساعة ثم قَالَ له: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم قَالَ:(6/725)
أيا عباس اقض دينه. فلما خرجنا قَالَ: ما أغنى عني صاحبُكَ شيئاً انظر لي رجلا أسأله» .
قلت: ههنا فضيل بن عياض قَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها. فقال: اقرع الباب فقرعت فَقَالَ: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين. فَقَالَ: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أو ما عَلَيْكَ طاعة؟
أليس قد روى النبي ? أنه قَالَ «ليس لمؤمن أن يذل نفسه» فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت.
فدخلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه. فَقَالَ: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل.
فقلت فِي نَفْسِي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فَقَالَ له: خذ لما جئناك له رحمك الله.
فَقَالَ: إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومُحَمَّد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فَقَالَ لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا على. فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابُكَ نعمة.
فَقَالَ له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك من الموت.
وَقَالَ له مُحَمَّد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم أخاً وأصغرهم عندك ولداً فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.(6/726)
وَقَالَ له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت.
وإني أقول لك إني أخاف عَلَيْكَ أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله من يشير عَلَيْكَ بمثل هذا؟
فبكى هارون بكاءً شديداً حتَّى غشي عليه فقلت له: أرفق بأمير المؤمنين. فَقَالَ: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابُكَ وأرفق به أنا ثم أفاق فَقَالَ له: زدني رحمك الله.
فَقَالَ: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه: فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بِكَ من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء.
قَالَ: فلما قرأ الكتاب طوي البلاد حتَّى قدم على عمر بن عبد العزيز فَقَالَ له: ما أقدمك؟ قَالَ: خلعت قلبي بكتابِكَ لا أعود إلى ولاية أبداً حتَّى ألقى الله عز وجل.
قَالَ: فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قَالَ له: زدني رحمك الله. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى ? جاء النبي ? فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أمِّرني على إمارة فَقَالَ له النبي ?: «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل» .
فبكى هارون بكاءً شديداً وَقَالَ له: زدني رحمك الله فَقَالَ: يا حسن الوجه أنت الَّذِي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقى هذا الوجه من النار فافعل، وإياك(6/727)
أن تصبح وتمسى وفي قلبِكَ غش لأحد من رعيتك فإن النبي ? قَالَ: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة» .
فبكي هارون وَقَالَ له: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي قَالَ: إنما أعني دين العباد.
قَالَ: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فَقَالَ عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
فَقَالَ له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك. فَقَالَ: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك.
ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قَالَ هارون: أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، وهذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه فَقَالَ: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به. فَقَالَ لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.
فلما سمع هارون هذا الكلام قَالَ: ندخل فعسى أن يقبل المال فلما علم الفضل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجبيبه فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت يا هذا قد أتعبت الشيخ منذ الليلة فانصرف رحمك الله فانصرف. تأمل يا أخي هل يوجد في(6/728)
زمننا من يرد حطام الدنيا إذ عرض عليه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.
اللهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقي ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
دخل سليمان بن عبد الملك المدينة فأقام بها ثلاثاً فَقَالَ: أما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله ? يحدثنا؟ فقِيلَ له ها هنا رجل يقال له أبو حازم.
فبعث إليه فجاء فَقَالَ سليمان: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ فَقَالَ له أبو حازم: وأي جفاء رأيت مني؟ فَقَالَ له: أتاني وجوه المدنية كلهم ولم تأتني.
فَقَالَ: ما جرى بيني وبينك معرفة أتيك عليها، قَالَ: صدق الشيخ يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قَالَ: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب، قَالَ: صدقت.
يا أبا حازم فكيف القدوم على الله تعالى؟ قَالَ: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحاً مسروراً، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه خائفاً محزوناً.
فبكى سليمان وَقَالَ: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم فَقَالَ أبو حازم: إعراض نفسك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عند الله.(6/729)
قَالَ: يا أبا حازم وأني أصيب تلك المعرفة من كتاب الله قَالَ عند قوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
قَالَ: يا أبا حازم فأين رحمة الله، قَالَ: قريب من المحسين.
قَالَ: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قَالَ: من تعلم الحكمة وعلمها الناس.
قَالَ: فمن أحمق الناس؟ قَالَ: من حط نفسه في هوى رجل وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
قَالَ: فما أسمع الدعاء؟ قَالَ: دعاء المخبتين. قَالَ: فما أزكا الصدقة؟ قَالَ: جهد المقل.
قَالَ: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه. قَالَ: أعفني من هذا. قَالَ سليمان: نصيحة تلقيها.
قَالَ أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة المسلمين ولا إجماع من رأيهم فسفكوا فيها الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قَالُوا وما قِيلَ لهم.
فَقَالَ بعض جلسائهم: بئس ما قلت يا شيخ.
فَقَالَ أبو حازم: كذبت إن الله أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
قَالَ سليمان: يا أبا حازم اصحبنا تصب منا ونصب منك قَالَ: أعوذ بالله من ذلك. قَالَ: ولم. قَالَ: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات.(6/730)
قَالَ: فأشر علي. قَالَ: اتق الله أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.
قَالَ: يا أبا حازم ادع لنا بخير فَقَالَ: اللهُمَّ إن كان سليمان وليك فيسره للخير وإن كان غير ذلك فخذ إلى الخير بناصيته.
فَقَالَ: يا غلام هات مائة دينار ثم قَالَ: خذ هذا يا أبا حازم، قَالَ لا حاجة لي بها لي ولغيري في هذا المال أسوة فإن واسيت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها إني أخاف أن يكون لما سمعت من كلامي أي ثمن له.
فكأن سليمان أعجب بأبي حازم فَقَالَ الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته قط.
فَقَالَ أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتني، قَالَ الزهري: أتشتمني؟
قَالَ سليمان: بل أنت شتمت نفسك أما علمت أن للجار على الجار حقاً.
قَالَ أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء.
فلما رأى قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء استغنت الأمراء عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وهلكوا.
ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم لكانت الأمراء تهابهم وتعظمهم. فَقَالَ الزهري: كأنك إياي تريد وبي تعرض، وَقَالَ: هو ما تسمع» .أ. هـ.(6/731)
أحضر الرشيد رجلاً ليوليه القضاء فَقَالَ له: أني لا أحسن القضاء ولست بفقيه.
قَالَ الرشيد: فيك ثلاث خلال: لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة.
وفيك حلم يمنعك من العجلة ومن لم يعجل قل خطؤه. وأنت تشاور في أمرك ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فنظم إليك من تتفقه عليه فولاه فما وجد فيه مطعناً» .
دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فَقَالَ له: عظني يا يزيد.
قَالَ: يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين آدم إلا أب ميت فبكى عمر وَقَالَ: زدني يا يزيد قَالَ: يا أمير المؤمنين ليس بين الجنة والنار منزلة فسقط عمر مغشياً عليه رحمه الله» .
وَقَالَ الرشيد لابن السماك: عظني وكان في يد الرشيد شربة من ماء فَقَالَ: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فلو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء ولا بولة فبكى الرشيد.
وَقَالَ علي رضي الله عنه لأسقف قد أسلم: عظني فَقَالَ: يا أمير المؤمنين
قَالَ: إن كان الله معك فمن تخاف. قَالَ: أحسنت زدني(6/732)
قَالَ: هب إن الله غفر ذنوب المسيئين أليس قد فاتهم ثواب المحسنين. قَالَ: حسبي حسبي.
وَقَالَ سليمان بن عبد الملك لحميد الطويل: عظني. قَالَ: يا أمير المؤمنين إن كنت إذا عصيت الله تعالى ظننت أنه يراك فقد اجترأت على رب عظيم وإن كنت تظن أنه لا يراك فقد كفرت برب كريم. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
عن أبي هريرة عن النبي ? أنه قَالَ: «كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله» يعني دمعة مثل رأس الذباب.
قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قَالَ لامرأته (أكرمي مثواه) ، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، وأَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقِ حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
قَالَ شقيق البلخي لحاتم الأصم: قد صحبتني مدة فماذا تعلمت مني؟ قَالَ: ثمان مسائل.
الأولى: نظرت إلى الخلق فإذا كان لشخص محبوب، عندما يصل إلى القبر يفارقه، فجعلت محبوبي حسناتي لتكون معي في القبر.
والثانية: نظرت إلى قول الله تعالى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} فاجتهدت في دفع الهوى حتَّى استقرت على طاعة الله تعالى.(6/733)
وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شيء له قيمة عنده يحفظه، فنظرت في قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} فكلما وقع معي شيء له قيمة وجهته إليه ليبقى عنده.
وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف، فنظرت إلى قول الله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} فعملت بالتقوى لأكون عنده كريماً.
وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يتحاسدون فنظرت في قول الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} فتركت الحسد.
وأما السادسة: فإني رأيتهم يتعادون فنظرت في قول الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فتركت عداوتهم واتخذت الشيطان عدواً.
والسابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق فنظرت في قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} فاشتغلت بما له علي وتركت ما لي عنده.
وأما الثامنة: فإني رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم فتوكلت على الله تعالى.
[فائدة]
اعلم أن ذكر الله تارة يكون لعظمته فيتولد منه الهيبة فالإجلال، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن، وتارة لنعمته فيتولد منه الحمد والشكر ولذلك قِيلَ ذكر النعمة شكرها وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العِبَر، فحق على المؤمن أن لا ينفك أبداً من ذكره على أحد هذه الأوجه.
سأل بعضهم وكيعاً عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فَقَالَ: كان أول من دعا به أنا.(6/734)
فَقَالَ لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وسموك لي فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي.
فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة. فَقَالَ هارون: اللهُمَّ غفراً خذ عهدك أيها الرجل وامض.
فقلت: يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقاً إنه لينبغي أن لا يقبل مني ولئن كاذباً فما ينبغي أن تولي القضاء كذاباً فَقَالَ: أخرج فخرجت.
ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً.
فَقَالَ له هارون: أتدري لما دعوتك؟ قَالَ لا. قَالَ: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وإنهم سموك لي فيمن سموا.
وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض.
فَقَالَ له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك فخرج. ثم دخل حفص فقبل عهده فأتى خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف.
فَقَالَ إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول لكم قد لزمتكم في شخوصكم مؤنة فاستعينوا بهذه في سفركم.
قَالَ وكيع فقلت: أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل له قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا مستغن عنها.
وأما ابن إدريس فصاح به مُرَّ من هاهنا أي ردها وقبلها حفص.
وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا عافانا الله وإياك(6/735)
سألناك لآن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ووصلناك من أموالنا فلم تقبل.
فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله.
فَقَالَ للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله» .
قام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي، فَقَالَ: إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم، وعن رَسُولِ اللهِ ?.
بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي، عند انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع ووعدت الله وحملة كتابه بإيثار الحق على ما سواه
فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص، ليتم مؤدينا على موعود الأداء وقابلنا على موعود القبول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية ويحلينا حلية الكذابين.
وقد كان أصحاب رَسُولِ اللهِ ? يقولون من حجب الله عنه العلم عذبه الله على الجهل وأشد منه من أقبل عليه العلم وأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علماً فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصر بها.
فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل أو مواطئة على ما تعمل أو تذكير من غفلة.
فقد وطن الله عز وجل نبيه ? على نزولها تعزيةً عما فات وتمحيصاً من التمادي ودلالة من المخرج فَقَالَ جل وعلا: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} .
اللهُمَّ اجعلنا بتذكيرك منتفعين ولكتابِكَ ورسولك متبعين وعلى طاعتك(6/736)
مجتمعين وتوفنا ربنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(نظم الكبائر لابن عبد القوي)
وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ الذُّنُوبَ جَمِيعَهَا ... بِكُبْرَى وَصُغْرَى قُسِّمَتْ في الْمُجَوَّدِ
فَمَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنَا أَوْ تَوَعُّدُ
بِأُخْرَى فَسِمْ كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ
وَزَادَ حَفِيدُ الْمَجْدِ أَوْ جَا وَعِيدُهُ
بِنَفْيٍ لإِيمَانٍ وَلَعْنٍ لِمُبْعَدِ
كَشِرْكٍ وَقَتْلِ النَّفْسِ إِلا بِحَقِّهَا
وَأَكْلِ الرِّبَا وَالسِّحْرِ مَعْ قَذْفِ نُهَّدِ
وَأَكْلُكَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى بِبَاطِلٍ
تَوَلِيكَ يَوْمَ الزَّحْفِ فِي حَرْبِ جُحَّدِ
كَذَاكَ الزِّنَا ثُمَّ اللَّوَاطُ وَشُرْبُهُمْ
خُمُورًا وَقَطْعٌ لِلطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ
وَسِرْقَةُ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ أَكْلُ مَالِهِ
بِبَاطِلِ صُنْع الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْيَدِ
شَهَادَةُ زُورٍ ثُمَّ عَقٌّ لِوَالِدٍ
وَغَيْبَةُ مُغْتَابٍ نَمِيمَةُ مُفْسِدِ
يَمِينٌ غُمُوسٌ تَارِكٌ لِصَلاتِهِ
مُصَلٍّ بِلا طُهْرٍ لَهُ بِتَعَمُّدِ
مُصَلٍّ بِغَيْرِ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِ قِبْلَةٍ(6/737)
.. مُصَلِّ بِلا قُرْآنِهِ الْمُتَأَكِّدِ
قُنُوطُ الْفَتَى مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ثُمَّ قُلْ
إِسَاءَةً ظَنِّ بِالإِلَهِ الْمُوَحَّدِ
وَأَمْنٌ لِمَكْرِ اللهِ ثُمَّ قَطِيعَةٌ
لِذِي رَحِمٍ وَالْكِبْرُ وَالْخُيَلا اعْدُدِ
كَذَا كَذِبٌ إِنْ كَانَ يَرْمِي بِفِتْنَةٍ
أَوْ الْمُفْتَرِي يَوْمًا عَلَى الْمُصْطَفَى أَحْمَدِ
قِيَادَةُ دَيُّوثٍ نِكَاحٌ مُحَلِّلٍ
وَهِجْرَةُ عَدْلٍ مُسْلِمٍ وَمُوَحِّدِ
وَتَرْكُ لِحَجٍ مُسْتَطِيعًا وَمَنْعُهُ
زَكَاةً وَحُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُتَقَلِّدِ
بِحَقِّ لِخَلْقِ وَارْتِشَاهُ وَفِطْرُهُ
بِلا عُذْرِهِ فِي صَوْمِ شَهْرِ التَّعَبُّدِ
وَقَوْلٌ بِلا عِلْمٍ عَلَى اللهِ رَبِّنَا
وَسَبٌّ لأَصْحَابِ النَّبِي مُحَمَّدِ
مُصِرٌّ عَلَى الْعِصْيَانِ تَرْكُ تَنَزُّهٍ
مِنَ الْبُولِ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ الْمُسَدَّدِ
وَإِتْيَانُ مَنْ حَاضَتْ بِفَرْجٍ وَنَشْزُهَا
عَلَى زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُهَمَّدِ
وَإِلْحَاقُهَا بِالزَّوْجِ مَنْ حَمَلَتْهُ مِنْ
سِوَاهُ وَكِتْمَانُ الْعُلُومِ لِمُجْتَدِ(6/738)
.. وَتَصْوِيرُ ذِي رُوحٍ وَإِتْيَانُ كَاهِنٍ
وَإِتْيَانُ عَرَّافٍ وَتَصْدِيقُهُمْ زِدِ
سُجُودٌ لِغَيْرِ اللهِ دَعْوَةٌ مَنْ دَعَا
إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ لِلضَّلالَةِ مَا هُدِي
غُلُولٌ وَنَوْحٌ وَالتَّطيُّرُ بَعْدَهُ
وَأَكْلٌ وَشُرْبٌ فِي لُجَيْنٍ وَعَسْجَدِ
وَجَوْرٌ لِمُوصٍ فِي الْوَصَايَا وَمَنْعُهُ
لِمِيرَاثِ وُرَّاثٍ إِبَاقٍ لأَعْبُدِ
وَإِتْيَانِهَا فِي الدُّبُر بَيْعٌ لِحُرَّةٍ
وَمَنْ يَسْتَحِلُّ الْبَيْتَ قِبْلَةَ مَسْجِدِ
وَمِنْهَا اكْتِسَابُ لِلرِّبَا وَشَهَادَةُ
عَلَيْهِ وَذُو الْوَجْهَيْنِ قَلَّ لِلتَّوَعُّدِ
وَمَنْ يَدَّعِي أَصْلاً وَلَيْسَ بِأَصْلِهِ
يَقُولُ أَنَا ابنُ الْفَاضِلِ الْمُتَمَجِّدِ
فَيَرْغَبُ عَنْ آبَائِهِ وَجُدُودِهِ
وَلاسِيَّمَا أَنْ يَنْتَسِبْ لِمُحَمَّدِ
وَغِشُّ إِمَامٍ لِلرَّعِيَّةِ بَعْدَهُ
وُقُوعٌ عَلَى الْعَجْمَا الْبَهِيمَةِ يُفْسِدِ
وَتَرْكٌ لِتَجْمِيعٍ إِسَاءَةً مَالِكٍ
إِلَى الْقَنِّ ذَا طَبْعٍ لَهُ فِي الْمُعَبَّدِ
(موعظة) إخواني إنكم في دار هي محل العبر والآفات وأنتم على سفر والطريق(6/739)
كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتدار هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات، قبل أن ينادي بكم مناد الشتات، قبل أن يفاجئكم هادم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تزعجوا من هذه الحياة قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات.
شِعْرًا: ... مَا دَارُ دُنْيًا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ ... وَبِهَا النُّفُوسُ فَرِيسَةُ الأَقْدَارِ
مَا بَيْنَ لَيْلٍ عَاكِفٍ وَنَهَارِهِ ... نَفْسَانِ مُرْتَشِفَانِ لِلأَعْمَارِ
طُولُ الْحَيَاةِ إِذَا مَضَى كَقَصِيرِهَا ... وَالْيُسْرُ لِلإِنْسَانِ كَالإِعْسَارِ
وَالْعَيْشُ يَعْقِبُ بِالْمَرَارَةِ حُلْوَهُ ... وَالصَّفْوُ فِيهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ
وَكَأَنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرَّدَى ... لِفَنَائِنَا وَطَرًا مِنْ الأَوْطَارِ
وَالْمَرْءُ كَالطَّيْفِ الْمُطِيفِ وَعُمْرُهُ ... كَالنُّومِ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالأَسْحَارِ
خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الْخُطُوبُ لِهَوْلِهِ ... أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ
نُلْقِي الصَّوَارِمَ وَالرِّمَاحَ لِهَوْلِهِ ... وَنَلَوْذُ مِنْ حَرْبٍ إِلَى اسْتِشْعَارِ
إِنَّ الَّذِينَ بَنُو مَشِيدًا وَانْثَنَوْا ... يَسْعَوْنَ سَعْيَ الْفَاتِكِ الْجَبَّارِ
سُلُبوا النَّضَارَةَ وَالنَّعِيمَ فَأَصْبَحُوا ... مُتَوَسِّدِينَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ
تَرَكُوا دِيَارَهُمُ عَلَى أَعْدَاهِم ... وَتَوَسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ
خَلَطَ الْحِمَامُ قَويَّهُمْ بِضَعِيفِهِمْ ... وَغَنِيَّهمُ سَاوَى بِذِي الإِقْتَارِ
وَالْخَوْفُ يُعْجِلُنَا عَلَى آثَارِهِمْ ... لا بُدَّ مِنْ صُبْحٍ الْمُجِدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ الْمَلَوَيْن فِينَا نَاثِرٌ ... بَأَكَرِّ مَا نَظَمَا مِنْ الأَعْمَارِ
ثم اعلم يا أخي أن الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما منَّ الله به على عباده وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب(6/740)
وملبس ومسجد يصلي فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حِلِّهِ أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع فالعاقل يجعلها مطية للآخرة فينفقها في سبيل الله في المشاريع الدينية من طباعة مصاحف وكتب دينية وعمارة مساجد وبذل للفقراء الَّذِينَ لا موارد لهم ونفقات على طلبة العلم الشرعي.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يسب الدنيا فَقَالَ له: إنها لدار صدق لمن صدقها، ودار عافيه لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها.
مسجد أحباب الله، ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه. اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت ببلائها وشوقت بسرورها إلى أهل السرور.
فذمها قوم الندامة ومدحها آخرون، وحدثتهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا.
فيا أيها المعتز بالدنيا المغتر بغرورها، متى استلأمت إليك الدنيا، بل متى غرتك أبمضاجع آبائك تحت الثرى، أم بمصارع أمهاتك من البلى. كم قلبت بكفيك ومرضت بيدك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفر بحاجتك ولم تسعف بطلبتك قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غداً ولا يغني عنك بكاءك ولا ينفعك أحبابك.
وَقَالَ ابن رجب رحمه الله على كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فبين أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الدنيا لا تذم مطلقاً وأنها تحمد بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة وأن فيها مساجد ومهبط الوحي.
وهي دار التجارة للمؤمنين اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا بها الجنة فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته.
وأما ما ذكر من أنه تغر وتخدع فإنها تنادي بمواعظها وتنصح بعبرها وتبدي عيوبها بما ترى من أهلها من مصارع الهلكى.
وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم ومن الشبيبة إلى الهرم ومن الغنى إلى الفقر ومن العز إلى الذل ولكن محبها قد أعماه وأصمه حبها. انتهى أهـ.(6/741)
موعظة
عباد الله لا شيء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبليس وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الأمارة بالسوء، وأنتم تصادقونها لقد مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.
يا حاضر الجسم والقلب غائب، اجتماع العيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب، كفى زاجراً واعظاً تشيب منه الذوائب، يا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب أين الزمان الَّذِي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البكاء دماً على أوقات قتلت عند التلفزيون والمذياع والكرة والسينما والفيديو والخمر والدخان والملاعب.
كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب، من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قِيلَ لك ما صنعت في كل واجب، كيف ترجو النجاة وأنت تلهو بأسر الملاعب، لقد ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور من النوائب فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتاً أين الَّذِينَ علوا فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب وأنت في أثرهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عنه حرس ولا باب ولا يفوته هربُ هارب.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/742)
موعظة
إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عانيتم من أبدان ناعمة في الأكفان قد لفت وإلى مضيق الإلحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.
شِعْرًا: ... مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبًا ... أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا
لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى ... وَلَعَلَّ عُمْرَكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا
وَمَضَى الحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا ... وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا
وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ ... وَبَدَا بِغُسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا
فَغُسِّلْتَ ثُمَّ كُسِيتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى ... وَدَعَوا لِحَمْلِ سَرِيرَكَ الإِخْوَانَا
وَأَتَاكَ أَهْلُكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدَّعُوا ... وَجَرَتْ عَلَيْكَ دُمُوعهُمْ غُدْرَانَا
فَخَفِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ مِنْ خَافَه ... سَكَنَ الْجِنَانَ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا
جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبْدُ نَعِيمُهَا ... أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا
وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى ... تَشْوِي الْوُجُوهُ وَتَحْرِقُ الأَبْدَانَا
نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا ... كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا
موعظة
عباد الله مضى رجال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين(6/743)
الموقنين لذلك كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كانوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عليها وهو تعالى خير شاهد.
كانوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين لهم أنين كأنين المرضى ولهم حنين كحنين الثكلى وكانوا ربما مروا بالآية من كتاب الله فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عليهم ومرضوا بعدها مات أولئك السلف الصالح الَّذِينَ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.
وماتت تلك الخشية وأعقبها قسوة أذهلت العباد عن طاعة الله فصاروا يأتون ويذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه.
وغدت جوارحهم مطلقة في كل ما يغضب الله وصارت أفعالهم فوضى ليس لها ضوابط ولا قيود العين تجول في المناظر المحرمة من نساء سافرات إلى سينما إلى تلفزيون إلى الفيديو معلم الفساد إلى كوره إلى مجلات في طيها الشرور إلى صورة مجسدة وغير مجسدة إلى كتب هدامة للأخلاق إلى غير ذلك من المحرمات التي تجرح القلوب.
والفرج يسرح كما شاء إلى الفواحش الدين ضعيف والخلق فاسد والأذن لا تشبع من سماع ما يسخط ربها والبطن يستزيد من سحت الأقوات.
وأما اليد فحدث ولا حرج في تعدي الحدود وأما اللسان فليله ونهاره يتحرك ويتقلب في منكر القول وزوره ولا كأن ربه السميع البصير العليم موجود وتراه يطعن في أعراض الغوافل ويمزق جلودهم في السب والغيبة والبهت والكذب ولا ولا يعف عن عرض أي بشر.
ويحلف بالله العلي العظيم كل يوم مرات ولا يهمه أبر في يمينه أم فجر وأما وعوده وعهوده وعقوده فتهمل ولا كأنه مكلف باحترامها فهذا وأمثاله قد(6/744)
انهمكوا في المعاصي وتوغلوا فيها فصارت عندهم عادات وشيء طَبَعِي مألوف لهم.
ولذلك إذا مررت بهم أو مررت حول بيوتهم استوحشت من سماع الأغاني والرقص والمطربين والسبب واللعن والقذف والاستهزاء بالدين وأخذت في العجب بين هؤلاء وأولئك الَّذِينَ في أوقات الجليات في حنادس الظلم يناجون ربهم راغبين في رضوان العزيز الجبار خائفين من سخط المنتقم القهار متفكرين في سرعة حلول المنايا التي تسارع الأيام والليالي في اقترابها وموقنين بأنهم محاسبون على الفتيل والنقير والقطمير عالمين بأنهم مكلفون بواجبات عبودية ما قاموا بالقليل منها وهم عنها مسؤلون وعلى ما قدموه من خير وشر قادمون.
وهل حال هؤلاء السعداء في جانب أولئك التعساء الأشقياء الإكحال المصاب بالجنود في جانب أوفر الناس عقلاً وأكملهم وقاراً فأكثر يا أخي من قولك الحمد لله الَّذِي عافانا مِمَّا ابتلاهم الله يعافيهم ولا يبلانا قَالَ تعالى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
وَكُل كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ
وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ
فتنبه أيها المؤمن واعلم أنك مسؤل عن كل ما تعمل لا مهمل كالأنعام فانهج الاستقامة وراقب ربَّكَ في مصادرك ومواردك لتقف عند الحدود قَالَ بعض المرشدين إلى معالم الرشد ضارباً لذلك مثلاً.
واعلم أن الإنسان في تقلبه في أطوار حياته كمثل غريب ألقت به المقادير إلى قوم استقبلوه بترحاب وتكريم وكان ذلك النازل فاقد القوى غير عالم بما عليه القوم من الشؤن ولا يدري من أين أتي ولا إلى أين يذهب.(6/745)
فَقَامَ القوم بواجبات خدمته وإكرامه حتَّى قويت حواسه وجوارحه ومداركه وأخذ يعمل كما يعمل القوم فجاء رجل من عقلائهم قائلاً يا هذا إن هذه الدار توطنها مكرموك ما هي دار إقامة ولا هي مملوكة لأحد من الخلق ولكنهم أمثالك نزلاء من كانوا يعمرون هذه الدار قبلهم ثم رحلوا وتركوها وما كان رحيلهم إلى مكان بعيد ولكنه كان إلى سجن ضيق ومكان مظلم لو أرسلت ببصرك لرأيته وقد فقدوا تلك القوى وتناسوا ذلك النعيم.
ثم أخذ بيدِهِ إلى مكان قفر وأعني المقبرة وَقَالَ له هذا مراح القوم ومسقط رؤسهم وإن الطريق التي توصلك إلى هؤلاء القوم هي الطريق التي سلكها مكرموك وإنها لطريق ذات عقبات مهلكة ولها أوحال من تورطها هلك ولا مخلص من تلك الأوحال إلا بتجنب تلك العقبات أو تجاوزها عدواً.
فإن رمت السلامة فسر فريداً متحفظاً من تخاصم القوم وتنازعهم ومن ملاهيهم وألعابهم ولا تصغ لمن يناديك من خلفك فإن الَّذِي يناديك من خلفك في طريق النجاة هو أجهل منك بها ولا تخالف من ناداك من الأمام فإنهم أدرى منك بمفاوز الطريق.
وإياك أن تشتبه عَلَيْكَ الطريق وأصوات المنادين فإن طريق السلامة لها أعلام ومصابيح نيرة على رأس كل مرحلة من مراحلها وأما باقي الطريق فإنها مظلمة موحشة مهلكة وما هي إلا طريق واحدة ولكنها ذات شعب ومسارب كثيرة.
فاحذر إن تتهاون بنفسك كما تهاون القوم بنفوسهم فهلكوا وهم لا يشعرون فإن كان النازل الغريب على استعداد لتعقل النصائح وذا قابلية تقبل(6/746)
الإرشاد وقف على أفواه الطريق وفتح عينيه واستعمل فكره وتبصر في أمره وتدبر عواقب ما عليه القوم وأخذ لنفسه بأحوط الأحوال وأقربها إلى السلامة وجعل عينه متجهة للنظر إلى منازل الراحلين التي لا أنيس بها ولا جليس.
وتأمل سرعة الرحيل وقصر أوقات الإقامة وتجنب الألعاب والملاهي وسلك سبيل المهتدين وإن كان ضيق الحضيرة قاصر النظر ضعيف الهمة ضائع العقل سيئ التصور فاقد الفكر خبيث الاستعداد لئيم الطبع لا يجد بداً من منازعة اللاعبين ومسابقة اللاهين وتغافل عن عاقبة أمره وسوء مصيره وتباعد عن صياح الناصحين وأصغى إلى مداهنة الغاوين أصبح من النادمين.
وما ضربنا لك هذا المثل إلا لتعلم أنك أنت الغريب الَّذِي نزلت يوم ولدتك أمك بقومك وأنت ضعيف القوى لا تعلم شيئاً كما قَالَ تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ففرح بِكَ قومك وأكرموك إلى أن قويت الآت أعمالك وصرت تحسن الرحيل وحدك.
ونريد بالرحيل هنا سلوك إحدى الطريقين إما طريق الكمالات وأما طريق النقائص لأنهما مسارب المكلفين الَّذِينَ لابد لهم من السير فيها للوصول إلى أحد الغايتين فإنه ما من طريق إلا ولها غاية ينتهي إليها مسير سالكها.
وما نريد بالرجل العاقل المرشد إلا صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أو النائب عنه في تبليغها وما نريد بناديك من الأمام إلا السلف(6/747)
الصالح الَّذِينَ سبقونا بالإيمان وبينوا لنا طريق النجاة أو الأتقياء المقتفون لآثارهم الَّذِينَ ثبتت استقامتهم.
وما نريد بالَّذِينَ ينادونك من خلفك إلا الَّذِينَ لا قدم لهم في طريق النبوة فلم يسلكوا سبيل المهتدين بل اعتمدوا في إرشادهم على مقال لا حال معه ولا عمل وهذا لا تصلح متابعته لأنهم أجهل الناس بطريق الاستقامة.
وما أهل الاستقامة إلا الَّذِينَ راقبوا قلوبهم وأمسكوا ألسنتهم وطهروا أقلامهم فلا عزم لهم إلا على أعمال البر والمواساة ولا يقولون إلا الحق المنجي ولا يكتبون إلا ما لو سئلوا عنه يوم القيامة لأحسنوا الإجابة والَّذِينَ يذكرون الله كثيراً وإذا ذكر الله وجلت قلوبهم والبكاؤون من خشية الله المقتفون لآثاره ? المخلصون لله في جميع أعمالهم.
شِعْرً: ... لَعُمْرِي إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا ... وَنَيْلَ الأَمَانِي وَاكْتِسَابَ الْفَضَائِلِ
لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالَ للهِ وَحْدَهُ ... وَيَدْعُو إِلَيْهِ بِالضُّحَى وَالأَصَائِلِ
اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المحبتين، والغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومرداً غيرَ مخزٍ ولا فاضح.
اللهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
اللهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنتم في دار(6/748)
المعاملات، وأن لكم دار أخرى أبدية، فيها تستوفون ما لكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كان جزاؤكم هناك إحساناً أو إساءات، هكذا وعدكم ربكم، وهو عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عليها قدير، قَالَ الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وَقَالَ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من هذا قطعاً تعلم أن شأن هذه المعاملات عظيم، عظماً لا يعرف قدره إلا الرجل العاقل، البعيد النظر الحكيم، فإن عليها يترتب غضب الله، وعقابه أو رضاه، والنعيم المقيم، وشيء هذا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مع الله جل وعلا فبأن تسمع وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مع عباد الله المؤمنين، فبأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وذلك بأن تجعل نفسك ميزاناً في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أنت تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا ما بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان، وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر فكن لهم خير حفيظ ونصر، وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك فأرحهم عند مجاورتك لهم، وكما تحب أن ينصحوك ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أنت إلى ذلك، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أنت كذلك معهم، وكما تحب أن لا يتكلموا فيك إلا بخير، فلا تكن أنت معهم بضد ذلك، وقس على ذلك ما يتعلق بالموضوع وأما معاملتك مع نفسك فهي أن تعودها دائماً على الخير بلا ضجر.(6/749)
شِعْرًا:
يَا أَيُّهَا الَّذِي قَدْ غَرَّهُ الأَمَلُ ... وَدُونَ مَا يَا مَل التَّنْغِيصُ وَالأَجَلُ
أَلا تَرَى إِنَّمَا الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... كَمَنْزِلِ الرَّكْبِ حَلَّّّّّّوْا ثُمَتَ ارْتَحَلُوا
حُتُوفُهَا رَصْدٌ وَعَيْشُهَا نَكَدُ ... وَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَمُلْكُهَا دُوَلُ
تَظَلُّ تُفْزِعُ بِالرُّوعَاتِ سَاكِنَهَا ... فَمَا يَلَذُ لَهُ عَيْشٌ وَلا جَذَلُ
كَأَنَّهُ لِلْمَنَايَا وَالرَّدَى غَرَضٌ ... تَظَلُّ فِيهِ سِهَام الْوَقْتِ تَنْتَظِلُ
وَالنَّفْسُ هَارِبَةٌ وَالْمَوْتُ يَتَبَعُهَا ... وَكُل عَثْرَةِ رِجْلٍ عِنْدَهَا جَلَلُ
وَالْمَرْءُ يَسْعَى بِمَا يَسْعَى لِوَارِثِهِ ... وَالْقَبْرُ وَارِثُ مَا يَسْعَى لَهُ الرَّجُلُ
اللهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بِكَ نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
[نختم هذا الكتاب بنبذة من زهده ?]
كان رسول الله ? أزهد الناس، ويكفيك في تعريف ذلك أن فقره ? كان فقراً اختيارياً لا فقراً اضطرارياً.
لأنه ? فُتِحَتْ عليه الفتوحُ وجُلِبَتْ إليه الأموالُ، ومات ودِرْعُهُ مَرهونةٌ عند يهودي في نفقة عياله، وهو يدعو: اللهُمَّ اجعل رزق آل مُحَمَّد قوتاً.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبعَ رسول الله ? ثلاثة أيام تِباعاً مِن خُبز حتَّى مَضى لِسَبِيلِه، ولو شاء لأعطاهُ الله ما لا يخطر ببالٍ.(6/750)
وعنها قالت: ما ترك رسول الله ? دِيناراً ولا شاة ولا درهماً ولا بعيراً ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذُو كبدٍ إلا شطر شعير في رَفٍّ لي.
وَقَالَ لي: إني عَرَضَ عَليَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلتُ: لا يا رب أجُوعُ يوماً وأشبعُ يوماً، فأما اليومُ الَّذِي أجُوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الَّذِي أشبعُ فيه فأحْمِدُكَ وأثْنِي عَلَيْكَ.
وعنها قالت: إنْ كُنَّا آلُ مُحَمَّد لنمْكُثُ شهراً ما نَسْتَوقِدُ ناراً، إن هو إلا التمرُ والماء.
وعنها قالت: لم يمتل جَوفُ النبي ? شِبَعاً قط، ولم يَبُث إلى أحدٍ شكوى.
وكانت الفاقة أحَبَّ إليه من الغِنَى، وإنْ كان لَيَظَلُ جائعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيلته مِن الجوع، فلا يَمْنَعُه مِن صِيام يوم ولو شاء لَسَألَ ربه جَميعَ كُنُوزِ الأرضِ وثِمارِهَا ورغد عيشها.
ولقد كنتُ أبكي له رحمة مِمَّا أرى به وأمسح بيدي على بطنه مِمَّا به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك.
فيقول: «يا عائشة ما لي وللدنيا إخواني أولو العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم وأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم.
وأجدني استحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصرني غداً دونهم.
وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي» . قالت: فما أقام بعد إلا شهراً ثم توفى ?.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رفع رسول الله ? قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء.(6/751)
ولا اتخذ من شيء زوجين لا قميصين ولا ردائين ولا إزارين، ومن النعال ولا رئي قط فارغاً في بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوباً لأرملة.
وعن أنس بن مالك أن فاطمة عليها السلام جاءت بكسرة خبز إلى النبي ? فَقَالَ: «ما هذه الكسرة يا فاطمة» ؟
قالت: قرص خبزته فلم تطلب نفسي حتَّى أتيك بهذه الكسرة فَقَالَ: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» .
وروى مسلم عن النعمان قَالَ: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فَقَالَ: لقد رأيت رسول الله يظل يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: إن كان ليمر بآل رسول الله ? الأهلة ما يسرج في بيت أحد منهم سراج ولا يوقد فيه نار إن وجدوا زيتاً ادهنوا به وإن وجدوا ودكاً أكلوه. رواه أبو يعلى ورواته ثقاتٌ.
عن عبد الله بن مسعود قَالَ: نام رسول الله ? على حصير فَقَامَ وقد أثر في جنبه، قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ لو اتخذنا لك وطاء.
فَقَالَ: «مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» . رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه.
قَالَ عمر بن الخطاب: دخلت على رسول الله ? وهو على حصير فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه.
وإذا أنا بقبضةٍ من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية الغرفة وإذا إهاب معلق (الإهاب: الجلد) فابتدرت عيناي.
فَقَالَ: «ما يبكيك يا ابن الخطاب» ؟ فقلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبِكَ، وهذه خزانتك لا أرى إلا ما أرى.(6/752)
وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك.
قَالَ: «يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» . رواه ابن ماجة بإسناد صحيح والحاكم وَقَالَ: على شرط مسلم.
روى مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ? وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.
عن ابن عباس أن النبي ? كان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان عامة خبزهم الشعير.
عن أبي هريرة أن رسول الله ? كان يشد صلبه بالحجر من الغرث أي الجوع.
بينما عائشة رضي الله عنها تحدث ذات يوم إذ بكت قِيلَ لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ قالت: ما ملأت بطني من طعام، فشئت أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله ? وما كان فيه من الجهد.
وعنها أيضاً أن رسول الله ? كانت تأتي عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز برٍّ.
وعنها أيضاً قالت: ما شبع آل مُحَمَّد ثلاثاً من خبز برٍّ حتَّى قبض، وما رفع عن مائدته كسرة فضلاً حتَّى قبض.
عن الحسن (البصري) قَالَ: خطب رسول الله ? فَقَالَ: «والله ما أمسى في آل مُحَمَّد صاعٌ من طعام وإنها لتسعة أبيات» . (بيوت زوجاته) . والله ما قالها استقلالاً لرزق الله، ولكن أَرَادَ أن تتأسى به أمته.(6/753)
عن ابن عباس قَالَ: والله لقد كان يأتي على آل مُحَمَّد ? الليالي ما يجدون فيها عشاء.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع رسول الله ? في يوم مرتين حتَّى لحق بالله، ولا عرفنا له فضل طعام عن شبع حتَّى لحق بالله، إلا أن نرفعه لغائب فقِيلَ لها: ما كانت معيشتكم؟ قالت: الأسودان: الماء والتمر. وقالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب يسقوننا من لبنها، جزاهم الله خيراً.
عن أنس بن مالك أن النبي ? لم يجمع غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف.
عن أنس بن مالك قَالَ: شهدت للنبي ? وليمة ما فيها خبز ولا لحم.
عن أنس بن مالك قَالَ: ما أعلم رسول الله ? رأى رغيفاً مرقّقاً بعينه حتَّى لحق بربه، ولا شاة سميطاً قط.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما اجتمع في بطن النبي ? طعامان في يوم قط، إن أكل لحماً لم يزد عليه، وإن كان تمراً لم يزد عليه، وإن أكل خبزاً لم يزد عليه. وكان رجلاً مسقاماً، وكانت العرب تنعت له فيتدواى بما تنعت له العرب، وكانت العجم تنعت له فيتداوى.
عن أبي نضر قَالَ: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إني لجالسة مع رسول الله ? في البيت فأهدى لنا أبو بكر رجل شاة فإني لأقطعها مع رسول الله ? في ظلمة البيت. فَقَالَ لها قائل: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما يسرج به أكلناه.
عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد مات رسول الله ? وما شبع من خبز وزيت في يوم مرتين.(6/754)
عن عائشة قالت: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتَّى يلتمس لذلك دواءً يمرئه. فذكرت نبيكم ? فذاك الَّذِي أبكاني خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الخبز وإذ اشبع من الخبز لم يشبع من التمر.
عن أنس بن مالك قَالَ: ما يرفع بين يدي رسول الله ? شيء قط، ولا حملت معه طِنفسة يجلس عليها.
أخبرني الأعرج عن أبي هريرة أن النبي ? كان يجوع. قلت لأبي هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قَالَ: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاماً أبداً إلا ومعه أصحابه، وأهل الحاجة يتبعونه من المسجد. فلما فتح الله خيبر اتسع الناس بعض الاتساع وفي الأمر بعد ضيق والمعاش شديد. هي بلاد ظلف لا زرع فيها وإنما طعام أهلها التمر وعلى ذلك قاموا.
وروي عن جابر رضي الله عنه قَالَ: حضرنا عرس علي وفاطمة فما كان عرساً كان أحسن منه حشونا الفراش يعني من الليف.
وأوتينا بتمر وزيت فأكلنا وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش. رواه البزار. الإهاب: الجلد.
عن عامر الشعبي قَالَ: قَالَ علي رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة وما لها ولي فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها.
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله ? لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف روحيين وسقاء وجرتين.
فَقَالَ علي لفاطمة ذات يوم: والله سنوت حتَّى اشتكيت صدري(6/755)
(المعنى تعبت من إخراج الماء من البئر) وقد جاء الله بسبي فاذهبي فاستخدميه (أي اطلبي منه خادماً) .
فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتَّى مجلت يدي من العمل فأتت النبي ? فَقَالَ: «ما جاء بِكَ وما حاجتك أي بنية» . قالت: جئت لأسلم عَلَيْكَ واستحيت أن تسأله فرجعت.
فَقَالَ علي: ما فعلت؟ قالت: استحيت أن أسأله فأتياه جميعاً فَقَالَ علي: يَا رَسُولَ اللهِ والله لقد سنوت حتَّى اشتكيت صدري.
وقالت فاطمة: لقد طحنت حتَّى مجلت يداي، وقد جاءك الله عز وجل بسبي وسعة فأخدمنا.
فَقَالَ: «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم» .
فرجعا وأتاهما النبي ?، وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فَقَالَ: «مكانكما» .
ثم قَالَ: «ألا أخبركم بخير مِمَّا سألتماني» ؟ قالا: بلى. قَالَ: «كلمات علمنيهن جبريل تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً.
وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين» . قَالَ: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله ?.
عن بريدة قَالَ: سمع النبي ? رجلاً يقول: اللهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.(6/756)
فَقَالَ رسول الله ?: «والَّذِي نفسي بيدِهِ لقد سأل الله باسمه الأعظم الَّذِي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: دعا رجل فَقَالَ: اللهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «أتدرون بما دعا» ؟ قَالُوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: «والَّذِي نفسي بيدِهِ لقد دعا الله باسمه الأعظم الَّذِي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أصحاب السنن.
عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رسول الله ?: «دعوة ذي النون إذ دعى وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له» . رواه الترمذي والنسائي والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله ? يقول: «من دعا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» . رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمع رسول الله ? رجلاً وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام فَقَالَ: «قد استجيب لك فسل» . رواه الترمذي.(6/757)
اللهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأجرك راجين لوعدك راضين في جميع حالاتنا عنك.
راغبين في كل أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك.
يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا.
فإنك بالَّذِي أنت له أهل من عفوك أحق منا بالَّذِي نحن له أهل من عقوبتك.
اللهُمَّ ثبت رجاءك في قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حتَّى لا نرجوا غيرك ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عن خلقك.
واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللهُمَّ أعنا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية.
اللهُمَّ افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا طاعتك وطاعة رسولك ووفقنا للعمل بكتابِكَ وسنة رسولك.
اللهُمَّ إنا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بِكَ من درك الشقاء، ومن جهد البلاء ومن سوء القضاء ومن شماتة الأعداء.
اللهُمَّ لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله وعلانيته وسره، أهل الحمد والثناء أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إنك على كل شيء قدير.(6/758)
اللهُمَّ اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا.
اللهُمَّ سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللهُمَّ يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكلفت لنا به، واجعلنا ممن يؤمنن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللهُمَّ اجعل رزقنا رغداً، ولا تشمت بنا أحداً.
اللهُمَّ رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الَّذِي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
اللهُمَّ إنا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهملنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهُمَّ يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها(6/759)
شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيلَ عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهُمَّ اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهُمَّ طبِّعنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهُمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابِكَ، واجعلنا من حزبِكَ المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهُمَّ يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت(6/760)
الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عَلَيْكَ نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب يرك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللهُمَّ نسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بِكَ من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهُمَّ إنا نسألك نفساً مطمئنةً، وتؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللهُمَّ إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكيل عَلَيْكَ، وحسن الظن بِكَ يا رب العالمين.
اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح.
اللهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك.
موعظة
قَالَ ابن الجوزي رحمة الله: الحذر الْحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذهِ يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه الناهي وهو الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه(6/761)
سكر الهوى كان القلب متنغضاً بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان حتَّى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقيح آثارها وأسوء أخبارها انتهى.
فيا أيها الْمُسْلِمُونَ اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوان الله وتكونوا من المفلحين.
اللهُمَّ قوى إيماننا بِكَ وبملائكتك وبكتبِكَ وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
اللهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا بالباقيات الصالحات وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
اعْلَمْ وَفَّقَنا اللهُ وَإيَّاكَ وَجَمِيْعَ المُسْلِميْنَ أنَّهُ لَم يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وتَابِعْيِهْم بإِحْسَانٍ تَعْظِيْمُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ وَالمُوَالِيْنَ لأَهْلِ البِدَعِ وَالمُنَادِيْنَ بِمُوَالاتِهمْ، لأَنّ أَهْلِ البِدَعِ مَرْضَى قُلُوب، وَيُخْشَى عَلَىَ مَنْ خَالطَهُمْ أَو اتَّصَلَ بِهِمْ أَنْ يَصِلَ إِلِيْهِ مِنْ مَا بِهِِِمْ مِنَ هَذَا الدَّاءِ العُضَال، لأِنّ المَرِيْضَ يُعْدِي الصَّحَيْحَ وَلاَ عَكسْ، فَالْحَذَرَ الحذرَ مِنْ جَمِيعِ أهْلِ البدَعِ، وَمِنْ أهْلِ البِدَعِ الَّذِينَ يَجِبُ البُعْدُ عَنْهُمْ وَهِجَرانُهُمْ: الجَهْمِيَّةُ، والرَّافضَةُ، وَالْمُْعَتِزلَةُ، والْمَاتُرِيْدِيَّةُ، وَالخَوَارُِج، والصُّوْفِيَّةُ، والأَشَاعَرة، وَمَنْ عَلَىَ طَريْقَتِهمْ مِنَ الطَّوَائِف المُنْحَرِفَةِ عن طريقة السَّلَفْ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أنْ يَحْذّرَهُمْ وَيُحَذِرَّ عَنْهُمَ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
عبد العزيز بن مُحَمَّد بن سلمان(6/762)
فائدة عظيمة النفع
قَالَ أحد العلماء رحمه الله تعالى عَلَيْكَ يا أخي بمحاربة الشيطان وقهره، وذلك لخصلتين أحدهما أنه عدو مظل مبين، لا مطمع فيه بمصالحة واتقاء شره أبداً، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلاً فلا وجه إذا للأمن من هذا العدو والغفلة عنه، قَالَ الله جل وعلا: {لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وَقَالَ تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} والخصلة الثانية أنه مجبول على عداوتك ومنتصب لمحاربتك، في الليل والنهار يرميك بسهامه، وأنت غافل عنه، ثم هو له مع جميع المؤمنين عداوة عامة، ومع المجتهد في العبادة والعلم عداوة خاصة، ومعه عَلَيْكَ أعوان نفسك الأمارة بالسوء، والهوى، والدنيا وهو فارغ وأنت مشغول، وهو يراك وأنت لا تراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، فإذاً لابد من محاربته، وقهره، وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بالله والإكثار من ذكره.
شِعْرًا: ... مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبًا ... أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا
لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى ... وَلَعَلَّ عُمْرَكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا
وَمَضَى الحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا ... وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا
وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ ... وَبَدَا بِغُسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا
فَغُسِّلْتَ ثُمَّ كُسِيتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى ... وَدَعَوا لِحَمْلِ سَرِيرَكَ الإِخْوَانَا
وَأَتَاكَ أَهْلُكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدَّعُوا ... وَجَرَتْ عَلَيْكَ دُمُوعهُمْ غُدْرَانَا
فَخَفِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ مِنْ خَافَه ... سَكَنَ الْجِنَانَ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا
جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبْدُ نَعِيمُهَا ... أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا
وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى ... تَشْوِي الْوُجُوهُ وَتَحْرِقُ الأَبْدَانَا
نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا ... كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا(6/763)
موعظة
عباد الله إن طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر عز وجل بالطاعات، وهذه الطاعات ترضي الله سبحانه لأنها شكر له على نعمه المتواليات، فينبغي لنا أن نحث عليها وأن نأمر من ترك الطاعة أن يعود إليها إذا كانت من فرائض الدين كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وأن ننكر على من رأيناه يقترف معصية من المعاصي، لأن المعاصي بكل أنواعها شرور وأضرار وفساد ولها شؤم قد يعم الدنيا ويفعل الأفاعيل العظام في بني الإنسان ومن آثارها المضرة بالقلب والبدن: أنها إفساد للعقل فإن العقل نور والمعصية تطفئ نور العقل ومنها أن المعاصي مدد من الإنسان يمد بها عدوه عليه وجيش يقويه به على حربه ومنها أنها توهن القلب والبدن ومنها أنها تزرع أمثالها من المعاصي ومنها أنها تمحق بركة العمر ومنها أنها تسبب شماتة الأعداء، ومنها أنها تعسر على الإنسان أموره، ومنها أنها تسبب الوحشة بين العاصي وبين أهل الخير ومنها أنها تذهب الحياء ومنها أن تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، ومنها أنها تطفئ من القلب نار الغيرة ومنها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب ومنها أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره ومنها أنها تسقط الجاه والمنزلة عند الله إلا مالا نهاية له من الأضرار لهذا يجب علينا أن ننهي عن المعاصي لاسيما إذا كانت من كبار المعاصي، ولا تنس أن بني إسرائيل لعنهم الله لما فقدوا الغيرة على انتهاك الحرمات ولا تناهو عن المنكر وتأمل أحوال الأمم وما حل بها من العقوبات بأسباب الذنوب قَالَ تعالى: {فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .(6/764)
موعظة
عباد الله سرور المؤمنين يوم يعبرون القناطر ويأمنون العوائر فذلك يوم عيدهم وما داموا في دار الغرور فلا غبطة ولا سرور.
وأي سرور لمن الموت معقود بناصيته والذنوب راسخة في آنيته والنفس تقوده إلى هواها والدنيا تتزين في عينه بمشتهاها.
والشيطان مستبطن فقار ظهره لا يفتر عن الوسوسة في صدره ونفسه وماله بعرضه للحوادث ولا يدري في كل نفس ما عليه حادث.
قَالَ بعضهم:
إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي
ومن ورائه المغير ومسأله منكر ونكير ويتوسد التراب إلى يوم النشور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يوم لا يبلغ وصف أهواله ولا شرح أحواله ما لا يسع المؤمن به أن يستقر له قرار ولا يخلد إلى هذه الدار ولا يكون له في هذه الدنيا إلا التقرب بأنواع القرب واجتناب الفواحش والريب وإقامة الدين الَّذِي في إقامته النجاة وفي تضييعه العطب العظيم.
يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ
يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ فِيهِ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ
يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ ... فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأنِ
يَوْمٌ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمْ ... وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ الْعِقْيَاتِ
وَيَجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظى ... يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ الْعَطْشَانِ
وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّمِ ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنِ دَائِمَتانِ
اللهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي(6/765)
الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كل مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وإياك وما نهاك الله عنه وحرمه فمتاع الدنيا قليل؛ أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عَلَيْكَ من الحقوق، واحذر من ترك العمل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعلم أن من ترك العمل وغلب عليه الكسل حتَّى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضاً ولا يلقاه أحد إلا وكره لقياه قَالَ تعالى حاثاً على طلب الرزق {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} وَقَالَ تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ} والمؤمن المحترف الكسوب الَّذِي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم عند أهله، والأولاد، وكان نوح وداود يحترفان التجارة ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رعى الغنم، وموسى كان أجيراً عند صاحب مدين وكان إدريس خياطاً، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكان السلف رضي الله عنهم عمالاً مكتسبين فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيف، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا يمنهم الدين عن طلب الكسب والقيام بالواجبات وهم مع هذا من أقوى الناس توكلاً على الله ورضىً بما قدر الله وقضاه ولله در القائل:(6/766)
وَكُنْ بِالَّذِي قَدْ خَطَّ بِاللَّوْحِ رَاضِيًا ... فَلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ
وَإِنَّ مَعَ الرِّزْقِ اشْتِرَاطُ الْتِمَاسِهِ ... وَقَدْ يَتَعَدَّى إِنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ
فَلَوْ شَاءَ أَلْقَى فِي فَمِ الطَّيْرِ قُوتَهُ ... وَلَكِنَّه أَوْحَى إِلَى الطَّيْرِ لَقْطَهُ
موعظة: إخواني تفكروا في مصارع الَّذِينَ سبقوا، وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا؟ واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا.
إخواني: إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة فبالله عليكم تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصدٍ فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالآجل وبين أيديكم يوم الحساب.
شِعْرًا:
وَالْمَرْءُ مِثْلُ هِلالَ عِنْدَ طَلْعَتِهِ ... يَبْدُو ضَئِيلاً لَطِيفًا ثُمَّ يَتَّسِقُ
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كِرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بُهْجَتَ بِهِ ... فَقَدْ تَطَايَرَ مِنْهُ لِلْبَلَى خِرَقُ
وَبَاتَ مُنْشَمِرًا يَحْدُو الْمَشِيبُ بِهِ ... كَاللَّيْلِ يَنْهَضُ فِي أَعْجَازِهِ الْفَلَقُ
عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ لا تَفْنَى عَجَائِبُهُ ... لِلرَّاكِنِينَ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ صَدَقُوا
وَطَالَ مَا نُغِّصُوا بِالْفَجْعِ ضَاحِيَةٍ ... وَطَالَ بِالْفَجْعِ وَالتَّنْغِيصِ مَا طُرِقُوا
دَارٌ تَغُرُّ بِهَا الآمَالُ مُهْلِكَةٌ ... وَذُو التَّجَارُبِ فِيهَا خَائِفٌ فَرِقُ
يَا لِرِّجَّالِ لِمَخْدُوعٍ بِزُخْرُفِهَا ... بَعْدَ الْبَيَانِ وَمَغْرُورٌ بِهَا يَثِقُ
أَقُولُ وَالنَّفْسُ تَدْعُونِي لِبَاطِلِهَا ... أَيْنَ الْمُلُوكُ مُلُوكُ النَّاس وَالسَّوْقُ
أَيْنَ الَّذِينَ إِلَى لَذَّاتِهَا رَكَنُوا ... قَدْ كَانَ فِيهَا لَهُمْ عَيْشٌ وَمُرْتَفَقُ
أَمْسَتْ مَسَاكِنُهُمْ قَفْرًا مُعَطَّلَةً ... كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَهَا خُلِقُوا(6/767)
يَا أَهْلَ لَذَّاتِ دَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا ... إِنْ اغْتِرَارًا بِظِلِّ زَائِلٍ حُمُقٌ
اللهُمَّ اغفر لنا ولا تعذبنا ووفقنا ولا تخذلنا ولا تسلب الإيمان منا لا ملجأ لنا إلا إليك ولا معول لنا إلا عَلَيْكَ يا أرحم الراحمين.
اللهُمَّ يا من فتح بابه للطالبين، وأظهر غناه للراغبين نسألك أن تسلك بنا سبيل عبادك الصادقين، وأن تلحقنا بعبادك الصالحين، اللهُمَّ أحْي قُلُوباً أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تَعذِّبْهَا بَأَلِيمٍ عِقَابِكَ، يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، يَا مَنْ جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بالأنْعَامِ وَالأفضَالِ، اللهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَارْزُقْنَا مَا رَزَقْتَ أَوْلِيَاءِكَ، مِنْ نَعِيم قُرْبِكَ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاتِكَ، وَصِدْقِ حُبِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
خاتمة، وصية، نصيحة
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظاً وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله ?.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي ? المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.
فمثلاً بجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظاً صحيحاً عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف (6000) .(6/768)
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف (3000) أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفاً (1000) .
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين (2000) من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن في بيوت الله أو البيوت المعدة لذلك فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة أو يدخلهم في حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة في المساجد.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سبباً لحصول الأجر من الله وسبباً لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سبباً مباركاً يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم. نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية.
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ ... كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ
آخر:
أَيْقِظْ جُفُونَكَ يَا مِسْكِينُ مِنْ سِنَةٍ ... وَانْظُرْ بِعَقْلِكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ عِبَرِ
بِالأَمْسِ كُنْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ في لَعِبٍ ... غَضِّ الشَّيَابِ قَلِيلِ الْهَمِّ وَالْفِكَرِ
وَقَدْ كَبِرْتَ وَحَانَ الشَّيْبُ مِنْكَ وَلا ... أَرَاكَ تَنْظُرُ يَا مَغْرُورُ فِي الْكِبَرِ
تَبِعْتَ وَيْحَكَ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا ... تُمْسِي وَتُصْبِحُ مَسْرُورًا عَلَى النُّكُرِ
أَمَا اعْتَبَرْتَ بِمَا شَيَّعْتَ مِنْ سَلَفٍ ... إِلَى الْقُبُورِ مِنَ الأَشْيَاخِ وَالصِّغَرِ
وَأَنْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ زَائِدًا أَمَلاً ... وَالدَّهْرُ يَهْدِمُ مِنْكَ الْعُمْرَ فَابْتَدِرِ
يَا مَنْ مَضَى عُمْرُهُ الْمَكْنُونُ في سَفَه ... وَفِي الْمَحَالِ وَفِي اللَّذَاتِ وَالْبَطَرِ
أَيْنَ الشَّبَابُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَحْمِدُهُ ... مَضَى سَرِيعًا كَمِثْلِ اللَّمْحِ فِي الْبَصَرِ
وَقَدْ أَتَى لَكَ شَيْبٌ لا زَوَالَ لَهُ ... إِلا بِمَوْتِكَ يَا مَغْرُورُ فَانْتَظِرِ(6/769)
.. إِنَّ الرَّحِيلَ حَقِيقٌ فَاسْتَعِدَّ لَهُ ... وَقَدْ أَتَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ فَازْدَجِرْ
بَادِرْ مَتَابَكَ يَا مِسْكِينُ فِي عَجَلِ ... قَبْلَ الْمَنُونِ وَبَادِرْ فُسْحَةَ الْعُمُرِ
حَافِظْ عَلَى الْخَمْسِ في الأَوْقَاتِ إِنَّ لَهَا ... فَضْلاً وَقُلْ يَا إِلَهِي نَجِّ مِنْ سَقَرِ
طُوبَى لِعَبْدٍ تَقِيٍّ خَائِفٍ وَجِلٍ ... خَافَ الذُّنُوبَ وَبَاعَ النَّوْمَ بِالسَّهَرِ
وَقَامَ بِاللَّيْلِ لِلرَّحْمَنِ مُبْتَهِلاً ... يَتْلُو الْكِتَابَ وَدَمْعُ الْعَيْنِ كَالْمَطَرِ
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا ... مَعَ الْحِسَانِ ذَوَاتِ الْغُنْجِ وَالْحَورِ
تُسْقَى بِهَا سَلْسَبِيلاً طَابَ شَارِبُهَا ... مِنْ كَفٍّ غَانِيَةٍ أَضْوَى مِنَ الْقَمَرِ
فِي قُبَّةٍ مِنْ لُجَيْنٍ جَلَّ صَانِعُهَا ... قَدْ خَصَّهَا بِاخْتِلالِ النَّخْلِ وَالنَّهْرِ
وَالطَّيْرُ فِيهَا عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةٌ ... أَصْوَاتُهَا كَحَنِينِ الْعُودُ وَالْوَتَرِ
وَالْحُورُ يَمْشِينَ فِي حُلْي وَفِي حُلَلٍ ... كَمَا أَتَى فِي بَيَانِ الذِّكْرِ وَالسُّورِ
وَأعْكِفْ عَلَى سُنَّةِ الْهَادِي وَتَابِعِهِ ... وَاتْبَعْ طَرِيقَتَهُمْ تَقْفُوا عَلَى الأَثَرِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ عَنْ أَهْلِيكَ مُرْتَحِلٌ ... عَمَّا قَلِيلٍ لِبَيْتِ الدُّودِ وَالْمَدَرِ
لا تَأَمَنَّنَ مِن الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ... لأَنَّهَا كَسِرَاجٍ لاحَ لِلْبَصَرِ
أَيْنَ الأَحِبَّةُ وَالْجِيرَانُ مَا صَنَعُوا ... صَارُوا لَنَا خَبَرًا مِنْ أَعْظَمِ الْخَبَرِ
أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِي عَاشَرْتَهُمْ زَمَنًا ... صَارُوا جَمِيعًا إِلَى الأَجْدَاثِ وَالْحُفَرِ
أَيْنَ الْقُصُورُ الَّتِي كَانَتْ مُعَمَّرَةً ... حُصُونُهَا مُلِئَتْ بِالْبُسْطِ وَالسُّرُرِ
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً ... أَيْنَ الْخُدُودُ الَّتِي تَسْبِي أولي النَّظَرِ
صَارُوا جَمِيعًا إِلَى ضِيقِ الْقُبُورِ وَقَدْ ... صَارَتْ مَحَاسِنُهُمْ مِنْ أَقْبَحِ الصُّوَرِ
وَنَحْنُ عَمَّا قَلِيلٍ لاحِقُونَ بِهِمْ ... فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ وَاحْذَرْ غَايَةَ الْحَذَرِ
آخر: ... يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغَرُورِ اغْتِرَارًا ... رَاكِبًا فِي طِلابِهَا الأَخْطَارَا
يَبْتَغِي وَصْلَهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ ... وَتَرَى أُنُسْهُ فَتُبْدِي نِفَارَا
... خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوِصَالَ لَدَيْهَا ... جَارَةٌ تَزَلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا(6/770)
كَمْ مُحِبٍّ أَزَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا ... حَاوَلَ الزَّوْرَ صَيَّرَتْهُ ازْوِرَارَا
شِيبَ حُلْوُ اللَّذَاتِ مِنْهَا بِمُرٍّ ... إِنْ حَلَتْ مَرَّةً أَمَرَّتْ مِرَارَا
فِي اكْتِسَابِ الْحَلالِ مِنْهَا حِسَابٌ ... وَاكْتِسَابُ الْحَرَامِ يُصْلِي النَّارَا
وَلِبَاغِي الأَوْطَارِ مِنْهَا عَنَاءٌ ... سَوْفَ يَقْضِي وَمَا قَضَى الأَوْطَارَا
كُلُّ لَذَّاتِهَا مُنَغَّصَةُ الْعَيْشِ ... وَأَرْبَاحُهَا تَعُودُ خَسَارَا
وَلَيَالِي الْهُمُوم فِيهَا طِوَالٌ ... وَلَيَالِي السُّرُورِ تَمْضِي قِصَارَا
وَكَفَى أَنَّهَا تَظُنُّ وَإِنْ جَادَتْ ... بِتَرْرٍ أَفْتَتْ بِهِ الأَعْمَارَا
وَإِذَا مَا سَقَا خُمُورَ الأَمَانِي ... صَبَّرَتْ بَعْدَهَا الْمَنَايَا خِمَارَا
كَمْ مَلِيكٍ مُسَلَّطٍ ذَلَّلَتْهُ ... بَعْدَ عِزٍّ فَمَا أَطَاقَ انْتِصَارَا
وَنَعِيمٍ قَدْ أَعْقَبَتْهُ بِبُؤْسٍ ... وَمَغَانٍ قَدْ غَادَرَتْهَا قِفَارَا
أَيُّهَا الْمُسْتَعِيرُ مِنْهَا مَتَاعًا ... عَنْ قَلِيلٍ تَسْتَرْجِعُ الْمُسْتَعَارَا
عَدِّ عَنْ وَصْلِ مَنْ يُعِيرُكَ مَا ... يَفْنَى وَيَبْقَى إِثْمًا وَيَكْسِبُ عَارَا
قَدْ أَرَتْكَ الأَمْثَالَ فِي سَالِفِ الدَّ ... هْرِ وَمَا قُدْرَاتُكَ فِيكَ اعْتِبَارَا
وَجَدِيرٌ بِالْعُذْرِ مَنْ قَدَّمَ الأَ ... عْذَارَ فِيمَا جَنَاهُ وَالإِنْذَارَا
فَتَعَرَّضْ مِنْهَا بِخُلَّةِ صِدْقٍ ... وَالْتَمِسْ غَيْرَ هَذِهِ الدَّارِ دَارَا
وَالْبِدَارَ الْبِدَارَ بِالْعَمَلِ الصَّا ... لِحِ مَا دُمْتَ تَسْتَطِيعُ الْبِدَارَا
اللهُمَّ نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.(6/771)