تَأَلَّفَ بَرْقُ الْحَقِّ في الْعَارِضِ النَّجْدِي ... فَعَمَّ جَمِيعَ الكَوْنِ في الغَوْرِ والنَّجْدِ
به زُعْزُعَتْ أَرْكَانُ كِسْرَى وقَيْصَرٍ
ولم يُجَد مَا حَازَا مِنْ الْمَالِ والجُنْدِ
وَأَمْثَالُهَا في السَّالِكينَ طرَيِقَهَمْ
أَرنَاَ كَمَا قَدْ قَالَهُ صَادِقُ الوَعْدِ
فَلِلهِ حَمْدٌ يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ
عَلَى نِعْمٍ زَادَتْ عَنْ الحَصْرِ والعَدِّ
فَأعْظَمهما بَعْثُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ
أَمِينُ إله الحَقِّ وَاسِطَةَ العِقْدِ
دَعَانَا إِلى الإسلامِ دِينِ إِلَهَنَا
وتَوْحِيدِهِ بالْقَوْلِ والفِعْلِ والقَصْدِ
هَدَانَا بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ والعَمَى
وَأَنْقَذَنَا بَعْدَ الغِوَايَةِ بالرُّشْدِ
حَبَانَا وَأَعْطَانَا الذِي فَوْقَ وَهْمِنَا
وأَمْكَنَنَا مِن كُلِّ طَاغٍ وَمُعْتَدِّ
وَأَيَّدَنَا بالنَّصْرِ واتَّسَعَتْ لَنَا
مَمَالِكُ لا تَدْعُوا سِوَى الوَاحِدِ الفَرْدِ
فَنَسْأَلُهُ إِتْمَامَ نِعْمَتِهِ بأنْ
يُثَبِّتَنَا عِنْدَ الْمَصَادِرِ كَالوِرْدِ
فيا فوزَ عبدٍ قَاَم لله جاهِدًا
عَلَى قَدَمِ التجريدِ يَهْدِي وَيَسْتَهْدِي(6/13)
.. وَجَرَّدَ في نَصْرِ الشَّريعَةِ صَارمًا ... بِعَزْم يُرَى أَمْضَى مِن الصَّارِمِ الْهِنْدِي
وتابَعَ هَدْيَ الْمُصْطَفَى الطُهْرَ مُخْلِصًا
لِخَالِقِهِ فِيمَا يُسِرُّ وَمَا يُبْدِي
ويَا حَسْرَة الْمَحْرُومِ رَحْمَةَ رَبِّهِ
بإِعْرَاضِهِ عن دِينِ ذِي الْجُودِ والْمَجْدِ ِ
لَقَدْ فَاتَه الْخَيْرَ الكَثِيرُ وَمَا دَرَى
وَقَدْ خَابَ واختارَ النُّحُوسَ عَلى السَّعْدِ
ومِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ أَزْكَى صَلاتِهِ
وَتَسْلِيمِهِ الأَوْفَى الكَثِيرِ بلا حَدِ
عَلَى الْمُصْطَفَى خَيْرِ الأَنَامِ وآلِهِ
وَأَصْحَابِهِ أَهْل السَّوابِقِ والزُّهْدِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِك وَاليوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا وَأَمِّنْ خَوْفَنَا وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَحِزْبِكَ المُفْلِحِينِ الذِينَ لا خَوفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ
وَمِنْ الآيَاتِ التِي وَرَدَتْ في الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَمُلازمةِ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ(6/14)
يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وَقَالَ تَعَالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وَقَالَ تَعَالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وَقَالَ تَعَالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
شِعْرًا:
أَطَيَبُ الطَّيبَاتِ فِعْلُ الفَرائض ... والْجِهَاد في سَبِيل الله لِقَتْلِ الأَعَادِي(6/15)
وَقَالَ تَعَالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الواردةُ في فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ بالنفسِ وَالْمَالِ، فَإِلَيْكَ مِنْهَا طَرَفًا فَتَأَمَّلْهُ وَاسْأَل اللهَ أَنْ يُقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ في سَبِيلِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكَ الشَّهَادَةَ، وَأَنْ يُلْحِقْنَا بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ في مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ إِنَّهُ جَوَّاد كريم. فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالى؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالََ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(6/16)
شِعْرًا:
وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا ... كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ
جِهَادِ النَّفْسِ مَعْ قَتَلِ الأَعَادِي ... لِدِينِ اللهِ فَافهَمْ مِنْ مُرَادِ
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ فِيهِ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّهُ يُنْمِّي لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤْمَنُ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» . رواهُ أَبُو دَاودَ، والتِّرْمِذِي. وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح.
وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» . رواهُ التِّرْمذِي، وقال: حديثٌ حَسَنٌ صحيح.(6/17)
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَن الْمَعَاصِي وَالزَّلات وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي وَإِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» . رواه مسلم. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَواقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ جُرِحَ جَرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشِعْبٍ في عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ،(6/18)
فَأَعْجَبَتْهُ فقال: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أسْتَأذنَ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَذَكَر ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَقَالَ: «لا تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يغفِرَ اللهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُو في سبيل اللهِ، مَنْ قاتلَ في سبيلِ الله فُوَاقَ ناقةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . رواهُ التِّرْمِذِي. وقال: حديثٌ حسَنٌ.
وعنهُ قالَ: قيلَ يَا رسولَ اللهِ ما يَعْدِلُ الْجهاد في سبيل اللهِ؟ قَالَ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» . فَأَعَادُوا عليهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سبيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَانِتِ بآياتِ اللهِ لا يَفْتُرُ مِنْ صلاةٍ وَلا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ في سبيلِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظُ مُسْلِمٍ.
وفي رِوايةٍ للبُخاري أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولِ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: «لا أَجِدُهُ» . ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ» ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَى مَتْنِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ أَوِ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ أَوْ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلا فِي خَيْرٍ» . رواه مسلم.
شِعْرًا:
أفادَتْنِي الدِّيَّانَةُ كُلَّ عِزٍ ... وَهَل شَيءٌ أعَزُّ مِنَ الدِّيَانَةْ(6/19)
فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ
آخر:
وَمَا نُبَالي إِذَا أَدْيَانُنَا سَلِمَتْ ... بِمَا فَقَدْنَاهُ مِنْ مَال وَمِنْ نَشَبِ
فَالْمَالُ مُكْتَسَبٌ وَالْعِزُّ مَطْلَبُهُ ... في طَاعَةِ اللهِ لا فِي المَالِ وَالنَّسَبِ
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ في الْجَنَّةِ مائةَ دَرَجَةٍ، أعدَّها اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كمَا بَيْنَ السَّمَاءَ والأرضِ» .
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ وساوِسِ قُلُوبنَا الْحَامِلَةِ عَلَى التورُّطِ في هُوَّةِ البَاطِلِ وابتداعِهِ واجْعَلْ إِيمَانَنَا إِيمَانًا خَالِصًا صَادِقًا قَوِيًّا وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ عَيْشَنَا عَيْشًا رَغَدًا. وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا في مَحَبَّتِكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَحِفْظًا كَامِلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَأَدَبًا مُرْضِيًا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا القِيَامَ بِحَقِّكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلال مِنْ رِزْقَكَ، وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ وَأَمِّلْنَا يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ، أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَت لَهُ الْجَنَّةُ» . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا(6/20)
رَسُولَ اللهِ. فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، قَالَ: «وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مَائةَ دَرَجَةٍ في الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» . قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ» . رواهُ مُسْلِم.
وَعَنْ أبي بَكْرِ بِنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ» . فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ ثُمَّ كَسَرَ جفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» . رواهُ البُخاري.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» . رواهُ الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رواهُ الترمذيُ، وقالَ: حديثٌ حسنٌ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ(6/21)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلاَّ الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» . وفي رِوايةٍ: «لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ» . رواهُ مُسْلم. وفي روايةٍ لهُ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنَ» .
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا وَاحْمِنَا عَنْ الرُّكُونِ إِلى عِدَاكَ وَارْزُقْنَا بُغْضَهُمْ وَأَعْوَانِهِم وَوَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
اللَّهُمَّ نَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالبَوَارِ وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ القَرَارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَوْلادَ بدُونِ تَرْبيةٍ لا قِيمَةَ لَهُمْ بَيْنَ صُفُوفِ الأَوْلادِ، بَلْ هُمْ بِدُونِ تَرْبِيَةٍٍ مُصِيبَةٌ كُبْرَى على الوَالِدَيْنِ خَاصةً وعلى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ وَخَيرٌ مِنْ وُجُودِهِمْ بِدُونِ تَرْبِيَةٍ أَوْ بِتَرْبِيَةٍ فَاسِدَةٍ عَدَمُهُمْ، لأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَدَمِهِمْ ضَرَرٌ، لا عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَلا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلا عَلَى الأفرادِ، بَلْ في عَدَمِهِمْ مَصَالِحُ مُتَعَددةٌ، هَذَا بَيَانُ حَالِهِمْ بِلا تَرْبِيَةٍ أَوْ بِتَرْبِيَةٍ فَاسِدَةٍ، فَلْيَعْلَمْهُ الرَّجُلُ الْحَكِيمُ، أَمَّا التَّرْبِيَةُ فَشَيْءٌ هَيِّنٌ(6/22)
يَسِيرٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمِنَ الأَسْبَابِ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ لا تَعْمَلَ أَنْتَ وَزَوْجَتُكَ أمامَ أَوْلادِكُمَا شَيْئًا يَكُونُ فَاعلُهُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ قَدْرٌ مِنْ اللوْمِ، بَلْ تَلْزمانِ الآدَابَ السَّامِيةَ وَالأَخْلاقَ الفَاضِلَةِ لِيَقْتَدُوا بِكُمَا، ذَلِكَ لأَنَّ الولدَ يُقَلِّدُ غَالِبًا أُمَّهُ وَأَبَاهُ تَقْلِيدًا مُطْلَقًا لا عِقَالَ لَهُ ولا زِمَامَ وَيَتَحَدَّثُ عَنْ سِيرةِ أَبَوَيْهِ وَأَفْعَالِهمَا وَيَفْتَخِرُ بِهِمَا وَبِمَا لَهُمَا مِنْ سَجَايَا وَيَمْدَحُهُمَا وَيذُبُّ عَنْهُمَا بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ هذا في الغالبِ كَمَا ذَكَرْنَا ويندُرُ خِلافُه تَأمَّلْ مَا حَكَاهُ القُرْآنُ الكريمُ لِتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَأَنَّ صَلاحَ الأبَوَيْنِ وَتَوْجِيهَهُمَا تَوْجِيهًا حَسَنًا عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيمٌ ذَكَرَ اللهُ في كِتَابِهِ العَزِيز مَرَّاتٍ أَنَّ الرُّسُلَ بَعْدَ إظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ لِلْكَمَالِ فَيُكَذِّبُونَهُم في دَعْوَتِهِمْ وَهُمْ رُسُلُ اللهِ بِحُجّةِ أَنَّ آبائهُمْ لَيْسَتْ أَعْمَالُهُمْ كَهِذِهِ الأَعْمَالِ فَيُرَجّحُونَ عَمَلَ آبَائِهِمْ وَهُمْ كَفْرٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ دِينُ رَبِّنَا ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ قَالَ تَعَالى عَنْ مَا قالوه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} وفي الآيةِ الأُخْرى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} هكذا الآباءُ عِنْدَ الأَبْنَاءِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ العُظْمَى التي عِنْدَهُمْ لا تُدَانِيهَا مَنْزِلَةُ عَظِيمٍ، وَاسْمَعْ إِلى قَوْلِ الفَرَزْدَق يَتَحَدَّى جَرِيرًا:
أُولئكَ آبائِي فجِئنِي بمِثْلِهِم
إِذَا جَمَعَتْنَا يا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ
ويقول الآخر:
إِنَّا َنَبْنِي عَلى مَا شَيَّدَتْهُ لَنَا
آبَاؤُنا الغُرُّ مِنْ مَجدِوِ مِن كَرَمِ(6/23)
آخر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا
عَلَى مَا كَانَ عَوَدَهُ أَبُوهُ
حَتَّى إِنَّهُم كَانُوا في الْجَاهِلِيةِ يَحْلفونَ بآبائِهِمْ حَتَّى نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لا تَحْلِفُوا بآبائكم» . وكذلك نَهَى عَن الْحَلْفِ بِغَيْرِ الآباءِ، وَلِذَلِكَ أَبْنَاءُ الوَالِدَيْنِ الكَامِلَيْنِ لا يَعْمَلانِ إِلا الأَعْمَالَ الحسنةَ التِي رَأَوْا وَالِدَيْهِم يَعْمَلانِهَا فَيشِبُّونَ وَيَشِيبُونَ لا يَعْرِفونَ إِلا الكَمَالَ ولو كَلفْتَهُم غَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا وَالِدَانا لا يَعْرِفَانِهِ، وَتَجِدُ أَبناءَ الْمُنْحَرِفِينَ الفَاسِدِينَ فَاسِدِينَ كَآبَائِهِمْ غَالِبًا، لأَنَّهُمْ وَرِثُوا الفَسَادَ مِنْ أَبَوَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَبْنَاءَ الفَاسِدِينَ الفَاسِقِينَ يَحْكُونَ عَنْ آبائِهِمْ مَا يَتَغَيَّرُ لَهُ وَجْهُ صَاحِبِ الدِّينِ وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ تَجِدَ وَلَدَ الفَاسِدينَ لَيْسَ فَاسِدًا وَمِنْ الشُّذوذِ أَيْضًا أَنْ تَجِدَ وَلَدَ التَّقِيِّ وَالتَّقِيّةِ شَقِيًّا فَاسِدًا هَذَا يُعْرَفُ قَدِيمًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ الشَّبَابِ ضِعَافُ الدِّينِ وَمَنْ لا دِينَ لَهُمْ وَلا أَخْلاقَ وَإِنْ شِئْتَ فَاقَرأ قَوْلَ اللهِ تَعَالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وَلَمْ يُبَرِّئَهَا قَوْمُهَا مِنْ الفَاحِشَةِ إِلا بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا عَقِبَ الوِلادَةِ عَلَى لِسَانِ وَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ عَرَفَ قَوْمُهَا أَنَّ الوَلدَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الغَالِب حَسْبَ العَادَةِ التِي أَجْرَاهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا في الصَّلاحِ والفسادِ في الأَبَوَيْنِ فَاسْتَغْرَبُوا مِنْ مَرْيَمَ الطَّاهِرَةِ العَفِيفَةِ أَنْ تَفْعَلَ الفَاحِشَةَ لَمَّا رَأَوْا بأَعْيُنِهِمْ عَلَى كَتِفِهَا وَلدًا مِنْ الأَوْلادِ وَيَحَسْبِ مَا أَجْرَى اللهُ مِنْ العَادَةِ أَنَّهُ لا يَجِيءُ الوَلدُ إِلا مِنْ وَالِدٍ لِذَلِكَ فَهِمَ قومُها فِيهَا أَنَّهَا جَاءَتْ هَكَذَا مِنْ وَالِدَيْنِ صَالِحِينَ عَلى خِلافِ الْمُعْتَادِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهَا جَاءَتْ كَالْعَادَةِ صَالِحَةً مِنْ الصَّالِحِينِ إِلا(6/24)
بَعْدَ أَنْ كَلَّمَهُمْ وَلَدُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السلامُ عَقِبَ ولادَتِهِ بِمَا يُبِرِّؤُهَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلامَهُمْ أَقْبَلَ عليهِمْ وَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَأَشَارَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ بَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِجُمْلَةِ صِفَاتٍ فَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} .
فَوِلادَةُ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسلامِ عَجِيبَةٌ حَقًّا بالقِيَاسِ إِلى مَأْلُوفِ البَشَرِ وَلَكِنْ لا غَرَابَةَ فِيهَا عِنْدَمَا تُقَاسُ إِلى خَلْقِ آدَمَ أَبِي البَشَرِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فاللهُ جَلَّ وَعَلا لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلا في السَّمَاءِ وَالْهَدَفَ الْمَقْصُودُ مِنْ مَا تَقَدَّمَ الْحِرْصُ وَالْجِدُّ وَالاجْتِهَادُ عَلَى تَوْجِيهِ الأَوْلادِ إِلى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَأَنْ يَحْرِصُوا جَدًّا على مُلاحَظَتِهمْ وَحِفْظِهمْ عَنْ مُرَافَقَةِ الأَشْرَارِ وَمَنْعِهمْ مِنْ حُضُورِ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ كَالتِّلِفِزيُون مَقْبَرَةُ الأَخْلاقِ والفِيدْيُو مُعَلِّمِ الفَسَاد وَالكُورةِ مُورِثَةِ العَدَاوَةِ وَالفُرقَةِ بَيْنَ القُلُوبِ وَالأَبْدَان وَمِنَ الْخُرُوجِ لَيْلاً حَسْبَ الاسْتِطَاعَةِ وَالقُدْرَةِ وَالْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ بِيدِ اللهِ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذُرِيَّةِ الرُّسُلِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَوْلادِ الفَرَاعِنَةِ وَالْكَفَرَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْلَقَ سَعِيدًا تَخَلَفَتْ ... ظنُونُ مُرَبِّيهِ وَخَابَ الْؤُمِّلُ
فَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرٌ ... وَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ مُرُسَلُ
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَرِزْقًا وَاسِعًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَإِيمَانًا خَالِصًا، وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ، وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ، وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ،(6/25)
وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ، وَدَرَجَاتِ الفَائِزِينَ، يَا أَفْضَلَ مَنْ رُجِيَ وَقُصِدَ، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ.
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبِنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًا وَارْزُقْنَا إتِّبَاعَه، وَأرِنا الباطل باطلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في هذه الآيات الكريماتِ، والأحاديثِ الشريفةِ بيانُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالشُّهَدَاءِ وَكَرَامَتُهُمْ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَفِي ضِمْنِهَا تَسْلِيَةٌ لِلأَحْيَاءِ عَنْ قَتْلاهم، وَتَعْزِيَةٌ لَهُمْ، وَتَنْشِيطٌ لَهُمْ عَلى القِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُثَابَرَةِ عليهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ، وَالْجِدِّ وَالاجتهادِ في الْحُصُولِ عَلَيْهَا، نَسْأَلُ اللهَ الْحَيَّ القيومَ، العليَّ العظيمَ، أَنْ يوفِقَنَا لَهَا إِنَّهُ القَادِرُ على ذلك.
عَنْ أَنَسٍ بن مالكٍ - في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذيِن أرسلَهُمْ نَبِيُّ اللهِ إلى بئْرِ مَعُونَةَ - قالَ: لا أَدْرِي أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاء عَامِرُ بنُ الطُّفيلِ الْجَعفريُ فخرَجَ أَولئك النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتُوا غَارًا مُشْرِفًا على الماءِ، فقعَدُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالةَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ - أُراهُ - أبو مِلْحَانَ الأَنْصَارِي: أَنَا أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ حتَّى أَتَى حَوْلَ بَيْتِهِمْ فَاخْتَبَأ أمَامَ البُيُوتِ ثَمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ إني رُسُولُ رَسُولِ اللهِ إليكُمْ أَني أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ،(6/26)
وأَنَّ محمدًا عبدُهُ وَرَسُولُهُ فآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ كَسْرِ البيتِ برمْحٍ، فَضَرَبَه في جَنْبِهِ حتى خَرَجَ مِنْ الشِّقِّ الآخر فقالَ: اللهُ أكبَرُ فُزْتُ وربِّ الكعبةِ فاتَّبَعُوا أَثَرَهُ حتى أَتَوْا أصحابَه في الغار فقَتَلَهُمْ أجمعينَ عامرُ بن الطفيلِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابنُ أَبي طَلْحَةَ: حَدَثَّنِي أَنَسُ بِنُ مَالكٍ أنَّ الله أنَزَل فِيهم قُرْآنًا (بِلِّغُوا عنا قَومَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ) . ثُمَّ نُسِخَتْ فَرُفِعَتْ بعْدَ مَا قرأنها زَمانًا وأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فَقَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ففعل ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» .
قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: عَزَّى اللهُ نبيَّهُ وأولياءَهُ عَمَّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ في سبيلِهِ، أَحْسَنَ تعزيةٍ وألطَفَهَا وَأدْعاهَا إلى الرِّضَا بِمَا قضاهُ لَهمْ، فقالَ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً} الآية فجمَعَ لَهُمْ إلى الحياةِ الدَّائمةِ منزلةَ القُرْبِ منْهُ، وَأَنَّهم عندَهُ، وَجَرَيانَ الرزْقِ الْمستَمّرِ عليهم وفرَحَهُمْ بِمَا آتَاهمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو فوقَ الرِّضَا واستبشارَهُمْ بإخوانِهِمْ الذين باجتماعِهِم بِهِمْ يتمُّ سرورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ(6/27)
وَاسْتِبْشَارَهُم بِمَا يُجَدّدُ لَهم كَلَّ وَقْتٍ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ.
وَعَنْ أَنَسِ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا إِلاَّ الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسرُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا فَيُقْتلَ مرةً أُخْرى مِمَّا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» . تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلم.
وَعن جابر قَالَ: قالَ لِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعَلِمْتَ أنَّ اللهَ أَحْيَا أَباكَ فَقَالَ له: تَمَنَّ. فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إلى الدُّنْيَا فَأُقتَلُ فِيكَ مَرةً أُخْرَى، قالَ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ» . وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنَنِي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَبْكِيهِ - أَوْ مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ» . وَعَنْ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأَوي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ في ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِم، قَالُوا: يَا لَيْتَ إخْوَانِنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ بِنَا لِئَلا يَزْهَدُوا في الْجِهَاد، ولا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزِلَ هَذِهِ الآياتِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات.(6/28)
قال ابن القيم رحمه الله:
فالشَّأنُ لِلأرْوَاحِ بَعْدَ فِراقِهَا
أبدَانَها وَاللهِ أعظَمُ شَانِ
إمَّا عَذَابٌ أَوْ نَعِيمٌ دَائِمٌ
قَدْ نُعِّمَتْ بِالرَّوْحِ والرَّيحَانِ
وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعْ شَكْلِهَا
تَجْنِي الثِّمَارَ بِجَنَّةِ الحَيَوانِ
وَتَظَلُّ وَارِدَةً لأنْهَارٍ بِهَا
حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الْجُثْمَانِ
لَكِنَّ أَرْوَاحَ الذِينَ اسْتُشْهِدُوا
فِي جَوفِ طَيْرٍ أَخْضَرٍ رَيَّانِ
فَلَهُمْ بِذَاكَ مَزِيَّةٌ في عَيْشِهِم
ونَعِيمُهُم لِلرُّوْحِ وَالأبدَانِ
بَذَلُوا الجُسُومَ لربِّهِم فأعَاضَهُم
أَجْسَامَ تِلكَ الطَّيرِ بالإحْسَانِ
وَلَهَا قَنَادِيلٌ إليهَا تَنتَهِي
مَأوَى لَهَا كَمَسَاكِنِ الإِنْسَانِ
فالرُّوحُ بَعدَ الموتِ أكمَلُ حَالَةٍ
منهَا بِهَذِي الدَّارِ في جُثمَانِ
وَعذَابُ أشقَاهَا أشدُّ مِنَ الذِي ... قَدْ عَاينَت أبصَارُهَا بِعِيَانِ(6/29)
اللَّهُمَّ يا فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ إنكَ جَوادٌ كريم رؤوفٌ غفور رحيم.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَنَسْأَلُكَ بَرَكَةَ الحياةِ وَخَيْرَ الحيَاةِ، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرّ الحياةِ، وَشَرّ الوَفَاةْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْروٍ بن حَرَام: رَأَيْتُ في النَّوْمِ قَبْلَ أُحُدٍ مُبَشِّر بن عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ لِي: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا في أَيَّام. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: في الْجَنَّةِ نَسْرَحُ فِيهَا حَيْثُ نَشَاءُ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، ثُمَّ أُحِييتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فقالَ: «هَذِهِ الشَّهَادَةُ يا جَابِرُ» . وَقَالَ خَيْثَمَةُ وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ اسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ -: لَقَدْ أَخْطَأْتَنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَكُنْتُ وَاللهِ عَلَيْهَا حَرِيصًا.
حَتَّى سَاهَمْتُ ابْنِي في الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ وَقَدْ رَأَيْتُ البَارِحَةَ ابْنِي في النَّوْمِ في أَحْسَنِ صُورَةٍ، يَسْرَحُ في ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأَنْهَارِهَا، يَقُولُ: الْحقْ بِنَا تُرَافِقُنَا في الْجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَ رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقًا إِلى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي وَأَحْبَبْتُ لِقَاءَ رَبِّي، فَادْعُ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقْنِي الشَّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍٍ في الْجَنَّةِ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بأُحُدٍ شَهِيدًا، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ(6/30)
ابنُ جَحْشٍ في ذَلِكَ اليَومِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقَى الْعَدُوَّ غَدَا فَيَقْتُلُونِي ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي، وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي، ثُمَّ تَسْأَلُنِي فِيمَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: فِيكَ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ شَبَابٌ يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى أُحُدٍ أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهُ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: إِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ رُخْصَةً فَلَو قَعَدْتَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَ وَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الْجِهَادَ فَأَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ بَنِيَّ هَؤُلاَءِ يَمْنَعُونِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أُسَتَشْهَدَ فَأَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ» . وَقَالَ لِبَنِيهِ: «وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ» . فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ(6/31)
قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} إِلَى آخرها. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالاَ: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ» . رواه البخاري.
شِعْرًا:
لَبَيْكَ رَسُولَ اللهِ مَنْ كَانَ بَاكِيَا
وَلا تَنْسَ قَبْرًا بالْمَدِينَةِ ثَاوِيَا
جَزَى اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيرٍ مُحَمَّدًا
فَقَدْ كَانَ مَهْدِيًا دَلِيلاً وَهَادِيَا
وَلَنْ تَسْرِيَ الذِكْرَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ
إِذَا كُنْتَ لِلْبَرِّ الْمُطَهَّرِ نَاسِيَا
أَتَنْسَى رَسُولَ اللهِ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى
وَآثَارُهُ بالْمَسْجَدَيْنِ كَمَا هِيَا
وَكَانَ أَبَرَّ الناسِ بالناسِ كُلِّهم
وَأَكْرَمَهُم بَيْتًا وَشِعِبًا وَوَادِيَا
تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النبيّ مُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ سَلامُ اللهِ مَا كَانَ صَافِيَا(6/32)
فَكَمْ مِنْ مَنَارٍ كَانَ أَوضَحَهُ لَنَا
وَمِنْ عَلَمٍ أَمْسَى وَأَصْبَحَ عَافِيَا
رَكَنَّا إلى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ بَعْدَهُ
وَكَشَّفَتِ الأَطْمَاعُ مِنَّا الْمَسَاوِيَا
وَإِنّا لَنُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ بِعَبْرَةٍ
نَرَاهَا فَمَا نَزْدَادُ إلا تَمَادِيَا
نُسَرُّ بِدَارٍ أَوْرَثَتْنَا تَضَاغُنَا
عَلَيْهَا وَدَارٍ أَوْرَثَتْنَا تَعَادِيَا
إِذا المَرءُ لَم يَلبَسْ لِبَاسًا مِنَ التُقى
تَقَلَّبَ عُريانًا وَإِن كانَ كاسِيَا
أَخي كُن عَلى يَأسٍ مِنَ الناسِ كُلِّهُم
جَمِيعًا وَكُن ما عِشتَ للهِ راجِيَا
أَلَم تَرَ أَنَّ اللهَ يَكْفِي عِبادَهُ
فَحَسْبُ عِبادِ اللهِ بِاللهِ كافِيَا
وَكَمْ مِنْ هَنَاتٍ مَا عَلَيْكَ لَمَستَهَا
مِنَ النَّاسِ يَومًا أَو لَمَسْتَ الأَفاعِيَا
أَخِي قَدْ أَبَى بُخْلِي وَبُخْلُكَ أَنْ يُرَى
لِذِي فاقَةٍ مِنّي وَمِنْكَ مُوَاسِيَا
كِلانا بَطينٌ جَنبُهُ ظَاهِرُ الكُسى
وَفي النَّاسِ مَنْ يُمْسِي وَيُصْبِحُ طَاوِيَا
كَأَنّا خُلِقنا لِلبَقاءِ وَأَيُّنا(6/33)
.. وَإِن مُدَّتِ الدُّنْيَا لَهُ لَيْسَ فَانِيَا
أَبى المَوتُ إِلا أَن يَكونَ لِمَن ثَوى
مِنَ الخَلقِ طُرًّا حَيثُمَا كَانَ لاقِيَا
حَسَمْتَ الْمُنَى يَا مَوْتُ حَسْمًا مُبَرِّحًا
وَعَلَمْتَ يَا مَوتُ البُكَاءَ البَواكِيَا
وَمَزَّقتَنا يا مَوتُ كُلَّ مُمَزَّقٍ
وَعَرَّفتَنا يَا مَوْتُ مِنْكَ الدَوَاهِيَا
أَلا يَا طَوِيلَ السَّهْوِ أَصْبَحْتَ ساهِيًا
وَأَصْبَحتَ مُغتَرًّا وَأَصْبَحْتَ لاهِيَا
أَفي كُلِّ يَومٍ نَحنُ نَلْقَى جَنازَةً
وَفي كُلِّ يَوْمٍ نَحْنُ نَسْمَعُ نَاعِيَا
وَفي كُلِّ يَومٍ مِنكَ نَرثِي لِمُعوِلٍ
وَفي كُلِّ يَومٍ نَحْنُ نُسْعِدُ باكِيَا
أَلا أَيُّها البَانِي لِغَيرِ بَلاغِهِ
أَلا لِخَرابِ الدَّهرِ أَصْبَحْتَ بانِيَا
أَلا لِزَوالِ العُمْرِ أَصْبَحْتَ جامِعًا
وَأَصْبَحْتَ مُختالاً فَخورًا مُباهِيَا
كَأَنَّكَ قَدْ وَلَّيتَ عَنْ كُلِّ مَا تَرى
وَخَلَّفتَ مَن خَلَّفتَهُ عَنْكَ سالِيَا
اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا في الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزي الدنيا وعذاب الآخرةِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِاليَسِيرِ وَسَهِل عَلينَا كُلّ أمر عَسِير وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبَّه وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ(6/34)
يَا مَنْ هُو مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمَّ فَرَجَا وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجًا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في وقعة بدر
فَلَمَّا كَانَ في رَمَضَانَ في العام الثاني، في سَبْعَةَ عَشَرَ، في صَبِيحَةِ يوم الْجُمعةِ، وَقَعَتْ بَدْرُ بَيْنَ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَيْشِهِ، وَبَيْنَ الْقَوْمِ الكَافِرين، أعداءِ اللهِ ورسولهِ، وهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَمُلْخَّصُهَا أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ العِيرِ الْمُقْبِلَةِ مِنْ الشَّامِ لِقُرَيْشِ، العِيرُ التِي خَرَجُوا في طَلَبِهَا، لَمَا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَفِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ لِقُرَيْشٍ، حَتَّى لَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قُوِّمَ مَا فِيهَا بِنَحْوِ خَمْسِينَ أَلْف دِينَارٍ فَتَرَامَتْ إِلى رَسُولِ اللهِ ? أَنْبَاؤُهَا، بِأَنَّهَا قَدْ فَصَلَتْ مِنْ الشَّام ِ، عَائِدَةً إِلى مَكَّةَ، فَنَدَبَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنُّهُوضِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ غَائِبًا، وَلَمْ يَحْتَفِلْ لَهَا احْتِفَالاً بَلِيغًا، لأَنَّهُ خَرَجَ مُسْرِعًا وَمَعَهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ عَشَرَ رَجُلاً، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَسَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ بُيُوتَ السُّفيَا، وَهِيَ آبَارٌ عَذْبَةُ الْمَاءِ، عَلَى نَحْوِ مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ بِهَا يَوْمَ الأَحد، فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ.
ثُمَّ عَرَضَ الْجُنْدَ، فَرَدَّ مِنْهُمْ صِغَارَهُمْ، الذِينَ لا يَقْوَوْنَ عَلَى حَمْلِ السِّلاحِ، فَكَانَ مِمَّنْ رَدَّهُمْ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ، وَرَافِعُ بن خُدَيْجٍ، وَالبَرَاءُ بنُ عَازِبٍ، وَأُسَيَّدُ بنُ حُضَيْرِ بِنْ سَمَّاكٍ، وزيدُ بنُ(6/35)
الأرقم، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وَعَرَضَ عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَاسْتَصْغَرَهُ فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازهُ، وَسَيَّرَهُ مَعَ الْجَيْشِ، وَرَوَى الوَاقدي عن سَعْد ابن أبي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَخِي عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصِ، قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَارَى، فَقُلْتُ مَالَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَرَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَصْغِرُنِي فَيَرُدَّنِي، وَأَنَا أُحِبُّ الْخُرُوجَ، لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقَنِي الشَّهَادَةَ، قَالَ: فَعُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَصْغَرَهُ، فَقَالَ: «ارْجِعْ» . فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ: كُنْتُ أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ.. فَقُتِلَ بِبَدْرٍ وَهُوَ ابنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَة.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن بُيُوتَ السُّقْيَا فِي نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ وثَلاثِمِائَةِ، وَرُوِيَ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَدّ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرِ، وَجَدَهُمْ ثَلاثَمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَقَال: «عِدّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الذَّيِنْ جَازوا مَعَهُ النَّهْرَ» . وكان فِيهِمْ نَحْو سَبْعِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْوُ مائتَيْن وَأَرْبَعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ، ولَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِن الْخَيْلِ إِلا فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِلزُبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بِنْ الأَسْوَدِ الْكَنَدِي، وكان مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا، يَعْتَقبُ الرَّجُلانِ والثَّلاثَةُ على الْبَعِير الواحدَ، والأَرْبَعَةُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، يَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيُّ بنُ أبِي طَالبِ، وَمَرْثَدُ بنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ، وَزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو كَبْشَةَ، وانَسَة مَوْلَيَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(6/36)
يَعْتَقِبُونَ بَعِيْرًا، وكانَ أَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعِبْدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ يِعْتَقِبُونِ بَعِيْرًِا.
وَهَكَذَا كَانَ كُلُ جَمَاعَةٍ يَتَعَاقَُبْونَ الْمَشْيَ، وَيَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَى بَعِيرهِم، وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأَبَى إلا أَنْ يُشَارِكَ أَصْحَابَهُ في تَعبَهِمْ ورَاحَتِهمِْ، وإلا أَنْ يَأْخُذَ دَوْرَهُ في الْمَشْي وفي الرُّكوبِ كَوَاحِدٍ منْهُمْ، فكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انْتَهَتَ نَوْبَتُهُ في الرُّكوبِ نَزَلَ فَيَقُولُ لَهُ رَفِيقَاهُ: اِرْكَبْ يَا رسولَ اللهِ، حتى نَمْشِيَ عَنْكَ. فَيَقُولُ لَهُمَا: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي على الْمشِي، ومَا أَنَا بأغْنَى عن الأَجْرِ مِنْكُمَا» .
وكان أصحابُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَقرٌ وَعُرِي، ولِذَلِكَ فقد رُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَر إلى أَصْحَابِهِ حينَ خَرَجُوا إلى بَدْرٍ، فَأَثَّرَ في نَفْسِهِ مَنْظَرُهُمْ، فَدَعَا اللهِ لَهُمَ، فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفاةٌ فاحْمِلْهُمْ، وَعُرَاةٌ فاكْسُهُمْ، وجِياعٌ فَأَشْبِعْهُمُ، وَعَالةٌ فََأَغْنِهِمْ مِنْ فَضْلِكَ» . واسْتَخْلَفَ على الْمَدِينةِ وعلى الصَّلاةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَلَمَّا كانَ بالرَّوْحَاءِ رَدَّ أبا لُبَابةَ بنَ عبْدِ الْمُنْذِرِ، واسْتعْمَلُه على المدينة.
شِعْرًا:
وَنَشْهَدُ أنَّ اللهَ خَصَّ رَسُولَهُ
بأصْحابِهِ الأبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا
فَهُمْ خَيرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أنْبِيائِهِ
بِهِمْ يَقْتَدِي في الدِّينِ كُلُ مَنْ اقْتَدَا(6/37)
وَأَفْضلُهم بَعْدَ النبي مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الْفَضْلِ والنَّدا
لَقَد صَدَّقَ الْمُخْتَارَ فِي كُلِّ قَوْلِهِ
وآمَن قَبلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا
وَفَادَاهُ يَومَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ
وَوَاسَاهُ بالأمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا
وَمِنْ بَعْدِهِ الْفَارُوُقُ لا تَنْسَ فَضْلَهُ
لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا
لَقد فَتَحَ الْفَارُوقُ بالسَّيْفِ عَنْوةً
كَثِيرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدَا
وَأَظْهَرَ دِينَ اللهِ بَعْدَ خَفَائِهِ
وَأَطْفَأَ نَارَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا
وَعُثْمَانُ ذُو النُّورينِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا
وَقَدْ قَامَ بالْقُرَآنِ دَهْرًا تَهَجَّدَا
وَجَهَّزَ جَيْشَ العُسْرِ يَومًا بِمَالِهِ
وَوَسَّعَ لِلْمُخْتَارِ والصُّحْبِ مَسْجِدَا
وَبَايَعَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى بِشِمَالِهِ
مُبَايَعَةِ الرِّضْوانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا
ولا تَنْسَ صِهّرَ الْمُصْطَفَى وابْنَ عَمِهِ
فَقَدْ كانَ حبَرًا لِلْعُلُوم وَسَيِّدَا
وَفَادَى رَسُولَ طَوْعًا بِنَفْسِهِ(6/38)
.. عَشِيَّةَ لَمَّا بالفِراشِ تَوَسَّدَا
وَمَنْ كَانَ مَوْلاهُ النَّبِيُ فَقَدْ غَدَا
عَليٌّ لَهُ بالْحَقِ مَولاً وَمُنْجِدًا
وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ
كَذَا وَسَعِيدٌ بالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا
وَكانَ ابْنُ عَوفٍ باذِلَ الْمَالِ مُنْفِقًا
وَكَانَ ابنْ جَرَّاحٍ أَمِينًا مُؤَيَّدَا
وَلا تَنْسَ بَاقِي صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ
وَأَنْصَارَهُ والتَّابِعِينَ على الْهُدَى
فَكُلُهُمْ أَثْنَى الإِلهُ عَلَيْهِمُ
وَأَثْنَى رَسُولُ اللهِ أَيْضًا وَأَيَّدَا
اللَّهُمَّ إِنا نعوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَعَمَلٍ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ إنا نعوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَعَمَلَ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من حِزْبِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحينَ الذين أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ مِمَّنْ قَبِلْتَ صِيامَهُ وَقِيامَهُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمينَ الأَحْياءِ منهم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينةِ على غَيْرِ لِوَاءٍ مَعْقُودٍ، ولكِنّهُ مُنْذُ خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ السُّقيَا وَضَعَ رِجَالَهُ في تَشْكِيلٍ حرْبِيّ، يُلائِمُ ظُرُفَ السَّيْر في أَرْضِ الْعَدُوّ، فقدْ يَلْقَوْنَ عَدُوِّهُمْ فُجْأةً، وهم على غَيْر أُهْبةٍ لِلْقتالِ، وقدْ يَأْخُذُهُمْ عَدُوُّهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ(6/39)
الْخَلْفِ، وَهُمْ كُلَمَّا بَعُدُوا عن الْمَدِينةِ تَقَدَّمُوا في أرضٍ يُسَيْطِرُ عليها الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ يُشَابِهونَهُمْ في عَدَاوَةِ الإِسْلامِ، وَمِنْ أَجْل هَذَا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تَنْظِيمِ رِجَالِهِ، عَلَى النَّحْوِ الذِي أَحْرَى أَنْ يَأْمَنَ بِهِ الْمُفَاجَأَةَ، فَجَعَلَ عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ ابنَ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامَ، وَأَظهَرَ السِّلاحَ، وَعَقَدَ ألْوِيةً ثلاثةً لِوَاءً أَبْيَضَ يَحْمِلُهُ مُصْعبُ بنُ عُمَيرٍ، وَرَايَتَانِ سَوْداَوَانِ، إِحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيّ بنِ أبي طَالبٍ، وَالتِي للأَنْصَارِ إلى سَعْدِ بن مُعاذٍ.
وَسَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا قَرُبَ مِنْ الصَّفْرَاءِ قَدَّمَ عَيْنَيْنِ لَهُ إلى الْمُشْرِكِينَ، يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ العِيْر، وَالْعَيْنَّانِ بسْبَسُ بنُ عَمْروٍ الْجَهَنِي، وَعُدَيُّ بنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِي، فَانْتَهَيَا إِلى مَاءِ بَدرٍ، فَوَجَدَا هُنَاكَ جَارِيَتَيْن تَسْتَقِيَانِ مِنْ الْمَاءِ، وَعَلِمَا مِنْ حِوَارِهِمَا أَنَّهُمَا تَتَرَقَّبَانِ عِيرَ قُرَيْشٍ، وَأَنَّهَا تَصِلُ إلى بَدْرٍ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَرَجَعَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأْخَبَرَاهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانُ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ بَأَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَتَرَصَّدُونَ عوْدَتُه، فأرْسَلَ على عَجَلٍ رَسُولاً إلى قُرَيْشِ، يُنَبِّئُهَا بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَصَحْبُهُ، وَيَسْتَفِزُّهَا لِحَمَايَةِ أَمْوَالِهَا وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بنَ عَمْروٍ الغِفَارِيّ إلى مَكَّةَ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بالنَّفِير إلى عِيرِهِمْ، لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَصَّى رَسُولَهُ أَنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُثِيرُ مَشَاعِرَ القَوْمِ، وَتَسْتَنْهِضُ هِمَمَهُمْ لِلْغَوْثِ وَالنَّجْدَةِ، فَاتَّخَذَ رَسُولُهُ لِذَلِكَ كُلَّ مَظَاهِرِ الصَّارِخِ الْمَلْهُوفِ، فَجَدَع بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَوَقَفَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الوَادِي، قَائِلاً: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ(6/40)
وَأَصْحَابُهُ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ، فَبَلَغَ الصَّرِيخُ أَهْلَ مَكَّةَ، فَنَهَضُوا وَأَوْعَبُوا في الْخُرُوجِ، وَأَعَانَ قَوِيُهُمْ ضَعِيفَهُمْ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجلٌ إلا خَرَجَ، أَوْ بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلاً، وَيَقُولُ الرُّوَاةُ: إِنَّ أُميَّةَ بنَ خَلَفٍ أَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ النَّفِيرِ، فَجَاءَهُ عقبةُ بنُ أَبِي مُعْيطٍ، وَمَعْهُ مِجْمرةٌ وَبَخُورٌ فَوَضَعَهَا أَمَامَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَدِيّ القَوْمِ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَجْمِرْ أَبَا علي، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ النِّسَاءِ فَخَجَلَ وَاسْتَحْيَا، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سِوَى أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ عَوَّضَ عَنْهُ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: العَاصُ بنُ هِشَامٍ، كانَ لأبي لَهَبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُمْ مِنْ بُطونِ قُرَيْشٍ إلا بَنِي عَدِيٍّ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَخَرَجُوا من دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى: {بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} .
وسَارَ أَبُو سُفْيَانَ بالعِيرِ يَتَشَمَّم الأَخْبَارَ في طَرِيقِهِ، حَتَّى إِذَا قَرُبَ مِنْ بِدْرٍ، تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذَرًا، حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَسَأَلَ هُنَاكَ عَنْ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِين، فَعَلِمَ أَنَّ رَاكِبَيْنِ كَانَا قَدْ نَزَلا عَلَى تَلٍّ هُنَاك، فَأَنَاخَا رَاحِلَتَيْهِمَا سَاعَةً، حَتَّى اسْتَقَيَا مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ رَحَلا، فَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلى ذَلِكَ التَّلِّ، وَنَظَر في مُنَاخِ الرَّاحلتينِ، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا، وَفَرَكَهُ فِي يَدِهِ، فَوَجَدَ فِيهِ آثَارَ النَّوَى، فَعَلِمَ أَنَّ الرَّاكِبَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللهِ عَلائِفُ يَثْرِبَ، وَهَذِهِ عُيُونُ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَقْبَلَتْ، تَتَجَسَّسُ أَخْبَارَنَا وَرَجَعَ مُسْرِعًا إلى الْعَيْر، فجعلَ يَضْرِبُ وُجُوهَهَا وَيُحَوّلُها عَنِ السَّيْرِ إِلى بَدْرٍ، مُتَّجِهًا بِهَا إِلى سَاحِلِ البحرِ، تَارَكًا بَدْرًا إِلى يَسَارِهِ فَاسْتطَاعَ أَنْ يَنْجُو بَأَمْوَال قُرَيْشٍ، وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ نَجَا وَأَحْرَزَ العَيْرَ(6/41)
كَتَبَ إِلى قريشٍ أَنْ ارْجِعُوا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، فَأتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ، فَهَمُّوا بالرُّجُوعِ وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَكِبَ رَأْسَهُ، وَعَزَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعُوا، فَتَضْعُفَ شَوْكَتُهُمْ بَيْنَ العربِ، وَيَطْمَعَ فِيهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ، فأخَذَ يَصِيحُ في القَوْمِ وَيَقُولُ: وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَردَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ العَرَبَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا القِيَانُ، وَتَسْمَعَ العربُ بنا، وبِمَسِيرنا، وَجَمْعِنَا، وَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ.
وَانْقَسَمَ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ، فَرِيقٌ يَرَى أَنَّ الْخُرُوجَ إِنَّمَا كَانَ لإِنْقَاذِ العِيرِ، وَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ، فلا مَعْنَى إِذًا لِلسَّيْرِ، وَفَرِيقٌ يَرَى رَأْيَ أَبِي جَهْل، فَيَدْعُو إلى مُواصَلَةِ السَّيْرِ، وَكَانَ من الفريقِ الأَوَّلِ بَنُوا عَدِيٍّ، وَبَنُوا زَهْرَةَ، وَمِمَّنْ أَشَارَ بِالرُّجُوعِ الأَخْنَسُ بنُ شَرِيْقٍ فَعَصَوْهُ فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُوا زَهْرَةَ فَلَمْ يَشْهدْ بَدْرًا زُهْرِيُّ، فَاغْتَبَطَتْ بَنُوا زَهْرَةَ بَعَدَ ذَلِكَ بِرَأْي الأَخْنَسِ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظَّمًا، وَأَمَّا الفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ وَاصَلُوا السَّيْرَ تَحْتَ ضَغْطِ أَبِي جَهْلٍ وَشِيعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَسِيرُ عَلَى غَيْرِ مَا يَرَى مِنَ الرَّأْيِ، وَمَا يُضْمِرُ مِنَ العَقِيدَةِ، إِنَّمَا يَسِيرُ تَحْرُّجًا، وَمَدَارَاةً لِسَفَاهَةِ السُّفَهَاءِ، وَمَا زَالُوا يَسِيرونَ وَيَنْحَرُونَ، وَيُطْمِعُونَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُغَنُّونَ وَيُصَفِّقُونَ وَيُعَلِنُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكُلِّ الوسَائلِ وَالدِّعَايَاتِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلى وَادِي بَدْر، فَنَزَلُوا بالعُدْوَةِ القُصْوَى. اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الْجَبينُ وكَثُرَ الأنينُ وأَيِسَ مِنَّا الْقَريبُ والطبيبُ وَبكى عَلَيْنَا الصديقُ والحبيبُ وَارحَمْنَا يَا مَولانَا إِذَا وَارانَا التُّرابُ وَوَدَّعَنَا الأحْبَابُ وَفَارَقْنَا النَّعِيمَ وانقطَع عَنَّا النَّسِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ الوَاسِعَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/42)
فَصْلٌ: وَلما بلغ رَسُول الله ? خُرُوجُ قُرَيْش اسْتَشَار أَصْحَابَهُ، فَتَكَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا، فَاسْتَشَارَهُمْ ثَانِيًا فَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فَأَحْسَنُوا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا، ثُمَّ قَالَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» . يُرِيدُ بِذَلِكَ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ القَوْمِ عَدَدًا، وَكَانُوا قَدْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعُوهُ في دِيَارِهِمْ، أَمَّا في خَارِجِ دِيَارِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ عَهْدٌ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ، إِلا أَنْ يَرَوْا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمُوا أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فَبَادَرَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُنَا. قَالَ: «أَجَلْ» . فَقَالَ سَعْدُ: إِنَّكَ عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَأَحَدَثَ اللهُ لكَ غَيْرَهُ، فَانْظُر الذِي أَحْدَثَ اللهُ إِلَيْكَ، فَامْضِ إِلَيْهِ، فَإِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عُهُودَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَلَعَلَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَخْشَى أَنْ لا تَكُونَ الأَنْصَارِ تَرَى عَلَيْهَا، أَنْ لا يَنْصُرُوكَ إِلا في دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عن الأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مِنْهَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ البَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَاللهِ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ في الْحَرْبِ، صُدَّقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تُقرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَسُرَّ لِذَلِكَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْبَسَطَ وَجْهُهُ، وَبَدَا عَلَيْهِ البِشْرُ وَالرِّضَى والنَّشَاطُ.
وَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ: لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى(6/43)
{اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . ولكن نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ، فَأشْرَقُ وَجْهُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُرَّ بِمَا سَمِعَ، وَقَالَ: «سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَوْم» . فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى بَدْرٍ حَتَّى نَزَلَ عِشَاءً أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ، فَقَالَ الْحُبَابُ بن الْمُنْذِر - وَكَانَ خَبِيرًا بِمِيَاهِ بَدْرٍ -: يَا رَسُولَ اللهِ أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَ مِنْهُ أَوْ نَتَأَخَّرُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ» . فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِي أَدْنَى مَاءٍ مِنْ القَوْمِ، فَنُنْزِلَه، فَإِنِّي أَعْرِفُ غَزَارَةَ مَائِهِ وَكَثْرَتهَ، فَننْزِلُهُ وَنُغَوّرُ مَا عَدَاهُ مِنْ الآبَارِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنَمْلؤُهُ مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بالرأي» . وَنَهَضَ بأصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلُوا، ثُمَّ بَنُوا الْحَوْضَ عَلَى البِئْرِ، حَيْثُ أَشَارَ الْحُبَابُ، وَطَمَسُوا كُلَّ مَا وَرَاءَهُمْ مِن الآبَارِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ الزَّلَلِ وَوَفِّقْنَا لِصَالِحِ العَمَلِ وَهَدَانَا بِفَضْلِهِ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَطَرِيقَ السَّدَادِ إِنَّهُ جَلَّ شَأنُهُ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ اهْتِفُوا بالقُلُوب لَعَلَّهَا تَسْتَيْقِظُ مِنْ وَسَنِ الرُّقَادِ وَاصْرِفُوا نُفُوسَكمْ عَنْ مَوَارِدِ الإِبْعَادِ في دارِ النُّقْلَةِ وَالزَّوَالِ آثارَ السَّلَفِ الزُّهَادِ فَقَدْ نَاحَتْ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلها بَألْسُنِ الانْقِلابِ وَلاحَتْ لَكُمْ مِنْ الآخرةِ شَوَاهِدُ الاقْتِرَابِ وَأَنْتُمْ عَمَّا أَضَلَّكُمْ مِنْهَا غَافِلُونُ وَبِمَا غَرَّكُمْ(6/44)
وَأَلْهَاكُمْ عَنْهَا مُتَشَاغِلُونَ كَأَنَّكُمْ بِحَقِيقَةِ مَعْرِفَتِهَا جَاهِلُونَ أَوْ كَأَنَّكُمْ إِلى غَيْرِهَا رَاحِلُونَ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَاتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَنْهُ مُنْقَلِبُونَ وَانْهَضُوا في التَّزوَّدِ لِمَا أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَإِنَّ أَمَامَكمْ صَيْحَةٌ تُلْحِقُ الأَحْيَاءَ مِنْكُمْ بالأَمْوَاتِ وَتَذْهَلُ مَعَهَا النُّفُوسُ عَنْ مُلابَسَةِ اللذاتِ فَمَا أَقْرَبَ الوُصُولِ إِلَيْهَا لِمَنْ مَطَايَاهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْمُبْلِيَانِ لِكُلِّ جَدِيدٍ الْمُقَرِّبَانِ لِكُلِّ بَعِيدٍ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَتْ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي مَطَايَاهُ سَارَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ. وَكَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلى أَخٍ لَهُ فَقَالَ: اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّكَ مُقِيمٌ وَأَنْتَ دَائِبُ السَّيْرِ تُسَاقُ سَوْقًا حَثِيثًا وَالْمَوْتُ مُتَوَجّهٌ إِلَيْكَ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكَ وَمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ فَلَنْ يَرْجَعَ إِلَيْكَ.
شِعْرًا:
تَمُرُّ اللَّيَالِي وَالْحَوَادثُ تَنْقَضِي
كَأَضْغَاثِ أَحْلام وَنَحْنُ رُقُودُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا كُلُّ سَاعَةٍ
تَجِدُ بِنَا سَيْرًا وَنَحْنُ قُعُودُ
آخر: ... وَما هَذِهِ الأَيّام إِلا مَراحِل
يَحُثُ بِهَا حَادٍ مِن الْمَوْتِ قَاصِدُ
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا
مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ
آخر: ... أَتَحْسَبِ العُمْرَ مَرْدُودًا تَصَرُمُهُ
هَيْهَاتَ أَنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِنْ الْحُقُبِ
فَبَادِرِ العُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِمًا
مَا دُمْتَ حَيًّا فَإِنَّ الْمَوْتَ في الطَّلَبِ(6/45)
.. فالعُمُرُ مُنْصَرِمٌ والوَقْتُ مُغْتَنَمٌ
وَالدَّهْرُ ذُو غَيْرٍ فَأجْهَد به تُصِبِ
كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ لأهْلِهِ: أَسْتَوْدِعُكُمْ اللهِ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ مَنِيَّتِي التِي لا أَقُومُ مِنْهَا وَكَانَ هَذَا دَأبَهُ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ. وَقَالَ آخَرُ: إِنْ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَنْ لا يَبِيتَ إِلا وَعَهْدُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَكْتُوبُ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَبِيتُ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا وَيُصْبَحُ فِي أَهْلِ الآخِرَةِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي لِكُلّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِمَحَلٍّ تَطْرُقُهُ السَّيَارَاتُ في وَقْتِنَا الذي كَثَر فِيهِ مَوْتُ الفُجَاءِ بسَبَبِ السُّرْعَةِ الْمُفْرِطَةِ مِنْ سَائِقِي السَّيَارَاتِ الذين لَيْسَ عِنْدَهُمْ حُرْمَةٌ لِلْمُسْلم نَسَأْلُ اللهَ الْحَيَّ القَيُّومَ أَنْ يوفِقَ وُلاتَنَا لِلأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَرَدْعِهِمْ لِيَأْمَنَ الْمَشَاةُ وَيَطْمَئِنُّوا بَإِذْنِ اللهِ تعالى:
إِنّي أَرِقتُ وَذِكرُ المَوتِ أَرَّقَني
وَقُلْتُ لِلدَّمْعِ أَسْعِدْنِي فَأَسْعَدَنِي
يَا مَن يَمُوتُ فَلَمْ تُحْزِنْهُ مَيْتَتُهُ
وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَولاهُ بِالْحَزَنِ
تَبْغِي النَّجَاة مِنَ الأَحْدَاثِ مُحْتَرِسًا
وَإِنَّمَا أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ
يَا صَاحِبَ الرَّوْحِ ذِي الأَنْفَاسِ في بَدَنٍ
بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ مُرتَهَنِ
لَقَلَّمَا يَتَخَطَّاكَ اِختِلافُهُمَا
حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ
طِيبُ الْحَياةِ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ
وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثْقَالِ وَالْمُؤَنِ(6/46)
لَمْ يَبْقَ مِمَّا مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ
كَأَنَّ مَنْ قَدْ مَضَى بِالأَمْسِ لَمْ يَكُنِ
وَإِنَّمَا الْمَرءُ فِي الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ
سَائِلْ بِذلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالزَمَنِ
مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ لِلْمُلْقِي بِعِبرَتِهِ
بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّجْرِيبِ وَالفِطَنِ
أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً
فَمَا يَغُرُّكَ فِيهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ
لأَعْجَبَنَّ وَأَنَّى يَنْقَضِي عَجَبِي
النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ وَالْمَوتُ في سَنَنِ
وَظَاعِنٍ مِنْ بَيَاضِ الرَّيطِ كِسْوَتُهُ
مُطَيَّبٍ لِلْمَنايَا غَيْرِ مُدَّهِنِ
غَادَرْتُهُ بَعْدَ تَشْيِيعَيهِ مُنْجَدِلاً في
قُرْبِ دَارٍ وَفي بُعْدٍ مِنَ الوَطَنِ
لا يَسْتَطيعُ اِنْتِقَاصًا في مَحَلَّتِهِ
مِنَ القَبِيحِ وَلا يَزْدَادُ في الْحَسَنِ
مَا بَالُ قَوْمٍ وَقَدْ صَحَّتْ عُقُولُهُم
فِيمَا ادَّعَوا يَشْتَرُونَ الغَيَّ بِالثَمَنِ
لِتَجْذِبَنّي يَدُ الدُّنْيَا بِقُوَّتِها
إِلى الْمَنَايَا وَإِنْ نَازَعْتُهَا رَسَنِي
وَأَيُّ يَوْمٍ لِمَنْ وَافَى مَنِيَّتَهُ(6/47)
.. يَوْمٌ تَبَيَّنُ فِيهِ صُورَةُ الغَبَنِ
لله دُنْيَا أُنَاسٍ دَائِنِينَ لَهَا
قَدْ ارْتَعَوا في رِيَاضِ الغَيِّ وَالفِتَنِ
كَسَائِمَاتٍ رَوَاعٍ تَبْتَغِي سِمَنًا
وَحَتْفُهَا لَوْ دَرَتْ في ذَلِكَ السِّمَنِ
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ النِّفَاقِ وَعَمَلنَا منَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنْ الكَذب اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهْتَدِين اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْْرِكِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ: وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى كِتْمَانِ أَمْرِهِ عَنْ النَّاسِ، حَتَّى لا يَقِفَ على حَقِيقَتِهِمْ أَحَدٌ، وَلا يَعْرِفَ مَقْصَدَهمْ أَحَدٌ فَجَعَلَ كُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلاً يَسْأَلُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، وَيَبْحَثُ عَنْهُمْ في حَيْطَةٍ وَحَذَرٍ.
وَرَوَى ابن إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلى شَيْخٍ مِنْ العَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ ذَاكَ بِذَاكَ» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابِهِ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الذِي أَخْبَرَنِي فَهُمْ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ(6/48)
الذي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مِنْ مَاءَ» . ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، قَالَ: يَقُولُ الشَّيْخُ: مِنْ مَاءٍ أَمِنْ مَاءَ العِرَاقِ.
فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلَيَّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَالزَّبَيْرُ بن العَوَّامِ، وَسَعْدَ بن أبي وَقَّاصِ، في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلى مَاءِ بَدْرٍ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوا سُقَاةَ قُرَيْشٍ يَسْقُونَ لَهُمْ فَأَمْسَكُوا بِغُلامَيْنِ مِنْهُمْ، فَجَاءوُا بِهِمَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَجَعَلَ القَوْمُ يَسْأَلُونَهُمَا لِمَنْ أَنْتُمَا؟ وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَا مِنْ سُقَاةِ العَيْرِ، فَقَالَ الغلامان: نَحْنُ مِنْ سُقَاةِ قُريشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمَا يَكْذِبَانِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُمَا، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُمَا فَيَقُولانِ: نَحْنُ لِقُرَيْشٍ. فَلَمَّا أَوْجَعُوهُمَا ضَرْبًا قالا: نَحْنُ لأبي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلاتِهِ قَالَ: «إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صدَقَا وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُريشٍ» . ثُمَّ سَألَهُمَا عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَالا: هُمْ وَاللهِ وَرَاءَ هَذَا الكَثِيبِ الذِي تَرَى، بالعُدْوةِ القُصْوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ القَوْمُ» ؟ قَالا: كَثِيرٌ، قَالَ: «مَا عِدَّتُهُمْ» ؟ قَالا: لا نَدْرِي، قَالَ: «كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ» ؟ قَالا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا مِنْ الْجُزُرِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمَائةِ وَالأَلْفِ» . ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ» ؟ فَجَعَلا يَذْكُرَانِ لَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاذَ كَبِدِهَا» . فَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّها الْحَرْبُ لا مَحَالَةَ.
اللَّهُمَّ قَوِّي إِيَمانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبُرسُلِكَ وباليومِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ(6/49)
وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) وَكَمَا أَشَارَ الْحُبَابُ بنُ الْمُنْذِرِ بِبِنَاءِ الْحَوْضِ، أَشَارَ سَعْدٌ بنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يَبْنُوا لَهُ عَرِيشًا، يَشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْرَكَةِ وَيُوَجِّهُهَا وَيَأْمَنُ غِرَّةَ العَدُوِّ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا، تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدُّ عندَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللهُ وَأظْهَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا وَإِنْ كَانَتْ الأُخْرَى جَلَسْتَ عَلَى رُكَائِبَكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بَأَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لكَ وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللهُ بِهِمْ، وَيُنَاصِحُونَك، وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ، ثُمَّ بُنِيَ العَرِيشُ عَلَى تَلٍّ، كَمَا أَشَارَ سَعْدٌ، وَأُعِدَّتْ عِنْدَهُ أَنْجَبُ الرَّكَائِب، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي الصُّفُوفَ، وَيَتَفَقَّدُ الرِّجَالَ، وَيُهَيِّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَدَفَع رَايتَهُ إِلى مُصْعَبِ بن عُمَيْرِ، فَتَقَدَّمَ بِهَا إِلى مَوْضِعِهَا الذِي أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِيهِ، ثُمَّ وَقَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلى الصُّفُوفِ، فَاسْتَقْبَلَ الْغَرْبَ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَرَاءَهُ، وَأَقْبلَ الْمُشْرِكُونَ، فَاسْتَقْبَلُوا الشَّمْسَ.
وَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، يَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي الأَجْرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَحُثِّكُمْ عَلَى مَا حَثَّكُمْ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّ اللهَ عَظِيمٌ شَأْنُهُ، يَأْمُرُ بالْخَيْرِ، وَيُحِبُّ الصِّدْقَ، وَيُعْطِي الْخَيْرَ أَهْلَهُ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ، وَإِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ بِمَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْحَقِّ لا يَقْبلُ اللهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهَهُ، وَإِنَّ(6/50)
الصَّبْرَ في مَوَاطِنِ الْبَأسِ مِمَّا يُفَرِّجُ اللهُ بِهِ الْهَمَّ، وَيُنْجِي بِهِ مِنْ الغَمِّ، وَتُدْرَكُ بِهِ النَّجَاة فِي الآخِرَةِ، فِيكُمْ نَبِيُّ اللهِ، يُحَذِّرُكُم وَيَأْمُرُكُم، فَاسْتَحْيُوا اليَوْمَ أَنْ يَطَّلِعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكُم يَمْقُتُكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {َمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} وَأَبْلُوا رَبَّكم في هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَمْرًا تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الذي وَعَدَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَعِقَابَهُ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ باللهِ الْحَيِّ القَيُوم، إليهِ أَلْجَأْنَا ظُهُورَنَا، وَبِهِ اعْتَصَمْنَا، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلنَا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرِ، يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ» .
وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ تَنْصَبُّ إِلى الوَادِي مِنْ الكَثِيب، وَعَدَدُ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ من الأَلْفِ مُقَاتِل، وَمَعَهُمْ مَائَةُ فَرَسٍ، وَسَبْعُمَائَةِ بَعِير، وَرُوِيَ أَنَّ أَيْمَاءَ بن رُخْصَةَ بَعَثَ إِلى قُرَيْشٍ ابْنَا لَهُ بعَشْرِ جَزَائِرِ، أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَمُدَّكُم بِسِلاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَوْصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَلَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ فَمَا لأَحَدٍ باللهِ طَاقَةٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَتَهُمْ، وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، تَوَجَّهَ إلى اللهِ يَسْتَعِينُهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشُ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ فَأحِنْهُمُ الغَد» .
اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء.
اللَّهُمَّ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَأَلْهِمْنَا(6/51)
ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ بِحُضُورِ قَلْبٍ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ. وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَسْتَوْثِقُوا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ أَنْ يُنَازِلُوهُمْ، فَأَرْسَلُوا عُمَيْرَ بن وَهْبٍ الْجُمَحِي يَحْرُزُ لَهُمْ أَعْدَادَ الْمُسْلِمِينَ تَقْرِيبًا، وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ، فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ عُمَيْرُ رَأَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنْظَرٍ يَبْعَثُ الرُّعْبَ والذُّعْرَ وَالْخَوْفَ وَيَسْتَوْجِبُ الْحَذَرَ الشَّدِيدَ، قَوْمٌ قَلِيلٌ عَدَدَهُمْ، وَلَكِنْ صُوَرُ الْمَوْتِ تَتَرَاءَى مِنْ مَنَاظِرِهِمْ، قَدْ تَرَاصَتْ صُفُوفُهُمْ، كَمَا يَتَرَاصُ البُنْيَانِ، وَتَلاحَمَتْ أَجْسَامُهُمْ كَمَا يَتَلاحَمُ الْحَدِيدُ، وَجَثُوا عَلَى الرُّكَبِ مُسْتَوْفِزِين، يَتْنَمَرُونَ تَنَمُّرَ الأُسُودِ الضَّوَارِي، وَيَتَلَمَظُونَ تَلَمُظَ الأفَاعِي، وَيَدُورُونَ بِعُيُونٍ تَبْعَثُ الْمَوْتَ حَيْثُمَا دَارَتْ، وَتَتَحَرَّكَ شِفَاهُهمُ بِمَا لا تَظْهِرُهُ أَصْوَاتُهُمْ، يَسُودُهُمْ صَمْتٌ رَهِيبٌ وَتَصْمِيمٌ عَجِيبٌ، وَعَزْمٌ صَارِمٌ عَلَى الاسْتِمَاتَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى لَكَأَنَّهُمْ بَاعُوا لَهَا نُفُوسَهُمْ، فلا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلى أَهْلِيهِمْ، فَأَخَذَ عُمَيْرُ بِهَذَا الْمَنْظِرِ الْمُفْزِعِ الْمُقْلِقِ، وَرَجَعَ إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ البَلايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا.. نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَلا مَلْجَأ إِلا سُيُوفَهُمْ، والله ما أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ رَجُلاً مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ(6/52)
أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرُوا رَأْيَكُمْ، فَتَعَاظَمَتْ في أَعْيُن قُرَيْشٍ هِيبَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَانْهَارَتْ قُوَاهُمْ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَحَلَّ الْخَوْفِ مَحَلَّ التَّكَبر وَالزَّهْوِ وَالطُّغْيَانِ وَالاحْتِقَارِ، وَلَكِنْ ضَافَ عَلَى الْخَوْفِ التَّجَلُّدُ وَالْمُجَامَلَةُ، وَأَخَذَ الْخِلافُ يَدِبُّ بَيْنَ صُفُوفِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمْشِي إِلى بَعْضٍ، رَجَاءَ أَنْ يَنْفَضُوا قَبْلَ أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ، وَيَحْتَدِمُ الْقِتَالُ، وَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيَنْهُم مِن خِلافٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعْذِرَ إِلَيْهِمِ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لَهُمْ: ارْجِعُوا فَإِنَّهُ يَلِي هَذَا مِنِّي غَيْرَكُمْ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ تَلَوْهُ مِنِّي، فَقَالَ حُكَيْمُ بن حِزَامٍ: قَدْ عَرَضَ وَاللهِ نِصْفًا فَاقْبَلُوهُ وَمَشَى إِلى عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الوَلِيدِ أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدَهَا وَالْمُطَاعِ فِيهَا، فَهَلْ لَكَ أَلا تَزَالَ تُذْكَرَ مِنْهَا بِخَيْرٍ آخِرَ الدَّهْرِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلْ دَمَ حَلِيفِكَ ابن الْحَضْرَمِي، وَمَا أَصَابَ مُحَمَّدٌ مِنْ تِلْكَ العِيرِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: قَدْ فَعَلْتُ وَأَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ في الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي لا تُقَاتِلُونَ هَذَا الرَّجُلَ وَأَصْحَابَهُ، اعْصُبُوا هَذَا الأَمْرَ بِرَأْسِي، وَاجْعَلُوا جُبْنَهَابِي فَإِنَّ مِنْهُمْ رِجَالاً قَرَابَتَهُمْ قَرِيبَةً، وَلِئِنْ أَصَبْتُمُوه لا يَزالَ الرَّجلُ مِنْكُمْ يَنْظُرُ إلى قَاتِلِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَيُورِثُ ذَلِكَ مِنْكُمْ شَحْنَاءَ وَأَضْغَانًا، وَلَنْ تَخْلَصُوا إِلى قَتْلِهِم حَتَّى يُصِيبُوا مِنْكُمْ عَدَدَهُمْ وَلا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدَّبِرَةُ عَلَيْكُم، وَأَنْتُم لا تَطْلُبُونَ إِلا دَمَّ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْعِيرِ التِي أَصَابَ، وَأَنَا أَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَيَّ، يَا قَوْمُ إِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا يَكْفِيكُمُوهُ ذُؤبَانُ العَرَبِ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا أَكَلْتُمْ في(6/53)
مُلْكِ ابن أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ نَبِيًّا كُنْتُم أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، يَا قَوْمُ لا ترُدُوا نَصِيحَتِي، وَلا تُسَفَّهُوا رَأْيِي.
وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ شَيْطَانُ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، فَجَعَلَ يُسَفِّهُ رَأَيْ عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ، وَيَصِفُهُ بالْجُبْنِ، وَيُشِيعُ في النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ إِلا خَوْفًا عَلَى ابْنِهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَدْ رَأَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَكْلَةَ جَزُورٍ، فَخَافَ عَلَى ابْنِهِ أَنْ يُقْتَلَ مَعَهُمْ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الشَّرِّ، وَيَقُولُ: لا وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَاسْتَفْتَحَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْطَعْنَا ِللرَّحِمِ، وَآتانَا بِمَا لا نَعْرِفُ فأَحِنْهُ الغَدَاة.
اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، وَأَرْضَى عِنْدَكَ، فَانْصُرْهُ الَيْوَمَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وَبَعَثَ إلى عَامِرِ بن الْحَضْرَمِي الذِي قُتِلَ أَخُوهُ في نَخْلَةَ، فَجَعَلَ يُحَرِّضُهُ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ ثَأرَ أَخِيهِ، فَقَامَ ابن الْحَضْرَمِي، (فَجَعَلَ يَحْثُوا عَلَى نَفْسِهِ التُّرَابَ وَيَصِيح وَاعُمَرَاهْ وَاعُمَرَاهْ) فَحَمِيَ النَّاسُ وَاسْتَوْثَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ وَأَخَذُوا أُهْبَةَ الزَّحْف، وَاسْتَعَدُّوا للْقِتَالْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(مَوْعِظَةٌ)
عِبَادَ اللهِ انْتَبِهُوا لِلْمَوَاعِظِ وَاعْمَلُوا بِهَا فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّمَا هِيَ نِعْمَةٌ مِنْ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كَانَتْ حُجَّةً مِنْ اللهِ(6/54)
عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إثْمًا وَيَزْدَادُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سُخْطًا.
عِبَادَ اللهِ كَمْ قَدْ نُهِيتُمْ عن الاغْتِرَارِ بالدُّنْيَا وَحُطَامِهَا الْفَانِي وَالطَّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا وَالانْخِدَاعِ بِزَخَارِفِهَا وَكَمْ قَدْ نُهِيتُمْ عَنْ الإِيثَارِ لَهَا عَلَى الآخِرَةِ وَالاشْتِغَالِ بِهَا عَنْهَا قَالَ اللهُ تَعَالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ، وَقَالَ تَعَالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} وَإِنَّ دَارًا يَا عِبَادَ الله أَوْصَافِهَا فِي كِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إِنَّها َغرُوْرٌ وَمَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَعِبٌ وَلَهِوٌ وَمَمَرٌّ وَطَرِيْقَ إِِلى الآخِرَةِ كَمَا هُوَ الوَاقِعُ دَارٌ مَمْلُؤَةٌ بالأكْدَارِ والْمَصَائِبَ والآلام والأَحْزَانِ دَارٌ ماَ أَضْحَكَتْ إِلا وَأَبِكَتْ ولا سَرَّتْ إِلا وأَسَاءَتْ دَارٌ نِهَايَةُ قُوَّةِ سَاكِنِيهَا إِلى الضَّعْفِ وَنِهَايَةُ شَبَابِهِمْ إِلى الْهَرَمِ وَنِهَايَةُ حَيَاتِهِمْ الْمَوْت.
اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا وَاسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا، وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِرِ وَاسْتُرْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِرِ، وَلا تُخْلِنَا في مَوْقِفِ القِيَامَةِ من بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ وَلا تَتْركْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإِحْسَانِكَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/55)
شِعْرًا: ... أَيَا بَانِيَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَبْتَنِي ... وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ
أَرَى الْمَرْءُ وَثَّابًا علَى كُلِّ فُرْصَةٍ
وللْمَرْءِ يَومًا لا مَحَالَةً مَصْرَعُ
آخر:
يَأْتِي عَلَى النَّاسِ إِصْبَاحٌ وَإِمْسَاءٌ
وَحُبَّنَا هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الدَّاءُ
كَمْ أَيقَضَتْ بِصُروفٍ مِنْ حَوَادِثِهَا
وَكُلَّنَا لِصُرُوفِِ الدَّهْرِ نَسَّاءُ
أَيْنَ الْمُلُوكَ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ
قَادُوا الْجُنُودَ وَنَالُوا كُلَّ مَا شَاءُوا
وَأَيْنَ عَادٌ وَاقْيَالَ الْمُلُوكِ وَمَنْ
كَانَتْ لَهُمْ عِزَّةٌ فِي الْمُلُوكِ قَعْسَاءُ
قَدْ مُتِعُوا بِقَلِيلٍ مِنْ زَخَارِفِهَا
فِي عِزَّةٍ فَإِذَا النَّعْمَاءُ بَأْسَاءُ
نَالُوا يَسِيرًا مِنَ اللَّذَاتِ وَانْصَرفُوا
عَنْ دَارِهَا وَاِقْتَفى اللَّذَاتَ أَسْوَاءُ
دَارٌ هَذَا وَصْفُهَا وَوَاقِعُهَا فَهَلْ يَغْتَرُّ بِهَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ هَلْ يَأْمَنُهَا أَوْ يَطْمَئِنُ إِلَيْهَا ذُو عَقْلٍ رَزِين هَلْ يُعَادِي وَيُشَاحِنُ وَيُوَالِي مِنْ أَجْلِهَا إِلا نَاقِصُ الْعَقْلِ وَالدِّين فَاتَّقُوا اللهَ يَا عِبَادَ اللهِ وَكُونُوا مِنْ تَقَلبهَا عَلى غَايَةِ الْحَذَرِ وَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَذَلِّلُوا دُنْيَاكُمْ لآخِرَتِكُمْ وَاسْتَخْدِمُوهَا فِي الذي يُرْضِي رَبَّكُمْ فَإِنَّ الدُّنْيَا نِعْمَ الْمَطِيَّةُ لِمَنْ اسْتَخْدَمَهَا لِلآخِرَةِ وَلَنْ يَصْحَب الإنسانُ إِذَا فَارَقَهَا وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلا مَا قَدَّمَهُ فِيهَا مِنْ صَالِحِ(6/56)
الأَعْمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ هُجُومِ هَاذِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقِ الْجَمَاعَاتِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِي فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا. وَرَوَى البُخَارِيُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَيَقُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابن عَبَّاسٍ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَتِّكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» .
عَسَى تَوْبَةٌ تُمْحَى بِهَا كُلُّ زَلَّةِ
وَتَغْسِلُ أَدْرَانَ القُلُوبِ الْمَرِيضَةِ ِ
أَجدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا
وَهَلْ هِيَ إِلا دَارُ بُؤْسٍ وَحَسْرَةِ
وَلَمْ أَرَى فِيهَا مَا يَرُوقَ بَلَى بِهَا
تُرِيقُ دَمَ الأَعْمَارِ أَسْيَاقُ غَفْلَةِ
إِذَا أُدْرِكَتْ فِيهَا مَسَرَّةُ سَاعَةٍ
أَتَتْكَ إِسَاءَاتٌ تُنْسِيكَ بالَّتِي(6/57)
وَإِنْ عَطَفَتْ فَالْعَطْفُ عَطْفَ تَوَهُمٍ
فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِعَطْفَةِ
رَأَيْنَا أُنَاسًا قَدْ أَنَاخَتْ بِسَوْحِهِمْ
وَقَالَتْ خُذُوا مِنْ زَهْرَتِي كُلَّ مُنْيَةِ
فَغَرَّتْهُمُ حَتَّى اسْتَبَاحُوا حَرِيمَهَا
وَحَطُّوا بِهَا الأَثْقَالَ مِنْ كُلِّ شَهْوَةِ
فَمَا هِيَ إِلا أَنْ أَرَتْهُمْ نَعِيمَهَا
وَمَدَّدُوا أَعْنَاقًا إِلى كُلِّ لِذَّةِ
أَتَتْهُمْ فَأَجْلَتْ عَنْهُمُ كُلَّ شَهْوَةٍ
أَرَادُوا وَأَخْلَتْ مِنْهُم كُلِّ غُرْفَةِ
فَصَارُوا أَحَادِيثًا لِكُلِّ مُحَادِثٍ
وَهُمْ سَمَرُ السُّمَارِ فِي كُلِّ سَمْرَةِ
وَلِلْعَيْنِ كَانُوا قُرَّةً ثُمَّ أَصْبَحُوا
وَهُمْ عِبْرَةٌ تَجْرِي بِهَا كُلُّ عَبْرَةِ
تَبَدَّلَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ
فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ فِيهَا بِرُتْبَةِ
فَصِحَّتُهَا وَالعِزُّ وَالْمَالُ بَعْدَهَا
سَقَامٌ وَذِلٌ وَافْتِقَارٌ بِقِلَّةِ
أَرَى هَذِهِ الأَعْمَارَ أَحْلامَ نَائِمٍ
وَلَذَتَهَا طَيْفًا أَلَمَّ بِمُقْلَتِي
أَلَسْتَ تَرَى الأَتْرَابَ قَدْ رَحَلُوا إلى(6/58)
.. تُرَابٍ وَحَلَّوا فِي مَنَازِلِ وَحْشَةِ
مُقِيمِينَ فِيمَا يَنْظُرُونَ مَتَى مَتَى
تَرُوحُ إِلَيْهِمْ فِي عَشِيٍّ وَبُكْرَةِ
وَتُقْبِلُ في جَيْشٍ قُصَارَى مَرَامِهِمْ
نُزُولُكَ فَرْدًا حُفْرَةً أَيَّ حُفْرَةِ
وَيَحْثُو عَلَيْكَ التُّرْبَ كُلُّ مُشَيِّعٍ
ثَلاثًا وَهَذَا مِنْ فِعَالِ الأَحِبَةِ
فَتَنْزِلُ دَارَ لا أَنيِسَ بِهَا وَلا
خَلِيلَ بِهَا تُفْضِي إِلَيْهِ بِخُلَّتِي
سِوَى رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ يَا خَيْرَ رَاحِم
أَسَأْنَا فَقَابِلْنَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةِ
وَصَلِّي عَلَى الْمُخْتَارِ وَالآلِ إِنَّهَا
لِحُسْنِ خِتَامِ فِي نِظَامِ القَصِيدَةِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مِنَاهِجِ الْمُتَّقِين وَخصَّنَا بِالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإجَابَةِ وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ النَّصُوح وَالإنَابَةِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرِفَةِ بِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. واللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.(6/59)
(فَصْلٌ)
وَعَبَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ تَعْبِئَةٍ لأَصْحَابِهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَقَالَ لَهُمْ: «لا تَحْمِلُوا حَتَّى آمرَكُم، وَإِنْ اكْتَنَفَكُم القَوْمُ فَاتْصَنحُوا عَنْكُمْ بالنَّبْلِ، وَلا تَسْلُوا السُّيُوفِ حَتَّى يَغْشُوكُم» . ثُمَّ رَجَعَ إِلى العَرِيشِ، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَامَ سَعْدُ ابنُ مُعَاذٍ وَاقِفًا عَلَى البَابِ بَابِ العَرِيشِ، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنْ الأَنْصَارِ، يَحْرِسُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا عَلَيْهِ أَنْ يَدْهَمُهُ العَدُوُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّجَائِبُ مُهَيَّأَةٌ لَهُ إِنِ احْتِاجَ إِلَيْهَا رَكِبَهَا وَبَدَأْتَ قُرَيْشٌ الزَّحْفَ، فَانْدَفَعَ مِنْ صُفُوفِهَا الأَسْوَدُ ابنُ عَبْدِ الأَسَدِ الْمَخْزُومِي، إلى حَوْضِ الْمَاءِ الذي أَقَامَهُ الْمُسْلِمِونَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَعَاهِدُ اللهَ لأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لأَمُوتَنَّ مِنْ دُونِهِ، فَتَلَقاهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِضَرْبَةٍ مِنْ سَيْفِهِ أَطَنَّ بِهَا سَاقَهُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ يَزْحَف حَتَّى وَصَلَ إِلى الْحَوْض، فَجَعَلَ حَمْزَة يُتْابِعَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ، وَحَمَىَ عَتُبَة بنُ رَبِيعَةَ مِنْ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ، فَانْدَفَعَ مِنَ الصَّفِ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ، وَابْنِهِ الوَلِيدِ، يَدْعُونَ إِلى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةٌ مِن الأَنْصَارِ، عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ وَعَوْفُ وَمُعَوِّذُ أَبْنَاءُ عَفراءَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: مِنَ الأَنْصَارِ. قَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَام، وَإِنَّما نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا، وَنَادَوْا يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إَلِيْنَا أَكْفَاءَنَا، فَأَخْرَجَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةَ بن الْحَارِثِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيَّ بن أَبِي(6/60)
طَالِبٍ فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ فَلَمْ يَلْبَثْ كُلٌ مِنْهُمَا أَنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ، وَأَمَّا عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْن، فَوَقَعَ كِلاهُمَا عَلَى الأَرْضِ، فَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بَأسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ، فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَحَمَلا عُبَيْدَةَ فَجَاءا بِهِ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قُطِعَتْ سَاقُهُ، وَجَعَلَ مُخُهَا يَسِيل، فَأَفْرَشَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدمَهُ الشَّرِيفَة، وَبَشَّرَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَهُنَا حَمِيَ الْمُشْرِكُون، وَهَجَمُوا عَلَى صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، هُجُومَ السَّيْلِ الْجَارِفِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْسِرُوا هَجَمَاتِهِمْ بِالنَّبْلِ، وَهُمْ مُرَابِطُونَ فِي أَمَاكِنِهم، فَلَمَّا أَوْشَكَ الصَّفَانِ، أَنْ يَتَلاحَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِمْ وَنَادَى قَائِلاً: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُقَاتِلُهُمْ اليَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتِسَبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ» . فَهَجَمَ الْمُسْلِمُونَ بِقُلُوبٍ مِلْؤُهَا الإِيمَانُ بِالْحَقِّ، وَالرَّغْبَةُ فِي الشَّهَادَةِ، وَالطَّمَعُ في ثَوَابِ اللهِ، وَجَعَلُوا أَهْدَافَهُمْ رُؤوسَ الكَفَرَةِ، يَتَصَيَّدُونَهُمْ وَسَطَ الْجُمُوعِ الزَّاحِفَة، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَلَيْهِمْ كَالصَّوَاعِقِ، وَهُمْ يَتَصَايَحُونَ تَصَائِحَ الأُسُودِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ.
ثُمَّ حَمِيَ الوَطِيسُ وَاسْتَدَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ، وَاشْتَدَّ القِتَالُ، وَهَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَيَاةُ، وَلَذَّتْ لَهُمْ الشَّهَادَةُ، وَاسْتَعْجَلُوا الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهَا، حَتَّى إِنَّ عُمَيْرَ بنَ الْحُمَامِ لِيَصِيحُ مِنْ فَرْطِ سُرُورِهِ وَيَقُولُ: بَخٍ بَخٍ أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلاءِ؟ ثُمَّ يَرْمِي مِنْ يَدِهِ تَمَرَاتٍ كَانَ يَأكُلُ مِنْهَا، وَيَقُولُ: لَئِنْ أَنَا حَيَيْتُ(6/61)
حَتَّى آكَلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ يَنْدَفِعُ إِلى الْمَعْرَكَةِ انْدِفَاعَ السَّهْمِ، وَحَتَّى إِنَّ عَوْفَ بن الْحَارِثِ لَيَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَضْحَكُ الرَّبُ مِن عَبْدِهِ فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «غَمْسُهُ يَدَهُ في العَدُوِّ حَاسِرًا» . فَيَنْزِعُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ سَيْفَهُ، وَيَخُوضُ فِي الْمَعْرَكَةِ لا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ، أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملءَ كَفِّهِ مِنْ الْحَصَى، فَرَمَى بِها وُجُوه العَدُوِّ، فَلَمْ تَتْرُكْ رَجُلاً مِنْهُمْ إِلا مَلأَتْ عَيْنَيْهِ، وَشُغِلُوا بالتُّرَابِ فِي أَعْيُنِهم، وَشُغِلَ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ في شَأْنِ هَذِهِ الرَّمْيَةِ عَلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} وَكَانَتْ الْمَلائِكَةُ يَوْمَئِذٍ تُبَادِرُ الْمُسْلِمِينَ إِلى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: بَيَنْمَا رَجُلٌ مِن الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِن الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمَعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الفَارِسِ فَوْقَهُ، يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، إِذْ نَظَرَ إِلى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشَقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَأَحْضَرَ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءََ الأَنْصَارِيُ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقْتُ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الأَنْصَارِي: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ لأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي، وَجَاءَ رَجُلٌ بالعباسِ بن عبدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ العَبَّاسُ: إِنَّ هَذَا وَاللهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَمَا أَرَاهُ في القَوْمِ، فَقَالَ الأَنْصَارِي: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اسْكُتْ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ، وَأُسِرَ مِنْ بَنِي(6/62)
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثَلاثَةً، العَبَّاسُ، وَعَقِيلٌ، وَنَوْفَلُ بن الْحَرثِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرَانِي عَنْ رِفَاعَةَ بن رَافِعٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا يَفْعَلُ الْمَلائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ القَتْلُ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَرْثَ بن هِشَامٍ هَارِبًا، حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ في البَحْرِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظْرَتَكَ إِيَّاي، فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لا يَهْزِمَنَّكُمْ خَذْلانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُم، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلا يَهُولَنَّكُم قَتْلُ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيد، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجَّلُوا فَوَالَّلاتِ وَالعُزَّى لا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْرِنَهُم بِالْحِبَالِ، وَلا أَلْفَيْنَ رَجُلاً مِنْكُمْ قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلاً، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخَذَا، حَتَّى نَعْرِفَهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَلا تَزَالُ تُضَاعفُ شَجَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَزْدَادُ قُوَاهُمُ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْحِسِّيَةُ وَتَزْدَادُ حَمَاسَتُهُمْ، حَتَّى لَيُحِسُّ الوَاحِدَ مِنْهُمْ أَنَّهُ كُفْءٌ لِعَشْرَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَتَضَاءَلَتْ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينِ كَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلُوا يَفْتَرِسُونَهُمْ كَمَا تَفْتَرِسُ الذِّئَابُ الْغَنَمِ، وَيَكْتَسِحُونَهُمْ كَمَا يَكْتَسِحُ السَّيْلُ الْغُثَاءَ، وَانْعَقَدَ فَوْقَ الْمَعْرَكَةِ جَوٌّ رَهِيبٌ، مَلأَ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّعْبِ، كَمَا مَلأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ مِن اللهِ العَزِيزِ الْحَكِيم.
وَرُوِيَ أَنَّ خُبَيْبَ بن يَسَافٍ كَانَ رَجُلاً شُجَاعًا، وَكَانَ يَأْبَى الإِسْلامَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إِلى بَدْرٍ، خَرَجَ هُوَ وَقَيْسُ بن مُحْرِثٍ، فَعَرَضَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجَا مَعَهُ، فَقَالَ: «لا يَخْرُجْ مَعَنَا رَجُلٌ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا» . فَقَالَ خُبَيْبٌ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي عَظِيمُ الغِنَاءِ في الْحَرْبِ، فَأقَاتِلُُ مَعَكَ لِلْغَنِيمَةِ، قَالَ: «لا، وَلَكِنْ أَسْلَمَ ثُمَّ قَاتلَ» .
اللَّهُمَّ يا فالقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا(6/63)
مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ العَمَلِ الذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَاحْفَظْنَا مِن الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَعَدُوِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَرِيشِهِ، يُتَابِعُ الْمَعْرَكَةَ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَارَةً يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْهِضُ هِمَمَهُمْ، وَيُقَوِي بِإِذْنِ اللهِ قُلُوبَهُم، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَتَارَةً يَصْعَدُ إِلى الْجَبَلِ يَدْعُو رَبَّهُ، وَيُكَرِّرُ دُعَاءَهُ وَابْتِهَالَهُ للهِ، وَمُنَاشَدَتُهُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مِنْكَبَيْهِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الصِّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ: بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأُغْفِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً وَاحِدَةً، وَأَخَذَ القَوْمُ النُّعَاسُ فِي حَالِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جَبِريلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، وَجَاءَ النَّصْرُ، وَأَنْزَلَ اللهُ جُنْدَهُ، وَأَيَّدَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين، وَمَنَحَهُم أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ أَسْرًا وَقَتْلاً، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى أَصْحَابِهِ، يَشُدُّ عَزَائِمَهُمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِنَصْرِ اللهِ وَيَقُولُ لَهُمْ: «شُدُّوا، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .. مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَا أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ، فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، تَصَدَّعَتْ لَهَا جُمُوعُهُمْ، وَانْهَارَتْ أَمَامَهَا قُوَاهُمْ وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ مَا أَصَابَ سَادَتِهم، فَأَلْقِيَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَخَذُوا يُلْقُونَ بِأَثْقَالِهِمْ، وَيَفِرُّونَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، نَجَاةً بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ(6/64)
الْمَوْتِ، فَانْقَضَّ الْمُسْلِمُونَ يَأسِرُونَ وَيَهْزِمُونَ وَيَغْنِمُونَ، وَلَمَا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيهُمْ يَأْسِرُونَ، نَظَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَرَأَى في وَجْهِهِ الكَرَاهَةَ لِمَا يَصْنَعُونَ، فَقَالَ: «لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ القَوْمُ» ؟ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَة أَوْقَعَهَا اللهُ بأَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ الإثْخَانُ في القَتْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ، وَهَكَذَا تَصَدَّعَتْ جُمُوعُ الشِّرْكِ، أَمَامَ قُوَّةِ الإِيمَانِ باللهِ وَرَسُولِهِ وَانْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنْ سَبْعِينَ قَتِيلاَ وَسَبْعِينَ أَسِيرَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ مَا خَلَّفَ الْمُشْرِكُونَ وَرَاءَهُمْ، مِنْ زَادٍ وَعَتَادٍ، أَمَّا الذِينَ فَازُا بِالشَّهَادَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَبَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ في الصَّبَاحِ، وانْتَهَتْ في عَصْرِ ذَلِكَ الْيَومِ الذِي هُوَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِن السَّنةِ الثانِيةِ لِلْهِجْرَةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْفَنَ الشُّهَدَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وأَنْ يُوَارَيَ الْقَتْلَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَلِيبٍ هُنَاكَ مَهْجُورَة، فَلَمَّا وُضِعُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رِبِّي حَقًّا» . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ ما تُخَاطِبُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جَيَّفُوا. فَقَالَ: «وَالذِي نَفْسِي بَيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بَأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْجَوَاب» .
وَرَوَى الْبُخَارِيّ في الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ الْتَفْتُ فإِذا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا إذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبه: يَا عَمُّ، أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ(6/65)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، قَالَ: فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلاَ تَرَيانِ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلانِي عَنْهُ. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ» ؟ . فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. قَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا» ؟ . فَقَالاَ: لاَ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ» . وَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. والرَّجُلانِ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ومُعَاذَ بنِ عَفْرَاءَ:
بُغْضُ الْحَيَاةِ وَخَوْفُ اللهِ أَخْرَجَنِي
وَبيَعُ نَفْسِي بِمَا لَيْسَتْ لَهُ ثَمَنَا
إنّي وَزَنْتُ الذي يَبْقَى لِيَعْدِلَهُ
مَا لَيْسَ يَبْقَى فَلا واللهِ مَا وَزَنَا
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
(مِن مَوَاعِظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَايَاهُ)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَلُّوا أَنْفُسَكُمْ بالطَّاعَةِ، وأَلْبِسُوهَا قِنَاعَ الْمَخَافَةِ، واجْعَلُوا آخِرَتَكُم لأَنْفُسِكُم بالطاعةِ، لِمُسْتَقَرِّكُم، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ عن قَليلٍ رَاحِلُون، وَإِلى اللهِ صَائِرُون ولا يُغْنِي عَنْكُم هُنَالِكَ إِلا صَالِحُ عَمَلٍ قَدَّمُتُمُوهُ، أَوْ حُسْنُ ثَوَابٍ حُزْتُمُوه» .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في بَعْضِ خُطَبِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الأَيَّامَ تُطْوى، والأَعْمَارَ تَفْنَى، والأبْدَانَ في الثَّرى تَبْلى، وإِنَّ اللَّيْلَ والنهارَ(6/66)
يَتَرَاكَضَانِ تَرَاكُضَ الْبَريدِِ، يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعيدٍ، وَيُخْلقَانِ كُلَّ جَديدِ، وفي ذَلِكَ عِبادَ اللهِ ما أَلْهَى عن الشَّهَواتِ، وَرَغَّب في الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» .
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعْضِ خُطَبِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ لَكُم نِهَايَةً، فانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُم، وإِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ، فانْتَهُوا إلى مَعَالِمِكُم، وإِنَّ الْمُؤمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: أَجلٍ قَدْ مَضَى، لا يَدْري ما الله صَانِعُ فِيهِ، وأَجَلٍ قَدْ بَقِيَ، لا يَدْرِي ما اللهُ قاضٍ فيه فَلْيَتَزَوَّدِ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ، وَمِن الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَوتِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُم، وَأَنْتُمْ خُلِقْتُمْ لِلآخِرَةِ، فَوَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ما بَعدَ الْمَوْتِ مِن مُسْتَعْتَبٍ، ولا بَعْدَ الدنيا إلا الْجَنَّةُ أو النَّارُ» .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ كَأَنَّ الْمَوتَ عَلى غَيْرِنَا كُتِبَ وكأنَّ الْحَقَّ عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وكَأَنَّ الذي نُشَيِّعُ مِن الأَمْواتِ سَفَرٌ عَمَّا قَلِيل إِليْنَا رَاجِعُون، نُبَوئِهم أَجْدَاثَهُمْ، وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُم، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِّنَا كُلَّ جَائِحَةٍ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُه عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ مَالاً اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيةٍ، وَجَالَسَ أَهْلَ الفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَخَالَطَ أَهْلَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ طُوبَى لِمَنْ ذَلَّتْ نَفْسُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ، وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ تَسْتَهْوِهِ البِدْعَةُ» . أ. هـ.
قِيلَ: إِنَّ خَيْريْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي خَمْسِ خِصَالٍ وَهِيَ: غِنَى النَّفْسِ، وَكَفِّ الأَذَى، وَكَسْبِ الْحَلالِ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَدْ(6/67)
نَظَمَهَا أَحَدُ العُلَمَاءِ فَقَالَ:
أَرَى خَيْرَيْ الدَّارَيْنِ يُجْمَعُ كُلُّهُ
بِخَمْسِ خِلالٍ يَا لَهَا مِنْ لَطَائِفِ
غِنَى النَّفْسِ مَعْ كَفِّ الأَذَى وَاِكْتِسَابِ مَا
يَحِلُّ وَمَلْبُوسُ التُّقَى حِصْنُ خَائِفِ
عَلَى كُلِّ حَالٍ كُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقًا
بِنَفْعٍ وَكَشْفِ الضُّرِّ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ أَهْلِ الطَّاعَة، وَوَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَيْهَا وَالاسْتِقَامَةِ، وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَات الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، وَأَمِّنَا مِنْ فَزع يَوْمِ القِيَامَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا.
اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وَافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الوَاسِعَةِ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُوُر الرَّحِيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَلَمَّا بَرَدَتِ الْحَرْبُ، وَوَلَّى القَوْمُ مُنْهَزِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ يَنْظُر لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ» ؟ فَانْطَلَقَ ابنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ أَبْنَاءُ عَفْرَاءَ حَتَّى بَردَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ. فَقَالَ: لِمنْ الدَّائِرَةُ اليَوْمَ، فَقَالَ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُّوَ اللهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلُهُ قَوْمُه؟ فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: «اللهُ الذِي لا إِله إِلا هُوَ» . فَرَدَّدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ الذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلِقْ أَرِنِيهِ» . فَأَنْطَلَقْنَا فَأَرَيْتُهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: «هَذَا فِرْعَونُ هَذِهِ الأُمَّة» .(6/68)
وَأَسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وابْنَهُ عَلِيًّا، فَأَبْصَرَهُ بِلالُ، وَكَانَ أُمَيَّةُ يُعَذِّبُ بِلالاً بِمَكَّةَ، فَقَالَ: رَأْسُ الكُفْرِ أُمَيَّةُ بن خَلَفِ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ جَمَاعَةَ مِنَ الأَنْصَارِ، وَاشْتَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَن ِبِهِمَا يَحْرِزُهُمَا مِنْهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ فَشَغَلَهُمْ عَنْ أُمَيَّةَ بابْنِهِ، فَفَرغوا مِنْهُ وَلِحقُوهَمَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أُبْرُكْ. فَبَرَكَ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ مِنْ تَحْتِهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَصَابَتْ بَعْضُ السُّيُوفِ رِجْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ.
وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَهُ بِوَادِي بَدْرٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُرْتَحِلاً بأَصْحَابِهِ إِلى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ الأسَارَى مِن الْمُشْرِكِين، وَالنَّفَلُ الذِي أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الكُفَّارِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، نَزَلَ فَقَسَمَ النَّفَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالسَّواءِ وَجَعَلَ لِلْفَرَسِ نَصِيبًا، وَلِلْفَارِسِ نَصِيبًا، وَجَعَلَ لِوَرَثَةِ مَنْ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصَّةً، وَكَانَ فَرِيقٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا الوَقْعَةَ، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّفَهُمْ أَعْمَالاً غَيْرَ أَعْمَالِ الْقِتَالِ، وَفَرِيقٌ حَجَزَهُ عُذْرٌ قَاهِرٌ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمَهُ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانُوا كَمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِين، وَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ لَهُ عَمَّا كَانَ مَنْ تَأَخُرهِمْ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ أَسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولِ اللهِ الْحَمْدُ للهِ الذِي أَظْفَرَكَ، وَأَقَرَّ عَيْنُكَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًا، وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عَيْرٌ وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عَدُّوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ» وَمِمَّا يَنْطَبِقُ عَلَى النَّبِيِّ ? مَا يَلِي:(6/69)
شِعْرًا ... تَكامَلَتْ فِيكَ أَوْصَافٌ خُصِصْتَ بِهَا ... فَكُلُّنَا بِكَ مَسْرُورٌ وَمُغْتَبِطُ
السِّنُّ ضَاحِكَةٌ وَالكَفُّ مَانِحَةٌ ... وَالنَّفْسُ وَاسِعةٌ وَالوَجْهُ مُنْبَسِطُ
آخر: ... صَفُوحٌ عَنِ الإِجْرَامِ حَتَّى كَأنَّهُ ... مِنَ العَفْوِ لَمْ يَعرف من الناس مُجْرِمَا
ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّيْرِ إِلى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الأَثِيلَ، اسْتَعْرَضَ الأَسْرَى هُنَا، فَأَمَرَ بَاثْنِينِ مِنْهُمْ أَنْ يُقْتَلا، وَهُمَا النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ كِلاهُمَا شَيْطَانًا من شَياطين قُرَيْشٍ، وَمِنْ أَشَدِّ الْمُشْرِكِينَ إِيذَاءً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَصْحَابِهِ، وَأَفْظَعَهُم تَقَوُّلاً عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، لا يَفْتُرَانِ مِنْ الإِيذَاءِ لا لَيْلاً وَلا نَهَارًا، أَمَّا النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ فَقَدْ نَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَةً هَلَعَ لَهَا قَلْبُهُ، وَأَيِسَ مِنَ البَقَاءِ بَعْدَهَا، فَقَالَ لِرَجُلٍ إِلى جَنْبِهِ: مُحَمَّدٌ وَاللهِ قَاتِلِي، فَقَدْ نَظَرَ إِليَّ بِعَيْنَيْنِ فِيهمَا الْمُوْتُ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا هَذَا وَاللهِ مِنْكَ إِلا رُعْبٌ، وَجَعَلَ النَّضْرُ يَلْتَمِسُ شَفِيعًا لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَعْفُو عَنْهُ، فَذَهَبَ إِلى مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ رَحِمًا، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ صَاحِبَكَ أَنْ يَجْعَلَنِي كَرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَهُو وَالله قَاتِلِي إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَقَالَ مُصْعَبِ: إِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي نَبِيِّهِ كَذَا وَكَذَا، وَكُنْتَ تُعَذِّبُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّضْرُ: لَوْ أَسَرَتْكَ قُرَيْشٌ مَا قَتَلَتْكَ وَأَنَا حَيٌّ أَبَدَا، قَالَ مُصْعَبِ: اللهِ إِنِّي لأَرَاكَ صَادِقَا، ثُمِّ إِنِّي لَسْتُ مِثْلُكَ، فَقَدْ قَطَعَ الإِسْلامُ الْعُهُودِ، وَكَانَ قَائِلاً: النَّضْرُ أَسِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اضْرِبْ عُنُقَهُ، وَاللَّهُمَّ أَغْنِ الْمِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ» . فَقُتِلَ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ، وَأَمَّا الآخَرُ وَهُوَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعْيَطٍ، فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ وَهُوَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، وَرَوَى أَنَّهُ(6/70)
لَمَّا أَمَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ قَالَ: أَتَقْتُلَنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ «نَعَمْ. أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلفَ الْمَقَام، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَغَمَزَهَا، فَمَا رَفَعَهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنِيَّ سَتَنْدُرَانِ، وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى بِسَلا شَاةٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي» . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَئيمَ تَمَرَّدَا
فَوَضَعُ النَّدا في مَوضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدا
آخر: ... أُكْرَمْ لِئَامًا بِالْهَوَانَ فَإِنَّهُمْ ... إِنْ أُكْرَمُوا فَسَدُوا عَلَى الإِكْرَامِ
لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لُؤْمٍ فَتطْغَيَهُ ... أهِنْهُ يَأتِيكَ مِطْوَاعًا ومِذْعَانَا
إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَالانَا
آخر: ... أَهنْ عَامِرًا تكْرُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ... أَخُو عَامِرٍ مَنْ مَسَّهُ بِهَوَانِ
آخر: ... وَمَا شَيْءٌ أسَرَّ إلى لَئِيمْ ... إِذَا شَتَمَ الْكِرَامَ مِنَ الْجَواب
مُتَارَكَةُ اللَئِيمِ بِلا جَوَابٍ ... أَشَدُّ عَلَيْهِ مَنْ مُرِّ الْعَذَابِ
آخر: ... وَتَرَى الْكَرِيمَ يَعُزُّ حِينَ يَهُونُ ... وَتَرَى اللَّئِيمَ يَهونُ حِينَ يُهَانُ
ثُمَّ مَضَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِهِ إِلى الْمَدِينَة، فَدَخَلَهَا قَبْلَ الأسَارَى بَيْوم، وَكَانَ دُخُولُهُ مِنْ ثَنِيَّةِ الوَدَاع، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الأَرْبَعَاءِ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ مِنْ رَمَضَان، فَتَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِئُونَهُ بِفَتْحِ اللهِ، فَقَدِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَرًا، مَكْبُوتًا عَدُوُّهُ، مَسْرُورًا صَدِيقُهُ، قَدْ أَعْلَى كَلِمَةَ اللهِ، وَمَكَّنَ لَهُ رَبُّهُ، وَنَصَرَهُ وَأَعَزَّهُ.
وَمِنْ اللَّطَائِفِ التِي ذَُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لِمَا أَقْبَلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُهَنِئُونَهُ، قَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بن سَلامَةَ: مَا الذِي(6/71)
تُهَنِئُونَنَا بِهِ، فَوَاللهِ إِنْ لَقِينَا إِلا عَجَائِزًا صُلْعًا، كَالْبُدُنِ الْمُعَقَلةٍ فَنَحَرْنَاهَا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «أَيّ ابن أَخِي أُولَئِكَ الْمَلا» . أَيْ هُمُ الأَشْرَافُ وَالسَّادَةُ الذِينَ لا يُسْتَهَانُ بِبَلائِهِم في الْقِتَالِ، وَلا بِمَكَانِهِمْ فِي الْقَوْمِ وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُوا الطِّيبِ فَقَالَ:
وَمَا عَدِمَ اللاقُوكَ بَأْسًا وَشِدَّةً
وَلَكِنَّ مَنْ لاقَوْا أَشَدُّ وَأَنْجَبُ
وَرَوَى ابنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا وَقَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ قُرَيْشٌ بِثَلاثِ لَيَالٍ - أَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى قُرَيْشِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آل غُدَر، انْفُروا إِلى مَصَارِعِكُم فِي ثَلاثٍ، وَظَلَّ يُكَرِّرُهَا هُنَا وَهُنَاكَ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةَ فَرَمَى بِهَا مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِهِ، تَنَاثَرَتْ أَجْزَاؤُهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ وَلا دَارٌ بِمَكَّةَ إِلا دَخَلَتْهُ مِنْهَا فِلْقَةٌ، وَبَعْدَ ثَلاثٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا جَاءَ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ يَصِيحُ بِالْقَوْمِ، وَيَسْتَفِزُّهُمْ لِيُنْقِذُوا عِيرَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ جُهَيْمَ بن الصَّلْتِ رَأَى وَهُمْ فِي طَرِيقهِمْ إِلى بَدْرٍ - كَأَنَ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: قُتِلَ فُلانٌ وَفُلانٌ، وَأُسِرَ فُلانٌ وَفُلانٌ، لِرجَالٍ سَمَّاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ ضَرَبَ بِخَنْجَرِهِ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ، وَأَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخِبيْتَهِم إلا أَصَابَهُ مِنْ دَمِه.
وَرَوَى الْوَاقِدِي أَنَّ ضَمْضَمَ بن عَمْرو جَاءَ إِلى الْحَارِثِ بِنْ عَامِرٍ، فَقَالَ(6/72)
لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيًا كَرِهْتُهَا، رَأَيْتُ - وَأَنَا كَالْيَقْظَانِ عَلَى رَاحِلَتِي - كَأَنَّ وَادِيًا يَسِيلُ دَمًا، فَقَالَ الْحَارِثْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مَا خَرَجْتُ، أَوْ قَالَ: مَا سِرْتُ خَطْوَةً، فَاطْوِ هَذَا الْخَبَرَ أَنْ تَعْلَمَهُ قُرَيْش، فَإِنَّهَا تَتَّهِمُ كُلَّ مَنْ عَوَّقَهَا عَنْ الْمَسِيرِ اللَّهُمَّ عَمِّقْ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
عِبَادَ اللهِ تَأَمَّلُوا كَيْفَ تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَكَيْفَ آثَروا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَكَيْفَ شَغَلَتْهُمُ الأَمْوَالُ وَالأَهْلُ، وَالأَوْلادُ وَالْمَلاهِي، وَالْمُنْكَرَاتِ، عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاةِ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ مَهْمَا عَاشُوا وَمَهْمَا نَالُوا مِن الدُّنْيَا، وَمَهْمَا تَلَذَّذُوا فَإِنَّهُمْ رَاحِلُونَ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ زَائِلٌ عَنْهُمْ وَخَالِفُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَ اللهِ وَأَنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَمَنْ اشْتَرى الْعَاجِلَ بِالآجِل وَلَمْ يَتَّخِذِ الدُّنْيَا مَطِيَّةً تُوصِلُهُ إِلى الْمَقْصَدِ الذِي يَرْضَاهُ وَالْمُسْتَقَرِ الأَخِيرِ الذِي يَهْوَاهُ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، فَذَلِكُمْ الذِي لا تُفِيدُهُ الْمَوَاعِظُ، وَلا تَجْدِي فِيهِ النَّصَائِحُ وَلا تَرُدُّهُ الْعِبَرُ عَنْ غَيِّهِ، وَاقْتِحَامِهِ الْقَبَائِحَ، وَذَلِكَ هُوَ الذِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، عِبَادَ اللهِ حَلالُ هَذِهِ الدُّنْيَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عِقَابٌ، وَمَآلِهَا إِلَى الدَّمَارِ وَالْخَرَابِ، وَلا يَطْمَئِنُ إِلَيْهَا إِلا جَاهِلٌ مُرْتَابٌ، قَدْ فَقَدَ الرُّشْدَ وَأَبْعَدَ عن الصَّوَابِ، فَكَمْ مِنْ ذِهَابٍ بِلا إِيَابٍ، وَكَمْ مِنْ حَبِيبٍ عَلَى الرَّغْمِ قَدْ فَارَقَ الأَحْبَابِ، وَتَرَكَ الأَهْلَ وَالأَصْحَابَ، وَانْتَقَلَ إِلى ثَوَابِ جَزِيلٍ أَوْ عِقَابٍ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمُغَفَّلُ الْمَخْدُوعُ عَلَى جَمْعِهَا حَرِيصٌ مَعَ مَا تُشَاهِدُهُ مِن الأَكْدَارِ وَالتَّنْغِيصِ، وَكَانَ يَكْفِيكَ مِنْهَا الْقَلِيلِ.
شِعْرًا: ... يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغَرُورِ إِغْتَِِرَارًا ... رَاكِبًا في طِلابِهَا الأَخْطَارَا(6/73)
شِعْرًا: ... يَبْتَغِي وَصْبَهَا فَتَأبَى عَلَيْهِ ... وَتَرَى أُنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا
آخر: ... خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوصَال لَدَيْهَا ... جَارَةٌ لَمْ تَزلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا
كَمْ مُحِبٍّ أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا ... حَاوَل الزَّوْرَ أَرَتْهُ ازْوِرَارَا
آخر: ... وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ
مِن الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُ يَجْشَعُ
إِلى أَنْ تَوَافِيهِ الْمَنِيَّةُ وَهُوَ بِالْقِنَاعَةِ فِيهَا آمِنًا لا يَرْوَعُ.
قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
نَعَمْ لا بَأْسَ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَاكْتِسَابِ الْحَلالِ لِلتَّمَتُعِ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَاغِلاً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ لا سِيمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللهُ لانْفَاقِهِ فِي الْمَشَارِيعِ الدِّينِيَّةِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَتَرْمِيمِهَا وَوَضْعِ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَلْ كَسْبُ الْمَالِ فَرِيضَة عَلَيْكَ لأَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تُحَافِظْ عَلَى حَيَاتِكَ وَعَلى حَيَاةِ مَنْ تَجِبُ لَهُمْ عَلَيْكَ النَّفَقَاتِ وَأَنْتَ لا تُحَافِظَ عَلَى تِلْكَ الأَنْفُس إِلا بِإعْطَائِهَا مَا لِلْحَيَاةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتٍ وَهَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَحْصُلَ عَلَيَهَا إِلا بِمَالٍ تَبْذِلُهُ عِنْدَ الْمُبَادَلاتِ إِذَنْ كَسْبُ الْمَالِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحَيَاةِ فَرِيضَةٌ وَإِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْكَسْبَ فَانْوِ عِنْدَ طَلَبِكَ لَهُ الْقِيَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ وَالتَّقْوَى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى تَنْقَلِبَ عَادَاتُكَ عِبَادَاتٌ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تَأْكلُ مَا كَسَبْتَهُ بِيَدِكَ وَتَحَرَّ الْحَلالَ فِي كَسْبِهِ فَإِنَّهُ يُنِيرُ الْقَلْبَ وَسَبَبٌ لِقُبُولِ الدُّعَاءِ بِإِذْنِ اللهِ وَتَوَقَّ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ يُظْلِمُ الْقُلُوبَ وَيُثْقَلُ الأَبْدَانَ عَنِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ سَبَبٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الدُّعَاءِ وَابْتَعِدْ عَنِ الشُّبُهَاتِ فِي كَسْبِكَ وَاجْتَنِبْ الْغِشَّ وَالْكَذِبَ وَالإِيمَانَ فِي كُلَّ مُعَامَلاتِكَ وَكُنْ صَادِقًا سَمْحًا(6/74)
لَيِّنَ الْجَانِبِ لِلْمُسْلِمِينَ مُحِبًّا لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَكُنْ قَانِعًا فِي الدُّنْيَا رَاضِيًا بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ صَارِفًا جُلَّ أَوْقَاتِكَ لِلآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... لا تَأْسَفَنَّ أَخَا عِلْمٍ لِفَائِتَةٍ
فَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ رِزْقِ الْفَتَى فَاتَا
كَمْ مِنْ فَتَىً وَاصَلَ الأَسْفَارَ مُجْتَهِدًا
مِنْ أَرْضِ دَارِينَ حَتَّى حَلَّ أَغْمَاتَا
لَمْ يُسْعِفْ الرِّزْقُ بِالأَقْدَارِ بُغْيَتَهُ
وَلَوْ أَقَامَ أَتَاهُ الرِّزْقُ مِيقَاتَا
مَوْلاكَ يَكْفِيكَ فَالْزَمْ بَابَ طَاعَتِهِ
فَقَدْ كَفَى النَّاسَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَا
آخر: ... وَيْلٌ لأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ ... مَاذَا يُقَاسُونَ مِنَ النَّارِ
تَنْقَدُّ مِنْ غَيْظٍ فَتَغْلِي بِهِمْ ... كَمِرجَلٍ يَغْلِي عَلَى النَّارِ
فَيَسْتَغِيثُونَ لِكَي يُعْتَبُوا ... أَلا لَعًا مِنْ عَثْرَةِ النَّارِ
وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفٌ نَادِمٌ ... لَوْ تُقبَلُ التَّوْبَةُ فِي النَّارِ
يَهْوي بِهَا الأَشْقَى عَلَى رَأْسِهِ ... فَالْوَيْلُُ لِلأَشْقَى مِنَ النَّارِ
فَتَارَةً يَطَفْو عَلَى جَمْرِهَا ... وَتَارَةً يَرْسُبُ فِي النَّارِ(6/75)
.. وَكُلَّمَا رَامَ فِرَارًا بِهَا ... فَرَّ مِنَ النَّارِ إِلى النَّارِ
يَطُوفُ مِنْ أَفْعَى إِلى أَرْقَمٍ ... وَسُمُّهَا أَقْوَى مِنَ النَّارِ
وَكَمْ بِهَا مِنْ أَرْقَمٍ لا يَنِي ... يَلْسَعُ مَنْ يُسْحَبُ فِي النَّارِ
لا رَاحَةٌ فِيهَا وَلا فَتْرَةٌ ... هَيْهَاتَ لا رَاحَةَ فِي النَّارِ
أََنْفَاسُهَا مُطْبَقَةٌ فَوْقَهُمْ ... وَهَكَذَا الأَنْفَاسُ فِي النَّارِ
سُبْحَانَ مَنْ يُمْسِكُ أَرْوَاحَهُمْ ... فِي الدَّرَكِ الأَسْفََلِ فِي النَّارِ
وَلَوْ جِبَالُ الأَرْضِ تَهْوِي بِهَا ... ذَابَتْ كَذَوْبِ الْقِطْرِ فِي النَّارِ
طُوبَى لِمَنْ فَازَ بِدَارِ التُّقَى ... وَلَم يَكُنْ مِنْ حَصَبِ النَّارِ
وَوَيْلُ مَنْ عُمِّرَ دَهْرًا وَلَمْ ... يُرْحَمْ وَلَمْ يُعْتَقْ مِنَ النَّارِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا حِذْرَكُمْ ... وَحَصِّنُوا الْجَنَّةَ لِلنَّارِ
فَإِنَّهَا مِنْ شَرِّ أَعْدَائِكُمْ ... مَا فِي الْعِدَا أَعْدَى مِنَ النَّارِ
وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ مَوْلاكُمُ ... فَذِكْرُهُ يُنْجِي مِنَ النَّارِ
وَاعَجَبًا مِنْ مَرِحٍ لاعِبٍ ... يَلْهُو وَلا يَحْفِلُ بِالنَّارِ
يُوقِنُ بِالنَّارِ وَلا يَرْعَوِي ... كَأَنَّهُ يَرْتَابُ فِي النَّارِ
وَهُوَ بِهَا فِي خَطَرٍ بَيِّنٍ ... لَوْ كَاسَ مَا خَاطَرَ بِالنَّارِ
إِنَّ الأَلِبَّاءَ هُمُ قِلَّةٌ ... فَرَّوا إِلى اللهِ مِنَ النَّارِ
وَطَلَّقُوا الدُّنْيَا بَتَاتًا وَلَمْ ... يَلُوُوا عَلَيْهَا حَذَرَ النَّارِ
وَأَبْصَرُوا مِنْ عَيْبِهَا أَنَّهَا ... فَتَّانَةٌ تَدْعُو إِلى النَّارِ
وَاللهِ لَوْ أَعْقِلُ لَمْ تَكْتَحِلْ ... بِالنَّوْمِ عَيْنِي خَيْفَةَ النَّارِ
وَلا رَقَا دَمْعِي وَلا عِلْمَ لي ... أَنِّيَ في أَمْنٍ مِنَ النَّارِ
وَلَمْ أَرِدْ مَاءً وَلا سَاغَ لي ... إِذا ذَكَرْتُ الْمُهْلَ فِي النَّارِ(6/76)
.. وَلَمْ أَجِدُ لَذَّةَ طَعْمٍ إِذَا ... فَكَّرْتُ في الزَقُّومِ فِي النَّارِ
أَيُّ الْتِذَاذٍ بِنَعِيمٍ إِذَا ... أَدّى إِلى الشَّقْوَةِ فِي النَّارِ
أَمْ أَيُّ خَيْرٍ في سُرُورٍ إِذَا ... أَعْقَبَ طُولَ الْحُزنِ فِي النَّارِ
فَفَكِّرُوا في هَوْلِهَا وَاِحْذَرُوا ... مَا حَذَّرَ اللهُ مِنَ النَّارِ
فَإِنَّهَا رَاصِدَةٌ أَهْلَها ... تَدُعُّهُمْ دَعًّا إِلى النَّارِ
فَلَيْسَ مِثْلِي طَالِبًا حَبَّةً ... إِلا الْمُعَافَاةَ مِنَ النَّارِ
وَطَالَمَا اسْتَرْحَمْتُهُ ضَارِعًا ... يَا رَبُّ حَرِّمَنِي عَلَى النَّارِ
فَأَنْتَ مَوْلايَ وَلا رَبَّ لِي ... غَيْرُكَ أَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ
وَلَمْ تَزَلْ تَسْمَعُنِي قَائِلاً ... أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ
اللَّهُمَّ ثَبتنَا على قَولِكَ الثابِت في الحَيَاة وفي الآخِرَة وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابِ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ أُحُدْ
أُحُدٌ جَبَلٌ مَشْهُورٌ بِالْمَدِينَةِ، عَلَى أَقَلَّ مِن فَرْسَخٍ مِن الْمَدِينَةِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَن الْجِبَالِ الأُخَرِ هُنَاكَ، وَهُوَ الذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبّهُ» . وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي شَوَّالِ، بِالاتِّفَاقِ يَوْمَ السَّبْتِ لأحْدَى عَشَرَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالِ، وَقِيلَ: لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ وَقِيلَ: فِي نِصْفِهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.(6/77)
وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا رَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ، وَقَدْ قُتِلَ أَشْرَافُهُم، وَأَصِيبُوا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ التِي لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهَا، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعَيْرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي رُبَيْعَةَ، وَعِكْرَمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِن قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بِنْ حَرْبِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةً، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، فَلَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا فَفَعَلُوا، وَفِيهِمْ - كَمَا قَالَ ابنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ - نَزَلَتْ الآيةُ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} .
وَأَخَذَتْ قُرَيْشُ تُعِدُّ لِذَلِكَ الْعُدَّةَ، وَتَرْصُدُ الأَمْوَالَ، وَتُعْبِئُ الْقُوَى، وَتَجْمَعُ السِّلاح َ، وَبَعَثَتْ رُسُلَهَا فِيمَنْ حَوْلَهَا مِنْ قِبَائِلِ الْعَرَبِ تَسْتَنْصِرُهُمْ، وَتَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى تَمْكِينِ الضَّرْبَةِ، وَكَانَ مِنْ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بن عَبْدُ اللهِ الْجُمَحِي، قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ فَقِيرًا، ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلا فِدَاء، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيَثاقَ أَنْ لا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدَا، وَلا يكُثْرُ عَلَيْهِ جَمْعَا، فَنَقَضَ الْعَهْدَ وَالْمِيَثَاقَ، وَذَهَبَ مَعَ الذَّاهِبِين إِلَى كَنَانَةَ وَتِهَامَةَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَثِّرُ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا ظَلَّتْ قُرَيْشٌ طِوَالَ عَامِهَا تَبْذِلُ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَتَجْمَعُ مِنْ أَنْصَارِهَا، وَتُعِدُّ مِنْ قُوَّتِهَا، حَتَّى بَلَغَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَرَادَتْ وَغَدَتْ فِي أَتَمِّ أُهْبَةٍ، وَأَكْمَلِ اسْتِعْدَادٍ، فَلَمْ تَلْبَثْ حَتَّى حَصَلَتْ عَلَى جَيْشٍ لَجِبٍ، مِنْ رِجَالِهَا، وَمِمَّنْ حَالَفَهَا مِنْ الأَحَابِيشِ، مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَبَنِي الْهُونِ بن خُزَيْمَةَ، وَتَوَجَّهَتْ إِلى الْمَدِينَةِ فِي حَمَاسَةِ الْمَوْتُورِ، وَسُورَةِ الْمُغِيظِ الْمُحَنقِ، لِتَضْرِبَ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةِ فِي زَعْمِهَا، وَأَبَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ إِلا أَنْ يَكُنَّ مَعَ الْجَيْشِ يُحَمِّسْنَ الرِّجَالَ، وَيُثِرْنَ الْحَمِيَّةِ، فَخَرَجَ مِنْهُنَّ مِنْ رَبَّاتِ الْخُدُورِ نَحْوَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، عَلَى رَأْسِهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَخَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ أَبُو عَامِرٍ الأَوْسِي الْفَاسِقُ، وَكَانَ مُقَاوِمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُبَاعِدًا لَهُ، وَمُنْكرًا لِنُبُوَّتِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَهِبًّا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثَ، وَيَذْكُرُ لِلنَّاسِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِهِ، يَقُولُ(6/78)
لَهُمْ: أَنَّهُ قَدْ قَرُبَ خُرُوجُهُ، فَلَّمَا هَاجَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى الْمَدِينَةِ، وَاتَّضَحَتْ صِفَاتِهِ لِلأَنْصَارِ وَاتَّبَعُوهُ حَسَدَهُ أَبُو عَامِرٍ وَأَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي الأَوْسِ قَبَّحَهُ اللهِ، كَعَبْدِ اللهِ بن أُبَيّ فِي الْخِزْرَجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا حَسَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ عَبْدَ اللهِ بن أُبَيّ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا وَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ بَاطِنًا وَأَبُو عَامِرٍ خَرَجَ مِن الإِسْلامِ كَافِرًا مُبَاعِدًا، وَخَرَجَ مَعَهُ خَمْسُونَ مِنْ شِيعَتِهِ، مِن شَبَابِ الأَوْسِ وَغِلْمَانِهِمْ، فَأقَام فِي مَكَّةَ مُنَاصِرًا لِقُرَيْشٍ مُحَرِّضًا لَهَا عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا عَزِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْخُرُوجِ إِلى أُحُدٍ، مَنَّاهَا أَبُو عَامِرٍ أَنْ يُخَذِّلَ لَهَا قَوْمَهُ الأَوْسَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، إِلى صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ سَابِقِ الْمَكَانَةِ فِي قَوْمِهِ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْدِثُ مَا يَشَاءُ مِنْ التَّفْرِيقِ فِي صُفُوفُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكْفِي لِذَلِكَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَنْ يُسْمِعَهُمْ صَوْتَهُ، فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، حَتَّى لَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ، فِي يَقِينِ الْوَاثِقِ الْمُطْمَئِنِّ - لَوْ قَدِمْتُ عَلَى قَوْمِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ رَجُلانِ، وَهَؤُلاءِ مَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي، وَكَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمْعَةَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمد اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي رُؤْيَا، رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَرَأَيْتُ كَأَنَّ سَيْفِي ذُو الْفُقَارِ انْقَصَمَ مِن عِنْدِ ظَبَّتِهِ، وَرَأَيْتُ َبَقرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا» . فَقَالَ النَّاسُ: فَمَا أَوَّلْتَهَا؟ قَالَ: «أَمَّا الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ فَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَامْكُثُوا فِيهَا، أَمَّا انْفِصَامُ سَيْفِي مِنْ عِنْدِ ظَبَّتِهِ فَمُصِيبَتِي فِي نَفْسِي، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَقَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَأَمَّا أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَكَبْشُ الْكَتِيبَةِ، نَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ:: «وَأَمَّا انْفِصَامِ سَيْفِي، فَقَتْلُ رَجُلِ مِنْ بَيْتِي» .(6/79)
اللَّهُمَّ انْظُمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَر إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَفِي أَوَائِل شَهْرِ شَوَّالٍ مِنْ السنة الثانيةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، خَرَجَ الْجَيْشُ الْجَرَّارُ مِنْ مَكَّةَ يَقُودُهُ أَبُو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَيَحْمِلُ لِوَاءَهُ طَلْحَةُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَلى مَيْمَنَتِهِ خَالِدُ بن الْوَلِيْدِ، وَعَلَى مَيِسرَتِهِ عِكْرَمَةُ بن أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى رِجَالَتِهِ صَفْوَانُ ابنُ أُمَيَّةَ.. وَعَدَدُهُم ثَلاثَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ فِي أَكْمَلِ اسْتِعْدَادٍ، وَأَحْسَنَ تَعْبِئَةٍ، مِنْ بَيْنِهِمْ مائَتَانِ مِنْ الْفُرْسَانِ الْمُدَرَّبِينَ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَسَبْعُمَائِةٍ مِنَ الدَّاَرعِينَ الْمُحَصَّنِينَ بِالزُّرَدِ وَالدُّرُوعِ الْوَاقِيَةِ، يَحْمِلُهُمْ عَدَدٌ وَافِرٌ مِنَ الرَّكَائِب وَيَتْبَعُهُمْ حَشْدٌ كَبِيرٌ مِن الْعَبِيدِ والْغُلْمَانِ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، وَيَحْرِسُونَ مَتَاعَهُم، وَكَانَ مَعَ الْعَبِيدِ عَبْد حَبَشِيٌ اسْمُهُ وَحْشِيٌّ، وَكَانَ يُجِيدُ الرِّمَايَةَ بِالْحِرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَبَشَةِ، فَأَغْرَاهُ سَيِّدُهُ جُبَيْرٌ بن مُطْعِمٍ بَقْتَلِ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلبِ عَمَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَهُ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. وَكَذَلِكَ أَغْرَتْهُ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَوَعَدَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ قَتَلَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ طُعَيْمَةَ بن عَدِي عَمَّ جُبَيْرِ، وَعُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ بن أَبَا هِنْدٍ.
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا يَبْدُوا قَدْ خَرَجَتْ عَلَى خُطَّةٍ مَوْضُوعَةٍ، هِيَ أَنْ(6/80)
تُفَاجِئَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْرِ دَارِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا فَإِنْ أَخْفَقُوا فِي هَذِهِ الْخُطَّةِ بِأَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُفَاجَأَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِخُرُوجِهِمْ، وَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ فَالْخُطَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ التَّخْذِيلُ وَالإِرْجَافُ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّقَاءِ فَإِنْ أَخْفَقَتْ هَذِهِ الْخُطَّةُ وَلَمْ يَنْجَحُوا فِيهَا، فَالْخُطَّةُ الثَّالِثَةِ هِيَ الْفَتْكُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بِرُؤوسِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا فَتَكَ الْمُسْلِمُونَ بِرُؤوسِهِمْ في وَقْعَةِ بَدْرٍ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَمَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَتْ تَوَاصُلِ السَّيْرِ فِي سِرٍّ حَتَّى نَزَلَتْ بِوَادِي أُحُد، عَلَى أَقَلَّ مِنْ فَرْسَخٍ مِن الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بنَ عَبْدِ الْمُطَّلبِ كَتَبَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَخْبَرَهُ فِيهِ بِمَخْرَجِ قُرَيْشٍ هَذَا، وَبِمَا أَعَدَّتْ لَهُ مِن الرِّجَالِ وَالْعَتَادِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ هَذَا مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غَفَّارٍ، فَوَاصَل السَّيْر بِهِ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ فِي ثَلاثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَاءٍ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ فَسَلَّمَهُ الْكِتَابَ، فَدَفَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَكْتمهُ الْخَبَرَ، ثُمَّ دَخَلَ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْكِتَابِ فَقَالَ سَعْدُ: وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرًا، وَأُرْجِفَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ بِأَمْرِ الْكِتَابِ، فَشَاعَ الْخَبَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا مَا كَانَتْ تَخْشَاهُ قُرَيْشٌ.
رَوَى الْوَاقِدِيُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو بن أَبِي حَكِيمَةَ الأَسْلَمِي قَالَ: لَمَّا أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ: أَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُمْ جَاءُوا مُحَمَّدًا فَخَبَّرُوهُ مَسِيرَنَا وَحَذَّرُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِعَدَدِنَا، فَهُمُ الآنَ يَلْزَمُونَ صِيَاصِيَّهُمْ، فَمَا أَنْ نُصِيبُ مِنْهُمْ شَيْئًا فِي وَجْهِنَا، فَقَالَ صَفْوَانٌ: إِنْ لَمْ يُصْحِرُوا لَنَا عَمَدْنَا إِلى نَخْلِ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطَعْنَاهُ، فَتَرَكْنَاهُمْ وَلا أَمْوَالَ لَهُم فلا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا، وَإِنْ أَصْحَرُوا لَنَا فَعَدَدُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِم، وَسِلاحُنَا أَكْثَرُ مِنْ سِلاحِهِمْ، وَلَنَا(6/81)
خَيْلٌ وَلا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نُقَاتِلُ عَلَى وَتَرٍ عِندَهُم، وَلا وَتَرَ لَهُمْ عِنْدَنَا.
اللَّهُمَّ أَظِلَّنَا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّكَ وَلا بَاقٍ إِلا وَجْهُكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَلُمَّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غَائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلَّ سُوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا الْقِيَامَ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ? عُيُونَهُ يَسْتَطْلِعُونَ لَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَجَاءُوا إِلى رَسُولِ اللهِ ? فَأَخْبُرُوهُ بِمَنْزِلِهِمْ مِنْ وَادِي أُحُدٍ، وَحَزَرُوا لَهُ عَدَدُهُمْ وَعِتَادَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَطْلَقُوا خُيُولَهُمْ وَإِبْلَهُمْ فِي مَزَارِعٍ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَتْ تَأْكُل الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ حَتَّى أَوْشَكَتْ أَنْ تَدْخُلَ الْمَدِينَةِ وَبَاتَ الْخَطَرُ جَاثِمًا عَلَى الأَبْوَابِ، وَغَدَا الأَمْرُ لا يَقْبَلُ التَّسْوِيفَ، وَصَارَ مِن الوَاجِب عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَيَسْتَعِدُّوا، وَحُرِسَتِ الْمَدِينَةُ كُلَّها طِوَالَ اللَّيْلِ، فَبَاتَ وُجُوهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَيْهِمْ السِّلاحُ خَوْفًا عَلَى النَّبِيَّ ?.?
فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمَعَ النَّبِيِّ ? أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ كَيْفَ يَلْقُونَ عَدُوَّهُمْ اللَّدُودَ.(6/82)
رَوَى الْوَاقِدِي أَنَّ النَّبِيِّ ? قَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ» . فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بن أُبَيِّ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ نُقَاتِلْ فِيهَا وَنَجْعَلُ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي هَذِهِ الصَّيَاصِي، وَيُجْعَلُ مَعَهُم الْحِجَارَةَ، وَنَشْبِكُ الْمَدِينَةِ بِالْبُنْيَانِ، فَتَكُونُ كَالْحِصْنِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَتَرْمِي الْمَرْأَةُ وَالصَّبِي مِنْ فَوْقَ الصَّيَاصِي وَالآطَامِ، وَنُقَاتِلُ بَأَسْيَافِنَا فِي السِّكَكِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مَدِينَتَنَا عَذْرَاءُ، مَا فُضَّتْ عَلَيْنَا قَطُ، وَمَا خَرَجْنَا إِلى عَدُوٍّ قَطُ مِنْهَا إِلا أَصَابَ مِنَّا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا قَطُ إِلا أَصَبْنَاهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرَّ مَحْبَسٍ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا.
يَا رَسُولَ اللهَ أَطِعْنِي فِي هَذَا الأَمْرَ، وَاعْلَمْ أَنِّي وَرَثْتُ هَذَا الرَّأْيَ مِنْ أَكَابرِ قَوْمِي وَأَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ، فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ.
وَكَانَ هَذَا الرَّأْيُ هُوَ رَأْيُ رَسُولِ اللهِ ? وَهُوَ أَنْ لا يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَأَنْ يَتَحَصَّنُوا بِهَا فَإِنْ دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الأَزِقَّةِ وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ رَأْيُ الأَكَابِرِ مِن الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
فَقَالَ رَسُولِ اللهِ ?: «امْكُثُوا ِفي الْمَدِينَةِ وَاجْعَلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي فِي الآطَامِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِي الأَزِقَّةِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَرَمُوَا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانُ مِنْ فَوْقِ الصَّيَاصِي وَالآطَامِ» . فَبَادَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ فَاتَهُمُ الْخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَغِبُوا فِي الشِّهَادَةِ، وَأَحَبُّوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ، وَأَلَحُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ: إِنَّا نَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظُنَّ عَدُونَا أَنَا كَرِهْنَا الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ جُبْنًا عَنْ لِقَائِهِم، فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةٌ مِنْهُمْ عَلَيْنَا وَقَدْ كُنْتَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلاثِمَائةٍ فَظَفَّرَكَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ(6/83)
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كُنَّا نَتَمَنَّى هَذَا الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللهَ بِهِ، فَقَدْ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْنَا فِي سَاحَتِنَا.
وَقَالَ مَالِكُ بن سِنَان: يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا يُظْفِرُنَا اللهُ بِهِمْ فَهَذَا هُوَ الذِي نُرِيدُ، وَالأُخْرَى يَا رَسُولَ اللهِ يَرْزُقُنَا اللهُ بِهَا الشَّهَادَةَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أُبَالِي أَيَّهُمَا كَانَ، إِنَّ كُلاَّ لَفِيهِ خَيْرٌ.
وَقَالَ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَالذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لا أَطْعَمُ الْيَوْمَ طَعَامًا حَتَّى أُجَالِدَهُمْ بِسَيْفِي خَارِجًا مِن الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ النَّعْمَانُ بنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُحْرِمْنَا الْجَنَّةُ فَوَالذِي لا إِلَه إِلا هُوَ لأَدْخُلَنَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «بِمَ» ؟ فَقَالَ: إِنِّي امْرؤٌ أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلا أَفِرُّ يَوْمَ الزَّحْفِ.
وَقَالَ إِيَاسُ بن أَوْسٍ: لا أُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ حصَرْنَا مُحَمَّدًا فِي صِيَاصِي يَثْرِبَ وَإِطَامِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ جُرْأَةٌ لِقُرَيْشٍ عَلَيْنَا وَقَدْ وَطِئُوا سَعَفَنَا فَإِذَا لَمْ نَدَبَّ عَنْ غَرْسِنَا لَمْ يُزْرَعْ.
وَرَأَى رَسُولُ اللهِ ? أَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الرَّغْبَةَ الْغَالِبَةَ، وَأَنَّ كَثْرَةَ النَّاسِ تَدْعُوا إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَأَمَرُهُمْ بِالْجَدِّ وَالْجِهَادِ.
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ لَهُمْ النَّصْرَ مَا صَبَرُوا، فَفَرِحَ النَّاسُ بِالشُّخُوصِ إِلى عَدُّوِهِمْ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا كَرِهُوا ذَلِكَ الْمُخْرَجِ، لِمَا رَأَوا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ? مِنَ الْكَرَاهَةِ لَهُ.
وَأَخَذَ النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَلْبِسُونَ دُرُوعَهُمْ وَسِلاحَهُمْ وَيَتَوَافَدُونَ عَلَى(6/84)
مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ? فَلَمَّا كَانَ الْعَصْرُ كَانَ النَّاسُ قَدْ تَجَمَّعُوا وَاحْتَشَدُوا فَصَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الْعَصْرِ وَأَمَرَ أَنْ يُرْفَعَ النِّسَاءُ وَالأَوْلادُ فِي الآطَامِ وَالْحُصُونِ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ لِيَلْبَسَ لامَتَهُ، وَالنَّاسُ فِي خَارِجِ الْبَيْتِ يَتَنَاقَشُونَ وَيَتَجَادَلُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَلا يَزَالُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْبَقاَءَ هُوَ الأَصْوَبُ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَكْرَهُوا رَسُولَ اللهِ ? عَلَى الْخُرُوجِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ.
وَجَاءَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ فَقَالا: قُلْتُمْ لِرَسُولِ اللهِ ? مَا قُلْتُمْ، وَاسْتَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ وَالأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَرَدُّوا الأَمْرَ إِلَيْهِ! فَمَا أَمَرَكُمْ فَافْعَلُوهُ، وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ هَوَى أَوْ رَأْيًا فَأَطِيعُوهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ وَقَدْ لَبِسَ لامَةَ الْحَرْبِ، فَقَالَ الذِينَ كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَكَ، فَاصْنَعْ مَا بَدَالَكَ فَقَالَ: «قَدْ دَعَوْتَكُمْ إِلى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ، وَلا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إِذَا لَبِسَ لامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمُ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ.
انْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ، فَلَكُمُ النَّصْرُ مَا صَبَرْتُمْ» .
وَعَقَدَ ثَلاثَةَ أَلْوِيَةٍ: لِوَاءٌ بِيَدِ أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ، وَلِوَاءٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِيَدِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: بِيَدِ عَلَيِّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْخَزْرَجِ، بِيَدِ الْحُبَابِ بن الْمُنْذِرِ.
وَقِيلَ: بِيَدِ سَعْدِ بن عُبَادَةَ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِهِ، فَرَكِبَهُ وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ(6/85)
مِن أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ مائةُ دَارِعٌ، وَالنَّاسُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَالسَّعْدَان يَعْدُوَانِ أَمَامَهُ، سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، لِسِتٍ خَلَونَ مِنْ شَوَّالٍ، بَعْدَ أَنْ أَمَّرَ عَلَى الْمَدِينةِ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ، يُصَلَّي بِالنَّاسِ.
اللَّهُمَّ أَقِمْ عَلَمَ الْجِهَادِ وَاقْمَعْ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالزَّيْغِ وَالْعِنَادِ وَانْشُرْ رَحْمَتكَ عَلَى هُؤلاءِ الْعِبَادِ يَا مَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ أَهْلِ السَّعَادَةُ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُحْسِنِينَ الذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة: عِبَادَ اللهِ كَانَ سَلَفُنَا فِي أَرْقَى دَرَجَةٍ، وَأَصْبَحْنَا بَعْدَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا مِن التَّهَالُكِ عَلَى الدُّنْيَا وَإهْمَالِ الآخِرَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الآخِرَةِ لا تَنْتَهِي حَيَاتُهَا، وَأَنَّ الدُّنْيَا تَنْتَهِي فِي أَيَّامٍ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَتَاعِهَا أَنَّهُ قَلِيلٌ، فَوَضَعُوا حَيَاةَ الأَبَدِ نَصْبَ أَعْيُنِهم، وَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلَ لَهَا، كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ، فَلا تَكَادُ تَرَاهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ إِلا وَهُمْ بعَمَلٍ مِنْ الأَعْمَالِ يَعْمَلُونَ وَذَلِكَ الْعَمَل مِنْ أَعْمَالِ الآخِرَةِ.
وَلَقَدْ كَانُوا فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ النَّفَسَ الأَخِير، الذِي تَنْتَهِي بِهِ آجَالِهِمْ، فَلَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ بَعْدَ سَاعَةَ تَنْتَهِي حَيَاتُكَمْ مَا زَادُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِن الإِكْثَارِ مِن الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ.
أَمَّا اشْتِغَالُهُم بِهَذِهِ الْحَيَاةِ فَمَا كَانَ إِلا لأَنَّهُ وَسِيلَةٌ مِن الْوَسَائِلِ التِي(6/86)
تُدْنِي إِلى الْجَنَّاتِ، وَتُبْعِدُ عن النَّارِ، لِهَذَا كَانُوا لا يَخَافُونَ الْمَوْتَ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَعَلَّهُمْ يَنَالُونَ الشَّهَادَةَ، وَيَبْكُونَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ الْخُرُوجُ إِلى الْجِهَادِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم، وَكَمَا مَرَّ عَنْهُمْ فِي الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، لِذلِكَ بَلَغُوا مِن الشَّجَاعَةِ مُنْتَهَاهَا، وَعَاشُوا وَمَاتُوا وَهُمْ سَادَةُ الْعَالَمِين.
أَمَّا زُهْدُهُم في هَذِهِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَوْضِعَ الْعَجَبِ لأَنَّ مَقْصُودَهُمْ غَيْرَهَا، وَلِهَذَا كَانُوا أَشْرَفَ أُمَّةٍ تَحَلَّى بِرُؤْيَتِهَا الزَّمَانُ.
أَمَّا نَحْنُ فَقَصُرَ نَظَرُنَا قَصْرًا مِن الْعَارِ أَنْ يُنْسَبَ إِلى عُقَلاءَ الرِّجَالِ وَهَلْ يُتَصَوَّرْ أَنَّ الْعَاقِلَ تَمْلِكُ قَلْبَهُ وَقَالِبَهُ الدُّنْيَا وَحِطَامِهَا الْفَانِي، فَيَجْعَلُ كُلَّ مَقْصُودِهِ الْمَالُ، مَعَ أَنَّهُ يَقْرَأ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
هَذَا هُوَ الذِي كَانَ مِنَّا فَالآخِرَةُ لا تَخْطُرُ لَنَا عَلَى بَالٍ، فَلِلدُّنْيَا أَبْدَانُنَا وَقُلُوبُنَا، وَلَهَا رِضَانَا وَسَخَطُنَا، وَإِنْ زُجْرنَا عَنْهَا إِزْدَادَ وَلَعُنَا بِهَا وَزَادَ إِقْبَالُنَا عَلَيْهَا وَتَضَاعَفَ جُهْدَنَا لَهَا.
عَلَى حَد قَوْل الشَّاعر:
وَإِذا زَجَرْتُ النَّفْسَ عَنْ شَغَفٍ بِهَا
فَكَأَنَّ زَجْرَ غَويِّهَا إِغْرَاؤُهَا
لِهَذَا كَرِهْنَا الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً فَفَقَدْنَا الشَّجَاعَةَ وَأَصَابَنَا الْوَهَنُ وَالْخَورُ وَالضَّعْفُ وَالْجُبْنُ.
شِعْرًا: ... نَهَاكَ عَن الْبَطَالَةِ وَالتَّصَابِي ... نُحُولُ الْجِسْمِ وَالرَّأْسُ الْخَضِيبُ
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضَا ... فَبَعْضُ الشَّيْءِ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ(6/87)
وَلِهَذا وَصَلَتْ بِنَا الْحَالُ إِلى أَنْ مَنَعْنَا الزَّكَاةَ أَوْ بَعْضَهَا وَهِيَ قَرِينَةُ الصَّلاةَ، وَمِن أَجْلِ الدُّنْيَا دَاهِنًّا، وَتَمَلَّقْنَا لأَعْدَاءِ اللهِ وَقُلْنَا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَوْ يَا مُعَلِّمُ، أَوْ يَا أُسْتَاذُ، هَذَا خِطَابُنَا لأَعْدَاءِ اللهِ مَعَ أَنَّ الْوَاجِب عَلَيْنَا نَحْوَهُمْ هِجْرَانُهُم وَالابْتِعَادُ عَنْهُمْ وَبُغْضُهُمْ للهِ قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ الْعَلِّي الْعَظِيم، هَذَا يَا أَخِي هُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ فِي انْحِطَاطِنَا، وَفِي عِزِّ سَلَفِنَا الأَجلاءِ الْكِرَامِ، وَلَوْ سَلَكْنَا طَرِيقَهُمْ مَا أَصَابَنَا هَذَا الذُّلُ وَالْهَوَانُ.
قَصِيدَة زُهْدِيَّةٌ فِي غُرْبَةِ الدِّيْنِ وَالْوَلاءِ وَالْبَرَاءِ وَالتَّقَلُّلِ مِن الدُّنْيَا
إلِى اللهِ نَشْكُوا غُرْبَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى
وَفُقْدَانَه مِنْ بَيْنِ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا
فَعَادَ غَرِيبًا مِثْلَ مَا كَانَ قَدْ بَدَا
عَلَى الدِّينِ فَلْيُبْكِي ذُوو الْعِلْمِ وَالْهُدَى
فَقَدَ طَمَسَتْ أَعْلامُهُ في الْعَوَالِمِ
حَوَى الْمَالَ أَنْذَالُ الْوَرَى وَرَذَالُهُم
وَقَدْ عَمَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضَلالَهُم
وَلا تَرْتَضِي أَقْوَالَهم وَفِعَالَهُمْ
وَقَدْ صَارَ إِقْبَالُ الْوَرَى وَاحْتِيَالُهم
عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَجَمْعِ الدَّرَاهِمِ(6/88)
.. فَذُو الْمَالِ لا تَسْأْلَ أَخَصُّ خَدِينِهِم
وَقَدْ نَفِقَ الْجَهْلُ الْعَظِيمُ بِحِينِهِم
بِإعْرَاضِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ وَمَدِينِهِم
وَإِصْلاحِ دُنْيَاهُمْ بِإفْسَادِ دِينِهِم
وَتَحْصِيلِ مَلْذُوذَاتِهِمْ وَالمَطَاعِمِ
مُحِبُّونَ لِلدُّنْيَا مُحِبُّونَ قَيْلَهَا
وَلَوْ مُعْرِضًا عَنْ دِينِهِ وَلَهَاً لَهَا
وَكُلُّهُمُ لا شَكَّ دَنْدَنَ حَوْلَهَا
يُعَادُونَ فِيهَا بَلْ يُوَالُونَ أَهْلَهَا
سَوَاءٌ لَدَيْهِم ذُو التُّقَى وَالْجَرَائِمِ
إِلى اللهِ فِي هَذَا الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَا
نَبُثُّ الدُّعَا فَالْقَلْبُ لا شَكَّ قَدْ قَسَا
وَحُبُّ الْوَرَى الدُّنْيَا فَفِي الْقَلْبِ قَدْ رَسَى
إِذَا انْتُقِصَ الإِنْسَانُ مِنْهَا بِمَا عَسَى
يَكُونُ لَهُ ذَخْرًا أَتَى بِالْعَظَائِمِ
بَكَى وَاعْتَرَاهُ الْمَسُّ مِنْ عُظْمِ مَا حَسَى
وَخَرَّ صَرِيعًا إِذْ بَدَا النَّقْصُ وَأَفْلَسَا
وَانْحَلَ جِسْمًا نَاعِمًا قَبْلُ مَا عَسَى
وَأَبْدَى أَعَاجِيبًا مِن الْحُزْنِ وَالأَسَى
عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ حَازِمِ(6/89)
.. وَنَادَى بِصَوْتٍ مزْعَجٍ مُتَكَلِّمًا
وَبَاتَ حَزِينًا قَلْبُه مُتَكَلِّمًا
وَقامَ عَلى سَاقٍ لِحَرَّاهُ مُعْلِمًا
وَنَاحَ عَلَيْهَا آسِفًا مُتَظَلِّمًا
وَبَاتَ بِمَا فِي صَدْرِهِ غَيْرَ كَاتِمِ
فَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالرَّدَى
إِذَا انْتُقِصُوا الدُّنْيَا أَصَارُوا الثَّرَى نَدَى
وَبَكُوا وَأَبْكُوا كُلَّ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا
فَأَمَّا عَلَى الدِّين الْحَنِيفِيِّ وَالْهُدَى
وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ذَاتِ الدَّعَائِمِ
وَلَوْ قُطَّعَتْ فِي كُلِّ أَرْكَانِهَا الْقُوَى
وَلَوْ سَلَكْت كُلُّ الْوَرَى سُبْلَ مَن غَوَى
أَوْ اتَّخَذَ الْمَخْلُوقُ مَعْبُودَهُ الْهَوَى
فَلَيْسَ عَلَيْهَا وَالذِي فَلَقَ النَّوَى
مِن النَّاسِ مَنْ بَاكٍ وَآسٍ وَنَادِمِ
بُنُودٌ لَهَا فِيمَا مَضَى بَيْنَنَا انْتَفَتْ
وَكُلُّ مُحَامِيٍّ لَهَا مَالَ وَالْتَفَتْ
وَمَحْبُوبُنَا مَنْ أَبْغَضَتْهُ وَمَنْ نَفَت
وَقَدْ دَرَسَتْ مِنْهَا الْمَعَالِمُ بَلْ عَفَتْ
وَلَمْ يَبْقَ إِلا الإِسْمِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ(6/90)
.. وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْفَوَاحِشُ وَالْجَفَا
وَلا شَكَّ فِي فِعْلِ اللَّوَاطِ مَعَ الزِّنَى
وَقَلْبِي إِذًا مِمَّا بَدَى مَسَّهُ الضَّنَى
فَلا آمِرٌ بِالْعُرْفِ يُعْرَفُ بَيْنَنَا
وَلا زَاجِرٍ عن مُعْضَلاتِ الْجَرَائِمِ
بِحَارُ الْمَعَاصِي قَدْ طَمَى الآنَ لُجُهَا
وَمُتَّسِعُ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ ثَجُّهَا
وَقَدْ لاحَ مِنْ فَوْقِ الْبَسِيطَةِ فَجُّهَا
ومِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا
عَفَاءً وأضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ
نَوَاظِرُنَا كَلَّتْ وَأَنْوَارُهَا طَفَتْ
وَأَلْسُنُنَا عن بَحْثِ مِنْهَاجِهَا حَفَتْ
مَنَاهِجُهَا واللهِ مِنْ بَيْنِنَا عَفَتْ
وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفتْ
عَلَيْهَا السَّوَافِي مِنْ جَمِيعِ الأقَالِمِ
تَظُنُونَ أَنَّ الدَّيْنَ لَبَيْكَ فِي الفَلا
وَفِعْلَ صَلاةٍ والسُّكُوتَ عَن المَلا
وَسَالِمْ وَخَالِطْ مَن لِذَا الدِّيْن قَدْ قَلا
وَمَا الدِّيْنُ إِلا الْحُبُّ والْبُغْضُ والْولا
كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ(6/91)
.. فَأَفْرَادُنَا ظَنُّوَا النَّجَا فِي التَّنَسُكِ
وَغَالِبُنَا مِنْهَاجُهُم في التَّسَلُّكِ
وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ خَيْرِ مَسْلَكِ
وَلَيْسَ لها مِنْ سَالِكِ مُتَمَسِّكِ
بِدِين النَّبِي الأَبْطَحِي بن هَاشِمِ
فَلَسْنَا نَرَى مَا حَلَّ فِي الديِّنِ وَامّحَتْ
بِهِ الْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ إِحْدَى الْقَوَاصِمِ
عَسَى تَوْبَةٌ تَمْحُو ذُنُوبًا لِمُرْتَجِي
عَسَى نَظْرَةٌ تَسْلُكْ بِنَا خَيْرَ مَنْهَجِ
عَسَى وَعَسَى مِنْ نَفْحَةٍ عَلَّهَا تَجِي
فَنَأْسَى عَلَى التَّقْصِيرِ مِنَّا وَنَلْتَجِي
إِلى اللهِ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ
فَكُلُّ الْوَرَى فِي كَثْرَةِ الْمَالِ نَافَسَتْ
وَرَانَتْ ذُنُوبٌ فِي الْقُلُوبِ وَقَدْ رَسَتْ
وَفِي النَّهْيِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي تَنَاعَسَتْ
فَنَشْكُوا إِلى اللهِ الْقُلوبَ التِي قَسَتْ
وَراَنَ عَلَيْهَا كَسْبُ تِلْكَ الْمَآثِمِ
نُرَاعِي أَخَا الدُّنْيَا فَذَاكَ هُوَ الأَخُ
وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي مُلَطَّخُ
أَلَسْنَا بَأَوْضَارِ الْخَطَا نتَضَمَّخُ
أَلَسْنَا إِذَا مَا جَاءَنَا مُتَضَمِّخُ(6/92)
بِأَوْضَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظَالِمِ
أَتَيْنَاهُ نَسْعَى مِنْ هُنَاكَ وَمِنْ هُنَا
وَفِي عَصْرِنَا بَعْضٌ يُرَدُ وَلَوْ عَنَى
أَتَيْنَا سِرَاعًا وَالرِّضَى عَنْهُ حثَّنَا
نَهُشُّ إِلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالشَّنَا
وَنَهْرَعُ فِي إِكْرَامِهِم بالْولائِمِ
إِذَا يُرْتَضَى فِي الدِّينِ هَلْ مِنْ مُعَلِّم
أَفِقْ أَيُّهَا الْمَغْبُونُ هَلْ مِنْ تَنَدُّمٍ
أَيَرْضَى بِهَذَا كُلُّ أَبْسَلَ ضَيْغَمٍ
وَقَدْ بَرِيَ الْمَعْصُومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ
يُقِيمِ بِدَارِ الْكُفْر غَيْرَ مُصَارِمِ
وَلا مُنْكِرٍ أَقْوَالَهُمْ يَا ذَوِي الْهُدَى
ومُبْغِضٍ أَفْعَالَ مَنْ ضَلَّ واْعَتَدَى
ولا آمرٍ بالْعُرْفِ مِنْ بَيْنِهِم غَدَا
ولا مُظْهِرٍ لِلدِّينِ بَيْنَ ذَوِي الرَّدَى
فَهَلْ كَانَ مِنَّا هَجْرُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ
وَهَلْ كَانَ فِي ذَاتِ الْمُهَيْمِنِ وُدُّنَا
وَهَلْ نَحْنُ قَاتَلْنَا الذِي عَنْهُ صَدَّنَا
وَهَلْ نَحْنُ أَبْعَدَنَا غَدَا والذِي دَنَا
وَلَكِنَّمَا الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُ عِنْدَنَا
مُسالَمَةُ الْعَاصِينَ مِنَ كُلِّ آثِمِ(6/93)
.. أَيَا وَحْشَةً مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ
وَيَا وَصْمَةً لِلدِّينِ مِنْ كُلِّ نَازِلِ
تَكَلَّمَتْ الأَوْبَاشُ وَسْطَ الْمَحَافِلِ
فِيَا مِحْنَةَ الإِسْلامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ
وَيَا قِلَّةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ
فَنَفْسَكَ فاخْزِمَْا إِذَا كُنْتَ حَازِمًا
وَمِن بَابِهِ لا تَلْتَفِتْ كُنْ مُلازِمًا
وَصَبْرٌ فَرَبُّ الْعَرْشِ لِلشِّرْكِ هَازِمًا
وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا
عَلَى الدِّينِ فاصْبِرْ صَبْرَ أَهْل عَزَائِمِ
وَمُدُّ يَدًا للهِ كُلَّ عَشِيَّةٍ
وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ فِي كُلِّ لَحْظَةِ
عَلى مِلَّةِ الإِسْلامِ أَزْكَى الْبَرِيَةِ
فَمَنْ يَتَمَسَّكَ بالْحَنِفِيَّةِ الَّتِي
أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ
وعُضَّ عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ إِذْ غَدَا
وَحِيدًا مِنَ الْخِلانِ مَا ثَمَّ مُسْعِدًا
عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ أَصْبَحَ وَاحِدًا
لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ أَمْرًا مِنْ ذَوِي الْهُدَى
مِن الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ
وَكُنْ عَنْ حَرَامٍ فِي الْمَآكِلِ سَاغِبًا(6/94)
.. وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادِ مُشَاغِبًا
ومُدَّ يدًا نَحْوَ الْمُهَيْمِنِ طَالِبًا
وَنُحْ وابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا
إِلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ
لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينِ مِنْ بَعْدِهَا عَفَتْ
مَعَالِمُهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
وَأَنْ يَكْبُتَ الأَعْدَا وَيَفْنُوا بِغِلِّهِمْ
وَيَخْذُلَ أَعْدَاءَ الْهُدَى بأَقَلِّهِمِ
مِن الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَخِلِّهِمْ
وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ والآلِ كُلِّهِمْ
وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى والْمَكَارِمِ
بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ والرَّمْلِ والْحَصَى
وَمَا انْهَلَّ وَدْقٌ مِنْ خِلالِ الْغَمَائِمِ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ الْوَرَى جُودُهُ وَإِحْسَانُه لنَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ أَنْْْْْْ تُثَبِّتَ وَتُقَوِّي قُلُوبَنَا فِي الإِيمَانِ بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخرِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ اللَّهُمَّ وَأَيِّدْنَا بِنَصْرِكَ وَارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأهُّبَ وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفَنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/95)
(فَصْلٌ)
وَمَضَى ? حَتَّى وَصَلَ إِلى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخَيْنِ، فَعَسْكَرَ بِهِ، ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْجَيْشَ، فَرَدَّ مَنْ اسْتَصْغَرَهُ مِنْ جُنُودِهِ.
وَكَانَ فِيمَنْ رَدَّ رَسُولُ اللهِ ? مِنْ هَؤُلاءِ الصِّغَارِ رَافِعُ بن خَدِيجٍ
وسمرة بن جُنْدُبٍ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ?: إِن رَافِعًا يُحْسِنُ الرِّمَايَةَ فَأجَازَهُ فَبَكَى سمرة ابن جُنْدُبٍ، وَقَالَ: أَجَازَ رَافِعًا وَرَدَّنِي مَع أَنِّي أَصْرَعُهُ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ? فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتَصَارَعَا فَكَانَ الْغَالِبُ سمرة، فَأجَازَهُ.
وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ ? لَيْلَتَهُ تِلْكَ بِالشَّيْخَيْنِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى حَرَسِ الْجَيْشِ مُحَمَّدَ بن سَلَمَةَ، وَعَلَى حَرَسِهِ، ذَكْوَانَ بن قَيْسٍ.
وَنَامَ ? حَتَّى إِذَا كَانَ السَّحَرُ، قَالَ: «أَيْنَ الأَدِلاءُ، مَن رَجُلَ يَدُلُنَا عَلَى الطَّرِيقِ، يُخْرِجُنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ» . فَقَامَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْحَارِثِي، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ ? الشَّوْطَ، وَهُوَ بُسْتَانٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ، انْشَقَّ الْجَيْشُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ?، فَرَجَعَ عَبْدُ اللهِ بن أُبَيّ بِثَلاثِمَائةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَقُول: أَطَاعَ الْغُلْمَانَ وَعَصَانِي، فَعَلامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَا هُنَا، فَجَعَل عَبْدُ اللهِ بن عَمْرُو بن حَرَامٍ يُحَاوِلُ أَنْ يَثْنِيهُمْ عَنْ عَزْمِهِمْ هَذَا، وَيُنَاشِدُهُمْ اللهَ أَلا يَشُقُّوا عَصَا الْجَمَاعَةِ، وَأَنْ لا يَخْذُلُوا قَوْمَهُمْ وَنَبِيَّهُمْ فِي حَضْرَةِ الْعَدُوِّ، فَيَقُولُونَ لَهُ مُتَهَكِمِينَ بِهِ {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} .
وَقَدْ أَحْدَثَتْ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الشَّنِيعَةُ، خَلْخَلَةً عَظِيمَةً فِي بِنَاءِ الْجَيْشِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ الْحَرِجِ، وَأَحْدَثَتْ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً فِي نُفُوس الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَقَدْ هَمَّتْ بَنُوا حَارِثَةَ مِن الْخَزْرَجِ، وَبَنُوا سَلَمَةَ الأَوْسِ، أَنْ تَفْعَلا كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ ابنُ أَُبَيّ، وَلَكِنْ عَصَمَهُمُ اللهُ، فَعَادُوا إِلى صُفُوفُ الْجَمَاعَةِ، وَسَارُوا مَعَ الْجَيْشِ، كَمَا يَسِيرُونَ.
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ ? إِلى أُحُدٍ، وَهُوَ جَبَلٌ كَثِيرُ الْمَسَالِكِ، وَالشِّعَابِ، تَقْطَعُهُ عِدَّةُ وِدْيَانٍ، وَيُدورُ دَوْرَةً وَاسِعَةً فِي مُوَاجَهِةَ السَّهْلِ الضَّيّقِ.(6/96)
الذِي وَقَفَتْ عِنْدَهُ قُرَيْشٍ، كَمَا أَنَّ تَعَرجَاتِ الأَرْضِ جَعَلَتْ فِي انْحِدَارِهِ فَجَوَاتٍ، تُشْبِهُ الْحُفَرَ، تَصْلُحُ للإخْتِفَاءِ فِي الْحَرْبِ الدِّفَاعِيَّةِ، لِقَذْفِ النِّبَالِ.
فَنَزَلَ رَسُولِ اللهِ ? فِي شَعبٍ عَلَى عُدْوَةِ الْوَادِي، إِلى جَانِب تلٍّ مُشْرِفٍ، يُقَالُ لَهُ: جَبَلُ عَيْنَيْن، وَهُنَاكَ أَخَذَ ? يَصُفُ أَصْحَابَهُ، وَيُعْبِئُهُمْ لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ ظُهُورَهُمْ إِلى الْجَبَلِ بِحَيْثُ يَحْتَمُونَ بِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَجَعَلَ وَجُوهَهُمْ إِلى الْمَدِينَةِ، بِحَيْثُ يَسْتَقْبِلُونَ الْوَادِي، وَيُشْرِفُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْلاهُ وَجَعَلَ خَمْسِينَ مِن الرُّمَاةِ عَلَى جَبَل عَيْنَيْن.
وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بن جُبَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمُوا ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَأَنْ لا يُمَكِّنُوا الْعَدُوِّ مِن اقْتِحَامِ هَذَا الْحِصْنِ، وَأَنْ لا يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ هَذَا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ عَلَّمَهُمْ أَنْ يَنْضَحُوا الْخَيْلَ كُلَّمَا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ بِالنَّبْلِ، وَأَكَّدَ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يُغَادِرُوا مَوَاضِعَهُمُ، وَإِنْ رَأَوْا أَصْحَابَهُمْ تَتَخَطَّفُهُمْ الطَّيْرُ.
فَلَمَّا انْتَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْدِيلِ الصُّفُوفِ، وَإِعْدَادِ الْمَوَاضِعِ، خَطَبَ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لا يَبْدَءُوا بِقِتَالٍ حَتَّى يُؤَاذِنَهُمْ، وَبَيْنَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِلاً بِصَفِّ جُنُودِهِ ظَهَرَ الْقُرَشِيُّونَ فِي السَّهْلِ الْمُنْبَسِطِ، تَحْتَ التَّلِّ، وَصَارَ الْجَيْشَانِ وَجْهًا لِوَجْهٍ.
وَظَهَرَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، يَمْشِينَ بَيْنَ الصُّفُوفُ، وَيَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَيُنْشِدْنَ الأَنَاشِيدِ، تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، وَإِثَارَةَ لِلْحَمِيَّةِ بَيْنَ الرِّجَالِ.
اللَّهُمَّ نَجّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيَ وَالْبَوَارِ، وَأَدْخِلْنَا بفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ الْقَرَارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/97)
(فَصْلٌ)
فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ، بَدَأَ أَبُو سُفْيَانَ خُطَّةَ التَّخْذِيلِ، بَيْنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، خَلُّوا بَيْنَ وَبَيْنَ عَمِّنَا وَنَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَذَهَبَ نِدَاؤُهُ صَرْخَةً فِي الْفَضَاءِ.
فَأَعْقَبَهُ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، فَبَرَزَ بَيْنَ الصُّفُوفُ يُنَادِي قَوْمَهُ الأَوْسَ: يَا لَلأَوْسِ إِليَّ إِليَّ، فَمَا كَانَ جَوَابُهُ مِنْهُمْ إِلا اللَّعْنَ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمَ وَالرَّمِيَ بِالْحِجَارَةِ وَالطَّرْدِ حَتَّى وَلَّى مُخْتَزِيًا خَجْلانَ، يَقُولُ: لِقُرَيْشٍ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ.
وَأَخْفَقَتْ خُطَّةُ التَّخْذِيلِ، كَمَا أَخْفَقَتْ خُطَّةُ الْمُفَاجَأَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْقِتَالِ مَفَرٌّ، وَهُنَا حَاوَلَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تُطَوِّقَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَضُمُّ عَلَيْهِمْ جَنَاحَيْهَا بِحَرَكَةِ الْتِفَافٍ سَرِيعَةٍ.
فَتَحَرَّكَ لِوَاءُ عِكْرَمَةَ مِنَ الْمَيْسَرَةِ، يُرِيدُ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ عَسْكَرِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ.
فَحَاوَلَ مِثْلَهُ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ مِنْ الْمَيْمَنَةِ، فَأَمْطَرَهُ الرُّمَاةُ وَابِلاً مِنَ النِّبَالِ، َفارْتَدَّتْ الْخَيْلُ عَلَى أَعْقَابِهَا مُسْرِعَةً.
فَعَادَ الْكُفَّارُ إِلى أَمَاكِنِهِمْ كَمَا كَانُوا أَوَّلاً وَبَدَأ الْقِتَالُ بِالْمُبَارَزَةِ. فَخَرَجَ مِنْ صُفُوفُ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ، فَبَرَزَ لَهُ الزُّبَيْرُ بنُ الْعَوَّامِ، فَقَتَلَهُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ? وَكَبَّرَ فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.
وَشَدُّوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ يَتَصَايَحُونَ صَيْحَةَ الْحَرْبِ، (أَمِتْ أَمِتْ) فَهَجَمَ عَلِيَّ بن أَبِي طَالِبٍ عَلَى حَامِلِ لِوَائِهِمْ طَلْحَةِ بن أَبِي طَلْحَة فَقَتَلَهُ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَسُرَّ النَّبِيِّ ? بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ هُو كَبْشُ الْكَتِيبَةِ.(6/98)
وَكَانَ قَزْمَانُ يُعْرَفُ بِالشَّجَاعَةِ، وَقَدْ تَأَخَّرَ، فَعَيّرَتْهُ نِسَاءُ بَنِي ظَفَرٍ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ?، وَهُوَ يُسَوِّي الصُّفُوفَ حَتَّى انْتَهَى إِلى الصَّفِّ الأَوَّلِ فَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ نَبْلاً كَأَنَّها الرِّمَاحُ، وَيَكُتُّ كَتِيتَ الْجَمَلِ، ثُمَّ فَعَلَ بِالسَّيْفِ الأَفَاعِيلَ حَتَّى قَتَلَ سَبْعَةً.
وَأَصَابَتْهُ جِرَاحٌ فَوَقَعَ، فَنَادَاهُ قَتَادَةُ بن النُّعْمَان: أَبَا الْغَيْدَاقِ هَنِيئًا لَكَ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا قَاتَلْتُ يَا أَبَا عَمْروٍ عَلَى دِينٍ، مَا قَاتَلْتُ إِلا عَلَى الْحِفَاظِ، أَنْ تَسِيرَ قُرَيْشٌ إِلَيْنَا حَتَّى تَطَأ سَعَفَنَا، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ? فَقَالَ: «مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُل الْفَاجِرُ» .
ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ أَخُو طَلْحَةَ عُثْمَانُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَخُوهُمَا سَعِيدٌ، فَرَمَاهُ سَعْدُ بن أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَتَنَاوَبَ اللِّوَاءَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَوْلادِ طَلْحَةَ، وَكُلُّهُمْ يُقْتَلُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَحَمَلَ اللِّوَاءُ غُلامَ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ صُوءَابُ، فَقُتِلَ، وَسَقَطَ اللِّوَاءُ عَلَى الأَرْضِ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ أَخْذًا شَدِيدًا وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَانْفَرَجَتْ صُفُوفُهُمْ فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، وَأَمْنَعُوا فِيهِمْ ضَرْبًا بِالسُّيُوفِ، وَطَعْنًا بِالرِّمَاحِ، وَرَمْيًا بِالسِّهَامِ، فَانْكَشَفُوا وَوَلَّوْا الأَدْبَارِ وَجَعَلَتْ نِسَاؤُهُمْ تَصِيحُ وَتُوَلْوِلُ، وَأَخَذْنَ فِي الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ، مِنْ الأَسْرِ مُشَمِّرَاتٍ عَنْ أَسَياقِهِنَّ، وَخَلاخِيلِهِنَّ، وَتَتَبَّعَ الْمُسْلِمُونَ أَعْدَاءَهُمْ يَضَعُونَ فِيهِمْ السِّلاحَ حَيْثُ شَاءُوا، حَتَّى أَبْعَدُوا عَن مُعَسْكَرِهِمْ.
اللَّهُمَّ إِنَّ نَوَاصِينَا بِيَدِيكَ، وَأُمُورُنَا تَرْجعُ إِلَيْكَ، وَأَحْوَالِنَا لا تَخْفَى(6/99)
عَلَيْكَ، وَآلامُنَا وَأَحْزَانُنَا وَهُمُومُنَا وَغُمُومُنَا كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ لَدَيْكَ، اللَّهُمَّ قَدْ عَجَزَتْ قُدْرَتُنَا، وَقَلَّتْ حِيلَتُنَا، وَضَعَفَتْ قُوَّتُنَا، وَتَاهَتْ فِكْرَتُنَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْنَا هُمُومُنَا وَأَوْصَابُنَا، وَأَنْتَ مَلْجَؤُنَا، وَمَلاذُنَا وَمَوْلانَا، وَسَيِّدُنَا وَإِلَيْكَ نَرْفَعُ بَثَّنَا وَحُزْنَنَا، وَشِكَايَتُنَا، يَا مَنْ يَعْلَمِ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ، وَأَمِّنْ خَوْفَنَا إِذَا وَصَلْنَا إِلَيْكَ، وَلا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا إِذَا صِرْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَسُوقُهُ الضَّرُورَاتُ إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيم، وَجُدْ عَلَيْنَا بِإِحْسَانِكَ الْعَمِيمْ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيم.
اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ فِي قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ وَقَعُوا عَلَى الْغَنَائِم وَالأَسْلابِ يَجْمَعُونَهَا وَيَنْتَهِبُونَهَا وَهُمْ مُطْمَئِنُونَ إِلى أَنَّ ظُهُورَهُمْ لا تَزَالُ مَحْمِيَّةً بِرُمَاتِهِمْ، أَمَّا الرُّمَاةُ فَقَدْ خُيِّلَ لَهُمْ أَنَّ الْمَعْرَكَةَ انْتَهَتْ. وَأَنَّ الْهَزِيمَةَ قَدْ تَمَّتْ، وَخَشُوا أَنْ يَسْبَقَهُمْ إِخْوَانُهُمْ فِي جَمْعِ الْغَنَائِمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا بَقَاؤُنَا هُنَا، وَقَدْ هَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، هَؤُلاءِ إِخْوَانُكُمْ يَغْنَمُونَ، فَادْخُلُوا فَاغْنَمُوا مَعَ إِخْوَانِكُمْ، فَذَكَّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ ? وَوَصَيَّتَهُ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ عَاقِبَةَ الْخِلافِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، وَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكينَ رَجْعَةٌ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ وَأَخْلَوا الثَّغْرَ، وَتَرَكُوا أَمِيرَهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لا يُجَاوِزُونَ الْعَِشْرَةَ فَانْكَشَفَ بِذَلِكَ الْحِصْنُ الذِي كَانَ يَحْمِي ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ يَتَقَهْقَرُ وَعَيْنُهُ إِلى التَّلِّ لا تُفَارِقُهُ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةَ يَتْرُكُونَ مَوَاقِفَهُمْ انْقَلَبَ رَاجِعًا فِي دَوْرَةٍ، وَاسِعَةٍ مُتَّخِذًا مِنْ الأَرَاضِي الْمَسْتُورَةِ دَرْبًا وَطَرِيقًا(6/100)
لَهُ، وَجَاءَ فِي أَعْقَابِهِ عِكْرَمَةُ بِلِوَائِهِ، فَتَسَلَّلوا فَوْقَ الْجَبَلِ وَأزَاحُوا الرُّمَاةَ الْبَاقِينَ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ وَاقْتَحَمُوا خُطُوطَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْخَلْفِ، وَجَعَلُوا يَتَنَادُونَ بِشَعَارِهِمْ، يَا لَلْعُزَّى، يَالِهَبَلْ، فَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ إِدْبَارِهِمْ، وَأَخَذَتْ عُمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ اللِّوَاءِ فَرَفَعَتْهُ، فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِ وَفُوجِئَ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْدَائِهِمْ قَدْ حَاصَرُوهُمْ وَأَوْجَعُوا فِيهِمْ قَتْلاً ذَرِيعًا فَاضْطَرَبَ أَمْرَهُمْ واَنْتَقضَتْ صُفُوفُهُمْ، وَجَعَلُوا يُقَاوِمُونَ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَيُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ شِعَارٍ، وَتَرَكُوا مَا انْتَهَبَوا وَخَلُّوا مَنْ أَسَرُوا، وَتَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَالْعَجَلَةْ الْمُثْمِرَة لِلنَّدَامَة.
شِعْرًا: ... وَمُسْتَعْجِلِ وَالْمُكْثِ أَدْنَى لِرُشْدِهِ ... وَلَمْ يَدْرِ مَا يَلْقَاهُ حِينَ يُبَادِرُ
وَنَظَرَ حُذَيْفَةَ إِلى أَبِيهِ الْيَمَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أَبِي، فَلََمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يَدِيهُ، فَقَالَ: قَدْ تَصَدَّقْتُ بِديتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَزَادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْرًا عِنْدَ النَّبِيِّ ?.
وَقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ أَطْلُبُ سَعْدَ بن الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِي: «إِنْ رَأَيْتَهُ فَأقْرأَهُ مِنِّي السَّلام َ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللهِ ?: كَيْفَ تَجِدُكَ» ؟ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ.
فَقُلْتَ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ: «أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ» ؟ فَقَالَ: وَعَلَى رَسُولِ اللهِ ? السَّلام، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَار: لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلى رَسُولِ اللهِ ? وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُف وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِنْ وَقْتِهِ.
شِعْرًا: ... وَمَا الْمَرْءُ إِلا حَيْثُ يَقْضِي حَيَاتَهُ ... لِنُصْرَةِ دِينِ الله لا لِلتَّكَاثُرِ
آخر: ... وَمَا الْبَأْسُ إِلا فِي لِحَدِيدِ مُرَكبٌ ... ومَا الْعِزُّ إلا في التُّقَى والدِّيَانَةِ(6/101)
وَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ: يَا فُلانُ أَشَعَرْت أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ؟ فَقَالَ الأَنْصَارِي: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية.
وَأَكْرَمَ اللهُ بِالشَّهَادَةِ مَنْ أَكْرَمَ وَهُمْ سَبْعُونَ، وَفِي وَسَطِ هَذِهِ الدَّهْشَةُ الْبَالِغَةُ صَرَخَ إِبْلِيسَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ إِنَّ مُحَمَّدًا قُدْ قُتِلَ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَ أَمْرَ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
وَمَرَّ أَنَسُ بنِ النَّضْرِ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَلْقَوْا بَأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ، فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ ? فَقَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ قُومُوا مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ.
وَخَلَص الْمُشْرِكُونَ إِلى رَسُولِ اللهِ ? وَثَبَتَ ? فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالاً شَدِيدًا فَظَلَّ يَرْمِي بِالنَّبْل حَتَّى فَنِيَ نَبْلُهُ، وَانْكَسَرَتْ سِيَّةُ قَوْسِهِ، وَانْقَطَعَ وَتَرُهُ، ثُمَّ ظَلَّ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ.
وَثَبَتَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنَ أَصْحَابِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ دُونَ الْعَشَرَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فَوْقَ الْعَشَرَةَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَحَاطُوا بِهِ، يَصُدُّونَ عَنْهُ هَجَمَاتِ الْعَدِوِّ، الذِينَ أَحْدَقُوا بِهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ.
وَشَدُّوا عَلَيْهِ يَرِيدُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَمَازَالَ هَؤُلاءِ النّفَرُ يَذُودُونَ عَنْهُ وَيُقَاتِلُونَ دُنَهُ، وَيَتَلَقَوْنَ ضَرَبَاتِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّ الْعَدُوَّ جَرَحَ وَجْهَهُ ? وَكَسَرَ رَبَاعِيَّتَهُ وَهَشَمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَرَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى وَقَعَ وَسَقَطَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الَّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ يَكِيدُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ(6/102)
فَأَخَذَ عَلِيّ بِيَدِهِ، وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى أَذَاهُ ? عَمْرُو بن قَمِئَة، وَعُتْبَة بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الذِي شَجَّهُ عَبْدُ اللهِ بنُ شِهَابٍ الزُّهْرِي عَمُّ مُحَمَّد بن مُسْلِم بن شِهَابِ الزَّهْرِي، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلى عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَنَشَبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمَغْفَرِ فِي وَجْهِهِ، فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، وَعَضَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى سَقَطَتْ ثَنيَّتَاهُ مِنْ شِدَّةِ غَوْصِهِمَا فِي وَجْهِهِ ?.
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرَضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَدْ أَبْلَى النَّفَرُ الذِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? فِي الدِّفَاعِ عَنْهُ أَحْسَنَ الْبَلاءَ وَامْتَازَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي دِفَاعِهِ بِالصِّدْقِ وَالشَّجَاعَةِ، فَقَدْ قَاتَلَ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ عَنْهُ قِتَالاً شَدِيدًا، وَصَارَ يَذُودُ عَنْهُ بِالسَّيْفِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَيَدُورُ حَوْلَهُ يُتَرِّسُ بِنَفْسِهِ دُونَهُ، وَالسِّيُوفُ تَغْشَاهُ، وَالنَّبْلُ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
شِعْرًا: ... كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا ... وَحُبُّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي(6/103)
فَلَمْ يَزَلْ يَقِي رَسُولَ اللهِ ? بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجْهَضَهُمْ عَنْهُ، فَانْكَشَفُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ غِنَاءً عَنْ رَسُولِ اللهِ ?، فَجَعَلَ ? يَقُولُ: ((قَدْ أَوْجَبَ طَلْحَةُ)) .
وَفِي مَغَازِي الأَمَوِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَعَدُوا عَلَى الْجَبَلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ? لِسَعْدٍ: «أجْبُنْهُمْ» . - يَقُولُ أرْدُدْهُمْ - فَقَالَ: كَيْفَ أَرْدُّهُمْ وَحْدِي، قَالَ ذَلِكَ ثَلاثًا.
فَأَخَذَ سَعْدُ سَهْمًا مِنْ كَنَانَتِهِ فَرَمَى بِهَا رَجُلاً فَقَتَلَهُ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذْتُ سَهْمِي أَعْرِفُهُ فَرَمَيْتُ بِهِ آخرَ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ أَخَذْتُهُ أَعْرِفُهُ فَرَمِيتُ بِهِ آخرَ فَقَتَلْتُهُ، فَهَبَطُوا مِنْ مَكَانِهِمْ، فَقُلْتُ: هَذَا سِهْمُ مُبَارَكٌ فَجَعَلْتُهُ فِي كَنَانَتِي فَكَانَ عِنْدَ سَعْدٍ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ بَنِيهِ.
وَقَاتَلَتِ الْمَلائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ?. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلاَنِ يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ.
وَقَالَ نَافِعُ بن جُبَيْرٍ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِن الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شهَدِتْ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللهِ ? وَسَطَهَا كُلُّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ.
وَرَمَى حِبَّانُ بنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقَدْ جَاءَتْ تَسْقِي الْجَرْحَى - فَانْكَشَفَ عَنْهَا فَاسْتَغَرَقَ فِي الضَّحِكِ.
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? فَدَفَعَ إِلى سَعْد ابن أَبِي وَقَّاصٍ سَهْمًا لا نَصْلَ لَهُ فَقَالَ: «ارْمِ» . فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي نَحْرِ حِبَّانَ فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيًا وَبَدَتْ عَوْرَتُهْ.(6/104)
فَضَحَكَ رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثُمَّ قَالَ: «اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ أَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ وَسَدَّدَ رَمْيَتَكْ» .
وَكَانَ شَمَّاسُ بن عُثْمَانَ بن الشَّرِيدِ الْمَخْزُومِي لا يَرْمِي رَسُولَ اللهِ ? بَصَرَهُ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا رَآهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ بِسَيْفِهِ حَتَّى غُشِيَ رَسُولُ اللهِ ? فَتَرَّسَ بِنَفْسِهِ دُونَهُ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَامِيًا شَدِيدَ الرَّمْي فَنَثَرَ كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَي رَسُولِ اللهِ ? وَصَارَ يَرْمِي عَنْهُ وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ? كُلَّمَا مَرَّ بِهِ أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ مَعَهُ كِنَانَةٌ يَقُولُ لَهُ: أُنْثُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ.
وَكُلَّمَا رَمَى أَبُو طَلْحَةَ سَهْمًا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ? مِنْ وَرَائِهِ لِيَرَى مَوْقِعَ السَّهْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللهِ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لا تَنْظُرْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دَوْنَ نَحْرِكَ وَوَجْهِي لِوَجْهِكَ فِدَاءٌ.
وَتَرَّسَ أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? فَجَعَلَ النَّبْلُ يَقَعُ فِي ظَهْرِهِ وَهُو مُنْحَنٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? حَتَّى كَثَر فِيهِ النَّبْلُ وَرَمَى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? فَجَعَلَ رَسُولِ اللهِ ? يُنَاوِلُهُ النَّبْلَ وَهُوَ يَقُولُ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ السَّهْمَ مَالَهُ نَصْلٌ فَيَقُولُ لَهُ: «ارْمِ بِهِ» فَيَرْمِي بِهِ.
وَدَافَعَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? أُمُّ عِمَارَةَ وَهِي نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ الْمَازِنِيَّةُ وَكَانَتْ تَسْقِي النَّاسَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ أُحِيطَ بِهِ وَانْهَزَمَ عَنْهُ النَّاسُ وَضَعَتْ سِقَاءَهَا وَأَخَذَتْ سَيْفًا فَجَعَلَتْ تُقَاتِلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَإِنَّهَا لَحَاجِزَةٌ(6/105)
ثَوْبِهَا عَلَى وَسَطِهَا حَتَّى جُرِحَتْ ثَلاثَةَ عَشْرَ جُرْحًا وَظَلَّ عَلَى عَاتِقَها مِنْ هَذِهِ الْجِرَاحِ جُرْحٌ أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ أَصَابَهَا بِهِ ابن قَمِئَةَ.
وَقَدْ سُمِعَ رَسُولُ اللهِ ? يَقُولُ يَوَمْئِذٍ: «مَا الْتَفَتُ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا أَنَا أَرَاهَا تُدَافِعُ دُونِي» .
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ خَرَجَتْ نُسَيْبَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَزَوْجُهَا زَيْدُ بن عَاصِمٍ وَابْنَاهَا: حَبِيبٌ، وَعَبْدُ اللهِ. وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ?: «بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» . فَقَالَتْ لَهُ نُسَيْبَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ادْعُ اللهَ أَنْ نُرَافِقَكَ فِي الْجَنَّةِ.
فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنَّةِ» .
وَعِندَ ذَلِكَ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَهَذِهِ حَقًّا شَجَاعَةٌ مُدْهِشَةٌ لإِمْرَأَةٍ وَقَدْ تَحَمَّلَتْ مَا أَصَابَهَا مِن الْجِرَاحِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ مَا يَعْجَزُ عَنْ تَحَمُّلَهُ الرِّجَالُ فَضْلاً عَنِ النِّسَاءِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِن الذِّينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَكَانَ الْحَبَّابُ بنُ الْمُنْذِرِ يَحُوشُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تُحَاشُ الْغَنَمُ وَاشْتَمَلُوا عَلَيْه مَرَّةً حَتَّى قِيلَ: قُدْ قُتِلَ.(6/106)
ثُمَّ بَرَزَ والسَّيْفُ في يَدِهِ، وَقَدْ افْتَرَقُوا عَنْهُ وَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَهْرَبُوْنَ.
وَقَامَ زِيَادُ بن السَّكَنِ فِي نَفَرٍ مِن الأَنْصَارِ فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللهِ ? رَجُلاً ثُمَّ رَجُلاً وَهُمْ يُقْتَلُونَ دُونَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادُ فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ فَوَسَّدَهُ رَسُولُ اللهِ ? رِجْلَهُ حَتَّى مَاتَ.
وَمَاتَ مُصْعَبُ بن عُمْيَرٍ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? وَهُوَ يَتَلَقَّى عَنْهُ ضَرْبَةً قَدْ سُدِّدَتْ إِلَيْهِ قَتَلَهُ ابنُ قَمِئَةَ وَهُوَ يَحْسِبُهُ رَسُولَ اللهِ وَذَهَبَ يُذِيعُ بَيْنَ الْكُفَّارِ.
وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? خَلْقٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يُفَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُّوِ حَتَّى يُصْرَعَ.
وَرَوَى الْوَاقِدِي عَنْ سُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ قَالَ: لَقَدْ أُصِيبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ نَحْوٍ مِنْ ثَلاثِينَ كُلُّهُمْ يَجِيءُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْفِدَاءُ وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ وَعَلَيْكَ سَلامُ اللهِ غَيْرَ مُوَدَّعٍ.
ثُمَّ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? لا يَزَالُ حَيًّا فَأَحَاطُوا بِهِ حَتَّى كَشَفُوا عَنْهُ الْعَدُوَّ.
وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ ? كَعْبُ بنُ مَالِكٍ قَالَ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تَزْهُرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ فَنَادَيْتُ بَأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللهِ ? فَأَشَارَ إِليَّ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ أَنْصِتْ.
وَفَاءَتْ إِلى رَسُولِ اللهِ ? جَمَاعَةٌ مِن الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضُوا بِهِ إِلى الشَّعْب فَاحْتَمَى بِهِ مَعْ مَنْ كَانَ يَحْتَمِي هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِهِ.(6/107)
وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ ? إِلى صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ لِيَعْلُوهَا فَلَمْ يَقْدِرْ لِكُثْرَةِ النَّزِيفِ الذِي خَرَجَ مِن الْجِرَاحِ فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا.
وَحَانَتْ الصَّلاةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا وَصَارَ رَسُولُ اللهِ ? ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ لِوَاءِ الأَنْصَارِ وَشَدَّ حَنْظَلَةُ الْغَسِيلُ - وَهُوَ حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي عَامِرٍ - عَلَى أَبِي سُفْيَان. فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ حَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ شَدَادُ بنُ الأَسْوَدِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ جُنَبًا. فَإِنَّهُ سَمَعَ الصَّيْحَةَ وَهُوَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلى الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ? أَصْحَابَهُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ ثُمَّ قَالَ: «سَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ» . فَسَأَلُوا امْرَأَتَهُ فَأَخْبَرَتْهُمْ الْخَبَرَ. وَعِنْدَمَا امْتَدُّوا صُعُودًا فِي الْجَبَلِ أَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ ? أُبَيَّ بن خَلَفٍ عَلَى جَوَادٍ لَهُ اسْمَه الْعَوْدُ كَانَ يُطْعِمُهُ فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ أَقْتُلُ عَلَيْهِ مُحَمَّدًا، فَلَمَا سَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ?، قَالَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهِ» . فَلَّمَا أَدْرَكَهُ تَنَاوَلَ ?؛ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ، وَطَعَنَ بِهَا عَدُّوَ اللهِ فِي تَرْقُوَتِهِ فَكَرَّ عَدُو اللهُ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: وَاللهِ مَا بِكَ مِنْ بَأْسٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بَأَهْلِ الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، وَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ بِسَرِفٍ مَرْجِعَهُ إِلى مَكَّة.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَانِي لأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هُوِي مِن اللَّيْلِ إِذَا نَارَ تَأَجَّجَ لِي فيَمَّمْتُهَا فَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا يَصِيحُ: الْعَطَش الْعَطَش وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: لا تَسْقِهِ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللهِ ? هَذَا أُبِيُّ بنُ خَلَفٍ.
وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ انْتَقَمُوا لِيَوْمِ بَدْرٍ وَشَفُوا نُفُوسَهُمْ وَأَخَذَتِ الْمَعْرَكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَهْدَأُ حِدَّتُهَا وَتَخْمُدُ حَرَارَتُهَا، فَانْحَازَ الْمُشْرِكُونَ إِلى مُعَسْكَرَهِمْ، وَشُغِلُوا بِدَفْنِ قَتْلاهُمْ، وَأَخَذَتْ نِسَاؤُهُمْ يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمُثِّلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بِحَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَفْظَعَ تَمْثِيلَ حَتَّى(6/108)
بَقَرَتْ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَتْ كَبِدَهُ وَلاكَتْهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تُسِيغَهَا وَلَفَظَتْهَا.
وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ? بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ تَأَثَّرَ تَأْثُّرًا شَدِيدًا وَقَالَ ?: «لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا وَمَا وَقَفْتُ قَطُ مَوْقِفًا أَغْيَظُ مِنْ هَذَا» .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَكَلْتْ شَيْئًا» . قَالُوا: لا. قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ» .
وَقَالَ ? لِوَحْشِي الذِي قَتَلَ حَمْزَةَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي» . قَالَ وَحْشِي: فَخَرَجْتُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ? وَخَرَجَ مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابُ قُلْتُ لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأْكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.
قَالَ ابن هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي أَنَّ وَحْشِيًا لَمْ يَزَلْ يُحَدُّ فِي الْخَمْرِ حَتَّى خُلِعَ مِن الدِّيوَانِ.
فَكَانَ عُمَرُو بنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ قَاتِلَ حَمْزَةَ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِي بِإسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ قَالَ: كُنْتُ أَعْجَبُ لِقَاتِلِ حَمْزَةَ كَيْفَ يَنْجُو حَتَّى أَنَّهُ مَاتَ غَرِيقًا فِي الْخَمْرِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن جَحْشٍ بن خُزَيْمَةَ الأَسَدِيُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ سَأَلْتُ اللهَ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، فَيَقْتُلُونَنِي، وَيَبْقُرُونَنِي وَيُمَثِّلُونَ بِي، فَأَلْقَاكَ مَقْتُولاً قَدْ صَنَعَ هَذَا بِي فَتَقُولُ: فِيمَ صُنِعَ هَذَا بِكَ، فَأَقُولُ فِيكَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَخْرَى، أَنْ(6/109)
تَلِي تَرِكَتِي مِنْ بَعْدِي، فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ، حَتَّى قُتِلَ، وَمُثِّلَ بِهِ وَدُفِنَ هُوَ وَحَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَوَلِيَ تَرِكَتَهُ رَسُولُ اللهِ ? فَاشْتَرَى لابْنِهِ مَالاً بِخَيْبَرَ، فَأَقْبَلَتْ أُخْتُهُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ?: «يَا حَمْنَةُ احْتَسِبِي» . قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «خَالَكَ حَمْزَةَ» . قَالَتْ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، غَفَرَ اللهُ لَهُ وَرَحَمَهُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ.
ثُمَّ قَالَ لَهَاَ: «احْتَسِبِي» . قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ» . قَالَتْ: وَأحَزَنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَقْرَاهْ، فَقَالَ ?: «إِنَّ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمَرْأَةِ مَكَانًا مَا هُوَ لأَحَدٍ» .
ثُمَّ قَالَ لَهَا: «لِمَ قُلْتَ هَذَا» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتُ يُتْمَ بَنِيهِ فَرَاعَنِي، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ ? لِوَلَدِهِ أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْهِمُ الْخَلَفُ فَتَزَوَّجَتْ طَلْحَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بنَ طَلْحَةَ، فَكَانَ أَوْصَلَ النَّاسِ لِوَلَدِهَا، وَكَانَتْ حَمْنَةُ خَرَجَتْ يَوْمَئِذٍ إِلى أُحُدٍ مَعَ النِّسَاءِ يَسْقِينَ الْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
شِعْرًا:
تَبَارَكَ مَنْ عَمَّ الْوَرَى بِنَوَالِهِ
وَأَوْسَعَهُمْ فَضْلاً بِإِسْبَاغِ نِعْمَةِ
وَقَدَّرَ أَرْزَاقًا لَهُمْ وَمَعَايِشًا
وَدَبَّرَهُمْ فِي كُلِّ طَوْرٍ وَنَشْأَةِ
أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمًا وَأَحْصَى عَدِيدَهُمْ
وَصَرَّفَهُمْ عَنْ حِكْمَةٍ وَالْمَشِيئَةِ(6/110)
وَللهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ
بِكُلِّ زَمَانٍ كَمْ مُنِيبٍ وَمُخْبِتِ
وَكَمْ سَالِكٍ كَمْ نَاسِكٍ مُتَعَبِّدٍ
وَكَمْ مُخْلِصٍ فِي غَيْبِهِ وَالشَّهَادَةِ
وَكَمْ صَابِرٍ كَمْ صَادِقٍ مُتَبَتِّلٍ
إِلى اللهِ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ وَنِيَّةِ
وَكَمْ قَانِتٍ أَوَّابَ فِي غَسَقِ الدُّجَى
مِنَ الْخَوْفِ مَحْشُو الْفُؤَادِ وَمُهْجَةِ
يُنَاجِي بِآيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَهَهُ
بِصَوْتٍ حَزِينٍ مَعْ بُكَاءٍ وَخَشْيَةِ
وَكَمْ ضَامِرِ الأَحْشَاءِ يَطْوِي نَهَارَهُ
بِحَرِ هُجَيْرٍ مَا تَهَنَّا بشَرْبَةِ
وَكَمْ مُقْبِلٍ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ
عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِجَدٍّ وَهِمَّةِ
وَكَمْ زَاهِدٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ مُعْرِضٍ
وَمُقْتَصِرٍ مِنْهَا عَلَى حَدِ بُلْغَةِ
تَزَيَّنَتِ الدُّنْيَا لَهُ وَتَزَخْرَفَتْ
فَغَضَّ وَلَمْ يَغْتَرَّ مِنْهَا بِزِينَةِ
وَكَمْ عَالِمٍ بِالشَّرْعِ للهِ عَامِلٌ
بِمَوْجَبِهِ فِي حَالِ عُسْرٍ وَيُسْرَةِ
وَكَمْ آمرٍ بِالرُّشْدِ نَاهٍ عَنْ الرَّدَى(6/111)
.. سَرِيعٍ إِلى الْخَيْرَاتِ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةِ
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُوَفَّقًا
وَتَحْظَى بِفَوْزٍ عِنْدَ نَشْرِ الصَّحِيفَةِ
فَحَافِظْ عَلَى الْمَفْرُوضِ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ
وَأَكْثِرْ مِنَ النَّفْلِ الْمُفِيدِ لِقُرْبَةِ
بِكُنْتُ لَهُ سَمْعًا إِلى آخِرِ النَّبَا
عَنِ اللهِ فِي نَصِّ الرَّسُولِ الْمُثَبَّتِ
وَكُنْ فِي طَعَامٍ وَالْمَنَامِ وَخُلْطَةٍ
وَنُطْقٍ عَلَى حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ
وَجَالِسْ كِتَابِ اللهِ وَاحْلُلْ بِسَوْحِهِ
وَدُمْ ذَاكِرًا فَالذِّكْرُ نُورُ السَّرِيرَةِ
عَلَيْكَ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالَةٍ
وَباِلْفِكْرِ إِنَّ الْفِكْر كُحْلُ الْبَصِيرَةِ
وَكُنْ أَبَداً فِي رَغْبَةٍ وَتَضَرُّعٍ
إِلى اللهِ عَنْ صِدْقِ افْتِقَارٍ وَفَاقَةِ
وَوَصْفِ اضْطِرَارٍ وَانْكِسَارٍ وَذِلَةٍ
وَقَلْبٍ طَفُوحٍ بِالظُّنُونِ الْجَمِيلَةِ
وَبَعْدُ فَإِنَّ الْحَقَّ أَفْضَل مَسْلَكٍ
سَلَكْتَ وَتَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةِ
وَمَنْ ضَيَّعَ التَّقْوَى وَأَهْمَلَ أَمْرِهَا
تَغَشَتْهُ فِي الْعُقْبَى فُنُونُ النَّدَامَةِ(6/112)
وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا قُصَارَى مُرَادِهِ
فَقَدْ بَاءَ بالْخُسْرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ شُغْلُهُ
عَلَى كُلِّ حَالٍ لا يَفُوزُ بِبُغْيَةِ
وَمَنْ أَكْثَرُ الْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ
فَذَاكَ طَرِيحٌ فِي فَيَافِي الْغِوَايَةِ
بَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَلَّ بِهِ الْبَلا
وَوَاجَهَهُ الْخُذْلانُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ
عَجِبْتُ لِمَنْ يُوصِي سِوَاهُ وَإِنَّهُ
لأَجْدَرُ مِنْهُ بِاتِّبَاعِ الْوَصِيَّةِ
يَقُولُ بِلا فِعْلٍ وَيَعْلَمُ عَامِلاً
عَلَى ضِدِّ عِلْمٍ يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةِ
عُلُومٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ تَلاطَمَتْ
وَأَعْمَالُهُ فِي جَنْبِهَا مِثْلُ قَطْرَةِ
وَقَدْ أَنْفَقَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ
كَمِثْل اللَّيَالِي إِذَا تَقَضَّتْ وَوَلَّتِ
عَلَى السَّوْفِ وَالتَّسْوِيفِ شَرُّ مُصَاحِبٍ
وَقَوْلِ عَسَى عَنْ فَتْرَةِ وَبَطَالَةِ
تَنَكَّبَ عَجْزًا عَنْ طَرِيقِ عَزِيمَةٍ
وَمَالَ لِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ وَرُخْصَةِ(6/113)
يَهِمُّ بِلا جَدٍّ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍِ
عَلَى قَدَمِ التَّشْمِيرِ مِنْ فَرْطِ غَفْلَةِ
وَقَدْ سَارَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَهُوَ مُخَلَّفُ
وَقَدْ ظَفِرُوا بِالْقُرْبِ مِنْ خَيْر حَضْرَةِ
وَقَدْ أَدْرَكُوا الْمَطْلُوبَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ
بِقَيْدِ الأَمَانِي وَالْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ
وَلَمْ يَنْتَهِزْ مِنْ فَائِتِ الْعُمْرِ فُرْصَةً
وَلَمْ يَغْتَنِمْ حَالِي فَرَاغٍ وَصِحَّةِ
وَلَمْ يَخْشَى أَنْ يَفْجَأهُ مَوْتٌ مُجَهِّزٌ
فَإِنَّ مَجِيءَ الْمَوْتِ غَيْرُ مُؤَقَّتِ
وَلَمْ يَتَأَهَّبْ لِلرُّجُوعِ لِرَبِّهِ
وَلَمْ يَتَزَوَّدْ لِلطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالْقَبْرُ وَالْبَلَى
وَبَعَثٌ وَمِيزَانٌ وَأَخْذُ الصَّحِيفَةِ
وَجَسْرٌ عَلَى مَتْنِ الْجَحِيمِ وَمَوْقِفٌ
طَوِيلٌ وَأَحْوَالُ الْحِسَابِ الْمَهُولَةِ
وَلَكِنَّهُ يَرْجُو الذِي عَمَّ جُودُهُ
وَإِحْسَانُهُ وَالْفَضْلُ كُلَّ الْخَلِيقَةِ
إِلَهٌ رَحِيمٌ مُحْسِنٌ مُتَجَاوِزٌ
إِلَيْهِ رُجُوعِي فِي رَخَائِي وَشِدَّتِي(6/114)
غِيَاثِي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي
وَمِنْهُ أَرْجَى كَشْفُ ضُرِّي وَمِحْنَتِي
فَيَا رَبُّ ثَبِتْنَا عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى
وَيَا رَبَّنَا اقْبِضْنَا عَلَى خََيْرِ مِلَّةِ
وَعُمَّ أُصُولاً وَالْفُرُوعَ بِرَحْمَةٍ
وَأَهْلاً وَأَصْحَابًا وَكُلَّ قَرَابَةِ
وَسَائِرَ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ
أَقَامَ لَكَ التَّوْحِيدَ مِنْ غَيْرِ رِيبَةِ
وَصَلِّ وَسَلِّمْ دَائمِ الدَّهْرِ سَرْمَدَا
عَلَى خَيْرِ مَبْعُوثٍ إِلى خَيْرِ أُمَّةِ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ الْعِبَادِ فَضْلُهُ وَنَعْمَاؤُهُ وَوَسِعَ الْبَرِيَّةَ جُودُهُ وَعَطَاؤُهُ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لاِمْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاجْتِنَابِ نَهْيِكَ وَأَنْ تُلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَنْ تَرْزُقْنَا حُبَّكَ وَحَبُّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ وَاغْفِرْ لَنَا.
اللَّهُمَّ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ مَشَى أَبُو سُفْيَانَ يَتَفَقَّدُ الْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَعَرَّفُ وُجُوهَهُمْ، فَلَمَّا وَجَدَ حَمْزَةَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ، جَعَلَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِهِ بِكَعْبِ الرُّمْحِ، وَيَقُولُ: ذُقْ عَقَقٌ، فَرَآهُ الْحُلَيْسُ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، فَأنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بابْنِ عَمِّهِ، وَهُوَ مَيِّتٌ، فَاسْتَحْيَا أَبُو سُفْيَانِ مِنْ هَذِهِ الزَّلَةِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَهَا عَلَيْهِ، وَلا يُذِيعُهَا فِي النَّاسِ، لأَنَّهَا سَخَافَةٌ وَسَمَاجَةٌ وَقَضَا(6/115)
عَاجِزٍ وَكَانَ هَمُّ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ يَجِدَ رَسُولَ اللهِ ? فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ بَيْنَهُمْ، أَخَذَ الشَّكُ يُخَامِرُهُ فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَذَهَبَ إِلى نَاحِيَةِ الشَّعْبِ الذي اعْتَصَمَ بِهِ الرَّسُولُ ? وَأَصْحَابُهُ، وَجَعَلَ يُنَادِي: أَفِيكُمُ مُحَمَّدٌ، أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِيكُمْ ابنُ الْخَطَّابِ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِن الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهمْ، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ وَاللهِ يَا عَدُوَّ الله، قَدْ أَبْقَى اللهُ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَأَنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَذِرَ مِمَّا فَعَلَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ جَعَلَ يَرْتَجِزْ قَائِلاً نِعْمَتْ فِعَالُ، إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، أَعْلُ هَبْلْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُولُوا له: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُولُوا له؛ اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا لَهُ: «لا سَوَاءَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاكُمْ فِي النَّارِ» .
ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ? بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُدْفَنَ الْقَتْلَى حَيْثُ صُرِعُوا وَقَالَ لُفُّوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ، وَجِرَاحِهِمْ ... وَانْظُرُوا أَيَّهُمْ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا أَشَارُوا إِلى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ.
وَكَانَ يَدْفُنُ الاثْنِيْنِ، وَالثَّلاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ يَومَئِذٍ مِن الإِعْيَاءِ وَالضَّعْفِ، وَالْجِرَاحِ، فَيَعْجَزُوا أَنْ يَحْفُرُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ قَبْرًا، وَدُفِنَ عَبْدُ اللهِ بن عَمْرِو بن حَرَامٍ، وَعَمْرُو ابنُ الْجَمُوح في قَبْرٍ وَاحِدٍ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ فَقَالَ: «ادْفُنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابَيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ حُفِرَ عَنْهُمَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَيَدُ عَبْدُ اللهِ بن حرَامٍ عَلَى جِرَاحَتِهِ كَمَا(6/116)
وَضَعَهَا حِينَ جُرِحَ، فَأَمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جِرَاحَتِهِ، فَانْبَعَثَتْ الدَّمْ فَرُدَّتْ إِلى مَكَانِهَا، فَسَكَنَ الدَّمُ وَمَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، قِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْت أَكْفَانَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا دُفِنَ فِي نَمِرَةٍ خُمِّرَ بِهَا وَجْهَهُ وَعَلى رِجْلِيْهِ الْحَرْمَلِ فَوُجَدِتِ النَّمِرَةُ كَمَا هِيَ وَعَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلُ عَلَى هَيْأَتِهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ? مِنْ دَفْنِ أَصْحَابِهِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ والْمُسْلِمُونَ مِنْ حَوْلِهِ، أَكْثَرُهُمْ جَرْحَى، يَتَحَامَلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مِمَّا بِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ، وَيَتَلاوَمُونَ عَلَى الزَّلَةَ وَيَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْهَا.
وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللهِ ? إِلى الْمَدِينَةِ، وَجَدَ النِّسَاءَ عِنْدَ بَابِهَا يَبْكِينَ قَتْلاهُنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ مُقْبِلاً نَسِينَ مَا هُنَّ فِيهِ مِن الْحُزْنِ، وَأَسْرَعْنَ إِلَيْهِ، يَنْظُرْنَ إِلى سَلامَتِهِ، فَلَمَّا رَأَينَهُ فِي سَلامَةٍ، هَانَتْ عَلَيْهِنَّ الْمُصِيبَةُ.
وَجَاءَتْ أُمُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ تَعْدُو نَحْوَهُ، وَتَتَأَمَّلُهُ حَتَّى إِذَا اطْمَأَنَّتْ عَلَى سَلامَتِهِ، قَالَتْ: أَمَّا إِذَا رَأَيْتُكَ سَالِمًا فَقَدْ اشْوَتِ الْمُصِيبَةُ فَعَزَّاهَا رَسُولُ اللهِ ? بِابْنِهَا عَمْرِو بن مُعَاذٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: «يَا أُمَّ سَعْدٍ، أَبْشِري وَبَشِّرِي أَهْلِيهِمْ أَنَّ قَتْلاهُمْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنَّةِ جَمِيعًا» . قَالَتْ: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ، وَمَنْ يَبْكِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا.
ثُمَّ قَالَتْ: ادْعُ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ خَلَّفُوا، قَالَ: «اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حُزْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ، وَأَحْسِنْ الْخَلَفَ عَلَى مَنْ خَلَّفُوا ثُمَّ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ ? عَلَى أَصْحَابِهِ، مِن الْجَرْحَى أَنْ يَرْكَنُوا إِلى بُيُوتِهِمْ، وَلِيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كُلُّ مَجْرُوحٍ، وَبَاتُوا يُوقِدُونَ النَّارَ، وَيُكَمِّدُونَ بِهَا الْجِرَاحَ.(6/117)
وَمَضَى ?، حَتَّى جَاءَ بَيْتَهُ، فَمَا نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ إِلا حَمْلاً، ثُمَّ مَشَى يَتَحَامَلُ عَلَى السَّعْدَيْنِ، سَعْدِ بن عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بن مُعَاذٍ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَلَمَّا أَذَّنَ بِلالٌ لِصَلاةِ الْمَغْرِب خَرَجَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، يَتَوَكَّأُ عَلَى السَّعْدَيْنِ، فَصَلَّى ثُمَّ عَادَ إِلى بَيْتِهِ، وَبَاتَ وُجُوهُ الأَوْسِ، وَالْخَزْرَجِ عَلَى بَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ، يَحْرِسُونَهُ، مَخَافَةَ أَنْ تَكِرَّ قُرَيْشٌ، وَهُمْ غَافِلُونَ.
وَقَالَ كَعْب بن مَالِكٍ يَبْكِي حَمْزَة بن عَبْدِ الْمُطَّلِب:
طَرَقَتْ هُمُومُكَ فَالرُّقَادُ مُسَهَّدُ ... وَجَزِعْتَ أَنْ سُلِخَ الشَّبَابُ الأَغْيَدُ
وَدَعَتْ فُؤَادَكَ لِلْهَوَى ضَمَرِيَّةٌ ... فَهَوَاكَ غُورِيٌّ وَصَحْبُكَ مُنْجِدُ
فَدَعِ التَّمَادِيَ في الْغَوايَةِ سَادِرًا ... قَدْ كُنْتَ في طَلَبِ الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ
وَلَقَدْ أَتَى لَكَ أنْ تَنَاهِيَ طَائِعًا ... أَوْ تَسْتَفِيقُ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ
وَلَقَدْ هُدِدْتُ لِفَقْدِ حَمْزَةَ هُدَّةً ... ظَلَّتْ بَنَاتْ الْجَوْفِ مِنْهَا تَرْعُدُ
وَلَوَ أنَّهُ فَجِعَتْ حِراءُ بِمِثْلِهِ ... لَرَأَيْتَ رَأْسَيْ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ
قَرْمٌ تَمَكَّنَ فِي ذُئَوَابَةِ هَاشِمٍ ... حَيْثُ النُّبُوَّةُ وَالنَّدَى وَالسُّؤْدُدُ
وَالْعَاقِرُ الْكُومَ الْجِلادَ إِذَا غَدَتْ ... رِيحٌ يَكَادُ الْمَاءُ مِنْهَا يَجْمُدُ
وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَّلاً ... يَوْمَ الْكَرِيهَةِ والْقَنَا يَتَفَصَّدُ
وتَراهُ يَرْفُلُ في الحديدِ كَأَنَّهُ ... ذُو لِبْدَةٍ شَثْنُ البراثِنِ أَرْبَدُ
عَمُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَصَفِيُّهُ ... وَرَدَ الْحِمَامَ فَطَابَ ذَاكَ الْمَوْرِدُ
وَأَتَى الْمَنِيَّةَ مُعَلِمًا فِي أُسْرَةٍ ... نَصَرُوا النَّبِيَّ ومِنْهُمُ الْمُسْتَشْهِدُ
ولَقَدْ أخالُ بِذَاكَ هِنْدًا بُشِّرَتْ ... لتُميتَ داخِلَ غُصَّةٍ لا تَبْرُدُ
مِمّا صَبَحْنَا بالعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا ... يَوْمًا تَغيَّبَ فيهِ عَنْها الأَسْعَدُ
وبِبِئرِ بَدْرٍ إذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ... جِبْريلُ تَحْتَ لوائِنا وَمُحَمَّدُ
حَتَّى رَأَيْتُ لَدَى النَّبيِّ سَرَاتَهُمْ ... قِسْمَيْنِ نَقتُلُ مَنْ نَشَاء وَنَطْرُدُ(6/118)
فأقامَ بالعَطَنِ المُعَطَّنِ مِنْهُمُ ... سَبْعُونَ عُتْبةُ مِنْهُمُ وَالأَسْوَدُ
وابنُ المغيرَةِ قَدْ ضَرَبْنا ضَرْبَةً ... فوقَ الوريدِ لها رَشاشٌ مُزْبِدُ
وَأُمَيَّةُ الْجُمَحيُّ قَوَّمَ مَيْلَهُ ... عَضْبٌ بأيدي المؤمنينَ مُهَنَّدُ
فَأَتَاكَ فل الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُمْ ... وَالْخَيْلُ تَثْفُنُهمْ نَعامٌ شُرَّدُ
شتَّانَ مَنْ هُوَ في جَهَنَّمَ ثَاوِيًا ... أَبَدًا وَمَنْ هُوَ في الجِنانِ مخلَّدُ
شتَّانَ مَنْ هُوَ في جَهَنَّمَ ثَاوِيًا ... أَبَدًا وَمَنْ هُوَ في الجِنانِ مخلَّدُ
وَقَالَ كَعْب بن مَالِكٍ يُجِيبُ هَبِيرَة بن أبي وهب:
ولكنْ بِبَدْرٍ سَائِلوا مَنْ لَقِيتُمُ ... مِنَ النّاسِ والأنبَاءُ بالغَيْبِ تَنْفَعُ
وَإِنَّا بِأَرْضِ الخَوفِ لَو كَانَ أهْلُهَا ... سِوَانَا لَقَدْ أَجْلُوا بِلَيْلٍ فأقشَعُوا
إذا جَاءَ منّا رَاكبٌ كانَ قولُهُ ... أَعِدّوا لِما يُزْجي ابنُ حرْبٍ ويجمَعُوا
فَمَهْمَا يُهِمُّ النّاسَ مِمّا يُكِيدُنَا ... فَنَحْنُ لَهُ من سَائِرِ النّاس أَوْسَعُ
فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تَكِيدُهُ الـ ... ـبَرِيّةُ قَدْ أَعْطَوْا يَدًا وَتَوَرَّعُوا
نُجَالِدُ لا تبغى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ ... مِنَ النّاسِ إلاّ أَنْ يَهانُوا وَيَفْظَعُوا
وَلَمّا ابتَنَوا بالْعِرْضِ قَالَت سَيُوفَنَا ... عَلاَمَ إِذَا لَمْ نَمْنَعِ العِرْضَ نزرَعُ
وَفِينَا رسولُ اللهِ نَتْبَعُ أمْرَهُ ... إِذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لا نَتَظَلَّعُ
تَدَلَّى عَلَيْهِ الرَّوحُ مِنْ عند ربّهِ ... يُنزَّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ ويُرفَعُ
نَشَاوره فِيمَا نُرِيد وَقصرنا ... إِذَا مَا اشْتَهَى أَنَا نُطِيع وَنَسْمَعُ
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ لَمّا بدوا لَنَا ... ذَرُوا عَنْكُمْ هَوْلَ المنيَّاتِ وَاطْمَعُوا
وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الحياةَ تَقرّبًا ... إلى ملِكٍ يُحيِي لَدَيْهِ ويُرجَعُ
ولكنْ خُذوا مِيثَاقَكُمْ وَتَوَكَّلُوا ... عَلَى اللهِ إنَّ الأمْرَ للهِ أجمعُ
فَسِرْنَا إليهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالِهِمْ ... ضُحيًّا عَلَيْنَا الْبيضُ لا نتخشَّعُ(6/119)
.. بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السَّنَوَّرُ والقَنَا ... إِذَا ضَرَبُوا أَقْدَامَها لا تورّعُ
فجئنَا إلى مَوجٍ من الْبَحْرِ وَسْطَهُ ... أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمقنّعُ
ثَلاثةُ آلافٍ وَنَحْنُ عِصَابَة ... ثَلاَثُ مِئينٍ إنْ كَثُرْنَا فَأَرْبعُ
نُغَوِرُهُم تجري الْمنيّةُ بَيْنَنَا ... نُشارِعُهُمْ حوضَ الْمَنَايا ونَشْرَعُ
تَهَادَى قِسِيُّ النبعِ فينا وفيهِمُ ... وَمَا هو إلاَّ اليَثْرِبيُّ المُقَطَّعُ
ومَنْجُوفةٌ حِرْمِيَّةٌ صَاعِديَّةٌ ... يُذَرُّ عليها السّمُّ سَاعةَ تَصْنَعُ
تَصُوبُ بأَبْدَانِ الرّجَالِ وَتَارَةً ... تمرُّ بأَعراضِ البَصَارِ تَقَعْقَعُ
وقال حسان بن ثابت:
عَرَفتَ دِيارَ زَينَبَ بِالكَثيبِ ... كَخَطِّ الوَحَى في الورَق القَشيبِ
تَداوَلها الرِياحُ وَكُلُّ جَونٍ ... مِنَ الوَسمِيِّ مُنهَمِرٍ سَكوبِ
فَأَمسى رَسمُها خَلَقًا وَأَمسَت ... يَبابًا بَعدَ ساكِنِها الحَبيبِ
فَدَع عَنكَ التَذَكُّرَ كُلَّ يَومٍ ... وَرُدَّ حَرارَةَ الصَدرِ الكَئيبِ
وَخَبِّر بِالَّذي لا عَيبَ فيهِ ... بِصِدقٍ غَيرِ إِخبارِ الكَذوبِ
بِما صَنَعَ المَليكُ غَداةَ بَدرٍ ... لَنا في المُشرِكينَ مِنَ النَصيبِ
غَداةَ كَأَنَّ جَمعَهُمُ حِراءٌ ... بَدَت أَركانُهُ جُنحَ الغُروبِ
فَلاقَيناهُمُ مِنّا بِجَمعٍ ... كَأُسدِ الغابِ مُردان وَشيبِ
أَمامَ مُحَمَّدٍ قَد وازَرورهُ ... عَلى الأَعداءِ في لفح الحُروبِ
بِأَيديهِم صَوارِمُ مُرهَفاتٌ ... وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خاطي الكُعوبِ
بَنو الأَوسِ الغَطارِفِ آزَرَتها ... بَنوا النَجّارِ في الدينِ الصَليبِ
فَغادَرنا أَبا جَهلٍ صَريعًا ... وَعُتبَةَ قَد تَرَكنا بِالجَبوبِ
وَشَيبَةَ قَد تَرَكنا في رِجالٍ ... إِذا نَسَبُوا ذَوي حَسَبٍ حَسيبِ(6/120)
.. يُناديهِم رَسولُ اللَهِ لَمّا ... قَذَفناهُم كَباكِبَ في القَليبِ
وقال كعب بن مالك أيضًا في يوم أحد:
سَائِلْ قريشًا غداةَ السَّفْحِ مِنْ أُحُدِ ... ماذا لَقِينا وما لاقوا من الهَرَبِ
كنّا الأُسُودَ وكانوا النُّمورَ إذ زَحَفُوا ... ما أنْ نراقِبْ مِنْ إلّ ولا نَسَبِ
فَكَمْ تَرَكْنا بِها مِنْ سَيِّدٍ بَطَلٍ ... حامي الذِمارِ كريمِ الجَدّ والحَسبِ
فِينا الرسُولُ شِهابٌ ثُمَّ نَتْبَعُهُ ... نُورٌ مُضيءٌ لَهُ فَضْلٌ على الشُّهُبِ
الحَقُّ مَنْطِقُهُ والعَدْل سِيرَتُهُ ... فَمَنْ يُجبْهُ إليهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ
نَجْدُ المقدَّمِ ماضي الهمِّ مُعْتَزِمٌ ... حينَ القلوبُ على رجب منَ الرُّعُبِ
نَمْضي ويذْمرُنَا مِنْ غيرِ مَعْصِيةٍ ... كأَنَّه البَدْرُ لم يُطْبَعْ على الكَذِبِ
بَدَا لنا فاتَّبَعْناهُ نُصَدِّقُهُ ... وَكَذَّبوه فكُنَّا أسْعَدَ العَربِ
جالُوا وجُلْنا فَمَا فَاءوا وَلا رَجَعوا ... ونَحْنُ نَثْفُنُهُمْ لَمْ نَأْلُ في الطلبِ
ليسَا سواءً وشتَّى بين أمِرهمَا ... حِزْبُ الإلهِ وأهْلُ الشِّركِ والنُّصبِ
ولكعب بن مالك:
بَكَتْ عَيْني وحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ
عَلَى أَسَدِ الإله غَدَاةَ قالوا ... أحمزةُ ذَاكُمُ الرّجُلُ القَتِيلُ
أُصِيبَ المُسْلِمُونَ بِهِ جميعًا ... هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بهِ الرّسُولُ
أبَا يَعْلَى لكَ الأَرْكَانُ هُدَّتْ ... وأَنْتَ المَاجِدُ البَرُّ الوَصُولُ
عليكَ سَلاَمُ رَبِّكَ في الجِنَانٍ ... مُخالِطُهَا نعيمٌ لا يَزولُ
ألا يَا هَاشِمَ الأخْيَارِ صَبْرًا ... فكُلُّ فِعالِكُمْ حَسَنٌ جميلُ
رَسُولُ اللهِ مصطبرٌ كَرِيمٌ ... بأمْرِ اللهِ ينطقُ إذْ يَقُولُ
ألاَ مَنْ مُبَلغٌ عنّي لؤيًّا ... فَبَعْدَ اليومِ دَائِلَةٌ تَدُولُ
وقبلَ اليومِ ما عَرَفُوا وَذَاقُوا ... وَقَائِعُنَان بِهَا يُشفَى الغَلِيلُ(6/121)
.. نَسِيتُم ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ بَدْرٍ ... غَدَاةَ أَتَاكُمُ الموتُ العَجيلُ
غَدَاةَ ثَوَى أبو جهلٍ صَرِيعًا ... عليهِ الطيرُ حَائِمةٌ تَجُولُ
وَعُتْبَةُ وابنُهُ خَرَّا جَمِيعًا ... وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب:
أسائلة أصحاب أحد مخافة ... بنات أبي من أعجم وخبير
فقال الخبير أن حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة يحيى بها سرور
فذلك ما كنا نرجى ونرتجى ... لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا ... بكاء وحزنًا محضري ومسيري
على أسد الله الذي كان مدرها ... يذود عن الإسلام كل كفور
فيا ليت شلوى عند ذاك وأعظمى ... لدى أصبغ تعتادني ونسور
أقول وقد أعلى النعى عشيرتي ... جزى الله خير من أخ ونصير
شِعْرًا:
فَلا يَغُرَنَّكُمْ لَمَّا جَرَى قَدَرٌ
فَرُبَّمَا فِيهِ تَأْدِيبٌ وَتِبْيَانُ
لِيَنْتَبِهْ غَافِلاً أَوْ قَائِلاً زَلَلاً
وَمُعْجَبٌ غَرَّهُ بِالْعُجْبِ شَيْطَانُ
كَمَا جَرَى فِي حُنَيْن إِذَا قَالَ قَائِلُهُمْ
الْيَوْمَ مِنْ كَثْرَةٍ يَأْتِي لَنَا شَانُ
فَأَدْبَرُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَانْهَزَمُوا
لَمْ يَلُووا مِنْ أَحَدِ وَالْكُلُّ فُرْسَانُ(6/122)
.. لَمْ يَبْقَ إِلا نَبِيُّ اللهِ يَطْعُنُهُمْ
أَنَا ابنُ مُطَّلِبٍ وَالْجَدُّ عَدْنَان
حَتَّى إِذَا قَالَ يَا أَصْحَابَ سَمْرِتَنَا
هَلُمَّ إِنَّ عَلَى الرِّضْوَانِ رِضْوَانُ
جَاؤُوا يُلَبُّونَ وَالأَسْيَافُ مُصْلَتةٌ
كَأَنََّهُنَّ بأَيْدِي الْقَوْمِ نِيرَان
تِلْكَ الأُمُورُ مِنَ الْبَارِي يُدَاوِلُهَا
فَكُل يَوْمٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ شَانُ
لَمْ يَأْتِ مِن خَلَلٍ إِلا لَهُ سَبَبٌ
فَانْظُرْ فَمِنْ أَي بَاب جَاء نَقْصَانُ
اجْعَلْ مُرَادَكَ دِينَ اللهِ تَنْصُرُهُ
فالْمُلْكُ بالدِّينِ لا بالْجُنْدِ يُنْصَانُ
وَكُنْ معَ اللهِ لا تَخْشَى الْمَلا أَبَدًا
يَكُنْ لَكَ اللهُ والأَمْلاكُ أَعْوَانُ
والناسُ إلا قَلِيلٌ قَالَ أَكْثَرُهُمْ
إِذَا رَأَوْا نَاصِحًا قَالُوا بِهِ جَانُ
عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ أَمْوَاتٌ بِهِمْ وَهُنٌ
وَنُصْرَةُ الْمَالِ فُرْسَانٌ وَشُجْعَانُ
صَلِّحْ لِدُنْيَاكَ مَا يَخْصُصْكَ مِنْ أَحَدٍ
لِلنَّاسِ وَادٍ وَقَدْ آوَتْكَ وُدْيَانُ
تُنَفِّرُ النَّاسَ وَالإِخْوَانُ قَدْ سَكَتُوا(6/123)
.. أَعْرِضْ وَكُنْ مِثْلَهم وَدِنْ بِمَا دَانُوا
كُنْ لِلْمُلُوكِ عَلَى الأَهْوَاءِ تَعِشْ مَعَهُمْ
فَاللهُ فِي جَنْبِهِ عَفْوٌ وَغُفْرَانُ
يَا قَاتَلَ اللهُ مَنْ هَذِي مَقَالَتُهُ
هَذَا ابن إِبْلِيسَ غَشَّاشٌ وَفَتَّانُ
يَا حَسْرَةَ الدِّينِ مِنْ هَذَا وَشِيعَتِهِ
إِنْ سُوعِدُوا لَمْ يَقُمْ لِلدِّينِ بُنْيَانُ
(وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَمْ ثَبَّطُوا أُمَمًا
عَنْ نَصْرِ دِينٍ وَلِلشَّيْطَانِ أَعْوَانُ)
(فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكُنْ مِنْهُمْ عَلَى حَذِرٍ
لا يَخْدَعُوكَ فَهُمْ فِي الْمَكْرِ فُرْسَانُ)
(وَاصْحَبْ أَخًا الزُّهْدِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً
النَّاصِرَ الدِّينِ لِلتَّوْحِيدِ مِعْوَانُ)
اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلَ بِمَا فَهَّمْتَنَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرِينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ وَخَالِصَ وِدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْياءِ منْهُم والمَيَّتِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي زَمَانٍ كَمَا تَرَوْنَ قَدْ كَثُرَ فِيهِ الشَّرُ وَوَسَائِلُهُ وَانْتَشَرَ فِي الأَرْضِ انْتِشَارًا لا يَخْطُرُ عَلَى الأَفْكَارِ فَإِذَا رُمْتُمْ حَاجَةً مِن السُّوقِ فَاقْضُوهَا بِسُرْعَةٍٍ مُنْكِرِينَ فِي قُلُوبِكُمْ وَفِي أَلْسِنَتِكُمْ حَسَبَ قُدْرَاتِكُمْ عَلَى مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ الْمُنْكَرَاتِ وَاتْرُكُوا الاجْتِمَاعَ مَعَ مَنْ لا تَسْلَمُونَ(6/124)
مِنْ الإِثْمِ إِذَا اتَّصَلْتُمْ بِهِ لاسِيَّمَا وَقَدْ كَثُرَ مَنْ لا تُؤْمَنُ شُرُورُهُ وَأَضْرَارُهُ وَمَفَاسِدُهُ وَاحْرَصُوا عَلَى غَضِّ أَبْصَارِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ أَطْلَقْتُمْ لَهَا الْعِنَانِ رَأَيْتُمْ مِنَ الْبَلايَا مَالا يُحْصِيهِ الْعَدُّ وَلا يَأْتِي عَلَيْهِ الْبَيَانُ تَرَوْنَ النِّسَاءَ فِي حَالَةٍ تُؤْلِمُ قَلْبَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ذِي مُرُوءَةِ وَشِيمَةٍ وَغَيْرَةٍ دِينِيَّةٍ وَتَرَوْنَ الْغِشَّ السَّائِدَ فِي كُلِّ الْمُعَامَلاتِ بِدَرَجَةٍ قَلَّ أَنْ يَنْجُو مِنْهَا أَذْكَى النَّاسِ وَأَيْقَظُهُمْ وَأَقْوَاهُمْ فِرَاسَةً وَتَرَى الدُّخَانَ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ تُؤْذِيكَ رَائِحَتُهُ الْكَرِيهَة وَتَرَى حَلاقِي اللَّحَى وَمُصَلِّحِي التَّوَالَيْتَاتِ وَالْخَنَافِسِ وَتَرَى النِّسَاءَ تَرْكَبُ مَعَ أَيِّ وَاحِدٍ بُدُون مَحْرَمٍ وَتَدْخُلُ عَلَى الْخَيَّاطِ يَقِيسُ عَلَيْهَا وَتَرْوَنَ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ لا يُعَرِّجُونَ عَلَى الْمَسَاجِدِ أَوْقَاتِ الصَّلاةِ وَتَرَوْنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي يَدُورُونَ فِي الأَسْوَاقِ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ إِلا مَا يُحْزِنُ قَلْبَ كُلِّ غَيورٍ لِدِينِهِ وَتَرَاهُمْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ إِقْبَالاً فَوْقَ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْعَاقِلُ اللَّبِيبُ وَتَرَاهُمْ إِذَا قَضَوْا مَآرَبَهُمْ مِنْ كُتُبِ تَحْتَوِي عَلَى الدِّينِ وَغَيْرِهِ فِيهَا آيَاتٌ وَأَحَادِيثٌ أَلْقَوْهَا فِي الأَسْوَاقِ وَالْمَزَابِل مَعَ الْقُمَامِ وَكَذَلِكَ بَاقِي النِّعَمِ تَجِدْهَا مُلْقَاةً مَعَ الْقَاذُورَاتِ وَتَرَاهُمْ دَائِمًا فِي مُطَالِعَةِ الْجَرَائِدِ وَالْمَجَلاتِ وَلَوْ نَاوَلْتَ أَحْدَهُمْ مُصْحَفًا أَوْ الْبُخَارِي أَوْ مُسْلِمًا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْهُ لَسَارَعَ إِلى الضَّحِكِ أَوِ النَّوْمِ وَاسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ كَأَنَّكَ نَاوَلْتَهُ مَا يُذْهِبُ الْعُقُولَ وَيُرْقِدُ الأَبْدَانَ وَتَرَاهُ يَسْهَرَ كُلَّ لَيْلِهِ فِي صُنُوفِ الْمَعَاصِي وَعِنْدَ الْمَلاهِي لَكِنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ جَدًا أَنْ يَسْهَرَ سَاعَةً فِي طَاعَةً مَوْلاهُ وَتَرَاهُمْ أَمَامَ التَّلَفْزِيُونِ مُقَابِلِينَ لَهُ وَمُقْبِلِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَلَوْ نُودِيَ أَحَدُهُمْ لَشَتَمَ الْمُنَادِي وَسَبَّهُ بَلْ رُبَّمَا لَعَنَهُ وَقَذَفَهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنْ مُنْكَرَاتٍ مِنْ نِسَاءٍ سَافِرَاتٍ وَتَمْثِيلِيَّاتٍ خَلِيعَةٍ وَأَغَانِي مُهَيَّجةٍ لِلْفَسَادِ وَنَحْو ذَلِكَ تَمُرُّ السَّاعَاتُ لا يَمُلُّونَ بَلْ هُمْ مُرْتَاحُونَ لَهُ وَأَمَّا أَمَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ الذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ فَعَشَرُ الدَّقَائِقِ الَّتِي يَقِفُونَهَا فِي الصَّلاةِ أَثْقَلُ مِنْ رَضْوَى وَأُحُدٍ وَيَتَسَابَقُونَ إِلى الذِي يَمُرُّهَا مَرَّ السَّحَابِ وَإِذَا تَأَخَّرَ الإِمَامُ وَلَوْ دَقِيقَةً رَأَيْتَهُمْ يَتَلَفَتُونَ وَيَبْحَثُونَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَكْثَرُوا مِن الاسْتِغْفَارِ وَالْحَوْقَلَةِ وَالتَّهْلِيلِ لِيُفْهِمُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُعَجِّلَ فَيُصَلِّى كَأَنَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ حِمْلاً أَوْ عَلَى أَظْهُرِهِمْ حَتَّى الذِي يَتَأَخَّرُ بَعْدَ الصَّلاةِ وَيَقْعُدُ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ حَالَةٌ وَاللهِ يُرْثَى لَهَا قَالَ ابن القيم:
يَا نَاصِرَ الإِسلاَمِ وَالسُّنَنِ الَّتِي
جَاءَتْ عَنِ الْمَبعُوثِ بالْفُرقَانِ(6/125)
.. يَا مَنْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَقَولُهُ
وَلِقَاؤُهُ وَرَسُولُهُ بِبَيَانِ
اشْرَحْ لِدِينِكَ صَدْرَ كُلِّ مُوَحِّدٍ
شَرْحًا يَنَالُ بِهِ ذُرَى الإِيمَانِ
وَاجْعَلهُ مُؤْتَمًّا بِوَحْيِكَ لاَ بِمَا
قَدْ قَالَهُ ذُو الإِفْكِ وَالْبُهتَانِ
وَانْصُرْ بِهِ حِزبَ الْهُدَى وَاكْبِتْ بِهِ
حِزْبَ الضَّلاَلِ وَشَيعَةَ الشَّيطَانِ
وَانْعِشْ بِهِ مَنْ قَصْدُهُ إحْيَاؤُهُ
وَاعْصِمْهُ مَنْ كَيْدِ امْرِىءٍ فَتَّانِ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّل عَافِيتَكِ وَفَجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ
قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ وَقَدْ أَشَارَ اللهُ سُبْحَانَهُ إِلى أُمَّهَاتِهَا وَأُصُولِهَا فِي سُورَةِ آل عِمْرَانَ حَيْثُ افْتَتَحَ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إِلى تَمَامِ سَتِّينَ آيَةٍ، قَالَ فَمِنْهَا: تَعْرِيفُهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيةَ، وَالْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، وَأَنَّ الذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالى (3: 152) : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} .(6/126)
فَلَمَّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَّدَ حَذَرًا وَيَقْظَةً وَتَحَرُّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخُذْلانِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ. وَسُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ: جَرَتْ بَأَنْ يُدَالُوا مَرَّةً، وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ، فَإِنَّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ انْتَصَرُوا عَلَيَهِمْ دَائِمًا، لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِن الْبِعْثَةَ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، لِيَتَمَيَّزَ مِنْ يَتْبَعُهُمْ وَيُطِيعُهمْ لِلْحَقِّ وَمَا جَاءُوا بِهِ، مِمَّنْ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَةٍٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْلامِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لأَبِي سُفْيَانَ: (هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ الْحَرْب بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: سِجَالٌ نُدَالُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ، وَيُدَالُ عَلَيْنَا الأَخْرَى، قَالَ: كَذِلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِي.
وَمِنْهَا: أَنَّ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِن الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ، مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَاتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلى كَافِرٍ، وَمُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ، اِنْقِسَامًا ظَاهِرًا لا يُفَارِقُهُمْ، فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ.(6/127)
قَالَ اللهُ تَعَالى (3: 179) : {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} أَيْ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ، حَتَّى يُمَيِّزَ أَهْلَ الإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَمَا مَيَّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ فَإِنَّهُمْ مُتَمَيِّزُونَ فِي عِلْمِهِ وَغَيْبِهِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا، فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الذِي هُوَ غَيْبٌ شِهَادَةٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} اسْتِدْرَاكْ لِمَا نَفَاهُ، مِنْ إطْلاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ كَمَا قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فَحَظَّكُم أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكم فِي الإِيمان بِالْغَيْبِ الذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ، فَإِنْ آمِنْتُمْ بِهِ وَاتَّقَيْتُم كَانَ لَكُمْ أَعْظَمُ الأَجْرِ وَالْكَرَامَةِ.
وَمِنْهَا: اسْتِخْرجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السَّرَاءِ وَالضَّرَاءِ وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ، وَفِي حَالِ ظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقًّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِن السَّرَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ، فِي كُلِّ مَوْطِن، وَجَعَلَ لَهُمْ التَّمَكُنَ، وَالْقَهْرَ لأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النَّصْرُ وَالظَّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُوا فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرِّزْقُ فَلا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، والشِّدَّةُ والرَّخَاءُ، وَالقَبْضُ وَالبَسْطُ فَهُوَ المُدَبِّرُ لأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِير.(6/128)
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ إِذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ، وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةَ، وَذُلُّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا؛ فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خِلْعَةَ النَّصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ وَلايَةِ الذُّلِّ وَالانْكِسَارِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ، كَسَرَهُ أَوَّلاً وَيَكُونُ جِبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمَنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إِلا بِالْبَلاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَيَّضَ لَهُمْ الأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا، مِنْ ابْتِلائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ للأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنْ الْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ، وَالنَّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إِلى الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا فِي سَيْرهَا إِلى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبُّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ، قَيَّضَ لَهَا مِنْ الإبْتِلاءِ وَالإِمْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَض الْعَائِق عَن السَّيْر الْحَثِيثِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبِلاءِ وَالْمِحْنَةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيه وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةِ، لاسْتِخْرَاجِ الأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الأَدْوَاءُ، حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلاكُهُ.
اللَّهُمَّ أَنظِمْنا في سِلكِ حِزبِكَ المُفلِحِين، واجْعلنا مِنْ عبادِكَ المُخْلِصين وآمِنَّا يومَ الفَزَع الأكَبرِ يومَ الدِين، واحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَليهَم مِنَ النَبيين والصِّدِّيقين والشُهداء والصَّالِحِينِ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحياءِ منهمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِِ أَجْمَعِينَ.(6/129)
وَإِنَّ ذَوِي الإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالنُّهَى
هُمْ الْغُرَبَاء طُوبَى لَهُمْ مَا تَغَرَّبُوا
أُنَاسٌ قَلِيلٌ صَالِحُونَ بأمَّةٍ
كَثِيرِينَ لَكِنْ بِالضَّلالَةِ أُشْرِبُوا
وَقِيلَ لَهُمْ النُّزَاعُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
عَلَى حَرْبِهِمْ أَهْلُ الضَّلالِ تَحَزَّبُوا
وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا الظُّهُورُ عَلَى الْعِدَا
وَإِنْ كَثُرتْ أَعْدَاؤُهُم وَتَأَلَّبُوا
وَكَمْ أَصْلَحُوا مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بِالْهَوَى
مِن السُّنَّةِ الْغَرَّا فَطَابُوا وَطَيَّبُوا
وَقَدْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ مِنْ كُلِّ بِدْعَةٍ
وَقَامَ بِذَا فَوْقَ الْمَنَابِرِ يَخْطُبُ
فَقَالَ عَلَيْكُمْ بَاتَّبَاعِي وَسُنَّتِي
فَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَارْغَبُوا
وَإِيَّاكُمْ وَالابْتِدَاعَ فَإِنَّهُ
ضَلالٌ وَفِي نَارِ الْجَحِيمِ يُكَبْكِبُ
فَدُومُوا عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ
لَكِي تَرِدُوا حَوْضَ الرَّسُولِ وَتَشْرَبُوا
فَإِنَّ لَهُ حَوْضًا هَنِيئًا شَرَابُهُ
مِنْ الدُّرِ أَنْقَى فِي الْبَيَاضِ وَأَعْذَبُ
لَهُ يَرِدُ السُّنِيُّ مِنْ حِزْبِ أَحْمَدٍ(6/130)
.. وَعَنْهُ يُنْحَى مُحْدِثٌ وَمُكَذِبُ
وَكَمْ حَدَثَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ حَوَادِثٌ
يَكَادُ لَهَا نُورُ الشَّرِيعَةِ يُسْلَبَ
وَكَمْ بِدْعَةٍ شَنْعَاءَ دَانَ بِهَا الْوَرَى
وَكَمْ سُنَّةٍ مَهْجُورَةٍ تُتَجَنَّبُ
لِذَا أَصْبَحَ الْمَعْرُوفُ فِي الأَرْضِ مُنْكرًا
وَذُو النُّكْرِ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِمْ مُحَبَّبُ
وَمَا ذَاكَ إِلا لإنْدِرَاسِ مَعَالَمِ
مِنَ الْعِلْم إِذْ مَاتَ الْهُدَاتُ وَغُيِّبُوا
وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إِلا كَمَا تَرَى
فَسَلْ عَنْهُ ينْبِيكَ الْخَبِيرُ الْمُجَرِّبُ
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْعِلْمَ تَعْفُو رُسُومُهُ
وَيَفْشُو الزِّنَا وَالْجَهْلُ وَالْخَمْرُ تُشْرَبُ
وَتِلْكَ أَمَارَاتٌ يَدُلُ ظُهُورُهَا
عَلَى أَنَّ أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ أَقْرَبُ
فَسَارِعْ لِمَا يُرْضِي الإِلهَ بِفِعْلِهِ
وَدَعْ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ للهِ يُغْضِبُ
وَخُذْ إِنْ طَلَبْتَ الْعِلْمَ عَنْ كُلِّ عَالِمٍ
تَرَاهُ بَآدَابِ الْهُدَى يَتَأَدَّبُ
لأَهْلِ السُّرَى تَهْدِي نَجُومُ عُلُومِهِ
وَتُرْمي الْعِدَى مِنْ شُهْبِهَا حِينَ تُثْقَبُ(6/131)
.. فَلازِمْهُ وَاسْتَصْبِحْ بِمَصْبَاحِ عِلْمِهِ
لِتَخْلُصَ مِنْ جَسْرٍ عَلَى النَّارِ يُضْرَبُ
فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الْهُدَى
وَشَرُّ الأُمُورِ الْمُحْدَثَاتِ فَجَنَّبُوا
وَمَا الْعِلْمُ إِلا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ
وَغَيْرُهُمَا جَهْلٌ صَرِيحٌ مُرَكَّبُ
فَخُذْ بِهِمَا وَالْعِلْمِ فَاطْلُبُه مِنْهُمَا
وَدَعْ عَنْكَ جُهَّالاً عَنْ الْحَقِّ أَضْرَبُوا
خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارِ بِضَوْئِهِ
فَوَافَقَهَا مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ غَيْهَبُ
فَظَلَّتْ تُحَاكِي الطَّيْرَ فِي ظُلْمَةِ الدُّجَا
وَإِنْ لاحَ ضُوءُ الصُّبْحِ لِلْعِشِّ تَهْرَبُ
وَخَتْمُ نِظَامِي بِالصَّلاةِ مُسَلِّمًا
مَدَى الدَّهْرِ مَا دَامَتْ مَعَدٌ وَيَعْرِبُ
عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ
بِهِ طَابَ خِتْمُ الأَنْبِيَاءِ وَطُيِّبُوا
كَذَا الآلِ وَالصَّحْبِ الأَلَى بِجِهَادِهِمْ
أَضَاءَ بِدِينِ اللَهِ شَرْقٌ وَمَغْرِبُ
اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِالإقْبَالِ عَلَيْكَ وَالتَّوْفِيقِ وَأَعِذْنَا مِن الْخَذْلانِ وَالتَّعْوِيقِ، وَفَرِّجْ عَنَّا كُلَّ هَمٍّ وَغَمٍّ وَضِيق، وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا نَقْوَى وَلا نُطِيق، يَا مَنْ كُلُّ نَفْسٍ إِلى جُودِهِ افْتَقَرَتْ، اللَّهُمَّ جَلَّلْنَا بِسِتْرِكْ وَاعْفُ عَنَّا بِكَرَمِكَ.(6/132)
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وّبِكُتِبَكَ وَبُرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجَزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعَلَى مَرَاتِبَ أَوْلِيَائِهِ وَالشُّهَدَاءُ هُمُ خَوَّاصُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِيقِيَّةِ إِلا الشَّهَادَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقَ دِمَاؤُهُمْ فِي مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابَّهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَلا سَبِيلَ إِلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلا بِتَقْدِيرِ الأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ الْعَدُوُّ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الله سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ وَيَمْحَقَهُمْ قَيَّضَ لَهُمْ الأَسْبَابَ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلاكَهُمْ، وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ، وَمُبَالَغَتُهُمْ، فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ، وَمُحَارَبَتُهُمْ، وَقِتَالُهُمْ، وَالتَّسَلُّطُ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ، مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَعُيُوبِهِمْ، وَيَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ، مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلاكِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ تَعَالى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ (3: 139 - 141) : {وََلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .
فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ وَذِكْرِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ(6/133)
الَّتِي اقْتَضَتْ إِدَالَةَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} فَقَدْ اسْتَوَيْتُمْ فِي الرَّجَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ (4: 104) : {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} فَمَا بَالَكُمْ تَهِنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ الْقَرْحِ وَالأَلَمِ فَقَدْ أَصَابُوا ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الشَّيَطَانِ وَأَنْتُمْ أَصَبْتُمْ فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدَاوِلُ أَيَّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَرَضُ حَاضِرٌ يَقْسِمُهَا دُوَلاً بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدائِهِ، بِخِلافِ الآخِرَةِ، فَإِنَّ عِزَّهَا وَنَصْرَهَا وَرَجَاءَهَا خَالِصٌ لِلذِينَ آمنُوا.
ثُمَّ ذَكَرَ حِكمَةً أُخْرَى وَهِيَ اتِّخَاذُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ الشُّهَدَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ، وَأَفْضَلَهَا وَقَدْ اتَّخَذَهُمْ لِنَفْسِهِ، فَلا بُدَّ أَنْ يُنِيلَهُمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تَنْبِيهٌ لَطِيفُ الْمَوْقِعِ جِدًا عَلَى كَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، الذين انْخَذَلُوا عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَشْهَدُوهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، لأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّهُمْ فَأَرْكَسَهُمْ وَرَدَّهُمْ، لِيَحْرِمَهُمْ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا أَعْطَاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ، فَثَبَّطَ هَؤُلاءِ الظَّالِمِينَ عَنِ الأَسْبَابِ الَّتِي وَفَّقَ لَهَا أَوْلِيَاءه وَحِزْبَهُ.
ثُمَّ حِكْمَةً أُخْرَى فِيمَا أَصَابَهُمُ مِن الذُّنُوبِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهِيَ تَمْحِيصُ الذِينَ آمِنُوا وَهُوَ تَنْقِيَتَهُمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِن الذُّنُوبِ، وَمِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدَّمَة وَإرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ النَّبِيِّ ? فَنَبَأَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِنْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ?، أَوْ قُتِلَ(6/134)
بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ: أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَلَوا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ ?، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أَوْ قُتِلَ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
وَمَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ? إِلَيْهِمْ لِيُخَلَّدَ لا هُوَ وَلا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الإِسْلامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لا بُدَّ مِنْهُ، سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ? أَوْ بَقِيَ وَلِهَذَا وَبَّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ لَمَّا صَرَخَ الشَّيْطَانُ بِأَنَّ: مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} .
وَالشَّاكِرُونَ هُمْ الذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا، فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ الله ? وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَثَبَتَ الشَّاكِرُونَ عَلَى دِينِهِمْ، فَنَصْرَهُمُ اللهُ وَأَعَزَّهُمْ وَأَظْفَرَهُمْ بَأَعْدَائِهِمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلاً لا بُدَّ أَنْ تَسْتَوِفِيَهُ تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْرِدِ الْقِيَامَةِ، مَصَادِرَ شَتَّى، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا، وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ كَثِيرُونُ، فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا ضَعَفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ، وَلا ضَعُفُوا وَلا اسْتَكَانُوا، بَلْ تَلَقُوا الشَّهَادَةَ بِالْقُوةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالإِقْدَامِ، فَلَمْ يَسْتَشِهَدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أَذِلَّةً(6/135)
بَلْ اسْتُشْهِدُوا أَعِزَةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الآية تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقِينَ كَلِيْهِمَا، ثُمَّ أَخْبَر سُبْحَانَهُ عَمَّا اسْتَنْصَرَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ وَأُمَمِهِمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ رَبَّهُمْ أَنْ يُثَبّتَ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
لَمَّا عَلِمَ الْقَوْمِ أَنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّ الشَّيَطَانَ إِنَّمَا يَسْتَزِلُّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا، وَأَنَّها نَوْعَانِ تَقْصِيرٌ فِي حَقٍّ، أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدٍ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَنُوطٌ بِالطَّاعَةِ، {قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِنْ لَمْ يُثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرَهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ، وَنَصْرهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرَهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا، وَلَمْ يَنْتَصِرُوا.
ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِن الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِي لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، وَلا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ، إِذَا صَارَ مُشَاهِدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ.
فَوَفَّوْا الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُمَا، مَقَامَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ: التَّوْحِيدُ وَالالْتِجَاءِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَمَقَامِ إِزَالَةِ الْمَانِعِ مِن النُّصْرَةِ، وَهُوَ: الذُّنُوبِ وَالإِسْرَافِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ طَاعَةِ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِنْ أَطَاعُوهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
شِعْرًا: ... لَعَمْري مَا الرَّزِيَّةِ فَقْدُ مَالٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ مُعْدِمِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا(6/136)
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَوْلى الْمُؤْمِنِين، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فَمَنْ وَالاهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ الذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، الذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ، وَالإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِن الرُّعْبِ، يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَذَلِكَ الرُّعْبُ بِسَبَبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِن الشِّرْكِ بِاللهِ وَعَلى قَدْرِ الشِّرْكِ يَكُوُن الرُّعْبُ، وَالذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ، لَهُمْ الأَمْنُ وَالْهُدَى وَالْفَلاحُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَقَ وَعْدَهُ فِي النَّصْرَةِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْوَعْدِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَمَرُّوا عَلَى الطَّاعَةِ وَلُزُومِ مَرَاكِزِهِمْ امْتِثَالاً لأَمْرِ النَّبِيِّ ? لاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُمْ، وَلَكِنْ انْخَلَعُوا عَن الطَّاعَةِ وَفَارَقُوا مَرَاكِزَهُمْ فَانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطَّاعَةِ، فَفَارَقَتْهُمُ النُّصْرَةُ فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُّوِّهِمْ عَقُوبِةً وِابْتِلاءً وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ يَسِير.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابن الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:
يَا أيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرِيدُ نَجَاتَهُ
اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ مِعوَانِ
كُنْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا مُتَمَسِّكًا
بِالْوَحْيِ لا بِزَخَارِفِ الْهَذَيَانِ
وَانْصُرْ كِتَابَ اللهِ وَالسُّنَنَ الَّتِي
جَاءَتْ عَنِ الْمَبْعُوثِ بالْقُرْآنِ(6/137)
وَاضْرِبْ بِسَيْفِ الْوَحْيِ كُلَّ مُعَطِّلٍ
ضَرْبَ الْمُجَاهِدِ فَوْقَ كُلِّ بَنَانِ
وَاحْمِلْ بِعَزْمِ الصِّدْقِ حَملَةَ مُخُلِصٍ
مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيرِ جَبَانِ
وَاثبُْتْ بِصَبْرِكَ تَحْتَ أَلْوِيةِ الْهُدَى
فَإِذَا أَصِبْتَ فَفِي رِضَا الرَّحْمَنِ
وَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ وَالسُّنَنَ الَّتِي
ثَبَتَتْ سِلاَحَكَ ثُمَّ صِحْ بِجَنَانِ
مَنْ ذَا يُبَارِزُ فَلْيُقَدِّم نَفْسَهُ
أَوْ مَنْ يُسَابِقُ يَبْدُ فِي الْمِيدَانِ
وَاصْدَعْ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وَلا تَخَفْ
مِنْ قِلَّةِ الأَنْصَارِ وَالأَعْوَانِ
فَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ وَكِتَابِهِ
وَاللهُ كَافٍ عَبْدَهُ بأمَانِ
لا تَخشَ مِن كَيدِ العدُوِّ وَمكْرِهِم
فَقِتَالُهُمْ بِالْكِذْبِ والْبُهتَانِ
فَجُنُودُ أتبَاعِ الرَّسُولِ مَلاَئِكٌ
وَجُنُودُهُمْ فَعَسَاكِرُ الشَّيطانِ
شَتَّانَ بينَ العَسْكَرَيْنِ فَمَنْ يَكُنْ
مُتَحَيِّزًا فَلَيْنُظُرِ الْفِئَتَانِ(6/138)
وَاثْبُتْ وَقَاتِلْ تَحْتَ رَايَاتِ الْهُدَى
وَاصْبِرْ فَنَصْرُ اللهِ رَبِّكَ دَانِ
وَاذْكُرْ مَقَاتِلَهُمْ لِفُرْسَانِ الْهُدَى
للهِ دُرُّ مَقَاتِلِ الْفُرْسَانِ
وَادْرَأْ بِلَفْظِ النَّصِّ فِي نَحْرِ الْعِدَى
وَارْجُمْهُمُ بِثَوَاقِبِ الشُّهبَانِ
لا تَخْشَى كَثْرَتَهُمْ فَهُمْ هَمَجُ الْوَرَى
وَذُبَابُهُ أَتَخَافُ مِنْ ذُبَّانِ
وَاشْغَلْهُمُ عِنْدَ الْجِدَالِ بِبَعْضِهِمْ
بَعْضًا فَذَاكَ الْحَزْمُ لِلْفُرْسَانِ
وَإِذَا هُمُوا حَمَلُوا عَلَيْكَ فَلا تَكُنْ
فَزِعًا لِحَمْلَتِهِمْ وَلا بِجَبَانِ
وَاثْبُتْ وَلا تَحْمِلْ بِلا جُنْدٍ فَمَا
هَذَا بِمَحْمُودٍ لَدَى الشُّجَعَانِ
فَإِذَا رَأَيْتَ عِصَابَةَ الإِسْلاَمِ قَدْ
وَافَتْ عَسَاكِرُهَا مَعَ السُّلطَانِ
فَهُنَاكَ فَاخْتَرِقِ الصُّفُوفَ وَلا تَكُنْ
بِالْعَاجِزِ الْوَانِي وَلاَ الْفَزْعَانِ
وَتَعَرَّ مِنْ ثوبَيْنِ مَنْ يَلْبَسْهُمَا
يَلْقَى الرَّدَى بِمَذَمَّةِ وَهَوانِ(6/139)
ثَوبٍ مِنَ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَوقَهُ
ثَوْبُ التّعَصُّبِ بِئْسَتِ الثَّوبَانِ
وتَحَلَّ بِالإِنْصَافِ أَفْخَرَ حُلَّةٍ
زِينَتْ بِهَا الأَعْطَافُ وَالْكَتِفَانِ
وَاجْعَل شِعَارَكَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ مَعْ
نُصْحِ الرّسُولِ فَحَبَّذَا الأَمْرَانِ
وَتَمَسكَنَّ بِحَبْلِهِ وَبِوَحْيِهِ
وَتَوَكَّلَنَّ حَقِيقَةَ التُّكْلاَنِ
فَالْحَقُّ وَصْفُ الرّبِّ وَهُوَ صِرَاطُهُ الْـ
ـهَادِي إِلَيْهِ لِصَاحِبِ الإيمَانِ
وَهُوَ الصِّرَاطُ عَلَيْهِ رَبُّ الْعَرْشِ أَيْـ
ـضًا وَذَا قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ
وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلاَ
تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ
وَبِذَاكَ يَظْهَرُ حِزْبُهُ مِنْ حَرْبِهِ
وَلأَجْلِ ذَاكَ النَّاسُ طَائِفَتَانِ
وَلأَجْلِ ذَاكَ الْحَرْبُ بَيْنَ الرُّسِلِ وَالْـ
ـكُفَّارِ مُذْ قَامَ الْوَرَى سِجْلاَنِ
لَكِنَّمَا الْعُقبَى لأَهْلِ الْحَقِّ إِنْ
فَاتَتْ هُنَا كَانَتْ لَدَى الدَّيَّانِ
وَاجْعَلْ لِقَلْبِكَ هِجْرَتَيْنِ وَلاَ تَنَمْ(6/140)
.. فَهُمَا عَلَى كُلِّ امْرِءٍ فَرْضَانِ
فَالْهِجْرَةُ الأُولَى إِلى الرَّحْمَنِ بِالـ
إِخْلاصِ فِي سِرٍّ وَفي إِعْلانِ
فَالْقَصْدُ وَجْهُ اللهِ بِالأَقْوَالِ وَالـ
أَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ وَالشُّكرَانِ
فَبِذَاكَ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْ إِشْرَاكِهِ
وَيَصِيرُ حَقًّا عَابِدَ الرَّحْمَنِ
وَالْهِجْرةُ الأُخْرَى إِلى الْمَبْعُوثِ بِالْـ
حَقِّ الْمُبِينِ وَوَاضِحِ الْبُرْهَانِ
فَيَدُورُ مَعْ قَوْلِ الرَّسُولِ وَفِعْلِهِ
نَفِيًا وَإِثْبَاتًا بِلاَ رَوَغَانِ
وُيُحَكِّمُ الْوَحْيَ الْمُبينَ عَلَى الذِي
قَالَ الشُّيوخُ فَعِنْدَهُ حَكَمَانِ
لاَ يَحْكُُمَانِ بِبَاطِلٍ أبَدًا وَكُلُّ
الْعَدْلِ قَدْ جَاءَتْ بِهِ الْحَكَمَانِ
وَهُمَا كِتَابُ اللهِ أَعْدَلَ حَاكِمٍ
فِيهِ الشِّفَا وَهِدَايَةُ الْحَيْرَانِ
وَالْحَاكِمُ الثَّاني كَلامُ رَسُولِهِ
مَا ثَمَّ غَيْرُهُمَا لِذِي إِيمَانِ
فَإِذَا دَعَوْكَ لِغَيْرِ حُكْمِهِمَا فَلا
سَمْعًا لِدَاعِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ(6/141)
.. قُلْ لاَ كَرَامَةَ لاَ ولاَ نُعْمًا وَلا
طَوْعًا لِمَنْ يَدْعُو إلى طُغيَانِ
وَإِذا دُعِيتَ إِلى الرَّسُولِ فَقُلْ لَهُمْ
سَمْعًا وَطَوْعًا لَسْتُ ذَا عِصْيَانِ
وَإِذَا تَكَاثَرَتِ الْخُصُومُ وَصيَّحُوا
فَاثْبُتْ فَصَيْحَتُهُمْ كَمِثْلِ دُخَانِ
يَرْقَى إِلى الأَوْجِ الرَّفِيعِ وَبَعْدَه
يَهْوِي إِلى قَعْرِ الْحَضِيضِ الدَّانِي
هَذَا وَإنَّ قِتَالَ حِزْبِ اللهِ بِالـ
أَعْمَالِ لا بِكَتَائِبِ الشُّجعَانِ
وَاللهِ مَا فَتَحُوا الْبِلادَ بِكَثْرَةٍ
أنَّى وَأَعْدَاهُمْ بِلاَ حُسْبَانِ
وَكَذَاكَ مَا فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِهَذِهِ الـ
آرَاءِ بَلْ بِالْعِلمِ وَالإِيمَانِ
وَشَجَاعَةُ الْفُرْسَانِ نَفْسُ الزُّهْدِ فِي
نَفْسٍ وَذَا مَحْذُورُ كُلِّ جَبَانِ
وَشَجَاعَةُ الْحُكَّامِ وَالْعُلَمَاءِ زُهْـ
ـدٌ فِي الثَّنَا مِنْ كُلِّ ذِي بُطْلاَنِ
فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِقَلْبٍ صَادِقٍ
شُدَّت رَكَائبُهُ إِلى الرَّحْمَنِ
وَاقْصِد إِلى الأَقْرَانِ لاَ أَطْرَافِهَا(6/142)
.. فَالْعِزُّ تَحْتَ مَقَاتِلِ الأَقْرَانِ
وَاسْمَعْ نَصِيحَةَ مَنْ لَهُ خَبَرٌ بِمَا
عِنْدَ الْوَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْجَولاَنِ
مَا عِنْدَهُمْ وَاللهِ خَيْرٌ غَيْرَمَا
أَخَذُوهُ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ
والْكُلُّ بَعْدُ فَبِدْعَةٌ أَوْ فِرِيَةٌ
أَوْ بَحْثُ تَشْكِيكٍ وَرَأْيُ فُلانِ
فَاصْدَعْ بِأَمْرِ اللهِ لا تَخْشَ الْوَرَى
فِي اللهِ وَاخْشَاهُ تَفُزْ بأَمَانِ
وَاهْجُرْ وَلَوْ كُلَّ الْوَرَى فِي ذَاتِهِ
لاَ فِي هَوَاكَ وَنَخْوَةِ الشَّيطَانِ
وَاصْبِرْ بِغَيْرِ تَسَخُّطٍ وَشِكَايَةٍ
وَاصْفَحْ بِغَيْ بِغَيرِ عِتَابِ مَنْ هُوَ جَانِ
وَاهْجُرهُمُ الْهَجْرَ الْجَمِيلَ بِلا أذَى
إِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْهِجْرَانِ
وَانْظُرْ إِلى الأَقْدَارِ جَارِيَةً بِمَا
قَدْ شَاءَ مِنْ غَيٍّ وَمِنْ إِيمَانِ
وَاجْعَلْ لِقَلْبِكَ مُقْلَتَينِ كِلاَهُمَا
بِالْحَقِّ فِي ذَا الْخَلْقِ نَاظِرَتَانِ
فَانْظُرْ بِعَيْنِ الحُكْمِ وَارْحَمْهُمْ بِهَا
إِذْ لا تُرَدُّ مَشِيئَةُ الدَّيَانِ(6/143)
.. وَانْظُرْ بَعْيْنِ الأَمْرِ وَاحْمِلْهُمْ عَلَى
أَحْكَامِهِ فَهُمَا إِذًا نَظَرَانِ
وَاجْعَلْ لِوَجْهِكَ مُقْلَتَينِ كِلاَهُمَا
مِنْ خَشْيَةِ الرَّحْمَنِ بَاكِيَتَانِ
لَوْ شَاءَ رَبُّكَ كُنْتَ أَيْضًا مِثلَهُمْ
فَالْقَلْبُ بَيْنَ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ
وَاحْذَرْ كَمَائِنَ نَفْسِكَ اللاَّتِي مَتَى
خَرَجَتْ عَلَيْكَ كُسِرْتَ كَسْرَ مُهَانِ
وَإِذَا انْتَصَرَتْ لَهَا فَأَنْتَ كَمَنْ بَغَى
طَفْيَ الدُّخَانِ بِمَوْقِدِ النِّيرَانِ
وَاللهُ أخْبَرَ وَهُوَ أَصْدَقُ قَائِلٍ
أَنْ سَوْفَ يَنْصُرُ عَبْدَهُ بأَمَانِ
مَنْ يَعْمَلِ السُّوء سَيُجْزَى مِثْلَهَا
أَوْ يَعْمَلِ الْحُسْنَى يَفُزْ بِجِنَانِ
هَذِيْ وَصِيَّةُ نَاصِحٍ وَلِنَفْسِهِ
وَصَّى وَبَعْدُ لِسَائِرُ الإِخْوَانِ
قَالَ ابن الْجَوْزِي رَحِمَهُ اللهُ:
أَعْظَمُ الْمُعَاقَبَةِ أَنْ لا يُحِسَ الْمَعَاقَبُ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ السُّرُورُ بِمَا هُو عُقُوبة، كَالْفَرَحِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَالتَّمَكن مِن الذُّنُوبِ. وَمَنْ هَذِهِ حَالَهُ لا يَفُوزُ بِطَاعَةِ.
وَإِنِّي تَدَبرت أَحْوَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَزَهِّدِينَ فَرَأَيْتَهُمُ فِي عُقُوبَاتِ لا يَحُسُّونَ بِهَا، وَمُعْظَمَهُا مِنْ قَبْلِ طَلَبِهِمْ لِلرِّيَاسَةِ. فَالْعَالِمُ مِنْهُمْ يَغْضِب إِنْ رُدَّ عَلَيْهِ خَطَؤُهُ، وَالْوَاعِظُ مُتَصَنّعُ بِوَعْظِهِ،(6/144)
وَالْمُتَزهِّد مُنَافِقٌ أَوْ مُرَاءٍ. فَأَوَّلُ عُقُوبَاتِهِمْ، إِعْرَاضُهمْ عَنْ الْحَقِّ شُغْلاً بِالْخَلْقِ، وَمِنْ خَفِيِّ عُقُوبَاتِهِمْ سَلْبُ حَلاوَةِ الْمُنَاجَاةِ، وَلَذَةِ التَّعَبُدِ.
إِلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ، وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتُ، يَحْفَظ الله بِهِمْ الأَرْضَ، بَوَاطِنَهُمْ كَظَوَاهِرَهُمْ بَلْ أَحْلَى، وَسَرَائِرَهُمْ كَعَلانِيَّتَهُمْ بَلْ أَحْلَى، وهممهم عِنْدَ الثَّرَيَا بَلْ أَعْلَى، إِنْ عُرِفُوا تَنَكَّرُوا وَإِنْ رُئيت لَهُمْ كَرَامَة أَنْكَرُوا. فَالنَّاسُ فِي غَفْلاتِهِمْ، وَهُمْ فِي قَطْعِ فَلاتِهِمْ، تَحِبُّهُمْ بِقَاع الأَرْض، وَتَفْرَح بِهِمْ أَمْلاكُ السَّمَاءِ. نَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْفِيقَ لإتِّبَاعِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلْنَا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
وَسَلِ الْعِيَاذُ مِنْ التَّكَبُّرَ وَالْهَوَى ... فَهُمَا لِكُلِّ الشَّرِ جَامِعَتَانِ
فَتَرَى هَوَاهُ يَمْنَعُهُ تَارَةً ... وَالْكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ
واللهِ مَا فِي النَّارِ إِلا تَابِعٌ ... هاذين فَاسْأَلْ سَاكِنِي النِّيرَانِ
آخر: ... تَواضَع إِذَا مَا نِلْتَ فِي النَّاسِ رِفْعَةً ... فَإِنَّ رَفِيعَ الْقَوْمِ مَنْ يَتَوَاضَعُ
وَدَاوِمْ عَلَى حَمْدِ الإِلَهِ وَشُكْرِهِ ... وَذِكْرٍ لَهُ فَهُوَ الذِي لَكَ رَافِعُ
وَقَالَ ابن الْجَوْزِي: اعْتَبَرْتُ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَادِ أَنَّهم يُبْطِنُونَ الْكِبْرَ فَهَذَا يَنْظُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لا يَعُودُ مَرِيضًا فَقِيرًا يَرَى نَفْسَه خَيْرًا مِنْهُ. حَتَّى أَنِّي رَأَيْتُ جَمَاعَةً يُوْمأ إِلَيْهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لا أَدْقَنُ إِلا فِي دِكَّةِ أَحْمَدَ بن حَنْبَل، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرُ عِظَامِ الْمَوْتَى، ثُمَّ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلاً لِذَلِكَ التَّصَدُّرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولِ: ادْفِنُونِي إِلى جَانِب مَسْجِدِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصِير بَعْدَ مَوْتِهِ مَزُورًا كَمَعْرُوف الْكَرْخِي.
وَهَذِهِ خِلَّةٌ مُهْلِكَة ولا يعلمون. قال النبي ?: «مَن ظن أنه خير من غيره فقد تكبر» وَقَلَّ مَنْ رَأَيْتُ إلا وهو يَرى نفسه.
والعجبُ كُلَّ العجبِ مِمَّنْ يَرى نَفْسَه، أتراه بماذا؟ إن كان بالعلم فقد سَبَقَهُ الْعُلماء، وإن كان بالتعبد فقد سَبَقه العبَّاد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلةً دِينيةً. فإن قال: قد عرفتُ ما لم يعرف غيري من العلم في زمني فما عليَّ مِمَّن تقدم.(6/145)
قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الْحِفْظِ كَمَنْ يَحْفَظُ النِّصف، ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي، إنما نَحْذَرُ عليك أن تَرى نفسَك خيرًا مِن ذَلِكَ الشخص المؤمن وإن قلَّ علمه، فإن الخيريةَ بالمعاني لا بصورة العِلم والعبادة. ومَن تلمح خصالَ نفسِه وذُنُوبَها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير.
شِعْرًا: ... يَا صِحَاحَ الأَجْسَادِ كَيْفَ بَطَلْتُمْ ... لا لِعُذْرٍ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ
لَوْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْبَطَالَةَ تُجْدِي ... حَسْرَةً فِي مَعَادِكم وَالْمَآلِ
لَتَبَادَرْتُمْ إِلى مَا يَقِيكُمْ ... مِنْ جَحِيمٍ فِي بَعْثِكم وَنَكَالِ
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ ... لا أَبَدًا تُطْمِعُ الْوَرَى فِي الْمُحَالِ
ج
كَيْفَ يَهْنِيكموا الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ ... بَعْدَ تَمْهِيدِكُم عَلَى الارْتِحَالِ
كَيْفَ يَهْنِيكموا الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ ... بَعْدَ تَمْهِيدِكُم عَلَى الارْتِحَالِ
الْهُدَى وَاضِحٌ فَلا تَعْدِلُوا عَنْ ... ـهُ وَلا تَسْلُكوا سَبْلَ الضَّلالِ
وَأَنِيبُوا قَبْلَ الْمَمَاتِ وَتُوبُوا ... تَسْلَمُوا فِي غَدٍ مِنَ الأَهْوَالِ
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقُبُولِ وَالإِجَابَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ الْمَخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمَنَا وَمَا وَقَعَ مِنَّا مِن الْخَطَأْ وَالنِّسْيَانِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
غزوة حنين
حنين واد قربَ ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال قربَ الطائف وتُسَمَّى غزوة أوطاس سُمِّيتِ الغزوة باسم المكانين.
لم ينقص شهر على مغادرة النبي ? للمدينة، حتى ترامت إليه الأخبار أن قبيلة هوزان النازلة شرق مكة، تحشد رجالها، وتستعد لهجوم مفاجئ على المسلمين.(6/146)
وذلك لقلقها المتزايد من زيادة عدد المسلمين لا سيما بعد توقيع صلح الحديبية، وقد كانوا يعلمون - من قبل فتح مكة بزمن طويل - على إتارة مختلف قبائل العرب ضد الإسلام، أما وقد فتحت مكة، فقد أصبح لزامًا عليهم في رأيهم أن يوجهوا إلى الإسلام ضربة قاتلة، قبل أن يستفحل أمره، ويصبح من المحال القضاء عليه.
وهم رجال حرب بطبيعتهم، فما كانوا يحتاجون لأكثر من أيام معدودات لحشد جيش كبير. ترامت إلى النبي ? أخبارها، فأوفد من يتبين له الأمر، وعاد الرسول يؤيد الخبر فأمر النبي ? على التو - أي على الفور - بتجهيز جيش قوي لسحق هوزان.
وسرعان ما إلتف عشرة ألاف مقاتل ساروا وعلى رأسهم النبي ? إلى وادي حنين حيث احتشدت جنود هوزان.
وقد أمدت مكة المسلمين بكميات وافرة من السلاح والعتاد بجانب الألفين من المقاتلين.
وكانت هوزان حاذقة في الرماية بالسهام والنبال، يضاف إلى هذه أنها احتلت المراكز الممتازة كلها وقد وزعت زهرة رماتها فوق التلال والمرتفعات، واضطر المسلمون إلى النزول بالمراكز غير الملائمة، فكانت السهام تنزل عليهم من كل صوب وحدب أشبه بالمطر.
بينما تقدمت ساقة هوزان لمهاجمة قلب جيش المسلمين، والتقى الجمعان وجهًا لوجه، وكانت طليعة المسلمين تحت إمرة خالد بن الوليد وهي مكونه من المكيين وفيهم غير المسلمين. فكانوا أول من خاض غمار المعركة. ولكنهم لم يتحملوا عنف القتال المرير فتقهقروا، وأدى تقهقرهم إلى اضطراب النظام بين صفوف المسلمين، فارتدوا جميعًا في غير نظام، وتقهقرت فيالق المهاجرين والأنصار هي الأخرى، وبقي النبي ? ومعه عمه العباس في فئة قليلة من المقاتلين وحدهم في العراء عرضة لسهام المهاجمين المحتشدين.
رأى النبي جيش المسلمين يرتد فثبت في مركزه المحفوف بالخطر في رباطة جأش تدعوا إلى الإعجاب الشديد. كان العدو يتقدم في سرعة خاطفة، وكاد يكون بمفرده، ولكن(6/147)
ذلك لم يؤثر فيه أي تأثير. ألم يكن في أمان ترعاه عناية الله العلي القدير! . نفس الشعور الذي لا يخونه، والثقة التي لا حد لها في معونة الله والإيمان بالنصر النهائي لقضيته.
بقي وحده في الميدان وعاصفة العدو تدوي من حوله، ونادى بأعلى صوته: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وصرخ العباس بصوته الجهورى: (يا معشر الأنصاري الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة. إن محمدًا حي فهلموا) وكرر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه.
وأجاب المسلمون من كل جانب: (لبيك! لبيك!) وعادت جموعهم تلتئم من جديد. وترجل نفر منهم عن أفراسهم وجمالهم وشدوا على العدو بعنف
وجرأة، فلم يستطع العدو الثبات في وجههم وأخذ فريق منهم في الفرار، وبقى نفر آخر يقاوم وقتًا ما، ولكن عندما سقط حامل اللواء، ولوا جميعًا الأدبار.
وعندما اعتزمت هوزان الخروج للقتال أمر كبيرها مالك - وهو فتى متهور في الثلاثين من عمره - أن يخرج النساء والأطفال مع الجيش، ظنًا أن وجود هؤلاء يكون مشجعًا ومثيرًا لعواطف رجاله، وحاثًا لهم، إن دارة الدائرة، على أن لا يتقهقروا ويولوا أعقابهم، ولكن لما أزفت الساعة الرهيبة تركوا وراءهم كل شيء: النساء، والأطفال، والغنم، فوقع في يد المسلمين أربعةٌ وعشرون رأس من الغنم، وأربعة آلاف أوقيةٍ من الفضة، غير ستة آلاف أسير.
وبعد أن وضع المسلمون غنائمهم في مكان حريز، أخذوا في السير للحاق بعدوهم المتقهقر، وقد احتمى فريق منهم في قلعتهم في أوطاس، فأوفد إليهم النبي ? سرية من المسلمين لتشتيتهم، بينما احتمت ساقتهم بأسوار الطائف المحصنة تحصينًا متينًا مسلحًا، كانوا رجال حرب محنكين خبيرين بالأسلحة الحديثة كالمنجنيق، وكانوا قد اختزنوا مئونة عام كامل داخل الأسوار، وأقاموا عليها حراسة وفيرة العدد، ووزعوا حامياتها حول أسوار المدينة.(6/148)
فخف النبي ? إلى حصونهم وضرب الحصار عليها، وقد استعان المسلمون بالأسلحة الحديثة التي أمددتهم بها بعض القبائل الأخرى، وثقل الحصار عليهم جميعًا فجمع النبي ? أصحابه للمشورة، واقترح أحد الشيوخ المحنكين تركهم وشأنهم فقد عاد الذئب إلى جحره وليس من الهين اصطياده، خصوصًا وأن المسلمين ما خرجوا إلا لرد العدوان، وها هو العدو أعجز من أن يضربهم، فأمر النبي برفع الحصار إذا لم يكن للمسلمين من هدف سوى إبعاد الخطر، وقد كان.
وفي طريق عودتهم طلب بعضهم من النبي في نفس المكان الذي قذف فيه بالحجارة من قبل، أن يستنزل غضب الله على الأعداء. ولكنه بدلاً من أن يلعنهم ويستنزل غضب ربه، أخذ يصلي ويتضرع من أجلهم، ويبتهل إلى الله أن يهدي ثقيفًا إلى الإسلام، وأن تنضم إلى لواء النبي ?. وقبل الله دعاءه، فلم ينقض وقت طويل حتى دخل الجميع في دين الله أفواجًا، طوعًا ومن تلقاء أنفسهم. انتهى.
شعرًا: ... أَسُيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ
لَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ قَلْبٌ مُخَالِفُ
قَدِيمًا عَصَى عَمْدًا وَجَهْلاً وَغِرَّةً
وَلَمْ يَنْهَهُ قَلْبٌ مِنَ الله خَائِفُ
تَزِيدُ سِنُوهُ وَهُوَ يَزْدَادُ ضِلَّةً
فَهَا هُوَ فِي لَيْلِ الضَّلالَةِ عَاكِفُ
تَطَلَّعُ صُبْحُ الشَّيْبِ وَالْقَلْبُ مُظْلِمٌ
فَمَا طَافَ فِيهِ مِنْ سَنَا الْحَقِّ طَائِفُ
ثَلاثُونَ عَامًا قَدْ تَوَلَّتْ كَأَنَّهَا
حُلُومُ مَنَامِ أَوْ بُرُوقٌ خَوَاطِفُ
وَجَاءَ الْمَشِيبُ الْمُنْذِرُ الْمَرْءَ أَنَّهُ(6/149)
.. إِذَا ارْتَحَلَتْ عَنْهُ الشَّبِيبَةْ تَألِفُ
فَيَا أَيَّهُا الْمَغْرُورُ قَدْ أَدْبَرَ الصِّبَا
وَنَادَاكَ مِنْ سِنِّ الْكُهُولَةِ هَاتِفُ
فَهَلْ أَرَّقَ الطَّرْفَ الزَّمَانُ الذِي مَضَى
وَأَبْكَاهُ ذَنْبٌ قَدْ تَقَدَّمَ سَالِفُ
فَخُذْ بِالدُّمُوعِ الْحُمْرِ حُزْنًا وَحَسْرَةً
فَدَمْعُكَ يُنْبِي أَنَّ قَلْبَكَ آسِفُ
نَسْأَلُ أَنْ يُوفِّقَنَا لِتَدبُّرِ آيَاتِهِ وَفَهْمِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ? وَالْعَمَلِ بِهِمَا وَأَنْ يَرْزُقْنَا الانْتِفَاعَ بِمُرُورِ الزَّمَنِ عَلَى خَيْرِ وَجْهٍ إِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَوَفِّقْنَا لإتِّبَاعِ ذَوِي النُّفُوسِ الْمُحْسِنَةْ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّهُمَّ وَآتِنَا أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجُوهَنَا عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وَجُوُهَنَا عَنْ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ. اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَىً وَهُوَ يَظُنَّ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إِلى الْحَقِّ حَتَّى لا يَظِلَّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ. اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ وَلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكَ خَولاً لِغَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
صفات المنافقين للإمام ابن القيم
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا النِّفَاقُ: فَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَالْبَاطِنُ الذِي يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ، وَهُوَ لا يَشْعُرُ. فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ.(6/150)
وَهُوَ نَوْعَانِ: أَكْبَرٌ، وَأَصْغَرٌ. فَالأَكْبَرُ: يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ فِي دَرْكِهَا الأَسْفَلِ وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيمَانَهُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُنْسَلِخٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه مُكَذِّبٌ بِهِ. لا يُؤْمِنُ بَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِكَلامٍ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ جَعَلَهُ رَسُولاً لِلنَّاسِ، يَهْدِيهِمْ بِإِذْنِهِ، وَيُنْذِرُهمْ بَأْسَهُ، وَيُخَوِّفُهم عِقَابَهُ.
وَقَدْ هَتَكَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ فِي الْقُرْآنِ،
وَجَلَّى لِعِباَدِهِ أُمُورَهُمْ لِيَكُونُوا مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِهَا عَلَى حَذَرٍ، وَذَكَرَ طَوَائِفَ الْعَالَمِ الثَّلاثَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارَ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَ آيَاتٍ، وَفِي الْكُفَّارِ آيتَيْنِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ ثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةِ لِكَثْرَتِهِم وَعُمُومِ الابْتِلاءِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ فِتْنَتِهم عَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ بَلَيَّة الإِسْلام بِهِم شَدِيدَةٌ جِدًّا، لأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَيْهِ، وَإِلى نُصْرَتِهِ وَمُوَالاتِهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُه فِي الْحَقِيقَةِ، يُخْرِجُونَ عَدَاوَتَهُ فِي كُلِّ قَالَبٍ، يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ عِلْمٌ وَإِصْلاحٌ وَهُو غَايَةُ الْجَهْلِ وَالإِفْسَادِ.
فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ مَعْقَلٍ للإِسْلامِ قَدْ هَدَمُوهُ!؟ وَكَمْ مِنْ حِصْنٍ لَهُ قَدْ قَلَعُوا أَسَاسَهُ وَخَرَّبُوه؟! وَكَمْ مِنْ عَلَمٍ لَهُ قَدْ طَمَسُوهُ؟! وَكَمْ مِنْ لِوَاءٍ لَهُ مَرْفُوع قَدْ وَضَعُوه؟! وَكَمْ ضَرَبُوا بِمَعَاوِلِ الشَّبَهِ فِي أُصُولِ غِرَاسِهِ لِيَقْلَعُوهَا؟! وَكَمْ عَمّوا عُيُونَ مَوَارِدِه بِآرَائِهِمْ لِيَدْفِنُوهَا وَيَقْطَعُوهَا؟!
فَلا يَزَالُ الإِسْلامُ وَأَهْلُه مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبِلِيَّةِ وَلا يَزَالُ يَطْرُقُه مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةً، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} ، {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
اتَّفَقُوا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَحْيِ، فَهُمْ عَلَى تَرْكِ الإِهْتِدَاءِ بِهِ مُجْتَمِعُونَ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وَلأَجْلِ ذَلِكَ {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .
دَرَسَتْ مَعَالِمُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهم فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدَثَرَتْ مَعَاهِدُه عَنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرونَهَا، وَأَفلَتْ كَوَاكِبَهُ النَّيِّرَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يُحْيَوْنَها(6/151)
وَكَسَفَتْ شَمْسَهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلْمِ آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا، لَمْ يَقْبَلُوا هُدَى اللهِ الذِي أرسَلَ بِهِ رَسُولَهُ. وَلَمْ يَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا، وَلَمْ يَرَوْا بالإعْرَاضِ عَنْهُ إِلى آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بَأْسًا، خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْي عَنْ سَلْطَنَةِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وَلايَةِ الْيَقِينِ وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلاتِ الْبَاطِلَةِ، فَلا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٌ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَقَابَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ الْقُبُولِ وَالإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي الصُّدُورِ مِنْهَا وَالأَعْجَازِ، وَقَالُوا: مَالَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ - وَإِنْ كَانَ لا بُدَّ - فَعَلى سَبِيلِ الاجْتِيَازِ، أَعَدُّوا لِدَفْعِهَا أَصْنَافَ الْعُدَدِ وَضُرُوبَ الْقَوَانِينِ، وَقَالُوا - لَمَّا حَلَّتْ بِسَاحَتِهِمْ - مَا لَنَا وَلِظَوَاهِرَ لَفْظِيَّةٍ لا تُفِيدُنَا شَيْئًا مِنْ الْيَقِين، وَعَوَامُّهم قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ خَلْفُنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَأَقْوَمُ بطرَائِق الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِين، وَأُولئِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ السَّذَاجَةُ وَسَلامَةُ الصُّدُورِ وَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ النَّظَرِ، وَلَكِنْ صَرَفُوا هَمَّهُمْ إِلى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَطَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرينَ: أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ: أَجْهَلُ، لَكِنَّهَا أَسْلَمُ.
أَنْزَلُوا نُصُوصَ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ وَفِي الْخُطْبَةِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ مَرْفُوعٌ، وَالْحُكْمُ النَّافِذُ لِغَيْرِهِ، فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلا مَسْمُوعٍ، لَبِسُوا ثِيَابَ أَهْلِ الإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْغِلِّ وَالْكُفْرَانِ، فَالظَّوَاهِرُ ظَوَاهِرُ الأَنْصَارِ، وَالْبَوَاطِنُ قَدْ تَحَيَّزَتْ إِلى الْكُفَّارِ، فَأَلْسِنَتُهُمْ ألْسِنَةُ الْمُسَالِمِينَ، وَقُلُوبُهُم قُلُوبُ الْمُحَارِبِين، وَيَقُولُونَ: {آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} .(6/152)
رَأْسُ مَالِهِم الْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ، وَبِضَاعَتُهُم الْكَذِبُ وَالْخَتْرُ، وَعِنْدَهِم الْعَقْلُ الْمَعِيشِي: أَنَّ الْفَرِيقَيْن عَنْهُمْ رَاضُونَ، وَهُمْ بَيْنَهُمْ آمِنُون {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} .
قَدْ أَنْهَكَتْ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ قُلُوبَهُمْ فَأَهْلَكَتْهَا وَغَلَبَتِ الْقُصُورُ السَّيِّئَةُ عَلَى إِرَادَاتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ فَأَفْسَدَتْهَا، فَفَسَادُهُمْ قَدْ تَرَامَى إِلى الْهَلاكِ، فَعَجِزَ عَنْهُ الأَطِبَّاءُ الْعَارِفُونَ {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
مَنْ عَلِقَتْ مَخَالِبُ شُكُوكِهِمْ بَأَدِيمِ إِيمَانِهِ مَزَّقَتْهُ كُلَّ تَمْزِيقٍ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَرَرُ فِتْنَتِهِمْ بِقَلْبِهِ أَلْقَاهُ فِي عَذَابِ الْحَرِيقِ، وَمَنْ دَخَلَتْ شُبُهَاتُ تَلْبِيسِهِمْ فِي مَسَامِعِه حَالَتْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ، فَفَسَادُهُمْ فِي الأَرْضِ كَثِير وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} .
الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرٍ، مَبْخُوسُ حَظٍّ مِنْ الْمَعْقُولِ، وَالدَّائِرُ مَعَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمَ كَحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا فَهْمُه فِي حَمْلِ الْمَنْقُولِ وَبِضَاعَةُ تَاجِرِ الْوَحْيِ لَدَيْهِمْ كَاسِدَةٌ، وَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ بِمَقْبُولِ، وَأَهْلُ الأَتْبَاعِ عِنْدَهُم سُفَهَاءُ فَهُمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمِ بِهِمْ يَتَطَيَّرُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} . قَالَ الشَّاعِرُ: (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ) .
لِكُلِّ مِنْهُمْ وَجْهَانِ: وَجْهٌ يَلْقَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهٌ يَنْقَلِبُ بِهِ إِلى إِخْوَانِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ، وَلَهُ لِسَانَانِ: أَحَدُهُمَا يَقْلِبُه بِظَاهِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالآخَرُ يترجمُ بِهِ عَنْ سِرِّهِ الْمَكْنُونِ {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .(6/153)
قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِهْزَاءً بِأَهْلِهِمَا وَاسْتِحْقَارًا، وَأَبَوا أَنْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْوَحْيَيْنِ فَرَحًا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ الذِي لا يَنْفَعُ الاسْتِكْثَارُ مِنْهُ إِلا شَرًّا وَاسْتِكْبَارًا فَتَرَاهُمْ أَبَدًا بِالْمُتَمَسِّكِينَ بِصَرِيح الْوَحْيِ يَسْتَهْزِئُونَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
خَرَجُوا فِي طَلَبِ التِّجَارَةِ الْبَائِرَةِ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ، فَرَكِبُوا مَرَاكِبَ الشُّبَه وَالشُّكُوكِ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجِ الْخَيَالاتِ، فَلَعِبَتْ بِسُفُنِهِمْ الرِّيحُ الْعَاصِفُ؛ فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ سُفن الْهَالِكِينَ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .
أَضَاءَتْ لَهُمْ نَارُ الإِيمَانِ فَأَبْصِرُوا فِي ضَوْئِهَا مَوَاقِعَ الْهُدَى وَالضَّلالِ ثُمَّ طَفِئَ ذَلِكَ النُّورِ، وَبَقِيتْ نَارًا تَتَأَجَّجُ ذَاتَ لَهَبٍ وَاشْتِعَال، فَهُمْ بِتَلْكَ النَّارِ مُعَذبُون، وَفِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ يَعْمَهُونَ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} .
أَسْمَاعُ قُلُوبِهم قَدْ أثْقَلَهَا الْوَقْرُ، فَهِيَ لا تَسْمَعُ مُنَادِي الإِيمَان، وَعُيونُ بَصَائِرِهم عليها غِشَاوَةُ الْعَمَى، فَهِي لا تُبْصِرُ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَأَلْسِنَتُهم بِهَا خَرَسٌ عَنْ الْحَقِّ، فَهُمْ بِهِ لا يَنْطِقُونَ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} .
صَابَ عَلَيْهِم صَيِّبُ الْوَحْي، وَفِيهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالأَرْوَاحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ إِلا رَعْد التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكَالِيفِ الَّتِي وُظِّفَتْ عَلَيْهم فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُم فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا فِي الْهَرَبِ، وَالطَّلَبُ فِي آثَارِهِمْ وَالصِّيَاحُ، فَنُودِي عَلَيْهِمْ عَلَى رُؤوسِ الأَشْهَادِ، وَكُشِفَتْ حَالُهمْ لِلْمُسْتَبْصِرينَ، وَضَربَ لَهُمْ مَثَلانِ بِحَسَب حَالِ(6/154)
الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ: الْمُنَاظِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ، فَقِيلَ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} .
ضَعُفَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ عَنْ احْتِمَالِ مَا فِي الصَّيِّب مِنْ بَرُوقِ أَنْوَارِهِ وَضِيَاءِ مَعَانِيهِ، وَعَجَزتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ تَلَقِّي رُعُودِ وَعُودِهِ وَأَوَامِرهِ وَنَوَاهِيِهِ، فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ حَيَارَى فِي أَوْدِيَةِ التِّيهِ، لا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ السَّامِعُ، وَلا يَهْتَدِي بِبَصَرِهِ الْبَصِيرُ {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} واللهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
لَهُمْ عَلامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مُبَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، بَادِيَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا مِنْ أَهْلِ بَصَائِرِ الإِيمَانِ، قَامَ بِهِمْ - وَاللهِ - الرِّيَاءُ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَقَامٍ قَامَهُ الإِنْسَانُ، وَقَعَدَ بِهِمْ الْكَسَلُ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَوَامِرِ الرَّحْمَنِ، فَأَصْبَحَ الإِخْلاُص عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ثَقِيلاً {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} .
أَحَدُهْم كَالشَّاةِ الْعَائِرَة بَيْنَ الْغَنمَينِ، تَيْعَرُ إِلى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلى هَذِهِ مَرَّةً وَلا تَسْتَقِرُّ مَعَ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَهُمْ وَاقِفُونَ بَيْنَ الْجَمْعَين، يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْوَى وَأَعَزُّ قَبِيلاً {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} .
يَتَرَبَّصُونَ الدَّوَائِرَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنْ اللهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَأَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لأَعْدَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ النُّصْرَةِ نَصِيبٌ، قَالُوا: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ عَقْدَ الإِخَاءِ بَيْنَنَا مُحْكَمٌ، وَأَنَّ النَّسَبَ بَيْنَنَا قَرِيبٌ؟ فَيَا مَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُمْ، خُذْ صِفَاتِهِمْ(6/155)
مِنْ كَلامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فلا تَحْتَاجُ بَعْدَهُ دَلِيلاً: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
يُعْجبُ السَّامِعَ قَوْلُ أَحَدِهِمْ لِحَلاوَتِهِ وَلِيْنِه، وَيُشْهِدُ اللهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ كَذبِهِ وَمَيْنِه، فَتَرَاهُ عِنْدَ الْحَقِّ نَائِمًا، وَفِي الْبَاطِل عَلَى الأَقْدَامِ فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقُدُّوسِ السَّلامِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .
أَوَامِرُهُم الَّتِي يَأْمُرونَ بِهَا أَتْبَاعَهُم مُتَضَمِّنَةٌ لِفَسَادِ الْبِلادِ والْعِبَادِ، وَنَوَاهِيهم عَمَّا فِيهِ صَلاحُهم فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَحَدُهُمْ تَلْقَاهُ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الصَّلاةِ وَالذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَالاجْتِهَادِ {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} .
فَهُم جِنْسُ بَعْضُه يُشْبِهُ بَعْضَا، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلُوه، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوه، وَيَبْخَلُون بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ أَنْ يُنْفِقُوهُ، كَمْ ذَكَّرَهُمْ اللهُ بِنِعمِهِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَنَسُوهُ؟ وَكَمْ كَشَفَ حَالَهُم لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْتَنِبُوه؟ فَاسْمَعُوا أَيُّهَا الْمُؤمِنِينَ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
إِنْ حَاكَمْتَهُم إِلى صَرِيحِ الْوَحْي وَجَدْتَهُم عَنْهُ نَافِرِينَ، وَإِنْ دَعَوْتَهُمْ إِلى حُكْمِ كِتَابِ اللهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رَأَيْتَهُمْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَلَوْ شَهِدْتَ حَقَائِقَهُم لَرَأَيْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهُدَى أَمَدًا بَعِيدًا، وَرَأَيْتَهَا مُعْرِضَةً عَنْ(6/156)
الْوَحْي إِعْرَاضًا شَدِيدًا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} .
فَكَيْفَ لَهُمْ بِالْفَلاحِ وَالْهُدَى! بَعْدَ مَا أُصِيبُوا فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَنَّى لَهُمْ التَّخَلُّصُ مِنْ الضَّلالِ وَالرَّدَى؟ وَقَدْ اشْتَرَوا الْكُفْرَ بِإيمَانِهِم؟ فَمَا أَخْسَرَ تِجَارَتَهِمْ الْبَائِرَةِ! وَقَدْ اسْتَبْدَلُوا بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ حَرِيقًا {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} .
نَشَبَ زَقُّومُ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَلا يُجِيدُونَ لَهُ مَسِيغَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} .
تَبًّا لَهُمْ، مَا أَبْعَدَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ! وَمَا أَكْذَبَ دَعْوَاهُمْ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعُرْفَانِ، فَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ وَإِتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي شَأْنٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
فَصْلٌ
لَقَدْ أَقْسَمِ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ فِي كِتَابِهِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ قَسَمًا عَظِيمًا يَعْرِفُ مَضْمُونَه أُولُوا الْبَصَائِر، فَقُلُوبُهم مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ إِجْلالاً لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَقَالَ تَعَالى تَحْذِيرًا لأَوْلِيَائِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى حَالِ هَؤُلاءِ وَتَفْهِيمًا: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
تَسْبِقُ يَمِينُ أَحَدِهم كَلامَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الإِيمَانِ لا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، فَيَتَبَرَّأَ بِيَمِينِهِ مِنْ سُوءِ الظَّنَّ بِهِ وَكَشْفِ مَا لَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الرِّيبَةِ يَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ لِيَحْسَبَ السَّامِعُ أَنَّهُمُ صَادِقُونَ قَدْ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .(6/157)
قَالَ الشَّاعِر:
أَمْسَى النِّفَاقُ دُرُوعًا يَسْتَجِنُّ بِهَا ... عَنِ الأَذَى وَيُقَوِّي سَرْدَهَا الْحَلِفُ
تَبًّا لَهُمْ بَرَزُوا إِلى الْبَيْدَاءِ مَعَ رَكْبِ الإِيمَانِ، فَلَمَّا رَأَوْا طُولَ الطَّرِيقِ وَبُعْدَ الشُّقَّةِ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَرَجَعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِطَيِّبِ الْعَيْشِ وَلَذَّةِ الْمَنَامِ فِي دِيَارِهِمْ، فَمَا مَتَّعُوا بِهِ وَلا بِتِلْكَ الْهَجْعَةِ انْتَفَعُوا، فَمَا هُو إِلا أَنْ صَاحَ بِهِمْ الصَّائِحُ فَقَامُوا عَنْ مَوَائِدِ أَطْعِمَتِهِمْ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ مَا شَبِعُوا، فَكَيْفَ حَالُهم عِنْدَ اللِّقَاءِ؟ وَقَدْ عَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا، وَعَمُوا بَعْدَ مَا عَايَنُوا الْحَقَّ وَأَبْصَرُوا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} .
أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا وَأَخْلَبُهم لِسَانًا وَأَلْطَفَهُمْ بَيَانًا وَأَخْبَثَهُمْ قُلُوبًا وَأَضْعَفَهُمْ جَنَانًا، فَهُمْ كَالْخَشَبِ الْمُسَنَّدَةِ الَّتِي لا ثَمَرَ لَهَا، قَدْ قُلِعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا فَتَسَانَدَتْ إِلى حَائِطٍ يُقِيمُهَا لِئلا يَطَأهَا السَّالِكُونَ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} !
يُؤخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا الأَوَّلِ إِلى شَرْقِ الْمَوْتَى، فَالصُّبْحُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْعَصْرُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيَنْقُرونَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، إِذْ هِيَ صَلاةُ الأَبْدَانِ لا صَلاةُ الْقُلُوبِ، وَيَلْتَفِتُونَ فِيهَا الْتِفَاتَةِ الثَّعْلَبِ، إِذْ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مَطْرُودٌ مَطْلُوبٌ، وَلا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةِ، بَلْ إِنْ صَلَّى أَحَدهُم فَفِي الْبَيْتِ أَوْ الدُّكَّانِ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَلْقِ، وَتِلْكَ مُعَامَلَتُهم لِلْخَالِق، فَخُذْ وَصْفَهُم مِنْ أَوَّلِ (الْمُطَفِّفِينَ) وَآخِر (وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ)(6/158)
فَلا يُنَبِّئُكَ عَنْ أَوْصَافِهِمْ مِثْلُ خَبِيرٍ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
فَمَا أَكْثَرَهُمْ! وَهُمْ الأَقَلُّونَ، وَمَا أَجْبَرَهُم! وَهُمْ الأَذَلُّونَ، وَمَا أَجَهَلهُم! وَهُمْ الْمُتَعَالِمُونَ، وَمَا أَغَرَّهُمْ بِاللهِ! إِذْ هُمْ بِعَظَمَتِهِ جَاهِلُونَ {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ، وَمَا هُم مِّنكُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .
إِنْ أَصَابَ أَهْلُ الْكِتَاب والسُّنَّةِ عَافِيَةٌ وَنَصْرٌ وَظُهُورٌ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَغَمَّهُمْ وَإِنْ أَصَابَهُمْ ابْتِلاءٌ مِنْ اللهِ وَامْتِحَانُ يُمَحِّصُ بِهِ ذُنُوبَهُمْ وَيُكَفِّرُ بِهِ عِنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَحَهُمْ بِذَلِكَ وَسَرَّهُمْ وَهَذَا يُحَقِّقُ إِرْثَهُمْ وَإِرْثَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَلا يَسْتَوِي مَنْ مَوْرُوثُه الرَّسُولُ وَمَنْ مَوْرُوثهُم الْمُنَافِقُونَ {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ، وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا، هُوَ مَوْلاَنَا، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّلَفَيْن الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالْحَقُّ لا يَنْدَفِعُ بِمُكَابَرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالتَّخْلِيطِ: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
كَرِهَ اللهُ طَاعَاتِهِم لِخُبْثِ قُلُوبِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا وَأَقْعَدَهُمْ، وَأَبْغَضَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ وَجَوَارَهُ، لِمَيْلِهِمْ إِلى أَعْدَائِهِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْ وَحْيِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَشْقَاهُمْ وَمَا أَسْعَدَهُمْ، وَحَكمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ عَدْلٍ لا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الْفَلاحِ بَعْدِهِ إِلا أَنْ يَكُونُوا مِنْ التَّائِبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} . ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ فِي تَثْبِيطِهم(6/159)
وَإِقْعَادِهِمْ، وَطَرْدِهم عَنْ بَابِهِ وَإِبْعَادِهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَإِسْعَادِهِمْ، فَقَالَ وُهَوُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ النُّصُوصُ فَكَرِهُوهَا، وَأَعْيَاهُمْ حَمْلُهَا فَأَلْقُوهَا عَنْ أَكْتَافِهِمْ وَوَضَعُوهَا، وَتَفَلَتَتْ مِنْهُمْ السُّنَنُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَأَهْمَلُوهَا، وَصَالَتْ عَلَيْهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ فَوَضَعُوا لَهَا قَوَانِينَ رَدُّوهَا بِهَا وَدَفَعُوهَا، وَلَقَدْ هَتَكَ اللهُ أَسْتَارَهُم، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُم، وَضَرَبَ لِعَبَادِهِ أَمْثَالَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا انْقَرَضَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ خَلفَهم أَمْثَالُهُمْ، فَذَكَرَ أَوْصَافِهمْ لأَوْلِيَائِهِ لِيَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرِ، وَبَيْنَهَا لَهُمْ فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم) .
فَصْلٌ: هَذَا شَأْنُ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَرَآهَا حَائِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِدْعَتِهِ وَهَوَاهُ، فَهِيَ فِي وَجْهِهِ. كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَبَاعَهَا بِمُحَصَّل مِنْ الْكَلامِ الْبَاطِلِ، وَاسْتَبْدَلَ مِنْهَا بِالْفُصُوصِ فَأَعْقَبَهم ذَلِكَ أَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ إِعْلانَهُمْ وَإِسْرَارَهُمْ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
أَسَرُّوا سَرَائِرَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوُجُوه مِنْهُمْ وَفَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَوَسَمَهُمْ لأَجْلِهَا بِسِيْمَاءِ لا يَخْفَوْنَ بِهَا عَلَى أَهْلَ الْبَصَائِرَ وَالإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذْ كَتَمُوا كُفْرَهُمْ وَأَظْهَرُوا إِيمَانَهم رَاجُوا عَلَى الصَّيَارِفِ وَالنُّقَادِ،(6/160)
كَيْفَ؟ وَالنَّاقِدُ الْبَصِيرُ قَدْ كَشَفَهَا لَكُمْ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} .
فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلاقِ، وَتَجَلَّى اللهُ - جَلَّ جَلالهُ - لِلْعِبَادِ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقٍ؟ وَدُعُوا إِلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .
أَمْ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا حُشِرُوا إِلى جِسْرِ جَهَنَّمَ؟ وَهُوَ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنْ الْحُسَامِ، وَهُوَ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، مُظْلِمٌ، لا يَقْطَعُه أَحَدٌ إِلا بِنُورٍ يُبْصِرُ بِهِ مَوَاطِئ الأَقْدَامِ، فَقُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ الأَنْوَارُ، وَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِهَا فِي الْمُرُورِ وَالذِّهَابِ، وَأَعْطُوا نُورًا ظَاهِرًا مَعْ أَهْلِ الإِسْلامِ، كَمَا كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارُ يَأْتُونَ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحِجِّ وَالصِّيَامِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْجَسْرَ عَصَفَتْ عَلَى أَنْوَارِهِمْ أَهْوِيَةُ النِّفَاقِ. فَأَطْفَأَتْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَصَابِيح فَوَقَفُوا حَيَارَى لا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُورَ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنُ أَهْلِ الإِيمَانِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلَكِنْ قَدْ حِيلَ بَيْنَ الْقَوْم وَبَيْنَ الْمَفَاتِيحِ، بَاطِنُه - الذِي يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ الرَّحْمَةِ -، وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْعَذَابِ وَالنَّقِمَةُ، يُنَادُونَ مِنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ وَفْدِ الإِيمَانِ، وَمَشَاعِلُ الرَّكْبِ تَلُوحُ عَلَى بُعْدٍ كَالنُّجُومِ تَبْدُو لِنَاظِر الإِنْسَانِ {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} لِنَتَمَكَّنَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ مِنْ الْعُبُورِ، فَقَدْ طَفَشَتْ أَنْوَارُنَا، وَلا جَوَاز الْيَوْمَ إِلا بِمِصْبَاح مِنْ النُّورِ {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} حَيْثُ قُسِّمَتْ الأَنْوَارِ، فَهَيْهَاتَ الْوُقُوفُ لأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِضْمَارِ! كَيْفَ نَلْتَمِسُ الْوُقُوفَ فِي هَذَا الْمُضِيقِ؟ فَهَلْ يَلْوِي الْيَوْمِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؟ وَهَلْ يَلْتَفِتُ الْيَوْمَ رَفِيقٌ إِلى رَفِيقٍ؟ فَذَكَّرُوهُم(6/161)
بِاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُمْ وَصُحْبَتِهِمْ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا يُذَكِّرُ الْغَريبُ صَاحِبَ الْوَطَنِ بِصُحْبَتِهِ فِي الأَسْفَارِ {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} ؟ نَصُومُ كَمَا تَصُومُونَ، وَنُصَلِّي كَمَا تُصَلُّونَ، وَنَقْرَأُ كَمَا تَقْرَءُونَ، وَنَتَصَدَّقُ كَمَا تُصَدِّقُونَ، وَنَحُجُّ كَمَا تَحُجُّونَ؟ فَمَا الذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا الْيَوْمَ حَتَّى انْفَرَدْتُمْ دُونَنَا بِالْمُرُورِ؟ {قَالُوا بَلَى} وَلَكِنَّكُمْ كَانَتْ ظَوَاهِرُكُمْ مَعَنَا وَبَوَاطِنُكم مَعَ كُلِّ مُلْحِدٍ، وَكُلِّ ظَلُومٍ كَفُورٍ {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
لا تَسْتَطِلْ أَوْصَافَ الْقَوْم، فَالْمَتْرُوكُ - وَاللهِ - أَكْثَرُ مِنْ الْمَذْكُورِ كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلَّهُ فِي شَأْنِهِمْ، لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ وَفِي أَجْوَافِ الْقُبُورِ، فَلا خَلَتْ بِقَاعُ الأَرْضِ مِنْهُمْ لِئَلا يَسْتَوْحِشَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الطُّرَقاتِ، وَتَتَعَطَّلَ بِهِمْ أَسْبَابُ الْمَعَايِشِ، وَتَخَطَّفُهمْ الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ فِي الْفَلَوَاتِ، سَمَعَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: (يَا ابن أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقِونُ لاسْتَوْحَشْتُم فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ) .
تَاللهِ لَقَدْ قَطَعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ لَعِلْمِهم بِدِقِّهِ وَجُلِّه، وَتَفَاصِيلِهِ وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُم بِنُفُوسِهِمْ، حَتَّى خَشُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يَا حُذَيْفَةِ، نَشَدْتُكَ بِاللهِ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لا، وَلا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ، وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ (مَا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا خَافَهُ إِلا(6/162)
مُؤْمِنٌ) وَلَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قِيلَ: وَمَا خُشُوعِ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ) .
تَاللهِ لَقَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَخَوْفُهُمْ مِنْ النِّفَاقِ شَدِيدٌ وَهَمُّهُمْ لِذَلِكَ ثَقِيلٌ، وَسِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلِ.
زَرْعُ النِّفَاقِ يَنْبُت عَلَى سَاقِيَتَيْنِ: سَاقِيَةُ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةُ الرِّيَاءِ وَمَخْرَجُهمَا مِنْ عَيْنَيْن: عَيْن ضَعْف الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنَ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الأَرْكَانُ الأَرْبَعُ، اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقُ وَبُنْيَانُه، وَلَكِنَّه بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَإِذَا شَاهَدُوا سَيْلَ الْحَقَائِق يَوْم تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ المَسْتُورُ وُبُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقُ، أَنَّ حَوَاصِلُه الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
قُلُوبُهُمْ عَنْ الْخَيْرَاتِ لاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فَجَاجِهِمْ فَاشِيَةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقِّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةٌ. وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهدُوا الزُّورَ، انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً.
فَهَذِهِ - وَاللهِ - أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيَّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ، إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِنْ وَعَدُوا أَخْلَفُوا وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ(6/163)
صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتَهُمْ أَهْوَاؤُهم إِلى أَغْرَاضِهم أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْهَوَانِ، وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلا تَثِقُ بعُهُودِهِمْ، وَلا تَطْمَئِنَّ إِلى وُعُودِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} .
اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِإِصْلاحِ عُيُوبِنَا وَسَتْرِ زَلاتِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُهْتَدِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
غزوة الأحزاب
وكانت قريش تستعد لهجوم جديد على المدينة لما كان النبي ? مُهْتمًّا في إخماد ثَوراتِ القبائل، قبل أن يَتَطورَ أمرُها فيصبح حربًا عوانًا عليه، وتحالف يهود خيبر مع قريش، وقد نجحوا في إثارة القبائل العربية القاطنة بضواحي مكة، فانضمت إلى المناهضين للإسلام.
وبذلك اتفق اليهود وقريش وسائر قبائل العرب على توجيه الضربة للإسلام، فجمعوا جيشًا عدته عشرة آلاف مقاتل، وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة. ونكثت القبائل اليهودية القاطنة في داخل المدينة عهدها في اللحظة الأخيرة وانضمت إلى أعداء الإسلام، فأصبح مركز المسلمين حرجًا وبات أملهم في النجاة ضعيف.
ثم تَرَامتِ الأنباءُ إلى النبي ? بخبر هذا الجمع الحاشد الذي لم يسبق له مثيل فدعا أصحابه واستشارهم فيما ينبغي عمله. لقد كانت المدينة محصنة(6/164)
من جهة تحصينًا طبيعيًا بالصخور، وكانت تحميها أسوار المنازل الحجرية من جهة أخرى، وهذه الأسوار ممتدة فكانت حصنًا متينًا بطبيعتها، فلم يبق إلا جهة واحدة مفتوحة لهجوم العدو، فاقترح سلمان الفارسي، حفر خندق عميق في هذه الجهة، فشرع في حفر الخندق فورًا وقسم المؤمنون إلى فرق، تتكون كل فرقة من عشرة، وعمل النبي ? معهم فكان يضرب الأرض ويحمل التراب ويقول:
((اللَّهُمَّ إن العيش عيش الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة)) .
فيردد المسلمون خلفه:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
شخصية كبيرة سيطرت على شعب عظيم روحيًا وسياسيًا ثم تقوم بما يقوم به الرجل العادي في ساعات الحرج، عندما يتعرض الوطن للخطر، إنه عمل فريد في التاريخ، وإنها لناحية ممتازة في شخصية النبي ?، إنه ليبهر البصر بأعماله، فما قام بعمل إلا أداه بطريقة مُشَرِّفة، وتواضعٍ كريم نبيل، كان أقرب الزعماء قربًا من الرجل العادي، وكان أرفعهم مكانة، وأعزهم نفرًا.
بينما كانوا يحفرون الخندق صادفوا كُدْيَةً شديدة استعصت عليهم فجاءوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، واستأذنوه في تغيير مجرى الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ، وتناول معوله، وأخذ يضربها حتى صارت رملاً لا يتماسك وكان كلما ضربها ضربة تطايرت شرارة فيصوت النبي ?: ((الله أكبر)) .
وقال: إنه رأى في الشرارة الأولى أنه أعطى مفاتيح سورية، وأنه رأى في الشرارة الثانية أنه أعطى مفاتيح فارس، وفي الشرارة الثالثة، أنه أعطى مقاليد(6/165)
اليمن، وشرح لهم كيف شاهد قصور القياصرة، وقصر كسرى وصنعاء، وبشرهم بأنهم سيسيطرون على هذه الممالك جميعها.
فَيَا لَهَا مِن ظَاهِرَةٍ عجيبة! يرى النبي ? من خلال السحب القائمة وجيوش الأعداء تحيط به من كل جانب، عازمة على إبادتهم، مستقبلاً سعيدًا عزيزًا للإسلام! أليس هذا بعجيب، فوق ما يتصور البشر، ومن غير الله علام الغيوب، يستطيع أن يكشف للنبي ? عن المستقبل، وما يدخره لهم من عزة وسلطان، في مثل هذه اللحظة العسيرة، التي يهدد الأعداء فيها الإسلام بالانقراض والدمار؟!
كانت ساعة رهيبة، تلك الساعة التي إنقضت فيها جموع الأحزاب على المدينة، ارتجت المدينة، وقد وصف في القرآن ما انتاب أهلها من قلق وفزع: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .
وعلى الرغم من مَنَاظِر الْفَزَعِ والْهَلَع، فإن المسلمين كانوا مطمئنين إلى تحقيق ما وعدهم الله ورسوله، وقد وصف القرآن شعورهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
وفطن المسلمون إلى أن هذه المحاولة هي محاولة يائسة لعدو متهالك، على الرغم من البلايا التي حاقت بهم، ونزلت بساحتهم، وأحسوا أن هذه هي المحاولة الأخيرة، وستختضد شوكة الأعداء بها إلى الأبد، وأنها بداية عهد عز الإسلام، ونشره وانتصاره.
احتاط المسلمون للأمر، فقد كانوا يخشون خيانة اليهود أو هجوم العدو(6/166)
المفاجئ، فوضعوا نساءهم وأطفالهم في مكان أمين، واستمر الحصار شهرًا ذاق المسلمون خلاله ألوان العذاب والحرمان.
وقد شاركهم النبي ? في مصيرهم، فجاعت بطونهم، وكادوا يهلكون، وعصبوا بطونهم بالحجارة، ولكن روحهم المعنوية لم تهن ولم تتزعزع. ولو أن غطفان أخذت ثلث الثمار لما انضمت إلى الأعداء، ولنقصت قوات الأعداء كثيرًا.
ولكن الأنصار رفضوا على الرغم من جوعهم الشديد الذي بلغ حد الهلاك، فقد أبوا أن يقبلوا عملاً يعتبرونه ماسًا لكرامتهم، فكيف يدفعون خراجًا لغطفان بعد أن شرفهم الله بالإسلام، وما كانوا يدفعون له شيئًا أيام الجاهلية، فليكن ما يكون، وليذودوا عن أنفسهم حتى آخر رجل، وإنهم لصابرون حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
كان اليهود والمنافقون ينتظرون هجوم الأعداء من الخارج، ليثيروا الشغب في الداخل، وابتدأت منازعات فردية داخلية، انتصر فيها المسلمون، وَقَتَلَ عَلِيّ بن أبي طالب عمرو بن عبد ود، الذي كان يزعم أنه كفء لمنازلة ألف رجل والانتصار عليهم، وهجمت قريش بكل قواها ولكنها لم تستطع اجتياز الخندق.
ونزل على المسلمين وابل من السهام والحجارة، ولولا ثباتهم الرائع الذي أمدهم الله به، وإيمانهم العميق الذي ثبته الله، لتمكنت قريش منهم. وأخيرًا جاء الفرج من السماء، وجوزوا على ثباتهم خير جزاء، فبعد أن أخفق جيش الأعداء العظيم في اقتحام الخندق، وبعد أن قلت المئونة، وسئموا الحصار، أرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، قلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، فوقع الاضطراب في صفوفهم.(6/167)
وقد أشار القرآن إلى هذا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} ونجحت ريح الله بإذن الله فيما عجزت عنه أسلحة المسلمين، فلما رأت الأحزاب أن الطبيعة نفسها التي خلقها الله ودبرها وأجراها قد تألبت عليهم، تطيروا، فدب القنوط في قلوبهم، وملئوا رعبًا. فقفلوا راجعين عن المدينة في نفس الليلة، فلما لاح الصباح، كان سرور المسلمين عظيمًا، فقد رحل الأعداء جميعًا، وما بقي منهم أحد، فهل يتسرب إلى أحد أدنى شك في هذا النصر من عند الله، وأن يد الله العليا هي التي حالت دون أن يتمكن هذا الجيش المتفوق تفوقًا ظاهرًا، من أن ينال من تلك الفئة القليلة ويسحقها، لقد تآمر المنافقون واليهود على الإسلام، وانضموا إلى أعدائه، ولكن الله نصره، وهكذا انتهت أقوى حملة وجهت إلى الإسلام بالخيبة والفشل والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
لشيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله
سَعِدَ الذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى
وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ
فَهُم الذِين قَدْ أَخْلَصُوا فِي مَشِيهِمْ
مُتَشَرِّعِينَ بِشَرْعَةِ الإِيمَانِ
وَهُمْ الذِينَ بَنُوا مَنَازِلَ سَيْرِهِمْ
بَيْنَ الرَّجَا وَالْخَوْفِ لِلدِّيَانِ
وَهُمْ الذِينَ مَلا الإِلَهُ قُلُوبَهُمْ
بِوِدَادِهِ وَمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ(6/168)
وَهُمْ الذِينَ قَدْ أَكْثَرُوا مِنْ ذِكْرِهِ
فِي السِّرِّ وَالإِعْلانِ وَالأَحْيَانِ
يَتَقَرَّبُونَ إِلى الْمَلِيكِ بِفِعْلِهِمْ
طَاعَاتِهِ وَالتَّرْكِ لِلْعِصْيَانِ
فَعْلُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ دَأْبُهُمْ
مَعْ رُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ وَالنُّقْصَانِ
صَبَّرُوا النُّفُوسَ عَلَى الْمَكَارِهِ كُلِّهَا
شَوْقًا إِلى مَا فِيهِ مِنْ إِحْسَانِ
نَزَلُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّضَى فَهُمُوا بِهَا
قَدْ أَصْبَحُوا فِي جُنَّةِِ وَأَمَانِ
شَكَرُوا الذِي أَوْلَى الْخَلائِقَ فَضْلَهُ
بِالْقَلْب وَالأَقْوَالِ وَالأَرْكَانِ
صَحِبُوا التَّوَكُّلَ فِي جَمِيعِ أَمُورِهِمْ
مَعْ بَذْلِ جُهْدٍ فِي رِضَى الرَّحْمَانِ
عَبَدُوا الإِلهَ عَلَى اعْتِقَادِ حُضُورِهِ
فَتَبَوَّءوُا فِي مَنْزِلِ الإِحْسَانِ
نَصَحُوا الْخَلِيقَةَ فِي رِضَى مَحْبُوبِهِمْ
بِالْعِلْمِ وَالإِرْشَادِ وَالإِحْسَانِ
صَحِبُوا الْخَلائِقَ بِالْجُسُومِ وَإِنَّمَا
أَرْوَاحُهُمْ فِي مَنْزِلٍ فَوْقَانِي(6/169)
عَزَفُوا الْقُلُوبَ عَنِ الشَّوَاغِلِ كُلِّهَا
قَدْ فَرَّغُوهَا مِنْ سِوَى الرَّحْمَانِ
حَرَكَاتُهُمْ وَهُمُومُهُمْ وَعُزُومُهُمْ
للهِ لا لِلْخَلْقِ وَالشَّيْطَانِ
نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبِ السُّبُلِ الَّتِي
تَقْضِي إِلى الْخَيْرَاتِ وَالإِحْسَانِ
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
قَوْلُهُ تَعَالى فِي الْمُصْطَفينَ الذِينَ أَوْرَثُهم اللهُ الْكِتَابَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} اشْتَرَكَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ فِي أَصْلِ الإِيمَانِ وَفِي اخْتِيَارِ اللهِ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْخَلِيقَةِ وَفِي أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَافْتَرَقُوا فِي تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الإِيمَانِ وَفِي مِقْدَارِ الاصْطِفَاءِ مِن اللهِ وَمِيرَاثِ الْكِتَابِ وَفِي مَنَازِل الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِهَا بِحَسَبِ أَوْصَافِهِمْ.
أَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَهُو الْمُؤْمِنُ الذِي خَلَطَ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَتَرَكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الإِيمَانِ مَا لا يَزُولُ مَعَهُ الإِيمَانُ بِالْكُلِّيَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ إِلى قِسْمَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَنْ يَرِدُ الْقِيَامَةَ وَقَدْ كُفِّرَ عَنْهُ السِّيئَاتِ كُلُّهَا إِمَّا بِدُعَاءٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ آثَارٍ خَيْرِيَّةٍ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ عَذَابٍ فِي الْبَرْزَخِ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ الْعِقَابُ، وَعَمِلَ الثَّوابُ عَمَلَهُ. فَهَذَا مِنْ أَعْلَى هَذَا الْقِسْمَ وَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ.(6/170)
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ سَيِّئَاتٌ فَهَذَا تُوزَنُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ ثُمَّ هُمْ بَعْدَ هَذَا ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَنْ تَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. فَهَذَا لا يَدْخُلُ النَّارَ بَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَبِحَسَنَاتِهِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ الله.
ثَانِيهِمَا: مَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّاَتُهُمْ فَهَؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ وَهِيَ مَوْضِعٌ مُرْتَفَعٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن.
ثَالِثُهَا: مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهَذَا قَدِ اسْتَحَقَّ دُخُولُ النَّارِ إلا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ شَفَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَوْ شَفَاعَةِ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِه أَوْ مَعَارِفِهِ مِمَّنْ جَعَلَ اللهُ لَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ شَفَاعَةً لِعُلُوِّ مَقَامَاتِهِمْ عِنْدَ اللهِ وَكَرَامَتِِهم عَلَيْهِ، أَوْ تُدْرِكُهُ رَحْمَةُ اللهِ الْمَحْضَةِ بِلا وَاسِطَةٍ وَإِلا فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ يُعَذَّبُ فِيهَا بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ.
ثُمَّ مَآلُهُ إِلى الْجَنَّةِ وَلا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدِلٍ مِنْ إِيمَانٍ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأَمَّةِ وَأَئمَّتُهَا.
وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَهُوَ الذِي أَدَّى الْوَاجِبَاتَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَاتَ وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ بَعْضُ الْهَفَوَاتِ بَادَرَ إِلى التَّوْبَةِ فَعَادَ إِلى مَرْتَبَتِهِ فَهَؤُلاءِ أَهْلُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فَهَؤُلاءِ سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ البَرْزَخِ وَعَذَابِ النَّارِ وَسَلَّمَ اللهُ لَهُمْ إِيمَانِهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ بِهَا الْجَنَّةِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَرْتَبَتِهِ.
وَأَمَّا السَّابِقُ إِلى الْخَيْرَاتِ فَهُوَ الذِي كَمَّلَ مَرَاتِبَ الإِسْلامِ وَقَامَ بِمَرْتَبَةِ(6/171)
الإِحْسَانِ فَعَبَدَ الله كَأَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاُه فَإِنَّهُ يَرَاهُ، وَبَذَلَ مَا اسْتَطَاعَ مِن النَّفْعِ لِعِِبَادِ اللهِ فَكَانَ قَلْبُهُ مَلآنًا مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالنُّصْحِ لِعِبَادِ اللهِ فَأَدَّى الْوَاجِبَات وَالْمُسْتَحَبَّاتَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولَ الْمُبَاحَاتِ الْمُنَقِّصَةِ لِدَرَجَتِهِ فَهُؤُلاءِ هَمْ صَفْوةُ الصَّفْوَةِ، وَهُمْ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلى اللهِ وَهُمْ أَهْلُ الْفَرْدَوْسِ الأَعْلَى فَإِن اللهَ كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ حَكِيمُ يُنَزِّلُ الأُمُورَ مَنَازِلَهَا وَيُعْطِي كُلُّ أَحَدٍ بَحَسَبِ حَالِهِ وَمَقَامِهِ فَكَمَا كَانُوا هُمُ السَّابِقِينَ فِي الدُّنْيَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ كَانُوا فِي الآخِرَةِ فِي أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَكَمَا تَخَيَّرُوا مِنْ الأَعْمَالِ أَحْسنَهَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ مِن الثَّوَابِ أَحْسَنَهُ وَلِهَذَا كَانَتْ عَيْنُ التَّسْنِيمِ أَعْلَى أَشْرِبَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي لا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَهَكَذَا بَقِيَّةِ أَلْوَانِ وَأَصْنَافِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ لِهَؤُلاءِ السَّابِقِينَ مِنْهُ أَعْلاهُ وَأَكْمَلُهُ وَأَنْفَسُهُ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ دَنِي وَلا نَقْصٌ وَلا كَدَرٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ كَانَ مَنْ تَنَعَّمَ بِأَي نَعِيمٍ مِنْ نَعِيمِهَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ.
فَإِنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ وَأَرْضَاهُمْ وَخِيَارَ هُؤَلاءِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَرَاتِبهم ثُمَّ الصِّدِيقُونَ عَلَى مَرَاتِبِهم وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتْ بَيْنَ عِبَادِهِ هَذَا التَّفَاوُتَ الْعَظِيم وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. انْتَهَى.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِتَذْكِيرِكَ مُنْتَفِعِينَ وَلِكِتَابِكَ وَرسولك متبعين وعلى طاعَتِكَ مُجْتَمِعِينَ وَتَوَفَّنَا يَا رَبَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِكَ وَأَطْمَعَهُمْ دَوَامُ إِفْضَالِكَ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلى كَرَمِ نَوَالِكَ وَتَيَقَّنُوا أَنَّ لا غِنَى لَهُمْ عَنْ سُؤَالِكَ، وَجُدْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/172)
قصة عمير بن سعد الأنصاري
وَمِمَّا يَحْسُنُ سِيَاقُه وَيَحْلُو ذِكْرُه قِصَّةُ عُمَيْرٍ بن سَعْدٍ الأَنْصَارِيّ، كَانَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ يَتِيمًا مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مَالاً وَلا مُعِيلاً لَكِنَّ أُمَّهُ لَمْ تَلْبَثْ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِالْجُلاسِ بن سُوَيْدٍ فَكَفَلَ ابْنَهَا عُمَيْرًا وَضَمَّهُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ لَقِيَ عُمَيْرٌ مِنْ بِرِّ الْجُلاسِ وَرِعَايَتِه وَجَمِيل عَطْفَهِ بِهِ مَا جَعَلَهُ يَنْسَى أَنَّهُ يَتَيمٌ فَأَحَبَّ عُمَيْرٌ الْجُلاسَ حُبَّ الابْنِ لأَبِيهِ وَكَذَلِكَ الْجُلاسُ وَلِعَ بِعُمَيْرٍ وَأَحَبَّهُ حُبَّ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ.
وَكَانَ كُلَّمَا شَبَّ عُمَيْرٌ ازْدَادَ الْجُلاسُ لَهُ حَبًّا وَازْدَادَ بِهِ إِعْجَابًا لِمَا يَتَخَيَّلُ فِيهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْفِطْنَةِ وَالنَّجَابَةِ الَّتِي تَبْدُو فِي كُلِّ عَملٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَبْدُو فِي شَمَائِلهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.
وَقَدْ أَسْلَمُ عُمَيْرُ بِنُ سَعْدٍ وَهُوَ صَغِيرٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْعَاشِرَةَ مِنْ عُمْرِهِ إِلا قَلِيلاً فَوَجَدَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ الْغَضِّ مَكَانًا خَالِيًا فَتَمَكنَ مِنْهُ وَأَلْفَى الإِسْلامُ فِي نَفْسِ عُمَيْرٍ الصَّافِيَةِ تُرْبَةً خَصْبَة فَتَغَلْغَلَ فِيهَا.
فَكَانَ عَلَى صِغَر سِنِّهِ لا يَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ أُمُّهُ تُسَرُّ وَتَغْمُرُهَا الْفَرْحَةُ إِذَا رَأَتْهُ ذَاهِبًا إِلى الْمَسْجِد أَوْ رَاجِعًا مِنْهُ.
وَسَارَتْ حَيَاتُه عَلَى هَذَا النَّحْوِ هَانِئَةً هَادِئَةً وَادِعَةً لا يُعَكِّرُ صَفْوهَا مُعَكِّرٌ إِلى أَنْ قَدَرَ اللهُ عَلَى عُمَيْرٍ مِحْنَة مِنْ أَشَدِّ الْمِحَنِ قَلَّماَ مَرَّتْ عَلَى فَتَىً مِثْلِهِ فِي السِّنِّ.(6/173)
فَفِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ لِمَا رَأَى بَذْلَ الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ عِنْدَمَا حَثَّهُمْ صَلَواتُ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلامُه عَلَى الْجِهَادِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ وَرَغِبَ أَهْلُ الثَّرْوَةِ بِالْخَيْرِ وَحَثَّ الْمُوسِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمُعْسِرِينَ، وَأَبْصَرَ أَبَا بَكْرٍ يَجِيءُ بِمَا عِنْدَهُ، وَعُمَرَ يَأْتِي بِنِصْفِ مَالِهِ، وَعُثْمَانَ يَأْتِي بِجِرَابٍ فِيهِ أَلْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا وَيُقَدِّمُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ يَحْمِلُ عَلَى عَاتِقِهِ مَائَتَي أَوْقِيَّةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَيُلْقِيهَا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يَنْزِعْنَ حُلِيِّهِنَّ وَيُلْقِينَهُ بَيْنَ يَدِيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِهِ الْجَيْشَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ رَأَى رَجُلاً يَعْرِضُ فِرَاشَه لِلْبَيْعِ لِيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ سَيْفًا يُجَاهِدُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فَتَعَجَّبَ عُمَيْرٌ مِنْ تَأَخُّر الْجُلاسِ وَتَبَاطِئِهِ عَنْ الاسْتِعْدَادِ لِلرَّحِيلِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَخُّرِهِ عَنْ الْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الرَّغْمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ.
وَأَرَادَ عُمَيْرٌ أَنْ يَسْتَثِيرَ هِمَّةَ الْجُلاسِ وَيَبْعَثَ الْحَمِيَّةَ وَالْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ فَشَرَعَ يَقُصُّ عَلَى الْجُلاسِ أَخْبَارَ مَا رَأَى وَمَا سَمِعَ وَخَاصَّةً الْبَكَّائِينَ الذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْملِهُم وَاعْتَذَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لا يَجِدُ مَا يَحْملِهُم فَتَوَلَّوْا وَأَعْينُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزْنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُبَلِّغُهُم أُمْنِيَّتَهُمْ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
لَكِنَّ الْجُلاسَ مَا كَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ عُمَيْرٍ مَا سَمِعَ حَتَّى تَكَلَّمَ(6/174)
بِكَلِمَةٍ أَطَارَتْ عَقْلَ الْفَتَى عُمَيْرِ مِنْ كِبَرِهَا إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِهِ: (إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحَمِيرِ) لَقَدْ انْدَهَشَ عُمَيْرٌ مِمَّا سَمِعَ فَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ رَجُلاً عَاقِلاً كَبِيرَ السِّنِّ يَنْطِقُ بِمِثْل هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي تُخْرِجُ قَائِلَهَا عَنْ الإِيمَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَتُدْخِلُهُ فِي الْكُفْرِ.
ذَهَبَ عُمَيْرُ بنُ سَعَدٍ يُفَكّرُ فِي تِجَاهِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْفَظِيعَةِ الْمُوبقَةِ فَرَأى أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْجُلاسِ وَالسَّتْرَ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ وَإِضْرَارًا بِالإِسْلامِ الذِي يَكِيدُ لَهُ الْمُنَافِقُونَ.
وَرَأَى أَنَّ فِي إِخْبَارِهِ فِيمَا سَمِعَ مِنْ الْجُلاسِ عُقُوقًا بِالرَّجُلِ الذِي يُنْزِلُه مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَالْجُلاسُ هُوَ الذِي كَفَلَهُ يَتِيمًا وَرَبَّاهُ وَعَوَّضَهُ عَنْ فَقْدِ أَبِيهِ.
فَاخْتَارَ النَّصِيحَةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَالْتَفَتَ إِلى الْجُلاسِ: وَقَالَ وَاللهِ يَا جُلاسُ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ، فَأَنْتَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَجَلُّهُمْ إِلَيَّ يَدَا وَأَعْظَمُهم نِعْمَة عَلَيَّ.
وَلَقَدْ قُلْتَ مَقَالَةً إِنْ ذَكَرْتُهَا فَضَحْتُكَ، وَإِنْ أَخْفَيْتُهَا خُنْتَ أَمَانَتِي وَأَهْلَكْتُ نَفْسِي وَدِينِي وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَمْضِي إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْبِرَه بِمَا قُلْتَ فَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِكَ. ثُمَّ مَضَى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ إِلى الْمَسْجِدِ وَأَخْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَمِعَ مِنْ الْجُلاسِ بنِ سُوَيْدٍ فَأَقْعَدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ وَأَرْسَلَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ إِلى الْجُلاسِ يَدْعُوه أَنْ يَأْتِي.(6/175)
وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى جَاءَ الْجُلاسُ فَحَيَّا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مَقَالَةُ سَمِعَهَا مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ)) وَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ فَقَالَ: كَذِبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ وَافْتَرَى فَمَا تَفَوَّهْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَجَعَلَ الصَّحَابَةُ يُدِيرُونَ أَبْصَارَهُم فِي الْجُلاسِ وَعُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَقْرَءُوا عَلَى صَحِيفَتَيْ وَجْهَيْهِمَا مَا يُكُنِّهُ صَدْرَاهُمَا وَجَعَلُوا يَتَهَامَسُونَ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: فَتَىً عَاقٌّ أَبَى إِلا أَنْ يُسِيءَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّهُ غُلامٌ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَإِنَّ مَلامِحَ وَجْهِهِ لَتَنْطِقُ بِصِدْقِهِ، وَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قَدْ احْتَقَنَ بِالدَّمِ وَالدُّمُوعُ تَنْحَدِرُ مِدْرَارًا مِنْ عَيْنَيْهِ فَتَتَسَاقَطُ عَلَى خَدَّيْهِ وَصَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيِّكَ بَيَانَ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ يُكِرِّرُهَا فَانْبَرَى الْجُلاسُ وَقَالَ: إِنَّ مَا ذَكَرْتُه لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَإِنْ شِئْتَ تَحَالَفْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ أَنِّي مَا قُلْتَ شَيْئًا مِمَّا نَقَلَهُ لَكَ عُمَيْرٌ فَمَا أَنِ انْتَهَى مِنْ حَلِفِه وَأَخَذَتْ عُيُونَ النَّاسِ تَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلى عُمَيرِ بن سَعْدٍ حَتَّى غَشِيَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّكِينَةُ.
فَعَرَفَ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ الْوَحْي فَلَزِمُوا أَمَاكِنَهُمْ وَسَكَنَتْ جَوَارِحُهم وَلاذُوا بِالصَّمْتِ وَتَعَلَّقَتْ أَبْصَارُهمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَا ظَهَرَ الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ عَلَى الْجُلاسِ وَبَدَا التَّلَهُّفُ وَالتَّشَوُّقُ عَلَى عُمَيْرٍ ثُمَّ سُرَّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلا قَوْلَ اللهِ تَعَالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}(6/176)
إِلى قَوْلِهِ: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} .
فَارْتَعَدَ الْجُلاسُ مِنْ هَوْلِ مَا سَمِعَ وَكَادَ يَنْعَقِدُ لِسَانَهُ مِنْ الْجَزَعِ وَالرَّوْعَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: بَلْ أَتُوبُ يَا رَسُولَ اللهِ بَلْ أَتُوبُ، صَدَقَ عُمَيْرٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَكُنْتُ مِنْ الْكَاذِبِينَ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتِي جُعِلْتَ فِدَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَهُنَا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ فَمَدَّ يَدَهُ الشَّرِيفَةُ إِلى أُذُنِهِ وَأَمْسَكَهَا بِرِفْقٍ وَقَالَ: ((وَفَّتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ مَا سَمِعَتْ، وَصَدَّقَكَ رَبُّكَ)) .
لَيْسَ السَّفِيهُ مَنْ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ ... هَمِ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلاَ
فَأَصَابَ تَوْفِيقًا وَحُسْنَ رِعَايَةٍ ... مِنْ رَبِّهِ يَا حُسْنَ هَذَا بَدِيلاَ
إِنَّ السَّفِيهَ هُوَ الذِي أَوْقَاتُهُ ... عِنْدَ الْمَلاهِي قُتِّلَتْ تَقْتِيلاَ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ
قِصَّةً لِعُمَيْر: كَانَ أَهْلُ حَمْصٍ شَدِيدِي التَّذَمُّرِ مِنْ وُلاتِهمْ كَثِيرِي الشَّكْوَى مِنْهُمْ، فَمَا جَاءَ مِنْ وَالٍ إِلا ذَكَرُوا لَهُ عُيوبًا وَأَحْصُوا لَهُ ذُنُوبًا وَرَفَعُوا أَمْرَهُ إِلى خَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا مِنْهُ بَدَلَهُ خَيْرًا مِنْهُ.
فَعَزَمَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِوَالٍ لا يَجِدُونَ فِيهِ مطْعَنًا وَلا يَرَوْنَ فِي سِيرَتِهِ مَغْمَزًا فَاخْتَارَ عُمَيْرَ بنَ سَعْدٍ وَعَهِدَ إِلَيْهِ بِوِلايَةِ حِمْصٍ وَأَمْرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فَقَبِلَ الأَمْرَ عَلَى إِغْمَاضٍ مِنْهُ لأَنَّهُ كَانَ لا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.(6/177)
وَلَمَّا بَلَغَ عُمَيْرٌ حِمْصًا جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ وَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الإِسْلامَ حِصْنٌ مَنِيعٌ وَبَابٌ وَثِيقٌ وَحِصْنُ الإِسْلامِ الْعَدْلُ، وَبَابُه الْحَقُّ فَإِذَا دُكَّ الْحِصْنُ وَحُطِّمَ الْبَابُ اسْتُبِيحَ حِمَى الدِّينِ.
وَإِنَّ الإِسْلامَ مَا يَزَالُ مَنِيعًا مَا اشْتَدَّ السُّلْطَانُ وَلَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلْطَانِ ضَرْبًا بِالسَّوْطِ وَلا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، وَلَكِنْ قَضَاءٌ بِالْعَدْلِ وَأَخْذًا بِالْحَقِّ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلى عَمَلِهِ لِيُنَفذَ مَا اخْتَطَّهُ لَهُمْ.
قَضَى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ حَوْلاً كَامِلاً فِي حِمْصَ لَمْ يَكْتُبْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ كِتَابًا وَلَمْ يَبْعَثْ إِلى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفِيءِ وَلا دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا.
فَقَالَ عُمَرُ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ لِعُمَيْرٍ وَقُلْ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَقْبِلْ وَاتْرُكْ حِمْصَ وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ وَاحْمِلْ مَعَكَ مَا جَبَيْتَ مِنْ فِيءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ عُمَر إِلى عُمَيْر أَخَذَ جِرَابَ زَادِهِ وَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَحَمَلَ قَصْعَتَهُ وَوِعَاءَ وُضُوئِهِ وَانْطَلَقَ يَمْشِي إِلى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةِ وَإِذَا لَوْنُهُ مُتَغَيرٌ وبَدَنُهُ مُتَضَعْضِعٌ قَدْ هَزُلَ جِسْمُه وَطَالَ شَعْرُهُ وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ وَعْثَاءُ السَّفَرِ وَكَآبَةُ الْمَنْظَر.
وَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَهَشَ وَتَأَلَّمَ مِنْ حَالَتِهِ وَقَالَ: مَا بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: مَا بِي شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا صَحِيحٌ بِحَمْدِ اللهِ أَحْمِلُ مَعِي الدُّنْيَا كُلَّهَا وَأَجُرُّهَا.(6/178)
فَقَالَ: وَمَا مَعَكَ مِنْ الدُّنْيَا؟ (وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ مَعَهُ مَالاً يَحْمِلُه لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ) فَقَالَ: مَعِي جِرَابِي وَقَدْ وَضَعْتُ فِيهِ زَادِي وَمَعِي قَصْعَتِي آكُلُ فِيهَا وَأَغْسِلُ عَلَيْهَا ثِيَابِي وَمَعِي قِرْبَةٌ لِوُضُوئِي وَشَرَابِي.
ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعٌ لِهَذَا الْمَتَاع لا حَاجَةَ لِي فِيهَا غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ أَتَيْتَ مَاشِيًا؟ قَالَ: نَعَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: أَمَا أُعْطَيْتَ مِنْ الإِمَارَةِ دَابَّةً تَرْكَبَهَا؟ فَقَالَ: هُمْ لَمْ يَعْطُونِي وَأَنَا لَمْ أَطْلُبْ مِنْهُمْ.
فَقَالَ: وَأَيْنَ مَا أَتَيْتَ بِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ فَقَالَ: لَمْ آتِ بِشَيْءٍ. فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ.
فَقَالَ: لِمَّا وَصَلْتُ إِلى حَمْص جَمَعْتُ صُلَحَاءَ أَهْلِهَا وَوَلَّيْتُهُم جَمِيعَ فَيئِهم وَكَانُوا كُلَّمَا جَمَعُوا شَيْئًا اسْتَشَرْتُهُمْ فِي أَمْرِهِ وَوَضَعْتُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَنْفَقْتُه عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْهُمْ.
فَقَالَ عُمَرُ لِكَاتِبِهِ: جَدِّدْ عَهْدًا لِعُمَيْرٍ عَلَى وَلايَةِ حِمْص. فَقَالَ عُمَيْرَ: هَيْهَاتَ فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لا أُرِيدُهْ وَلَنْ أَعْمَلَ لَكَ وَلا لأَحَدٍ بَعْدَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ بِالذِّهَابِ إِلى قَرْيَةٍ فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ يُقِيمُ بِهَا أَهْلُهُ فَأَذِنَ لَهُ، لَمْ يَمْضِ عَلَى عُمَيْرٍ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً بَعْدَ ذِهَابِهِ لِلْقَرْيَةِ حَتَّى أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَخْتَبِرَهُ فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ ثِقَاتِهِ يُقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: انْطَلِقْ إِلى عُمَيْرٍ بن سَعْدٍ وَأَنْزِلْ عِنْدَهُ كَأَنَّكَ ضَيْفٌ فَإِنْ رَأَيْتَ عَلَيِهِ آثَارَ نِعْمَةٍ فَعُدَ كَمَا أَتَيْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَ حَالاً شَدِيدَةً فَأَعْطِهِ هَذِه ِالدَّنَانِيرِ وَنَاوَلَهُ صُرَّةً فِيهَا مَائِةُ دِينَارٍ.(6/179)
انْطَلَقَ الْحَارِثُ حَتَّى بَلَغَ الْقَرْيَةَ الَّتِي فِيهَا عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَّدَ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ قَدِمَ فَقَالَ الْحَارِثُ: مِنْ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: بِخَيْرٍ.
فَقَالَ: كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: صَحِيحٌ صَالِحٌ. فَقَالَ: أَلَيْسَ يُقِيمُ الْحُدُودَ؟ قَالَ: بَلَى فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْ عُمَرَ فَإِنِّي لا أَعْلَمُهُ إِلا شَدِيدَ الْحُبِّ لَكَ.
أَقَامَ الْحَارِثُ فِي ضِيَافَةِ عُمَيْرٍ ثَلاثَ لَيَالٍ فَكَانَ يُخْرِجُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةِ قُرْصًا مِنْ الشَّعِيرِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِلْحَارِثُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمَِ: لَقَدْ أَجْهَدْتَ عُمَيْرًا وَأَهْلَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا هَذَا الْقُرْصُ مِنْ الشَّعِيرِ الذِي يُؤْثِرُونَكَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ أَضَرَّ بِهِمْ الْجُوعُ وَالْجُهْدُ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرْحَلَ عَنْهُمْ فَافْعَلْ.
عِنْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الْحَارِثُ الدَّنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إِلى عُمَيْر فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ: بَعَثَ بِهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ فَقَالَ: رُدَّهَا إِلَيْهِ وَقُلْ لا حَاجَةَ لِعُمَيْرٍ بِهَا. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: خُذْهَا يَا عُمَيْرُ فَإِنْ احْتَجْتَ إِلَيْهَا أَنْفَقْتَهَا وَإِلا وَضَعْتَهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَالْمُحْتَاجُونَ هُنَا كَثِيرٌ فَلَمَّا سَمِعَ الْحَارِثُ قَوْلَهَا أَلْقَى الدَّنَانِيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْرٍ. وَانْصَرَفَ.
فَأَخَذَهَا عُمَيْرُ وَجَعَلَهَا فِي صُرَرٍ صَغِيرَةٍ وَلَمْ يَبِتْ تَلْكَ اللَّيْلَةِ إِلا وَقَدْ فَرَّقَهَا عَلَى الْفُقََرَاءِ وَخَصَّ مِنْهُمْ أَبْنَاءَ الشُّهَدَاءِ، وَلَمَا عَادَ الْحَارِثَ إِلى الْمَدِينَةِ وَوَاجَهَ عُمَرُ قَالَ لَهُ: مَا رَأَيْتَ يَا حَارِثُ؟ فَقَالَ: حَالاً شَدِيدَةً يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدَّنَانِيرَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا صَنَعَ بِهَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي وَمَا أَظُنُّه يُبْقِي لِنَفْسِهِ مِنْهَا شَيْئًا مِنْهَا وَلا دِرْهَمًا.(6/180)
فَكَتَبَ عُمَرُ إِلى عُمَيْرِ يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي فَلا تَضَعَهُ مَنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَيَّ. فَتَوَجَّهَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ إِلى الْمَدِينَةِ وَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ فَحَيَّاهُ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ بِالدَّنَانِيرَ يَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَيْكَ مِنْهَا يَا عُمَرُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْتَهَا لِي عَنْكَ.
فَقَالَ: عَزِمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا صَنَعْتَ بِهَا؟ فَقَالَ: ادَّخَرْتُهَا لِنَفْسِي لانْتَفِعُ بِهَا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٍ وَلا بَنُونَ. فَدَمِعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنَ الذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسْهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
ثُمَّ أَمَرَ بِوِسَقٍ مِنْ طَعَامٍ وَثَوْبَيْنِ، فَقَالَ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ تَرَكْتُ عِنْدَ أَهْلِي صَاعَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ وَإِذَا أَكَلْنَاهُمَا يَأْتِي اللهُ لَنَا بِرِزْقٍ، وَأَمَّا الثَّوْبَيْنِ فَآخُذُهُمَا لأُمِّ فُلانِ يُرِيدُ زَوْجَتَه فَقَدْ بَلِيَ وَخلقَ ثَوْبُهَا وَكَادَتْ تَعْرَى.
فَمَضَى عُمَيْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَرِيقِ الآخِرَةِ وَادِعَ النَّفْسِ وَاثِقَ الْخَطْوِ لا يُثْقِلُه شَيْءٌ مِنْ أَحْمَالِ الدُّنْيَا وَأَمْتِعَتِهَا، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفَاةَ عُمَيْرٍ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ لِي رِجَالاً مِثْلَ عُمَيْرِ أَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ.
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مَدَى الْعُمْرِ
وَتَسْكُنَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي رَوْضَةِ الْقَبْرِ
وَتُبْعَثَ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ آمِنًا
مِنَ الْخَوْفِ وَالتَّهْدِيدِ وَالطَّردِ وَالْخُسْرِ(6/181)
وَتُعْرَضَ مَرْفُوعًا كَرِيمًا مُبَجَّلاً
تُبَشِّرُكَ الأَمْلاكُ بِالْفَوزِ وَالأَجْرِ
وَتَرْجَحَ عِنْدَ الْوَزنِ أَعْمَالَكَ الَّتِي
تُسَرُّ بِهَا فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ
وَتَمْضِيَ عَلَى مَتْنِ الصِّرَاطِ كَبَارِقٍ
وَتَشْرَبَ مِنْ حَوْضِ النَبِيِّ الْمُصْطَفَى الطُّهْرِ
وَتَخْلُدَ فِي أَعْلَى الْجِنَانِ مُنَعَّمًا
حَظِيًا بِقُرْبِ الْوَاحِدِ الأَحَدِ الْوَترِ
عَلَيْكَ بِتَوْحِيدِ الإِلهِ فَإِنَّهُ
إِذَا تَمَّ فَازَ الْعَبْدُ بِالْقُرْبِ وَالأَجْرِ
وَخُذْ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ حَظًّا مُوَفِّرًا
فَبِالْعِلْمِ تَسْمُو فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْحَشرِ
وَوَاظِبْ عَلَى دَرْسِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي
تِلاوَتِهِ الأَرْبَاحُ وَالشَّرْحُ لِلصَّدْرِ
أَلا إِنَّهُ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَغَيْرَهُ
مِنَ الْكُتُبِ أَنْهَارٌ تَمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ
تَدَبَّرْ مَعَانِيهِ وَرَتِّلْهُ خَاشِعًا
تَفُوزُ مِنَ الأَسْرَارِ بِالْكَنْزِ وَالذُّخْرِ
وَكُنْ رَاهِبًا عِنْدَ الْوَعِيدِ وَرَاغِبًا
إِذَا مَا تَلَوَّتَ الْوَعْدُ فِي غَايَةِ الْبِشْرِ(6/182)
بَعِيدًا عَنِ الْمَنهِيِّ مُجْتَنِبًا لَهُ
حَرِيصًا عَلَى الْمَأْمُورِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
وَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَحْظَى بِقَلْبٍ مُنَوَّرٍ
نَقِيٍّ مِنَ الأَغْيَارِ فَاعْكُفْ عَلَيَّ الذِّكْرِ
وَوَاظِبْ عَلَيْهِ فِي الظَّلامِ وَفِي الضِّيَا
وَفِي كُلِّ حَالٍ بِاللِّسَانِ وَبِالسِّرِّ
وَصَفِّ مِنْ الأَكْدَارِ سِرَّكَ إِنَّهُ
إِذَا مَا صَفَا أَوْلاكَ مَعْنَى مِنَ الْفِكْرِ
وَبِالْجِدِّ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ تَحِلُّ فِي
فَسِيحِ الْعُلى فَاِسْتَوْصِ بِالْجِدِّ وَالصَّبْرِ
وَكُنْ شَاكِرًا للهِ قَلْبًا وَقالِبًا
عَلَى فَضْلِهِ إِنَّ الْمَزِيدَ مَعَ الشُّكْرِ
تَوَكَلَّ عَلَى مَوْلاكَ وَاِرْضَ بِحُكْمِهِ
وَكُنْ مُخْلِصًا للهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ
قَنُوعًا بِمَا أَعْطَاكَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ
لَهُ حَامِدًا فِي حَالِيْ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
وَكُنْ بَاذِلاً لِلْفَضْلِ سَمْحًا وَلا تَخَفْ
مِنَ اللهِ إِقْتَارًا وَلا تَخْشَ مِنْ فَقْرِ
وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا فَإنَّ حَلالَهَا
حِسَابٌ وَفِي مَحْظُورِهَا الْهَتْكُ لِلسِّرِّ(6/183)
وَلا تَكُ عَيّابًا وَلا تَكُ حَاسِدًا
وَلا تَكُ ذَا غِشّ وَلا تَكُ ذَا غَدْرِ
وَلا تَطْلُبَنَّ الْجَاهَ يَا صَاحِ إِنَّهُ
شَهِيٌّ وَفِيهِ السُّمُّ مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي
وَإِيَّاكَ وَالأَطْمَاعَ إِنَّ قَرِينَهَا
ذَلِيلٌ خَسِيسُ الْقَصْدِ مُتَّضِعُ الْقَدْرِ
وَإِنْ رُمْتَ أَمْرًا فَأسْأَلِ اللهَ إِنَّهُ
هُوَ الْمُفْضَلُ الْوَهّابُ لِلْخَيْرِ وَالْوَفرِ
وَأُوصِيكَ بِالْخَمْسِ الَّتِي هِنَّ يَا أَخِي
عِمَادٌ لِدِينِ اللهِ وَاسِطَةُ الأَمْرِ
وَحَافِظْ عَلَيْهَا بِالْجَمَاعَةِ دَائِمًا
وَوَاظِبْ عَلَيْهَا فِي الْعِشَاءِ وَفِي الْفَجْرِ
وَقُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ للهِ قَانِتًا
وَصَلِّ لَهُ وَاِخْتِمْ صَلاتَكَ بِالْوِتْرِ
وَكُنْ تَائِبًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَتَيْتَهُ
وَمُسْتَغْفِرًا فِي كُلَّ حَيْنٍ مِنَ الْوِزْرِ
عَسَى الْمُفَضِلُ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ بِمَنِّهِ
يَجُودُ عَلَى ذَنْبِ الْمُسِيئِينَ بِالْغُفْرِ
فَإِحْسَانُهُ عَمَّ الأَنَامَ وَجُودُهُ
عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ وَإِفْضَالُهُ يَجْرِي
وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلَّهَا(6/184)
.. مُحَمَّدُ الْمَبْعُوثِ بِالْبِشْرِ وَالنُّذْرِ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عَنْ ذِكْرك، وَاعْفُ عَنْ تَقْصِيرنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتِدِي بِهِ إِلَيْكَ وَاسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ وَاقْطَعْ عنًّا كُلَّ مَا يُبْعِدُنَا عَنْ سَبِيلِكَ، ويَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقِّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا.
اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ، وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ن وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجًا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عبد الرحمن بن عوف
هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدُ عَمْرو فَلَمَّا أَسْلَمَ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.
أَسْلَمَ بَعْدَ إِسْلامِ أَبِي بَكْر الصِّدِّيقُ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ وَلَقِيَ مِنْ التَّعْذِيبِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ الأوَّلُونَ فَصَبَرَ كَمَا صَبَرُوا وَثَبَتَ كَمَا ثَبَتُوا وَصَدَقَ كَمَا صَدَقُوا وَفَرَّ بِدِينِهِ إِلى الْحَبَشَةِ كَمَا فَرَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِدِينِهِ مِنْهُمْ.
وَلَمَّا أُذِنَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلى الْمَدِينَةِ كَانَ فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ الذِينَ هَاجَرُوا إِلى الْمَدِينَةِ وَلَمَّا آخَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَسَعْدِ بن الرَّبِيعِ الأَنْصَارِي فَقَالَ سَعْدُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أَيْ أَخِي أَنَا أَكْثَرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَالاً وَعِنْدِي بُسْتَانَانِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيْ بُسْتَانَيَّ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَيَّ امْرَأَتِيَّ أَرْضَى عِنْدكَ أُطَلِّقْهَا لَكَ.(6/185)
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَأَهْلِكَ وَلَكِنْ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ فَدَلَّهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَتَّجِرُ وَبَعْدَ مُدَّة اجْتَمَعَ لَدَيْهِ مَالٌ فَتَزَوَّجَ وَجَاءَ إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الطِّيْبِ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ» . (وَهِيَ كَلِمَةٌ يَمَانِيَّةٌ تُفِيدُ التَّعَجُّبَ) فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ. فَقَالَ: ((وَمَا أَعْطَيْتَ زَوْجَتَكَ مِنْ الْمَهْرِ)) . قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
قَالَ: ((أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ)) . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُنِي لَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لِتَوَقَّعْتُ أَنْ أَجِدَ تَحْتَهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَقَدْ جَاهَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ ثَبَتَ حَتَّى زُلْزِلَتْ أَقْدَامُ الْمُشْرِكِينَ وَصَمَدَ حِينَ فَرَّ الْمُنْهَزِمُونَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ وَفِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُرْحًا.
وَلَكِنَّ جِهَادَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنَفْسِهِ قَلِيلٌ إِذَا قِيسَ بِجِهَادِهِ بِمَالِهِ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَهِّزَ سَرِيَّةً وَقَالَ: «تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا» .
فَبَادَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقَ إِلى مَنْزِلِهِ وَعَادَ مُسْرِعًا وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلافٍ أَلْفَانِ مِنْهُمَا أَقْرَضْتُهَا رَبِّي وَأَلْفَانِ تَرَكْتُهُمَا لِعِيَالِي فَقَالَ لََهُ رَسُول اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ)) .
وَلَمَا عَزَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكٍ كَانَتْ الْحَاجَةُ إِلى الْمَالِ لا تَقِلُّ عَنْ الْحَاجَةِ إِلى الرِّجَالِ فَجَيْشُ الرُّومِ وَافِرُ الْعَدَدِ كَثِيرُ الْعُدَدِ وَالسَّنَةُ فِي الْمَدِينَةِ سَنَةُ جَدْبٍ وَالسَّفَرُ طَوِيلٌ وَالْمُؤْنَةُ قَلِيلَةٌ وَالرَّوَاحِلُ أَقَلُّ.
حَتَّى إِنَّ نَفَرًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ جَاءُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ فِي حُرْقَةٍ أَنْ يَأْخذَهُمْ مَعَهُ فَرَدَّهُمْ لأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يُحْمِلهُمْ عَلَيْهِ(6/186)
وَهُمْ الْبَكَّاءُونَ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزْنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.
وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَيْشِ جَيْشَ الْعُسْرَةِ عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاحْتِسَابِ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ.
فَهَبَّ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ الْمُتَصَدِّقينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ فَتَصَدَّقَ بِمَائتي أَوْقِيَّةٍ ذَهَبًا فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لا أَرَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفِ إِلا مُرْتَكِبًا إِثْمًا فَمَا تَرَكَ لأَهْلِهِ شَيْئًا.
فَقَالَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ((هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئًا)) ؟ فَقَالَ: نَعَمْ تَرَكْتُ لَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْفَقْتُ وَأَطْيَبُ. قَالَ: ((كَمْ)) ؟ قَالَ: مَا وَعَدَ اللهُ وَرَسُولَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْخَيْرِ وَالأَجْرِ.
وَمَضَى الْجَيْشُ إِلى تَبُوكَ وَهَنَاكَ أَكْرَمَ اللهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ وَرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَائِبٌ فَأَمَّ الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَمَا كَادَتْ تَتِمُّ الرَّكْعَةُ الأُولَى حَتَّى لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِالْمُصَلِّينَ وَاقْتَدَى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَصَلَّى خَلْفَهُ.
وَلَمَّا لَحِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى جَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يَقُومُ بِمَصَالِحِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ يَنْهَضُ مَعَهُنَّ وَيَخْرُجُ لِحَاجَتِهِنَّ إِذَا خَرَجْنَ وَيَحُجُّ مَعَهُنَّ إِذَا حَجَجْنَ وَيَجْعَلُ عَلَى هَوَادِجِهِنَّ الطَّيَالِسَةُ وَيَنْزِلُ بِهِنَّ فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي تَسُرُّهُنَّ.
وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ مِنْ مَنَاقِبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ بَرِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ بَاعَ أَرْضًا بَأَرْبَعِينَ أَلْفِ(6/187)
دِينَارٍ فَقَسَمَهَا كُلَّهَا فِي بَنِي زُهْرَةَ وَفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَعَثَ إِلى أَمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ بَعَثَ هَذَا الْمَالَ؟ فَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ. فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَحْنُوا عَلَيْكُنَّ مِنْ بَعْدِي إِلا الصَّابِرُونَ)) .
بَقِيتْ دَعْوةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ بَأَنْ يُبَارِكَ اللهُ لَهُ حَتَّى صَارَ أَغْنَى الصَّحَابَةِ فَقَدْ أَخَذَتْ تِجَارَتهُ تَنْمُو وَتَزْدَادُ وَصَارَتْ قَوَافِلُه تَتَرَدَّدُ ذَاهِبَةً مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ رَاجِعَةً إِلَيْهَا تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ وَالدُّهْنَ وَالثِّيَابَ وَالآنِيَةَ وَالطِّيْبَ وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَلا غَرَابَةَ فَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي مَالِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَمْ يَفتِنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يُغَيِّرهُ فَكَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوهُ بَيْنَ مَمَالِيكِه لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَفِي يَوْمٍ مَا أُتِيَ بِطَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي فَمَا وَجَدْنَا لَهُ إِلا كَفنًا إِنْ غَطَّى رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ وَإِنْ غَطَّى رِجْلِيهِ بَدَا رَأْسُهُ ثُمَّ بَسَطَ اللهُ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بَسَطَ وَإِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَكُونَ ثَوَابُنَا قَدْ عُجِّلَ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي وَيَنْشَجُ حَتَّى عَافَ الطَّعَامَ طُوبَى لِعَبْدِ الرَّحْمَن بن عَوْفٍ وَأَلْفُ غِبْطَةٍ.
فَقَدْ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ وَحَمَل جَنَازَتَه خَالُ رَسُولِ اللهِ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ ذُو النُّورَيْنِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانٍ وَشَيَّعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّي بنْ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا وَسَبَقْتَ زَيْفَهَا يَرْحَمُكَ اللهُ. انْتَهَى.
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا مَنْ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا(6/188)
وَقَوِّهَا وألْهِمْنَا ذِكرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَعِنَّا عَلَى الْقِيَامِ بِطَاعَتِكَ وَالاِنْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقُبُولِ وَالإِجَابَةِ فَإِنَّا نَدْعُوكَ دُعَاءَ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَتَصَرَّمَتْ آمَالِهِ وَبَقِيَتْ آثَامُهِ وَانْسَبَلَتْ دِمْعَتُه وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُ دُعَاءَ مَنْ لا يَرْجُو لِذَنْبِهِ غَافِرًا غَيْرَكَ وَلا لِمَا يُؤْمِّلُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ مُعْطِيًا سِوَاكَ، وَلا لِكَسْرِهِ جَابِرًا إِلا أَنْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الْمَوْتُ يَفْجَعُ بَعْدَ الْعَيْنِ بِالأَثْرِ ... فَمَا الْبُكَاءُ عَلَى الأَشْبَاحِ وَالصُّورِ
أَنْهَاكَ أَنْهَاكَ لا آلُوكَ مَوْعِظَةً ... عَنْ نَوْمَةٍ نَابَ اللَّيْثِ وَالظُّفُرِ
فَالْعُمُر يَفْنِى وَإِنْ طَالَتْ مُسَالَمَةً ... وَالْبَيْضُ وَالسُّودُ مِثْلَ الْبِيضِ وَالسَّمُرِ
وَلا هَوَادَةَ بَيْنَ الرَّأْسِ تَأْخُذُهُ ... يَدُ الضِّرَابِ وَبَيْنِ الصَّارِمِ الذَّكْرِ
فَلا تَغُرَّنْكَ مِنْ دُنْيَاكَ نَوْمَتُهَا ... فَمَا صِنَاعَةُ عَيْنَيِهَا سِوَى السَّهَرِ
مَا لِلَّيالِي أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَنا ... مِنَ اللَّيَالِي وَغَالَتْهَا يَدُ الْغِيَرِ
فِي كُلِّ حِينٍ لَهَا فِي كُلِّ جَارِحَةٍ ... مِنَّا جِرَاحٌ وَإِنْ زَاغَتْ عَنِ النَّظَرِ
تَسُرُّ بِالشَّيْءِ لَكِنْ كَيْ تَغُرَّ بِهِ ... كَالأَيْمِ ثَارَ إِلى الْجَانِي مِنَ الزَّهْرِ
كَمْ دَوْلَةٍ وُلِّيَتْ بِالنَّصْرِ خَدْمَتُهَا ... لَمْ تَبْقَ مِنْهَا وَسَلْ دُنْيَاكَ عَنْ خَبَرِ
هَوَتْ بِدَارًا وَفَلَّْت غَرْبَ قَاتِلِهِ ... وَكَانَ غَصْبًا عَلَى الأَمْلاكِ ذَا أَثَرِ
وَاِسْتَرْجَعَتَ مِنْ بَنِي سَاسَانَ مَا وَهَبَتْ ... وَلَمْ تَدَعْ لِبَنِي يُونَانَ مِنْ أَثَرِ
وَأَلْحَقَتْ أُخْتَهَا طَمْسًا وَعَادَ عَلَى ... عَادٍ وَجُرْهُمْ مِنْهَا نَاقِضُ الْمِرَرِ
وَمَا أَقَالَتْ ذََوِي الْهَيْئَاتِ مِنْ يَمَنٍ ... وَلا أَجَارَتْ ذَوِي الْغَايَاتِ مِنْ مُضَرِ
وَمَزَّقَتْ سَبَأً فِي كُلِّ قَاصِيَةٍ ... فَمَا الْتَقَى رَائِحٌ مِنْهُمْ بِمُبتَكِرِ
وَأَنْفَذَتْ فِي كُلَيْبٍ حَكَمَهَا وَرَمَتْ ... مُهَلْهِلاً بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وَالْبَصَرِ
وَلَمْ تَرُدَّ عَلَى الضَّلِيلِ صِحَّتَهُ ... وَلا ثَنَتْ أَسَدًا عَنْ رَبِّهَا حَجَرِ
وَدَوَّخَتْ آلَ ذُبيانٍ وَإِخْوَاتَهُمْ ... عَبْسًا وَغَصَّتْ بَنِي بَدْرٍ عَلَى النَّهْرِ(6/189)
.. وَأَلْحَقَتْ بِعَدِيٍّ بِالْعِرَاقِ عَلَى ... يَدِ ابْنِهِ أَحْمَرَ الْعَينَيْنِ وَالشَّعْرِ
وَأَهْلَكَتْ إِبْرَوِيزًا بِابْنِهِ وَرَمَتْ ... بِيَزْدَجِرْدٍ إِلى مَروٍ فَلَمْ يُحُرِ
وَبَلَّغتْ يَزْدَجِرْدَ الصِّينَ وَاِخْتَزَلَتْ ... عَنْهُ سِوَى الْفُرْسِ جَمْعَ التُّرْكِ وَالْخَزَرِ
وَلَمْ تَرُدَّ مَوَاضِي رُسْتُمٍ وَقَنَا ... ذِي حَاجِبٍ عَنْهُ سَعْدًا فِي ابْنَهِ الْغَيْرِ
يَوْمَ الْقَلِيبِ بَنُو بَدْرٍ فَنُوا وَسَعَى ... قَلِيبُ بَدْرٍ بِمَنْ فِيهِ إِلى سَقَرِ
وَأَخْفَرَتْ فِي الأَمِينِ الْعَهْدِ وَاِنْتَدَبَتْ ... لِجَعْفََرٍ بِابْنِهِ وَالأَغْبُدِ الْغُدُرِ
وَمَا وَفَتْ بِعُهُودِ الْمُسْتَعِينِ وَلا ... بِمَا تَأَكَّدَ لِلْمُعتَزِّ مِنْ مِرَرِ
وَأَوْثَقَتْ فِي عُرَاهَا كُلَّ مُعْتَمَدٍ ... وَأَشْرَقَتْ بِقَذَاهَا كُلَّ مُقْتَدِرِ
وَرَوَّعَتْ كُلَّ مَأْمُونٍ وَمُؤْتَمَنٍ ... بِذَيلِ زَبَّاءَ لَمْ تَنْفِِْر مِنَ الذُّعْرِ
وَأَعثَرَت آلَ عَبَّادٍ لَعالَهُمُ ... وَأَسْلَمَتْ كُلَّ مَنْصُورٍ وَمُنْتَصِرِ
بَنِي الْمُظَفَّرِ وَالأَيّامُ - لا نَزَلَتْ ... مَرَاحِلٌ وَالْوَرَى مِنْهَا عَلَى سَفََرِ
سُحْقًا لِيَوَمِْكُمُ يَوْمًا وَلا حَمَلَتْ ... بِمِثْلِهِ لَيْلَةٌ فِي غَابِرِ الْعُمُرِ
مَنْ لِلأَسِرَّةِ أَوْ مَنْ لِلأَعِنَّةِ أَوْ ... مَنْ لِلأَسِنَّةِ يُهْدِيهَا إِلى الثُّغَرِ
مَنْ لِلظِّبَا وَعَوَالِي الْخَطِ قَدْ عُقِدَتْ ... أَطْرَافُ أَلْسُنِهَا بِالْعِيِّ وَالْحَصَرِ
وَطَوَّقَتْ بِالْمَنَايَا السُّودِ بِيضَهُمُ ... فَأعْجَبْ لِذَاكَ وَمَا مِنْهَا سِوَى الذِّكْرِ
مَنْ لِلْيَرَاعَةِ أَوْ مَنْ لِلْبَرَاعَةِ أَوْ ... مَنْ لِلسَّمَاحَةِ أَوْ لِلنَّفْعِ وَالضَّرَرِ
أَوْ دَفْعِ كَارِثَةٍ أَوْ رَدْعِ آزِفَةٍ ... أَوْ قَمْعِ حَادِثَةٍ تَعْيِي عَلَى الْبَشَرِ
وَيبْ السَّمَاحِ وَوَيْبَ الْبَأَ لَوْ سَلِمَا ... وَحَسْرَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَى عُمَرِ
سَقَتْ ثَرَى الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ هَامِيَةٌ ... تُعْزَى إِلَيْهِمْ سَمَاحًا لا إِلى الْمَطَرِ
ثَلاثَةٌ مَا رَأَى السَّعْدَانُ مِثْلَهُمُ ... وَأَخْبَرَ وَلَوْ عَزَّزا فِي الْحُوتِ بِالْقَمَرِ
ثَلاثَةٌ كَذَوَاتِ الدَّهْرِ مُنْذُ نَأَوْا ... عَنِّي مَضَى الدَّهْرُ لَمْ يَرْبَعْ وَلَمْ يَحِرِ(6/190)
.. وَمَرَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ أَطْيَبُهُ ... حَتَّى التَّمَتُّعُ بِالآصَالِ وَالْبُكَرِ
أَيْنَ الْجَلالُ الَّذِي غَضّتْ مَهابَتُهُ ... قُوُبَنَا وَعُيُونُ الأَنْجُمِ الزُّهُرِ
أَيْنَ الإِبَاءُ الَّذِي أَرْسُوا قَوَاعِدَهُ ... عَلَى دَعَائِمَ مَنْ عِزٍّ وَمِنْ ظَفَرِ؟
أَيْنَ الْوَفاءُ الَّذِي أَصْفَوا شَرَائِعِهُ ... فَلَمْ يَرِدْ أَحَدٌ مِنْهَا عَلى كَدَرِ
كَانُوا رَوَاسِيَ أَرْضِ اللهِ مُنْذُ مَضُوا ... عَنْهَا اِسْتَطَارَتْ بِِمَنْ فِيهَا وَلَمْ تَقِرِ
كَانُوا مَصَابِيحَهَا دَهْرًا فَمُنْذُ خَبَوْا ... صَارَ الْخَلِيقَةُ يَاللهِ فِي مَرَرِ
مَنْ لِي مَنْ بِهِمْ إِنْ أَظْلَمَتْ نُوبٌ ... وَلَمْ يَكُنَ لَيلُهَا يُفْضِي إِلى سَحَرِ
مَنْ لِي وَلا مَنْ بِهِمْ إِنْ أَطْبَقَتْ مِحَنٌ ... وَلَمْ يَكُنْ وِزْرُهَا يَدْعُو إِلى صَدَرِ
عَلَى الْفَضَائِلِ إِلا الصَّبْرُ بَعْدَهُمْ ... سَلامُ مُرْتَقِبٍ لِلأَجْرِ مُنْتَظِرِ
يَرْجُو عَسَى وَلَهُ فِي أُخْتِهَا أَمَلٌ ... وَالدَّهْرُ ذُو عَتَبٍ شَتَّى وَذُو غِيَرِ
رَرَّطْتُ آذَانَ مَنْ فِيهَا بِفَاضِحَةٍ ... عَلَى الْحَِسانِ حَصَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرَرِ
سَيَّارَةٌ فِي أَقَاصِي الأَرْضِ قَاطِعَةً ... شَقَاشِقاً هَدَرَتْ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ
مُطَاعَةُ الأَمْرِ فِي الأَلْبَابِ قَاضِيَةٌ ... مِنَ الْمَسَامِعِ مَا لَمْ يُقْضَ مِنْ وَطَرِ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يَا أَرْأَفَ الرَّائِفِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ.
موعظة:
عن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، أنه قال: سَمِعْتُ رسول الله ? يَقُولُ فِي خُطبة في أحد العيدين: «الدُّنْيَا دَارُ بَلاءٍ ومنزل قَلقٍ وعَناءٍ، وقد نَزَعَتْ عنها نفوسُ السُّعداء، وانتُزعت بالكُرْهِ مِنْ أَيْدي الأَشْقياء، فَأسْعَدُ النَّاس بها أَرْغَبُهُم عنها، وأشقاهُم بها أرغَبُهم فيها، هي الغاشَّةُ لمن انْتَصَحَها، وَالْمُغْوية لِمَنْ أَطَاعَهَا، وَالْخَاتِرَة لمن انقادَ لها. فالفائِز مَنْ أَعْرَضَ عنها، والهالكُ مَنْ رَاغِبٌ فِيهَا. طُوبى لِعَبْدٍ اتَّقى فيها رَبَّه، وناصَحَ نَفْسَه، وقدَّم توبَتَه، وَأَخَّرَ شَهْوَتَه مِنْ قبَل أَنْ تَلْفِظَه الدُّنْيَا إِلى الآخرة، فَيُصْبحَ فِي بَطْنِ مُوحِشَةٍ غَبراء، مُدْلَهِمَّةٍ ظلماء لا يستطيعُ(6/191)
أن يَزِيدَ في حَسَنَة، وَلا يَنْقُصَ مِنْ سَيِّئَة، ثُمَّ يُنْشَرُ فَيُحْشَرُ إِمَّا إلى جَنَّةٍ يَدُومُ نَعِيمها، وَإِمَّا إِلى نَارٍ لا يَنْفَدُ عَذَابُها.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّهُ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله يقول في خطبته: «يا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ التواء لا دَارُ استواء، ومَنزل تَرَح، لا منزل فَرَح. مَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْرَحِ لِرَخَاءٍ، وَلَمْ يحزَن لشقاء أَلا وَإِنَّ الله عَزَّ وجل خلَقَ َالدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، والآخرةَ دَارِ عُقْبَى فجعلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثوابِ الآخرةِ
سَبَبًا وَثَوَابَ الآخرة مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضًا، فيأخذ لِيُعْطي، وَيُبْتَلى لِيَجْزي. إِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ، وَشِيكَةُ الانْقِلاب، فاحْذَرُوا حَلاوَةَ رِضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا، وَاهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِها لِكَرِيهِ آجِلِهَا وَلا تَسْعَوا فِي عُمْرَانِ دَارٍ قَدْ قَضَى الله خَرَابَها وَلا تُوَاصِلُوهَا، وَقَدْ أَرَادَ الله مِنْكُمْ اجْتِنَابِهَا، فَتَكُونُوا لِسُخْطِهِ مُتَعَرِّضِينَ، وَلِعُقُوبَتِه مُسْتَحِقِّينَ.
هُوَ الْمَوْتُ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ لِهَارِبٍ
وَهَلْ هَرَبي يَوْمًا مِنْ اللَّيْلِ يَنْفَعُ
وَأَيُّ اجْتِمَاعِ لا يُبَدَّدُ شَمْلُهُ
وَأَيُّ فُؤَادٍ بِالرَّدَى لا يُرَوَّعُ
حَيَاتُكَ كَالأَضْغَاثِ وَالْحِلْم مُزْعِجٌ
وَيَعْقِبُهُ الْمَوْتُ الذِي لَيْسَ يُدْفَعُ
لَقَدْ جِئْتَ مُضْطرًا وَتَرْجَعُ كَارِهًا
وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَأْنًا مَجِيءٌ وَمَرْجِعُ
إِذَا اتَّسَخَ السِّربَالُ أَوْرَثَّ نَسْجُهُ
فَلا بُدَّ لِلسِّرْبَالِ بِالنَّزْعِ يُخْلَعُ
أَرَى الرُّوحَ تَأْوِي الْجِسْمَ مَا دَامَ عَامِرًا
وَتُخْلِيهِ مِنْ بَعْدِ إِنْهِيَارٍ وَتُقْلِعُ
إِذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ طَالَ عَنَاؤُهُ(6/192)
.. وَأَشْقَاهُ مِنْ أَحْبَابِهِ مَنْ يُوَدِّعُ
وَعَاثَتْ تَصَارِيفُ الزَّمَانِ بِجِسْمِهِ
فَفِي كُلِّ يَوْمٍ جَانِبٌ يَتَضَعْضَعُ
تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعَفُ نَاظِرٌ
وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُلُ مَسْمَعُ
أَرَى الْوَقْتُ وَالدَّاءِ الْعُظَال يَلُوكُنَا
لِتَبْلَعَنَا الأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ تَشْبَعُ
نَوَائِبُهُ الأَنْيَابُ تَفْرِي قُلُوبَنَا
وَفِيهَا أَمَانِينَا سَرَابٌ مُشَعْشِعُ
وَمَاذَا يُرْجِي الْحَيُّ إِنْ جُذَّ أَصْلُهُ
وَشُذِّبَ عَنْهُ فَرْعُهُ الْمُتَفَرِّعُ
وَمَا عُذْرُ مَنْ تُؤْدِي اللَّيَالِي بِبَعْضِهِ
إِذَا كَانَ بِالدُّنْيَا يُغَزُّ وَيُخْدَعُ
وَلَمْ أَرَى كَالدُّنْيَا وَلَمْ أَرَى كَلْبَهَا
تَجُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالأم مُولَعُ
إِذَا عَرَفَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ أَهَانَهَا
وَيَحْيَى حَيَاةَ الزَّاهِدِينَ وَيَقْنَعُ
تَوَالَتْ مَلايينُ الْمَلايينِ قَبْلَنَا
عَلَى سُنَنِ الأَجْيَالِ تَقْفُوا وَتَتْبَعُ
قَوَافِلُ يَحْدُوهَا الزَّمَانُ بِلَحْنِهِ
وَمَا لَحْنُهُ إِلا الأَنِينُ الْمُرَجَّعُ(6/193)
.. أَرَى الْمَوْتَ لا يَثْنِيهِ نُبْلٌ وَسُؤْدَدُ
وَلا مَحْتَدٌ زَاكٍ وَشَأْن مُرفعُ
وَلا خُلُقٌ زَاكٍ وَلا عَبْقَرِيَّةٌ
وَهَلْ خَلْقٌ عِنْدَ الْمَنِيَّةِ يَشْفَعُ
وَمَا الْمَوْتُ إِلا قُوَّةٌ تَنْحَنِي لَهَا
ظُهُورُ جَمِيعُ الأَقْوِيَاءِ وَتَرْكَعُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةٌ لثابت بن قيس الأنصاري
هَوُ أَحَدُ السَّابِقِينَ إِلى الإِسْلامِ فِي يَثْرِبَ إِذْ مَا كَادَ يَسْتَمِعُ إِلى آيِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ يُرَتِّلها الدَّاعِيَةُ الْمَكَّيُّ الشَّابُّ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ بِصَوْتِهِ الشَّجِيِّ وَجَرْسِهِ النَّدِيَّ حَتَّى أَسَرَ الْقُرْآنُ سَمْعَه بِحَلاوَةَ وَقْعِه، وَمَلَكَ قَلْبَهُ بَرَائِع بَيَانِهِ، وَخَلَبَ لُبَّهُ بِمَا حَفَلَ بِهِ مِنْ هَدْيٍ وَتَشْرِيع.
فَشَرَحَ اللهُ صَدْرَه للإِيمَانِ وَأَعْلَى قَدْرَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ بِالإِنْضِوَاءِ تَحْتَ لِوَاءِ نَبِيِّ الإِسْلامِ.
وَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُه عَلَيْهِ إِلى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا اسْتَقْبَلَهُ ثَابِتُ بن قَيْسٍ فِي كَوْكَبَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ فُرْسَانِ قَوْمِهِ أَكْرَمَ اسْتِقْبَالٍ، وَرَحَّبَ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ الصِّدِّيقْ أَجْمَلَ تَرْحِيبٍ وَخَطَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ خُطْبَةً بَلِيغَةً افْتَتَحَهَا بِحَمْدِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّه ...
وَاخْتَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
(وَإِنَّا نُعَاهِدُكَ - يَا رَسُولُ اللهِ - عَلَى أَنْ نَمْنَعَكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلادَنَا وَنِسَاءَنَا فَمَا لَنَا لِقَاءَ ذَلِكَ) ؟ .
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام:
((الْجَنَّةِ)) ...(6/194)
فَمَا كَادَتْ كَلِمَةُ «الْجَنَّةِ» تُصَافِحُ آذَانَ الْقَوْم حَتَّى أَشْرَقَتْ وجُوهُهم بِالْفَرْحَةِ وَزَهِتْ قَسَمَاتُهُمْ بِالْبَهْجَةِ، وَقَالُوا:
رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ ... رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ ...
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَعَلَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ ثَابِتَ بن قَيْسٍ خَطِيبَهُ، كَمَا كَانَ حَسَّانُ بِنْ ثَابِتٍ شَاعِرَه.
فَصَارَ إِذَا جَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبَ لِتَفَاخِرَهُ أَوْ تُنَاظِرَهُ بِأَلْسِنَةِ الْفُصَحَاءِ الْمَقَاوِل مِنْ خُطَبَائِهَا وَشعرائِها نَدَبَ لَهُمْ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ لِمُصَاوَلَةِ الْخُطَبَاءِ وَحَسَّانَ بن ثَابِتٍ لِمُفَاخَرَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَلَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بن قَيْسٍ مُؤْمِنًا عَمِيقَ الإِيمَانِ تَقِيًّا صَادِقَ التَّقْوَى، شَدِيدَ الْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِ، عَظِيمَ الْحَذَرِ مِنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ.
فلقد رآه رسولُ الله ? ذاتَ يومٍ هَلِعًا جَزِعًا ترتعِدَ فرائصُهُ خوفًا وخشية.
فقال: ((ما بكَ يا أبا محمد)) ؟!
فقال: أخْشَى أنْ أكونَ قَدْ هَلكتُ يا رسول الله ...
قال: ((وَلِمَ)) ؟!
قال: لقد نهانا الله جَلَّ وَعَزَّ عن أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُني أحبُّ الْحَمْدَ ... ونهانا عن الْخُيلاءِ وأجِدُني أحبُّ الزَّهْوَ.
فَمَا زَالَ الرَّسُولُ صَلَواتُ الله وَسَلامُه عَلَيْهُ يُهدِّئ مِنْ رَوْعِه حَتَّى قَالَ: ((يَا ثَابِتُ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا ...
وَتُقْتَلَ شَهِيدًا ...
وَتَدْخُلَ الْجَنَّة)) ... ؟
فَأَشْرَقَ وَجْهُ ثَابِتٍ بِهَذِهِ الْبُشْرَى وَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله ... بَلَى يَا رَسُولَ الله.
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ لَكَ ذَلِكَ)) .(6/195)
وَلَمَّا نَزَل قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} .
تَجَنَّبَ ثَابِتُ بن قَيْسٍ مَجَالِسَ رَسُولِ الله ? - على الرَّغْمِ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ، وَفَرْطِ تَعَلُّقِهِ بِهِ -.
وَلَزِمَ بَيْتَه حَتَّى لا يَكَادُ يَبْرَحه إِلا لأَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ. فَافْتَقَدَه النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: ((مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِهِ)) ؟
فَقَالَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي مَنْزِلِه مَحْزُونًا مُنْكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ . قَالَ: شَرٌّ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟! قَالَ: إِنَّكَ تَعْرِفُ أَنِّي رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، وَأَنَّ صَوْتِي كَثِيرًا مَا يَعْلُو عَلَى صَوْتِ رَسُولِ اللهِ ? وَقَدْ نَزَلِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَعْلَمُ، وَمَا أَحْسَبُنِي إِلا قَدْ حَبِطَ عَمَلِي وَأَنَّنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَأَخْبرَهُ بِمَا رَأَى وَمَا سَمِعَ فَقَالَ: ((اذْهَبْ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) . فَكَانَتْ هَذِهِ بِشَارَةً عُظْمَى لِثَابِتٍ ظَلَّ يَرْجُو خَيْرَهَا طُوَالَ حَيَاتِه.
وَقَدْ شَهِدَ ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا سِوَى بَدْرٍ، وَأَقْحَمَ نَفْسَهُ فِي غِمَارِ الْمَعَارِكِ طَلِبًا لِلشَّهَادَةِ الَّتِي بِشَّرَهُ بِهَا النَّبِيِّ، فَكَانَ يخطِئُها فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ قَابَ قَوْسَيْنَ مِنْهُ أَوْ أَدْنَى ...
إِلى أَنْ وَقَعَتْ حُرُوبُ الرِّدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ عَلَى عَهْدِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلَقَدْ كَانْ ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ إِذْ ذَاكَ أَمِيرًا لِجُنْدِ الأَنْصَارِ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَمِيرًا لِجُنْدِ الْمُهَاجِرِينَ، وَخَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ قَائِدًا لِلْجَيْشِ كُلِّه: أَنْصَارِهِ وَمُهَاجِرِيه وَمَنْ فِيهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْبَوَادِي.(6/196)
وَلَقَدْ كَانَتْ الرِّيحُ وَالدَّوْلَةُ فِي جُلِّ الْمَعَارِكِ لِمُسَيْلَمَةَ وَرِجَالِهِ عَلَى جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى بَلَغَ بِهِمْ الأَمْرُ أَن اقْتَحَمُوا فُسْطَاطَ خَالِد بن الْوَلِيدِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ زَوْجَتِهِ أُمُّ تَمِيمٍ، وَقَطَعُوا حِبَالَ الْفِسْطَاطِ وَمَزَّقُوه شَرَّ مُمَزِّقٍ.
فَرَأَى ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ يَوْمَذَاكَ مَنْ تَضَعْضُعِ الْمُسْلِمِينَ مَا شَحَنَ قَلْبَهُ أَسَىً وَكَمَدًا وَسَمِعَ مِنْ تَنَابُزِهِمْ مَا مَلأَ صَدْرَهُ هَمًّا وَغَمًّا ...
فَأَبْنَاءُ الْمُدُنِ يَرْمُونَ أَهْلَ الْبَوَادِي بِالْجُبْنِ، وَأَهْلِ الْبَوَادِي يَصفُونَ أَبْنَاءَ الْمُدُنِ بِأَنَّهُمْ لا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ وَلا يَدْرون مَا الْحَرْبُ ... عِنْدَ ذَلِكَ تَحنَّط ثَابِتٌ وتكفَّنَ وَوَقَفَ عَلَى رؤوسِ الأَشْهَادِ.
وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ الله ?. بِئْسَ مَا عَوَّدَتم أَعْدَاءَكُم مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَيْكُمْ ...
وَبِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْ الانْخِذَالِ لَهُم ...
ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هُؤَلاءِ مِن الشِّرْكِ (يَعْنِي مُسَيْلَمَةَ وَقَوْمَه) . وَأَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) .
ثُمَّ هَبَّ هَبَّة الأَسَدِ الضَّارِي كَتِفًا لِكَتِفٍ مَع الْغُرِّ الميامين: الْبراءِ بن مَالِكٌ الأَنْصَارِي، وَزَيْدِ بن الْخَطَّابِ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذََيْفَة، وَغَيْرِهم وَغَيْرِهم مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِين ... وَأَبْلَى بَلاءً عَظِيمًا مَلأَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ حَمِيَّةً وَعَزْمًا، وَشحَنَ أَفْئِدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهْنًا وَرُعْبًا.
وَمَا زَال يُجَالِدُ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ وَيُضَارِبُ بِكُلِّ سِلاحٍ حَتَّى أَثْخَنَتْه الْجِرَاحَ فَخَرَّ صَرِيعًا عَلَى أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ قَرِيرَ الْعَيْنِ بِمَا كَتَبَ الله لَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي بَشَّرَ بِهَا حَبِيبُه رَسُولُ اللهِ ?، مَثْلُوجَ الصَّدْرِ بِمَا حَقَّقَ الله على يَدَيْهِ(6/197)
لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصْرِ ...
وَكَانَتْ عَلَى ثَابِتٍ دِرْعٌ نَفِيسَةٌ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِين فَنَزَعَهَا عَنْهُ وَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ.
وَفِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لاسْتِشْهَادِهِ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لِلرَّجُلُ: أنَاَ ثَابِتٍ بنُ قَيْسٍ، فَهَلْ عَرَفْتَنِي؟
فَقَالَ: إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمٌ فَتُضَيِّعَهَا ...
إِنِّي لَمَا قُتِلْتُ أَمْسٍ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صِفَتُه كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ دِرْعِي وَمَضَى بِهَا نَحْوَ خِبَائِهِ فِي أَقْصَى الْمُعَسْكَرِ مِنْ الْجِهَةِ الْفُلانِيَّةِ، وَوَضَعَهَا تَحْتَ قِدْرٍ لَهُ، وَوَضَعَ فَوْقَ الْقِدْرِ رَحْلاً فَائْتِ خَالِدَ بن الْوَلِيدَ وَقُلْ لَهُ: أَنْ يَبْعَثَ إِلى الرَّجُلِ مَنْ يَأْخُذُ الدِّرْعَ مِنْهُ فَهِيَ مَا تَزَالُ فِي مَكَانِهَا.
وأوصيكَ بِأُخْرَى، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمُ نَائِمٍ فَتُضَيِّعَهَا ...
قُلْ لِخَالِدٍ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى خَلِيفَة رَسُولِ اللهِ ? فِي الْمَدِينَةِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلَى ثَابِتِ بن قَيْسٍ مِنْ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا ... وَإِنَّ فُلانًا وَفُلانًا مِنْ رَقِيقِهِ عَتِيقَان، فَلْيَقْضِ دِينِي وَلْيُحَرِّرْ غُلامَيَّ ... فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَأَتَى خَالِدَ بن الْوَلِيدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ وَمَا رَأَى ...
فَبَعَثَ خَالِدٌ من يُحْضِرُ الدِّرْعَ مِنْ عِنْدِ آخِذِهَا فَوَجَدَهَا فِي مَكَانِهَا وَجَاءَ بِهَا كَمَا هِيَ.
وَلَمَّا عَادَ خَالِدٌ إِلى الْمَدِينَةِ حَدَّثَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِخَبَرِ ثَابِتِ بنِ قَيْسِ وَوَصِيَّتِهِ فَأَجَازَ الصِّدِّيقُ وَصيَّتَهُ وَمَا عُرِفَ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلا بَعْده أُجِيزَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سِوَاه.(6/198)
اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وَأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ وَالْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بِالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ الْبَاطِلِ وَابْتِدَاعِهِ وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدَا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عَلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَفَهْمًا ذَكِيًا وَطَبْعًا صَفِيًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة للنْعمان بنُ مقرِّنٍ الْمَزَنِيّ
كانت قبيلةُ مُزَينَةَ تَتَخِذوا منازلَها قَرِيبًا مِنْ يَثْرِبْ عَلَى الطَّرِيقِ الممتدة بين المدينةِ ومكة.
وكان الرسولُ صلواتُ الله وسلامُه عليه قد هاجرَ إلى المدينةِ، وَجَعَلَتْ أخبارُه تَصِلُ تِبَاعًا إِلى مُزَيْنَةَ مع الْغَادِينَ وَالرَّائِحينَ فَلا تسمعُ عَنْهُ إِلا خَيْرًا.
وفي ذاتِ عَشِيَّةٍ، جَلَسَ سِيِّدُ الْقَوْمِ، النعمانُ بن مقرِّنٍ الْمَزَنيُّ فِي ناديه مع إخوتِهِ وَمَشْيَخَةِ قَبِيلَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يا قوم والله ما عَلِمْنا عن محمدٍ إِلا خيرًا، ولا سمعنا من دَعْوَتِهِ إِلا مَرْحَمَةً وَإِحْسَانًا وَعَدلاً، فَمَا بَالُنَا نُبْطئُ عنه والناسُ إليه يُسْرِعُون؟!
ثم أَتْبَعَ يقول: أَمَّا أَنَا فقد عَزَمْتُ عَلَى أَن أَغْدُو عَلَيْهِ، إِذَا أَصْبَحْتُ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مَعِي فَلْيَتَجَهَّزْ.
وَكَأَنَّمَا مَسَّتْ كلماتُ النُّعْمَانِ وَتِرًا مُرْهَفًا في نفوسِ القوم، فما إن طَلَع الصباحُ حَتَّى وَجَدَ إِخْوَتَهُ الْعَشْرَةَ، وأربعمائة فارسٍ من فرسان مُزَيْنَةَ قَدْ جَهَّزوا أَنْفُسَهُمْ لِلْمُضِيِّ معه إلى يَثْرِبَ لِلِقَاءِ النَّبِيِّ صلواتُ الله وسلامهُ عليه، والدُّخُولِ في دينِ الله.(6/199)
بَيْدَ أَنَّ النَّعْمَانَ اسْتَحْيَا أَنْ يَفِدَ مَعَ هَذَا الْجَمعِ الْحَاشِدِ عَلَى النَّبِيِّ ? دُونَ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ وَللمسلمين شيئًا في يده.
لَكِنَّ السَّنَةَ الشَّهْبَاءَ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا مُزَيْنَةُ لَمْ تَتْرُكْ لَهَا ضَرْعًا ولا زَرْعًا.
فطاف النُّعْمَانُ بِبَيْتِهِ وَبُيُوتِ إِخْوَتِهِ وَجَمَعَ كُلَّ مَا أَبْقَاهُ لَهُمْ الْقَحْطُ مِنْ غُنِيمَاتٍ وَسَاقَهَا أَمَامَهُ وَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ الله ?، وَأَعْلَنَ هُوَ وَمَنْ معه إسلامَهم بينَ يَدَيْهِ.
اهتَزَّتْ يثربُ من أقصاها إلى أقصاها فَرَحًا بالنُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ وَصَحْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لِبَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعَرَبِ أَنْ أَسْلَمَ مِنْهُ أَحَدَ عَشَرَ أَخًا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ ومعهم أربعُمائةِ فارس.
وَسُرَّ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ بِإسْلامِ النَّعْمَانِ أبلغَ السُّرورِ.
انْضَوَى النَّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ تَحْتَ رَايِةِ رَسُولِ اللهِ ?، وَشَهِدَ مَعَهُ غَزَوَاتِهِ كُلِّهَا غَيْرَ وَانٍ وَلا مُقَصِّرٍ.
وَلَمَّا أَلَتِ الْخِلافَةُ إِلى الصِّدِّيقَ وَقَفَ مَعَهُ هُوَ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ وَقْفَةً حَازِمَةً كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي الْقَضَاءِ عَلَى فِتْنَةِ الرِّدَّةِ.
وَلَمَّا صَارَتِ الْخِلافَةُ إِلى الْفَارُوقِ كَانَ لِلنعمانِ بن مقرِّنٍ في عَهْدِهِ شَأْنٌ مَا يَزَالُ التَّارِيخُ يَذْكُرُهُ بِلِسَانٍ نَدِيٍّ بِالْحَمْدِ رَطِيبٍ بِالثَّنَاءِ.
فَقُبَيْلَ الْقَادِسِيَّةِ أَرْسَلَ سَعْدُ بن أَبِي وَقَّاصٍ قَائِدُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ وَفْدًا إِلى كِسْرَى يَزْدَجُرْدَ بِرِئَاسَةِ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ لِيَدْعُوهُ إِلى الإِسْلامِ.(6/200)
ولما بلغوا عاصمةَ كِسْرَى في المدائن استأذنوا بالدُّخولِ عليه فأَذِنَ لهم، ثم دَعا التَّرْجُمَانَ فَقَالَ لَهُ: سَلْهُمْ ما الذي جاءَ بِكم إِلى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمْ بِغَزْوِنَا؟! لَعَلَّكُمْ طَمِعْتُمْ بِنَا وَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا لأَنَّنَا تَشَاغَلْنَا عنكم، ولم نَشَأْ أَنْ نَبْطِشَ بِكُمْ.
فالْتَفَتَ النَّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ إِلى مَنْ مَعَهُ وَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ أَجَبْتُهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ آثَرْتُهُ بِالْكلام.
فَقَالُوا: بَلْ تَكَلَّمْ، ثم الْتَفَتُوا إِلى كِسْرَى وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُل يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِنَا فَاسْتَمِعْ إِلى مَا يَقُول.
فَحَمِدَ النُّعْمَانُ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الله رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمرُنَا بِهِ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ. وَوَعَدَنَا - إِنْ أَجَبْنَاهُ إِلى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ - أَنْ يُعْطِينَا الله خَيْرِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى بَدَّلَ الله ضِيقَنَا سِعَةً، وَذِلَّتَنَا عِزَّةً، وَعَدَاوَاتِنَا إِخَاءً وَمَرْحَمَةً.
وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَأَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يُجَاوِرُنَا. فَنَحْنُ نَدْعُوكُم إِلى الدُّخُولِ فِي دِينَنَا وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ كُلَّهُ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَقَبَّح الْقَبِيحَ كُلَّهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ، يَنْقُلُ مُعْتَنِقِيهِ مِنْ ظَلامِ الْكُفْرِ وَجُورِه إِلى نُورِ الإِيمَانِ وَعَدْلِهِ.
فَإِنْ أَجْبُتُمونا إلى الإِسْلامِ خَلَّفَنَا فِيكُمْ كِتَابَ الله وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ تَحْكُموا بِأَحْكَامِهِ، وَرَجَعْنَا عَنْكُمْ وَتَرَكْنَاكُمْ وَشَأْنَكم.
فَإِنْ أَبَيْتُمُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللهِ أَخَذْنَا مِنْكُمْ الْجِزْيَةَ وَحَمَيْنَاكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ حَارَبْنَاكُمْ.(6/201)
فَاسْتَشَاطَ يَزْدَجُرْدُ غَضَبًا وَغَيْظًا مِمَّا سَمِعَ، وَقَالَ: إِنِّي لا أَعْلَمُ أُمَّةً فِي الأَرْضَ كَانَتْ أَشْقَى مِنْكُمْ وَلا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلا أَشَدَّ فُرْقَةً، وَلا أَسْوَأُ حَالاً.
وَقَدْ كُنَّا نَكِلُ أَمْرَكُمْ إِلى وُلاةِ الضَّوَاحِي فَيَأْخُذُونَ لَنَا الطَّاعَةَ منكم ...
ثُمَّ خَفَّفَ شَيْئًا مِنْ حِدَّتِهِ وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ هِي الَّتِي دَفَعَتْكُمْ إِلى الْمَجِيءِ إِلَيْنَا أمَرْنَا لَكُمْ بِقُوتٍ إِلى أَنْ تُخْصِبَ دِيَارُكم، وَكَسَوْنَا سَادَتَكُمْ وَوُجوهَ قَوْمِكم، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلْكًا مِنْ قِبَلِنَا يَرْفِقُ بِكِمْ.
فَرَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْوَفْدِ رَدًّا أَشْعَلَ نَارَ غَضَبِهِ مِنْ جديدٍ فَقَالَ: لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ.
قُومُوا فَلَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ عِنْدِي، وَأَخْبِرُوا قَائِدَكُمْ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ (رُسْتُمَ) حَتَّى يَدْفِنَهُ وَيَدْفِنَكُمْ مَعَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ.
ثُمَّ أَمَرَ فَأُتِيَ لَهُ بِحِمْلِ تُرَابٍ وَقَالَ لِرِجَالِهِ: حَمِّلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلاءِ وَسُوقُوهُ أَمَامَكم عَلَى مَرأىً مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْوَابِ عَاصِمَةِ مُلْكِنَا.
فَقَالُوا لِلْوَفْدِ: مَنْ أَشْرَفُكُمْ؟ فَبَادَرَ إِلَيْهِمْ عَاصِمُ بنُ عُمَرَ وَقَالَ: أَنَا فَحَمَّلُوهُ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَدَائِن، ثُمَّ حَمَّلَهُ عَلَى نَاقَتِهِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ لِسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَبَشَّرَهُ بَأَنَّ الله سَيَفْتَحُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِيَارَ الْفُرْسِ وَيُمَلِّكُهُمْ تُرَابَ أَرضِهِم.
ثُمَّ وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ الْقَادُسِيَّةِ، وَاكْتَظَّ خَنْدَقُهَا بِجُثَثِ آلافِ الْقَتْلَى، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ جُنُودِ كِسْرَى.
لَمْ يَسْتَكِنِ الْفُرْسُ لِهَزِيمَةِ الْقَادِسِيَّةِ، فَجَمَعُوا جُمُوعَهُمْ وَجَيَّشُوا جُيُوشَهمْ.(6/202)
حَتَّى اكْتَمَلَ لَهُمْ مَائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا مِنْ أَشِدَّاءِ الْمُقَاتِلِينَ.
فَلَمَّا وَقَفَ الْفَارُوقُ عَلَى أَخْبَارِ هَذَا الْحَشْدِ الْعَظِيمِ، عَزَمَ عَلَى أَنْ يَمْضِي إِلى مُوَاجَهِةِ هَذَا الْخَطَرِ الْكَبِيرِ بِنَفْسِهِ.
وَلِكِنَّ وُجُوهَ الْمُسْلِمِينَ ثَنوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ قَائِدًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الأَمْرِ الْجَلِيل.
فَقَالَ عمرُ: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ ذَلِكَ الثَّغْرَ.
فَقَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ بِجُنْدِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: وَاللهِ لأُوَلِّيَنَّ عَلَى جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً يَكُونُ - إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ - أَسْبَقَ مِنْ الأَسِنَّةِ، وَهُوَ النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ.
فَقَالُوا: هُوَ لَهَا.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُول:
مِنْ عَبْدِ الله عمَر بنِ الْخَطَّابِ إِلى النُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّن.
أَمَّا بَعْد، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ جُمُوعًا مِن الأَعَاجِمِ، كَثِيرَةً قَدْ جَمَعوا لَكُمْ بِمَدِينَةِ (نَهَاوَنْد) فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَسِرْ بَأَمْرِ اللهِ، وَبِعَوْنِ اللهِ، وَبِنَصْرِ اللهِ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تُوطِئْهُمْ وَعْرًا فَتُؤْذِيهِمْ ... فَإِنَّ رَجُلاً وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ.
هَبَّ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ بِجَيْشِهِ لِلِقَاءِ الْعَدِوِّ، وَأَرْسَلَ أَمَامَهُ طَلائِعَ مِنْ فُرْسَانِهِ لِتَكْشِفَ لَهُ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْفُرْسَانُ مِنْ (نَهَاوَنْدَ) تَوَقَّفَتْ خُيُولَهُمْ، فَدَفَعُوهَا فَلَمْ تَنْدَفِعْ، فَنَزَلُوا عَنْ ظُهُورِهَا لِيعَرِفُوا الْخَبَرَ فَوَجَدُوا فِي حَوَافِرِ الْخَيْلِ شَظَايَا مِنْ الْحَدِيدِ تُشْبِهُ رُؤوسَ الْمَسَامِيرِ فَنَظَرُوا فِي الأَرْضِ فَإِذَا الْعَجَمُ قَدْ نَثَرُوا فِي الدُّرُوبِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلى (نَهَاوَنْدَ) حَسَكَ الْحَدِيدِ، لِيَعوقوا الْفُرْسَانَ وَالْمُشَاةَ عَنْ الْوُصُولِ إِلَيْهَا.(6/203)
أَخْبَرَ الْفُرْسَانُ النُّعْمَانَ بِمَا رَأَوْا، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِرَأْيِهِ، فَأَمَرَهُمْ بَأَنْ يَقِفُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَأَنْ يُوقِدُوا النِّيرَانَ فِي اللَّيْلِ لِيَرَاهُمُ الْعَدُوُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَظَاهُرُونَ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْهَزِيمَةِ أَمَامَه لِيُغْرُوهُ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ وَإِزَالَةِ مَا زَرَعَهُ مِنْ حَسَكِ الْحَدِيدِ.
وَجَازَتْ الْحِيلَةُ عَلَى الْفُرْسِ، فَمَا إِنْ رَأَوْا طَلِيعةَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ تَمْضِي مُنْهَزِمَةً أَمَامَهُمْ حَتَّى أَرْسَلُوا عُمَّالَهُمْ فَكَنَسُوا الطُّرُيَق مِنَ الْحَسَكِ فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَاحْتَلُّوا تِلْكَ الدُّرُوبَ.
عَسْكَرَ النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ بِحَيْشِهِ عَلَى مَشَارِفِ (نهاوند) وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَاغِتَ عَدُوَّهُ بِالْهُجُومِ، فَقَالَ لِجُنُودِهِ: إِنِّي مُكَبَّرٌ ثَلاثًا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الأُولَى فَلْيَتَهَيَّأْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَهَيَّأ، وَإِذَا كَبَّرْتَ الثَّانِيَةَ فَلْيَشْدُدْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ سِلاحَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا كَبَّرْتَ الثَّالِثَةَ، فَإِنِّي حَامِلٌ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ فاحْمِلُوا مَعِي.
كَبَّرَ النُّعْمَانُ بن مُقَرِّنٍ تَكْبِيرَاتِهِ الثَّلاثِ، وَانْدَفَعَ فِي صِفُوفِ الْعَدُوِّ كَأَنَّهُ الليثُ عَادِيًا، وَتَدَفَّقَ وَرَاءَهُ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ تَدَفُّقَ السَّيْلِ وَدَارَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ رَحَى مَعْرَكَةٍ ضَرُوسِ قَلَّمَا شَهِدَ تَارِيخُ الْحُرُوبِ لَهَا نَظِيرًا.
فَتَمَزَّقَ جَيْشُ الْفُرْسِ شَرَّ مُمَزَّقٍ وَمَلأَتْ قَتْلاهُ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ وَسَالَتْ دِمَاؤُهُ فِي الْمَمَرَّاتِ وَالدُّروبِ فَزَلِقَ جوادُ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ بِالدِّمَاءِ فَصُرِعَ وَأُصِيبَ النُّعْمَانُ نَفْسُه إِصَابَةً قَاتِلَةً، فَأَخَذَ أَخُوهُ اللواءَ مِنْ يَدِهِ، وَسَجَّاهُ بِبُرْدَةِ كَانَتْ مَعَهُ وَكَتَمَ أَمْرَ مَصْرَعِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمَّا تَمَّ النَّصْرُ الْكَبِيرُ الذِي سَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ (فَتْحَ الْفُتُوح) ...
سَأَلَ الْجُنُودُ الْمُنْتَصِرُونَ عَنْ قَائِدِهِمْ الْبَاسِلِ النَّعْمَانِ بنِ مُقَرِّنٍ، فَرَفَعَ أَخُوهُ الْبُرْدَةَ عَنْهُ وَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ، قَدْ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ بِالْفَتْحِ، وَخَتَمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ.
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنا مِن الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنْ الْخِيَانَةِ وَآذَانَنَا عَنْ الاسْتِمَاعِ إِلى مَا لا يُرْضِيكَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(6/204)
وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(وداع راحل)
أَهَاجَكَ الوجد أَمْ شَاقَتْكَ آثَارُ ... كَانَتْ مَغَانِي نِعْمَ الأَهْلُ وَالدَّارُ
وَمَا لِعَيْنِكَ تَبْكِي حُرْقَةً وَأَسَى ... وَمَا لِقَلِبْكَ قَدْ ضَجَّتْ بِهِ النَّارُ؟
عَلَى الأَحِبَّةِ تَبْكِي أَمْ عَلَى طَلَلٍ ... لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَحِبَّاءٌ وَسُمَّارُ؟
وَهَلْ مِن الدَّهْرِ تَشْكُو سُوءَ عِشْرَتِهِ ... لَمْ يُوفِ عَهْدًا وَلَمْ يَهْدَأْ لَهُ ثَارُ؟
هَيْهَاتَ يَا صَاحِبِي آسَىَ عَلَى زَمَنٍ ... سَادَ الْعَبِيدُ بِهِ وَاقْتِيدَ أَحْرَارُ
أَوْ أَذْرِفُ الدَّمْعَ فِي حُبِّ يُفَارُقِنِي ... أَوْ فِي اللَّذَائِذِ وَالآمَالُ تَنْهَارُ
فَمَا سَبَتْنِيَ قَبْلَ الْيَوْمِ غَانِيَةٌ ... وَلا دَعَانِي إِلى الْفَحْشَاءِ فُجَّارُ
أَمَتُّ فِي اللهِ نَفْسًا لا تُطَاوِعُنِي ... فِي الْمَكْرُمَاتِ لَهَا فِي الشَّرِّ إِضْرَارُ
وَبِعْتُ فِي اللهِ دُنْيًا لا يَسُودُ بِهَا ... حَقٌّ وَلا قَادَهَا فِي الْحُكْمِ أَبْرَارُ
وَإِنَّمَا حُزْنِي فِي صِبْيَةٍ دَرَجُوا ... غُفْلٍ عَنْ الشَّرِّ لَمْ يُوقَدْ لَهُمْ نَارُ
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو زَمَانًا أَنْ أَقُودَهُمُ ... لِلْمَكْرُمَاتِ فَلا ظُلْمٌ وَلا عَارُ
وَالآنَ قَدْ سَارَعَتْ دَرْبِي إِلى كَفَنٍ ... يَوْمًا سَيَلْبَسُهُ بَرَّ وَجَبَّارُ
بِاللهِ يَا صِبْيَتِي لا تَهْلِكُوا جَزَعًا ... عَلَى أَبِيكُمْ طَرِيقُ الْمَوْتِ أَقْدَرُ
تَرَكْتُكُمْ فِي حِمَى الرَّحْمَنِ يَكْلَؤُكم ... مَنْ يَهْدِهِ اللهُ لا يُوبِقُهُ أَوْزَارُ
وَأَنْتُم يَا أُهَيْلَ الْحَيِّ صِبْيَتُكُمْ ... أَمَانَةُ عِنْدَكُمْ هَلْ يُهْمَلُ الْجَارُ؟
أَفْدِي بِنَفْسِيَ أُمًا لا يُفَارِقُهَا ... هُمُّ وَتَنْهَارُ حُزْنًا حِينَ أَنْهَارُ
فَكَيْفَ تَسْكُنُ بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ شَجَنٍ ... يَا لَوْعَةَ الثُّكْلِ مَا فِي الدَّارِ دَيَّارُ
وَزَوْجَةً مَنَحَتْنِي كُلَّ مَا مَلَكَتْ ... مِنْ صَادِقِ الْوِدِّ: تَحْنَانٌ وَإِيثَارً
عِشْنَا زَمَانًا هَنِيًّا مِنْ تَوَاصُلُنَا ... فَكَمْ يُؤَرّقُ بَعْدَ الْعِزِّ إِدْبَارُ(6/205)
.. وَإِخْوَةً جَعَلُونِي بَعْدَ فَقْدِ أَبِي ... أَبًا لآمَالِهِمْ رَوْضٌ وَأَزْهَارُ
أَسْتَوْدِعُ اللهَ صَحْبًا كُنْتَ أَذْخَرُهُمْ ... لِلنَائِبَاتِ لَنَا أُنْسٌ وَأَسْمَارُ
الْمُلْتَقَى فِي جِنَا الْخُلْدِ إِنْ قُبِلَتْ ... مِنَّا صَلاةٌ وَطَاعَاةٌ وَأَذْكَارُ
وَفَّقَنَا اللهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدَّهِ، وَالْفَكُرِ فِي أَمْثَالِهِ وَمُعْجِزهِ، وَالتَّبَصَّرُ فِي نُورِ حِكَمِهِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةٌ لِصُهَيْبُ الرُّومِي
لانْتِسَابِ صُهَيْبٍ إِلى الرُّومِ قِصَّةٌ مَا تَزَالُ تَعِيهَا ذَاكِرَةُ التَّارِيخِ، وَتَرْوِيهَا أَسْفَارُه.
فَقَبْلَ الْبِعْثَةِ بِحَوَالِي عَقْدَيْنِ مِن الزَّمَانِ كَانَ يَتَوَلَّى مُلْكَ (الأَبُلَّةِ) سَنَّانُ بن مَالِكٍ النُّمَيْرِيُّ، مِنْ قَبْلِ كِسْرَى مَلِكَ الْفُرْسِ.
وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلادِهِ إِلَيْهِ طِفْلٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْخَامِسَةِ مِنْ عُمُرِه، دَعَاهُ صُهَيْبًا. كَانَ صُهَيْبٌ أَزْهَرَ الْوَجْهِ، أَحْمَرَ الشَّعْرِ، مُتَدَفِّقَ النَّشَاطِ ذَا عَيْنَيْنِ تَتَّقِدَانِ فِطْنَةً وَنَجَابَةً.
وَكَانَ إِلى ذَلِكَ مِمْرَاحًا، عَذْبَ الرُّوحَ، يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ أَبِيهِ وَيَنْتَزِعُ مِنْهُ هُمُومَ الْمُلْكِ انْتِزَاعًا.
مَضَتْ أُمُّ صُهَيْبٍ مَع ابْنِهَا الصَّغِير وَطَائِفَةٍ مِنْ حَشَمِهَا وَخَدَمِهَا إِلى قَرْيَةِ (الثَّنِيِّ) مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَالاسْتجمام، فأغارت على القريةِ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا جَيْشِ الرُّومِ، فَقَتَلَتْ حُرَّاسَها، وَنَهَبَتْ أَمْوَالَهَا، وَأَسَرَتْ ذَرَارِيَّهَا.
فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَتْهُمْ صُهَيْبٌ.
بِيعَ صُهَيْبٌ فِي أَسْوَاقِ الرَّقِيقِ بِبِلادِ الرُّومِ، وَجَعَلَتْ تَتَدَاوَلُهُ الأَيْدِي فَيَنْتَقِلُ(6/206)
مِنْ خِدْمَةِ سَيِّدٍ إِلى آخَرَ شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَشَأْنِ الآلافِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الأَرِقَّاءِ الذِينَ كَانُوا يَمْلأُونَ قُصُورَ بِلادِ الرُّومِ.
وَقَدْ أَتَاحَ ذَلِكَ لِصُهَيْبٍ أَنْ يَنْفُذَ إِلى أَعْمَاق الْمُجْتَمَعِ الرُّوِمِيِّ، وَأَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مِنْ دَاخِلِه، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مَا يُعَشِّشُ فِي قُصُورِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُوبقات وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ مَا يُرْتَكَبُ فِيهَا مِنْ الْمَظَالِمِ وَالْمَآثِمِ. فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ وَازْدَرَاه.
وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ:
إِنَّ مُجْتَمَعًا كَهَذَا لا يُطَهِّرُهُ إِلا الطُّوفَانُ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ صُهَيْبًا قَدْ نَشَأَ فِي بِلادِ الرُّومِ وَشَبَّ عَلَى أَرْضِهَا وَبَيْنَ أَهْلِيهَا.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَسِيَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ كَادَ يَنْسَاهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ بَالِهِ قَطُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحْرَاءِ، وَلَمْ تَفْتُرْ أَشْوَاقُهُ لَحْظَةً إِلى الْيَوْمِ الذِي يَتَحَرَّرُ فِيهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَيَلْحَقُ بِبَنِي قَوْمِهِ.
وَقَدْ زَادَهُ حَنِينًا إِلى بِلادِ الْعَرَبِ فَوْقَ حَنِينِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ كَاهِنًا مِنْ كَهَنَةِ النَّصَارَى يَقُولُ لِسَيِّدٍ مِنْ أَسْيَادِهِ:
لَقَدْ أَطَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ فِي جَزِيزَةِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يُصَدِّقُ رِسَالَةَ عِيسَى بن مَرْيَمَ، وَيُخْرِجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ.
ثُمَّ أُتِيحَتِ الْفُرْصَةُ لِصُهَيْبٍ فَوَلَّى هَارِبًا مِنْ رِقِّ أَسْيَادِهِ، وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى وَمَوْئِلِ الْعَرَبِ، وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ الْمُرْتَقِبَ.
وَلَمَّا أَلْقَى عَصَاهُ فِيهَا أَطْلَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ اسْمَ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ لِلُكْنَةِ لِسَانِهِ وَحُمْرَةِ شَعْرِهِ.(6/207)
وقد حالَفَ صُهَيْبٌ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ مَكَّةَ هُوَ عَبْدُ الله بنُ جُدْعَانٍ وَطَفِقَ يَعْمَلُ فِي التِّجَارَةِ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِ الْخَيْرَ الْوَفِيرَ وَالْمَالَ الْكَثِيرَ.
غَيْرَ أَنَّ صُهَيْبًا لَمْ تُنْسِهِ تجارَتُهُ وَمَكَاسِبُهُ حَدِيثَ الْكَاهِنِ النَّصْرَانِي فَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ كلامُه بِخَاطِرِهِ يُسَائِلُ نَفْسَهُ فِي لَهْفَةٍ: مَتَّى يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى جاءَهُ الجوابُ.
فَفِي ذَاتِ يَوْمٍ عَادَ صُهَيْبٌ إِلى مَكَّةَ مِنْ إِحْدَى رَحَلاتِهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بن عَبْدِ الله قَدْ بُعِثَ وَقَامَ يَدْعُو النَّاسَ إِلى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَيَحُضَّهُمْ عَلَى الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
فَقَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الذِي يُلَقِّبُونَهُ بِالأَمِين؟!
فَقِيلَ لَهُ: بَلَى.
فَقَالَ: وَأَيْنَ مَكَانَهُ.
فَقِيلَ لَهُ: فِي دَارِ الأَرْقَمِ بن أَبِي الأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا ... وَلَكِنْ حَذَارِ مَنْ أَنْ يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنْ رَأَوْكَ فَعَلُوا بِكَ ... وَفَعَلُوَا، وَأَنْتَ رَجُلٌ غَرِيبٌ لا عَصَبِيَّةَ لَهُ تَحْمِيهِ، وَلا عَشِيرَةَ عِنْدَهُ تَنْصُرُه.
مَضَى صُهَيْبٌ إِلى دَارِ الأَرْقَمِ حِذَرًا يَتَلَّفَتُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ عِنْدَ الْبَابِ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلَ، فَتَرَدَّدَ لَحْظَةً ثُمَّ دَنَا مِنْهُ وَقَالَ: مَا تُرِيدُ يَا عَمَّار؟
فَقَالَ عَمَّارٌ: بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ؟
فَقَالَ صُهَيْبٌ: أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَأَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَقُولُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا.
فَقَال صُهَيْبٌ: إِذَنْ نَدْخُلُ مَعًا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.(6/208)
دَخَلَ صُهَيْبُ بن سَنَّانٍ الرُّومِيُّ وَعَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ عَلَى رَسُولِ الله ? وَاسْتَمَعا إِلى مَا يَقُولُ، فَأَشْرَقَ نُورُ الإِيمَانِ فِي صَدْرَيْهِمَا، وَتَسَابَقَا فِي مَدِّ أَيْدِيهِمَا إِلَيْهِ، وَشَهِدَا أَنْ لا إِلهَ إِلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، وَأَمْضَيَا سَحَابَةَ يَوْمِهِمَا عِنْدَهُ، يَنْهَلانِ مِنْ هَدْيِهِ وَيَنْعُمَانِ بِصُحْبَتِهِ.
ولما أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَهَدَأَتَ الْحَرَكَةُ، خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ، وَقَدْ حَمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِن النُّورِ فِي صَدْرِهِ مَا يَكْفِي لإِضَاءَةِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا.
تحمَّلَ صُهَيْبٌ نَصِيبَهُ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ مَعَ بِلالٍ وَعَمَّارٍ وَسُمَّيَةَ وَخَبَّابٍ وَغَيْرِهم مِنْ عَشَرَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَاسَى مِنْ نَكَالِ قُرَيْشٍ مَا لَوْ نَزَلَ بِجَبَلِ لِهَدَّه، فَتَحَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ صَابِرَةٍ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِه.
ولما أَذِنَ الرسولُ لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلى الْمَدِينَةِ، عَزَمَ صُهَيْبٌ عَلَى أَنْ يَمْضِيَ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ وَأَبِي بَكْر، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا شَعَرَتْ بِعَزْمِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ فَصَدَّتْهُ عَنْ غَايَتِه، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الرُّقَبَاءِ حَتَّى لا يَفْلِتَ مِنْ أَيْدِيهم، وَيَحْمِلَ مَعَهُ مَا دَرَّتْهُ عَلَيْهِ التِّجَارَةُ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ.
ظَلَّ صُهَيْبٌ بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ وَصَاحِبِه يَتحَيَّنُ الْفُرَصَ لِلَّحَاقِ بِهِمَا فَلَمْ يُفْلِحْ إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ سَاهِرَةً عَلَيْهِ مُتَيَقِّظَةً لَهُ، فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلاً غَيْرَ اللُّجُوءِ إِلى الْحِيلَةِ.
فَفِي ذَاتِ لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ أَكْثَرَ صُهَيْبٌ مِنْ الْخُرُوجِ إِلى الْخَلاءِ كَأَنَّهُ يَقْضِي الْحَاجَةَ، فَكَانَ لا يَرْجِعُ مِنْ قَضَاءَ حَاجَتِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا.
فَقَالَ بَعْضُ رُقَبَائِهِ لِبَعْضٍ: طَيِّبُوا نَفْسًا فَإِنَّ اللاتَ وَالْعُزَّى شَغَلاهُ بِبَطْنِهِ، ثُمَّ أَوَوْا إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَأَسْلَمُوا عُيُونَهم إِلى الْكَرَى.(6/209)
فَتَسَلَّلَ صُهَيْبٌ مِنْ بَيْنِهِمْ وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَدِينَةِ.
لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ عَلَى رَحِيلِ صُهَيْبٍ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رُقَبَاؤُهُ، فَهَبُّوا مِنْ نَوْمِهِمْ مَذْعُورِين، وَامْتَطَوْا خُيُولَهُمْ السَّوَابِقَ، وَأَطْلَقُوا أَعِنَّتَهَا خَلْفَهُ حَتَّى أَدْرَكُوه.
فَلَمَّا أَحْسَّ بِهِمْ، وَقَفَ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ وَأَخْرَجَ سِهَامِهِ مِنْ كِنَانَتِهِ وَوَتَرَ قَوْسَهُ وَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ - وَاللهِ - أَنِّي مَنْ أَرْمَى النَّاسِ وَأَحْكَمِهِمْ إِصَابَةً.
وَوَاللهِ لا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَ بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِيَ رَجُلاً مِنْكُمْ.
ثُمَّ أَضْرِبُكُمْ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِيِ شَيْءٌ مِنْهُ.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللهَ لا نَدَعُكَ تَفُوزُ مِنَّا بِنَفْسِكَ وَبِمَالِكَ ... لَقَدْ أَتَيْتَ مَكَّةَ صُعْلُوكًا فَقِيرًا فَاغْتَنَيْتَ وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ.
فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ تَرَكْتُ لَكُمْ مَالِي، أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟
قَالُوا: نَعَمْ.
فَدَلَّهم عَلَى مَوْضِعِ مَالِهِ فَأَخْذُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَطْلَقُوا سَرَاحَهُ.
أَخَذَ صُهَيْبٌ يُعِدُّ السَّيْرَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَارًّا بِدِينِهِ إِلى الله.
غَيْرَ آسِفٍ عَلَى الْمَالِ الذِي أَنْفَقَ فِي جَنْيِهِ زَهْرَةَ الْعُمْر.
وَكَانَ كُلَّمَا أَدْرَكَهُ الْوَنَى وَأَصَابَهُ التَّعَبُ اسْتَفَزَّهُ الشَّوْقُ إِلى رَسُولِ اللهِ ? فَيَعُودُ إِلَيْهِ نَشَاطُه، وَيُوَاصِلُ سَيْرَهُ.(6/210)
فَلَمَّا بَلَغَ قُبَاءَ رَآه الرَّسُولُ صَلَواتُ الله عليه وسلامُه مُقْبلاً فَهَشَّ لَهُ وَبَشَّ وَقَالَ:
«رَبِحَ الْبَيْعُ يَا أَبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ» . وَكَرَّرَهَا ثَلاثًا.
فَعَلَتِ الْفَرْحَةُ وَجْهَ صُهَيْبٍ وَقَالَ: وَاللهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ يَا رَسُولَ الله.
وَمَا أَخْبَرَكَ بِهِ إِلا جِبْرِيلٌ.
حَقًّا لَقَدْ رَبِحَ الْبَيْعُ ...
وَصَدَّقَ ذَلِكَ وَحْيُ السَّمَاء ...
وَشَهِدَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ... حَيْثُ نَزَلَ فِي صُهَيْبٍ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} فَطُوبَى لِصُهَيْبِ بن سنَّانٍ الرُّومِيِّ، وَحُسْنُ مَآبٍ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا قَبْلَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْنَا الْجَوَارِحَ وَنَبِّهْنَا مِنْ رَقَدَاتِ الْغَفَلاتِ فَأَنْتَ الْحَلِيمُ الْمُسَامِحُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَانَتْ بِفِرَاق فَيَا وَيْحَ مَنْ كَانَ بِهَا جُلَّ اشْتِغَالِهِ، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا مَعَ تَحقَّقِهِ بِدُنُوِّ ارْتِحَالِهِ. كَيْفَ يَنْخَدِعُ الْيَوْمَ بِبَوَارِقَهَا مَنْ هُوَ غَدًا مُرْتَهِنٌ بَأَعْمَالِهِ كَيْفَ يَغْتَرُّ فِيهَا بِإِمْهَالِهِ وَإِمْهَاله لَمْ يَنْشَأْ إِلا عَنْ إِهْمَالِهِ.
كَيْفَ يَبِيتُ آمِنًا فِي تَوَسَّعِ آمَالِهِ. وَهُوَ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُ مِنْ بَغْتَةِ آجَالِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ طَيْفَ الشَّبِيبَةَ قَدْ رَحَلَ؟ وَكَثِيرًا مَا حَلَّ بِالشَّبَابِ الْمَنُونِ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَوْعِظَة: الْعُمْرُ أَمَانَةٌ أَتْلَفَتَ شَبَابَهِ فِي الْخِيَانَةِ، وَكُهُولَتَهُ فِي الْبَطَالةِ، وَفِي الشَّيْخُوخَةِ تَبْكِي وَتَقُولُ: عُمْرِي قَدْ ضَاعَ، مَتَى أَفْلَحَ الْخَائِنُ فِيمَا اشْتَرَى أَوْ(6/211)
بَاعَ، أَنْتَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا صَحِيحَ الْجِسْمِ، وَفِي طَلَبِ الآخِرَةِ بِكَ أَوْجَاعِ كَمْ تُعُرِّجْ عَنْ سُبُل التَّقْوَى يَا أَعْرَجَ الْهِمَّةِ، يَا مَنْ يَبْقَى فِي الْقَاعِ، يَا مَنْ عَلَى عُمْرِهِ لَيْلُ الْغَفْلَةِ طَلَعَ فَجْرُ الْمَشِيبِ.
أَمَا تَرَوْنَ الشَّيْبَ قَدْ نَزَلَ وَقَبِيحٌ مَعَ الشَّيْبِ الْمُجُونُ. أَمَا تَرَوْنَ سَيْفَ الأَجَلِ قَدْ قَطَعَ الأَمَلَ فَإِلى مَتَى تُؤَمَّلُونَ فِي الْبَقَاءِ وَتَطْمَعُونَ.
أَمَا تَرَوْنَ رِيَاحَ الرَّحِيلَ تَهُبُّ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَسَبِيلٍ فَلِمَ لا تَرْكَبُونَ سُفنَ التَّوْبَةِ وَتُقْلِعُونَ.
أَمَا تَرَوْنَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فِي كُلِّ حَال تُنَادِي بِفَصِيحِ الْمَقَالِ: يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لا مَقَامَ لَكُمْ فَإِلى مَتَى لا تَرْجِعُونَ. هَلْ الأَعْمَارُ فِي الاعْتِبَارِ إِلا أَعْوَامٌ. وَهَلْ الأَعْوَامُ إِلا أَيَّامٌ.
وَهَلْ الأَيَّامُ إِلا سَاعَاتٌ كَالسُّفُُنُ يُنَادِي لِسَانُ سَيْرَهَا: يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لا مَقَامَ. وَهَلِ السَّاعَةُ إِلا أَنْفَاسٌ تُحْصِيهَا الْحَفَظَةُ بِأَمْرِ الْمَلِكِ الْعَلام.
فَمَنْ كَانَ هَذَا أَسَاسَهُ كَيْفَ يَفْرَحُ بِدَار عَمَارُهَا فِي الْحَقِيقَةِ خَرَابٌ.
فَالسَّعِيدُ مَنْ أَضْمَرَ نُفْسَهُ مِنَ الْمَحْوِ وَأَخَفَّ ظَهْرَهُ مِنَ الأَوْزَارِ وَالتَّبِعَاتِ وَاعْتَبَرَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أُوْلى النَّجْدَةِ وَالْهِمَمِ الْعَالِيَةَ.
نُثِرَ: وَالله سِلْكُهمْ بَعْدَ انْتِظَامِهِ. وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ بَعْدَ إِلْتِئَامِهِ وَعَادُوا كَمَنْ مَضَى مِنَ الأَقْرَانِ كَأَنَّمَا يَقْظَتُهُمْ كَانَتْ مَنَام. هَكَذَا الدُّنْيَا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَقْبَلَ عَلَى الْبَاقِي وَأَعْرَضَ عَن الْفَانِي مِنَ الْحُطَامِ. وَجَعَلَ لِشَارِدِ النَّفْسِ مِنَ التَّقْوَى أَقْوَى زِمَام. وَاجْتَنَبَ الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْمَ يُخْرُجُ مِنَ النُّورِ إِلى الظَّلامِ. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ تَوْفِيقًا يُقَرِّبُنَا مِنَ الْحَلالِ وَيُبْعِدُنَا عَن الْحَرَامِ. وَطَرِيقًا إِلى الْخَيْرَاتِ لِنَتَمَسَّكَ بِالزَّمَامِ. وَأَمْنًا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يُبَلِّغُنَا غَايَةَ الْمُنَى. قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} .(6/212)
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزُيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شِعْرًا: ... فِيمَ الرُّكُونُ إِلى دَارِ حَقِيقَتُهَا
كَالطَّيْفِ فِي سِنَةٍ وَالظِّلِّ مِنْ مُزَنِ
دَارِ الْغُرُورِ وَمَأْوَى كُلِّ مُرْزِيَةٍ
وَمَعْدِنِ الْبُؤْسِ وَاللَّوَاءِ وَالْمِحَنِ
الزُّورُ ظَاهِرُهَا وَالْغَدرُ حَاضِرُهَا
وَالْمَوْتُ آخِرُها وَالْكَوْنُ في الشَّطَّنِ
تُبِيدُ مَا جَمَعَتْ تُهِينُ مَنْ رَفَعْتَ
تَضرُّ مَنْ نَفَعَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَنِ
النَّفْسُ تَعْشِقُهَا وَالْعَيْنُ تَرْمُقَها
لِكَوْنِ ظَاهِرهَا فِي صُورَةِ الْحَسَنِ
سَحَّارةٌ تُحْكِمُ التَّخْيِيلَ حَتَّى يُرَى
كَأَنَّهُ الْحَقُّ إِذْ كَانَتْ مِنْ الْفِتَنِ
إِنَّ الإِله بَرَاهَا كَيْ يُمَيْزُ بِهَا
بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلَ الْحُمْقِ وَالْفِطَنِ
فَذُو الْحَمَاقَةِ مَنْ قَدْ ظَلَّ يَجْمَعُهَا
يُعَانِيَ السَّعْيَ مِنْ شَامٍ إِلى يَمَنِ(6/213)
مُشَمِّرًا يَرْكَبُ الأَخْطَارَ مُجْتَهِدًا
لأَجْلِهَا يَسْتَلِينُ الْمَرْكَبَ الْخَشِنِ
وَذُو الْحِجَا يَقْلِهَا زُهْدًا وَيَنْبُذُهَا
وَرَاءَه نَبْذَةَ الأَقْذَارِ فِي الدِّمَنِ
يَرْمِي بِقَلْبٍ بَصِيرٍ فِي مَصَائِرِهَا
فَلا يُصَادِفُ غَيْرَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ
يَجُولُ بِالْفِكْرِ فِي تَذْكَارِ مَنْ صَرَعَتْ
مِنْ مُؤْثِرِيهَا بِسَعْيِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ
مِمَّنْ أَشَادَ مَبَانِيهَا وَأَحْكَمَهَا
لِيَسْتَجِنَّ مِنْ الأَقْدَارِ بِالْجُنَنِ
نَالُوا مَكَارِمَهَا أَحْيَوا مَعَالِمَهَا
سَلُّوا صَوَارِمَهَا لِلْبَغْيِ وَالظَّغَنِ
رَقَوْا مَنَابِرَهَا قَادُوا عَسَاكِرَهَا
بِقُوَّةٍ وَابْتَنَوا الأَمْصَارَ وَالْمُدُنِ
وَعَبَّدُوا النَّاسَ حَتَّى أَصْبَحُوا ذُلُلاً
لأَمْرِهِمْ بَيْنَ مَغْلُوبٍ وَمُمْتَهَنِ
وَجَمَعُوا الْمَالَ وَاسْتَصْفَوا نَفَائِسَهُ
لِمُتْعَةِ النَّفْسِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَنِ
حَتَّى إِذَا امْتَلَئُوا بِشْرًا بِمَا ظَفِرُوا
وَمُكَّنُوا مِنْ عُلاهَا أَبْلَغَ الْمِكَنِ
نَادَاهُمُوا هَادِمُ اللذَّاتِ فَاقتَحَمُوا(6/214)
.. سُبْلَ الْمَمَاتِ فَأَضْحَوا عِبْرَةَ الْفِطَنِ
تِلْكَ الْقُبُورُ وَقَدْ صَارُوا بِهَا رِمَمًا
بَعْدَ الضَّخَامَةِ في الأَجْسَامِ وَالسِّمَنِ
بَعْدَ التَّشَهِّي وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ غَدَا
يَأْكُلْهُمْ الدُّودُ تَحْتَ التُّرْبِ وَاللَّبِنِ
تَغَيَّرَتْ مِنْهُمْ الأَلْوَانُ وَانْمَحَقَتْ
مَحَاسِنُ الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْوُجَنِ
خَلَتْ مَسَاكِنَهُمْ عَنْهُمْ وَأَسْلَمَهُمْ
مَنْ كَانَ يَنْصُرُهُمْ في السِّرِّ وَالْعَلَنِ
وَعَافَهُم كُلُّ مَنْ قَدْ كَانَ يَأْلَفُهم
مِنْ الأَقَارِبِ وَالأَهْلِينَ وَالْخِدَنِ
مَا كَانَ حَظُّهُمْ مِنْ عَرْضِ مَا اكْتَسَبُوا
غَيْرَ الْحَنُوطِ وَغَيْرَ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ
تِلْكَ الْقُصُورُ وَتِلْكَ الدُّورُ خَاوِيَةٌ
يَصِيحُ فِيهَا غُرَابُ الْبَيْنِ بِالْوَهَنِ
فَلَوْ مَرَرْتَ بِهَا وَالْبُومُ يَنْدُبُهَا
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لَمْ تَلْتَذَّ بِالْوَسَنِ
وَلا تَجَمَّلْتَ بِالأَرْيَاشِ مُفْتَخِرًا
وَلا افْتَتَنْتَ بِحُبِّ الأَهْلِ وَالسَّكَنِ
وَلا تَلَذَّذْتَ بِالْمَطعُومِ مُنْهَمِكَا
وَلا سَعِيت لِدُنْيَا سَعَيَ مُفْتَتَنِ(6/215)
.. وَلا اعْتَبَرْتَ إِذَا شَاهَدْتَ مُعْتَبَرًا
تَرَاهُ بِالْعَيْنِ أَوْ تَسْمَعْهُ بِالأُذُنِ
إِنَّ الْمَوَاعِظَ لا تُغْنِي أَسِيرَ هَوَى
مُقْفَّلَ الْقَلْبِ فِي حَيْدٍ عَنْ السُّنَنِ
مُسْتَكْبِرًا يَبْطُرُ الْحَقَّ الصَّرِيحَ إِذَا
يُلْقَى إِلَيْهِ لِفَرْطِ الْجَهْلِ وَالشَّنَنِ
يُمَنِّيُ النَّفْسَ أَمْرًا لَيْسَ يُدْرِكُه
إِنَّ الأَمَانِيَّ مِقْطَاعٌ عَنْ الْمِنَنِ
يَكْفِي اللَّبِيبَ كِتَابُ اللهِ مَوْعِظَةً
كَمَا أَتَى فِي حَدِيثِ السَّيِّدِ الْحَسَنِ
مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ قُدْوَتِنَا
مُطَهِّرِ الْجَيْبِ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ دَرَنِ
عَلَيْهِ مِنَّا صَلاةُ اللهِ دَائِمَةً
مَا سَارَتْ الرِّيحُ بِالأَمْطَارِ وَالسُّفُنِ
وَالآلِ وَالصَّحْبِ مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ
وَمَا بَكَتْ عَيْنُ مُشْتَاقٍ إِلى وَطَنِ
قِصَّة لِزَيْدِ بن حَارِثَةْ
مَضَتْ سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَبْتَغِي زِيَارَةَ قَوْمِهَا بَنِي مَعْنٍ، وَكَانَتْ تَصْحَبُ مَعَهَا غُلامَهَا زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ الْكَعْبِيَّ.
فَمَا كَادَتْ تَحُلُّ فِي دِيَارِ قَوْمِهَا حَتَّى أَغَارَتْ عَلَيْهِمْ خَيْلٌ لِبَنِي الْقَيْنِ فَأَخَذُوا الْمَالَ وَاسْتَاقُوا الإِبْلِ، وَسَبَوْا الذَّرَارِي، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنِ احْتَمَلُوهُ مَعَهُمْ وَلَدُهَا زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ.(6/216)
وَكَانَ زَيْدٌ - إِذْ ذَاكَ - غُلامًا صَغِيرًا يَدْرُجُ نَحْوَ الثَّامِنَةِ مِنْ عُمْرِهِ، فَأَتَوْا بِهِ سَوْقَ عُكَاظٍ وَعَرَضُوهُ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ ثَرِيٌّ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ هُوَ حَكِيمُ بن حِزَامِ بن خُوَيْلِدٍ بَأَرْبِعِمَائَةِ دِرْهَمٍ.
وَاشْتَرَى مَعَهُ طَائِفَةً مِنْ الْغُلْمَانِ، وَعَادَ بِهِمْ إِلى مَكَّةَ.
فَلَمَّا عَرَفَتْ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ بِمَقْدِمِه، زَارَتْهُ مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ، مُرَحِّبَةً بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَمَّة، لَقَدْ ابْتَعْتُ مِنْ سُوقِ عُكاظ طائفةً من الغِلمان فاخْتَارِي أَيًّا منهم تَشَائينَهُ، فهو هَدِيَّةٌ لَكِ.
فَتَفَرَّسَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ وُجُوهَ الْغُلْمَانِ ... وَاخْتَارَتْ زَيْدَ بن حَارِثَةَ، لِمَا بَدَا لَهَا مِنْ عَلامَاتِ نَجَابَتِهِ، وَمَضَتْ بِهِ.
وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَزَوَّجَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلَدٍ مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ الله، فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْرِفَهُ وَتُهْدِي لَهُ، فلمْ تَجِدْ خيرًا من غلامِها الأثيرِ زيدِ بن حارِثَةَ، فَأَهْدَتْهُ إِلَيْهِ.
وَفِيمَا كَانَ الغلامُ الْمَحْظُوظُ يَتَقَلَّبُ في رِعَايَةِ محمدِ بنِ عَبْدِ الله، وَيَحْظَى بِكَرِيمِ صُحْبَتِهِ، وَيَنْعُمُ بِجَمِيلِ خِلالهِ.
كانت أُمُّهُ المفجوعةُ بفَقْدِهِ لا تَرْفَأْ لَهَا عَبْرَةٌ وَلا تَهْدَأْ لها لَوْعَةٌ وَلا يَطْمَئِنُّ لها جَنْبٌ.
وَكَانَ يُزِيدُهُا أسىً على أساها أنها لا تَعْرِفُ أَحَيٌّ هو فَتَرْجُوهُ أَمْ مَيْتٌ فَتَيْأَسُ مِنْهُ.
أما أبوه فأخذ يَتَحَرَّاهُ في كلِّ أَرْضٍ، وَيُسَائِلُ عنه كلَّ رَكْبٍ ويَصُوغُ حنينَه إليه شِعْرًا حَزِينًا تَتَفَطَّرُ له الأكباد حيث يقول:(6/217)
بكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ
أَحَيٌّ فَيُرَجَّى أَمْ أَتَى دُونَه الأَجَلْ؟
فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ
أَغَالَكَ بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَكَ الْجَبَلْ
تُذْكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا
وَتُعْرِضُ ذِاكْرَاهُ إِذَا غَرْبُهَا أفَلْ
سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ في الأَرْضِ جَاهِدًا
وَلا أَسْأَمَ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمَ الإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي
فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ: وَفِي مُوسِمٍ مِنْ مَوَاسِمِ الْحِجِّ قَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِ زَيْدٍ وَفِيمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، إِذَا هُمْ بِزَيْدٍ وِجْهًا لِوَجْهٍ، فَعَرَفُوهُ وَعَادُوا إِلى دِيَارِهِمْ أَخْبَرُوا حَارِثَةَ بِمَا رَأَوْا وَحَدَّثُوهُ بِمَا سَمِعُوا.
فَمَا أَسْرَعَ أَنْ أَعَدَّ حَارِثَةُ رَاحِلَتَهُ، وَحَمَلَ مِنَ الْمَالِ مَا يَفْدِي بِهِ فَلَذَةَ الْكَبِدِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ، وَصَحَبَ مَعَهُ أَخَاهُ كَعْبًا، وَانْطَلَقَا مَعًا يُغِذَّانِ السَّيْرَ نَحْوَ مَكَّةَ. فَلَمَّا بَلَغَاهَا دَخَلا عَلَى مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ وَقَالا لَهُ:
يَا ابنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْتُمْ جِيرَانُ الله، تَفُكُّونَ الْعَانِيَ، وَتُطْعِمُونَ الْجَائِعَ، وَتُغِيثُونَ الْمَلْهُوفَ.
وَقَدْ جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا الذِي عِنْدَكَ وَحَمَلْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْمَالِ مَا يَفِي بِهِ. فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَفَادِهِ لَنَا بِمَا تَشَاءُ.
فَقَالَ مُحَمَّد: ((وَمَنْ ابْنُكُمَا الذِي تَعْنِيَانِ)) ؟(6/218)
فَقَالَ: غُلامُكَ زَيْدُ بنُ حَارِثَة.
فَقَالَ: ((وَهَلْ لَكُمَا فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْفِدَاءِ)) ؟
فَقَالا: وَمَا هُوَ؟!
فَقَالَ: ((أَدْعُوهُ لَكُمْ، فَخَيَّرُوهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنْ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِغَيْرِ مَالٍ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَمَا أَنَا - والله - بِالذِي يَرْغَبُ عَمَّنْ يَخْتَارُه)) .
فَقَالا: لَقَدْ أَنْصَفْتَ وَبَالَغْتَ فِي الإِنْصَافِ.
فَدَعَا مُحَمَّدٌ زَيْدًا وَقَالَ:
((مَنْ هَذَانِ)) ؟
قَالَ: هَذَا أَبِي حَارِثَةُ بنُ شُرَاحِيلَ، وَهَذَا عَمِّي كَعْبٌ.
فَقَالَ: ((قَدْ خَيَّرْتُكَ: إِنْ شِئْتَ مَضَيْتَ مَعَهُمَا، وَإِنْ شِئْتَ أَقَمْتَ مَعِي)) .
فَقَالَ - فِي غَيْرِ إِبْطَاءٍ وَلا تَرَدُّدٍ -: بَلْ أُقِيمَ مَعَكَ.
فَقَالَ أَبُوهُ: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ، أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَبِيكَ وَأُمِّكَ؟!
فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا، وَمَا أَنَا بِالذِي يُفَارِقُهُ أَبَدًا.
فَلَمَّا رَأَى مُحَمَّدٌ مِنْ زَيْدٍ مَا رَأَى، أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَهُ إِلى الْبَيْتَ الْحَرَامِ وَوَقَفَ بِهِ بِالْحِجْرِ عَلَى مَلاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ:
((يَا مَعْشَرَ قُرَيْش اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُه)) ...
فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ وَعَمِّهِ، وَخَلَّفَاهُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ، وَعَادَ إِلى قَوْمِهِمَا مُطْمَئِنِّي النَّفْسَ مُرْتَاحِي الْبَالِ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَصْبَحَ زَيْدُ بنُ حَارِثَهَ يُدْعَى بِزَيْدِ بن مُحَمَّدٍ، وَظَلَّ يُدْعَى كَذَلِكَ حَتَّى بُعِثَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَأَبْطَلَ الإِسْلامَ التَّبَنِّي حَيْثُ نَزَلَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَأَصْبَحَ يُدْعَى: زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ.(6/219)
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ زَيْدٌ - حِينَ اخْتَارَ مُحَمَّدًا عَلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ - أَيَّ غُنْمٍ غَنِمَهُ.
وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي أَنَّ سَيِّدَهُ الذِي آثَرَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ هُوَ سَيِّدُ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ، وَرَسُولُ الله إلى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ.
وَمَا خَطَرَ لَهُ بِبَالٍ أَنَّ دَوْلَةً لِلسَّمَاءِ سَتَقُومُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتَمْلأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِبِ بِرًّا وَعَدْلاً، وَأَنَّهُ هُوَ نَفْسَهُ سَيَكُونُ اللَّبِنَةَ الأُولى فِي بِنَاءِ هَذِهِ الدَّوْلَة العظمى ...
لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَدُورُ فِي خَلَدِ زَيْدٍ ... وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ... وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ عَلَى حَادِثَةِ التَّخْيِيرِ هَذِهِ إِلا بِضْعُ سِنِينَ حَتَّى بَعَثَ الله نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينِ الْهُدَى وَالْحَقِّ، فَكَانَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ من الرِّجَال.
وَهَلْ فَوْقَ هَذِهِ الأَوَّلِيَّةِ أَوَّلِيَّةٌ يَتَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُون؟!
لَقَدْ أَصْبَحَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ أَمِينًا لِسِرِّ رَسُولِ اللهِ، وَقَائِدًا لِبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ وَأَحَدَ خُلَفَائِهِ عَلَى الْمَدِينَةَ إِذَا غَادَرَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وَكَمَا أَحَبَّ زَيْدٌ النَّبِيَّ وَآثَرَهُ عَلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ، فَقَدْ أَحَبَّهُ الرَّسُولُ الْكَرِيمِ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ وَبَنِيهِ، فَكَانَ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَيَفْرَحُ بِقُدُومِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ، وَيَلْقَاهُ لِقَاءٌ لا يَحْظَى بِمِثْلِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ.
فَهَا هي ذي عائِشَةُ رِضْوَانُ الله عليها تُصَوِّرُ لنا مَشْهَدًا من مَشَاهِدِ فَرْحَةِ رَسُولِ الله ? بِلِقَاءِ زَيْدٍ فَتَقُولُ: (قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللهِ(6/220)
فِي بَيْتِي فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ عُرْيَانًا - لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ - وَمَضَى إِلى الْبَابِ يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. وَاللهِ مَا رَأَيْتُ رَسُولُ اللهِ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَقَدْ شَاعَ أَمْرُ حُبِّ النَّبِيِّ لِزَيْدٍ بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَفَاضَ، فَدَعَوْهُ (بَزِيدِ الْحُبِّ) وَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقبِ (حِبِّ) رَسُولِ الله، وَلَقَّبُوا ابْنَهُ أُسَامَةَ مِنْ بَعْدِهِ بِحِبِّ رَسُولِ اللهِ وَابْنِ حِبِّه.
وفي السنة الثامنة من الهجرة شاء الله - تَبَارَكَتْ حِكْمَتُه - أن يَمْتَحِنَ الحبيبَ بفراقِ حبيبِه.
ذلك أنَّ الرسولَ صلواتُ الله وسلامُه عليه، بَعَثَ الحارِثَ بن عُمَيْرٍ الأزْدِيَّ بِكِتَابٍ إِلى مَلِكِ بُصْرَى يدعوه فيه إلى الإِسْلامِ، فَلَمَّا بلغَ الحارثُ (مُؤْتَةَ) بشرقي الأردن، عَرَضَ له أحدُ أمراءِ الغساسِنَةِ شُرْحَبِيلُ بنُ عمرو فأخَذَه، وشدَّ عليه وثاقه، ثم قَدَّمَهَ فَضَرَبُ عُنُقَه.
فاشتدَّ ذلك على النبيِّ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه إذ لم يُقْتَلْ له رسولٌ غَيْرُه.
وَجهَّزَ جَيْشًا مِنْ ثَلاثةِ آلافِ مُقَاتِلٍ لِغَزْوِ مُؤْتَةَ وَوَلَّى على الجيشِ حبيبَه زَيدَ بنَ حارِثَةَ، وَقَالَ: إِنْ أُصِيبَ زيدٌ فَتَكُونُ الْقِيَادَةُ لِجَعْفَرِ بنِ أبي طالب، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرُ كَانتْ إلى عبدِ الله بنِ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ الله فَلَيَخْتَرَ المسلمون لأنفسهم رجلاً منهم.
مضى الجيشُ حتى وصَلَ إلى (معان) بشرقي الأُرْدُن.(6/221)
فَهَبَّ هِرْقَلُ ملكُ الرومِ على رأسِ مائةِ ألفِ مُقَاتِلٍ للدفاعِ عَنْ الْغَسَاسِنَة وَانضمَّ إليه مَائةُ أَلْفٍ مِنْ مُشْرِكي العرب، وَنَزَلَ هذا الجيشُ الْجَرَّارُ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ مواقع المسلمين.
باتَ المسلمون في (معان) ليلتين يتشاورون فيما يصنعون.
فقال قائلٌ: نَكْتُبُ إلى رسولِ الله وَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنا وَنَنْتَظِرُ أَمْرَه.
وقال آخر: والله - يا قوم - إِنَّنَا لا نُقَاتِلُ بَعَدَدٍ وَلا قُوَّةٍ وَلا كُثْرَةٍ وَإِنَّمَا نُقَاتِلُ بِهَذَا الدِّينِ.
فَانْطَلِقُوا إِلى مَا خَرَجْتُمْ لَهُ.
وقد ضَمِنَ الله لَكُمْ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا الظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادة.
ثُمَّ الْتَقَى الجمعان على أرضِ مُؤتَةَ، فقاتَلَ المسلمون قِتَالاً أَذْهَلَ الرُّومَ وَمَلأَ قُلُوبَهُمْ هَيْبَةً لِهَذِهِ الآلافِ الثلاثةِ التي تَصَدَّتْ لِجَيْشِهِمْ الْبَالِغِ مائتي ألفٍ.
وجالَدَ زيدَ بن حارِثَةَ عن رَايَةِ رسولِ الله ? جِلادًا لم يَعْرِفْ له تاريخُ الْبُطُولاتِ مَثِيلاً حَتَّى خَرَّقَتْ جَسَدَهُ مِئَاتُ الرِّمَاحِ فَخَرَّ صَرِيعًا يَسْبَحُ فِي دِمَائِهِ.
فَتَنَاوَلَ مِنْهُ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طالبٍ وَطَفِقَ يَذُودَ عنها أَكْرَمَ الذَّوْدِ حَتى لَحِقَ بصاحبه.
فتناول منه الرايةَ عبدُ الله بنُ رَوَاحَةَ فَنَاضَلَ عنها أَبْسَلَ النِّضَالِ حَتَّى انْتَهَى إلى ما انْتَهَى إليه صاحباه.
فأَمَّرَ النَّاسُ عليهم خالدَ بنَ الْوَلِيدِ - وكان حَدِيثَ إِسْلامٍ - فانْحَازَ بالجيش، وأنقذه من الفناءِ الْمُحَتَّمِ.(6/222)
بلغت رسولَ الله ? أنباءُ مُؤْتَةَ، وَمَصْرَعُ قَادَتِهِ الثَّلاثَةِ فَحَزِنَ عَلَيْهِمْ حُزْنًا لَمْ يَحْزَنْ مِثْلَهُ قَطُّ.
وَمَضَى إِلى أهليهم يُعَزِّيهِمْ بِهِمْ.
فلما بَلَغَ بَيْتَ زَيْدِ بنِ حارِثَةَ لاذَتْ بِهِ ابْنَتُهُ الصَّغِيرَةُ وَهِيَ مُجْهِشَةٌ بِالْبُكَاءِ فَبَكَى رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى انْتَحَب.
فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَة:
مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!
فَقَالَ عليه الصلاةُ والسلام:
((هذا بُكاءُ الحبِيبِ على حبيبِه)) .
اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتِكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ إِنَّ طَاعَةَ اللهِ صَلاحٌ في الأَرْضِ لِهَذَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالطَّاعَاتِ، وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ تُرْضِي اللهَ سُبْحَانَهُ لأَنَّهَا شُكْرٌ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ الْمُتَوَالِيَاتِ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَحُثَّ عَلَيْهَا وَأَنْ نَأْمُرَ مَنْ تَرَكَ الطَّاعَةَ أضنْ يَعُودَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَأَنْ نَنْكِرَ عَلَى مَنْ رَأَيْنَاهُ يَقْتَرِفُ مَعْصِيَةَ مِنْ الْمَعَاصِي، لأَنَّ الْمَعَاصِي بِكُلِّ أَنْوَاعِهَا شُرُورٌ وَأَضْرَارٌ(6/223)
وَفَسَادٌ وَلَهَا شُؤْمٌ قَدْ يَعُمُّ الدُّنْيَا وَيَفْعَلُ الأَفَاعِيلَ الْعِظَامِ فِي بَنِي الإِنْسَانِ وَمِنْ آثَارِهَا الْمُضرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ: أَنَّهَا إِفْسَادٌ لِلْعَقْلِ فَإِنَّ الْعَقْلَ نُورٌ وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِي مَدَدٌ مِنْ الإِنْسَانِ يَمُدُّ بِهَا عَدُوَّهُ عَلَيْهِ وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَزْرَعُ أَمْثَالهَا مِنْ الْمَعَاصِيَ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمْرِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ شَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُعَسِّرُ عَلَى الإِنْسَانِ أُمُورَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ الْوَحْشَة بَيْنَ الْعَاصِي وَبَيْنَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحَيَاءَ وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللهِ لِعَبْدِهِ وَتَرْكِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنْ الْقَلْبَ نَارَ الْغَيرَةِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ وَتَطْمِسُ نُورَهُ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسْقِطُ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ إِلى مَالا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ الأَضْرَارِ لِهَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَنْهَي عَنِ الْمَعَاصِي لاسِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مِنْ كِبَارِ الْمَعَاصِي، وَلا تَنْسَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَعَنَهُمْ اللهُ لَمَّا فَقَدُوا الْغَيرَةَ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرمَاتِ وَلا تَنَاهَوْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَأَمَّل أَحْوَالَ الأُمَم وَمَا حَلَّ بِهَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ بِأَسْبَابِ الذُّنُوبِ قاَلَ تَعَالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
وَذَكَرَ ابنُ كَثِيرٍ أَنَّ فِي سَنَةِ سَبْع وَتِسْعِينَ وَخَمْسُمائة 597 اشْتَدَّ الْغَلاءُ بَأَرْضِ مَصْرَ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدّاً مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالأَغْنِيَاءِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَنَاءٌ عَظِيمٌ حَتَّى حَكَى الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ أَنَّ الْعَادِلَ كَفَّنَ مِنْ مَالِهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ نَحْواً مِنْ مَائَتَيْ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ مَيِّتٍ (220000) وَأُكِلَتِ الْكِلابُ وَالْمَيْتَاتُ فِيهَا بِمَصْرَ وَأُكِلَ مِنْ الصِّغَارِ وَالأَطْفَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَشْوِي الصَّغِيرَ وَالِدَاهُ وَيَأْكُلانِهِ وَكَثُرَ فِي النَّاسَ هَذَا جِدّاً حَتَّى صَارَ لا يُنْكَرُ بَيْنَهُمْ،(6/224)
فَلَمَّا فَرَغَتِ الأَطْفَالُ وَالْمَيْتَاتُ غَلَبَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يَحْتَالُ عَلَى الْفَقِيرِ فَيَأْتِي بِهِ لِيُطْعِمَهُ أَو لِيُعْطِيَهُ شَيْئاً ثُمَّ يَذْبَحَهُ وَيَأْكُلهُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْبَحُ امْرَأَتَهُ وَيَأْكُلُهَا وَشَاعَ هَذَا بَيْنَهُمْ بِلا إِنْكَارٍ وَلا شَكْوَى بَلْ عَذَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَأْسٍ وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الأَطِبَّاءِ الذِينَ يُسْتَدْعَونَ إِلى الْمَرْضَى فَكَانُوا يُذْبَحُونَ وَيُؤْكَلُونَ كَانَ الرَّجُلُ يَسْتَدِعي الطَّبِيبَ ثُمَّ يَذْبَحُه وَيَأْكُلُه. وَقَدْ اسْتَدْعَى رَجُلٌ طَبِيباً حَاذِقاً وَكَانَ الرَّجُلُ مُوسِراً مِنْ أَهْلِ الْمَالِ فَذَهَبَ الطَّبِيبُ مَعَهُ عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ وَيَذْكُرَ اللهَ وَيُسَبِّحُه وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ فَارْتَابَ بِهِ الطَّبِيبُ وَتَخَيَّلَ مِنْهُ وَمَعَ هَذَا حَمَلَهُ الطَّمَعُ عَلَى الاسْتِمْرَارِ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَهُ فَإِذَا هِيَ خَرِبَةٌ فَارْتَابَ الطَّبِيبُ أَيْضاً فَخَرَجَ صَاحِبُه فَقَالَ لَهُ:
وَمَعَ الْبُطْءِ جِئْتَ لَنَا بِصَيْدٍ فَلَمَّا سَمِعَهَا الطَّبِيبُ هَرَبَ فَخَرَجَا خَلْفَهُ سِرَاعاً فَمَا خَلَصَ إِلا بَعْدَ جَهْدٍ وَشَرٍّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ 597 وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلادِ عَنْزَةَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَكَانُوا عِشْرِينَ قَرْيَةً فَبَادَتْ مِنْهَا ثَمَانِيَة عَشَرَ لَمْ يَبْقَ دَيَّارٌ وَلا نَافِخُ نَارٍ وَبَقِيَتْ أَنْعَامُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لا قَانِيَ لَهَا. وَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الْقُرَى وَلا يُدْخِلَهَا. بَلْ كَانَ مَنْ اقْتَرَبَ إِلى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى هَلَكَ مِنْ سَاعَتِه.
نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ أَمَّا الْقَرْيَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهَا أَحَدٌ وَلا عِنْدَهُمْ شُعُورٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ بَلْ هُمْ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُفْتَقَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ. انْتَهَى كَلامُه.
وذكر السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء أن في سنة 524 ارتفع سحابٌ(6/225)
أَمْطَرَ بَلَدَ الْمَوْصِلِ نَاراً أَحْرَقَتْ من الْبَلَد مَوَاضِعَ كَثِيرَةً وَدُوراً كَثِيرَةً وَظَهَرَ فِيهَا بِبَغْدَاد عِقَابٌ طَيَّارة لَهَا شَوْكَتَانَ وَخَافَ النَّاسُ مِنْهَا وَقَدْ قَتَلَتْ جَمَاعَةَ أَطْفَالٍ.
هَذَا كُلَّهُ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وَمَنْ نَظَرَ إِلى الْحَالَةِ الْيَوْمَ وَمَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ مِنَ الْمَعَاصِي انْتَشَارَ الْوَبَاءِ وَرَأَى النِّعَمَ فِي الْمَزَابِلِ وَرَأَى الْكُتُبَ الدِّينِيَّةِ تُطْرَحُ كَذَلِكَ مَعَ الْقُمَامَةِ وَفِي الشَّوَارِع تُدَاسُ وَلا آمِرَ وَلا نَاهِي مَلأَ الْخَوْفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ صَدْرَهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الدِّينِ وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لِدِينِهِ مَرَضَ مِمَّا رَأَى وَسَمِعَ نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَخُصَّ بِالْعُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَهَا وَمَنْ رَضَى بِهَا وَمَنْ عَلِمَ بِهَا وَقَدِرَ عَلَى إِزَالَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ.
اللَّهُمَّ ابْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلَ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُزَالُ فِيهِ مَا حَدَثَ مِنْ بِدَعِ وَمُنْكَرَاتٍ وَمَعَاصِي وَيُحْيَا بِهِ بَدَلُهَا مَا أُمِيتَ مِنْ سُنَّةٍ وَغيرَةٍ وَشِيمَةٍ كَرِيمَةٍ وَمُرُوءَةٍ جَمِيلَةٍ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن مُعَمَّر
يَرْثِي أَهْلَ الدَّرْعِيَّةِ بَعْدَ مَا هَدَمَهَا الظَّالِمُ الطَّاغِيَةُ وَجُنُودُهُ إِبْرَاهِيمُ بَاشَا جَازَاهُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ هُوَ وَأَعْوَانَهُ.
إِلَيْكَ إِلَهَ الْعَرْشِ أَشْكُو تَضَرُّعَا
وَأَدْعُوكَ فِي الضَّرَّاءِ رَبِّي لِتَسْمَعَا
فَكَمْ قَتَلُوا مِنْ فِتْيَةِ الْحَقِّ عُصْبَةً
هُدَاةً وَضَاةًَ سَاجِدِينَ وَرُكَّعَا(6/226)
وَكَمْ دَمَّرُوا مِنْ مَرْبَع كَانَ آهِلاً
وَقَدْ تَرَكُوا الدَّارَ الأَنِيسَةَ بَلْقَعَا
فَأَصْبَحَتْ الأَمْوَالُ فِيهِمْ نَهَائِباً
وَأَصْبَحَتْ الأَيْتَامُ غَرْثىً وَجُوَّعَا
وَفَرَّ عَنْ الأَوْطَانِ مِنْ كَانَ قَاطِناً
وَفُرِّقَ إِلْفٌ كَانَ مُجْتَمِعاً مَعَا
مَضَوْا وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ حِينَ أَوْرَدُوا
ثَنَاءً وَذِكْراً طِيبُه قَدْ تَضَوَّعَا
فَجَازَاهُمْ اللهُ الْكَرِيمُ بِفَضْلِهِ
جِنَاناً وَرِضْوَاناً مِنْ اللهِ رَافِعَا
فَإِنْ كَانَتْ الأَشْبَاحُ مِنَّا تَبَاعَدَتْ
فَإِنَّ لأَرْوَاحِ الْمُحِبِّينَ مَجْمَعَا
عَسَى وَعَسَى أَنْ يَنْصُرَ اللهُ دِينَهُ
وَيَجْبرَ مِنَّا مَأْمَناً قَدْ تَصَدَّعَا
وَيُظْهِرَ نُورَ الْحَقِّ يَعْلُو ضِيَاؤُه
فَيُضْحِي ظَلامُ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ مُقْشِعَا
إِلَهِي فَحَقِّقْ ذَا الرَّجَاءَ وَكُنْ بِنَا
رَؤُفاً رَحِيماً مُسْتَجِيباً لَنَا الدُّعَا
أَلا أَيُّهَا الإِخْوَانِ صَبْراً فَإِنَّنِي
أَرَى الصَّبْرَ لِلْمَقْدُورِ خَيْراً وَأَنْفَعَا(6/227)
فَلا تَيْأَسُوا مِنْ كَشْفِ ثَابَ إِنَّهُ
إِذَا شَاءَ رَبِّي كَشَفَ كَرْبٍ تَمَزَّعَا
وَمَا قُلْتُ إِذَا أَشْكُو إِلى الْخَلْقِ نَكْبَةً
وَلا جَزَعاً مِمَّا أَصَابَ فَأَوْجَعَا
فَمَا كَانَ هَذَا الأَمْرُ إِلا
بِهَا قَهَرَ اللهُ الْخَلائِقَ أَجْمَعَا
وَذَلِكَ عَنْ ذَنْبٍ وَعِصْيَانِ خَالِقٍ
أُخِذْنَا بِهِ حَيْناً فَحِينَا لِنَرْجِعَا
وَقَدْ آنَ أَنْ نَرْجُو رِضَاهُ وَعَفْوَهُ
وَأَنْ نَعْرِفَ التَّقْصِيرَ مِنَّا فَنُقْلِعَا
فَيَا مُحْسِناً قَدْ كُنْتَ تُحْسِنُ دَائِماً
وَيَا وَاسِعاً قَدْ كَانَ عَفْوُكَ أَوْسَعَا
نَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ سُوءِ صُنْعِنَا
فَإِنَّ لَنَا فِي الْعَفْوِ مِنْكَ لَمَطْمَعَا
أَغِثْنَا أَغِثْنَا وَارْفَعْ الشِّدَّةَ الَّتِي
أَصَابَتْ وَصَابَتْ وَاكْشِفِ الضُّرَّ وَارْفَعَا
وَجُدْ وَتَفَضَّلْ بِالذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
مِنْ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَا
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ فَاعِلِينَ لَهُ، وَنَاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمُجْتَنِبِينَ لَهُ.(6/228)
اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ فِي قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
نُبْذَةٌ مِنْ حَيَاةِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ
جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ هُوَ أَخُو عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ سُمُوِّ شَرَفِهِ فِي قُرَيْشٍ وَعُلوَ مَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ رَقِيقُ الْحَالِ كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ ازْدَادَتْ حَالُهُ سُوءاً بِسَبَبِ تِلْكَ السَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي نَزَلَتِ بِقُرَيْش فَأَهْلَكَتْ الزَّرْعَ وَأَيْبَسَتْ الضَّرْعَ وَأَكَلَ بَعْضُ النَّاسِ الْعِظَامَ الْبَالِيَةَ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَئِذٍ أَيْسَرُ مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ وَمِنْ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: ((يَا عَمُّ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِب كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ شِدَّةِ الْقَحْطِ وَمَضَضِ الْجُوعِ فَانْطَلَقْ بِنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَحْمِلَ عَنْهُ بَعْضَ عِيَالِهِ فآخُذُ أَنَا فَتَىً مِنْ بَنِيهِ وَتَأْخُذُ أَنْتَ فَتَىً آخرَ فَنَكْفِيهَماَ عَنْهُ)) .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لَقَدْ دَعَوْتَ إِلى خَيْر وَحَضَضْتَ عَلَى بِرٍّ ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالا لَهُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ بَعْضَ مَا تَحْمِلُه مِنْ عِبْءِ عَيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ هَذَا الضُّرُّ الذِي مَسَّ النَّاسِ فَقَالَ لَهُمَا: إِذَا تَرَكْتُمَا عَقِيلا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا.
فَأَخَذَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِياً وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفراً وَجَعَلَهُ فِي عِيَالِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَيَّ مَعَ مَحْمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللهُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْهُدَى فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنِ بِهِ مِنْ الْفِتْيَانِ.
وَبَقِيَ جَعْفَرُ مَعَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ حَتَّى شَبَّ وَأَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ، انْضَمَّ جَعْفَرُ إِلى رَكبِ النُّورِ هُو وَزَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُنْذُ أَوَّلَ الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسْلَمَا عَلى يَدَيْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الأَرْقَم وَلَقِيَ جَعْفَرُ وَزَوْجَتُهُ مِنْ أَذَي قُرَيْشٍ وَنَكَالِهَا مَا لَقِيَهُ(6/229)
الْمُسْلِمُونَ الأَوَّلُونَ فَصَبَرا عَلَى الأَذَى لأَنَّهُمَا كَانَ يَعْلَمَانِ أَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مَفْرُوشٌ بِالأَشْوَاكِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ.
وَلَكِنْ الذِي كَانَ يَنْغِّصُهُمَا وَيُنَغِّصُ عَلَى إِخْوَانِهِمَا فِي اللهِ أَنَّ قُرَيْشاً كَانَتْ تَحُولُ دُونَهُمْ وَدُونَ شَعَائِرِ الإسْلامِ وَتَحْرِمُهم مِنْ أَنْ يَتَذَوَّقُوا لَذَّة الْعِبَادَةِ فَقَدْ كَانَتْ تَقِفُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَرْصَدٍ.
عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَأْذَنَ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنْ يُهَاجِرَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَنَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ حَزِينٌ فَقَدْ كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرْغَمَ هَؤُلاءِ الأَطْهَارِ عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَمُبَارَحَةِ مَرَاتِعِ طَفَولِتِهِمْ وَدِيَارِهِمْ دُونَ ذَنْبٍ جَنُوهُ إِلا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكْ مِنْ الْقُوَّةُ مَا يَدْفَعُ بِهِ أَذَى قُرَيْشٍ.
مَضَى رَكْبُ الْمُهَاجِرِينَ إِلى أَرْضِ الْحَبَشِةِ وَعَلى رَأْسِهِمْ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَاسْتَقَرُّوا عِنْدَ النَّجَاشِيّ الْمَلِكِ الصَّالِحِ فَتَذَوَّقُوا مِنْذُ أَسْلَمُوا طَعْمَ الأَمْنِ وَاسْتَمْتَعُوا بِحَلاوَةِ الْعِبَادَةِ دُونَ أَنْ يُكَدِّرَ عَلَيْهِمْ مُكَدِّرٌ.
لَكِنْ قُرَيْشٌ مَا كَادَتْ تَعْلَمُ بِرَحِيلِ هَذَا النَّفَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلى أَرْضِ الْحَبَشِة وَتَقَف عَلَى مَا نَالُوهُ فِي حِمَى مَلِيكِهَا مِنْ الطَّمَأْنِينَةِ عَلَى دِينِهِمْ، وَالأَمْنِ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ، حَتَّى جَعَلَتْ تَأْتَمِرُ بِهِمْ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ لَقِينَا فِيهَا خَيْرَ جِوَارٍ فَأمِنَّا عَلَى دِينَنَا وَعَبَدْنَا اللهَ تَعَالى مِنْ غَيْرِ أَنْ نُؤْذَى.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ ائْتَمَرَتْ بِنَا فَأَرْسَلَتْ إِلى النَّجَاشِيّ رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ منْ رِجَالِهَا أَحَدُهُمَا عَمْرُو بنِ الْعَاص وَالثَّانِي عَبْدُ اللهِ بن أَبِي رَبِيعَةَ وَبَعَثَتْ(6/230)
قُرَيْشٌ مَعَهُمَا بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ لِلنَّجَاشِيِّ وَلِبَطَارِقَتِهِ - الْبِطْرِيقُ رَجُلُ الدِّينِ عِنْدَ النَّصَارَى -
ثُمَّ أَوْصَتْهُمَا بِأَنْ يَدْفَعَا لِكُلٍّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّةً قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا مَلِكَ الْحَبَشِةِ فِي أَمْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو وَعَبْدُ اللهِ عَلَى الْحَبَشَةِ لَقِيَا بَطَارِقَةَ النَّجَاشِيّ وَدَفَعَا إِلى كلٍ بِطْرِيقٍ هِدِيَّتَهُ.
وَقَالا: إِنَّهُ قَدْ حَلَّ فِي أَرْضِ الْمَلِكِ غِلْمَانٌ مِنْ سُفَهَائِنَا صَبَؤُا عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَفَرَّقُوا كَلِمَةَ قَوْمَهُمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِي أَمْرِهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بَأَنْ يُسَلِّمهُمْ إِلَيْنَا دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ دِيِنِهِمْ فَإِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ أَبْصَرُبِهِمْ وَأَعْلَمُ بِمَا يَعْتَقِدُونَ.
فَقَالَ الْبَطَارِقَةُ لَهُمَا: نَعَمْ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ أَكْرَهُ لِعَمْرٍو وَصَاحِبِه مَنْ أَنْ يَسْتَدْعِي أَحَداً مِنَّا وَيَسْمَعَ كَلامَهُ ثُمَّ أَتَيَا النَّجَاشِيّ وَقَدَمَا إِلَيْهِ الْهَدَايَا فَاسْتَحْسَنَهَا وَأُعْجِبَ بِهَا.
ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلى مَمْلَكَتِكَ طَائِفَةٌ مِنْ شِرَارِ غِلْمَانِنَا قَدْ جَاؤُا بِدِينٍ لا نَعْرِفَهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ فَفَارَقُوا دِينَنَا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسَ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ فِتْنَةٍ.
فَنَظَرَ النَّجَاشِيّ إِلى بَطَارِقَتِهِ فَقَالَ الْبَطَارِقَةُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَبْصَرُ بِهِمْ وَأَعْلَمُ بِمَا صَنَعُوا فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ لِيَرَوا رَأَيْهَمْ فِيهِمْ فَغَضَبَ النَّجَاشِيّ غَضَباً شَدِيداً مِنْ كَلامِ بَطَارِقَتِهِ.
وَقَالَ: لا وَالله لا أُسَلِّمَهُمْ لأَحَدٍ حَتَّى أَدْعُوهُمْ وَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِمْ(6/231)
فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُ هَذَانِ الرَّجُلانِ أَسْلَمْتُهُم لَهُمَا وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَمَيْتُهُمْ وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَيْنَا يَدْعُونَا لِلِقَائِهِ فَاجْتَمَعْنَا قَبْلَ الذِّهَابِ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْض: إِنَّ الْمَلِكَ سَيَسْأَلُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَاصْدَعُوا بِمَا تُؤْمِنُونَ بِهِ وَلِيَتَكَلَّمَ عَنْكُمْ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ وَلا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرُه.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ ذَهَبْنَا إِلى النَّجَاشِيّ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ دَعَا بَطَارِقَتَهُ فَجَلَسُوا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَدْ لَبِسُوا طَيَالِسَتَهُمْ وَاعْتَمَرُوا قَلانِسَهُمْ وَنَشَرُوا كُتُبَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَوَجَدْنَا عَمْرَو بن الْعَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بن رَبِيعَةَ.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِنَا الْمَجْلِسُ الْتَفَتَ إِلَيْنَا النَّجَاشِيّ وَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الذِي اسْتَحْدَثْتُمُوهُ لأَنْفُسِكُمْ وَفَارَقْتُم بِسَبَبِهِ دِينَ قَوْمِكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي؟
فَتَقَدَّمَ مِنْهُ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ وَبَقِينَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ.
فَلَمَّا دَعَانَا إِلى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَع مَا كُنَّا نَعْبُدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ.
وَقَدْ أَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَحَقْنِ الدِّمَاءِ - أَيْ حِفْظِهَا وَعَدَم سَفْكِهَا.
نَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِش وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ(6/232)
وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَنْ نُقِيمَ الصَّلاةِ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةِ وَنَصُومَ رَمَضَانَ.
فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَحَلَّلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِنَا أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلا أَنْ عَدَوْا عَلَيْنَا فَعَذَّبُونَا أَشَدَّ الْعَذَابِ لِيَفْتِنُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَيَرَدُّونَا إِلى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ.
فَلَمَا ظَلَمُونَا وَقَهَرُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلى بِلادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لا نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَالْتَفَتَ النَّجَاشِيِّ إِلى جَعْفَرِ بن أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ عَنْ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَرَأْ عَلَيْهِ {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} حَتَّى أَتَمَّ صَدْراً مِنَ السُّورَةِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَبَكَى النَّجَاشِي حَتَّى أَخْضَلَ لِحَيْتَهُ بِالدُّمُوعِ - أَيْ تَبَلَّلْتَ - وَبَكَى أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى بَلَّلُوا كُتُبَهُمْ لِمَا سَمِعُوا مِنْ كَلامِ اللهِ وَهَنَا قَالَ النَّجَاشِيّ: إِنَّ هَذَا الذِي جَاءَ بِهِ نَبِيَّكُمْ وَالذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ النَّجَاشِيّ إِلى عَمْرو وَصَاحِبهِ وَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا فَلا وَاللهِ لا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبداً، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدَ النَّجَاشِيّ تَوَعَّدَنَا عَمْرو بن الْعَاصِ وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَاللهِ لآتِيَنَّ الْمَلِكَ غَداً وَلأَذْكُرَنَّ لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا يَمْلأُ صَدْرَهُ غَيْظاً مِنْهُمْ وَيَشْحَن فُؤَادَهُ كُرْهاً لَهُمْ وَلأَحْمِلَنَّه عَلَى أَنْ يَسْتَأْصِلَهُم مِنْ جُذُورِهِمْ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن رَبِيعَةَ: لا تَفْعَلْ يَا عَمْرو فَإِنَّهُمْ مِنْ ذَوِي قُرْبَانَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا فَقَالَ لَهُ عَمْرُو: دَعْ عَنْكَ هَذَا وَاللهِ لأَخْبِرَنَّهُ بِمَا يُزَلْزِلُ أَقْدَامَهم وَاللهِ(6/233)
لأَقُولَنَّ لَهُ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيمَ عَبْدٌ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَمْرُو عَلَى النَّجَاشِيّ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ هَؤُلاءِ الذِينَ آوَيْتَهُمْ وَحَمْيَتَهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَهُ فِيهِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَلَّما عَرفنَا ذَلِكَ نَزَلَ بِنَا مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ مَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمِثْلِهِ وَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابن مَرْيَم إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ.
فَقُلْنَا: وَاللهِ لا نَقُولُ فِيهِ إِلا مَا قَالَ اللهُ وَلا نَخْرُجُ فِي أَمْرِهْ قَيْدَ أَنْمُلةٍ عَمَّا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا وَلْيَكُنْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ.
ثُمَّ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يَتَوَلى الْكَلامَ عَنَّا جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِب فَلَمَّا دَعَانَا النَّجَاشِيّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ بَطَارِقَتَه عَلَى الْهَيْئةِ الِّتِي رَأَيْنَاهُمْ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ.
وَوَجَدْنَا عِنْدَهُ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ وَصَاحِبَهُ فَلَمَّا صِرْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ بَادَرَنَا بِقَوْلِهِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بن أَبي طَالِبٍ: إِنَّمَا نَقُولُ مَا جَاءِ بِهِ نَبِينا فَقَالَ النَّجَاشِيّ: وَمَا الذِي يَقُولُ فِيهِ؟
فَأَجَابَهُ جَعْفَرُ يَقُولُ عَنْهُ: «إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمْ الْعَذْرَاءَ الْبَتُولَ» . فَلَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيّ قَوْلَ جَعْفَرٍ ضَرَبَ بِيَدِهِ الأَرْضَ وَقَالَ: وَالله مَا خَرَجَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيَّكُمْ مِقْدَارَ شَعْرَةٍ.
فَتَنَاخَرَتْ الْبَطَارِقَةُ مِنْ حَوْلِ النَّجَاشِيّ اسْتِنْكَاراً لِمَا سَمِعُوا مِنْهُ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا وَقَال: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ آمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ وَمَنْ تَعَرَّضَ لَكُمْ عُوقِبَ وَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ وَأَنْ يُصَابَ أَحَدٌ مِنْكُمْ.(6/234)
ثُمَّ نَظَرَ إِلى عَمْرو وَصَاحِبِهِ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ هَدَايَاهُمَا فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَخَرَجَ عَمْرُو وَصَاحِبُه مَكْسُورِينَ مَقْهُورِينَ يَجُرَّانِ أَذْيَالَ الْخَيْبَةِ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَقَمْنَا عِنْدَ النَّجَاشِيّ بِخَيْرِ دَارٍ مَعْ أَكْرَمِ جَارٍ.
أَمضَى جعْفَرُ بن أبي طَالِبٍ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فِي رِحَابِ النَّجَاشِي عَشْرَ سَنَوَاتٍ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ غَادَرُوا بِلادَ الْحَبَشَةِ مَعَ نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا بَلَغُوهَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِداً مِنْ خَيْبَر بَعْد أَنْ فَتَحَهَا اللهُ لَهُ فَفَرِحَ بِلِقَاءِ جَعْفَرَ فَرَحاً شَدِيداً حَتَّى قَالَ: «مَا أَدْرِي بَأَيُّهَمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحاً أَبِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ» .
وَلَمْ تَكُنْ فَرْحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَرَاءِ خَاصَةً بِعَوْدَةِ جَعْفَرٍ بَأَقَلَّ مِنْ فَرْحَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانَ جَعْفَرُ شَدِيدَ الْحَدْبِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَثِيرَ الْبِرِّ بِهِمْ حَتَّى كَانَ يُلْقَّبُ بَأَبِي الْمَسَاكِينِ.
أَخْبَرَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لَنَا مَعْشَرَ الْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ كَانَ يَمْضِي بِنَا إِلى بَيْتِهِ فَيُطْعِمُنَا مَا يَكُونُ عِنْدَهُ حَتَّى نَفَدَ طَعَامُهُ أَخْرَجَ لَنَا الْعُكَّةَ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا السَّمْنُ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشُّفُهَا وَنَلْعَقُ مَا عَلِقَ بِدَاخِلِهَا.
وَفِي أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ جَهَّزَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشاً لِمُنَازَلَةِ الرُّومِ فِي بِلادِ الشَّامِ وَأَمَّرَ عَلَى الْجَيْشِ زَيْدَ بنَ حَارِثة وَقَالَ: «إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ ابن رَوَاحَةَ فَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بن رَوَاحَةِ فَلَيْخَتَرْ الْمُسْلِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ أَمِيراً مِنْهُمْ» .(6/235)
فَلَمَّا وَصَلَ إِلى مُؤْتَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى مَشَارِفِ الشَّامِ فِي الأُرْدَن وَجَدُوا أَنَّ الرُّومَ قَدْ أَعَدُّوا لَهُمْ مائَةَ أَلْفٍ تُعَاونُهم مَائةُ أَلْفٍ أُخْرَى مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ قَبَائِلِ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَقُضَاعَة وَغَيْرِهَا.
أَمَّا جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ ثَلاثَةَ آلافٍ وَمَا أَنْ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَدَارَتْ رَحى الْحَرْبِ حَتَّى خَرَّ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ صَرِيعاً مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ.
فَمَا أَسْرَعَ أَنْ وَثَبَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ظَهْرِ فَرَسِهِ ثُمَّ عَقَرَهَا حَتَّى لا يَنْتَفِعَ بِهَا الأَعْدَاءُ بَعْدهُ ثُمَّ حَمَلَ الرَّايَةِ وَدَخَلَ فِي صُفُوفِ الرُّومِ وَهُوَ يَنْشِدُ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْدَنَا عَذَابُهَا
كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيَّ إِذْ لاقَيْتُهَا ضرَابُهَا
وَظَلَّ يَجُولُ بِسَيْفِهِ فِي صُفُوفِهِمْ وَيَصُولُ حَتَّى أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ قَطَّعَتْ يَمِينَهُ فَأَخَذَ الرَّايةَ بِشِمَالِهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ أُخْرَى قَطَعَتْ شِمَالَهُ فَأَخَذَ الرَّايَةَ بِصَدْرِهِ وَعَضُدَيْهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ ثَالِثَةٌ قَسَمَتْهُ نِصْفَيْنِ.
فَأَخَذَ الرَّايَةُ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ حَتَّى لَحِقَ بِصَاحِبَيْهِ.
بَلَغَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْرَعَ قُوَّادِهِ الثَّلاثَةِ فَحزِنَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْحُزْنِ وَأَمَضَّهُ وَانْطَلَقَ إِلى بَيْتِ ابن عَمِّهِ جَعْفَرِ بن أَبِي طَالِبٍ فَوَجَدَ زَوْجَتَهُ أَسْمَاءَ تَتَأَهَّبُ لاسْتِقْبَالِ زَوْجِهَا الْغَائِبِ قَدْ عَجَنَتْ عَجِينَهَا وغسلتْ بَنِيهَا وَدَهَنَتْهُمْ وَأَلْبَسَتْهُمْ.(6/236)
قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ غُلالَةً مِنْ الْحُزْنِ تُوَشِّحُ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.
فَسَرَتْ الْمَخَاوِفُ فِي نَفْسِي غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَشَأْ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ جَعْفَرَ مَخَافَةَ أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَهَبُّوا نَحْوَهُ فَرِحِينَ وَأَخَذُوا يَتَزَاحَمُونَ عَلَيْهِ كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ.
فَأَكَبَّ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ يَشُمُّهُم وَعَيْنَاهُ تَذْرَفَانِ مِن الدَّمْعِ فَقُلْتَ: يَا رَسُولُ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا يُبْكِيكَ أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ وَصَاحِبَيْه شَيْءٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ لَقَدْ اسْتَشْهَدُوا هَذَا الْيَوْمَ» .
عِنْدَ ذَلِكَ غَاضَتْ الْبَسْمَةُ مِنْ وُجُوهِ الصِّغَارِ لَمَّا رَأَوْا وَسَمِعُوا أُمَّهُمْ تَبْكِي وَتَنْشَجُ وَجَمَدُوا أَمَاكِنَهُمْ كَأَنَّ عَلَى رُؤْسِهِمْ الطَّيْرَ.
أَمَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَى وَهُوَ يُكَفْكفُ عَبَرَاتِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اخْلِفْ جَعْفَراً فِي وَلَدِه اللَّهُمَّ اخْلِفْ جَعْفَراً فِي أَهْلِهِ» . ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ جَعْفَراً فِي الْجَنَّةِ لَهُ جَنَاحَانِ مُضَرَّجَانِ بِالدِّمَاءِ» .
اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَنَا فِي الْقُبُورِ وَآمِنَّا يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ
قصة أسيد بن الحضير
قَدِم الْفَتَى الْمَكِّيّ مُصْعَبُ بنُ عَمَيْرٍ إِلى يَثْرِبَ فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدِ بن زُرَارَةَ أَحَدِ أَشْرَافِ الْخَزْرَج وَاتَّخَذَ دَارَهُ مَقَاماً لِنَفْسِهِ وَمُنْطَلِقاً لِبَثِّ دَعْوَتِه إِلى اللهِ(6/237)
وَالتَّبْشِيرِ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخَذَ أَبْنَاءُ يَثْربَ يُقْبَلُونَ عَلَى مَجَالِس الدَّاعِيَةِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ إِقْبَالاً كَبِيراً وَكَانَ يُرَغِّبَهُمْ فِيهِ عُذوبةُ حَدِيثِهِ ووُضُوحُ حُجَّتِه وَرِقَّةُ شَمَائِلِه وَوَضَأةُ الإِيمَان الَّتِي تُشْرَقْ فِي وَجْهِهِ.
وَكَانَ يَجْذِبُهم إِلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ السَّاعَةِ بَعْدَ السَّاعَةِ بَعْضاً مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ بِصَوْتِهِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ الرَّخِيمِ وَنَبَرَاتِهِ الْحُلْوَةِ الآسِرَةِ فَيَسْتَلِينُ بِهَا الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ وَيَسْتَدِرَّ بِهَا الدَّمُوعَ الْعَاصِيَةَ فَلا يَنْفَضُّ الْمَجْلِسُ مِنْ مَجَالِسِهِ إِلا عَنْ أُنَاسٍ أَسْلَمُوا وَانْضَمُّوا إِلى كَتَائِبِ الإِيمَانِ.
وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ خَرَجَ سَعْدُ بنُ زُرَارَة بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْر لِيَلْقَى جَمَاعَة مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَل وَيَعْرُضَ عَلَيْهِمْ الإِسْلامَ فَدَخَلا بُسْتَاناً مِنْ بَسَاتِينَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلَ وَجَلَسَا عِنْدَ بِئْرِهَا الْعَذْبِةِ فِي ظِلالِ النَّخِيلِ فَاجْتَمَع عَلَى مُصْعَبٍ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا وَآخَرُون يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا فَانْطَلَقَ يَدْعُو وَيُبَشِّرُ وَالنَّاسُ إِلَيْهِ مُنْصِتُونَ.
فَجَاءَ مَنْ أَخْبَرَ أُسَيْدَ بنَ الْحَضَيْر وَسَعْدَ بنَ مُعَاذٍ وَكَانَا سَيِّدَا الأَوْسِ بَأَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمَكِّيَّ قَدْ نَزَلَ قَرِيباً مِنْ دِيَارِهِمَا وَأَنَّ الذِي جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ مُسْتَغِلاً قَرَابَتَهُ مِنْ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ إِذْ كَانَ ابْنَ خَالَتِه.
فَقَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ لأُسَيْدِ بنِ الْحُضَيْرِ: لا أَبَا لَكَ يَا أُسَيْدُ انْطَلِقْ إِلى هَذَا الْفَتَى الْمَكِّيّ الذِي جَاءَ إِلى بُيُوتِنَا لِيُغْرِيَ ضُعَفَاءَنَا وَيُسَفِّه آلِهَتَنَا وَازْجُرْهُ وَحَذِّرْهُ مِنْ أَنْ يَطَأْ دِيَارِنَا بَعْدَ الْيَوْم.
ثُمَّ أَرْدَفَ يَقُولُ: وَلَوْلا أَنَّهُ فِي ضِيَافَةِ ابنِ خَالِي أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ لَكَفَيْتُكَ(6/238)
ذَلِكَ وَأَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَه وَمَضَى نَحْوَ الْبُسْتَانِ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدُ بنُ زُرَارَةٍ قَالَ لِمُصْعَبٍ: وَيْحَكَ يَا مُصْعَبُ هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاً وَأَكْمَلُهُمْ كَمَالاً أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ فَإِنْ يُسْلِمْ يَتْبَعْه فِي إِسْلامِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَأَصْدَقِ اللهِ فِيهِ وَأَحْسِنْ التَّأَتِي لَهُ - أَيْ عَرْضَ الأَمْرِ عَلَيْهِ -.
وَقَفَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْر عَلَى الْجَمْعِ وَالْتَفَتَ إِلى مُصْعَبٍ وَصَاحِبِه وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمَا بِضُعَفَائِنَا اعْتَزِلا هَذَا الْحَيَّ إِنْ كَانَتْ لَكُمَا حَاجَةٌ بِنَفْسَيْكُمَا.
فَالْتَفَتْ مُصْعَبُ إِلى أُسَيْدٍ بَوَجْهِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِ الإِيمَانِ وَخَاطَبَهُ بِلَهْجَتِهِ الصَّادِقَةِ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيَّدَ قَوْمِه هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْلِسُ إِلَيْنَا فَتَسْمَعَ مِنَّا فَإِنْ رَضِيتَ مَا قُلْنَاهُ قَبلْتَهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ تَحَوَّلَنَا عَنْكُمْ وَلَمْ نَعُدْ إِلَيْكُمْ فَقَالَ أُسَيْدٌ: لَقَدْ أَنْصَفْتَ وَرَكزَ رُمْحَهُ فِي الأَرْضِ وَجَلَسَ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ يَذْكُرُ لَهُ حَقِيقَةَ الإِسْلامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ شَيْئاً مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَأَشْرَقَتْ أَسَارِيرُهُ وَأَشْرَقَ وَجْهُه وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الذِي تَقُولُ وَمَا أَجْمَلَ الذِي تَتْلُو كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ الدُّخُولَ فِي الإِسْلام.
فَقَالَ مُصْعَبُ: تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ وَتَشْهَدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إِلى الْبِئْرِ فَتَطَهَّرَ بِمَائِهَا وَشَهِدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَانْضَمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلى كَتَائِبِ الإِسْلامِ.
وَكَانَ فَارِساً قَارِئاً كَاتِباً فِي مُجْتَمَع نَدَرَ فِيهِ مَنْ يَقْرَأْ أَوْ يَكْتُبُ وَكَانَ إِسْلامُه سَبَباً فِي إِسْلامِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَكَانَ إِسْلامُهُمَا سَبَباً فِي أَنْ تُسْلِمَ جمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الأَوْسِ وَأَنْ تُصْبِحَ الْمَدِينَةِ مُهَاجِراً لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْئِلاً وَقَاعِدَةً لِدَوْلَةِ الإِسْلامِ الْعُظْمَى.(6/239)
وَقَدْ أُولِعَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْر بِالْقُرْآنِ مُنْذُ سَمَعَهُ مِنْ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ وَلَعَ الْمُحِبِّ بِحَبِيبِهِ وَأَقَبْلَ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الظَّامِئ عَلَى الْمَوْرِدِ الْعَذْبِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِض وَجَعَلَهُ شُغْلَهُ الشَّاغِلَ فَكَانَ لا يُرَى إِلا مُجَاهِداً غَازِياً فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ عَاكِفاً يَتْلُو كِتَابَ اللهِ.
وَكَانَتْ تَطِيبُ لَهُ الْقِرَاءَةُ أَكْثَرَ مَا تَطِيبُ إِذَا سَكَنَ اللَّيْلُ وَنَامَت الْعُيُونُ وَصَفَت النُّفُوسُ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَحَيَّنُونَ أَوْقَاتَ قِرَاءَتِهِ وَيَتَسَابَقُونَ إِلى سَمَاعِ تِلاوَتِه وَقَدْ اسْتَعْذَبَ أَهْلُ السَّمَاءِ قِرَاءَتَهُ كَمَا اسْتَعْذَبَهَا أَهْلُ الأَرْضِ.
فَفِي جَوْفِ لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي كَانَ أُسَيْدُ بن الْحُضَيْرِ جَالِساً فِي مِربَدِه وَابْنُه يَحْيَى نَائِمٌ جَانِبه وَفَرَسُهُ قَدْ أَعَدَّهَا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مُرْتَبَطَة غَيْرَ بَعِيدَةٍ عَنْهُ وَكَانَ اللَّيْلُ سَاجِياً فَتَاقَتْ نَفْسُ أُسَيْدِ بن الْحُضَيْرِ لِلْقِرَاءَةِ.
فَشَرَعَ يَقْرَأُ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
فَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ فَرَسَهُ وَقَدْ جَالَتْ جَوْلَةً كَادَتْ تُقَطِّعُ بِسَبَبِهَا رِبَاطَهَا فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ الْفَرَسُ وَقَرَّتْ فَعَادَ يَقْرَأْ: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَجَالَتْ جَوْلَةً أَشَدَّ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَخَافَ عَلَى ابْنِهِ يَحْيَى أَنْ تَطَأَهُ.
فَمَضَى إِلَيْهِ لِيُوُقِظَهُ وَهُنَا حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ السَّمَاءِ فَرَأى غَمَامَةً كَالْمِظَّلةِ لَمْ تَرَ الْعَيْنُ أَرْوَعَ وَلا أَبْهَى مِنْهَا قَطُّ وَقَدْ عُلِّقَ بِهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَمَلأَت الآفَاقَ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَهِيَ تَصْعَدُ إِلى السَّمَاءِ حَتَّى غَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ مَضَى إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَ(6/240)
مَا رَأَىَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْمَلائِكَةَ تَسْتَمِعُ لَكَ يَا أُسَيْدُ وَلَوْ أَنَّكَ مَضَيْتَ فِي قِرَاءَتِكَ لَرَآهَا النَّاسُ)) . وَكَانَ يُحِبُّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبّاً شَدِيداً وَكَانَ كَثِيراً مَا يَتَمَنَّى أَنْ يَمَسَّ جَسَدُهُ جَسَدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أُتِيحَ لَهُ ذَلِكَ مَرَّةً فَفِي ذَاتَ يَوْمٍ كَانَ أُسَيْدُ يُطْرِفُ النَّاسَ بِمُلَحِهِ فَغَمَزَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصِرَتِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا يَقُولُ فَقَالَ أُسَيْدٌ: أَوْجَعْتَنِي يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((اقْتَصَّ مِنِّي)) . فَقَالَ أُسَيْدٌ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصاً وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ حِينَ غَمَزْتَنِي.
فَرَفَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ عَنْهُ فَاحْتَضَنَهُ أُسَيْدٌ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ مَا بَيْنَ إبطِهِ وَخَاصِرَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا لَبُغْيَتِي أَتَمَنَّاهَا مُنْذُ عَرِفْتُكَ وَقَدْ بَلَغْتُهَا الآنَ.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَادِلُ أُسْيَداً حُبّاً بِحُبٍّ وَيَحْفَظُ لَهُ سَابِقَتَه فِي الإِسْلامِ وَذَوْدَهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى إِنَّهُ طُعِنَ سَبْعَ طَعَنَاتٍ مُمِيتَاتٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ لَهُ قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَه فِي قَوْمِهِ فَإِذَا شَفَعَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ شَفَّعَهُ فِيهِ حَدَّثَ أُسَيْدٌ قَالَ: جِئْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فِيهِمْ حَاجَة وَجُلُّ ذَاكَ الْبَيْتِ نِسْوَةٌ.
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لَقَدْ جِئْتَنَا يَا أُسَيْدُ بَعْدَ أَنْ أَنْفَقْنَا مَا بَأَيْدِينَا فَإِذَا سَمِعْتَ بِشَيْءٍ قَدْ جَاءَنَا فَاذْكُرْ لَنَا أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ.(6/241)
فَجَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ مِنْ خَيْبَر فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْطَى الأَنْصَارَ وَأَجْزَلَ وَأَعْطَى أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَجْزَلَ فَقُلْتُ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ عَنْهُمْ خَيراً يَا نَبِيَّ اللهِ فَقَالَ: ((وَأَنْتُمْ مَعْشَر الأَنْصَارِ جَزَاكُمْ اللهُ أَطْيَبَ الْجَزَاءِ فَإِنَّكُمْ مَا عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبَّرٌ وَإِنَّكُمْ سَتَلقَونْ أَثَرَةً بَعْدِي فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكم الْحَوْضُ)) .
قَالَ أُسَيْدُ فَلَمَّا آلَت الْخِلافَةُ إِلى عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَسَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَالاً وَمَتَاعاً فَبَعَثْ إِلى بِحُلَّةٍ فَاسْتَصْغَرْتُهَا فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ مَرَّ بِي شَابٌّ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلةٌ سَابِغَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحُلَلِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلى عُمَرَ وَهُوَ يَجُرُّهَا عَلَى الأَرْضِ جَرَّا.
فَذَكَرْتُ لِمَنْ مَعِي قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ سَتَلقَونْ أَثَرَةً مِنْ بَعْدِي)) . وَقُلْتُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلى عُمرَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قُلْتُ فَجَاءَنِي مُسْرِعاً وَأَنَا أُصَلِّي فَقَالَ: صَلِّ يَا أُسَيْدُ فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلاتِي أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَاذَا قُلْتَ؟ .
فَأَخْبَرْتُه بِمَا رَأَيْتُ وَبِمَا قُلْتُ فَقَالَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ تِلْكَ حُلَّةٌ بَعَثْتُ بِهَا إِلى فُلانٍ وَهُوَ أَنْصَارِي عَقبيّ بَدْرِيّ أُحُدِيّ فَشَرَاهَا مِنْهُ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيّ وَلَبِسَهَا فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ: وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ فِي زَمَانِكَ وَلَمْ يَعِشْ أُسَيْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ طَوِيلاً فَقَدْ اخْتَارَهُ اللهُ إلى جِوَارِهِ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ.
ولشيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله
وَكُنْ ذَاكِراً للهِ فِي كُلِّ حَالِةٍ
فَلَيْسَ لِذِكْرِ اللهِ وَقْتٌ مُقَيَّدُ
فَذِكْرُ إِلَهِ الْعَرْشِ سِرّاً وَمُعْلِناً
يُزِيلُ الشَّقَا وَالْهَمَّ عَنْكَ وَيَطْرُدُ
وَيَجْلِبُ لِلْخَيْرَاتِ دُنْياً وَآجِلاً(6/242)
.. وَإِنْ يَأْتِكَ الْوَسْوَاسُ يَوْماً يُشَرِّدُ
فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُخْتَارُ يَوْماً لِصَحْبِهِ
بَأَنَّ كَثِيرَ الذِّكْرِ فِي السَّبْقِ مُفْرَدُ
وَوَصَّى مُعَاذاً يَسْتَعِينُ إِلهَهُ
عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بِالْحُسْنِ يَعْبَدُ
وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَدْ أَتَى لِنَصِيحَةٍ
وَقَدْ كَانَ فِي حَمْلِ الشَّرَائِعِ يَجْهَدُ
بَأَنْ لا يَزَلْ رَطْْباً لِسَانُكَ هَذِهِ
تُعِينُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ وَتُسْعِدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لأَهْلِهِ
بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَالْمَسَاكِنُ تُمْهَدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ اللهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ
وَمَعْهُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ يُسَدِّدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ يَبْقَى بِجَنَّةٍ
وَيَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حِينَ يُخَلَّدُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ غَيْرُ أَنَّهُ
طَرِيقٌ إِلى حُبِّ الإِلهِ وَمُرْشِدُ
وَيَنْهَى الْفَتَى عَنْ غِيْبَةٍ وَنَمِيمَةٍ
وَعَنْ كُلِّ قَوْلٍ لِلدِّيَانَةِ مُفْسِدُ(6/243)
لَكَانَ لَنَا حَظٌّ عَظِيمٌ وَرَغْبَةٌ
بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ الْمُوَحَّدِ
وَلَكِنَّنَا مِنْ جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا
كَمَا قَلَّ مِنَّا لِلإلهِ التَّعَبُّدُ
اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ، وَعَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة أبي الدرداء
أَبُو الدَّرْدَاءِ كُنْيَةُ عُوَيْمِر بن مَالِك الْخَزْرَجِيّ وَمِن قصته أنه كان له صَنَمٌ نَصَبَهُ في أَشْرَفِ مَكَانٍ مِن بَيْتِهِ فَنَهَضَ إليه يَوْماً فَحَيَّاهُ وَضَمَّخَهُ بَأَنْفس مَا حَوَاهُ مَتْجَرُه الْكَبِيرُ مِنْ الطَّيْبِ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْباً جَدِيداً مِنْ فَاخِرِ الْحَرِيرِ.
وَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ غَادَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْزِلَهُ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى مَحَلِّ تَجَارَتِه فَإِذَا شَوَارِعُ الْمَدِينَةِ وَطُرُقَاتُهَا تَضِيقُ بِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَائِدُونَ مِنْ بَدْرٍ وَأَمَامَهم أَفْوَاجُ الأُسَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَأَعْرَضَ أَبُو الدَّرْدَاءَ عَنْهُمْ وَأَقْبَلَ عَلَى فَتَىً مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن رَوَاحَةَ فَطَمَّنَهُ الْفَتَى عَلَيْهِ لَمِا كَانَ يَعْلَمُه مِنْ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.(6/244)
فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ بَادَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ وَظَلَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى شِرْكِهِ وَلَمْ يَقْطَعْ ابنُ رَوَاحَةَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بَلْ ظَلَّ يَتَعَهَّدَهُ بِالزِّيَارَةِ وَيَدْعُوهُ إِلى الإِسْلامِ وَيَحَثُّهُ عَلَيْهِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ.
وَعِنْدَمَا وَصَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلى مَتْجَرِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي اتَّجَهَ عَبْدُ اللهِ بن رَوَاحَةَ إِلى مَنْزِلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَلَمَّا وَصَلَهُ رَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ فِي الْفِنَاءِ - أَيْ سَاحَةِ الْبَيْتِ - فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكِ يَا أَمَةَ اللهِ فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا أَخَا أَبي الدَّرْدَاءِ.
فَقَالَ: أَيْنَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَقَالَتْ: ذَهَبَ إِلى مَتْجَرِهِ فَقَالَ: أَتَأَذَنِينَ؟ فَقَالَتْ: عَلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ وَأَفْسَحَتْ لَهُ الطَّرِيقَ وَمَضَتْ إِلى حُجْرَتِهَا وَانْشَغَلَتْ عَنْهُ بِإِصْلاحِ شَأْنِ بَيْتِهَا وَرِعَايَةِ أَطْفَالِهَا.
دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي وَضَعَ فِيهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ صَنَمَهُ وَأَخْرَجَ قَدُّوماً أَحْضَرَهُ مَعَهُ وَمَالَ إِلى الصَّنَمِ وَقَطَّعَهُ بِهِ وَكَسَّرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَلا كُلُّ مَا يُدْعَى مَعَ اللهِ بَاطِلُ.
ثُمَّ غَادَرَ الْبَيْتَ ثُمَّ دَخَلَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ فَرَأَتْهُ مُكَسّراً عَلَى الأَرْضِ فَقَالَتْ: أَهْلَكْتَنِي يَا ابْنَ رَوَاحَةَ.
وَلَمَّا عَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَأَى امْرَأَتَهُ جَالِسَةً عِنْدَ بَابِ الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ وَهِيَ تَبْكِي خَائِفَةً مِنْهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ جَاءَنَا فِي غَيْبَتِكَ وَكَسَرَ الصَّنَمَ.
فَنَظَرَ إِلى الصَّنَم فَوَجَدَهُ حُطَاماً فَغَضِبَ وَهَمَّ أَنْ يَسْتَنْصِرَ لَهُ لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ إِلا قَلِيلاً حَتَّى سَكَتَ غَضَبَهُ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي الصَّنَمِ خَيْرٌ لَدَفَعَ عَنْهُ الأَذَى.(6/245)
ثُمَّ انْطَلَقَ فَوْراً إلى ابن رَوَاحَةَ وَمَضَيَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَنَ دُخُولَهُ فِي الإِسْلامِ وَنَدِمَ كَبِيراً عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَدْرَكَ إدْرَاكاً عَمِيقاً مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ فِقْهٍ لِدِينِ اللهِ وَحِفْظٍ لِكِتَابِ اللهِ وَعِبَادَةٍ ادَّخَرُوهَا لأَنْفُسِهِمْ عِنْدَ اللهِ.
فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ بِالْجُهْدِ الْجَاهِدِ وَأَنْ يُوَاصِلَ كَلالَ اللَّيْلِ بِكَلالِ النَّهَارِ حَتَّى يَلْحَقَ بِالرَّكْبِ فَانْصَرَفَ إِلى الْعِبَادَةِ انْصِرَافَ مُتَبَتِّل - أَيْ مُنْقَطِعٌ عَنْ الدُّنْيَا - وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ إِقْبَالَ الظَّمْآنِ وَأَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ اللهِ يَحْفَظُ كَلِمَاتِهِ وَيَتَعَمَّقَ فِي فِهْمِ آيَاتِهِ.
وَلَمَّا رَأَى التِّجَارَةَ تُنَغِّصُ عَلَيْهِ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ وَتُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَجَالِسَ الْعِلْمِ تَرَكَهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ وَلا آسِفٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ سَائِلٌ فَأَجَابَ لَقَدْ كُنْتَ تَاجِراً قَبْلَ عَهْدِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَسْلَمْتُ وَدِدْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالْعِبَادَةِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ لي مَا أَرَدْتَ فَتَرَكْتُ التِّجَارَةَ وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْعِبَادَةِ.
ثُمَّ الْتِفَتَ إِلى سَائِلهِ وَقَالَ: إِنِّي لا أَقُولُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ الْبَيْعَ وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الذِينَ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَلَمْ يَتْرُكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ التِّجَارَةَ فَحَسْبُ وَإِنَّمَا تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنْ زِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا وَاكْتَفَى مِنْهَا بِلُقْمَةٍ خَشِنَةٍ تُقِيمُ صُلْبَهُ وَثَوْبٍ صَفِيقٍ يَسْتَرُ بِهِ جَسَدَهُ.
وَفِي يَوْمٍ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَة فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طَعَاماً سَاخِناً وَلَمْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ لُحُفاً فَلَمَّا أَرَادُوا النَّوْمَ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِ طَلَبِ اللَّحْفِ لَهُمْ فَقَالَ وَاحِدٌ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَأُكَلِّمُهُ.(6/246)
فَقَالَ لَهُ آخَرُ: دَعْهُ فَأَبَى حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحُجُرَةِ فَرَآهُ قَدْ اضْطَجَعَ وَامْرَأتُه جَالِسَة قَرِيباً مِنْهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وَلا عَلَيْهِ إِلا ثَوْبٌ خَفِيفٌ لا يَقِي مِنْ حَرٍّ وَلا يَدْفَعُ الْبَرْدَ.
فَقَالَ لأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا أَرَاكَ إِلا كَمَا بِتْنَا أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَنَا دَارٌ هُنَاك نُرْسِلُ إِلَيْهَا تِبَاعاً كُلَّ مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ وَلَوْ كُنَّا اسْتَبْقَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ شَيْئاً لَبَعَثْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ إِنَّ فِي طَرِيقِنَا الذِي نَسْلُكُه إِلى تِلْكَ الدَّارِ عَقَبَةٌ كَؤُودٌ الْمُخِفُّ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمثقِل فَأَرَدْنَا أَنْ نُخَفِّفَ مِنْ أَثْقَالِنَا لَعَلَّنَا نَجْتَازُ، ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ فَقَالَ: نَعَمْ فَهِمْتُ وَجُزِيتَ خَيْراً.
وَفِي خِلافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَرَادَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنْ يَلِيَ لَهُ عَمَلاً فِي الشَّام فَأَبَى فَأَصَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِذَا رَضِيتَ مِنِّي أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِمْ لأَعَلِّمَهُمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ وَأُصَلِّي بِهِمْ ذَهَبْتُ.
فَرَضَى منْهُ عُمَرُ بِذَلِكَ وَمَضِىَ هُوَ إِلى دِمَشْقَ فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ النَّاسَ قَدْ أُولِعُوا بِالتَّرَفِ وَانْغَمَسُوا فِي النَّعِيمِ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَدَعَا النَّاسَ إِلى الْمَسْجِدِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَوَقَفَ فِيهِمْ.
وَقَالَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ أَنْتُمْ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَالْجِيرَانُ فِي الدَّار ِوَالأَنْصَارُ عَلَى الأَعْدَاءِ يَا أَهْلَ دِمَشْقَ مَا الذِي يَمْنَعُكم مِنْ مَوَدَّتِي وَاسْتِجَابَة لِنَصِيحَتِي وَأَنَا لا أَبْتَغِي مِنْكُمْ شَيْئاً فَنَصِيحَتِي لَكُمْ وَمَؤُنَتِي عَلَى غَيْرِكُمْ.
مَالِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ وَجُهَّالَكُمْ لا يَتَعَلَّمُونَ وَأَرَاكُمْ قَدْ أَقْبَلْتُمْ عَلَى مَا تَكَفَّلَ اللهُ لَكُمْ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مَالِي(6/247)
أَرَاكُمْ تَجْمَعُونَ مَالاً تَأْكُلُونَ وَتُبْنُونَ مَالا تَسْكُنُونَ وَتُؤْمَّلُونَ مَالا تَبْلُغُونَ.
لَقَدْ جَمَعَتِ الأَقْوَامُ الَّتِي قَبْلَكُمْ وَأَمَّلَتْ فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى أَصْبَحَ جَمْعُهم بُوراً وَأَمْلُهُمْ غُرُوراً وَبُيُوتُهم قُبُوراً هَذِهِ عَادٌ يَا أَهْلَ دِمَشْق قَدْ مَلأَتْ الأَرْضَ مَالاً وَوَلَداً فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تِركةَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ.
فَجَعَلَ النَّاسُ يَبْكُونَ حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهم مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَفِقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَؤُمُّ مَجَالِسَ الْقَوْمِ فِي دِمَشْقَ وَيُطُوفُ أَسْوَاقَهُمْ فَيُجِيبُ السَّائِلَ وَيُعَلِّمُ الْجَاهِلَ وَيُنَبّهُ الْغَافِلَ مُغْتَنِماً كُلَّ فُرْصَةٍ مُسْتَفِيداً مِنْ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ.
وَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِجَمَاعَةٍ قَدْ تَجَمْهَرُوا عَلَى رَجُل وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَشْتِمُونَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ كَبِيرٍ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَفَلا تَكُونُوا تَسْتَخرجُونَه مِنْهُ؟ قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: لا تَسُبُّوهُ ولا تَضْرِبُوهُ وِإِنَّمَا عِظُوهُ وَبَصِّرُوهُ وَاحْمِدُوا اللهِ الذِي عَافَاكُمْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَنْبِهِ، قَالُوا: أَفَلا تُبْغِضُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُبْغِضُ فِعْلَهُ فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي فَأَخَذَ الرَّجُلُ يَنْتَحِبُ وَيُعْلِنُ تَوْبَتَهُ.
وَجَاءَ شَابٌّ إِلى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ أَوْصِنِي فَيَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ اذْكُرِ اللهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ فِي الضَّرَّاءِ يَا بُنِيَّ كُنْ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ مُسْتَمِعاً وَلا تَكُنْ الرَّابعَ فَتَهْلَكَ.
يَا بُنَيَّ لِيَكُنْ الْمَسْجَدُ بَيْتُكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمَسَاجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيّ وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ(6/248)
لِمَنْ كَانَتْ الْمَسَاجِدُ بُيُوتُهُمْ الرَّوْحَ وَالرَّحْمَةَ وَالْجَوَازَ - أي الْمُرُورَ - عَلَى الصِّرَاطِ إِلى رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِدِمَشْق بَعثَ إِلَيْهِ وَإِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ الدَّرْدَاءَ لابْنِهِ يَزْيدَ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا لَهُ وَأَعْطَاهَا لِشَابٍّ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ دِينَه وَخَلَقَهُ.
فَسَارَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: خَطَبَ يَزِيدُ بنُ مُعَاوِيَةَ بِنْتَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَرَدَّهُ وَزَوَّجَهَا لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ سَائِلٌ عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا تَحَرَّيْتُ فِيمَا صَنَعْتُهُ صَلاحَ أَمْرِ الدَّرْدَاءِ فَقَالَ السَّائِلُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا ظَنُّكُمْ بِالدَّرْدَاءِ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا الْعَبِيدُ يَخْدِمُونَهَا وَوَجَدَتْ نَفْسَها فِي قُصُورٍ يَخْطِفُ لألأؤُهَا الْبَصَرَ أَيْنَ يُصْبِحُ دِينُهَا يَوْمَئِذٍ.
وَفِي خَلالِ وُجُودِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي بِلادِ الشَّامِ قَدِمَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِِنينَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب مُتَفَقّداً أَحْوَالَهَا فَزَارَ صَاحِبَهُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ لَيْلاً فَدَفَعَ الْبَابَ فَإِذَا لَيْسَ غَلَقٌ فَدَخَل فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لا ضَوْءَ فِيهِ.
فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ حِسَّهُ قَامَ إِلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ وَأَخَذَ الرَّجُلانِ يَتَفَاوَضَانِ الأَحَادِيثَ وَالظَّلامُ يَحْجِبُ كُلاً مِنْهُمَا عَنْ عَيْنَيْ صَاحِبِهِ.
فَجَسَّ عُمَرُ وِسَادَةَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَإِذَا هِيَ بَرْذَعَةٌ - كِسَاءٌ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ - وَجَسَّ فِرَاشَهُ فَإِذَا هُوَ حَصَى وَجَسَّ دِثَارَهُ - غِطَاءَهُ - فَإِذَا هُوَ كِسَاء رَقِيقٌ لا يَقِي شَيْئاً فِي الْبَرْدِ فِي دِمَشْقَ.(6/249)
فَقَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَتَذْكُرْ يَا عُمَرُ حَدِيثاً حَدّثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّ حَدِيثٍ؟ قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ: ((لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمْ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ)) .
قَالَ: بَلَى قَالَ: فَمَاذَا فَعَلْنَا بَعْدَهُ يَا عُمَرُ فَبَكَى عُمَرُ وَبَكَى أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمَا زَالا يَتَجَاوَبَانِ بِالْبُكَاءِ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِمَا الصُّبْحُ.
ظَلَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي دِمَشْقَ يَعِظُ أَهْلَهَا وَيُذَكِّرُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ.
وَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي قَالُوا: وَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: عَفْوَ رَبِّي ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: لَقِّنُونِي لا إِلهَ إِلا اللهُ مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ فَمَا زَالَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى فَارَقَ الْحَيَاةَ.
وَلَمَّا لَحِقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِجِوَارِ رَبِّهِ رَأَى عَوْفُ بنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَرْجاً أَخْضَرَ. فَسِيحَ الأَرْجَاءِ وَارِفَ الأَفْيَاءِ فِيهِ قُبّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَدَمٍ - أَيّ جِلْدٍ - حَوْلَهَا غَنَمٌ رَابِضَةٌ لَمْ تَر الْعَيْنُ مِثْلَهَا قَطُّ.
فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِعَبْدِ الرَّحْمَن بنِ عَوْفٍ فَطَلَعَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ مِنَ الْقُبَّةِ وَقَالَ لَهُ: يَا ابنَ مَالِك هَذَا مَا أَعْطَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقُرْآنِ وَلَوْ أَشْرَفْتَ عَلَى هَذِهِ الثَّنِيَّةِ رَأَيْتَ مَا لَمْ تَرَ عَيْنُكَ وَسَمِعْتَ مَا لَمْ تَسْمَعْ أُذُنُكَ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِكَ فَقَالَ ابنُ مَالِكٍ: وَلِمَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ يَا أَبَا مُحَمَّدِ؟ فَقَالَ: أَعَدَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأَبِي الدَّرْدَاءِ لأَنَّهُ كَانَ يَدْفَعُ عَنْهُ الدُّنْيَا بِالَّراحَتَيْنِ وَالصَّدْرِ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِن التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِن الْعَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيَاتِ مُنْتَفِعِينَ، وَإِلى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعِينَ، وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعِينَ(6/250)
وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحياء منهم والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ نَاظِماً لِمَا ذَكر ابنُ الْقَيِّمِ مِنْ مَفَاتِيح الْخَيْرِ وَالشَّرِّ:
حَمِدْتُ الذِي يُولِي الْجَمِيلَ وَيُنْعِمُ
لَهُ الْفَضْلُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ وَيُكْرِمُ
وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ
عَلَى خَيْرِ مَخْلُوقٍ عَلَيْهُ يُسَلِّمُ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي وَأَصْحَابِهِ الأَلى
بِحُسْنِ اجْتِهَادٍ عَلَّمُوا وَتَعَلَّمُوا
وَبَعْدُ فَقَدْ عَنَّ الْوَفَاءُ لِسَائِلِ
بِوَعْدِيَ إِيَّاهُ بِأَنِّي أَنْظِمُ
مَفَاتِيحَ كَانَتْ لِلشُّرُورِ وَضِدِّهَا
فَقَدْ فَازَ مَنْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَعْلَمُ
وَأَضْحَى بِمَا يَدْرِي مِنْ الْحَقِّ عَامِلا
فَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
وَقَدْ جَعَلَ الْمَوْلَى لَهُنَّ مَفَاتِحاً
تَنَالُ بِهَا وَاللهُ بِالْحَقِّ أَعْلَمُ
فَمِفْتَاحُ شَرْعِيّ الصَّلاةِ طَهُورُنَا
وَيَفْتَحُ حَجّاً مُحْرِمٌ حِينَ يُحْرِمُ
وَبِالصِّدْقِ فَتْحُ الْبِرِّ وَالْعِلْمُ فَتْحُهُ
بِحُسْنِ سُؤَالٍ عَنْ فَتَىً يَتَعَلَّمُ(6/251)
وَمُسْتَحْسِنُ الإِصْغَاءِ وَالنَّصْرُ فَتْحُه
مَعَ الظَّفِرَ الْمَحْمُودِ بِالصَّبْرِ فَاعْلَمُوا
وَتَوْحِيدُنَا للهِ مِفْتَاحُ جَنَّةِ النَّـ
نَعِيمِ فَبِالتَّوْحِيدِ دِينُوا تُنَعمُّوا
وَبِالشُّكْرِ لِلنَّعْمَاءِ فَتْحُ زِيَادَةً
وَيَحْصُلُ حُبٌّ وَالْوِلايَةَ تُغْنَمُ
بِمِفْتَاحِهِ الذِّكْرِ الشَّرِيفِ وَذُو التَّقَى
يَنَالُ بِتَقْوَاهُ الْفَلاحَ وَيُكْرَمُ
وَمِفْتَاحُ تَوْفِيقِ الْفَتَى صِدْقُ رَغْبَةٍ
وَرَهْبَتِهِ ثُمَّ الدُّعَاءُ الْمُكَرَّمُ
لَدَى اللهِ مِفْتَاحُ الإِجَابَةِ وَاعْلَمَنْ
بَأَنَّ جَمِيلَ الزُّهْدِ لِلْعَبْدِ مَغْنَمُ
وَيُفْتَحُ لِلْعَبْدِ التَّجَلِّي بِرَغْبَةٍ
بِدَارِ الْبَقَاءِ فَازْهَدْ لَعَلَّكَ تَغْنَمُ
وَمِفْتَاحُ إِيمَانِ الْعِبَادِ تَفَكّرٌ
بِمَا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعَاهُمْ
إِلى نَظَرٍ فِيهِ وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا
بِهِ وَدُخُولُ الْعَبْدِ ذَاكَ الْمُفَخَّمُ
عَلَى رَبِّهِ مِفْتَاحُ ذَاكَ سَلامَةٌ
وَإِسْلامُ قَلْبٍ لِلإِلهِ فَأَسْلِمُوا
وَمَعْ ذَاكَ إِخْلاصٌ بِحُبِّ وَبُغْضِهِ(6/252)
.. وَفِعْلٌ وَتَرْكٌ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ
وَيُحْيِ قُلُوبَ الْعَارِفِينَ تَضَرُّعٌ
بَأَوْقَاتِ أَسْحَارٍ فَكُنْ أَنْتَ مِنْهُمْ
كَذَا الْوَحْيُ إِذْ يُتْلَى بِحُسْنِ تَدَبُّر
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَهِيَ لِلْقَلْبِ تُؤْلِمُ
وَإِحْسَانُ عَبْدٍ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ
وَنَفْعُ الْعِبَادِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمُ
لإِصْلاحِهِمْ مِفْتَاحُ تَحْصِيلِ رَحْمَةِ الْـ
إِلهِ فَلازِمْ ذَا لَعَلَّكَ تُرْحَمُ
وَمِفْتَاحُ رِزْقِ الْعَبْدِ سَعْيٌ مَعَ التُّقَى
وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ إِذْ هُوَ مُجْرِمُ
وِمِفْتَاحُ عِزِّ الْعَبْدِ طَاعَةُ رَبِّهِ
وَطَاعَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ فَعَظِّمُوا
وَمِفْتَاحُ الاسْتِعْدَادِ مِنْكَ لِمَا لَهُ
تَصِيرُ مِنْ الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ
هُوَ الْقَصْرُ لِلآمَالِ وَالْخَيْرُ كُلُّه
مِفْتَاحُهُ رَغْبٌ مِنْ الْعَبْدِ يُعْلَمُ
بِمَوْلاهُ وَالدَّارِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ
وَمِفْتَاحُ كُلِّ الشَّرِّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ
إِطَالَتْكُ الآمَالُ فَاحْذَرْ غُرُورَهَا
وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا الَّتِي تَتَصَرَّمُ(6/253)
.. وَمِفْتَاحُ نَارِ الْخُلْدِ شِرْكٌ بِرَبِّنَا
وَكِبْرُ الْفَتَى فَالْكِبْرُ حُوبٌ مُعَظَّمُ
وَإِعْرَاضُهُ عَمَّا عَنْ اللهِ قَدْ أَتَى
بِهِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ
وَغَفْلَتُه عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيَامِهِ
بِحَقٍّ لِذِي الْعَرْشِ الْمَلِيكِ يُحَتِّمُ
وَمِفْتَاحُ إِثْمٍ يُوبِقُ الْعَبْدَ مُسْكِرٌ
مِنْ الْخَمْرِ فَاحْذَرْهَا لَعَلَّكَ تَسْلَمُ
وَمِفْتَاحُ ذِي الْمَقْتِ الزَّنَا سِيِّءُ الْغِنَا
وَذَلِكَ قُرْآنُ اللَّعِينِ وَمَأْثَمُ
وَإِطْلاقُ طَرْفِ الشَّخْصِ مِفْتَاحُ عِشْقِهِ
لِمُسْتَحْسَنِ الأَشْبَاحِ فَهُوَ مُحَرَّمُ
وَبِالْكَسَلِ الْمَذْمُومِ مَعْ رَاحَةِ الْفَتَى
يَخِيبُ وَكُلُّ الْخَيْرِ لا شَكَّ يُحْرَمُ
وَمِفْتَاحُ كُفْرَانِ الْفَتَى وَبَرِيدُهُ
مَعَاصِيهِ وَالْعَاصِي قَرِيباً سَيَنْدَمُ
وَبَابُ نِفَاقِ الْعَبْدِ يَفْتَحُهُ إِذَا
يَكُونُ كَذُوباً وَالْكَذُوبُ مُذَمَّمُ
وشُحُّ الْفَتَى وَالْحِرْصُ مِفْتَاحُ بُخْلِهِ
وَمِفْتَاحُ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ
بَأَنْ لَيْسَ حِلاً مَعْ قَطِيعَةِ رَحْمِهِ(6/254)
.. وَكُلُّ ابْتِدَاعٍ فِي الْخَلِيقَةِ يُعْلَمُ
فَمِفْتَاحُهُ الأَعْرَاضُ عَمَّا أَتَى بِهِ
نَبِيُّ الْهُدَى مِنْ سُنَّةٍ نَتَعَلَّمُ
وَأَخْتِمْ قَوْلِي فِي الْقَرِيضِ بَأَنَّنِي
أُصُلِّي عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَأُسَلِّمُ
وَآلٍ مَعَ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الذِينَ هُمْ
لِمُقْتَبِسٍ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ أَنْجُمُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
صُوَر مِنْ حَيَاةِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ فِي صُورٍ مِنْ حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَتْ أَمُّ الْقُرَى مَعْقِلَ الْوَثِنِيَّةِ فِي جِزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَكَانَتْ مَجْمَعَ الأَصْنَام وَقِبْلَةَ الأَنْضَارِ وَمَطْمَعَ آمَالِ الْقَبَائِل قَرِيبَهَا وَبَعِيدَهَا وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حَارِسَةَ الْكَعْبَةِ وَسَادِنةَ الْبَيْتِ وَإِلَيْهَا الرِّيَاسَةُ وَالْقِيَادَةُ.
وَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْقَبَائِل مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مَنْزِلَةُ الْمَسُودِ مِنْ السَّيْدِ وَالتَّابِعِ مِنْ الْمَتْبُوعِ وَمِنْ هُنَا كَانَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ تَنْظُرُ إِلى الْمَعْرَكَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ نَظْرَةَ الْجِدِّ وَالاهْتِمَامِ وَتُتَابِعُ حَرَكَاتِهَا وَخُطُوَاتِهَا مُتَابَعةً دَقِيقَةً.
وَكَانَتْ كُلُّ حَرَكَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَخُطْوَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخُطَى تَتْرُكُ فِي اتِّجَاهَاتِ الْقَبَائِلِ أَثَراً بَارِزاً مِنْ حَيْثُ إِقْبَالِهَا عَلَى الإِسْلام أَوْ إِعْرَاضِهَا عَنْهُ وَمِنْ حَيْثُ اجْتِمَاعِهَا لَهُ أَوْ اجْتِمَاعِهَا عَلَيْهِ.
وَمَعَ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالْمَعَارِكَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْجَزِيرَةِ بَيْنَ(6/255)
الْمُسْلِمِينَ وَقُرَيْش وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ فِي نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كَانَتْ ذَاتَ أَثَرٍ فِي ظُهُورِ الإِسْلامِ وَانْتِشَارِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْقَبَائِلِ.
فَإِنَّ بَقَاءَ مَكَّةَ عَلَى شِرْكِهَا وَهِيَ أَمُّ الْقُرَى وَمَعْقلُ الْوَثَنِيَّةِ ظَلَّ سَدّاً حَائِلاً دُونَ خلُوصِ الْجَزِيرَةِ الْعَرِبِيَّةِ لِلإِسْلامِ وَحْدَهُ وَظَلَّتْ هِيَ الْعَقَبَةُ الْكَؤُودُ فِي طَرِيقِهِ.
وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ السَّادِسَةِ أَوَّل مَفَاتِيحِ هَذَا الْمَعْقِلِ الْعَتِيدِ فَقَدْ اعْتَرَفَتْ قَرَيْشٌ فِي ذَلِكَ الصُّلْح بَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ مَذْهَبٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ لا بَأْسَ مِنْ أَنْ تُقِيمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَهْداً يَسْتَقِرُّ بِهِ السَّلْمُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بَعْدَ مَا عَجَزَتْ كُلَّ الْعَجْزِ وَفَشَلَتْ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَذْهَبِهِ لَقَدْ ظَلَّتْ قُرَيْشٌ دَهْراً طَوِيلاً لا تَعْتَرِفُ بِمُحَمَّدٍ وَلا بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ الذِي خَالَفَ بِهِ دِينَهَا وَعَقَائِدَهَا وَخَرَجَ بِهِ عَلَى تَقَالِيدِهَا وَتَقَالِيدِ آبَائِهَا وَقَلَبَ بِهِ أَوْضَاعِهَا رَأْساً عَلَى عَقِبٍ وَظَلَّتْ قُرَيْشٌ فِي كِبْرِيَائِهَا وَتَعَاظُمِهَا تَفْتَرِي عَلَيْهِ الأَكَاذِيبَ وَتَصِفُهُ بِمَا تَشَاءُ مِنْ الأَوْصَافِ الَّتِي تُشَوِّهُ سُمْعَتَهُ وَدَعْوَتَهُ بَيْنَ الْعَرَبِ فَلَمَّا عَجَزَتْ وَانْقَطَعَتْ بِكُلِّ وَسَائِلِهَا أَنْ تَقْضِي عَلَيْهِ وَعَلَى دَعْوَتِهِ اضْطَرَّتْ أَنْ تُنْزِلَهُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ النِّدِّ مِنْ النِّدِّ وَأَنْ تُصَالِحَه وَلَو إلى حِينٍ لِتَتَّقِي خَطَرَهُ وَتَأْمَنَ جَانِبَهُ فَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ أَوَّلَ مِفْتَاحٍ فَكَّ اللهُ بِهِ إِغْلاقَ مَكَّةَ.
ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ هِيَ الْمِفْتَاحُ الثَّانِي مِنْ(6/256)
مَفَاتِيحِ ذَلِكَ الْحِصْنِ فَقَدْ كَانَ مَظْهَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَهُمْ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَفِي ائْتِلافِهِمْ وَتَضَامُنِهم وَفِي حُسْنِ انْقِيَادِهِمْ وَدِقَّةِ نِظَامِهِمْ وَفِي صِدْقِ مَحَبَّتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عَظِيمِ حَمَاسَتِهِمْ لِدِينِهم وَشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِآدَابِهِ وَفِي بَالِغِ تَقْدِيسِهِمْ لِلْبَيْتِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَفِي كُلِّ مَا كَانُوا يُؤدُّونهُ مِنْ شَعَائِرِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَمَاسَةِ وَهَذِهِ الأَلْفَةِ وَهَذَا النِّظَامِ وَهَذَا التَّرَفُّع عَنْ كُلِّ مَا يَشِينُ أَخْلاقَ الرِّجَالِ كَانَ مَظْهَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ هَذَا مَظْهَراً هَزَّ نُفُوسَ أَهْلِ مَكَّةِ هَزّاً عَنِيفاً وَلَمَسَ مَكَانَ الْعَقِيدَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَزَلْزَلَهَا زِلْزَالاً شَدِيداً فَأَخَذُوا يَنْظُرُونَ إِلى الْمُسْلِمِينَ نَظْرَةَ الإِعْجَابِ وَالإِكْبَارِ وَالإِعْظَامِ وَيَنْظُرُونَ إِلى الإِسْلامِ نَظْرَةَ التَّفْكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمْ وَجَعَلُوا يُقَارِنُونَ بَيْنَ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِين وَعَقِيدَةٍ وَمِنْ تَقَالِيدَ لا يَقْبَلُهَا عَقْلٌ سَلِيمٌ ولا يُقِرُّهَا مَنْطِقٌ وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ هَذِهِ الشَّعَائِر الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي خُشُوعٍ وَانْسِجَامٍ وَخُضُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَبَيْنَ مَا يَفْعَلُونَ هُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ مِنْ لَغْوٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ وَبَاطِلٍ وَمَا يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ مِنْ مُكَاءٍ وَتَصْدِيَةٍ - أَي صَفِيرٍ وَتَصْفِيقٍ -.
نَعَمْ أَخَذُوا يَنْظُرُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ فَوَجَدُوا فَرْقاً شَاسِعاً، وَبَوْناً بَعِيداً بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلالِ وَمَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ النُّورِ فَلانَتْ قُلُوبُهُمْ لِلإِسْلامِ.
وَصَغَتْ إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهم فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْهَرَ بِإسْلامِهِ. وَأَسَرَّ الإِسْلامَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِظْهَارِه، وَتَهَيَّأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأَنْ يُسْلِمُوا لَوْلا بَعْضُ الْمَوَانِع الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ الَّتِي أُصِيبَتْ(6/257)
بِهَا عَقِيدَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِفْتَاحاً آخَرَ فَكَّ اللهُ بِهِ أَغْلاقَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَرَادَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَفُكَّ كُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَغْلاقِ هَذَا الْحِصْن، فَكَانَ مَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ مِنْ نَقْضِ قُرَيْشٍ لِعَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَبِيلَتِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ دَماً وَتِرَاتاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَتْ بَكْرٌ فِي عَهْدِ قُرَيْش هَدَأَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَأَمِنَ كُلُّ فَرِيقٍ جَانِبَ عَدُوَّهِ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ: فَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ الثَّأْرَ الْقَدِيمَ فَخَرَجَ نَوْفَلُ بنُ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي بَكْر فَبَيَّتَ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالاً وَتَنَاوَشُوا وَاقْتَتَلُوا وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَني بَكْرٍ بِالسِّلاحِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ قَاتلَ مُسْتَخْفِياً.
فَلَجَأَتْ خُزَاعَةُ إِلى الْحَرَمِ لِتَحْتَمِي بِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ رِجَالَ بَكْرٍ مِنْ مُتَابَعَتِهَا حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلاً فَلَمَّا دَخَلَتْ خُزَاعَة مَكَّةَ لَجَؤُوا إِلى دَارِ بُدَيلِ ِبْن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ وَمُوْلَى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رَافِعُ وَخَرَجَ عَمْرُو بن سَالِمٍ الْخَزَاعِي حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى الْمَدِينَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانِي أَصْحَابِهِ.
فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداً
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا(6/258)
قَدْ كُنْتُمُوا وِلْداً وَكُنَّا وَالِدَا
ثُمَّ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنَزَعْ يَدَ
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّداً
وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا
أَبْيَضُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَسْمُو صُعُدَا
إِن سِيمَ خَسْفاً وَجْهُه تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءَ رَصَدَا
وَزَعَمُوا أَنَّ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هم بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا
وَقَتَّلُونَا رُكَّعاً سُجَّدَاً
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بنَ سَالِم» . ثُمَّ عَرَضَتْ سَحَابَةٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ)) . ثُمَّ خَرَجَ بَدِيلُ بن وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ فِيهِمْ وَبِمَظَاهِرِ قُرَيْشٍ لِبَنِي بَكْر ثُمَّ رَجَعُوا إِلى مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّكُمْ بَأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ(6/259)
لِيَشُدَّ فِي الْعَقْدِ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ» . وَوَقَعَ طِبْقَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ وَقَدْ أَحَسَّتْ قُرَيْشٌ بِمَا وَرَاءَ غَدْرِهَا ذَاكَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فَأَوْفَدَتْ إِلى الْمَدِينَةِ زَعِيمَهَا أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ لَعَلَّهُ يَتَلاقَى هَذِهِ الْغَلْطَةَ وَنَتَائِجَهَا وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَحِسُّ خَطَرَ هَذَا الأَمْرِ الذِي هُوَ مُقْدِمٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشَأْ الذِّهَابَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَّأَ، بَلْ لابُدَّ مِنْ تَمْهِيدِ الطَّرِيقِ لِلِقَائِهِ.
فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشْفِعُ بِهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ أُمِّ حَبِيبَةَ.
فَعَجِبَ أَبُو سُفْيَانَ لِمَا رَأَى مِنْ فِعْلِ ابْنَتِهِ وَقَالَ لَهَا: بُنَيَّةُ مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي فَجَابَهَتْهُ ابْنَتُه فِي صَرَاحَةٍ تَقُولُ: بَلْ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ هَذِهِ صَدْمَة شَدِيدَة الْوَقْعِ عَلَى نَفْسِ أَبِي سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُهَا مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ.
فَلَمْ يَمْلِكْ أَنْ قَالَ لابْنَتِهِ مُعَبِّراً عَمَّا نَالَهُ مِنْ الإهَانَةِ: وَاللهِ لَقَدْ أَصَابَكَ بَعْدِي يَا بُنَيَّة شَرٌّ ثُمَّ خَرَجَ خَجِلاً مُضَعْضَعَ النَّفْسِ مَكْلُومَ الْفُؤادِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئاً فَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدْمَةُ أنَكْىَ مِنْ الأَوْلَى.
اللَّهُمَّ يَا مَنَّ عَمَّ الْبَرِيَّةِ جُودُهُ وَإِنْعَامُه نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانك، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/260)
(فَصْلٌ)
فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَشَدَّ مَا يَكُونُ خَجَلاً وَإنْكِسَاراً وَذَهَبَ يَسْتَشْفِعُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ إِلى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ وَذَهَبَ إِلى عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ.
فَقَالَ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاللهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا الذََّّر لَجَاهَدْتكم بِهِ وَهِذِهِ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ حَطَّمَتْهُ زِيَادَةً، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ وَحَسَنٌ غُلامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا فَقَالَ: يَا عَلِيَّ إِنَّكَ أَمَسَّ الْقَوْمِ بِي رَحِمَاً وَإِنِّي قَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ فَلا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبَا اشْفَعْ لِي إِلى مُحَمَّدٍ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَاللهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ.
فَالْتَفَتْ إِلى فَاطِمَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَأْمُرِي ابْنَكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلى آخِرِ الدَّهْرِ؟ .
قَالَتْ: (وَاللهِ مَا يَبْلُغ ابْنِي ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، فَانْصَحْنِي، قَالَ: (وَاللهِ مَا أَعْلَمُ لَكَ شَيْئاً يُغْنِي عَنْكَ، وَلِكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجْرِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بَأَرْضِكَ) .
قَالَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِياً عَنِّي شَيْئاً؟ قَالَ: (لا، وَاللهِ مَا أَظُنُّه، وَلَكِنِّي مَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ) فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي(6/261)
قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ، فَانْطَلَقَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟
قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّداً فَكَلَّمْتُه، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئاً ثُمَّ جِئْتُ ابنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْراً، ثُمَّ جِئْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ فَوَجَدتُه أَوْفَى الْعَدُو، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيّاً فَوَجَدْتُه أَلْيَنَ الْقَوْمِ. قَدْ أَشَارَ عَلَيّ بِشَيْءٍ صَنَعْتُه، فَوَاللهِ مَا أَدْرِي: هَلْ يُغْنِي عَنِّي شَيْئاً، أَمْ لا؟ .
قَالُوا: وَبِمَ أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَفَعَلْتُ، فَقَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لا، قَالُوا: وَيْلَكَ، وَاللهِ إِنْ زَادَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، قَالَ: لا وَاللهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَأَمَرَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْجِهَاز، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَهِيَ تُحَرِّكُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَمَرَكُنَّ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْهِيزِهِ؟ .
قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَجَهَّزَ، قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ: لا وَاللهِ، مَا أَدْرِي. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكَّة، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّجَهُّزِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ خُذْ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا» . فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، فَكَتَبَ حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلى قُرَيْشٍ كِتَاباً يُخْبِرُهُمْ فِيهِ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً، وَجَعَل لَهَا جُعْلاً عَلَى أَنْ تبَلِّغَهُ قُرَيْشاً، فَجَعَلَتْهُ فِي قُرُونِ رَأْسِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ. وَأَتَى(6/262)
رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّاً وَالزُّبَيْر.
وَغَيْرُ ابنِ إِسْحَاق يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيّاً وَالْمِقْدَادَ - فَقَالَ: «انْطَلِقَا حَتَّى تَأْتِيَا رَوْضَةَ خَاخ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ إِلى قُرَيْشٍ، فَانْطَلَقَا تَعَادَى بِهِمَا خَيْلُهَمَا، حَتَّى وَجَدَا الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ الْمَكَانَ، فَاسْتَنْزَلاهَا، وَقَالا: مَعَكِ كِتَابٌ؟ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَفَتَّشَا رَحْلَهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئاً، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: أَحْلِفُ بِاللهِ، مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا كَذِبْنَا، وَاللهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرَّدَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ.
قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ. فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِمَا، فَأَتَيَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ (مِنْ حَاطِب بنِ أَبِي بَلْتَعَة إِلى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهم بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ) .
فَدَعَا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطباً، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا حَاطِب)) ؟ فَقَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا ارْتَدَدْتُ وَلا بَدَّلْتُ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ لَسْتُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِي فِيهِمْ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَوَلَدٌ، وَلَيْسَ لِي فِيهِمْ قُرَابَةٌ يَحْمُونَهُمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ لَهُمْ قُرَابَاتٌ يَحْمُونَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ: أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي.
فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ(6/263)
قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ نَافَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ؟ لَعَلَّ الله قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . فَذَرَفَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمْ.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ صَائِمٌ وَالنَّاسُ صَائِمُونَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْكُدَيْدِ - وَهُوَ الذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ قُدَيْداً - أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَهُوَ بَطْنُ مَرٍّ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلافٍ، وَعَمَّى اللهُ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، فَهُمْ عَلَى وَجَلٍ وَارْتِقَابٍ.
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَخْرُجُ يَتَجَسَّسُ الأَخْبَارَ، فَخَرَجَ هُوَ وَحَكِيمُ بن حزَامٍ وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ يَتَجَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ مُسْلِماً مُهَاجِراً، فَلَقِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُحْفَةِ - وَقِيلَ: فَوْقَ ذَلِكَ - وَكَانَ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ ابنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الْحَرْثِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، لَقِيَاهُ بِالأَبْوَاءِ، وَهُمَا ابنُ عَمِّهِ وَابنُ عَمَّتِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ مِنْهُمَا مِنْ شِدَّةِ الأَذَى وَالْهَجْوِ.
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: (لا يَكُنْ ابنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ) وَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي سُفْيَانَ - فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ الْبَرِّ – (إئْتِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقَلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسَفَ لِيُوسُفَ (12: 91) : {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فَإِنَّهُ لا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلاً، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو(6/264)
سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الْحَرْثِ أَبْيَاتاً، مِنْهَا:
لَعَمْرُكَ إِنِّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً
لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَ الْمُدْلِجِ الْحَيْرَانَ أَظْلَمَ لَيْلُهُ
فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أَهْدِي فَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرَ نَفْسِي وَدَلَّنِي
عَلَى اللهِ مَنْ طَرَّدْتَهُ كُلَّ مَطْرَدِ
فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: «أَنْتَ طَرَدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدِ» ؟ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالَ: إِنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمَ، حَيَاءً مِنْهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَةَ» وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: (لا تَبْكُوا عَلَيَّ فَوَاللهِ مَا نَطَقْتُ بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ) .
(فَصْلٌ) عَادَ الْحَدِيثُ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ نَزَلَهُ عِشَاءً فَأَمَرَ الْجَيْشَ فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ فَأوْقِدَتْ عَشَرَةُ آلافِ نَارٍ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ، وَرَكِبَ الْعَبَّاسُ بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءَ، وَخَرَجَ يَلْتَمِسُ، لَعَلَّهُ يَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ، أَوْ أَحَداً يُخْبِرُ قُرَيْشاً لِيَخْرُجُوا يَسْتَأْمِنُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً.(6/265)
قَالَ: (وَاللهِ إِنِّي لأَسِيرُ عَلَيْهَا إِذْ سَمِعْتُ كَلامَ أَبِي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ وبديل بن وَرْقَاءَ، وَهُمَا يَتَرَاجَعَان، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَاناً قَطْ وَلا عَسْكَراً. قَالَ: يَقُول بُدَيْلُ: هَذِهِ وَاللهِ خُزَاعَةُ خَمَشَتْهَا الْحَرْبُ، فَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَقَل وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانها وَعَسْكَرُهَا. قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهَ فَقُلْتُ: أَبَا حَنْظَلَةَ؟ فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أَبَا الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: مَالَكَ؟ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: قُلْتَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ، وَاصبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللهِ، قَالَ: فَمَا الْحِيَلَةُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قُلْتُ: وَاللهِ لَئِنْ ظَفَرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنَقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُز هَذِهِ الْبَغْلَةِ، حَتَّى آتِي بِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْتَأْمِنْهُ لِكَ، فَرَكَبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ.
قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِهِ عَلَى نَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوا بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا، قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتَّى مَرِرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إِلَيَّ.
فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ عَدُّوُ اللهِ، الْحَمْدُ للهِ الذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلا عَهْدٍ، ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكَضْتُ الْبَغْلَةَ، فَسَبَقْتُ فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنَقَهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، ثُمَّ(6/266)
جَلَسْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي.
فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ، قُلْتُ: مَهْلاً يَا عُمَرُ، فَوَاللهِ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عُدي بن كَعْبٍ مَا عَمِلْتَ مِثْلَ هَذَا، قَالَ: مَهْلاً يَا عَبَّاسُ، فَوَاللهِ لإِسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلى رَحْلِكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ» . فَذَهَبْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ بِهِ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ» ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! ! لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئاً بَعْدُ.
قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! ! أَمَّا هَذِهِ: فَإِنَّ فِي النَّفْسِ حَتَّى الآن مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُكَ، فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئاً، قَالَ: «نَعَمْ، مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ» . وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا، فَفَعَلَ فَمَرَّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ(6/267)
بِهِ قَبِيلَةٌ قَالَ أَبُو سُفْيَان: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ. قَالَ: فَيَقُولُ مَالِي وَلِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُر بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَالِي وَلِمُزَيْنَةَ، حَتَّى نَفَذَتْ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلا سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِمْ قَالَ: مَالِي وَلِبَنِي فُلانٍ، حَتَّى مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
قَالَ: مَا لأَحَدٍ بِهَوُلاءِ قِبَلٌ وَلا طَاقَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ عَظِيماً. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَان، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فَنِعَمْ إِذاً.
قَالَ: قُلْتُ: النَّجَاء إِلى قَوْمِكَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بن عُبَادَةَ فَلَمَّا مَرَّ بَأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحَرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللهُ قُرَيْشاً.
فَلَمَّا حَاذَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَان قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدٌ؟ قَالَ: «وَمَا قَالَ)) ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ الْيَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، الْيَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشاً» . ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى سَعْدٍ، فَنَزَعَ مِنْهُ اللِّوَاءَ وَدَفَعَهَ إِلى قَيْسِ ابْنِهِ وَرَأَى أَنَّ اللِّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَعْدٍ، إِذْ صَارَ إِلى ابْنِهِ،(6/268)
قَالَ أَبُو عُمَر: وَرُوِي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَعَ مِنْهُ الرَّايَةَ دَفَعَهَا إِلى الزُّبَيْرِ) .
وَمَضَى أَبُو سُفْيَانَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ قُرَيْشاً صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الْحُمَيْتَ الدَّسِمَ الأَحْمَشَ السَّاقَيْنِ، قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ.
قَالَ: وَيْلَكُمْ، لا تَغُرَّنَكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللهُ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ فَهُوَ آمِنٌ.
فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلى دُورِهِمْ، وَإِلى الْمَسْجِدِ، وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ مَكَّة مِنْ أَعْلاها، وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبَّةٌ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بنَ الْوَلِيد أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. وَكَانَ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الْيُمْنَى وَفِيهَا أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الرِّجَالَةِ وَالْحُسَّرِ، وَهُمْ الذِينَ لا سِلاحَ مَعَهُمْ، وَقَالَ لِخَالِدِ وَمَنْ مَعَهُ: (إِنْ عَرَضَ لَكُمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْداً، حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا) فَمَا عَرَضَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلا أَنَامُوهُ. وَتَجَمَّعَتْ سُفَهَاءُ قُرَيْش وَأَخفَّاؤُهَا مَعَ عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بن أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بن عَمْروٍ بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَجَنِّبْنَا الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ الْمُوبِقَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْركَ فِي(6/269)
جَمِيع الأَوْقَاتِ وَزَحْزِحْنَا عَنْ النَّارِ وَأَدْخِلْنَا فَسِيحَ الْجَنَّاتِ يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَمَ تَسْلِيْماً كَثِيْرَاً.
(فَصْلٌ) : وَكَانَ حَمَاسُ بنُ قَيْسِ بن خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلاحاً قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ: وَاللهِ مَا يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْئاً، قَالَ: إِنِّي وَاللهِ لأَرْجُو أَنِّي أُخْدِمُكَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ قَالَ:
إِنْ يَقْبَلُوا الْيَوْمَ فَمَالِي عِلَّهْ
هَذَا سِلاحٌ كَامِلٌ وَإِلَّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعَ السَّلهَ
ثُمَّ شَهِدَ الْخَندَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلِ بن عَمْرو، فَلََمَّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ نَاوَشُوهُمْ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، فَقُتِلَ كُرْزُ بنُ جَابِرٍ الْفِهْرِي، وَخُنَيْسُ بنُ خَالِدِ بنِ رَبِيعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بنِ الْوَلِيدِ، فَشَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا طَرِيقاً غَيْرَ طَرِيقِهِ فَقُتِلا جَمِيعاً فَأُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَحْو اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَانْهَزَمَ حَمَّاسٌ صَاحِبُ السِّلاحِ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟
فَقَالَ: إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَةْ
إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ
وَأَبُو يَزِيدٍ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْباً، فَلا يُسْمَعُ إِلا غَمْغَمَهْ(6/270)
لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ تَنْطَقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمَجْنَبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ عَلَى الْحُسَّرِ، وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ.
قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشاً لَهَا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاءِ، فَإِنْ كَانَ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)) . فَقُلْتُ: لَبَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ: ((اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ، وَلا يَأْتِينِي إِلا أَنْصَارِيٌ)) . فَهَتَفَ بِهِمْ، فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَتَرَوْنَ إِلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ)) ؟ ثُمَّ قَالَ بِيَدِيهِ - إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى احْصُدُوهُمْ حَصْداً حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا، فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْْتُلَ مِنْهُمِ إِلا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَجَّهَ إِلَيْنَا شَيْئاً وَرَكَزْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُجُونِ عِنْدَ مَسْجِدِ الْفَتْحِ.
ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلْفَهُ وَحَوْلَهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَأَقْبَلَ إِلى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ ثَلاثُمَائَةُ وَسِتُّونَ صَنَمَا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِالْقُوسِ، وَيَقُولُ: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} جَاءَ الْحَقُّ، وَمَا(6/271)
يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدْ، وَالأَصْنَامُ تَتَسَاقَطُ عَلَى وُجُوهِهَا.
وَكَانَ طِوَافُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمَاً يَؤْمَئِذٍ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الطَّوَافِ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ دَعَا عُثْمَانَ بن طَلْحَة، فَأَخَذْ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَ بِهَا فَفُتِحَتْ، فَدَخَلَهَا بِالأَزْلامِ، فَقَالَ: «قَاتَلَهُمْ اللهُ، وَاللهِ إِنْ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُ» . وَرَأَى فِي الْكَعْبَةِ حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَّرَهَا بِيَدِهِ وَأَمَرَ بِالصُّوَرِ فَمُحِيَتْ، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ، وَعَلى أُسَامَةَ وَبِلالٍ فَاسْتَقْبَلَ الْجِدَارَ الذِي يُقَابِلُ الْبَابَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ثَلاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَفَ وَصَلَّى هُنَاكَ، ثُمَّ دَارَ فِي الْبَيْتِ وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَوَحَّدَ اللهَ، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ وَقُرَيْشٌ قَدْ مَلأَتِ الْمَسْجِدَ صُفُوفاً، يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَصْنَعُ، فَأَخَذَ بعِضَادَتَى الْبَابِ، وَهُمْ تَحْتَهُ، فَقَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ألا كلُ مَأْثَرَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دَمٍ: فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِيَّ هَاتَيْنِ، إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ، أَلا وَقَتْلُ الْخَطَأ شِبْهُ الْعَمْدِ: السَّوْطُ وَالْعَصَا، فَفِيهِ الدِّيَّةُ مُغْلَّظَةٌ (مَائَةٌ مِنْ الإِبِلِ) أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا.
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نِخْوَةَ الْجَاهِلَيَّةِ وَتَعْظُمَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ تَلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ)) ؟ قَالُوا: خَيْراً أَخٌ كَرِيمٌ، وَابنُ أَخٍ كَرِيم.
قَالَ: ((فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسفُ لإِخْوَتِهِ (12: 92) : {لاَ(6/272)
تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ)) . ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وِمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ)) ؟ فَدُعِي لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء» .
وَذَكَر ابنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ قَالَ: (كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النَّاسِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُ، فَنِلْتُ مِنْهُ، فَحَلُمَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ لَعَلَّكَ سَتَرى هَذَا الْمفْتَاحَ يَوْماً بِيَدِي، أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ)) . فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وذَلَّتْ، فَقَالَ: ((بَلْ عَمَرَتْ وَعَزَّتْ يَوْمَئِذٍ)) . وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقعاً، ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلى مَا قَالَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ، ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ)) . فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلِيَّ، وَقَالَ: «خذوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ، فَكَلُوا مِمَّا يَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ)) . قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ نَادَانِي، فَرَجِعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ الذِي قُلْتُ لَكَ)) ؟ قَالَ: فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي بِمَكَّةَ قَبِيلَ الْهِجْرَةِ: «لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» . فَقُلْتُ: بَلَى، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.
وَذَكَرَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الْعَبَّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ لأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى(6/273)
عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِلالاً: أَنْ يَصْعَدَ فَيُؤَذِّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بنُ أُسَيْدٍ، وَالْحَارِثُ ابنُ هِشَامٍ، وَأَشْرَافٌ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ أُسَيَّداً أَنْ لا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يُغِيظُهُ، فَقَالَ الْحَارِثُ: أَمَا وَاللهِ، لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ لاتَّبَعْتُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَا وَاللهِ، لا أَقُولُ شَيْئاً، لَوْ تَكَلَّمْتُ لأَخْبَرَت عَنِّي الْحَصَبَاءُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: ((قَدْ عَلِمْتُ الذِي قُلْتُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ)) . فَقَالَ الْحَرْثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَاللهِ مَا اطَّلعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا، فَنَقُولُ: أَخْبَرَكَ وَهِذِهِ مُعْجِزَةٌ حَيْثُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالُوا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذَ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ، وَاجْعَلْنَا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ آمِنِينَ، وَأَوْصِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَمِكَ إِلى جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ أُمّ هَانِئ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي بَيْتِهَا وَكَانَ ضُحَى، فَظَنَّها مَنْ ظَنَّهَا صَلاةَ الضُّحَى، وَإِنَّمَا هَذِهِ صَلاةُ الْفَتْحِ، وَكَانَ أُمَرَاءُ الإِسْلامِ إِذَا فَتَحُوا حِصْناً أَوْ بَلَداً صَلُّوا عَقِيبَ الْفَتْحِ هَذِهِ الصَّلاةَ اقْتِدَاءً برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي الْقِصَّةِ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِسَبَبِ الْفَتْحِ، شُكْراً للهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ أُمَّ هَانِئٍ قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُهُ صَلاهَا قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا) وَأَجَازَتْ أُمُّ هَانِئٍ حَمْوَيْنِ لَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أُجِرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» .(6/274)
(فَصْلٌ)
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْفَتْحُ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، إِلا تِسْعَةَ نَفَرٍ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُمْ: عَبْدُ اللهِ بنُ سَعْدِ أَبِي سَرْحٍ، وَعِكْرِمَةُ ابنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ الْعَزَّى بنُ خَطَلٍ، وَالْحَارِثُ بنُ نُفَيْلٍ بنُ وَهْبٍ، وَمَقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ، وَهَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ، وَقَيْنَتَانِ لابنِ خَطَلٍ، كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَارَةُ مَوْلاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدُ الْمُطَّلِبِ.
فَأَمَّا ابنُ أَبِي سَرْحٍ، فَأَسْلَمَ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبِلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَيَقْتُلََهُ.
وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَع إِلى مَكَّةَ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ أَنْ فَرَّ فَأَمَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ وَأَمَّا ابنُ خَطَلٍ وَالْحَارِثُ وَمِقْيَسُ وَإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ، فَقُتِلُوا وَكَانَ مَقِيسُ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَتَلَ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينِ، وَأَمَّا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ فَهُوَ الذِي عَرَضَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَتْ، فَنَخَسَ بَطْنَهَا حَتَّى سَقَطَتْ عَلَى صَخْرَةٍ وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا فَفَرَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ.
وَاسْتُؤمِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَارَةَ وَلإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ فَأَمَّنَهُمَا فَأَسْلَمَتَا.(6/275)
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيباً، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُه ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَماً أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) .
وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ وَمَوْلِدُهُ - قَالَ الأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ، يُحِبُّ أَنْ يُقِيمَ بِهَا وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصَّفَا، رَافِعًا يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: «مَاذَا قُلْتُمْ)) ؟ قَالُوا: لا شَيْء يَا رَسُول اللهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى اخْبَرُوه فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَعَاذَ اللهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مِمَاتُكُمْ» .
شِعْرًا: ... إِذَا كُنْتَ في دَارٍ وَضَامَكَ أَهْلُهَا ... وَقَلْبُكَ مَشْغُوفٌ بِهَا فَتَغَرَّبِ
فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ ... بِمَكَّةَ أَمْرٌ فَاسْتَقَامَ بِيَثْرِبِ
وَقَالَ آخر مُتَذَكِّراً وَطَنَهُ وَمَسْقطَ رَأْسِهِ في الْقَصِيم في عُنَيْزَةَ:
وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْقَصِيمِ فَأَنْثَنِي ... عَلَى كَبَدِي مِنْ خَشْيِةَ أَنْ تَصَدَّعَا
بَكَتْ عَيْنِي الْيُمْنَى فَلَمَّا نَهَيْتُهَا ... عَنِ الْجَهْلَ بَعْدَ الْحِلْم أَسْبَلَتَا مَعَا
فَلَيْتَ عَشِيَّاتِ الْقَصِيمِ رَوَاجِعٌ ... عَلَيَّ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَا
وَلا سِسَّمَا دَاراً تُسَمَّى عُنَيْزَةً ... قَضَيْتَ بَهَا عَشْراً وَأَرْبَعَا
آخر: ... إِذَا خِفْتَ مِنْ دَارٍ هَوَاناً فَوَلِّهَا ... سِوَاكَ وَعَنْ دَارِ الأَذَى فَتَحَوَّلِ(6/276)
وَهُمَّ فَضَالَةُ بنُ عُمَيْرِ بنِ الْمُلَوِّحِ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفَضَالَةَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ)) ؟ قَالَ: لا شَيْءَ كُنْتُ أَذْكُرُ اللهَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْتَغْفِر اللهِ)) . ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ.
وَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: (وَاللهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ) قَالَ فَضَالَةُ: فَرَجَعْتُ إِلى أَهْلِي، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلى الْحَدِيث، فَقُلْتُ: لا، وَانْبَعَثَ فضالة يقولُ:
قَالَتْ: هَلُمَّ إِلى الْحَدِيثِ، فَقُلْت: لا
يَأْبَى عَلَيْكِ اللهُ وَالإِسْلامُ
لَوْ قَدْ رَأَيْتِ مُحَمَّداً وَقَبِيلَهُ
بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكُسَّرُ الأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّناً
وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ
وَفَرَّ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، فَأَمَّا صَفْوَانُ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ الْجُمَحِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّنَهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَّةَ، فَلَحِقَهُ عُمَيْرٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَرَدَّهُ فَقَالَ: اجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ، فَقَالَ: أَنْتَ باِلْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرْ.
وَكَانَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بنِ هَشَامٍ تَحْتَ عِكْرَمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ(6/277)
فَأَسْلَمَتْ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُ، فَلَحِقَتْهُ بِالْيَمَن، فَأَمَّنَتْهُ فَرَدَّتْهُ، وَأَقَرَّهَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَصَفْوَانُ عَلَى نِكَاحِهَا الأَوَّل.
ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمِيمَ بنَ أُسَيْدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَ أَنْصَابَ الْحَرَم.
وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَايَاهُ إِلى الأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَكُسِّرَتْ كُلُّهَا مِنْهَا اللاتُ، وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الأُخْرَى، وَنَادَى مُنَادِيه بِمَكَّةَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَماً إِلا كَسَرَهُ) .
وَبَعَثَ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ إِلى الْعُزَّى لِخَمْسِ لَيَالٍ بِقَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِيَهْدِمَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهَا فِي ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَهُوا إِلَيْهَا فَهَدَمَهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «هَلْ رَأَيْتُ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: لا قَالَ: ((فَإِنَّكَ لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَاهْدِمْهَا)) . فَرَجَعَ خَالِدُ - وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ - فَجَرَّدَ سَيْفَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةٌ الرَّأْسَ، فَجَعَلَ السَّادِنُ يَصِيحُ بِهَا فَضَرَبَهَا خَالِدُ، فَجَزَلَهَا بِاثْنَتيْنِ، وَرَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((نَعَمَ، تِلْكَ الْعُزَّى، وَقَدْ أَيَسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِي بِلادِكُمْ أَبَداً» . وَكَانَتْ بِنَخْلَة، وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ، وَكَانْ سَدَنَتُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ. فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ بَعَثَ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ إِلى سُوَاعٍ - وَهُوَ صَنَمٌ لِهَذِيلٍ - لِيَهْدِمَهُ، قَالَ عَمْرٌو: (فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ السَّادِنُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَمَرَنِي(6/278)
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُهْدِمَهُ، فَقَالَ: لا تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: تُمْنَعُ، قُلْتُ حَتَّى الآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ؟ وَيْحَكَ، فَهَلْ يَسْمَعَ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَكَسَّرْتُهُ، وَأَمَرْتُ أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خَزَّانَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ شَيْئاً، ثُمَّ قُلْتُ لِلسَّادِنْ: كَيْفَ رَأَيْت؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ للهِ.
ثُمَّ بَعَثَ سَعْدَ بنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِي إِلى مَنَاة وَكَانَتْ بِالْمُشَلَّلِ، عِنْدَ قُدَيْدٍ لِلأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسَّانَ وَغَيْرِهِمْ، فَخَرَجَ فِي عِشْرِينَ فَارِس، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا، وَعِنْدَهَا سَادِنٌ، فَقَالَ السَّادِنُ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَهْدِمُ مَنَاةَ، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عِرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ، ثَائرَةٌ الرَّأْسَ، تَدْعُو بِالْوَيْلِ، وَتَضْرِبُ صَدْرَهَا، فَقَالَ لَهَا السَّادن: مَنَاةُ، دُونَكَ بَعْضُ عَصَاتِكَ، فَضَرَبَهَا سَعْدٌ فَقَتَلَهَا وَأَقْبَلَ إِلى الصَّنَمِ فَهَدَمَهُ وَكَسَّرَهُ وَلَمْ يَجِدُوا فِي خِزَانَتِهِ شَيْئاً.
شِعْراً فِي الْحَثِّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَتَدَبُّرِهِ وَتَفَهَّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ:
وَبِالتَّدْبُرِ وَالتَّرْتِيلِ فَاتْلُ كِتَا
ب اللهِ لاسِيَّمَا فِي حِنْدِسِ الظُّلْمِ
حَكِّمْ بَرَاهِينَهُ وَاعْمَلْ بِمُحْكَمِهِ
حِلاً وَحَظْراً وَمَا قَدْ حَدَّهُ أَقِمِ
وَاطْلُبْ مَعَانِيهِ بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَلا
تَخُضْ بِرَأَيْكَ وَاحْذَرْ بَطْشَ مُنْتَقِمِ
فِيمَا عَلِمْتَ بِمَحْضِ النَّقْلِ مِنْهُ فَقُلْ
وَكِلْ إِلى اللهِ مَعْنَى كُلِّ مُنْبَهِمِ(6/279)
ثُمَّ الْمِرَا فِيهِ كُفْرٌ فَاحْذَرَنْهُ وَلا
يَسْتَهْوِيَنَّكَ أَقْوَامٌ بِزَيْغِهِمِ
وَعَنْ مَنَاهِيهِ كُنْ يَا صَاحِ مُنْزِجِراً
وَالأَمْرَ مِنْهُ بِلا تَرْدَادَ فَالْتَزِمِ
وَمَا تَشَابَهَ فَوِّضْ لِلإلَهِ وَلا
تَخُضْ فَخَوْضُكَ فِيهِ مُوْجِبُ النَّقَمِ
وَلا تُطِعْ قَوْلَ ذِي زَيْغٍ يُزَخْرِفُهُ
مِنْ كُلَّ مُبْتَدِعٍ فِي الدِّينِ مُتَّهَمِ
جَيرَانَ ضَلَّ عَنْ الْحَقِّ الْمُبِينِ فَلا
يَنْفَكُّ مُنْحَرِفاً مُعَوّجَ لَمْ يَقُمِ
هُوَ الْكِتَابُ الذِي مَنْ قَامَ يَقْرَؤُهُ
كَأَنَّمَا خَاطَبَ الرَّحْمَنَ بِالْكَلِمِ
هُوَ الصِّرَاطُ هُوَ الْحَبْلُ الْمَتِينُ هُوَ الْـ
مِيزَانُ وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى لِمُعْتَصِمِ
هُوَ الْبَيَانُ هُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ هُوَ التَّـ
تَفْصِيلُ فَاقَنَعْ بِهِ فِي كُلِّ مُنْبَهِمِ
هُوَ الْبَصَائِرُ وَالذِّكْرَى لِمُدَكِّرٍ
هُوَ الْمَوَاعِظُ وَالْبُشْرَى لِغَيْر عَمِي
هُوَ الْمُنَزَّلُ نُوراً بَيِّناً وَهُدَى
وَهُوَ الشِّفَاءُ لِمَا في الْقَلْبِ مِنْ سَقَمِ
لَكِنَّهُ لأُولِي الإِيمَانِ إِذْ عَمِلُوا(6/280)
.. بِمَا أَتَى فِيهِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ حِكَمِ
أَمَّا عَلَى مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ فَهُوَ عَمَى
لِكَوْنِهِ عَنْ هُدَاهُ الْمُسْتَنِيرُ عَمِي
فَمَنْ يُقِمْهُ يَكُنْ يَوْمَ الْمَعَادِ لَهُ
خَيْرُ الإِمَامِ إِلى الْفِرْدَوْسِ وَالنِّعَمِ
كَمَا يَسُوقُ أُولِي الأَعْرَاضِ عَنْهُ إِلى
دَارِ الْمَقَامِعِ وَالأَنْكَالِ وَالأَلَمِ
وَقَدْ أَتَى النَّصُّ فِي الطُّوْلَيْنِ أَنَّهُمَا
ظِلاً لِتَالِيْهِمَا فِي مَوْقِفِ الْغَمَمِ
وَأَنَّهُ فِي غَدٍ يَأْتِي لِصَاحِبِهِ
مُبَشِّراً وَحَجِيجاً عَنْهُ إِنْ يُقِمِ
وَالْمُلْكَ وَالْخُلْدَ يُعْطِيهِ وَيُلْبِسُه
تَاجَ الْوَقارِ الإِلهُ الْحَقُّ ذُو الْكَرَمِ
يُقَالُ اقْرَأْ وَرَتِّلْ وَارْقَ فِي غرَفِ الْـ
جَنَّاتِ كَيْ تَنْتَهِي لِلْمَنْزِلِ النَّعِمِ
وَحُلَّتَانِ مِنْ الْفِرْدَوْسِ قَدْ كُسِيتْ
لِوَالِدَيْهِ لَهَا الأَكْوَانُ لَمْ تَقُمْ
قَالا بِمَاذَا كَسَيْنَاهَا فَقِيلَ بِمَا
أَقْرَأْتُمَا ابْنَكُمَا فَاشْكُرْ لِذِي النِّعَمِ
كَفَى وَحَسْبُكَ بِالْقُرْآنِ مُعْجِزةً
دَامَتْ لَدَيْنَا دَوَاماً غَيْرَ مُنْصَرِمِ(6/281)
.. لَمْ يَعْترِهْ قَطُّ تَبْدِيلٌ وَلا غِيْرٌ
وَجَلَّ فِي كَثْرَةِ التَّرْدَادِ عَنْ سَأْمِ
مُهَيْمِناً عَرِبِياً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
مُصَدِّقاً جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فِي الْقِدَمِ
فِيهِ التَّفَاصِيلُ لِلأَحْكَامِ مَعْ نَبَأٍ
عَمَّا سَيَأْتِي وَعَنْ مَاضٍ مِنْ الأُمَمِ
فَأنْظُرْ قَوَارِعَ آيَاتِ الْمَعَادِ بِهِ
وَانْظُرْ لِمَا قَصَّ عَنْ عَادَ وَعَنْ إِرْمِ
وَانْظُرْ بِهِ شَرْحَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هَلْ
تَرَى بِهَا مِنْ عَوِيصٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ
أَمْ مِن صَلاحٍ وَلَمْ يَهْدِ الأَنَامَ لَهُ
أَمْ بَابِ هُلْكٍ وَلَمْ يَزْجُرْ وَلَمْ يَلُمِ
أَمْ كَانَ يُغْنِي نَقِيراً عَنْ هِدَايَتِهِ
جَمِيعُ مَا عِنْدَ أَهْلِِ الأَرْضِ مِنْ نُظُمِ
أَخْبَارُهُ عِظَةٌ أَمْثَالُهُ عِبَرٌ
وَكُلُّهُ عَجَبٌ سُحْقاً لِذِي صَمِمِ
لَمْ تَلْبِثِ الْجِنُّ إِذْ أَصْغَتْ لِتسْمَعَهُ
أَنْ بَادَرُوا نُذْراً مِنْهُمْ لِقَوْمِهِمِ
اللهُ أَكْبَرُ مَا قَدْ حَازَ مِنْ عِبَرٍ
وَمِنْ بَيَانٍ وَإِعْجَازٍ وَمِنْ حِكَمِ
وَاللهُ أَكْبَرُ إِذْ أَعْيتْ بَلاغَتُهُ(6/282)
.. وَحُسْنُ تَرْكِيبِهِ لِلْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
كَمْ مُلْحِدٍ رَامَ أَنْ يُبْدِي مُعَارَضَةً
فَعَادَ بِالذُّلِّ وَالْخُسْرَانِ وَالرَّغَمِ
هَيْهَاتَ بُعْداً لِمَا رَامُوا وَمَا قَصَدُوا
وَمَا تَمَنَّوْا لَقَدْ بَاؤُوا بِذُلِّهِمِ
خَابَتْ أَمَانِيهُمُ شَاهَتْ وُجُوهُهُمْ
زَاغَتْ قُلُوبُهُمُ عَنْ هَدِيهِ الْقَيمِ
كَمْ قَدْ تَحَدَّى قُرَيْشاً فِي الْقدِيمِ وَهُمْ
أَهْلُ الْبَلاغَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمِ
بِمِثْلِهِ وَبِعَشْرٍ ثُمَّ وَاحِدَةٍ
فَلَمْ يَرُومُوهُ إِذْ ذَا الإِمْرَ لَمْ يُرَمِ
الْجِنُّ وَالإِنْسُ لَمْ يَأْتُوا لَوْ اجْتَمَعُوا
بِمِثْلِهِ وَلَوْ انْضَمُّوا لِمِثْلِهِمِ
أَنَّى وَكَيْفَ وَرَبُّ الْعَرْشِ قَائِلُهُ
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ شِبْهٍ لَهُ وَسَمِي
مَا كَانَ خَلْقاً وَلا فَيْضاً تَصَوَّرَهُ
نَبِيُّنَا لا وَلا تَعْبِيرَ ذِي نَسَمِ
بَلْ قَالَهُ رَبُّنَا قَوْلاً وَأَنْزَلَهُ
وَحْياً عَلَى قَلْبِهِ الْمُسْتَيْقِظِ الْفَهِمِ
وَاللهُ يَشْهَدُ وَالأَمْلاكُ شَاهِدَةٌ
وَالرُّسْلُ مَعْ مُؤْمِنِي الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ(6/283)
اللَّهُمَّ ارزقْنَا عِلْماً نَافِعاً وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَرِزْقًا وَاسِعاً نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ وَقَلْباً خَاشِعاً وَلِسَاناً ذَاكِراً وَإيمَاناً خَالِصاً وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ وَسَعادَةَ الْمُتَّقِين وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ يَا أَفْضَلَ مَنْ رُجِي وَقُصِدَ وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة عبد الله بن مسعود
كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٌ فَتَىً لَمْ يُجَاوِز الْحُلُمَ وَكَانَ يَسْرَحُ فِي شِعَابِ مَكَّةَ بَعِيداً عَنِ النَّاسِ وَمَعَهُ غَنَمٌ يَرْعَاهَا لِعُقْبَةَ بنِ مُعَيْطٍ وَكَانَ النَّاسُ يُنَادُونَهُ (ابنَ أُمَّ عَبْدٍ) .
أَمَّا اسْمُهُ فَهُو عَبْدُ اللهِ وَأَمَّا اسْمُ أَبِيهِ فَمَسْعُودٌ كَانَ الْغُلامُ يَسْمَعُ بِأَخْبَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا يَأْبَهُ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِ مِنْ جِهَةٍ وَلِبُعْدِهِ عَنْ الْمُجْتَمَعِ الْمَكِّي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَقَدْ دَأَبَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ بِغَنَمِ عُقْبَةَ مُبَكِّراً ثُمَّ لا يَعُودُ بِهَا إِلا إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ.
وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ أَبْصَرَ عَبَدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ كَهْلَيْنِ عَلَيْهِمَا الْوَقَارُ يَتَّجِهَانِ نَحْوَهُ مِنْ بَعِيدٍ وَقَدْ أَخَذَ الْجُهْدُ مِنْهُمَا كُلَّ مَأْخَذٍ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الظَّمَأُ حَتَّى جَفَّتْ مِنْهُمَا الشِّفَاهُ وَالْحُلُوقُ.
فَلَمَّا وَقَفَا عَلَيْهِ سَلَّمَا وَقَالا: يَا غُلامُ احْلِبْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الشِّيَاهِ مَا نُطْفِئُ بِهِ ظَمَأَنَا وَنَبُلُّ بِهِ عُرُوقَنَا فَقَالَ: لا أَفْعَلُ فَالْغَنَمُ ليَسْتَ لِي وَأَنَا عَلَيْهَا مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يُنْكِرَ الرَّجُلانِ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَبَدَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا الرِّضَاءُ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: دُلَّنِي عَلَى شَاةٍ لَمْ يَنْزُو عَلَيْهَا فَحْلٌ فَأَشَارَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ إِلى شَاةٍ صَغِيرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ وَاعْتَقَلَهَا وَجَعَلَ يَمْسَحُ(6/284)
ضَرْعَهَا بِيَدِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ عَلَيْهَا اسْمَ اللهِ فَنَظَرَ عَبْدُ اللهِ فِي دَهْشَةٍ قَائِلاً فِي نَفْسِهِ: وَمَتَى كَانَتْ الشَّاةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَنْزُو عَلَيْهَا الْفُحُولُ تُدِرُّ لِبَناً.
لِكِنَّ ضَرْعَ الشَّاة لَمْ يَلْبَثْ أَنْ انْتَفَخَ مِنْ اللَّبَنِ وَطَفِقَ اللَّبَنُ يَنْبَثِقُ مِنْهُ ثَراً غَزِيراً.
فَأَخَذَ الرَّجُلُ الآخَرُ حَجَراً مُجَوَّفاً مِنْ الأَرْضِ وَمَلأَهُ بِاللَّبَنِ وَشَرِبَ مِنْهُ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثُمَّ سَقَيَانِي مَعَهُمَا وَأَنَا لا أَكَادُ أُصَدِّقُ مَا أَرَى، فَلَمَّا ارْتَوَيْنَا قَالَ الرَّجُلُ الْمُبَارِكُ لِضَرْعِ الشَّاةِ: انْقَبِضْ فَمَا زَالَ يَنْقَبِضُ حَتَّى عَادَ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ قُلْتُ لِلرَّجُلُ الْمُبَارِكْ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الذِي قُلْتَهُ فَقَالَ لِي: إِنَّكَ غُلامٌ مُعَلَّمٌ.
كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةُ قِصَّةِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ مَعَ الإِسْلام وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمُبَارَكَ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الذِي مَعَهُ فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ نَفََرَا فِي ذَلِكَ إِلى شِعَابِ مَكَّةَ لِفَرْطِ مَا أَرْهَقَتْهُمَا قُرَيْشٌ وَلِشِدَّةِ مَا أُنْزِلَتْ بِهِمَا مِنْ الْبَلاءِ.
وَكَمَا أَحَبَّ الْغُلامُ الذِي هُوَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَهُ وَتَعَلَّقَ بِهِمَا فَقَدْ أَعْجَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بَعَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ وَأَكْبَرَا أَمَانَتَهُ وَحَزْمَهُ وَتَوَسَّمَا فِيهِ الْخَيْرَ وَلَمْ يَمْضِ إِلا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ حَتَّى أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْدِمَهُ فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَهُ فِي خِدْمَتِهِ.
وَلَزِمَ عَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُرَافِقُهُ فِي حِلِّهِ وَتِرْحَالِهِ يُوقِظُهُ إِذَا نَامَ وَيَسْتُرُهُ عِنْدَ الْغُسْل وَيُلْبِسُهُ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ وَيَخْلَعَهُا مِنْ قَدَمَيْهِ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ وَيَحْمِلُ لَهُ عَصَاهُ وَسِوَاكَهُ وَيَلِجُ الْحَجَرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا آوَى إِلى حُجْرَتِهِ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِهُدَاكَ إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ يَا كَرِيمِ وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِمَّنْ أَتَاكَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا(6/285)
وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَتَرَبَّى عَبْدُ اللهِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَتَخَلَّقَ بِشَمَائِلِهِ وَتَابَعَهُ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ وَتَعَلَّمَ ابنُ مَسْعُودٍ فِي مَدْرَسَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ أَقْرَأِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَأَفْقَهِهِمْ لِمَعَانِيهِ وَمِنْ أَعْلَمِهِمْ بِشَرْعِ اللهِ.
وَلا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ وَاقفٌ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ - وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلاً يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضَبَ عُمَرُ غَضَباً شَدِيداً وَقَالَ: مَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُود فَمَا زَالَ عُمَرُ يَنْطَفِي غَضَبُهُ وَيُسَرَّى عَنْهُ حَتَّى عَادَ إِلى حَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْهُ وَسَأْحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ - أي يَتَحَدَّثَان وَيَتَفَاوَضَانِ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَكُنْتُ مَعَهُمَا ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ لَمْ نَتَبَيَّنْهُ فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا وَقَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَطْباً كَمَا نَزَلَ فَلْيَقْرَأ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)) . ثُمَّ جَلَسَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُو فَجَعَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: ((سَلْ تُعْطَهْ سَلْ تُعْطَهْ)) . قَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَاللهِ لأَغْدُوَنَّ عَلَى عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ لأُبَشِّرَّنَهُ بِتَأْمِين رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دُعَائِهِ فَغَدَوْتَ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقِنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ.
لا وَاللهِ مَا سَابَقْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلى خَيْرٍ قَطُ إِلا سَبَقَنِي إِلَيْهِ وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ عِلْمِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ بِكِتَابِ اللهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللهِ الذِي لا آلهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ(6/286)
مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلا وَأَنَا أَعْلمُ أَيْنَ نَزَلَتْ وَأَعْلَمُ فِيمَا نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَداً أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تَنَالُهُ الْمَطِيُّ لأَتَيْتُهُ.
وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ مُبَالِغاً فِيمَا قَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَلْقَى رَكْباً فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ وَاللَّيْلُ مُخَيِّمٌ يَحْجِبُ الرَّكْبَ بِظَلامِهِ وَكَانَ فِي الرَّكْبِ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ فَأَمَرَ عُمَرُ رَجُلاً أَنْ يُنَادِيهِمْ مَنْ أَيْنَ الْقَوْمِ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: مِنْ الْفَجِّ الْعَمِيقِ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ فِيهِمْ عَالِماً وَأَمَرَ رَجُلاً فَنَادَاهُمْ أَيُّ الْقُرْآنِِ أَعْظَمُ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بِنُ مَسْعُودٍ {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآيةَ قَالَ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَحْكَمُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} .
فَقَالَ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَجْمَعُ فَقَالَ عَبْدُ الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَخْوَفُ فَقَالَ عَبْدُ الله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية.
فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَرْجِي فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَقَالَ: نَادِهِمْ أَفِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ قَارِئاً عَالِماً عَابِداً زَاهِداً فَحَسْبِ وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَوِيّاً حَازِماً مُجَاهِداً مِقْدَاماً شُجَاعاً إِذَا جَدَّ الْجِدُّ فَحَسْبُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مُسْلِمٍ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/287)
فَقَدْ اجْتَمَعَ يَوْماً أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي مَكَّة وَكَانُوا قِلَّةً مُسْتَضْعَفِينَ فَقَالُوا: وَالله مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ بِهِ قَطْ فَمَنْ رَجُلٌ منْكُمْ يُسْمِعُهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: أَنَا أَسْمِعُهُمْ إِيَّاهُ فَقَالُوا: إِنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلاً لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وَتَمْنَعِهُ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادُوهُ بِشَرٍ.
فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنَّ اللهَ سَيَمْنَعُنِي وَيَحْمِينِي ثُمَّ غَدَا إِلى الْمَسْجِدِ حَتَّى أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فِي الضُّحَى وَقُرَيْشٌ جُلُوسٌ فَوَقَفَ عِنْدَ الْمَقَامِ وَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَافِعاً صَوْتَهُ {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
وَمَضَى يَقْرَؤُهَا فَتَأَمَّلَتْهُ قُرَيْشٌ وَقَالَتْ: مَاذَا قَالَ ابنُ أُمَّ عَبْدٍ تَبّاً لَهُ ... إِنَّهُ يَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَقَامُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَبْلُغَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلى أَصْحَابِهِ وَالدَّمُّ يَسِيلُ مِنْهُ فَقَالُوا لَهُ: هَذَا الذِي خَشَيْنَا عَلَيْكَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللهِ أَهْوَنَ فِي عَيْنِي مِنْهُمْ الآنَ وَإِنْ شِئْتُمْ لأُغَادِيَنَّهُمْ بِمِثْلِهَا غَداً قَالُوا: لا حَسْبُكَ لَقَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ.
وَمِنْ كَلامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينِهِ فَيَخْرُجُ وَلا دِينَ مَعَهُ لأَنَّهُ مُعَرَّضٌ أَنْ يَعْصِي اللهَ تَعَالى إِمَّا بِفِعْلِهِ وَإِمَّا بِسُكُوتِهِ وَإِمَّا بِاعْتِقَادِهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالى سَبْعِينَ سَنَةً وَهُوَ يُحِبُّ ظَالِماً لَبَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ يُحِبُّ وَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَصْحَاب(6/288)
الْيَمِينَ فَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: هَا هُنَا رَجُلٌ يَوَدُّ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لا يُبْعَثُ يَعْنِي نَفسَه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَخَرَجَ مَرَّة مَعَهُ نَاسٌ يُشَيِّعُونَهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَكُمْ حَاجَةٌ؟ قَالُوا: لا. فَقَالَ: ارْجَعُوا فَإِنَّهُ ذُلٌّ لِتَابِعٍ وَفِتْنَه لِلْمَتْبُوعِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرِةِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالْخَشْيَةِ.
وَكَانَ يَقُولُ ذَهَبَ صَفْوُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ كَدْرُهَا وَالْمَوْتُ الْيَوْمَ تُحْفَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَمِنْ كَلامِهِ إِنِّي لا أَبْغَضُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ فَارِغاً لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَلا عَمَلِ الآخِرَةِ.
مَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ الصَّلاةُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِن اللهِ إِلا بُعْدَاً، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ الْكَافِرَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ جِسْماً وَأَمْرَاضِهِمْ قَلْباً وَتَلْقَوْنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ قَلْباً وَأَمْرَضِهِمْ جِسْماً وَأَيْمُ اللهِ لَوْ مَرِضَتْ قُلُوبُكُمْ وَصَحَّتْ أَبْدَانُكُمْ لَكُنْتُمْ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِن الْجُعْلانِ.
يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ التَّلاوُمُ بَيْنَهُمْ يُسَمَّوْنَ الأَنْتَانَ.
عَاشَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ إِلى زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمَّا مَرَِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ جَاءَهُ عُثْمَانُ عَائِداً فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةُ رَبِّي. قَالَ: أَلا آمُرُ لَكَ بِعَطَائِكَ الذِي امْتَنَعْتَ عَنْ أَخْذِهِ مُنْذُ سِنِينَ.
فَقَالَ: لا حَاجَة لِي بِهِ. فَقَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ فَقَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ إِنِّي أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَقْرَأْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَداً)) .
وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ تُوِفِِّي عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلِسَانُهُ رَطْبٌ(6/289)
بِذِكْرِ اللهِ نَدِيّ بِآيَاتِهِ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَلَهُ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلوكِ سَبِيلِ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَارْزُقْنَا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالاسْتِقَامَةَ وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَأَمِّنَّا مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْراً: فِيمَا جَرَى عَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمَةِ وَالطُّغَاة وَالْمُجْرِمِينَ: جَازَاهمُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ:
وَدَارَتْ عَلَى الإِسْلامِ أَكْبَرُ فِتْنَةٍ
وَسُلَّتْ سُيُوفُ الْبَغْيِ مِنْ كُلِّ غَادِرِ
وَذُلَّتْ رِقَابُ مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ
وَكَانُوا عَلَى الإِسْلامِ أَهْلََ تَنَاصُرِ
وَأَضْحَى بَنُو الإِسْلامِ فِي كُلِّ مَأْزِقٍ
تَزُورُهُمُوا غَرْثَى السِّبَاعِ الضَّوَامِرِ
وَهُتِّكَ سِتْرٌ لِلْحَرَائِرِ جَهْرَةً
بَأَيْدِي غُوَاتٍ مِنْ بَوَادٍ وَحَاضِرِ
وَجَاءُوا مِنْ الْفَحْشَاءِ مَا لا يَعُدُّهُ
لَبِيبٌ وَلا يُحْصِيهِ نَظْمٌ لِشَاعِرِ
وَبَاتَ الأَيَامَى فِي الشِّتَاءِ سَوَاغِباً
يَبْكِينَ أَزْوَاجاً وَخَيْرَ الْعَشَائِرِ
وَجَاءَتْ غِوَاشٍ يَشْهَدُ النَّصُّ أَنَّهَا
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الْغُوَاةِ الْغَوَادِرِ(6/290)
وَجَرَّ زَعِيمُ الْقَوْمِ لِلتُّرْكِ دَوْلَةً
عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ فِعْلَ الْمُكَابِرِ
وَوَازَرَهُ فِي رَأْيِهِ كُلُّ جَاهِل
يَرُوحُ وَيَغْدُو آثِماً غَيْرَ شَاكِرِ
وَآخَر يَبْتَاعُ الضَّلالةَ بِالْهُدَى
وَيَخْتَالُ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْكِبْرِ وَافِرِ
وَثَالِثُهُمْ لا يَعْبُؤُ الدَّهْرِ بِالَّتِي
تَبِيدُ مِنْ الإِسْلامِ عَزْمَ الْمَذَاكِرِ
وَلَكِنَّهُ يَهْوَى وَيَعْمَلُ لِلْهَوَى
وَيُصْبِحُ فِي بَحْرٍ مِنْ الرَّيْبِ عَامِرِ
وَقَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا مَضَى خَيْرُ نَاصِحٍ
إِمَامُ هُدىً يَبْنِي رَفِيعَ الْمَفَاخِرِ
وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ قَعْرِ ظَلْمَا مُضِّلِّةٍ
لِسَالِكِهَا أَوْ مِنْ لَظَى وَالْمَسَاعِرِ
وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ السَّلامَةَ فِي الَّتِي
عَلَيْهَاَ خِيَارُ الصَّحْبِ مِنْ كُلِّ شَاكِرِ
فَلَمَّا أَتَاهُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ وَاحْتَوَى
أَكَابِرُهُمْ كَنْزَ اللُّهَى وَالذَّخَائِرِ
سَعَوْا جُهْدَهُمْ فِي هَدْمِ مَا قَدْ بَنَى لَهُمْ
مَشَائِخُهُمْ وَاسْتَنْصَرُوا كُلَّ دَاغر(6/291)
وَسَارُوا لأَهْلِ الشِّرْكِ وَاسْتَسْلَمُوا لَهُمْ
وَجَاؤُا بِهِمْ مِنْ كُلِّ إِفْكٍ وَسَاحِرٍ
وَمُذْ أَرْسَلُوهَا أَرْسَلُوهَا ذَمِيمَةً
تُهَدِّمُ مِنْ رَبْعِ الْهُدَى كُلَّ عَامِرِ
وَبَاؤُا مِنْ الْخُسْرَانِ بِالصَّفَقَةِ الَّتِي
يَبُوءُ بِهَا مِنْ دَهْرِهِ كُلَّ خَاسِرِ
وَصَارَ لأَهْلِ الرُّفْضِ وَالشِّرْكِ صَوْلَةٌ
وَقَامَ بِهِمْ سُوقُ الرَّدَى وَالْمَنَاكِرِ
وَعَادَ لَدَيْهِمْ لِلَّوَاطِ وَلِلْخَنَا
مَعَاهِدُ يَغْدُو نَحْوَهَا كُلَّ فَاجِرِ
وَشُتِّتَ شَمْلُ الدِّينِ وَانْبِتَّ حَبْلُهُ
وَصَارَ مُضَاعاً بَيْنَ شَرِّ الْعَسَاكِرِ
وَأُذَّنَ بِالنَّاقُوسِ وَالطَّبْلِ أَهْلُهَا
وَلَمْ يَرْضَ بِالتَّوْحِيدِ حِزْبُ الْمَزَامِرِ
وَأَصْبَحَ أَهْلُ الْحَقِّ بَيْنَ مُعَاقَبٍ
وَبَيْنَ طَرِيدٍ فِي الْقَبَائِلِ صَائِرِ
فَقَلْ لِلْغَوِّي الْمُسْتَجِيرِ بِظُلْمِهِمْ
سَتُحْشَرُ يَوْمَ الدِّينِ بَيْنَ الأَصَاغِرِ
وَيَكْشَفُ لِلْمُرْتَابِ أَيَّ بِضَاعَةٍ
أَضَاعِ وَهَلْ يَنْجُو مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ(6/292)
.. وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْجَمْعِ أَيَّ جِنَايَةٍ
جَنَاهَا وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ مَكْرِ مَاكِرِ
فَيَا أُمَّةً ضَلَّتْ سَبِيلَ نَبِيَّهَا
وَآثَارَهُ يَوْمَ اقْتِحَامِ الْكَبَائِرِ
يَعِزُّ بِكُمْ دِينُ الصَّلِيبِ وَأَهْلِهِ
وَأَنْتُمْ بِهِمْ مَا بَيْنَ رَاضٍ وَآمِرِ
وَتُهْجَرُ آيَاتُ الْهُدَى وَمَصَاحَفٌ
وَيُحْكَمُ بِالْقَانُونِ وَسْطَ الدَّسَاكِرِ
هَوَتْ بِكُمُ نَحْوُ الْجَحِيمِ هَوَادَةٌ
وَلَذَّاتُ عَيْشٍ نَاعِمٍ غَيْرَ شَاكِرِ
سَيَبْدُوا لَكُمْ مِنْ مَالِكِ الْمُلْكِ غَيْرُ مَا
تَظَنُّونَهُ بَعْدَ الثَّوَى فِي الْمَقَابِرِ
يَقُولُ لَكُمْ مَاذَا فَعَلْتُمْ بِأُمَّةٍ
عَلَى نَاهِجٍ مِثْلَ النُّجُومِ الزَّوَاهِرِ
سَلَلْتُمْ سَيُوفَ الْبَغْي فِيهِمْ وَعُطِّلَتْ
مَسَاجِدُهُمْ مِنْ كُلِّ دَاعٍ وَذَاكِرِ
وَوَالَيْتُمُ أَهْلَ الْجَحِيمِ سَفَاهَةً
وَكُنْتُمِ بِدِينِ اللهِ أَوَّلَ كَافِرِ
نَسِيتُمْ لَنَا عَهْداً أَتَاكُمْ رَسُولُنَا
بِهِ صَارِخاً فَوْقَ الذُّرَى وَالْمَنَابِرِ
فَسَلْ سَاكِنَ الأَحْسَاءِ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ(6/293)
.. بِهِذَا وَمَا يَجْرِي صَحِيحُ الدَّفَاتِرِ
وَهَلْ نَافِعٌ لِلْمُجْرِمِينَ اعْتِذَارُهُمْ
إِذَا دَارَ يَوْمَ الْجَمْعِ سُوءُ الدَّوَائِرِ
وَقَالَ الشَّقِيُّ الْمُفْتَرِي كُنْتُ كَارِهاً
ضَعِيفاً مُضَاعاً بَيْنَ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ
أَمَانِيَّ تَلْقَاهَا لِكُلِّ مُتَبَّرٍ
حَقِيقَتُهَا نَبْذُ الْهُدَى وَالشَّعَائِرِ
تَعُودُ سَرَاباً بَعْدَ مَا كَانَ لامِعاً
لِكُلِّ جَهُولٍ فِي الْمَهَامهِ حَائِرِ
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُحَضْى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ
وَتَظْهَرَ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْمَجْدِ بَاهِرِ
وَتَدْنُوا مِنْ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلالُهُ
إِلى غَايَةٍ فَوْقَ الْعُلَى وَالْمَظَاهِرِ
فَهَاجِرْ إِلى رَبِّ الْبَرِيَّةِ طَالِباً
رِضَاهُ وَرَاغِمْ بِالْهُدَى كُلَّ جَائِرِ
وَجَانِبِ سَبِيلَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ
ذَوِي الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ مَعَ كُلِّ غَادِرِ
وَبَادِرْ إِلى رَفْعِ الشِّكَايَةِ ضَارِعاً
إِلى كَاشِفِ الْبَلْوَى عَلِيمِ السَّرَائِرِ
وَكَابِدْ إِلى أنْ تَبَلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا
وَتُرْفَعَ فِي ثَوْب مِن الْعَفْوِ سَاتِرِ(6/294)
.. وَلا تَيْأَسَنْ مِنْ صُنْع رَبِّكَ إِنَّهُ
مُجِيبٌ وَإِنَّ اللهَ أَقْرَبُ نَاصِرِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُبْدِي بِلُطْفِهِ
وَيُعَقِّبُ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْراً لِصَابِرِ
وَأَنَّ الدِّيَارَ الْهَامِدَاتِ يَمُدُّهَا
بِوَبْلٍ مِنْ الْوَسْمِي هَامٍ وَمَاطِرِ
فَتُصْبِحُ فِي رَغْدٍ مِنْ الْعَيْشِ نَاعِمٍ
وَتَهْتَزُ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْحُسْنِ فَاخِرِ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ لِلطَّالِبِينَ وَأَظَهْرَ غِنَاءَهُ لِلرَّاغِبِينَ أَلْهِمْنَا مَا أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ إِنَّكَ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ مُعِين وَاغْفِرْ لَنَا اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمِّنَّا مِنْ الْفَزَعِ الأَكْبَر يَوْمَ الرَّحْفِ وَالزَّلْزَلالْ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة عبد الله بن عباس
عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسِ بنُ عَمِّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَجْدُ الصُّحْبَةِ وَمَجْدُ الْقَرَابَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجْدُ الْعِلْمِ وَمَجْدُ التُّقَى، فَقَدْ كَانَ صَوَّاماً بِالنَّهَارِ قَوَّاماً بِاللَّيْلِ بَكَاء مِنَ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الدَّمْعَ حَفَرَ خَدَّيْهِ أَعْلَمُ الأُمَّةِ بِكِتَابِ اللهِ وَأَفْقَهُهَا بِتَأْوِيلِهِ وَأَقْدَرُهَا عَلَى النُّفُوذِ إِلى أَغْوَارِهِ وَإِدْرَاكِ مَرَامِيهِ وَأَسْرَارِهِ.
وُلِدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلاثِ سَنَوَاتٍ وَلَمَّا تُوِفِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ ثَلاثَ عَشْرَة سَنَةَ فَقَطْ وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ حَفِظَ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَلْفاً وَسِتِّمَائَةً وَسِتِّينَ حَدِيثاً أَثْبَتَهَا الْبُخَارِيُ وَمُسْلِمُ فِي صَحِيحِهِمَا.(6/295)
وَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ حَمَلَتْهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ بِرِيقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلازَمَةَ الْعَيْنِ لأُخْتِهَا.
فَكَانَ يُعِدُّ لَهُ مَاءَ وُضُوئِهِ إِذَا هَمَّ أَنْ يَتَوَضَأَ وَيُصَلِّي خَلْفَهُ إِذَا وَقَفَ لِلصَّلاةَ وَيَكُونُ رَدِيفَه إِذَا عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَلْباً وَذِهْناً صَافِياً.
حَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: هَمَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُضَوءِ ذَاتَ مَرَّةٍ فَمَا أَسْرَع أَنْ أَعْدَدْتُ لَهُ الْمَاءَ فَسُرَّ بِمَا صَنَعْتُ وَلَمَّا هَمَّ بِالصَّلاةِ أَشَارَ إِلى أَنْ أَقِفَ بَازَائِهِ فَوَقَفْتُ خَلْفَهُ.
فَلَمَّا انْتَهَتِ الصَّلاةُ مَالَ عَلَيَّ وَقَالَ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكُونَ بَازِائِي ياَ عَبْدَ اللهِ)) . فَقُلْتُ: أَنْتَ أَجَلُ فِي عَيْنِي وَأَعَزُّ مِنْ أُوَارِيكَ يَا رَسُولَ الله.
فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِهِ الْحِكْمَةَ» . وَقَدْ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ فَآتَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا فَاقَ بِهِ أَسَاطِينَ الْحُكَمَاءِ.
مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَزَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وَخَذَلُوهُ فِي نِزَاعِهِ مَعَ مُعَاوَيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ لِعَلِّي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ائْذَنْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ آتِي الْقَوْمَ وَأَكَلِمَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي أَتَخَوَّفَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: كَلا إِنْ شَاءَ اللهُ.
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرَ قَوْماً أَشَدَّ اجْتِهَاداً مِنْهُمْ فِي الْعِبَادَةِ فَقَالُوا: مَرْحَباً بِكَ يَا ابنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِكَ فَقَالَ: جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تُحَدِّثُوهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَسْمَعُ مِنْكَ.(6/296)
فَقَالَ أَخْبِرُونِي مَا تَنْقِمُونَ عَلَى ابنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجِ ابْنَتِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ قَالُوا: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثَةَ أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَاتَلَ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَأْخُذْ غَنَائِمَ وَلا سَبَايَا وَثَالِثُهَا أَنَّهُ مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ بَايَعُوهُ وَأَمَّرُوهُ.
فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ، إِنْ أَسْمَعْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ مَالا تُنْكِرُونَهُ أَفَتَرْجُعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ حَكَمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللهِ فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} .
أَنْشُدُكُمْ اللَه أَفَحُكْمَ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَب ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: بَلْ فِي حَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ. فَقَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيّاً قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ - أَيْ لَمْ يَأْخُذْ سَبَايَا كَمَا سَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْبُوا أُمَّكُمْ عَائِشَةَ كَمَا تُسْتَحَلُّ السَّبَايَا فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ كَفَرْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمِّكُمْ كَفَرْتُمْ أَيْضاً فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ ثُمَّ قَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيّاً مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقَبَ إمْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا فِي الصُّلْحِ الذِي عَقَدَهُ مَعَهُمْ هَذَا مَا قَاضَى(6/297)
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، قَالُوا: لَوْ كُنَّا نُؤْمِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ أُكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللهِ فَنَزَلَ عِنْدَ طَلَبِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي فَهَلْ خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ» ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَكَانَ مِنْ ثَمَرَةِ هَذَا اللَّقَاءِ وَمَا وَفَّقَ اللهُ فِيهِ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ مِنْ حِكْمَةٍ وَحُجَّةٍ أَنْ عَادَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفاً إِلى صُفُوفِ عَلِي وَأَصَرَّ أَرْبَعَةُ آلافٍ عَلَى خُصُومَتِهِمْ لِعَلي، وَلَمَّا لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِوَارِ رَبِّهِ اتَّجَه عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ إِلى الْبَقِيَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ يَأْخُذُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ وَيَتَلَقَّى عَنْهُمْ.
وَحَدَّثَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: كَانَ إِذَا بَلَغَنِي الْحَدِيثَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيْتُ بَابَ بَيْتِهِ فِي وَقْتِ قَيْلُولَتِهِ وَتَوَسَّدْتُ رِدَائِي عِنْدَ عُتْبَةِ دَارِهِ فَتَسْفِي عَليَّ الرِّيحُ مِنْ التُّرَابِ مَا تَسْفِي وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَسْتَأَذِنَ عَلَيْهُ لأَذِنَ لِي.
وَإِنَّمَا كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ لأُطَيِّبَ نَفْسَهُ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ رَآنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَ وَقَالَ: «يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِكَ هَلا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ فَأَقُولُ أَنَا أَحَقُّ بِالْمَجِيءِ إِلَيْكَ فَالْعِلْمُ يُؤْتَى وَلا يَأْتِي ثُمَّ أَسْأَلُهَ عَنْ الْحَدِيثِ» .
وَكَمَا كَانَ ابنُ عَبَّاسِ يُذِلُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَقَدْ كَانَ يُعْلِى مِنْ قَدرِ الْعُلَمَاءِ فَهَا هُوَ ذَا زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ كَاتِبُ الْوَحِي وَرَأْسُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَضَاءِ وَالْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْفَرَائِضِ يَهَمُّ بِرِكُوبِ دَابَّتِهِ فَقَالَ: «دَعْ عَنْكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . فَقَالَ ابنْ ُعَبَّاس: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا.(6/298)
اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) وَقَدْ اجْتَهد ابْنُ عَبَّاسٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغاً وَأَدْهَشَ الْفُحُولَ فَقَالَ فِيهِ مَسْرُوقُ بنُ الأَجْدَعِ أَحَدُ التَّابِعِينَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَجْمَلُ النَّاسِ فَإِذَا نَطَقَ قُلْتُ: أَفْصَحُ النَّاسَ فَإِذَا تَحَدَّثَ قُلْتُ: أَعْلَمُ النَّاسِ.
وَلَمْ يَكُنْ ابنُ عَبَّاسٍ مِنْ الذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ وَيَنْهَوْنَ وَلا يَنْتَهُون وَإِنَّمَا كَانَ صَوَّاماً بِالنَّهَارِ قَوَّاماً بِاللَّيْلِ.
أَخْبَرَ عَنْهُ عُبْدُ اللهِ بنُ مُلَيْكَةَ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مِنْ مَكَّةَ إِلى الْمَدِينَةِ فَكُنَّا إِذَا نَزَلْنَا مَنْزلاً قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ مِنْ شِدَّةَ التَّعَبِ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍِ يَقْرَأ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فَظَلَّ يُكَرِّرُهَا وَيَنْشُجُ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ.
وَحَسْبُنَا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ نَعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بن عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَجْهاً فَمَا زَالَ يَبْكِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى أَحْدَثَ الدَّمْعُ عَلَى خَدَّيْهِ مَجْرَيَيْنِ شَبَّهَهُمَا بَعْضُهُمْ بِشَرَاكِي النَّعْلِ.
وَقَدْ بَلَغَ ابنُ عَبَّاسٍ مِنْ مَجْدِ الْعِلْمِ غَايَتَه ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ خَرَجَ ذَاتَ سَنَةٍ حَاجّاً وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ حَاجّاً أَيْضاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْلَةٌ وَلا أَمَارَةٌ فَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ مَوْكِبٌ مِنْ رِجَالِ دَوْلِتِه وَكَانَ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ مَوْكِبٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ يَفُوقُ مَوْكِبَ مُعَاوِيَةَ.(6/299)
رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِساً لَوْ أَنَّ جَمِيعَ قَرَيْشٍ افْتَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا مَفْخَرَةٌ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا فِي الطَّرُقِ الْمُؤَدِيَةِ إِلى بَيْتِهِ حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمْ وَسَدُّوهَا فِي وَجُوهِ النَّاسِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ بِاحْتِشَادِ النَّاسِ عَلَى بَابِهِ.
فَقَالَ: ضَعْ لِي وُضُوءاً فَتَوَضَأَ وَجَلَسَ وَقَالَ: أَُخْرُجْ وَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُرْآنِ وَحُرُوفهِ فَلْيَدْخَلْ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرَآنِ وَتَأْوِيلِهِ فَلَيْدْخُلْ فَقُلْتُ لَهُمْ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْفَرَائِضَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَيْدَخُلْ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.(6/300)
ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَغَرِيبِ كَلامِ الْعَرَبِ فَلَيْدَخُلْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ رَاوِي الْخَبَرِ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشاً كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ لَهَا فَخْراً.
وَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ رَأَى أَنْ يُوَزِّعَ الْعُلُومَ عَلَى الأَيَّامِ حَتَّى لا يَحْدُثَ عَلَى بَابِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الزَّحَامِ فَصَارَ يَجْلِسُ فِي الأُسْبُوع يَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا التَّفْسِيرَ وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا الْفِقْهَ وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا الْمَغَارِي وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا أَيَّامَ الْعَرَبِ.
وَقَدْ غَدَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَضْلِ مَا وَهَبَهُ اللهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقهِ مُسْتَشَاراً لِلْخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِهِ فَكَانَ إِذَا عَرَضَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ أَمْرٌ وَوَاجَهَتْهُ مُعْضِلَةٌ دَعَا جِلَّةَ الصَّحَابَةِ وَدَعَا مَعَهُمْ عَبْدَ اللهِ بن عَبَّاسٍ فَإِذَا حَضَرَ رَفَعَ مَنْزِلَتَهُ وَأَدْنَى مَجِلِسَهُ وَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَعْضَلَ عَلَيْنَا أَمْرٌ أَنْتَ لَهُ وَلأَمْثَالِهِ.
وَقَدْ عُوتِبَ عُمَرُ مَرَّةً فِي تَقْدِيمِهِ لابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلِهِ مَعَ الشُّيُوخِ وَهُوَ مَا زَالَ فَتَىً فَقَالَ: إِنَّهُ فَتَىَ الْكُهُولِ لَهُ لِسَانٌ وَقَلْبٍ عَقُول أ. هـ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَأَذِنَ لَهُمْ يَوْماً وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالُوا: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَأَنْ يَتُوبَ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ فَقَالَ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ(6/301)
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أَيْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلامَةُ مَوْتِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَرَوْنَهُ وَقِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمِ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَؤوْلٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُجَاهِدُ كَانَ ابِنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرَ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ.
عَلَى أَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ حِينَ انْصَرَفَ إِلى الْخَاصَّةِ لِيُعَلِّمَهُمْ وَيُفَقِّهَهُمْ لَمْ يَنْسَ حَقَّ الْعَامَّةِ فَكَانَ يَعْقِدُ لَهُمْ مَجَالِسَ الْوَعْظِ وَالإِرْشَادِ وَالتَّذْكِيرِ.
فَمِنْ مَوَاعِظِهِ قَوْلُهُ مُخَاطِباً أَصْحَابَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنَ عَاقِبَةَ ذَنْبِكَ وَأَعْلَمْ أَنَّ مَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ نَفْسِهِ فَإِنَّ عَدَمَ اسْتِحْيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى يَمِينِكَ وَعَلَى شِمَالِكَ وَأَنْتَ تَقْتَرِفُ الذَّنْبِ لا يَقِلُّ عَنْ الذَّنْبِ.
وَإِنْ ضِحْكَكَ عَنْدَ الذَّنْبِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ وَإِنَّ حُزْنَكَ عَلَى الذَّنْبَ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبَ وَإِنَّ خَوْفَكَ مِنْ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَكَ وَأَنْتَ تَرْتَكِبُ الذَّنْبِ مَعَ كَوْنِكَ لا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ.
يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَابْتَلاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِجَسَدِهِ وَمَالِهِ إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُهَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الظُّلْمَ فَلَمْ يُعِنْهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: أَعُولُ أَهْلَ بَيْتٍ مِن الْمُسْلِمِينَ شَهْراً أَوْ جُمْعَةً أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَحِبُّ إِِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ وَلَطَبَقٌ بِدَانِقٍ أَهْدِيهِ إِلى أَخٍ لِي فِي اللهِ أَحَبَّ إِلِيَّ مِنْ دِينَارٍ أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ.(6/302)
وَكَانَ يَقُولُ آخِرُ: شِدَّةً يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الْمَوْتَ وَيَقُولُ: خُذْ الْحِكْمَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَلَيْسَ بِحَكِيمٍ فَتَكُونُ كَالرَّمِيَةِ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ رَامِي، عُمِّرَ ابنُ عَبَّاسٍ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً مَلأ فِيهَا الدُّنْيَا عِلْماً وَفِهْماً وَحِكْمَةً وَزُهْداً وَتُقَىً.
وَلَمَّا سَقَطَ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ وَذَهَبَ بَصَرُهُ قِيلَ لَهُ: خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَيْنَيْكَ نُسِيلُ مَاءَهُمَا وَلَكِنَّكَ تُمْسِكْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ لا تَسْجُدُ فَقَالَ: لا وَاللهِ وَلا رَكْعَةً وَاحِدَةً إِنِّي حُدِّثْتُ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّداً لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ.
قَالَ مَيْمُونُ بِنُ مِهْرَانَ: شَهِدْتُ جَنَازَةَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَلَمَّا وُضِعَ ليُصَلَّى عَلَيْهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ حَتَّى دَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَمَّا سُوِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ سَمِعْنَا صَوْتاً وَلا نَرَى شَخْصاً {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} . أ. هـ. بِتَصَرُّف بِزِيَادَة وَنَقْص. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةُ سَلْمَان الْفَارِسِي
قَالَ سَلْمَانُ: كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيّاًًً مِنْ أَهْلِ أَصْبهَانِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَيَّانِ، وَكَانَ أَبِي دَهْقَانُ الْقَرْيَةِ وَأَغْنَى أَهْلِهَا وَأَعْلاهُمْ مَنْزِلَةً، وَكُنْتُ أَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ مُنْذُ وَلِدْتُ ثُمَّ مَا زَالَ حُبُّه لِي يَشْتَدُّ وَيَزْدَادُ حَتَّى حَبَسَنِي فِي الْبَيْتِ خَشْيَةً عَلَيَّ كَمَا تُحْبَسُ الْفَتَيَاتُ.
قَالَ سَلْمَانُ: وَقَدْ اجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى غَدَوْتُ قِيَمَ النَّارِ الَّتِي كُنَّا نَعْبُدُهَا قَالَ سَلْمَانُ: وَأَنِيطَ بِي أَمْرُ إِضْرَامِهَا حَتَّى لا تَخْبُو سَاعَةً في(6/303)
لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَكَانَ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ - الأَرْضُ الْمُغِلَّةُ - تُدِرُّ عَلَيْنَا غَلَّةً كَبِيرَةً وَكَانَ أَبِي يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَجْنِي غَلَّتَهَا.
وَفِي ذَات مَرَّةٍ شَغَلَهُ عَنْ الذَّهَابِ إِلى الْقَرَيْةِ شَاغِلٌ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ عَنْ الضَّيْعَةِ بِمَا تَرَى فَاذْهَبْ إِلَيْهَا وَتَوَلَّى الْيَوْمَ عَنِّي شَأْنَهَا فَخَرَجْتُ أَقْصُدُ ضَيْعَتَنَا.
وَبَيْنَمَا أَنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ فَلَفَتَ ذَلِكَ انْتِبَاهِي وَذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرَفُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى وَلا أَمْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الأَدْيَانِ لِطُولِ مَا حَجَبَنِي أَبِي عَنْ النَّاسِ فِي بَيْتِنَا.
فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ لأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا تَأَمَّلْتُهُمْ أَعَجَبَتْنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي دِينِهِمْ وَقُلْتُ: وَاللهِ هَذَا خَيْرٌ مِن الذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ أَذْهَبْ إِلى ضَيْعَةِ أَبِي ثُمَّ سَأَلْتُهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: فِي بِلادِ الشَّامِ.
وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ عُدْتُ إِلى بَيْتِنَا فَتَلَقَّانِي أَبِي يَسْأَلُنِي عَمَّا صَنَعْتُ فَقْلُتْ: يَا أَبَتِ إِنِّي مَرَرْتُ بأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ وَمَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَذُعِرَ أَبِي مِمَّا صَنَعْتٌ.
وَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قُلْتُ: كَلا - وَاللهِ - إِنَّ دِينَهُمْ لِخَيْرٌ مِنْ دِينَنَا، فَخَافَ أَبِي مِمَّا أَقُولُ وَخَشِيَ أَنْ أَرْتَدَّ عَنْ دِينِي وَحَبَسَنِي بِالْبَيْتِ وَوَضَعَ قَيْداً فِي رِجْلِي.
وَلَمَّا أُتِيحَتْ لِي الْفُرْصَةُ بَعَثْتُ إِلى النَّصَارَى أَقُولُ لَهُمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى بِلادِ الشَّامِ فَأَعْلِمُونِي فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ(6/304)
حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مُتَّجِهَةٌ إِلى الشَّامِ فَأَخْبَرُونِي بِهِ فَاحْتَلْتُ عَلَى قَيْدِيْ حَتَّى حَلَلْتُهُ وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ مُتَخَفِّياً حَتَّى بَلَغْنَا بِلادَ الشَّامِ.
فَلَمَّا نَزَلْنَا فِيهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ قَالُوا الأَسْقُفْ - مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْقِسِيسِ عِنْدَ النَّصَارَى - رَاعِي الْكَنِيسَةِ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي رَغِبْتُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَلْزَمَكَ وَأَخْدِمَكَ وَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، فَقَالَ: أُدْخُلْ فَدَخَلْتُ عِنْدَهُ وَجَعَلْتُ أَخْدِمُهُ.
ثُمَّ مَا لَبِثْتُ أَنْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّجُلَ رَجُلُ سُوءٍ فَقَدْ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ بِثَوَابِهَا فَإِذَا أَعْطُوهُ مِنْهَا شَيْئاً لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْهُ شَيْئاً، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضاً شَدِيداً لِمَا رَأَيْتُهُ مِنْهُ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ النَّصَارَى لِدَفْنِهِ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ صَاحِبَكُمْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئاً، قَالُوا: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ.
قَالُوا: نَعَمْ دُلَّنَا عَلَيْهِ فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَباً وَفِضَّةً فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللهِ لا نَدْفُنُهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ وَرَمُوهُ بِالْحِجَارِةِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى نَصَّبُوا رَجُلاً آخِرَ مَكَانَهُ، فَلَزِمْتُهُ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَزْهَدَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبَ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ وَلا أَدْأَبَ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لَيْلاً وَلا نَهَاراً فَأَحْبَبْتُهُ حُبّاً جَمّاً وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَاناً.
فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: إِلى مَنْ تُوصِي بِي وَمَعَ مَنْ تَنْصَحُنِي أَنْ أَكُونَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ لا أَعْلَمُ أَحَداً عَلَى مَا كُنْتُ(6/305)
عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِالْمُوصِلِ هُوَ فُلانٌ لَمْ يُحَرِّفْ وَلَمْ يُبَدِّلْ فَألحَقْ بِهِ فَلَمَّا مَاتَ صَاحِبِي لَحَقْتُ فِي الْمُوصِلِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ قَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِي وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ فُلاناً أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقُ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى خَيْرِ حَالٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمُ فَإِلى مَنْ تُوصِي فَإِلى بِي وَمَنْ تَأْمُرُنِي بِاللِّحَاقِ بِهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيّ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ فَأَلْحَقْ بِهِ فَلَمَّا غيبَ الرَّجُلُ فِي لَحْدِهِ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدَنَا فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى مَا كَانَ صَاحِبَاهُ مِنْ الْخَيْرِ.
فَوَاللهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: لَقَدْ عَرَفَتْ مِنْ أَمْرِي مَا عَرَفْتَ فَإِلى مَنْ تُوصِي بِي؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللهِ إِنِّي مَا أَعْلَمُ أَحَداً بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا إِلا رَجُلاً بِعَمُورِيَّةَ هُوَ فُلانٌ فَألْحَقْ بِهِ فَلَحِقْتُ بِهِ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَ رَجُلٍ كَانَ - وَاللهِ - عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَقَدْ اكْتَسَبْتُ وَأَنَا عِنْدَهُ بَقَرَاتٍ وَغَنِيمَةً.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ بَأصْحَابِهِ مِنْ أَمْرُ اللهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ قُلْتُ لَهُ: إِنِّكَ تَعْلَمْ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمْ فَإِلَى مَنْ تُوصِى بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَاللهِ - مَا أَعْلَمُ أن هُناكَ أَحَداً مِنَ النَّاسِ بَقِيَ عَلى ظَهْرِ الأرْض مًسْتَمْسِكًا بِمَا كَنَّا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يبْعَثُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ يُهَاجِرُ مِنْ أَرْضِهِ إِلَى أَرْضٍ(6/306)
ذَات نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ وَلَهُ عَلامَاتٌ لاَ تَخْفَى فَهُو يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ.
ثُمَّ وَافَاهُ الأَجَلُ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ زَمَناً إِلَى أَنْ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ تُجَّار الْعَرَبِ مِنْ قَبِيلَةِ كَلْبٍ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَمَلْتُمُونِي مَعَكُمْ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ أَعْطِيتُكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي فَقَالُوا: نَعَمْ نَحْمِلُكَ فَأَعْطَيْتُهُم إِيَّاهَا وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا وَادي الْقُرَى غَدَرُوا بِي وَبَاعُونِي لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودَ فالْتَحَقْتُ بِخِدْمَتِهِ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ زَارَهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ بَنِي قُرَيْظَةَ فاشْتَرَانِي مِنْهُ وَنَقَلنِي مَعَهُ إلَى يَثْرِبَ فَرَأيتُ النَّخْلَ الذي ذَكَرَهُ لِي صَاحِبِي بِعَمُّورِيَّةَ وَعَرَفْتُ الْمَدِيَنةَ بالْوَصْفِ الذي نَعَتَهُا بِهِ فَأَقَمْتُ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ حِينَئِذٍ يَدْعُو قَوْمَهُ بِمَكَّةَ لَكَنِّ لَمْ أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ لانْشِغَالِي بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيَّ الرِّقِّ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ هَاجَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَثْرِبَ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهَا بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ تَحْتَهَا إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ الْيَومَ مِنْ مَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
فَمَا إِنْ سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ حتَّى مَسَّنِي مَا يُشْبِهُ الْحُمَّى واضْطَرَبْتُ اضْطِرَاباً شَدِيداً حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَسْقُطَ عَلَى سَيِّدِي وَبَادَرْتُ إِلَى النُّزُولِ عَنِ النَّخْلَةِ وَجَعَلْتُ أَقُولُ للرَّجَل: مَاذَا تَقُولُ؟ أَعِدْ عَلَيَّ الْخَبَرَ فَغَضِبَ(6/307)
سَيِّدِي وَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ لِي: مَالَكَ وَلِهَذَا؟ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ عَمَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذْتُ شَيْئاً مِنْ تَمَراتٍ كُنْتُ جَمَعْتُهُ وَتَوَجَّهْت إِلَى حَيْثُ يَنْزِلُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ وَهَذَا كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِليهِ.
فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: «كُلُوا» . وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَأَخذْتُ أَجْمَعُ بَعْضَ التَّمْرِ فَلَّمَا تَحَوَّلَ الرَّسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ جِئْتُه فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا فأَكَلَ مِنْهَا وأَمَر أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ الثَّانِيَةُ.
ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ حَيْثُ كَانَ يُوارِي أَحَدَ أَصْحَابِهِ فَرَأيْتُهُ جَالِساً وَعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ فَسَلَّمْتُ عَليهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي فِي عَمُّورِيَّةَ.
فَلَمَّا رَآنِي أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ عَرَفَ غَرَضِي فألْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَبَرُكَ» ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قَصَّتِي فَأَعْجَبَ بِهَا وَسُرُّوا بِهَا أَنْ يَسْمَعْهَا أَصْحَابُهُ فأَسْمَعْتُهُمْ إِيَّاهَا فَعَجِبُوا مِنْهَا أَشَّدَ الْعَجَبِ وسُرُّوا بِهَا أَعْظَمَ السُّرور. أ. هـ. بِتَصَرِّفَ يَسِير.
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا(6/308)
مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنْبٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَأُحُدٌ ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ» . فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقَرِ وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ» . فَأَعَانُونِي حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُمَائَةٌ.
قالَ سَلْمَان: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَفَقِّرْ لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ» . قال: فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَبَقِيَ عَلَىَّ الْمَالُ.
فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ حَيْثُ لَمْ يَمُتْ مِمَّا غَرَسَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا وَاحِدَةٌ قَالَ سَلْمَانُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: «مَا فَعَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسيُّ الْمُكَاتَبُ» ؟ فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ: «هَذِهِ أَدِّبِهَا مَا عَلَيْكَ» . قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَىَّ؟ قَالَ: «خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ» .
فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَعُتِقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ واحدٌ وَهَذِه أيضاً مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَكَانَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرِعاً زَاهِداً قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ عَطَاءُ سَلْمَانَ خَمْسَةُ آلافٍ وَكَانَ أَمِيراً عَلَى زُهَاء ثَلاثِينَ أَلْفاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ(6/309)
وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي عَبَاءَةٍ يَفْتَرِشُ بَعْضَهَا وَيَلْبَسُ بَعْضَهَا فَإِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ أَمْضَاهُ - يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِوَصِيفَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيَأْكُلُ مِنْ سَفِيفِ يَدَيْهِ أَيْ يَسِفُ الْخُوْصَ وَيَأْكُلُ مِنْ قِيمَتِهِ إِذَا بَاعَهُ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اشْتَرِي خُوصاً بِدِرْهَمٍ فَأَعْمَلُهُ فَأَبِيعُهُ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَأُعِيدُ دِرْهَماً فِيهِ وَأُنْفِقُ دِرْهَماً عَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَكَانَ سَلْمَانُ أَمِيراً عَلَى الْمَدَائِنِ فَجَاءَ رَجُلٌ مَعَهُ حِمْلُ تِبْنٌ وَعَلَى سَلْمَان عَبَاءَةٌ فَقَالَ لَهُ: تَعَالَ احْمِلْ وَهُوَ لا يَعْرِفُهُ فَحَمَلَ فَرَآهُ النَّاسُ فَقَالُوا: هَذَا الأَمِيرُ فَقَالَ الرَّجُلُ لِسَلْمَانَ: لَمْ أَعْرِفْكَ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنِّي قَدْ نَوَيْتُ فِيهِ نِيَّةً فَلَنْ أَضَعَهُ حَتَّى أَبْلُغَ بَيْتَهُ، هَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ سِيرَةِ سَلْمَانَ الْفَارِسِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
كَمْ ذَا أُؤمِّلُ عَفْواً لَسْتُ أَكْسَبُهُ ... وَيْلٌ لِجِلْدِيَ يَوْمَ النَّارِ مِنْ أَمَلِي
قَوْلٌ جَمِيلٌ وَأَفْعَالٌ مُقَبَّحَةٌ ... يَا بُعدَ ذَا الْقَوْلِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَمَلِ
يَا بُؤْسَ لِلْعَيْشِ غُرَّ الْعَالِمُونَ بِهِ ... وَالْجَاهِلُونَ مَعاً فِي الأَعْصُرِ الأُوَلِ
مَضَوْا جَمِيعاً فَلا عَيْنٌ وَلا أَثَرٌ ... حَانُوا وَحَالُوا وَهَذَا الدَّهْرُ لَمْ يَحُلِ
كَأَنَّهَمْ بَعْدَ مَا اسْتَمْطَوْا جَنَائِزَهُمْ ... لَمْ يَمْتَطُوا صَهَوَاتِ الْخَيْلِ وَالإِبْلِ
قَالُوا فَرَغْتَ مِنْ الأَشْغَالِ قُلْتُ لَهُمْ ... لَوْ لَمْ أَكُنْ باِنْتِظَارِ الْمَوْتِ فِي شُغُلِ
إِنِّي لأَعْلَمُ عِلْماً لا يُخَالِجُه ... شَكٌّ فَأَطْمَعُ لِلدُّنْيَا وَيُطْمَعُ لِي
بَأَنَّه لا مَحِيصٌ عَنْ مَدَى سَفَرِي ... وَلا دَوَاءٌ لِمَا أَشْكُوهُ مِنْ عِلَلِي
وَأَنَّنِي سَوْفَ أَلْقَى مَا يُطِيحُ بِهِ ... كَيْدِي وَتَذْهَبُ عَنْهُ ضُلَّلاً حِيَلي
وَكَيْفَ يُطْبِقُ جَفْناً بِالْكَرَى رَجَلٌ ... وَرَاءَهُ لِلرَّدَى حَادٍ مِنْ الأَجَلِ؟
أَمْ كََيْفَ يُصْبِحُ جَذْلاناً وَلَيْسَ لَهُ ... عِلْمُ الإلهِ بِعُقْبَى ذَلِكَ الْجَذَلِ؟
يَا رَاقِداً وَنِدَاءُ الله يُوقظُهُ ... ألا تَزَوَّدتَ فِينَا زَادَ مُرْتَحِلِ؟
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا،(6/310)
وَتَلُمُّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غِائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
اللَّهُمَّ قَوِ إِيمَانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصة: كَانَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَكَانَتْ الْوِلايَةُ فِي الْيَمَنِ إِذْ ذَاكَ لِمُحَمَّدِ بن يُوسُفَ الثَّقَفِي أَخِي الْحَجَّاجِ بن يُوسُفُ أَرْسَلَهُ الْحَجَّاجُ وَالِياً عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ عَظُمَ أَمْرُه ... وَقَوِيَتْ شَوْكَتهُ ... وَاشْتَدَّتْ هَيْبَتُهُ إِثْرَ قَضَائِهِ عَلَى حَرَكَةِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ يَجْمَعُ فِي ذَاتِهِ كَثِيراً مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ الْحَجَّاجِ وَلَكِنَّهُ مَا يَتَحَلَّى بِشَيْءٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ.
وَفِي غَدَاةِ يَوْمٍ بَارِدٍ مِنْ أَيَّامِ الشِّتَاءِ دَخَلَ عَلَيْهِ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ وَمَعَهُ وَهْبُ بنُ مُنَبِّه.
فَلَمَّا أَخَذَا مَجْلَسَيْهِمَا عِنْدَهُ طَفِقَ طَاوُوسٌ يََعِظُهُ وَيُرَغِّبُهُ وَيُرَهِّبُهُ. وَالنَّاسُ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَقَالَ الْوَالِي لأَحَدِ حُجَّابه: يَا غُلامُ أَحْضِرْ طَيْلَسَاناً وَأَلْقِهِ عَلَى كَتِفَيْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
فَعَمَدَ الْحَاجِبُ إِلى طَيْلَسَانٍ ثَمِينٍ وَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَي طَاوُوس فَظَلَّ طَاوُوسٌ مُتَدَفِّقاً فِي مَوْعِظَتِهِ.
وَجَعَلَ يُحَرِّكُ كَتِفَيْهِ فِي تُؤَدَةٍ حَتَّى أَلْقَى الطَّيْلَسَانَ عَنْ عَاتِقِهِ، وَهَبَّ وَاقِفاً وَانْصَرَف ...(6/311)
فَغَضِبَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ غَضَباً ظَهَرَ فِي احْمِرَارِ عَيْنَيْهِ وَاحْتِقَانِ وَجْهِهِ.. غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئاً.
فَلَمَّا صَارَ طَاوُوسٌ وَصَاحِبُهُ خَارِجَ الْمَجْلِس قَالَ وَهْبٌ لِطَاوُوس: وَاللهُ لَقَدْ كُنَّا فِي غِنَى عَنْ إِثَارَةِ غَضَبِهِ عَلَيْنَا فَمَاذَا كَانَ يُضِيُركَ لَوْ أَخَذْتَ الطَّيْلَسَانَ مِنْهُ ثُمَّ بِعْتَهُ وَتَصَدَّقْتَ بِثِمَنِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين؟!
فَقَالَ طَاوُوسٌ: هُوَ مَا تَقُولُ.
لَوْلا أَنّنِي خَشِيتُ أَنْ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ مِنْ بَعْدِي: نَأْخُذُ كَمَا أَخَذَ طَاوُوسٌ ... ثُمَّ لا يَصْنَعُونَ فِيمَا أَخَذُوه مَا تَقُولُ.
وَكَأَنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ أَنْ يَرُدَّ لِطَاوُوسٍ الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ ... فَنَصَبَ لَهُ شَرَكاً مِنْ شِرَاكِهِ حَيْثُ أَعَدَّ صُرَّةً فِيهَا سُبْعُمَائَةِ دِينَارٍ ذَهَباً.
وَاخْتَارَ رَجُلاً حَاذِقاً مِنْ رِجَالِ حَاشِيَتِهِ وَقَالَ لَهُ: امْضِ بِهَذِهِ الصُّرَّةِ إِلى طَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ وَاحْتَلْ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهَا فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْكَ أَجْزَلْتُ عَطِيَّتَكَ وَكَسَوْتُكَ وَقَرَّبْتُكَ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ بِالصُّرَّةِ حَتَّى أَتَى طَاوُوساً فِي قَرْيَةٍ كَانَ يُقِيمُ بِهَا بِالْقُرْبِ مِنْ صَنْعَاءَ يُقَالُ لَهَا: (الْجَنَد) فَلَمَّا ثَارَ عِنْدَهُ حَيَّاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَذِهِ نَفَقَةُ بَعْثَ بِهَا الأَمِيرُ إِلَيْكَ فَقَالَ: مَا لِي بِهَا مِنْ حَاجَةٍ.
فَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِكُلَّ طَرِيقٍ لِيَقْبَلَهَا فَأَبَى ... وَأَدْلَى لَهُ بِكُلِّ حُجَّةٍ فَرَفَضَ.
فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلا أَنْ اغْتَنَمَ غَفْلَةً مِنْ طَاوُوسِ وَرَمَى بِالصُّرَّةِ فِي كُوَّةٍ كَانَتْ بِجِدَارِ الْبَيْتِ وَعَادَ رَاجِعاً إِلى الأَمِيرِ وَقَالَ: لَقَدْ أَخَذَ طَاوُوسٌ الصُّرَّةَ أَيَّهُا الأَمِيرُ فَسُرَّ لِذَلِكَ مُحَّمَدُ بنُ يُوسُفَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ.(6/312)
فَلَمَّا مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامٌ عِدَّةٌ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَمَعَهُمَا الرَّجُلُ الذِي حَمَلَ إِلَيْهِ الصُّرَّةِ ... وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقُولا لَهُ: إِنَّ رَسُولَ الأَمْيَرِ قَدْ أَخْطَأَ فَدَفَعَ إِلَيْكَ الْمَالَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لِغَيْرِكَ، وَقَدْ أَتَيْنَا لِنَسْتَرِدَّهُ مِنْكَ وَنَحْمِلَهُ إِلى صَاحِبِهِ.
فَقَال َطاَوُوسٌ: مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِ الأَمِيرِ شَيْئاً حَتَّى أَرُدَّهُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: بَلْ أَخَذْتَهُ.
فَالْتَفَتَ إِلى الرَّجُلِ الذِي حَمَلَ إِلَيْهِ الصُّرَّةِ وَقَالَ لَهُ: هَلْ أَخَذْتَ مِنْكَ شَيْئاً؟!
فَأَصَابَ الرَّجُلُ ذُعْرٌ وَقَالَ: كَلا، وَإِنَّمَا وَضَعْتُ الْمَالَ فِي هَذِهِ الْكُوَّةِ فِي غَفْلَةٍ مِنْكَ. فَقَالَ طَاوُوسٌ: دُونَكُمَا الْكُوَّةَ فَانْظُرَا فِيهَا: فَنَظَرَا فِي الْكَوَّةِ، فَوَجَدَا فِيهَا الصُّرَّةَ كَمَا هِيَ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ فَأَخَذَاهَا وَعَادَا بِهَا إِلى الأَمِيرُ.
حَدَّثَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي مَكَّةَ حَاجّاً بَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ بِنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِي وَأَدْنَى مَجْلِسِي مِنْهُ ... وَطَرَحَ لِي وِسَادَةً وَدَعَانِي لأَنْ أتَّكِئُ عَلَيْهَا ... ثُمَّ رَاحَ يَسْأَلُنِي عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا.
وَفِيمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعَ الْحَجَّاجُ مُلَبِّياً يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَلَهُ نَبْرَةٌ تَهُزُّ الْقُلُوبَ هَزّاً.
فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَذَا الْمُلَبِّي.
فَأُتِيَ لَهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ الرَّجُلُ؟
فَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ.(6/313)
فَقَالَ: لَمْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا، وَإِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنْ الْبَلَدِ؟
فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ.
فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ أَمِيرَكُمْ (يَعْنِي أَخَاهُ) ؟
فَقَالَ: تَرَكْتُهُ عَظِيماً، جَسِيماً ... لَبَّاساً، رَكَّاباً ... خَرَّاجاً، وَلاجاً ...
فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ ذَا سَأَلْتُكَ؟
فَقَالَ: عَمَّ سَأَلْتَنِي إِذَنْ؟
فَقَالَ: سَأَلْتُكَ عَنْ سِيرَتِهِ فِيكُمْ؟
فَقَالَ: تَرَكْتُهُ ظَلُوماً غَشُوماً ... مُطِيعاً لِلْمَخْلُوقِ عَاصِياً لِلْخَالِقِ.
فَاحْمَرَّ وَجْهُ الْحَجَّاجِ خَجَلاً مِنْ جُلَسَائِهِ وَقَالَ لِلرَّجُلُ:
مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيهِ مَا قُلْتَهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانَهُ مِنِّي؟!
فَقَالَ: أَتَرَاهُ بِمَكَانِهِ مِنْكَ أَعَزَّ مِنِّي بِمَكَانِي مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟
وَأَنَا وَافِدُ بَيْتِهِ ... وَمُصَدِّقُ نَبِيِّهِ ... وَقَاضِي دِينِهِ ...
فَسَكَتَ الْحَجَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ جَوَاباً.
قَالَ طَاوُوسٌ: ثُمَّ مَا لَبِثَ الرَّجُلُ أَنْ قَامَ، وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَوْ يُؤْذَنَ لَهُ.
فَقُمْتُ فِي إِثْرِهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ الرَّجُلَ صَالِحٌ فَاتْبَعْهُ وَاظْفَرْ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُغَيِّبَه عَنْ عَيْنَيْكَ جُمُوعُ النَّاسِ.
فَتَبِعْتُهُ فَوَجَدْتُه قَدْ أَتَى الْبَيْتَ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى جِدَارِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ ... وَبِجَنَابِكَ أَلُوذُ ... اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي الاطْمِئْنَانِ إِلى جُودِكَ وَالرِّضَا بِضَمَانِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ وَغِنَىً عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَرَجَكَ الْقَرِيب ... وَمَعْرُوفَكَ الْقَدِيم وَعَادَتَكَ الْحَسَنَة يَا رَبَّ الْعَالَمِين.(6/314)
ثُمَّ ذَهَبَتْ بِهِ مَوْجَةٌ مِنَ النَّاسِ وَأَخْفَتْهُ عَنْ عَيْنِي فَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لا سَبِيلَ إِلى لِقَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ عَرَفَة رَأَيْتُهُ وَقَدْ أَفَاضَ مَعَ النَّاسِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْبَلْ حِجِّي، وَتَعَبِي، وَنَصَبِي، فَلا تُحْرِمْنِي الأَجْرَ عَلَى مُصِيبَتِي، بِتَرْكِكَ الْقَبُولَ مِنِّي ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ، وَسَتَرَهُ الظَّلامُ عَنِّي فَلَمَّا يَئِسْتُ مِنْ لِقَائِهِ قُلْتُ:
اللَّهُمَّ اقْبَلْ دُعَائِي وَدُعَاءَهُ وَاسْتَجِبْ رَجَائِي وَرَجَاءَهُ وَثَبِّتْ قَدَمِيَّ وَقَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزلُّ الأَقْدَامِ، وَاجْمَعْنِي مَعَهُ عَلَى حَوْضِ الْكَوْثَرِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (قِصَّة لِطَاوُوس) .
قِصَّة لِطَاوُوس
مَا كَادَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكَ يُلْقِي رِحَالَهُ فِي أَكْنَافِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ... وَيُقِلُّ أَشْوَاقَهُ إِلى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ حَتَّى الْتَفَتَ إِلَى حَاجِبِهِ وَقَالَ:
ابْتَغْ لَنَا عَالِماً يُفَقِّهُنَا فِي الدِّينِ وَيُذَكِّرُنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الأَغَرِّ مِنْ أَيَّامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَمَضَى الْحَاجِبُ إِلى وُجُوهِ أَهْلِ الْمُوسِمِ وَطَفَقَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ بُغْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ لَهُ:
هَذَا طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ سَيِّدُ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ ... وَأَصْدَقُهُمْ لَهْجَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلى اللهِ ... فَعَلَيْكَ بِهِ.(6/315)
فَأَقْبَلْ الْحَاجِبُ علَىَ طَاوُوسِ وَقَالَ: أَجِبْ دَعْوَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَاسْتَجَابَ طَاوُوسٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِبْطَاء.
ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بَأَنَّ عَلَى الدُّعَاةِ إِلى الله تَعَالى أَلا تَعْرِضَ لَهُمْ فُرْصَةٌ إِلا اغْتَنَمُوهَا ... وَأَلا تَسَنْحَ لَهُمْ بَادِرَةٌ إِلا ابْتَدَرُوهَا.
وَكَانَ يُوقِنُ أَنَّ أَفْضَلَ كَلِمَةٍ تُقَالُ هِيَ كَلَمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا تَقْوِيمُ اعْوِجَاجِ ذَوِي السُّلْطَانِ ... وَتَجْنيبُهُمْ الْحَيْفَ وَالْجُور ... وَتَقَرِيبُهُمْ مِنْ الله تعالى ...
مَضَى طَاوُوسٌ مَعَ الْحَاجِبِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَيَّاهُ فَرَدَّ الْخَلِيفَةُ التَّحِيَّةَ بِأَحْسَنَ مِنْهَا ... وَأَكْرَمَ اسْتِقْبَالَ زَائِرِه، وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ ثُمَّ أَخَذَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَيَنْصِتُ إِلَيْه فِي تَوْقِيرٍ وَإِجْلال.
قَالَ طَاوُوس: فَلَمَّا شَعَرْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغَ بُغَيْتَهِ وَلَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ قُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ هَذَا الْمُجْلِسَ لِمَجْلِسٌ يَسْأَلُكَ اللهَ عَنْهُ يَا طَاوُوس.. ثُمَّ تَوَجَّهْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ صَخْرَةً كَانَتْ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّم ...
وَقَدْ ظَلَّتْ تَهْوِي فِي هَذِهِ الْبِئْرِ سَبْعِينَ خَرِيفاً حَتَّى بَلَغَتْ قَرَارَهَا.
أَتَدْرِي لِمَنْ أَعَدَّ الله هَذِهِ الْبِئْرَ مِنْ آبَارِ جَهَنَّمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمَنِينَ؟
فَقَالَ: مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ: لا.
ثُمَّ عَادَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ:
وَيْلَكَ لِمَنْ أَعَدَّهَا؟!
فَقَالَ: أَعَدَّهَا اللهَ جَلَّ وَعَزَّ لِمَنْ أَشْرَكَهُ فِي حُكْمِهِ فَجَارَ ...(6/316)
فَأَخَذَتْ سُلَيْمَانَ لِذَلِكَ رَعْدَةٌ ظَنَنْتُ مَعَهَا أَنَّ رُوحَهُ سَتَصْعَدُ مِنْ بَيْنِ جَنْبِيهِ.
وَجَعَلَ يَبْكِي، وَلِبُكَائِهِ نَشِيجٌ يُقَطِّعُ نِيَاطَ الْقُلُوبَ ... فَتَرَكْتُهُ وَانْصَرَفْتُ ... وَهُوَ يَجْزِينِي خَيْراً.
وَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلافَةَ بَعَثَ إِلى طَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ يَقُولُ: أَوْصِنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ طَاوُوسٌ رِسَالَةً فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ قَالَ فِيهَا: (إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُكَ خَيْراً كُلَّهُ فَاسْتَعْمِلْ أَهْلَ الْخَيْرِ، وَالسَّلام) .
فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الرِّسَالَةَ قَالَ: كَفَى بِهَا مَوْعِظَةً كَفَى ... بِهَا مَوْعِظَةً.
وَلَمَّا آلَتِ الْخِلافَةُ إِلى هِشَامِ بنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَتْ لِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ مَعَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ مَأْثُورَة ... مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِشَاماً قَدِمَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ حَاجّاً فَلَمَّا صَارَ فِي الْحَرَمِ قَالَ لِخَاصَّتِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: الْتَمِسُوا لَنَا رَجُلاً مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام.
فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ - يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - قَدْ تَلاحَقُوا بِرِبِّهِمْ وَاحِداً إِثْرَ آخَرَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَد.
فَقَالَ: إِذَنْ فَمِنَ التَّابِعِينَ.
فَأُتِيَ بِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِحَاشِيَةِ بِسَاطِهِ ... وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ... وَخَاطَبَهُ بِاسْمِهِ دُونَ أَنْ يُكَنِّيهِ ... وَجَلَسَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْجُلُوسِ ...
فَاسْتَشَاطَ هِشَامٌ غَضَباً حَتَّى بَدَا الْغَيْظُ فِي عَيْنَيْهِ.(6/317)
ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي تَصَرُّفَاتِهِ تِلْكَ اجْتِرَاءً عَلَيْهِ، وَنَيْلاً مِنْ هَيْبَتِهِ أَمَامَ جُلَسَائِهِ، وَرِجَالِ حَاشِيَتِهِ ...
بَيْدَ أَنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي حَرَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ لِطَاوُوس: مَا حَمَلَكَ يَا طَاوُوسُ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟!
فَقَالَ: وَمَا الذِي صَنَعْتُهُ؟!
خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ بِحَاشِيَةِ بِسَاطِي ...
وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيَّ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ ...
وَسَمَّيْتَنِي بِاسْمِي وَلَمْ تُكَنِّنِي ...
ثُمَّ جَلَسْتُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِي.
فَقَالَ طَاوُوسٌ بِهُدُوء: أَمَّا خَلْعُ نَعْلِي بِحَاشِيَةِ بِسَاطِكَ فَأَنَا أَخْلَعُهُمَا بَيْنَ يَدَيْ رِبِّ الْعِزَّةِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّات ...
وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي لَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ ... فَلأَنَّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا رَاضِينَ بِإمْرَتِكَ ...
وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ كَاذِباً إِذَا دَعَوْتُكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا مَا أَخَذْتَهُ عَلَيَّ مِنْ أَنِّي نَادَيْتُكَ بِاسْمِكَ وَلَمْ أُكَنِّكَ ... فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَادَى أَنْبِيَاءَهُ بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ: يَا دَاوُود ... يَا يَحْيَى ... يَا عِيسَى ...
وَكَنَّى أَعْدَاءَهُ فَقَالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي جَلَسْتُ قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَإِنِّي سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بنِ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ:
(إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلى رَجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَانْظُرْ إِلى رَجُلٍ جَالِسٍ، وَحَوْلَهُ قَوْمٌ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ) .
فَكَرِهْتُ أَنْ تَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي عُدَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.(6/318)
فَأَطْرَقَ هِشَامٌ إِلى الأَرْضِ خَجَلاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: عِظْنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: (إِنَّ فِي جَهَنَّمَ حَيَّاتٍ كَالْقَلال ... وَعَقَارِبَ كَالْبِغَال ... تَلْدَغُ كُلَّ رَاعٍ لا يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ) .
ثُمَّ قَامَ وَانْصَرَفَ.
وَكَمَا كَانَ طَاوُوسٌ يُقْبِلُ عَلَى بَعْضِ أُوِلي الأَمْرِ تَذْكِيراً لَهُمْ وَتَوْجِيهاً ... فَقَدْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ بَعْضِهِمْ الآخَرَ تَبْكِيتاً وَتَأْنِيباً.
حَدَّثَ ابْنُهُ قَالَ: خَرَجَّنَا ذَاتَ سَنَةٍ مَعَ أَبِي حُجَّاجاً مِنْ الْيَمَنِ فَنَزَلْنَا فِي بَعْضَ الْمُدُنِ وَعَلَيْهَا عَامِلٌ يُقَالُ لَهُ: ابنُ نَجِيح وَكَانَ مِنْ أَخْبَثِ الْعُمَّالِ، وَأَكْثَرِهِمْ جُرْأَةٌ عَلَى الْحَقِّ، وَأَشَدِّهِمْ إِيغَالاً فِي الْبَاطِلِ.
فَأَتَيْنَا مَسْجِدَ الْبَلَدِ نُرِيدُ أَدَاءَ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ابْنُ نَجِيحٍ قَدْ عَلِمَ بِقُدُومِ أَبِي فَجَاءَ إِلى الْمَسْجِدِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ.
فَلَمْ يُجِبْهُ أَبِي، وَأَدَارَ لَهُ ظَهْرَه ...
فَأَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَدَلَ إِلى يَسَارِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَيْضاً فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ إِلَيْهِ، وَمَدَدْتُ يَدِي نَحْوَه وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَعْرِفْكَ.
فَقَالَ: بَلْ إِنَّ أَبَاكَ يَعْرِفُنِي ... وَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ بِي هِيَ الِّتِي جَعَلَتْهُ يَصْنَعُ مَا رَأَيْتُ ... ثُمَّ مَضَى وَهُوَ سَاكِتٌ لا يَقُولُ شَيْئاً فَلَمَّا عُدْنَا إِلى الْمَنْزِلِ الْتَفَتَ إِلِيَّ أَبِي وَقَالَ: يَا لُكَع ... تَسْلِقُ هَؤُلاءِ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ فِي غَيْبَتِهِمْ ... فَإِذَا حَضَرُوا خَضَعْتَ لَهُمْ بِالْقَوْلِ، وَهَلْ النِّفَاقُ غَيْرُ هَذَا؟!(6/319)
لَمْ يَخُصَّ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُلاةَ بِمَوَاعِظِهِ وَِإِنَّمَا بِذَلَهَا لِكُلِّ مِنْ أنسَ بِهِ حَاجَةً إِلَيْهَا أَوْ رَغْبَةً فِيهَا.
مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بنُ رَبَاحٍ قَالَ: رَآنِي طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ فِي مَوْقِفٍ لَمْ يَرْتَحْ لَهُ فَقَالَ:
يَا عَطَاءُ إِيَّاكَ أَنْ تَرْفَعَ حَوَائِجَكَ إِلى مَنْ أَغْلَقَ فِي وَجْهِكَ بَابَه ... وَأَقَامَ دُونَكَ حُجَّابه وَإِنَّمَا أَطْلُبُهَا مِمَّنْ أَشْرَعَ لَكَ أَبْوَابَهُ ... وَطَالَبَكَ أَنْ تَدْعُوهُ ... وَوَعَدَكَ بِالإِجَابَة.
وَكَانَ يَقُولُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ صَاحِبِ الْعُقَلاءَ تُنْسَبْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ ...
وَلا تُصَاحِبِ الْجُهَّالَ فَإِنَّكَ إِنْ صَحِبْتَهُمْ نُسِبْتَ إِلِيْهَمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ ...
وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ غَايَة وَأَنَّ غَايَةَ الْمَرْءِ تَمَامُ دِينِهِ وَكَمَالُ خُلُقِهِ.
وَقَدْ نَشَأ ابْنُهُ عَبْدُ الله عَلَى مَا رَبَّاهُ عَلَيْهِ وَتَخَلَّقَ بِأَخْلاقِهِ، وَسَارَ بِسَيرتَه.
مِنْ ذَلَكِ أَنْ الْخَلِيفَةَ الْعَبَّاسِيَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ اسْتَدْعَى وَلَدَهُ عَبْدَ الله، وَمَالِكَ بنَ أَنَسٍ لِزيَارَتِهِ فَلَمَّا دَخَلا عَلَيْهِ وَأَخَذَا مَجْلِسَيْهِمَا عِنْدَهُ الْتَفْتَ إِلى عَبْدِ الله بن طَاوُوسِ وَقَالَ: ارْوِ لِي شَيْئاً مِمَّا كَانَ يُحَدِّثُكَ بِهِ أَبُوكَ.
فَقَالَ: (حَدَّثِنِي أَبِي أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَشْرَكَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سُلْطَانِهِ فَأَدْخَلَ الْجَوْرَ فِي حُكْمِهِ) .
قَالَ مَالِكُ بنُ أَنَسِ: فَلَمَّا سَمِعْتَ مَقَالَتَهُ هَذِهِ ضَمَمْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي خَوْفاً مِنْ أَنْ يُصِيبَنِي شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ.(6/320)
بَيْدَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ أَمْسَكَ سَاعَةً لا يَتَكَلَّم ... ثُمَّ صَرَفَنَا بِسَلام.
وَقَدِ امْتَدَّتِ الْحَيَاةُ بِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ حَتَّى بَلَغَ الْمَائَةَ أَوْ جَاوَزَهَا قَلِيلاً غَيْرَ أَنَّ الْكِبَرَ وَالشَّيْخُوخَةَ لَمْ يَنَالاَ شَيْئاً مِنْ صَفَاءِ ذِهْنِهِ وَحِدَّةِ خَاطِرِهِ وَسُرْعَةِ بَدِيهَتِهِ.
حَدَّثَ عَبْدُ الله الشَّامِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ طَاوُوساً فِي بَيْتِهِ لآخُذَ عَنْهُ، وَأَنَا لا أَعْرِفُهُ فَلَمَّا طَرَقْتُ الْبَابَ خَرَجَ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ فَحَيَّيْتُهُ وَقُلْتُ: أَأَنْتَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَان؟
فَقَالَ: بَلْ أَنَا ابْنُهُ ...
فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتُ ابْنُهُ فَلا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ قَدْ هَرِمَ وَخَرِفَ وَإِنِّي قَصَدْتُهُ مِنْ أَمَاكِنَ بِعِيدَةٍ لأفِيدَ مِنْ عِلْمِهِ.
فَقَالَ: وَيْحَكَ ...
إِنَّ َحَمَلَةَ كِتَابِ الله لا يَخْرَفُون.
أُدْخُلْ عَلَيْهِ.
فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ، وَقُلْتُ:
لَقَدْ أَتَيْتُكَ طَالِباً عِلْمَكَ رَاغِباً فِي نُصْحِكَ.
فَقَالَ: سَلْ وَأَوْجِزْ.
فَقُلْتُ: سَأَوجِزُ مَا وَسِعَنِي الإِيجَاز إِنْ شَاءَ الله.
فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ أَجْمَعَ لَكَ صَفْوَةَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالزَّبُورِ، وَالإِنْجِيلِ، وَالْقُرْآن؟
فَقُلْتُ: نَعَم.
فَقَالَ: خِفِ الله تَعَالى خَوْفاً بِحَيْثُ لا يَكُونُ شَيْءٌ أَخْوَفَ لَكَ مِنْهُ ...(6/321)
وَارْجُهُ رَجَاءً أَشَدَّ مِنْ خَوْفِكَ إِيَّاهُ ...
وَأحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ.
وَفِي لَيْلَةِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَمائَة أَفَاضَ الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ مَعَ الْحَجِيجِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلى الْمُزْدَلِفَةِ لِلْمَرَّةِ الأَرْبَعِينَ فَلَمَّا حَطَّ رِحَالَهُ فِي رِحَابِهَا الطَّاهِرَةِ، وَأَدَّى الْمَغْرِبَ مَعَ الْعِشَاءِ، وَأَسْلَمَ جَنْبَيْهِ إِلى الأَرْضِ يَلْتَمِسُ شَيْئاً مِنْ الرَّاحَةِ، أَتَاهُ الْيَقِينُ، فَلَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِ الصُّبْحُ وَأَرَادُوا دَفْنَهُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِخْرَاجِ جَنَازَتِهِ لِكَثْرَةِ مَا ازْدَحَمَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ مَكَّةَ حَرَساً لِيَذُودوا النَّاسَ عَنِ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُتَاحَ لَهُمْ دَفْنُهَا.
وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لا يحْصِي عَدَدَهُمْ إِلا الله، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْمُصَلِّينَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ هِشَامُ بن عَبْدِ الْمَلِكِ.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنِ الْمخالفةِ وَالْعِصْيَانِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(غَزْوَةُ تَبُوك)
أَوِ الْعُسْرَةِ
تَبُوكُ مَوْضِعُ بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَالشَّامِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَة وَبَيْنَ دِمَشْقٍ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ أَخَذاً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} .
وَكَانَتْ فِي رَجَبَ سَنَةَ 9 هـ مِنْ الْهِجْرَةِ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الَّتِي افْتَضَحَ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا وَكَانَ الْوَقْتُ حِينَ خُرُوجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّاً شَدِيداً وَقَحْطاً شَدِيداً وَكَانُوا مِنْ(6/322)
شِدَّةِ الْعَطَشِ وَالْحَرِّ يَنْحُرُونَ الْبَعِيرَ فَيَعْصِرُونَ فَرْثَهُ الذِي فِي الْكِرْشِ وَيَشْرَبُونَهُ فَلِذَا سُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ أَيْ الشَّدَّةِ وَالضَّيْقِ.
وَسَبَبُهَا أَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعَتْ جُمُوعاً كَثِيرَةً بِالشَّامِ وَأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَزَحَفُوا وَقَدَّمُوا مُقَدِّمَاتِهِمْ إِلى الْبَلْقَاءِ وَعَسْكَرُوا بِهَا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ النَّاسَ إِلى الْخُرُوجِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ الأَمْرَ لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُمْ وَأَخْبَرَهَمُ بِالْوَجْهَ الذِي يُرِيدُ وَبَعَثَ إِلى الْقَبَائِلِ مَكَّةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلى عَدُّوِهِمْ وَخَطَبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي النَّاسِ فَحَضَّ عَلَى الْجِهَادُ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ وَرَغَّبَ أَهْلَ الثَّرْوَةِ بِالْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَحَثَّ الْمُوسِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمُعْسِرِينَ.
فَتَبَادَرَ الْمُسْلِمُونَ وَجَاءُوا بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَنَافَسُوا فِي تَجْهِيز جَيْشِهِمْ فَكَانَ أَوَّل مَنْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلْ أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِنِصْفِ مَالِهِ فَسَأَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلْ أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: نَعَمْ نِصْفَ مَالِي. وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَائَةِ أَوْقِيَة فِضَّةً.
وَجَاءَ الْعَبَّاسُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَجَاءَ طَلْحَةُ بِمَالٍ وَجَهَزَّ عُثْمَانُ بن عَفَّانَ ثُلُث الْجَيْشِ وَجَاءَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ بِمَالٍ وَجَاءَ مُحَمَّد بنُ مَسْلَمَةَ بِمَالٍ وَجَاءَ عَاصِمُ بنُ عُدِيٍ بِتِسْعِينَ وَسقَا مِنْ تَمْرٍ وَبَعَثَ النِّسَاءُ كُلَّ مَا قَدِرْنَ عَلَيْهِ مِنْ مِسْكٍ وَحُلِيٍ مَعَاضِدَ وَخَلاخِلَ وَأَقْرَاطٍ وَخَوَاِتَم.(6/323)
قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ لَنَا الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا يُحَدَّثُ بَعْضٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنْ الْحَرِّ وَجُدْبٍ مِنْ الْبِلادِ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى حَالٍ مَنَ الزَّمَانِ الذِي هُمْ عَلَيْهِ.
وَكَانَ رَسُولٌُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَفَا عَنْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الذِي يَعْمِدُ إِلَيْهِ إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الذِي يَعْمِدُ لَهُ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ.
فَأَمَرَ النَّاسِ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِ بنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلَمَةَ: ((يَا جَدُّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جَلادِ بَنِي الأَصْفَرِ)) .
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ تَأْذَنُ لِي وَلا تَفْتِنِي، فَوَاللهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ أَشَدَّ عُجْباً بِالنِّسَاءِ مِنِّي وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَر أَنِّي لا أَصْبِرُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: ((قَدْ أَذَنْتُ لَكَ)) . فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكّاً فِي الْحَقِّ وَارْجَافاً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} .(6/324)
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَعَجِزَ نَفَرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ الْبَكَّاؤُونَ وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِن الأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرو بن عَوْفٍ وَسَالِم بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلَيَّة بن زَيْدٍ، أَحَد بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُي لَيْلَى عَبْد الرَّحْمَن أَخُي بَنِي مَازِنْ بنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بن الْحُمَامِ، وَعَبْد اللهِ بن مُغَفَّلٍ الْمَازِنِي وَبَعْض النَّاسِ يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْروٍ الْمَازِنِي وَهِرْمِيُ بنُ عَبْدُ اللهِ وَعِرْبَاضُ بنُ سَارِيَةَ.
فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ: ((لا أَجِدُ مَا أُحَمِّلُكُمْ عَلَيْهِ)) . فَتَوَلَوُا يَبْكُونَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حُزْناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.
وَقَامَ عُلَيَّةُ بنُ يَزِيد فَصَلَّى مِنْ اللَّيْلِ وَبَكَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَبَّتْ فِيهِ ثُمَّ لَمَ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَّوَى بِهِ مَعَ رَسُولِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ.
ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ)) ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)) . فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبْشِرْ فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ)) . فَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ الْمُتَصَدِّق.
فَلَقَيَ اثْنَانِ مِنْهُمَا يَامِينَ بن عُمَيْرِ بنِ كَعْبِ النَّفَرِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكمَا؟ قَالا: جِئْنَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ تَفُوتَنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحاً لَهُ،(6/325)
الْبَعِيرَ الذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَارْتَحَلاهَ وَزَوَّدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَحَمَلَ الْعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلب رَجُلَيْنِ وَحَمَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ مِنْهُمْ ثَلاثَةً.
أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ وَيَنْتَحِلُونَ الأَعْذَارَ لِيَتَخَلَّفُوا عَنْ الرَّكْبِ وَكَانُوا مِنْ الأَغْنِيَاءِ الْقَادِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَلَكِنَّ النِّفَاقَ ضَرَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَجَأوُا إِلى الْحِيلَةِ يَعْتَذِرُونَ وَجَعَلُوا يَسْتَأْذَنُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ وَيُعْرِضْ عَنْهُمْ.
وَلَمْ يَقْتَصِرِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ وَقُعُودِهِمْ بَلْ بَثُّوا شُرُورَهُمْ وَجَعَلُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ وَيُخَوِّفُونَهُمْ لِقَاءَ الرُّومِ وَيُرْجِفُونَ برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ فِيمَا يَقُولُونَ: يَغْزُو مُحَمَّدٌ بَنِي الأَصْفَرِ مَعَ جُهْدِ الْحَالِ وَالْحَرِّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ أَيَحْسَبُ مُحَمَّدٌ أَنَّ قِتَالَ بَنِي الأَصْفَرِ بَسِيطٌ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضَا وَاللهِ لَكَأَنَّكُمُ بِأَصْحَابِهِ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ.
وَكَانَ الْعَرَبُ يَنْظُرُونَ إِلى دَوْلَةِ الرُّومِ حِينَذَاكَ كَنَظَر كَثِيرٍ مِن النَّاسِ الْيَوْمَ إِلى دُوَلِ الْكُفْرِ دُوَلَ أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا وَرُوسِيَا، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُعِدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّتَهُ.
وَتَتَابَعَ النَّاسُ يَتَوَافَدُونَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ حَتَّى زَادَ عَدَدُهُمْ عَلَى ثَلاثِينَ أَلْفاً وَضَرَبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةْ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ الذِينَ نَوَّرْتَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ، وَحَرَسْتَهُمْ مِنْ عَدُوِّكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ(6/326)
يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ عَليَّ بنَ أَبِي طَالِب وَأَمَرَهُ بِالإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأُرْجِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا اسْتِشْقَالاً لَهُ وَتَخَفُفاً مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلِيٌّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُرْفِ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتَنِي وَتَخففْتَ مِنِّي فَقَالَ: ((كَذِبُوا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خَلَّفْتُكَ لِمَا وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ أَفَلا تَرْضَي يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي)) . فَرَجَعَ عَلِيٌّ.
وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ فَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلى أَبِي بَكْرٍ وَدَفَعَ رَايَتَهُ إِلى الزُّبَيْرِ وَدَفَعَ رَايَةَ الأَوْسِ إِلى أُسَيْدِ بنِ خُضَيْرٍ وَرَايَةَ الْخَزْرَجِ إِلى الْحَبَّاب بن الْمُنْذِرِ وَأَمَرَ كُلَّ بَطْنٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ أَنْ يَتَّخِذُوا لِوَاءً أَوْ رَايَةً.
وَخَرَجَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ قَاصِداً نَاحِيَةَ الشَّامِ فِي ثَلاثِينَ أَلْفاً مِنْ النَّاسِ وَالْخَيْلُ عَشْرَةُ آلافِ فَرَسٍ وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ رَئِيسَ الْمُنَافِقِينَ خَرَجَ فِي حُلَفَائِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فَعَسْكَرَ بِهِمْ إِزَاءَ عَسْكَرِ رَسُولِ ِاللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّيْرِ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بِنُ أُبَيّ وَمن كَانَ مَعَهُ كَمَا تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي غَزْوَة أُحُدٍ وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ سَهْلاً وَلا السَّفَرُ قَرِيباً وَلا الْوَقْتُ مُلائِماً لِلسَّيْرِ إِنَّمَا كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ زَمَانُ عُسْرَةٍ وَشِدَّةِ حَرٍّ وَجُدْبٍ وَحِينَ طَابَتِ الثَّمَارُ وَالظِّلالَ فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ.(6/327)
وَلَكِنَّ الْجِهَادَ لِدَفْعِ عَدُوِّ مُهَاجِمٍ وَرَدِّ خَطَرٍ جَاثِمٍ عَلَى الأَبْوَابِ فَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَهْلُ الدَّعْوَةِ وَحُمَاتُهَا لِيَنْكُلُوا عَنْ الْجِهَادِ مَهْمَا تَكُنِ الأَسْبَابُ غَيْرَ مُوَاتِيَةٍ وَمَهْمَا تَكُنِ الظُّرُوفُ غَيْرُ مُلائِمَةِ قَالَ تَعَالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وَقَدْ قَاسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَعَنْتاً وَنَصْباً كَثِيراً قَالَ قَتَادَةٌ: خَرَجُوا إِلى الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ عَلَى مَا يَعْلمُ اللهُ مِنْ الْجُهْدِ فَأَصَابَهُمْ فِيهَا جُهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةِ بَيْنَهُمَا وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةِ بَيْنَهُمْ يَمُصُهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَمُصُهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلى تَبُوكَ فِي قَيْضٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْراً فَادْعُ اللهَ لَنَا فَقَالَ: ((أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتْ السَّمَاءُ - أَيْ(6/328)
آذنَتْ بِمَطَرٍ فَأطَلَّلتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَؤُا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَرَهَا جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ.
وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً وَلَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي عَانَاهَا الْمُسْلِمُونَ فِي السَّيْرِ إِلى تَبُوكَ امْتِحَاناً مِن اللهِ لَهُمْ أَرَادَ بِهِ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِخْلاصَهُمْ وَإِعْدَادَهُمْ لاحْمِاَلِ مَشَاقِّ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وليَنْظِرُ مَبْلَغَ صَبْرَ الصَّابِرِينَ وَصِدْق الصَّادِقِينَ فِي سَبِيلِ الذَّبَ عَنْ دِينِهِمْ.
فَكَانَ لا يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْمَشَقَّاتُ إِلا الذِينَ لَهُمْ إِيمَانٌ عَمِيقٌ رَاسِخَةٌ عَقِيدَتُهُمْ أَمَا الذِينَ نَافَقُوا وَتَظَاهَرُوا بِالإِيمَانِ فَقَدْ تَضَعْضَعُوا وَضَعُفُوا وَخَارَتْ عَزَائِمُهُمْ فَكَانُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوف رَاجِعِينَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَمَ
مَوْعِظَة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الْحَيَاءَ كَمَا عَلِمْتُمْ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ وَإِنَّهُ خُلُقُ الإِسْلامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجُرُّ إِلى الْكَمَالاتِ وَالْفَضَائِلِ وَهُوَ خُلُقُ الْكِرَامِ وَسِمَةُ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَعُنْوَانُ الْفَضْل وَالنُّبْل.
وَالْحَيَاءُ بَاعِثُهُ إِحْسَاسٌ رَقِيقٌ وَشُعُورٌ دَقِيقٌ يَبْدُو فِي الْعَيْنِ مَظْهَرُهُ وَعَلَى الْوَجْهِ أَثَرُهُ وَمَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَمَنْ تَحَلَّى بِهِ ظَفِرَ بِالْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَنَالَ الْخَيْرَ أَجْمَع.
وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ هُمْ أَهْلُ الْحَيَاءِ فَعَلَيْنَا أَنْ نَفْتَدِيَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْخُلُقِ الْجَمِيل وَلَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِنَّ إِذَا خَرَجْنَ لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ لا يُرَى مِنْهَا شَيْئاً أَبَداً وَتَبْتَعِدُ عَن الرِّجَالِ لاصِقَةً بِالْجِدَارِ مُرْخِيَةً ثَوْبَهَا شِبْراً أَوْ ذِرَاعاً فِي ثَوْبِ رَثٍّ خَلِقٍ وَعَبَاءَةٍ كَذَلِكَ.(6/329)
مَضَى عَلَى هَذَا مُدَّةٌ من الزَّمَنِ ثُمَّ لَمَا غَشَوْنَا الأَجَانِبُ وَكَثِرُوا عِنْدَنَا وَهُمْ لا يَرَوْنَ فِي التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ بَأْساً ضَعُفَ دَاعِي الْحَيَاءِ وَأَثَّرُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ.
وَلا شَكَّ أَنَّ التَّبَرُّجَ وَإِبْدَاءَ الزِّينَةِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَجِبُ إِنْكَارُهَا وَمَنْعُهَا لِمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي وَإِفْسَادِ الأَخْلاقِ وَإِلَيْكَ الأَدِلَّةُ الدَّالَةُ عَلَى تَحْرِيم السُّفُورِ وَالتَّبَرُّجِ.
قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} فَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ الاحْتِجَابُ عَن الرِّجَالِ.
وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} .
وَقَالَ تَعَالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} الآيةَ، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهَا تَشَوُّقٌ إِلى النِّكَاحِ بَأَنْ كَانَتْ تَرْجُوهُ عَلَيْهَا جُنَاحٌ وَهُوَ الإِثْمُ إِنْ وَضَعَتْ ثِيَابَهَا وَرَآهَا الأَجَانِبُ مِنْهَا فَالشَّابَاتُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى لا يَجُوزُ لَهُنَّ وَضْعُ ثِيَابِهِنَّ لأنَّ الْفِتْنَةَ بِهِنَّ أَشَدُّ وَإِثْمُهُنَّ أَعْظَمُ فَتَأَمَّلْ.
وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ} الآيَةَ. وَأَعْظُمُ مَا تَبْدُو بِهِ الزِّينَةُ الْوَجْهُ.(6/330)
وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} وَوَجْهُ الدَّلالَةِ عَلَى الاحْتِجَابِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خِلْخَالِهَا مِنْ يَسْمَعُهُ مِنْ الرِّجَالِ فَتَتَحَرَّكَ الشَّهْوَةُ فَكَيْفَ بِإبْدَاءِ الْوَجْهِ الذِي فِتْنَتُهُ أَعْظَمُ وَتَحْرِيكُهُ لِلشَّهْوَةِ أَشَدُّ وَهُوَ الذِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ أَقْدَم أَوْ أَحْجَمَ.
وَقَالَ تَعَالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} . قَالَ فِي فَتْح الْقَدِير: وَفِي هَذِهِ دَلِيل عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلى غَيْرِ مَنْ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ. أهـ.
وَمِنْ الأَدِلَّةِ قَوْلُهُ تَعَالى نَاهِياً لأَزْوَاجِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} .
هَذَا النَّهْيُ وَهَذَا التَّحْذِيرُ فِي عَهْدِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِ الصَّفْوَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ الْبَشَرِ لِصُحْبَةِ رَسُولِهِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِهَذَا الْمُجْتَمَعِ الذِي نَعِيشُ فِيهِ الْيَوْمَ فِي عَصْرِنَا الْمَرِيضِ الدَّنِسِ الْهَابِطِ الذِي تَهِيجُ فِيهِ الْفِتَنُ وَتَثُورُ فِيهِ الشَّهَوَاتِ وَتَرِفُ فِيهِ الأَطمَاعُ نَسْأَلَ الله أَنْ يُفِيضَ لِدِينِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَبِالإِجَابَةِ جَدِير.
ثُمَّ مِنْ الأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْحِجَابِ وَالسَّتْرِ عَنْ الأَجَانِبِ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ حُمَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ إِمْرَأَةً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُر إِلَيْهَا لِخُطْبَةٍ وَإِنْ كَانَتْ لا تَعْلَمْ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِطَاعَتِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا الإِنَابَةَ إِلَيْكَ وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ(6/331)
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَوَجْهُ الدَّلالَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْجُنَاحَ وَهُوَ الإِثْمُ عَنْ الْخَاطِبِ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِلْخُطْبَةِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّاظِرَ لِغَيْرِ الْخُطْبَةِ إِثْمُ.
وَمِنْ الأَدِلَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: «يُرْخِينَهُ شِبْراً» . قَالَتْ: إِذاً تَنَكَشِفْ أَقْدَامُهُنَّ قَالَ: «يُرْخِينَ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» .
وَوَجْهُ دَلالَتِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّسَتُّر عَنْ الأَجَانِبِ أَنْ الْقَدَمَ وَهُوَ أَقَلُّ فِتْنَةٍ مِنْ الْوَجْهِ يَجِبُ سَتْرُهُ فَيَكُونُ وُجُوبُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَمِنْ الأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّسَتُّرِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا إِلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ وابن مَاجة.
فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ دَلالَةً وَاضِحَةً عَلَى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ عَنْ الأَجَانِبِ إِذَا فَهِمَتْ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِي اللهَ وَيَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي نِسَائِهِ وَيَمْنَعَهُنَّ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ السُّفُورِ وَالتَّبَرُّجِ.
وَلا عِبْرَةَ بِالأَجَانِبِ الذِينَ تَرَبُّوا عَلَى السُّفُورِ وَنَشَؤُا عَلَيهِ وَقَلَّدُوا فِيهِ أَعْدَاءَ الإِسْلامِ وَصَارُوا لا يُبَالُونَ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ تَرْكِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَحُضُورِ مُنْكَرَاتٍ وَرُكُوبِ النِّسَاءِ بِلا مَحْرَمٍ وَخَلْوَةٍ بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ الدَّبُورِ عَلَى أُنَاس ... أُتِيحَ لَهُمْ أَكَابِرَ مُعْتَدِينَا(6/332)
ذَوِي كِبْرٍ وَمَجْهَلَةٍ وَجُبْنٍ ... وَإِهْمَالٍ لِمَا يَتَوَقَّعُونَا
وَإِنْ يُرِدِ الإِلَهُ صَلاحَ قَوْمٍ ... أَتَاحَ لَهُمْ أَكَابِرَ مُصْلِحِينَا
ذَوِي رَأْيٍ وَمَعْرِفَةٍ وَفَهمٍ ... وَإِعْدَادٍ لِمَا قَدْ يَحْذُرُونَا
وَلِذَالِكَ تَجِدْ أَهْل نَجْدٍ الَّذِينَ تَرَبَّوا فِي مَقَرِّ الدَّعْوَةِ يَسْتَنْكِرُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ الإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَتَى مِنْ بِلادِ الْكُفَّارِ فَأَهْلُ نَجْدٍ إِذَا تَأَمَّلْتَ أَكْثَرَهُمْ وَجَدْتَ عِنْدَهُمْ مَحَبَّةً لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ قَالَ بَعْضُهُمْ:
(دِيَار نَجْدٍ هِيَ لِلدُّنْيَا وَسَاكِنُهَا ... هُمُ الأَنَامُ فَقَابِلْهَا بِتَفْضِيلِ)
(يَا مَنْ يُبَاهِي بِبُلْدَانٍ وَيَمْدَحُهَا ... نَجْدٌ مُقَدَّمَةٌ وَاسْمَعْ لِتَعْلِيلِ)
(لأَنَّ فِيهَا حُدُودِ الشَّرْعِ نَافِذَةٌ ... وَغَيْرُهَا فِي قَوَانِينٍ وَتَضْلِيلِ)
نَظْمٌ فِي الْحَثِّ عَلَى الأَخْذِ بِالْحَدِيثِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الآرَاءِ.
وَقَدِّمْ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ وَنَصَّهُ
عَلَى كُلِّ قَوْلٍ قَدْ أَتَى بِإِزَائِهِ
فَإِنْ جَاءَ رَأْيٌ لِلْحَدِيثِ مُعَارِضٌ
فَلِلرَّأْي فَاِطْرَح وَاِسْتَرِحْ مِنْ عَنَائِهِ
فَهَلْ مَعَ وُجُودِ الْبَحَرِ يَكْفِي تَيَمُّمٌ
لِمَنْ لَيْسَ مَعْذُوراً لَدَى فُقَهَائِهِ
وَهَلْ يُوقِدُ النَّاسُ الْمَصَابِيح لِلضِّيَا
إِذَا مَا أَتَى رَدْؤُ الضُّحَى بِضِيَائِهِ
سَلامِي عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ
مَصَابِيحُ عِلْمٍ بَلْ نُجُومُ سَمَائِهِ
بِهِمْ يَهْتَدِي مَنْ يَقْتَدِي بِعُلُومِهِمْ
وَيَرْقَى بِهِمْ ذُو الدَّاءِ عِلَّةَ دَائِهِ(6/333)
.. وَيَحْيَا بِهِمْ مَنْ مَاتَ بِالْجَهْلِ قَلبُهُ
فَهُمْ كَالْحَيَا تَحْيَ الْبِقَاعُ بِمَائِهِ
لَهُمْ حُلَلٌ قَدْ زَيَّنَتَهُمْ مِنَ الْهُدَى ٍ
إِذَا مَا تَرَدَّى ذُو الرَّدَا بِرِدَائِهِ
وَمَنْ يَكُنِ الْوَحْيُ الْمُطَهَّرُ عِلْمُهُ
فَلا رَيْبََ فِي تَوْفِيقِهِ وَاِهْتِدَائِهِ
وَمَا يَسْتَوِي تَالِي الْحَدِيثِ وَمَنْ تَلا
زَخَارِفَ مِنْ أَهْوَائِهِ وَهُذَائِهِ
وَكُنْ رَاغِباً فِي الْوَحْي لا عَنْهُ رَاغِباً
كَخَابِطِ لَيْلٍ تَائِهٍ فِي دُجَائِهِ
إِذَا شَامَ بَرْقاً فِي سَحَابٍ مَشَى بِهِ
وَإِلا بَقِي فِي شَكِّهِ وَاِمْتِرَائِهِ
وَمَنْ قَالَ ذَا حِلٌّ وَهَذَا مُحَرَّمٌ
بِغَيْرِ دَلِيْلٍ فَهْوَ مَحْضُ افْتِرَائِهِ
وَكُلُّ فَقِيهٍ فِي الْحَقِيقَةِ مُدَّعٍ
وَيَثْبُتُ بِالْوَحْيَيْنِ صِدْقُ ادِّعَائِهِ
هُمَا شَاهِدَا عَدْلٍ وَلَكِنْ كِلاهُمَا
لَدَى الْحُكْمِ قَاضٍ عَادِلٍ فِي قَضَائِهِ
فَوَاحَرَّ قَلْبِي مِنْ جَهُولٍ مُسَوَّدٍ
بهِ يُقْتَدَى فِي جَهْلِهِ لِشَقَائِهِ
إِذَا قُلْتُ قَوْلَ الْمُصْطَفَى هُوَ مَذْهَبِيْ(6/334)
.. مَتَى صَحَّ عِنْدِي لَمْ أَقُلْ بِسَوائِهِ
يَرَى أَنَّهَا دَعْوَى اجْتِهَادٍ صَحِيحَةٌ
فَوَا عَجَباً مِنْ جَهْلِهِ وَجَفَائِهِ
فَسَلْهُ أَقُولُ اللهِ مَاذَا أَجَبْتُمُ؟
لِمَنْ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ عِنْدَ نَدَائِهِ
أَيَسْأَلَهُمْ مَاذَا أَجَبْتُمْ مُلُوكَكُمْ
وَمَا عَظَّمَ الإِنْسَانُ مِنْ رُؤَسَائِهِ
أَمِ اللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ يَمْتَحِنُ الْوَرَى
بِمَاذَا أَجَابُوا الرُّسْلَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ
وَهَلْ يَسْأَلُ الإِنْسَانُ عَنِ غَيْرِ أَحْمَدٍ
إِذَا مَا ثَوَى فِي الرَّمْسِ تَحْتَ ثَرَائِهِ
وَهَلْ قَوْلُهُ يَا رَبُّ قَلَّدْتُ غَيْرَهُ
لَدَى اللهِ عُذْرٌ يَوْمَ فَصْلٍ قَضَائِهِ
اللَّهُمَّ قَنِعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَسهل عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِير وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبَّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجاً وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَضَلَّلتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عِمَارَةُ بنُ حَزْمٍ الأَنْصَارِي.(6/335)
وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ الْقَيْنُقَاعِي وَكَانَ مُنَافِقاً فَقَالَ زَيْدُ بن لُصَيْتُ وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وعمَارَةُ عِنْدَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ: «إِنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّ مُحَمَّداً يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يخْبِرُكمُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا أَعْلمِنِي اللهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْب كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا» .
فَذَهَبُوا فَجَاؤُا بِهَا وَقَدْ وَجَدَهَا الْحَارِثُ بنُ خزمَةَ الأَشْهَلِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ زَيْدٌ: لَكَأَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلا الْيَوْمَ فَقَدْ كُنْتُ شَاكاً فِي مُحَمَّدٍ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا فِيهِ ذُو بَصِيرَةٍ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ فَفِي هَذِهِ الْقِصَّة مُعْجِزَة وَاضِحَة.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِراً فَجَعَلَ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ فُلانٌ فَيَقُولُ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرِه فَقَالَ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» .
وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ بَعِيرُهُ - أَيْ انْقَطَعَ - أَخَذَ الْمَتَاعَ مِنْ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِياً وَنَزَلَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَازِلَهُ(6/336)
فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» . فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ - وَاللهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحَمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . وَقَدْ تَحَقَّقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا نَفَى أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبْذَةَ فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفَّنَانِي.
ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ مَرْكَبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا لَهُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ.
فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَهْطٌ مَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَمَّاراً فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا جَنَازَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الإِبْلُ تَطَؤُهَا وَقَامَ الْغُلامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ.
فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ.
ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَوَارَوهُ ثُمَّ حَدَّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ إِلى تَبُوكَ وَاسْمُ أَبِي ذَرٍّ (جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ) وَمَاتَ فِي سَنَة 32 هـ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ أَهَّلْتَهُم لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ فَاعِلِينَ لَهُ، وَنَاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمُجْتَنِبِينَ لَهُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ(6/337)
مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ وَفَاتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: مَا لِي لا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسِ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ كَفَناً وَلا يَدَانِ لِي فِي تَغْيِيبِكَ.
قَالَ: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلا وَقَدْ مَاتَ فِي قَرْيَةٍ وَجَمَاعَةٍ فَأَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ فَأَبْصِرِي الطَّرِيقَ فَقُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُ وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ.
فَقَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي قَالَتْ: فَكُنْتُ أَشْتَدُّ إِلى الْكَثِيبِ أَتَبَصَّرُ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَمَرِّضَهُ فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمْ الرَّخْمُ تَخِبُّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ قَالَتْ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيَّ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ.
فَقَالُوا: يَا أَمَةَ اللهِ مَا لَكِ؟ قُلْتُ: امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ. قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَفَدَّوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَر رَجُلٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي جَمَاعَةٍ.
وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَناً لِي أَوْ لامْرَأَتِي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثَوْبٍ هُوَ لِي أَوْ لَهَا وَإِنِّي أنْشُدُكُمْ اللهَ أَنْ لا(6/338)
يُكَفِّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ بَرِيداً أَوْ نَقِيباً وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتَىً مِنَ الأَنْصَارِ.
قَالَ: أَنَا أَكفِنُكَ يَا عَمَّ أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ فِي عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي قَالَ: فَأَنْتَ تُكَفِّينُنِي فَكَفَّنَهُ الأَنْصَارِيُّ وَقَامُوا عَلَيْهِ وَدَفَّنُوهُ فِي نَفَرٍ كُلُّهُمْ إِيمَان.
وَفِي هَذِهِ القصة أيضاً مُعْجِزَةٌ حيثُ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأَمَّلْ.
قال ابن إسحاق: ثم إن أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ - بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّاماً إِلى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشٍ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيَأتْ لَهُ فِيهِ طَعَاماً.
فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الضَّحِّ - لَهَبُ الشَّمْسِ وَحَرَارَتُهَا - وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلِّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأةٍ حَسْنَاء فِي مَآلِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ وَالْعَدْلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لا أَدخُلَ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهيئا لِي زَاداً فَفَعَلَتَا ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ - أَيْ أَحْضَرَ جَمَلَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ وَأَعَدَّهُ لِلسَّفَرِ -.
ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَكَانَ عِنْدَمَا أَقْبَلَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ(6/339)
هُوَ وَاللهِ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْراً وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ» . وَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ حَيْثَ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ.
وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ وَمِنْهُمْ مَخْشِيٌّ بنُ حِمْيَرَ قَالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً وَاللهِ لَكَأَنَّكُمْ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ إِرْجَافاً وَإِرْهَاباً لِلْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: مَخْشِيُ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ مِنَّا مَائِةَ جَلْدَةً وَأَنَّا نَنْقَلِبُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْانٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ وَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بن يَاسِرٍ: «أَدْرَكَ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارُ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ.
فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . فَقَالَ مَخْشِيُ بنُ حِمْيَرَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الذِي عَفَا عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيةِ وَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وسأل اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيداً لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ، فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةَ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً وَهِيَ إِخْبَارُهُ بِمَا قَالُوا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ:
وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ(6/340)
وَسَلَّمَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةَ.
قُلْتُ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا قَالَ «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى - عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِىَ النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتَّى آتِىَ» .
قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلاَنِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْْءٍ مِنْ مَائِهَا فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئاً» ؟ قَالاَ: نَعَمْ.
فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمََا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْْءٍ ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيْرٍ فاسْتَقَى النَّاسُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَاناٌ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَإِذَا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ وَالْبِجَادُ الْكِسَاءُ الأَسْوَدُ الْغَلِيظُ - الْمُزَنِيُّ قَدْ مَاتَ.
وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرِتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدْلِيَانِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكُمَا)) . فَدَلَيَّاهُ إِلَيْهِ(6/341)
فَلَمَّا هَيأَهُ لِشَقِّةِ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِياً عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ)) . قَالَ: يَقُول عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ.
وَلَمَّا وَصَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى تَبُوكَ وَصَارَ عَلَى حُدُودِ دَوْلَةِ الرُّومِ لَمْ يَجِدْ أَحَداً مِنْ الْعَدُوِّ وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ الرُّوم آثرُوا الإنْسِحَابَ إِلى دَاخِلِ بِلادِ الشَّامِ لِيَتَحَصَّنُوا بِحُصُونِهَا حِينَ بَلَغَهُمْ أَمْرَ هَذَا الْجَيْشِ وَقُوَّتَهُ.
وَأَيُّمَا كَانَ الْوَاقِعُ فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تَبُوكَ لَمْ يُجَاوِزْهَا وَبَعَثَ سَرَايَاهُ إِلى مَنْ حَوْلَ تَبُوكَ فَأَتَاهُ صَاحِبُ إيْلة فَصَالَحَهُ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ وَأَتَاهُ أَهْلَ جِرْبَاءَ وَأَذْرُحْ فَأَعْطُوهُ الْجِزْيَةَ وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُمْ.
وَكَتَبَ لِصَاحِبِ إِيلَةَ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا أَمَنَةٌ مِنْ اللهِ وَمُحَمَّدِ النَّبِي رَسُولِ اللهِ لِيُوحِنَةَ بن ذُؤْبَةَ وَأَهْل إِيلةَ لِسُفْنِهِمْ وَلِسَيَّارَاتِهِمْ وَلِبَحْرِهِمْ وَلِبَرِّهِمْ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِي وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ كُلِّ مَارٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ.
فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثاً فَإِنَّهُ لا يَحُولُ مَالُهُ دُون نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِن النَّاسِ وَإِنَّهُ لا يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَردُونَهُ وَلا طَرِيقاً يَرِدُونَهَا مِنْ بَرٍ وَبَحْرٍ هَذَا كِتَابُ جُهَيْمٍ بن الصَّلْتِ. أ.هـ.
اللَّهُمَّ قَوِّ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا.
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الأَبْرَارِ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارَ وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ وَالْعِتْقِ مِن النَّارِ وَاحْفَظْنَا مِنْ الْمَعَاصِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ الأَعْمَارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ(6/342)
بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَجَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً. فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ.
وَجَاءَه كَعْبُ بنُ مَالِكٍ فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ له: «تَعَالَ» . قَالَ: فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِيْ: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» . فَقُلْتُ: بَلَى وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنْي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّى لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ. وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ، إِنِّى لأَرْجُو عَفْوَ اللهِ لاَ وَاللهِ مَا كَانَ لِى مِنْ عُذْرٌ وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللهُ فِيكَ» . فَقُمْتُ. وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ، فاتَّبَعُوْنِيْ يُؤنِبُوْنَنِيْ، فَقَالُوا لِيْ: وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا ولقدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافَِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ.(6/343)
قَالَ: فَوَاللهِ، مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِى حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِىَ هَذَا مَعِى أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ الذِيْ قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِىُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيْ، فَذَكَرُوا لِى رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ شَهِدَا بَدْراً فِيهِمَا أُسْوَةٌ. فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ - مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ. فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِى نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا، وَقَعَدَا فِى بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ وأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَيُكَلِّمُنِى أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسَلِّمُ عَلَيْه، وَهُوَ فِى مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَىَّ أَمْ لاَ.
ثُمَّ أُصَلِّى قَريْباً مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ. فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَىَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ: مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ.
فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ، فَنَشَدْتُهُ، فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ.(6/344)
فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَاىَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ.
فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيُّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِيكَ.
فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضاً مِنَ الْبَلاَءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيْنِيْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقْهَا؟ أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ بِهَا؟ قَالَ: لاَ ولكِنْ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبَنَّهَا.
وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِى بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ هَذَا الأَمْرَ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ . قَالَ: «لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ» . قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنذْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِه هَذَا.
قَالَ كَعْبُ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لإمْرَأةِ ِهِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أنْ تَخْدُمُهُ؟ فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ لِي رَسُولُ اللَّهِ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ(6/345)
قَالَ: فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ كَلاَمِنَا. فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَاَلَى، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بأعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ.
فَخَرَرْتُ سَاجِداً، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجُ مِنْ الله وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ. فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونِنا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَساً وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ إِلَىَّ مِنَ الْفَرَسِ.
فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعَتُ لَهُ ثَوَبِيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُما بِبُشْرَاهُ، وَوَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا. وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا.
فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبُ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فإذا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ،حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
فلمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» . قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا(6/346)
رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكَنَّا نَعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ.
فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَقالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَر َ. وقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ.
فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابْتَلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنذْ ذَكَرَتُ ذَلِكَ لرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هذَا ِمَّا ابْلاَنِي. والله مَا تَعَمَّدْتُ بعد ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِباً وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (19: 117 - 119) {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} إلى قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} .
فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ نِعْمَةٍ قط بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلإِسْلاَمِ - أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ نَزَلَ الْوَحْي شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ قَالَ: (9: 95، 96) {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ إلى قوله – فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى(6/347)
اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خَلَّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدِ الدَّارِمِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيّ بن أَبِي طَلْحَة عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ (9: 102) : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} قَالَ: (كَانُوا عَشْرَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُ رَسُولِ اللهِ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ. وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: «مَنْ هَؤُلاءِ الْمُوثِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي» ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو لُبَابَة وَأَصْحَابٌ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ لا يَطْلِقُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى يُطْلِقَهُمُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْذُرَهُمْ.
فَقَالَ: «وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللهِ لا أُطْلِقُهُمْ وَلا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الذِي يُطْلِقُهُمْ رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنْ الْغَزْو مَعَ الْمُسْلِمِينَ» . فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاللهِ لا نَطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الذِي يُطَلِّقُنَا فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَعَسَى مِن اللهِ وَاجِبٌ {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُمْ، وَعَذَرَهُمْ فَجَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا(6/348)
عَنَّا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، قَالَ: «مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ» . فَأَنْزَلَ اللهُ (9: 103) : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} فَأَخَذَ مِنْهُمْ الصَّدَقَةَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ.
وَكَانَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ لَمْ يُوثِقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي فَأَرْجِئُوا لا يَدْرُون أيعذبُون أَم يتاب عليهم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} إِلى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} إِلى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَداً وَلا تُشَمِّتْ بِنَا أَحَداً وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قصَّة هرقل مَلِك الرُّوم حينَما جَاءَه
كتاب رسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما:
أنَّ أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه قال: انطلقت في المدّة التي كانت بيني وبين رسول الله قال: فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتابٍ من رسول الله إلى هرقل، يعني عظيم الرُّوم قال: وكان دِحيةُ الكلبيّ جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل.
فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟
قالوا: نعم.
قال: فدُعيت في نفرٍ من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه.
فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ؟
فقال أبو سفيان: فقلت: أنا.(6/349)
فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه.
فقال له: قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه.
قال: فقال أبو سفيان: وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟
قال: قلت: هو فينا ذو حسب.
قال: فهل كان من آبائه ملك؟
قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قلت: لا.
قال: ومن يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟
قال: قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قال: قلت: لا بل يزيدون.
قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟
قال: قلت: لا.
قال: فهل قاتلتموه؟
قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً، يصيب منا ونصيب منه.
قال: فهل يغدِر؟
قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه.(6/350)
قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟
قلت: لا.
قال لترجمانه: قل له: إنِّي سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبْعَثُ في أحساب قومها.
وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت: أن لا، فقلت: لو كان من آبائِهِ ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه.
وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا. فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله.
وسألتك: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له فزعمن أن لا وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب.
وسألتك هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تُبتلى ثُمّ تكون لهم العاقبة.
وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنّه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتمَّ بقولٍ قيل قبله.(6/351)
قال: ثُمَّ قال: بمِ يأمركم؟
قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
قال: إن يكن ما تقول فيه حقّاً فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم ولو أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولَيَبْلُغَنَّ ملكُه ما تحت قدميّ.
قال: ثُمَّ دعا بكتاب رسول الله ? فقرأه فإذا فيه:
((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أَمَّا بعد فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تَسْلَم وأسلم يؤتِك الله أجرك مرّتين وإن تولَّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} )) .
فلمَّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأُخرجنا.
قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة إنَّه ليخافه ملك بني الأصفر! .
قال: فما زلت موقناً بأمر رسول الله أنَّه سيظهر حتى أدخل عليّ الإسلام.
شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِمَا يُفِيدُكَ فِي الْمَعَادِ ... وَمَا تَنْجُو بِهِ يَوْمَ التَّنَادِ
فَمَالَكَ لَيْسَ يَنْفَعُ فِيكَ وَعْظٌ ... وَلا زَجْرٌ كَأَنَّكَ مِنْ جَمَادِ
سَتَنْدَمُ إِنْ رَحَلْتَ بَغِيْرِ زَادٍ ... وَتَشْقَى إِذْ يُنَادِيكَ الْمُنَادِي
فَلا تَفْرَح بِمَالٍ تَفْتَنِيهِ ... فَإِنَّكَ فِيهِ مَعْكُوسُ الْمُرَادِ
وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْتَ حَيٌّ ... وَكُنْ مُتَنَبِّهاً مِنْ ذَا الرُّقَادِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُؤةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتِنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينَنَا(6/352)
وَدُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوَعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا وَمِنْ فَوْقِنَا وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّة الْغُلام الْمُؤْمِن وَالْمَلِك
(أصحاب الأخدود)
عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ:
«كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَماً يُعَلِّمُهُ وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ.
فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ.
فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟
فَأَخَذَ حَجَراً فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ.
فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ.
وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ، وَالأَبْرَصَ، وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ.(6/353)
فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي.
فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَداً إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ تَعالى فَإِنْ آمَنْتَ بِاللَّهِ تَعالى دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ.
فَآمَنَ بِاللَّهِ تعالى فَشَفَاهُ اللَّهُ تعَالى فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟
قَالَ: رَبِّي.
قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟
قَالَ: رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ.
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ، وَالأَبْرَصَ، وَمَا تَفْعَلُ وَتَفْعَلُ!
فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَداً إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ تَعَالى.
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى.
فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ.
فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى.
فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ.
فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى.(6/354)
فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟
قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالى.
فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ وَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟
قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالى.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ.
قَالَ: مَا هُوَ؟
قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ:
بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي.
فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ:
بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فَمَاتَ.(6/355)
فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.
فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ.
فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ بأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَقحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا.
فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ: يَا أُمَّه اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» . (رواه مسلم) .
قِصَّةِ الثَّلاثَةِ أَصْحَاب الْغَار
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بن الْخَطَّاب رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ تَعَالى بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ:
اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ الشَّجَرِ يَوْماً، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ - وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ - أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ والصِّبِيَّةِ يَتَضاغَون عِنْدَ قَدَمِي، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئاً لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ» .
قَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ. (وفي(6/356)
رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، وفي رواية: (فلما قعدت بين رجليها) قَالَتْ: اتق الله ولا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ.
فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي!
فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ.
فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئاً.
اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» . (متفق عليه) .
قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله
عَنَّ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ? يَقُولُ:
«إِنَّ ثَلاَثَةً من بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، أراد الِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتَى الأَبْرَصَ.
فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، ويذهب عنّي قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ.(6/357)
فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، أُعْطِىَ لَوْناً حَسَناً.
فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الإِبِلُ - أَوْ قَالَ الْبَقَرُ -.
فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ.
فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
وَفأَتَى الأَقْرَعَ:
فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا، الذي قَذِرَنِى النَّاسُ.
فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عنه، وَأُعْطِىَ شَعَراً حَسَناً.
قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الْبَقَرُ.
فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً.
قَالَ: بَارَكُ الله لَكَ فِيهَا.
فأَتَى الأَعْمَى
فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ بَصَرِى، فَأُبْصِرُ النَّاسَ.
فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.
قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الْغَنَمُ.
فَأَعْطَيُ شَاةً وَالِداً.
فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.(6/358)
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قد تَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ لي إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيراً أَتَبَلَّغُ فِي سَفَرِي.
فَقَالَ: كَأَنِّى أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ !
فَقَالَ إنَّما وَرِثْتُ هذا المال كَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ.
فقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ.
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، اَتَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ لي الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي؟
فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، ودع مَا شِئْتَ فَوَ اللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عز وجل.
فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِي اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» متفق عليه.
قِيلَ إِنَّ مَلِكاً مِن الْمُلُوكِ كَانَ كَافِراً عَاتِياً مُتَكَبِّراً مُعْجَباً بِنَفْسِهِ حَدِيث السِّنِ مُسْتَحْكِمَ الْغَيْرَةِ وَكَانَ إِذَا رَكَبَ لَمْ يَرْفَعَ أَحَدُ صَوْتَهُ إِلا بِمَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
وَكَانَ لَهُ وَزِيرٌ مُؤْمِنُ بِاللهِ جَلَّ وَعَلا قَدْ أَدْرَكَ حَوَارِيَّ الْمَسِيح وَهُوَ يَكْتُم إِيمَانَهُ وَيَتَحَيّنُ وَقْتاً يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَلِكِ إِلى اللهِ جَلَّ وَعَلا.(6/359)
فَرَكَبَ الْمَلِكُ يَوْماً فَسَمِعَ شَيْخاً) أَيْ قَدْ شَابَ رَافِعاً صَوْتَهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ لِبَعْضِ أَعْوَانِهِ: خُذُوهُ فَلَمَّا أَخَذُ ذَلِكَ الشَّائِب الذي رَفَعَ صَوْتَهُ قَالَ: إِنَّ رَبِّي الله.
فَقَالَ الْوَزِيرُ خَلُّوا عَنْهُ فَخُلِّيَ عَنْهُ فَغَضِبَ الْمَلِكُ عَلَى الْوَزِير وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكَنُه الإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَسَكَتَ الْمَلِكُ لِيُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ فِعْلَ الْوَزِيرَ كَانَ بَأَمْرِهِ.
فَلَمَّا عَادَ الْمَلِكُ إِلى قَصْرِهِ أَحْضَرَ الْوَزِيرَ وَقَالَ لَهُ: مَا الذِي دَعَاكَ إِلى مُنَاقَضَةِ أَمْرِي بِمَشْهَدٍ مِنْ عَبِيدِي.
فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنْ لمِ يَعْجَل الْمَلكُ عَلَيَّ أَرَيْتُهُ وَجْهَ نُصْحِي لَهُ وَشَفَقَتِي عَلَيْهِ فِيمَا أَتَيْتُهُ فَقَالَ الْمَلِكُ: أَرِنِي ذَلِكَ فَإِنِّي لا أَعْجَلُ عَلَيْكَ.
فَقَالَ الْوَزِيرُ أَسْاَلُ الْمَلكَ أَنْ يَخْتَبِئ فِي مَجْلِسه هَذَا خَلْفَ حِجَاب بِحَيْثُ أَنَّهُ لا يَرَى وَيَسْمَع مَا يَكُونُ مِنِّي فَقَعَدَ الْمَلِكُ لِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْضَرَ قَوْساً جَيِّدَةً صَنَعَهَا لِلْمَلِكِ بَعْضُ خَدَمِِهِ وَكَتَبَ الصَّانِعُ اسْمَهُ عَلَيْهَا فَأَعْطَى الْقُوسَ غُلاماً لَهُ.
وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأَحْضِرُ صَانِعَ هَذِهِ الْقَوْسِ فَإِذَا حَضَرَ وَحَادَثْتُهُ فَاقْرَأ أَنْتَ اسْمَ صَاحِبِهَا جَهْراً حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَكَ ثُمَّ اكْسُرْهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْكَ.
فَحَضَّرَ الْقَوْسَ وَفَعَلَ الْغُلامُ مَا أُمَرَهُ بِهِ الْوَزِيرُ فَلَمَّا كَسَرَ الْقَوْسَ لَمْ يَتَمَالَكْ صَانِعُ الْقَوْسِ أَنْ ضَرَبَ الْغُلامَ فَشَجَّهُ.
فَقَالَ الْوَزِيرُ أَتَضْرِبُ غُلامِي بِحَضْرَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ لأَنَّهُ كَسَرَ الْقَوْسَ الَّتِي هِيَ صَنْعَتِي وَعَمَلِي وَهِيَ فِي نِهَايَةِ الْجَوْدَة وَالْحُسْنِ فَلأَيّ شَيْءٍ كَسَرَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا صَنْعَتِي.(6/360)
فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: فَلَعَلَّهُ مَا يَعْلَمْ أَنَّها صَنْعَتَكَ؟ قَالَ: بَلَى إِنَّ الْقَوْسَ قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّهَا صَنْعَتِي.
قَالَ الْوَزِيرُ: أَرَأَيْتَ قَوْساً تُخْبِرُ قَالَ: نَعَمْ إِنَّ اسْمِي مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا وَقَدْ قَرَأَهُ وَأَنَا أَسْمَعُ ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ صَرَفَ الصَّانِعَ وَالْغُلام.
ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: قَدْ أَوْضَحْتُ نُصْحِي وَإِشْفَاقِي عَلَيْكَ وَذَلِكَ أَنَّكَ لَمَّا رَأَيْتَ الْبَطْشَ بالشَّيْخِ أَخْبَركَ أَنَّ الله رَبَّهُ فَخِفْتُ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّهَ أَنْ يَغْضَبَ لَهُ كَمَا غَضِبَ هَذَا الْقَوَّاسُ لِقَوْسِهِ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَهَلْ لِلشَّيْخ رَبٌّ غَيْرِي.
قَالَ الْوَزِيرُ: أَلَمْ يَرَهْ الْمَلِكُ شَيْخاً وَالْمَلِكُ شَابٌّ فَهَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُولَد الْمَلَكُ لا رَبَّ؟ فَقَالَ الْمَلِكُ إِنَّ أَبِي كَانَ رَبَّهُ.
قَالَ الْوَزِيرُ: فَمَا بَالُ الرَّبِّ هَلَكَ وَالْمَرْبُوبُ بَقِيَ فَسَكَتَ الْمَلِكُ سَاعَةً ثُمَّ قَالََ: الآنَ عَلِمْتُ أَنَّ لِلْمَلِكِ وَالْمَمْلُوكِ رَبّاً لا يَزُولُ فَهَلْ تَعْرِفُهُ؟
قَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ. قَالَ: صِفْهُ لِي وَدُلَّنِي عَلَيْهِ فَشَرَعَ الْوَزِيرُ يَشْرَحُ لَهُ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَأَوْضَحَ لَهُ الدَّلالَةَ عَلَى ذَلِكَ فَانْشَرَحَ صَدْرُ الْمَلِكِ للإِيمَانِ فَآمَنَ بِاللهِ تَعَالى.
فَلَمَّا رَسَخَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ قَالَ: أَمَّا لِرَبِّنَا خَدْمَةُ نَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهَا؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ غَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: فَهَلْ أَمَرَنَا بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْنَاهُ حُظِينَا عِنْدَهُ؟
قَالَ: بَلَى إِنَّ لَهُ عَلَيْنَا وَضَائِفَ أَمَرَنَا بِهَا وَرَضِيَ لَنَا فِعْلَهَا وَوَعَدَنَا رِضْوَانَهُ وَالْقُرْبَ مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَذَكَرَ لَهُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشَّرَائِعَ فَعَرَفَهَا الْمَلِكُ وَرَاضَ نَفْسَهُ بِهَا حَتَّى رَسَخَ فِي عِلْمِهَا وَتَمَرَّنَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا.
ثُمَّ قَالَ يَوْماً لِلْوَزِير: مَالَكَ لا تَدْعُوا النَّاس إلى الله تعالى كَمَا دَعَوْتَنِي؟ فَقَالَ: لأَنَّ الأَمَّةَ ذَاتَ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ وَفِهُومٍ قَصِيَّةٍ وَنُفُوسٍ عَصِيَّةٍ وَلَسْتَ آمَنُهُم عَلَى نَفْسِي.(6/361)
فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أَفْعَلُه إِنْ تَفْعَلْهُ أَنْتَ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ تَرُدَّهُمْ هَيْبَتُهُ عَنِّي لَمْ تَرُدَّهُمْ عَنْهُ وَسَأقِيهِ بِنَفْسِي أَيِساً مِنَ النَّجَاةِ فَلْيَجْذَرهم الْمَلِكُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ اجْتَرَؤُا بِالْقَتْلِ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْضَرَ وَجُوهَ أَهْلِ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ وَوُلاة أَحْكَام رَعَايَاهُ وَأَفَاضِلَهَا فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِهِ قَامَ فِيهِمْ خَطِيباً ثُمَّ بِالدَّعْوَةِ إِلى التَّوْحِيدِ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوه.
ثُمَّ أَتوا إِلى الْمَلِكِ فَأَخْبَرُوه بِمَا كَانَ مِنْ وَزِيرِهِ فَأَظْهَرَ لَهُمْ الرِّضَا بِقَتْلِهِ فَانْقَلَبُوا عَنْهُ رَاضِينَ ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ ضَاقَ صَدْرُهُ عَلَى وَزِيرِهِ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ لبِسَ مُسْحَ الشَّعَر وَالتَحَقَ بالرُّهْبَانِ وَنَبَذَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلِكِ وَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدِ الله حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ.
مَوْعِظَةِ: إِخْوَانِي أُبْسطُوا الأَيْدِيَ إِلى الْمَوْلَى الْكَرِيم بِالذُّلَلِ وَالضَّرَاعَةَ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ بِالذُّلِ وَالانْكِسَارِ فِي هَذِهِ السَّاعَة وَنَادُوا اللَّطِيف الْخَبِيرَ: يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُبَدِلَ مِنَّا الْفَسَادَ بِالصَّلاحِ، وَالْخُسْرَانَ بالأَرْبَاحِ وَأَنْ تُعَامِلَنَا بِالْعَفْوِ وَالسَّمَاحِ يَا مَنْ مَثْلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحْ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَرْحَمَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وقال بعضهم:
وَمَالِي وَلِلدُّنْيَا وَلَيْسَتْ بِبُغْيَتِي
وَلا مُنْتَهَى قَصْدِي وَلَسْتُ أَنَالَهَا
وَلَسْتُ بِمَيَّالٍ إِلَيْهَا وَلا إِلى
رِيَاسَتِهَا تَباً وَقُبْحاً لِحَالِهَا(6/362)
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْعَنَا
سَرِيعٌ تَقْضِيهَا وَشِيكٌ زَوَالُهَا
مَيَاسِرُهَا عُسْرٌ وَحُزْنٌ سُرُورُهَا
وَأَرْبَاحُهَا خُسْرٌ وَنَقْصٌ كَمَالُهَا
إِذَا أَضْحَكَتْ أَبْكَتْ وَإِنْ رَامَ وَصْلَهَا
غَبِيٌ فَيَا سِرْعَ انْقِطَاع وِصَالِهَا
فَأَسْئَلُ رَبِّي أَنْ يَحُولَ بِحَوْلِهِ
وَقُوَّتِهِ بَيْنَ وَبَيْنَ اغْتِيَالِهَا
فَيَا طَالِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ جَاهِداً
أَلا أَطْلُبْ سِوَاهَا إِنَّهَا لا وَفَالَهَا
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ حَرِيصٍ وَمُشْفِقٍ
عَلَيْهَا فَلَمْ يَظْفُر بِهَا أَنْ يَنَالَهَا
لَقَدْ جَاءَ فِي آيِ الْحَدِيدِ وَيُونُسٍ
وَفِي الْكَهْفِ إِيضَاحٌ بِضَرْبِ مِثَالِهَا
وَفِي آلِ عمْرَانَ وَسُورَةِ فَاطِرٍ
وَفِي غَافِرٍ قَدْ جَاءَ تِبْيَانُ حَالِهَا
وَفِي سُورَةِ الأَحْقَافِ أَعْظَمُ وَاعِظٍ
وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ مَوْجِبٍ لإِعْتِزَالِهَا
لَقَدْ نَظَرَ أَقْوَامٌ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ
إِلَيْهَا فَلَمْ تَغْرُرْ همُوا بِاخْتِيَالِهَا
أُولَئِكَ أَهْلُ اللهِ حَقّاً وَحِزْبُهُ(6/363)
.. لَهُمْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ إِرْثاً فِيَا لَهَا
وَمَالَ إِلَيْهَا آخَرُونَ بِجَهْلِهِمْ
فَلَمَّا اطْمَأَنُوا أَرْشَقَتْهُمْ نِبَالَهَا
أُولَئِكَ قَوْمٌ آثَرُوهَا فَأَعْقِبُوا
بِهَا الْخِزْيَ فِي الأخْرَى فَذَاقُوا وَبَالَهَا
فَقُلْ لِلذِينَ اسْتَعْذَبُوهَا رُوَيْدَكُمْ
سَيَنْقَلِبُ السُّمُ النَّقِيعُ زِلالَهَا
لِيَلْهُوا وَيَغْتَرُّوا بِهَا مَا بَدَا لَهُمْ
مَتَى تَبْلُغُ الْحُلْقُومَ تَصْرِمْ حِبَالِهَا
وَيَوْمَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ بِكَسْبِهَا
تَوَدُّ فِدَاءُ لَوْ بَنِيهَا وَمَالَهَا
وَتَأْخُذُ إِمَّا بِالْيَمِينِ كِتَابِهَا
إِذَا أَحْسَنَتْ أَوْ ضِدَّ ذَا بِشِمَالِهَا
وَيَبْدُو لَدَيْهَا مَا أَسَرَّتْ وَأَعْلَنَتْ
وَمَا قَدَّمَتْ مِنْ قَوْلِهَا وَفِعَالِهَا
بَأَيْدِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مُسَطَّرٌ
فَلَمْ يُغَنْ عَنْهَا عُذْرَةٌ وَجِدَالُهَا
هُنَاكِ َتَدْرِي رِبْحَهَا وَخَسَارَهَا
وَإِذْ ذاَكَ تَلْقَى مَا عَلَيْهَا وَمَالَهَا
فَإِنْ تَكُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتُّقَى
فَإِنَّ لَهَا الْحُسْنَى بِحُسْنِ فِعَالِهَا(6/364)
.. تَفُوُز بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورِهَا
وَتُحْبَرُ فِي رَوْضَاتِهَا وَظِلالِهَا
وَتُرْزَقُ مِمَّا يَشْتَهِي مِنْ نَعِيمِهَا
وَتَشْرَبُ مِنْ تَسْنِيمِهَا وَزِلالِهَا
فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَ الْمَزِيدِ لَمَوْعِداً
زِيَارَةُ زُلْفَى غَيْرُهُمْ لا يَنَالَهَا
وَجُوهٌ إِلى وَجْهِ الإِلَهِ نَوَاظِرٌ
لَقَدْ طَالَ بِالدَّمْعِ الْغَزِيرِ ابْتِلالُهَا
تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّ رَحِيمٌ مُسْلِماً
فَيَزْدَادُ مِنْ ذَاكَ التَّجَلِي جَمَالُهَا
بِمَقْعَدِ صِدْقٍ حَبْذَا الْجَارُ رَبُّهُمْ
وَدَارُ خُلُود لَمْ يَخَافُوا زَوَالَهَا
فَوَاكِهُهَا مِمَّا تَلَذُّ عُيوَنُهمْ
وَتَطَّرُد الأَنْهَارُ بَيْنَ خِلالِهَا
عَلَى سُرِرٍ مَوْضُونَةً ثُمَّ فُرْشُهُمْ
كَمَا قَالَ فِيهَا رَبُّنَا وَاصِفاً لَهَا
بَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ كَيْفَ ظَنُّكُمْ
ظَوَاهِرَهَا لا مُنْتَهَى لِجَمَالِهَا
وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَوَيْلٌ وَحَسْرَةٌ
وَنَارُ جَحِيمٍ مَا أَشَدَّ نَكَالِهَا
لَهُمْ تَحْتَهُمْ مِنْهَا مِهَادٌ وَفَوْقَهُمْ(6/365)
.. غَوَاشِي وَمِنْ يَحْمُومِ سَاءَ ظِلالُهَا
طَعَامُهُمُ الْغِسْلِينُ فِيهَا وَإِنْ سُقُوا
حَمِيماً بِهِ الأَمْعَاءُ كَانَ انْحِلالُهَا
أَمَانِيهُمُوا فِيهَا الْخُرُوجُ وَمَالَهُمْ
خُرُوجٌ وَلا مَوْتٌ كَمَا لا فَنَى لَهَا
مَحَلَّيْنِ قُلْ لِلنَّفْسِ لَيْسَ سِوَاهُمَا
لِتَكْتَسِبَنْ أَوْ تَكْتَسِبْ مَا بَدَا لَهَا
فَطُوبَى لِنَفْسٍ جَوَّزَتْ فَتَخَفَّفَتْ
فَتَنْبَحُوا كَفَافاً لا عَلَيْهَا وَلا لَهَا
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جُهْدِ الْبَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ اللَّهُمَّ حَبِبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَارْزُقْنَا الاسْتَقَامَةِ طَوْعَ أَمْرِكَ وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِعَافِيَتِكَ وَجَزِيلِ عَفْوِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي نَصَرَهُ اللهُ
عِبَادَ اللهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} أَكْمَلَ الدِّينَ، بِالنَّصْرِ، وَالإِظْهَارِ عَلَى الأَدْيَانِ كُلِّهَا، فَنَصَرَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ، وَخَذَلَ أَهْلَ الشِّرْكِ انْخِذَالاً عَظِيماً، بَعْدَ مَا كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى صَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، طَامِعِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا عِزَّ الإِسْلامِ وَانْتِصَارِهِ يَئِسُوا كُلَّ الْيَأْسِ(6/366)
مِن الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَرْجِعُوا إِلى دِينِهِمْ، وَصَارُوا يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَخْشَوْن: وَأَتَمَّ جَلَّ وَعَلا عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَتَه بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْعزِ ِّواَلتَّأَيِيدِ، وَرَضِيَ الإسْلامَ لَنَا دِيناً، أخْتَارَهُ لَنَا مِنْ بَيْنِ الأَدْيَانِ، فَهُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللهِ لا غَيْر، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} عِبَادَ اللهِ نَظَرَ أَصْحَابُ الأَفْكَارِ الْبَرِيئَةِ السَّلِيمَةِ فِي أَحْكَامِ الإِسْلام ِ، فَاعْتَنَقُوهُ، وَتَأَمَّلُوا فِي حُكْمِهِ الْجَلِيلَةِ فَأَحَبُّوهُ وَمَلَكَتْ قُُلُوبَهُم مَبَادِئُهُ الْحَكِيمَةُ فَعَظَّمُوه، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ سَلِيمَ الْعَقْلِ، نَيِّرَ الْبَصِيرَةِ، مُسْتَقِيمَ الْفِكْرِ، اشْتَدَّ تَعَلُقُه بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمِيلِ الْمَحَاسِن، وَجَلِيلِ الْفَضَائِلِ، جَاءَ الدِّينُ الإِسْلامِيُ بِعَقَائِدِ التَّوْحِيدِ، الَّتِي يَرْتَاحُ لَهَا الْعَقْلُ السَّلِيمُ وَيُقرُهَا الطَّبْعُ الْمُسْتَقِيمُ، يَدْعُوا إِلى اعْتِقَادِ أَنَّ لِلْعَالَم إِلَهاً وَاحِداً لا شَرِيكَ لَهُ، أَوَّلاً لا ابْتِدَاءَ لَهُ، وَآخِراً لا انْتِهَاءَ لَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَةُ، وَالإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْعِلْمُ الْمُحِيطُ، يَلْزِمُ الْخَلْقَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالانْقِيَادُ، وَالْعَمَلَ عَلَى مَرْضَاتِهِ، بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ، عَلَى النَّظرِ وَالاسْتِدلالِ، لِتَصلَ بِالْبُرْهَان إلى مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، فَتَرَاهُ تَارَةً يَلْفِتُ نَظَرَكَ إِلى أَنَّهُ لا يُمْكنُ أَنْ توجِدَ نَفْسَكَ، وَلا أَن تُوجدَ مِنْ دُونِ مُوجِدٍ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أَمَّا كَوْنُ الإنْسَانِ مَوْجِداً لِنَفْسِهِ فَهَذَا أَمْرٌ مَا ادَّعَاهُ الْخَلْقُ، وَأَمَّا وُجُودُ الإِنْسَانِ هَكَذَا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ، فَأَمْرٌ يُنْكرُهُ مَنْطِقُ الْفِطْرَةِ ابْتِدَاءً وَلا يَحْتَاجُ إِلى جَدَلٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَانِ الْفَرْضَانِ بَاطِلِين، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى إِلا الْحَقِيقَةُ، الَّتِي يَقُولُهَا الْقُرْآنُ، وَهِيَ أَنَّ الْخَلْقَ خَلَقَهُ اللهُ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وَتَارَةً يَلْفُتُ النَّظَرَ إِلى(6/367)
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَهَلْ هُمْ خَلَقُوهَا، فَإِنَّها لَمْ تَخْلُقْ نَفْسَهَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَارَةً يَفْتَحُ أَمَامَ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ صَحِيفَةَ السَّمَاءِ وَمَا حَوَتْ مِن شَمْسٍ مُشْرِقَةٍ، وَقَمَرٍ مُنِيرٍ، وَنَجْمٍ مُضِيء فَيَقُولُ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} وَفِي الآيَةِ الأُخْرَى يَقُولُ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وَيَقُولُ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَيَقُولُ: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} وَيَقُولُ: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ} وَيَقُولُ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} وَمَرَّةً يَلْفُتُ النَّظَرَ إِلى الأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ أَشْجَارٍ مُتَنَوِّعَةٍ {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} فَتُشَاهِدُ شَجَرَ الْعِنَبِ بِجِوَارِ شَجَرِ الْحَنْظَلِ فِي قِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَعَلَ لَكُلِّ شَجَرِةٍ جُذُوراً، تَمْتَصُّ بِهَا مِنْ الأَرْضِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْغِذَاء الذِي بِهِ قِوَامُهَا وَحَيَاتُهَا وَتَنْفَتِحُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْ ثَمَرَةٍ تُخَالِفَ الأُخْرَى فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الأَشْجَارِ الْمُتَجَاوِرَةِ الَّتِي أَرْضُهَا وَاحِدَةٌ وَمَاؤُهَا وَاحِدٌ، أَلا يَدُلُّ هَذَا عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةِ) وَمَرَّةً يَلْفِتُ النَّظَرَ إِلى مَا يُنَزِّلُه مِنَ السَّمَاءِ، مِنَ الْمَاءِ الذِي بِهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ أَجَاجاً لا نَفْعَ فِيهِ، وَمَرَّةً يَتَحَدَّثُ عَنْ وَحْدَانِيَتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}(6/368)
الآية وَفِي الآيةِ الأُخْرَى يَقُولُ فِي جَزَالَةِ لَفْظٍ وَفَخَامَةِ مَعْنَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَدِلَّةِ وَشَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يُهَذِّبُ النُّفُوسَ ويُصَفِيهَا وَيُنَظِّمُ الْعِلاقَاتِ ويُقَوِّيهَا وَيَجْمَعُ الْقُلُوب ويُزكِّيهَا وَهَذا الذِي جَاءَ بِه الإِسْلام اتَّقَقَتْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ كُلُّ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} .
اللَّهُمَّ نَوَّر قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وأعِذْنا مِن شَرِ نُفُوسِنَا والشيطان وَوَفَّقْنَا لِطَاعَتِك اللهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبادِكَ الْمُفِلحينَ واحْشَرْنَا مَعَ الذينَ أنْعَمْتَ عليهم مِن النَّبِيين والصَّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : فَقَدِ اعْتَرَفَ الْمُحَقِّقُونَ الْمُنْصِِفُونَ: أَنْ كُلَّ عِلْمٍ نَافِعٍ دِينِي أَوْ دُنْيَوِي أو سِيَاسِي قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلالةً لا شَكَ فيها فَلَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الإِسْلام ما تُحِيلهُ العقُولُ وإنما فيه ما تشهدُ العُقولُ السَّلِيمَةُ الزَّكِيَّةُ بصِدْقِهِ وَنَفْعِهِ وَصَلاحِهِ وَكَذَلِكَ أَوَامِرُهُ كَلُّهَا عَدْلٌ، لا حَيْفَ فِيهَا وَلا ظُلْمَ فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلا وَهُوَ خَيْرٌ خَالصٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَمَا نَهَى عَنْ شِيْءٍ إِلا وَهُو شِرٌ خَالِصٌ، أَوْ مَا تَزِيدُ مَفْسِدَتُهَ عَلى مَصْلَحَتِهِ، وَكُلَّمَا تَدَبَرَ الْعَاقلُ اللَّبِيبُ أَحكامَ الإِسْلامِ قَويَ إِيمَانُه وإخْلاصُهُ، وَعِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ مَا يَدْعُو إِليهِ هَذَا الدِّينُ الْقويمُ يَجِدُه يَدْعُو إِلى مَكَارِمِ الأخْلاقِ يَدْعُو إلى الصِّدْقِ والْعَفَافِ والْعَدْلِ، وَحِفْظِ(6/369)
الْعُهُودِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ، وَالإِحْسَانِ إِلى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِين، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، يَدْعُو إِلى تَحْصِيلِ التَّمَتُّعِ بِلَذَائِذِ الْحَيَاةِ فِي قَصْدٍ وَاعْتِدَالٍ يَدْعُو إِلى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالإِثْمِ وَالْعِدْوَانِ، لا يَأْمِرُ إِلا بِمَا يَعُودُ عَلَى الْعَالَم بِالسَّعَادَةِ وَالْفَلاحِ، وَلا يَنْهَى إِلا عَمَّا يَجْلِبُ الشَّقَاءِ وَالْمَضَرَّةِ لِلْعِبَادِ.
وَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَ شَرَائِع الإِسْلامِ الْكِبَارِ الَّتِي هِيَ إِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، فَعَنْدَمَا تتَأَمْلَ الَّصلاةَ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجِدْ فِيهَا الإِخْلاصَ للهِ، وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالأَدَبَ، وَالاحْتِرَامِ، وَالثَّنَاءَ، وَالدُّعَاءَ، وَالْخُضُوعَ لَهُ، وَمَظْهَرُ الإِجْلالِ مِنَ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدِيْ سِيِّدِهِ يَقِفُ الْمَرْءُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَبْتَدِئُ بِالاعْتِرَافِ للهِ بَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْء، وَأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لأَنْ يُعَظَّمَ وَيُجَلَّ وَيُقَدَّرْ (اللهُ أَكْبَرُ) ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَخُصُه بِالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْمَعُونَةِ ضَارِعاً إِلَيْهِ بَأَنْ يَهْدِيهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجَنَّبَهُ عَنْ طَرِيقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لانْحِرَافِهِمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا وَأَنْ يُبْعِدَه عَنْ طَرِيقِ الضَّالِينَ الْمُنْحَرِفِينَ الذِينَ عَبَدُوا أَهْوَاءَهُمْ وَشَيَاطِينَهُمْ.
وَعِنْدَئِذٍ تَمْتَلِئُ النَّفْسُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَهِيبَتِهِ وَجَلالِهِ فَيَخُر الْمَرْءُ سَاجِداً للهِ عَلَى أَشْرَفِ أَعْضَائِهِ، مُظْهِراً لِلذَّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلى مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَمَزَايَا الصَّلاةِ مِنْ نَاحِيةِ الدِّينِ خُضُوعٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَخُشُوعٌ وَاعْتِرَافٌ بِعَظَمَةِ الْقَاهِرِ الْقَادِرِ، وَمَتَى اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ ذَلِكَ. وَامْتَلأت النَّفْسُ مِنْ هَيْبَةِ اللهِ، كَفَّ عَنِ الْمُحَّرمَاتِ، وَلا عَجَبَ مِنْ(6/370)
ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ عَنِ الصَّلاةِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٌ لِلْعَبْدِ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} .
أَمَا عونُها على مصالِح دِينِهِ فَلأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَاوَمَ عَلَى الصَّلاةِ وَحَافَظَ عَلَيْهَا قَويَتْ رَغْبَتُه فِي الْخَيْرِ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الطَّاعَاتِ وَبَذْلُ الإِحْسَانِ بِطَمَأْنِينَةِ نَفْسَ، وَاحْتِسَابِ، وَرَجَاءٍ لِلثَّوَابِ، وَأَمَّا عَوْنُهَا عَلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تُهَوِّنُ الْمَشَاقَ وَتُسَلِّي عَن الْمَصَائِبِ وَاللهُ سُبْحَانه لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً فَيُجَازِيِهِ بِتَيْسِيرِ أُمُورِهِ وَيُبَارِكْ فِي مَالِهِ وَأَعْمَالِهِ.
وَفِي تَأْدِيتِهَا جَمَاعَةً يَحْصُلُ التَّعَارِفُ وَالتَّوَاصِلُ وَالتَّوَاددُ وَالتَّعَاطَفُ وَالتَّرَاحُمْ وَيَسُودُ الْوَقَارُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَعْلِيمُ فِعْلِيٌّ لِصِفَةِ الصَّلاةِ.
وَانْظرْ إِلى مَا أَوْجَبَهُ اللهَ مِن الزَّكَاةِ تَرَى مَحَاسِنَ جَمَّةً مِنْهَا إِصْلاحُ حَالِ الْفُقَرَاءِ وَسَدِّ حَاجَةِ الْمِسْكِين، وَقَضَاءِ دَيْنِ الْمَدِينِ، وَمِنْهَا التَّخَلُقُ بَأَخْلاقِ الْكِرَامِ، مِنَ السَّخَاءِ وَالجْوُد ِوَالْبُعْدِ عَنْ أَخْلاقِ اللِّئَامِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا بِبَذْلِ الْيَسِيرِ وَمِنْهَا حِفْظِ الْمَالِ مِنْ الْمُكَدِّرَاتِ وَالْمُنَغِصَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَمِنْهَا الاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَالْمَصَالِحِ الْكُلِّيَةِ الَّتِي لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْمُسْلِمُونَ وَمِنْهَا دَفْعُ صَوْلَةِ الْفُقَرَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهَا دَوَاءٌ لِلْمُجْتَمَعِ وَطِبٌ لِلنُّفُوسِ بِهَا يَطْهُرُ الْمَرْءُ مِنْ رَذِيلَةِ الشُّحِ قَالَ تَعَالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا الأَغْنِيَاءُ لانْقَطَعَ دَابِرُ الاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُتَطَرِفَةِ وَالشُّيُوعِيَّةِ الْمُسْرِفَةِ، وَمِنْهَا أَنَّها لَوْ أُدِيتَ تَمَاماً لَحَصَلَ بِذَلِكَ رَاحَةُ الْحُكَّامِ وَصَرْفُ مَجْهُودَاتِهِمْ إِلى مَا يَعُودُ عَلَى الأُمَم بِالْفَلاحِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ.(6/371)
قَصِيدَةٌ تَتَضَمَّنُ التَّضَرعَ للهِ جَلَّ وَعَلا:
يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً
أَرْزَاقَ مَنْ هُوَ صَامِتٌ أَوْ سَائِلُ
أَوْسَعْتَهُم جُوداً فِيَا مَنْ عِنْدَهُ
رِزْقُ الْجَمِيعِ سَحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ
يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ الْعَفْوِ
الْعَظِيمِ عَظِيمُ فَضْلِكَ وَابِلُ
يَا صَاحِبَ الإِحْسَانِ يَا مُرْخٍ لَنَا السِّتْرِ
الْجَمِيلَ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يَا عَالِمَ السِّر الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ
مِيعَادِ صِدْقٌ قَدْ حَكَاهُ الْفَاصِلُ
يَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَا صَادِقَ الْـ
وَعْدِ الْوَفِي قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ أَنْ
يَأْتِي الْمُشَبُّهُ ظَالِماً وَيُشَاكِلُ
جَلَّتْ فَضَائِلُكَ الْعِظَامُ فَلَمْ نَجِدْ
يُحْصى الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ
الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ
مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكاً فَفَضْلُكَ حَاصِلُ
يَعْصِيكَ جَمٌّ ثُمَّ تَصْفَحُ عَنْهُمْ
وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ(6/372)
.. رَبٌّ يُرَبِّي الْعَالَمِينَ بِبِرَّهِ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَيُوَاصِلُ
يُعْطِيهمُوا مَا أَمَّلُوا مِنْ جُودِهِ
وَنَوَالِهِ أَبَداً إِلَيْهِمْ وَاصِلُ
تَعصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِماً
نِعَماً وَعَنْ شُكْرٍ لَهَا أَنْتَ غَافِلُ
سَتَرَ الذُّنُوبَ وَزَادَ فِي بَذْلِ الْعَطَا
مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ
مُتَفَضِّلٌ أَبَداً وَأَنْتَ لِجُودِهِ
تَنْسَى وَتَغْفَلُ هَلْ تَعِي يَا غَافِلُ
يَدْنُوا وَتُبْعِدُ ثُمَّ أَنْتَ لِفَضْلِهِ
بِقَبَائِحِ الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ
وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ
طُرُقُ السَّلامَةِ بَلْ قَلاكَ النَّازِلُ
وَعَلِمْتَ أَنْ لا مَنْجِي ثُمَّ تَلاحَمَتْ
سُبُلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ
وَأَيِسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَالَهَا
طُرُقُ وَقَدْ عَظُمَ الْبَلا الْمُتَنَازِلُ
وَقَنِطْتَ مِنْ ضُعْفِ الْيَقِينِ وَلَمْ يَكُنْ
سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَنَاوِلُ
يَأْتِيكَ مِنْ الْطَافِهِ الْفَرَجُ الذِي(6/373)
.. فِيهِ نَجَاتُكَ لَيْسَ يَشْغَلُ شَاغِلُ
فِي لَحْظَةٍ يَأْتِيكَ لُطْفٌ فَارِجٌ
لَمْ تَحْتَسِبه وَأَنْتَ عَنْهُ غَافلُ
يَا مُوجِدَ الأَشْيَاءِ مَنْ أَلْقَى إِلى
أَحَدٍ سِوَاكَ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاقِلُ
يَا طَيِّبَ الأَسْمَاءِ مَنْ يَقْصُدْ إِلى
أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ
وَمَنِ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا
مِن غَيْرِكُمْ فَضْلاً فَذَاكَ الْمَائِلُ
وَمَنِ اسْتَظَلَّ بِغَيْرِ ظِلَّكَ رَاجِياً
أَحَداً سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ
وَمَن اسْتَعَاذَ إِذَا عَرَّتْهُ مُلِمَّةٌ
بِجَلالِكُمْ ذَا الرَّئْيُ رَائْيٌ بَاسِلُ
وَالرَّائْيُ فِي عَكْسِ الذِي حَبَّرْتُهُ
بِسِوَى جَنَابِكَ فَهُوَ رَائْيٌ مَائِلُ
عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ
عَمَلٌ يُرِدُّ عَلَى الذِي هُوَ عَامِلُ
لَوْ صَلَّى ذَاكَ وَصَامَ حَجَّ فَإِنَّ ذَا
عَمَلٌ وَإِنْ زَعُمَ الْمُرَائِيَ بَاطِلُ
وَإِذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ
حَسْبِي رِضَاكَ فَكُلُّ شَيْءٍ زَائِلُ(6/374)
.. أَنْتَ الْمُنَى وَرِضَاكَ سُؤْلِي فِي الدُّجَى
وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ
أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى
مَعْبُودِهِ يَا بِئْسَ مَا أَنَا فَاعِلُ
وَلَقَدْ أَتَى الْعَبْدُ الْمُسِيءُ مُيَمِّماً
مَوْلاهُ أَوْزَار الْكَبَائِرِ حَامِلُ
قَدْ أَثْقَلْت ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ
وَجْهِي الْمَعَاصِي ثُمَّ ذَا أَنَا سَائِلُ
مَا لِي سِوَاكَ وَلَسْتُ أَرْجُو غَافِراً
صُحُفَ الْعُيُوِب وَسِتْرُ عَفْوِكَ شَامِلُ
هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي
إِذْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ لَدَيَّ يُقَابِلُ
وَلَبِسْتُ ثَوْبَ الْخَوْفِ مِنْكَ مَعَ الرَّجَى
وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمْعٌ سَائِلُ
فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ
بَةَ مُقْلِعٍ فِيهَا الشُّرُوطُ كَوَامِلُ
وَارْزُقْهُ عِلْماً نَافِعاً وَارْزُقْهُ تَوْ
فِيقاً لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامِلُ
وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ
يَا مَنْ لَهُ اسْماً حِسَانُ فَوَاضِلُ
فَإِذَا فَعَلْتَ فَحُسْنُ ظَنِّي صَائِبٌ(6/375)
.. وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ وَاجْعَلْنَا لَكَ مِن الذَّاكِرِينَ وَاجْعَلْنَا مِنَ عِبَادِكَ الصَّابِرِينَ الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَهَّلْتُهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَوَفَّقْتُهُمْ لِمَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ الْعَفْوِ، يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ، يَا قَرِيبِ الرِّحْمَةِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، هَبْ لَنَا الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ وَيَا قَيُّومُ فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ، وَيَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَيَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، وَيَخْشَاكَ حَقَّ خَشْيَتِكَ. اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وَافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَة إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) وَتَأَمَّلَ الصِّيَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ يُبْعَثُ فِي الإِنْسَانِ فَضِيلَةَ الرَّحْمَةِ بِالْفُقَرَاءِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْبَائِسِينَ فَإِنْ الإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ تَذَكَّرَ الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الأَكْلِ يَعْرفُ فَضْلَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ فَيَشْكُرَهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الصِّيَامَ يَقُوِّيِ النَّفْسَ عَلَى الصَّبْرِ وَالْحُلُمِ، وَهُمَا تَجَنُّبُ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ الْغَضَبِ، لأَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْفِي الْجِسْمُ مِنْ الأَخْلاطِ الرَّدِيئَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مُهَذَّبٌ لِلنُّفُوسِ، وَمُصَفَى لِلأَرْوَاحِ، وَمُطَهِّر للأَجْسَام، فَلَهُ الأَثَرُ الْعَجِيبُ فِي حِفْظِ الْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَحِمَايَتِهَا مِمَّا يَضُرُّهَا ثُمَّ هُوَ عِبَادَةٌ وَامْتِثَالٌ لأَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الصَّوْمِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ فِي جَانِبِ رِضَى اللهِ، طَمَعاً في الثَّوَابِ، وَالزُّلْفي وَالأَجْرِ الْعَظِيمِ، إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ.
وَتَأَمَّلْ مَا فِي حَجِّ بَيْتِ اللهِ مِنْ الْمَحَاسِنِ، الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ مُجْمَعٌ لِسُرَاةِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مِنْ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَعْبُدُونَ إِلَهاً وَاحِداً! قُلُوبُهم مُتَّحِدَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ مُؤْتَلِفَة فِي الْحَجِّ، يَتَذَكَّرُ الْمُسْلِمُونَ الرَّابِطَةَ الدِّينِيَّةِ، وَقُوَّةَ الْوِحْدَةِ(6/376)
الإِسْلامِيَّةِ، وَفِي الْحَجِّ تَذَكُّرٌ لِحَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَقَامَاتِ الأَصْفِيَاءِ الْمُخْلَصِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} وَتَذْكِيرٌ بِحَالِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامهم، وَمَقَامَاتِه فِي الْحِجِّ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّذْكِيرَاتِ، فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِأَحْوَالِ عُظُمَاءِ الرُّسُلِ، إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَآثِرَهُمْ الْجَلِيلَةِ، وَتَعَبُّدَاتِهِمْ الْجَمِيلَةِ وَالْمُتَذَكِّرُ بِذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِالُّرُسِل، مُعَظِّمٌ لَهُمْ، مُتَأَثِّرٌ بِمَقَامَاتِهِمْ السَّامِيَةِ، مُقْتَدٍ بِهِمْ، وَبَآثَارِهِمْ الْحَمِيدَةِ، ذَاكِرٌ لِمَنَاقِبِهم وَفَضَائِلِهِمْ، فَيَزْدَادُ بِهِ الْعَبْدُ إِيمَاناً وَيَقِيناً.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَصْفِيَةُ النَّفْس، وَتَعْوِيدُهَا الْبَذْلَ وَالإِنْفَاقَ، وَتَحَمُّلَ الْمَشَاقِ، وَتَرْكَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلاءِ، وَمِنْهَا شُعُورُ الْمَرْءِ بِمُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ، فَلا مَلِكَ وَلا مَمْلُوكَ، وَلا غَنِيٌّ وَلا فَقِيرٌ، بَلْ الْكُلُّ هُنَاكَ سَوَاءٌ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ التَّنَقُل في الْبِلادِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَادَاتِ سُكَّانِهَا، وَزِيَارَةِ مَهْبَطِ الْوَحْي، وَالرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَذَكِّرُ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفِذُهُمْ الْبَصَرُ، وَذَلِكَ فِي الْمَحْشَرِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حُفَاةً عُرَاةً غُرّاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى فِرَاقِ الأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِذْ لا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، فَلَوْ فَارَقَهُمْ فَجْأَةً حَصَلَ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْفِرَاقِ، وَمِنْ مَحَاِسِن الْحَجِّ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَهُ يَتَزَوَّدُ لِسَفَرِهِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مُدَّةَ ذِهَابِهِ وَإِيَابِهِ، فَيَتَزَوَّدَ لِلْعُقْبَى، وَهِيَ السَّفَرَةُ الطَّوِيلَةُ، الَّتِي لا رُجُوعَ بَعْدَهَا، حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.
وَفِي سَفَرِ الْحِجِّ قَدْ يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَلا يَجِدُ فِي الْعُقْبَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ، إِلا إِذَا تَزَوَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ الإِنْسَانَ يَعْتَادُ التَّوَكُلَ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُه أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ لِلْحَجِّ، فَلابُدَّ مِنَ التَّوَكُلِ عَلَى اللهِ تَعَالى فِيمَا حَمَلَهُ، وَفِيمَا لَمْ يَحْمِلْهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَعْتَادُ تَوَكُّلَهُ إِلى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ نَزَعَ الْمَخِيطَ الذِي هُوَ لِبَاسُ الأَحْيَاءِ، وَيَلْبِسُ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَشْبَهُ بِلِبَاسِ الأَمْوَاتِ، فَيَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ فِي الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَهُ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي يَصْعُبُ حَصْرُهَا.(6/377)
اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانِ هَادِماً لِلسَّيِّئَاتِ، كَمَا جَعَلْتَ الْكُفْرَ هَادِماً لِلْحِسَابِ وَوَفِّقْنَا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتُهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتُهُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) ثُمَّ تَأَمَّلْ مَحَاسِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذْ فِيهِ قَمْعُ أَعْدَاءِ اللهِ، وَنَصْرُ أَوْلِيَائِهِ، وَإِعْلاءُ كَلَمَةِ الإِسْلامِ، وَحَمْلُ الْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الذِي هُوَ أَقْبَحُ الأَشْيَاءِ، وَالإِقْبَالُ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ الأَشْيَاءِ، وَفِيهِ إِخْرَاجُ الْبَشَرِ عَنْ دَرَجَةِ الأَنْعَامِ، قَالَ تَعَالى - فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وَمِنْ مَحَاسِنِهِ اكْتِسَابُ حَيَاةِ الأَبَدِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَتَلَ فَقَدْ أَعْلَى دِينَ اللهِ، وَإِنْ قُتِلَ فَقَدْ أَحْيَا نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .
وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِن الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَمِنْهَا تَكْثِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْلِيلُ الْكَفَرَةِ، وَمِنْهَا وَهُوَ أَعْلاهَا امْتِثَالُ أَمْرِ الله حَيْثُ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} .
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجِهَادِ أَنَّهُمْ فِي الانْتِصَارِ يَغْنَمُونَ وَيَشْكُرُونَ وَيَقْتَوُوْن وَإِن أدِيلَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ عَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، وَفَشَلِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ، فَيَلْجَؤا إِلى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ تَائِبِينَ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ سَبَبٍّ لِلذُّلّ، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ بأَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاود، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجِهَادِ السَّلامَةِ مِنَ النِّفَاقِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ به مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» . رواه أبو داود والنسائي، وفي الحديث الآخرِ: «مَنْ(6/378)
لَقِيَ اللهَ بِغَيْرُ أَثَرِ جِهَادٍ لَقِيَ اللهَ وَفِيهِ ثَلْمَةٌ)) . وفي الحديث الآخر: ((مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا عَمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ)) . وَمِنْ مَحَاسِنِهِ اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ الدَّالَة عَلَى مَحاسِنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لإِعْلاءِ كَلِمَةِ اللهِ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْمُعَامَلاتِ فَمِنْ مَحَاسِنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وُصُولُ الإِنْسَانِ إِلى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ قَطْعُ مَسَافَةِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ مَعْدَنِهِ يَحْتَاجُ إِلى الأَسْفَارِ، وَرُكُوبِ الْمَرْكُوبِ، وَتَحملِ الأَخْطَارِ، وَمَتَى وَجَدَهُ بِالْبَيْعِ سَلِمَ من الأخطار وَسَقَطَ عَنْهُ مَؤْنَةُ الأَسْفَارِ، فَانْظُرْ إِلى الْعُودِ وَالْمِسْكِ، وَالسَّيَّارَاتِ وَالْمَكَائِنِ وَالأَقْمِشَةِ وَالْهِيلَ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَعَادِنُهَا بَعِيدَةٌ، فَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنْ سَخَّرَ بَعْضَ النَّاسِ لِبَعْضٍ، وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ بِحَلِّ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلاتِ كَالإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ ظُلْمٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَأَمَّلَ الْمُعَامَلاتِ الشَّرْعِيَّةَ، رَأَى ارْتِبَاطَهَا بِصَلاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَشَهِدَ للهِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِكْمَتِهِ حَيْثُ أَبَاحَ لِعِبَادِهِ جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ. وَلَمْ يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ إِلا كُلَّ خَبِيثٍ ضَارٍ عَلَى الدِّينِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْبَدَنِ أَوِ الْمَالِ.
فَمِنْ مَحَاسِنِ الإِجَارَةِ دَفْعُ حَاجَاتِ الْعِبَادِ بِقَلِيلِ مِن الإِبْدَالِ وَيَسِيرٍ مِنَ الأَمْوَالِ فَلا كُلُ أَحَدٍ يَمْلِكُ دَاراً يَسْكُنُهَا، وَلا سَيَّارَةً يَرْكَبُهَا، وَلا طَائِرَةً يَرْكَبُهَا، وَلا طَاحُونَةً يَطْحَنُ فِيهَا، وَلا مَخْزَناً لأَمْوَالِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ فَجُوِّزَتِ الإِجَارَةُ وَلا حَاجَةَ إِلى ذِكْرِ مَحَاسِن الصُّلْحِ فَهُوَ كِمَا ذَكَرَهُ الله خير قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} الآية.
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ والكفالةُ ففيهما مِنَ الإِحْسَانِ مَا لا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ اعْتَقَدَ الشَّرْعَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِد، وَعَقَلَ الشَّرَائِعَ، أَوْ لَمْ يَعْقَلِ، احْتَاجَ إِلى(6/379)
الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ اللهُ تَعَالى خَلَقَ الْخَلائِقَ، وَجَعَلَهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي الْقَصْدِ وَالْهِمَمِ فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْغَبُ أَنْ يُبَاشِرَ الأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ وَلا كُلٌّ يَهْتَدِي إِلى الْمُعَامَلات فَمَنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ إِبَاحَتُهَا، فَلا يَلِيقُ بِأَصْحَابِ الْمُرُوآتِ وَأَوْلِيَاءِ الأُمُورِ مُبَاشَرَةُ الْبِيَاعاتِ كُلِّهَا بِأَنْفسِهِمْ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاشَرَ بَعْضَ الأُمُورِ إِلى غَيْرِهِ، وَبَاشَرَ ذَبْحَ الأَضْحِيَةِ بِنَفْسِهِ، وَفَوَّضَ إِلى عَلِيِّ ذَبحَ قِسْمٍ مِنْ هَديهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا الْحُسْنُ فِي الْكِفَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمُرَاعَاةُ الأَخُوَّةِ يَبْذُلُ الذَّمةَ لِيَضُمَّهَا إلى الذِّمةِ فَيَنْفَسِحَ وَجْهُ الْمُطَالَبَةِ، وَيَسْكُنُ قَلْبُ الْمَطَالِبِ بِسَبَبِ السَّعَة قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إِلى أَنْ جَعَلَ كَافِلَها زَكَرِيَّا كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وَإِذَا عَلِمْتَ مَحَاسِنَ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، فَالْحَوَالةُ وَاضِحَةٌ مَحَاسِنُهَا فَفِي الْحَوَالةِ كَفَالَةٌ وَوَكَالَةٌ وَزِيَادَةُُ فَرَاغِ ذِمةِ الأَصِيلِ عَنْ الْحُزْنِ الطَّوِيلِ فَإِذَا قُبِلْتَ حَوَالَتَهُ أدْخَلْتَ عَلَى قَلْبِ أَخِيكَ - بِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ - سُرُوراً، وَلا يَخْفَى مَا فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الأَجْرِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الشُّفْعَةِ أَنْ الْجَارَ رُبَّمَا يَكُون فِي حَاجَةٍ إِلى هَذِهِ الْحِصَّةِ الْمَبِيعَةِ كَأَنْ يَكُونَ بَيْتُه ضَيِّقاً، وَيُرِيدُ اتِّسَاعَهُ، أَوْ تَكُونَ الأَرْضَ الْمُشْتَرَكَةُ بِجِوَارِ مَزَارِعِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الْجَارِ وَالشَّرِيكِ حَيْثُ أَنَّ لَهُ الْحَقُّ فِي التَّقدُّم على غَيْرِهِ فِي الشِّرَاءِ إِلا إِذَا أَسْقَطَ حَقَّه بامْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ وَمِنْهَا دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ، وَهُوَ مَادَةُ الضَّرَرِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ " فِي الإِسْلامِ)) . وَلا شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ فِي حُسْنِ دَفْعِ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ إِيقَادِ(6/380)
نِيرَانٍ، وَإِعْلاءِ جِدَارٍ، وَإِثَارَةِ غُبَارٍ وَدُخَّانٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ سَمَاعُ التَّلفِزْيُون وَالمذياع وَإِحْدَاثُ أَشْيَاءَ تَضُّر بِمُلْكِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ.
وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ فَمَحَاسِنُهَا ظَاهِرَةٌ، إِذْ فِيهَا إِعَانَةُ عِبَادِ اللهِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَوَفَاءِ الأَمَانَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ عَقْلاً وَشَرْعاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا إِحْسَانٌ إِلى عِبَادِ اللهِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنْهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّآلُفِ وَالتَّآخِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبٌ لِمحبةِ بَعْضِهم لِبَعْضٍ.
13- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُّ عَنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَارِنَ بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئ، فَإِذَا كَانَ مُنْصِفاً غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَسَاوِئ إِذَا كَانَتْ مَحَاسِنُهَا تَغْمُرهَا لاضْمِحْلالِهَا فِيهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَفْرُكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَتَوْزِيعُ الْمَالِ عَلَى الْوَرَثَةِ فَقَدْ وَضَعَهُ اللهُ بِنَفْسِهِ بِحَسَب مَا يَعْلَمُه مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ وَنَفْع، وَمَا هُو أَوْلَى بِبِرِّ الْعَبْدِ وَرَتَّبَهُ تَرْتِيباً تَشْهَدْ لَهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِالْحُسْنِ وَأَنَّهُ لَوْ وُكِّلَ الأَمْرُ إِلى آرَاءِ النَّاسِ وَأَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لَحَصَل بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْخَلَلِ وَالاخْتِلالِ، وَزَوَالِ الانْتِظَامِ، وَسُوءِ الاخْتِيَارِ فَوْضَى، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ أَنَّ أَلْحَقَ السَّبَبَ بِالنَّسَبِ فَالسَّبَبُ الْمُنَاكَحَةُ وَالْوَلاءُ وَلَمَّا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَقْد النِّكَاحِ ذَرِيعَةَ الْمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ، وَالازْدِوَاجِ، وَالاسْتِئْنَاسِ بَيْنَ النَّاسِ فَلا يُحْسُنُ أَنْ يَلْحَقَها عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا مَضَاضَةُ أَلَمِ الْفِرَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَفِقَ أَحَدُهُمَا بِمَا فَضُلَ عَنْهُ نَوْعَ ارْتِفَاقٍ، ثُمَّ جَعَلَ لِلزوْجِ ضِعْفَ مَا لِلْمَرْأَةِ مِن الزَّوْج.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّث عِنْدَ اخْتِلافِ الدِّينِ، إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فَالْكَافِرُ لا يُورَّثُ مِنْهُ لأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ قَرِيباً نَسَباً، فَهُوَ بَعِيدٌ دِيناً، لأَنَّ(6/381)
الْكَافِرُ مَيْتٌ لا يَرِثُ الْمَيِّتَ قَالَ اللهُ تَعَالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية، وقَالَ تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَرِثُ الْكَافرَ لاستواء حَالَيْهِمَا وَمَالَيْهِمَا.
15- وَأَمَّا الْهِبَةُ فَمُسْتَحَبَّةٌ إِذَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، وَالأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الإِجْمَاعِ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} قَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وَاللهُ سُبْحَانَهُ كَرِيمٌ جَوَّادُ وَهَّاب، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ كَمَا فِي الْحَدِيث: «تَهَادُوا تَحَابُّوا» . وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تَسُلُ السَّخِيمَةَ. وَفِي الْحَدِيث: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهِدِيَّةَ تَسُلُ السَّخِيمَةَ» . وَقَدْ أَهْدَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّجَاشِي حُلَّةً وَأَوَاقِي مِنْ مِسْكٍ وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تُقَوِّي الصِّلَةَ وَمَتَى قَوِيَتْ الصِّلَةُ سَارَتْ الأُمَّةُ بِقَدَمٍ ثَابِتٍ فَحُسْنُ الصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ سِرُّ نَجَاحِهَا وَمِنْ مَحَاسِنِهَا وَفْرَةُ الثِّقَةُ بَيْنَ الْمُتَهَادِينَ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِن.
16- وَأَمَّا النِّكَاحُ فَمُسْتَحَبٌّ، وَمَحَاسِنَهُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا تَحْصِينُ الْفَرْجِ، وَمِنْهَا تَحْصِينُ الزَّوْجَةِ، وَمِنْهُ حِفْظُهَا وَالْقِيَامُ بِهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّهُ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ، وَمِنْ مَحَاسِنِه تَكْثِيرُ الأُمَّةِ، وَتَكْثِيرُ النَّسْلِ، وَمِنْهَا تَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا قَضَاءُ حَوَائِجهِ مِنْ طَبْخٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ بَيْتِهِ وَأَوْلادِهِ وَمِنْهَا سُكُونُهُ وَطُمَأْنِينَتُه إِلَيْهَا، وَاسْتِئْنَاسُهُ بِهَا، وَمُعَاشَرَتُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي لا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِعَدِّهَا.
17- وَأَمَّا الطَّلاقُ فَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكَ الطَلاقِ إِلى الزَّوْجِ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ حَكَمَ بِالْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بَعْدَ الطَّلقاتِ الثَّلاثِ، لأَنَّ(6/382)
الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ ثَلاثاً رَأَى الصَّلاحَ فِي الْفِرَاقِ وَعَلَّقَ الشَّرْعُ حِلَّ الْمُطَلَقةِ ثَلاثاً بِالتَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَالدُّخُولِ بِهَا لِيَصِيرَ هَذَا الشَّرْطُ مَانِعاً لَهُ مِنْ الْعَوْدِ إِلَيْهَا وَيَثْبُتَ عَلَى رَأَيٍ مِنْ الصَّلاحِ فِي مُفَارَقَتِهَا، وَمِنْ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِحُرْمَتِهَا عَلَى وَجْهٍ لا رُجُوعَ فِيهِ أَصْلاً، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لا يَصْبِرُ عَنْهَا فَيَهْلِكُ فِي ذَلِكَ فَالشَّرْعُ جَعَلَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ سَبِيلاً لَكِن بَعْدَمَا يَذُوقُ الآخَرُ عُسَيْلَتَهَا، وَتَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ، وَلا يَجُوزُ عَنْ طَرِيقِ التَّحْلِيلِ لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِلَ وَالْمُحَلَلَ لَهُ» . وَمِنْ مَحَاسِنِ الطَّلاقِ أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ هَذَا هُوَ السُّنةُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَضَى وَطَرُهُ مِنْهَا انْتَقَصَ مَيْلُه إِلَيْهَا طَبْعاً فَيُبَادِرُ إِلى مُفَارَقَتِهَا بِقَلِيلِ دَاعِيَةٍ وَيَسِير أَذِيَّةٍ فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا شَبَعَ مِنْ شَيْءٍ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاعَ قَوِيَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلا يَحْصُلُ الطَّلاقُ عَنْ رَوِيَّةٍ، وَرُبَّمَا يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلى نَقْضِ الطَّلاقِ، فَكَانَ الطَّلاقُ الْحَسَنُ الْمَسنُونُ، أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالُ حَالَةُ كَمَالِ الرَّغْبَةِ وَتَمَامِ الْمَيْلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يُقْدِمُ عَلَى الطَّلاقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلا لِحَاجَةٍ دَاعِيَةٍ فَرُخِّصَ لَهُ فِي الطَّلاقِ.
18- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ جَعَلَ هَزْلَهُ جِدّاً قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهنَّ جِدٌّ، الطَّلاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ)) . فَإِذَا عَرَفَ الإنْسَانُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُظِهِ بِهِ، وَلَوْ مَازِحاً يَقَعُ، امْتَنَعَ بإِذْنِ اللهِ إِذَا كَانَ عَاقِلاً.
19- وَمِنْ مَحَاسِنِ الْقِصَاصِ، وَفَرْضِ الْعُقُوبَاتِ، زَجْرُ النُّفُوسِ الْبَاغِيَةِ، وَرَدْعُ الْقُلُوبِ الْقَاسِيَةِ، الْخَالِيَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَمِنْ مَحَاسِنِه تَأْدِيبُ الْجَمَاعَاتِ الطَّاغِيَةِ فَحَكَمَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، لِيَحْقِنَ الدِّمَاءَ قَالَ تَعَالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآيَةُ، وَالْقَطْعُ(6/383)
لِحِفْظِ الأَمْوَالِ، فَيَعِيشُ النَّاسُ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ قَالَ تَعَالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَحَرَّمَ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، كَالنَّظَرِ إِلى الأَجْنَبِيَّةِ، وَالْخُلْوَةِ بِهَا، وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَأَمَرَ بِرَجْمِ الزَّانِي وَقَتْلِ اللُّوطِيّ عَلَى رُؤوسِ الأَشْهَادِ وَحَكَمَ بِجَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ، مَائَةَ جَلْدَةً وَالتَّغْرِيبِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى الأَنْسَابِ، وَالأَعْرَاضِ، وَحِمَاَيةً لِلأَخْلاقِ، وَصِيَانَةً لِلأُمَّةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالْفَسَادِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ، وَعَدَّهَا أَمَّ الْخَبَائِثِ، وَحَكَمَ عَلَى مُتَعَاطِيهَا بِالْجِلْدِ لارْتِكَابِهِ النَّقَائِصَ وَالْخَسَائِسَ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَبْقَى الْعَقْلُ سَلِيماً، وَيَظَلَّ الْمَالُ مَصُوناً، وَيَدُومَ الشَّرَفُ وَالْخُلُقُ طَاهِراً نَقِيّاً.
شِعْراً:
لَقَدْ أَيْقَظَ الإِسْلامُ لِلْمَجدِ وَالْعُلَى
بَصَائِرَ أَقْوَامٍ عَنْ الْمَجْدِ نُوَّمِ
فَأَشْرَقَ نُورُ الْعِلْمِ مِنْ حُجُرَاتِهِ
عَلَى وَجْهِ عَصْرٍ بِالْجَهَالَةِ مُظْلِمِ
وَدَكَّ حُصُونَ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْهُدَى
وَقَوَّضَ أَطْنَابَ الضَّلالِ الْمُخَيِّمِ
وَأَنْشَطَ بِالْعِلْمِ الْعَزَائِمَ وَابْتَنَى
لأَهْلِيْهِ مَجْداً لَيْسَ بِالْمُتَهَدِّمِ
وَأَطْلَقَ أَذْهَانَ الْوَرَى مِنْ قُيُودِهَا
فَطَارَتْ بأَفْكَارٍ عَلَى الْمَجْدِ حُوَّمِ
وَفَكَّ أُسَارَ الْقَوْمِ حَتَّى تَحَفَّزُوا
نُهوضاً إِلى الْعَلْيَاءِ مِنْ كُلِّ مجْثِمِ(6/384)
وَعَمَّا قَلِيلٍ طَبَّقَ الأَرْضَ حُكْمُهُمْ
بِأَسْرَعَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلى الْفَمِ
اللَّهُمَّ رَبَّ قُلُوبُنَا عَلَى مَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
20- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلى الْمَشُورَةِ وَالأَخْذِ بِهَا مَتَى كَانَتْ صَائِبَةً مُتَّفقةً مَعَ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ وَالتَّجْرِبَةِ قَالَ تَعَالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
21- وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ أَكْثَرُهُمْ صَلاحاً وَتَقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} .
22-وَمِنْ مَحَاسِنِه الْحَثُّ عَلَى الْعِتْقِ، وَتَحْرِير الأَرِقَّاءِ، وَالإِحْسَانِ إِلى الْمَمْلوُكِ.
23- وَمِنْ مَحَاسِنِه الْحَثُّ عَلَى الإِحْسَانِ إِلى الْجَارِ وَالضَّيْفِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ.
24- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلى تَبَادُلِ الإِلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّصَافِي وَالتَّعَاونِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنُ كَالْبُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضاً» .(6/385)
25- وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّهُ يَذم النِّزَاعَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالتَّفْرِقَةَ، قَالَ تَعَالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} وَقَالَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» .
26- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ النَّمِيمَةِ وَالْغِيْبَةِ، وَالْحَسَدِ وَالتَّجَسُّسِ، وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ الدَّالَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدّاً، فَتَذَكَّرْ لَهَا تَجِدْهَا.
27- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنِ الظُلْمِ، وَالأَمْرِ بِالْعَدْلِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، قَالَ تَعاَلى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ} وَقَالَ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} .
28- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْمُعْتَدِي، قَالَ تَعَالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} وقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَالَ: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
29- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الدَّعْوَةُ إِلى الصُّلْحِ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْهُجْرَانِ، قَالَ تَعَالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .
30- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَقَاطَعُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا» . الْحَدِيث.
31- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الاسْتِهْزَاءِ بِالنَّاسِ، وَذِكْرِ عُيُوبِهِمْ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} والآية.
شِعْرًا: ... إِذَا مَا ذَكَرَتَ النَّاسَ فَاتْرك عُيُوبَهُمْ ... فَلا عَيْبَ إِلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ
فَإِنْ عِبْتَ قَوْماً بِالذِي هُوَ فِيهِمُ ... فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ(6/386)
32- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ، إِلا أَنْ يَأْذَنُ أَوْ يُرَدَّ، لِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ.
33- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ مَشْرُوعِيَّةُ السَّلامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفَهُ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِرَدِّ التَّحِيَّةِ بِأَحْسَن مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا قَالَ تَعَالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية.
34- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِالتَّثْبِت ِفِيمَا نَسْمَعُه، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَقَالَ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية.
35- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الْبُولِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِد، وَفِي ذَلِكَ الْعِنَايَةُ بِالنَّاحِيَةِ الصِّحِيَّةِ، وَالْوِقَايَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالأَمْرَاضِ بِإِذْنِ اللهِ.
36- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ إِيذَاء الْمُؤْمِنِين وَالإضْرَار بِهِمْ، قَالَ تَعَالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» .
37- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَالشَّرُبِ بِهَا، لأَنَّهَا لإِزَالَةِ مَا يَسْتَقْذَرُ، وَلأَنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُل بِشِمَالِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيث.
38- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِاتِّبَاعِ جَنَازَة الْمُسْلِم لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُمِ عَلَيْهِ، وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِين.
39- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإبْرَارُ الْمُقْسِمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّآلُفِ وَالتَّآخِي، وَالدُّعَاءِ لأَخِيكَ بِالرَّحْمَةِ، وَلِمَا فِي إِبْرَارِ الْقَسَمِ مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهِ، وَإِجَابَةِ طَلَبِهِ، مَا لَمْ يَكُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ.(6/387)
40- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِعُرْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، أَوْ يَخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَالإِنْسَانِيَّةِ كَمَا تَرَاهُ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ، لأَنَّ فِي حُضُورِهِ وَالْحَالََةُ هَذِهِ تَشْجِيعٌ لِلْفَسَقَةِ وَأَهْلِ الْمَجُونِ، وَإِعَانَةٌ عَلَى نَشْرِ الْمَعَاصِي، وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ كَإِزَالَةِ التلفزيون ونحوه حَضَرَ وَأَزَالَه وَإِلا أَمْتَنَعَ.
41- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ تَرْوِيعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، إِمَّا بِإِخْبَارِهِ بِخَبَرٍ يُفْزِعُهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِسِلاحٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
42- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَشَبِّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَبِالْعَكْسِ بَأَن تَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، الَّتِي مِنْهَا التَّخْنِثُ فِيمَنْ يَتَشَبَّه بِهِنَّ، فِي مَلابِسِهِنَّ وَحَركَاتِهِنَّ وَكَلامِهِنَّ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُنْحَلِّينَ، الْمَغْرُورِينَ أَصْحَاب الْخَنَافِس وَالتَّوَالِيتَات مَحْلُوقِي اللِّحَا.
43- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام اتِّقَاءُ مَوَاضِع التُّهَمِ وَالرِّيَبِ، كَيْ يَصُونَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، وَوَرَدَ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتِكَفِِ فَقَامَ مَعَهَا مُوَدِّعاً، حَتَّى بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ، فََرَآهُ رَجُلاَنِِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» . فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئاً» . فَهَذَا أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، وَأَبْعَدَ التُّهْمةَ وَالشَّكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَم فَلا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنِ، وَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ يُكَلِّمُ إِمْرَأَتَه عَلَى ظَهْرِ(6/388)
الطَّرِيقِ، فَعَلاهُ وَضَرَبَهُ بِالدُّرَةِ، فقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا امْرَأَتِي فَقَالَ عُمَرُ: هَلا كَلَّمْتَهَا حَيْثُ لا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
فالإِسْلام مِنْ مَحَاسِنِه الابْتِعَادُ عَنْ مَوَاضِع التهم والشُّبُهاتِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَنْ تَدَخَّلَ عَلَى الْخَيَّاطِ، يُفَصِّلُ عَلَى بَدَنِهَا وَحْدَهُ، خَالِياً بِهَا، أَوْ رَأَى مِنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَحْدَها، أَوْ رَأَى مَنْ تَرْكَبْ مَعْ مَنْ لَيْسَ مَحْرَماً لَهَا أَوْ سَافَرَتْ مُسْلِمَةٌ إِلى بِلادِ الْكُفْرِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَى الدُّكْتُورِ وَحْدَهَا بِاسْمِ الْكَشْفِ الطِّبِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا الذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنْ، وَقَلَّ فِيهِ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَرَدْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ الذِينَ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَسَانَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، مِنَ التَّفَكُّك وَالتَّخَاذُلِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فالله المستعان.
أَيَا عُلَمَاءُ الدِّينِ مَالِي أَرَاكُمْ
تَغَاضَيْتُم عَنْ مُنْكَرَاتِ الأَوَامِرِ
أَمَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ فَرْضُكُمْ
فَأَعْرَضْتُمُ عَنْ ذَاكَ إِعْرَاضَ هَاجِرِ
أَمَّا أَخْذَ الْمِيثَاقَ رَبِّي عَلَيْكُمْ
بَأَنْ تَنْصَحُوا بِالْحَقِّ أَهْلَ الْمَنَاكِرِ
فَإِنْ هُمُ عَصَوْكُمُ فَاهْجُرُوهُمْ وَهَاجِرُوا
تَنَالُوا بِنَصْرِ الدِّينِ أَجْرَ الْمُهَاجِرِ
إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ قَاضٍ وَعَالِمٍ
وَحَالُ وَزِيرٍ أَوْ أَمِيرٍ مُظَاهِرِ(6/389)
وَلَمْ تَنْهَوُا عَنْ غَيِّكُمْ فَتَرَقَّبُوا
صَوَاعِقَ قَهَّارٍ وَسَطْوَةَ قَاهِرِ
فَمَا اللهُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِغَافِلٍ
وَلَكِنَّهُ يُمْلِي لِطَاغٍ وَفَاجِرِ
وَقَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفاً
وَلَكِنْ غَفَلْتُمْ عَنْ سَمَاعِ الزَّوَاجِرِ
أَجِيبُوا عِبَادَ اللهِ صَوْتَ مُنَاصِحٍ
دَعَاكُمْ بِصَوْتٍ مَالَهُ مِنْ مُنَاصِرِ
وَقُومُوا سِرَاعاً نَحْوَ نَصْرَةِ دِينكُمْ
إِذَا رُمْتُمُ فِي الْحَشْرِ غُفْرَانَ غَافِرِ
وَحُسْنُ خِتَامِ النَّظْمِ أَزْكَى صَلاتِنَا
عَلَى الْمُصْطَفَى وَالآلِ أَهْلِ الْمَفَاخِرِ
اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا وَأَصْلِح ذَاتَ بَيْنِنَا وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبَنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ وَنَجِّنَا مِنْ الظُّلَُمَاتِ إِلى النُّورِ وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ َ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
44- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِشَرِّيرٍ مِنَ الأَشْرَارِ، أَوْ فَاجِرٍ مِنَ الْفُجَّارِ، أَوْ مُحِبٍّ لِلإِجْرَامِ، يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَهُ وَيَبْتَعِدَ عَنْ شَرِّهِ، وَيُدَارِيهِ وَيَتَجَنَّبَه مَا أَمْكَنَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ، وَإِنَّ(6/390)
قُلُوبَنَا لِتَلْعَنَهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا مُدَارَاةُ الأَشْرَارِ الذِينَ لا تَقْدِرُ عَلَى رَدْعِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِخَوْفِكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَإِجْرَامِهِمْ، وَتُنْكِرُ بِقَلْبِكَ.
45- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الأَمْرُ بِإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَة.
46- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ ِبسَتْرِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُيوبِهِمْ وَنَقَائِصهم قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ» . الْحَدِيثُ وَتَقَدَّم.
47- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَمُسَاعَدَةِ الْمُحْتَاجِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَقَالَ: «وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ» .
48- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَوْقِيرُ الْمُسْلِمِ، وَلاسِيَّمَا ذِي الشَّيْبَةِ، وَرَحْمَةُ الصِّبْيَان، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرُ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِكْرَامَ ذِى الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» . الْحَدِيث.
49- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُ عَنْ الْفُحْشِ، وَبَذَاءَةِ اللِّسَانِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الْفَاحِشِ، وَلاَ الْبَذِىءِ» .
50- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُ عَنْ التَّكَلُّمِ سِرّاً بَيْنَ اثْنَيْنِ، مَعَ وُجُودِ ثَالِثٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُ الثَّاِلَث، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ بِهِ، فَهَذَا يُنَافِي الأَدَبِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِن الأَدَبِ أَنْ تَتَحَدَّثَ بِلُغَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ لا(6/391)
يَعْرِفُهَا، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلَ أَنْ ذلك يُحْزِنَهُ» .
51- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنْ يَتَدَخَّلَ الإِنْسَانُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» . أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ وَصَاغَهُ بِعِبَارَةِ: (ابْحَثْ عَنْ عَمَلِكَ الْخَاصِّ) . وَلَوْ تَتَبَعَّ الْمُسْلِمُونَ إِرْشَادَاتِ نَبِيِّهِمْ، وَنَصَاِئِحِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاسْتَرَاحُوا وَأَرَاحُوا غَيْرَهُمْ، وَلَوْ تَتَبَّعْت أَكْثَرَ الْمَشَاكِلَ، وَالْمُنَازَعَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُجَادَلاتِ، لَوجَدْتَ سَبَبَها الْوَحِيدَ التَّدَخُلُ فِيمَا لا يَعْنِي.
52- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعَرُّضِ لِمَا لا يَنْبَغِي، وَلِمَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ الْقِيَامُ بِهِ وَرُبَّمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مِنَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَرَدْعِ الظَّالِمِ، وَذَلِكَ نَصْرُهُ، وَإِعَانَةِ الْمُسْلِمِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ وَرَدِّ السَّلامِ، وَكَفِّ الأَذَى.
53- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّ مَن استعاذَنَا بِاللهِ عَلَيْنَا أَنْ نُعِيذَهُ وَأَنَّ مَنْ سَأَلَنَا بِاللهِ نُعْطِيهُ، وَنُكَافِئَ مَنْ صَنَعَ إِلَيْنَا مَعْرُوفاً إِنْ اسْتَطَعْنَا، فَإِنْ لَمْ نَسْتَطِع نَدْعُو لَهُ أَنْ يَجْزِيَه اللهَ جَزَاءً حَسَناً، عَلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَيْنَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، عَمَلاً بِالْحَدِيثِ «مَنِْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ» . الْحَدِيث.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الأَعَزِّ الأَجَل الأَكْرَمِ الذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ، وَنَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيم أَكْرَمَ الْوُجُوه وَأَعَزَّ الْوُجُوه، يَا مَنْ عَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ،(6/392)
وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّوم يَا مَالِكَ الْمُلْكِ يَا مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيط، يَا مَنْ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَر إِلا فِي كِتَابٍ مُبِين، نَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِر سَيِّئَآتِنَا وَتُبَدِّلَهَا بِحَسَنات يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَجْوَدَ الأَجْوَدِين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
54- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنْ تُنْصِفَ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَنْ تُحِبَّ للنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَضَعَ نَفْسَكَ مَوْضِعَ إِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُعَامِلَهُمْ الْمُعَامَلَةَ الَّتِي تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهَا، وَتُؤَدِّيَ حُقُوقَهُمْ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الإِيمَانَ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ، الإِنْفَاقُ مِنْ الإِقْتَارِ، وَالإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَذْلُ السَّلامِ» . وَقَالَ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامُ الاِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَة» . إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي الْحَدِيثِ الآخر: «وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلٌ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مَنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مِنْ لاَ زَادَ لَهُ» . فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو سَعِيد: حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْلٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
55- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام، وَأَخْلاقِهِ السَّامِيَةِ، أَنْ يَصُونَ الإِنْسَانُ ِعْرَض أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَنَفْسَه وَمَالَه، مِنْ ظُلْمٍ أَصَابَهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِه، وَيَرُدَّ عَنْهُ الظُّلْمِ وَالْعِدْوَانَ، وَيُدَافِعَ وَيُنَاضِلَ عَنْهُ حَسَبَ قُدْرَتِهِ، فَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاًٌ نَالَ مِنْ رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(6/393)
فَرَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ» . وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
56- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الأَمْرُ بِالتَّوَسُطِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالإِسْرَافِ، قَالَ تَعَالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رُتْبَةٌ وَكِلا هَاذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ.
57- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلاثَةِ الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى يُؤَدِّيهَا، وَالصَّبْرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ حَتَّى يَتْرُكَهَا، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ.
58- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْعَطْفُ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالرَّأْفَةِ بِالْيَتَامَى، وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَدَفعِ الأَذَى عَنْهُمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ، وَمُلاطَفَتِهِمْ وَخَفَضْ الْجَنَاحِ لَهُمْ، وَلِيْنِ الْجَانِبِ مَعَهُمْ، قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وَقَالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} وَقَالَ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} وَقَالَ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} الآية.
59- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الرَّأْفَةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالشَّفْقَةُ، لا الْقَسْوَةُ(6/394)
وَالْغِلْظَةُ وَالتَّعْذِيبُ، حَتَّى فِي حَقِّ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمَيَّةِ عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعاً: «أَنَّ رَجُلاً دَنَا مِنْ بِئْرٍ فَنَزَلَ وَشَرِبَ مِنْهَا، وَعَلَى الْبِئْرِ كَلْبٌ يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ، فَرَحِمَهُ فَنَزَعَ أَحَدَ خُفَّيْهِ فَسَقَاهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الذِي وَسَمَهُ» .
شِعْراً:
أَنَا الْعَبْدُ الذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا
وَصَدَّتْهُ الأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا
أَنَا الْعَبْدُ الذِي أَضْحَى حَزِيناً
عَلَى زَلاتِهِ قَلِقاً كَئِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ
صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُسِيءُ عَصَيْتُ سِرّاً
فَمَا لِي الآنَ لا أُبْدِي النَّحِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمْرِي
فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا(6/395)
أَنَا الْعَبْدُ الْغَرِيقُ بِلُجِّ بَحْرٍ
أَصِيحُ لَرُبَّمَا أَلْقَى مُجِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنَ الْخَطَايَا
وَقَدْ أَقْبَلْتُ التَمِسُ الطِّبِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ
حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الشَّرِيدُ ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَقَدْ وَافَيْتُ بَابَكُمْ مُنِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مَدَدْتُ كَفِّي
إِلَيْكُمْ فَادْفَعُوا عَنِّي الْخُطُوبَا
أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْداً
وَكُنْتَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا
أَنَا الْمَقْطُوعُ فَارْحَمْنِي وَصِلْنِي
وَيَسِّر مِنْكَ لِي فَرَجاً قَرِيبَا
أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْواً
وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا
فَيَا أَسَفِي عَلَى عُمْرٍ تَقْضِّي
وَلَمْ أَكْسِبْ بِهِ إِلا الذُّنُوبَا
وَأَحْذَرُ أَنْ يُعَاجِلُنِي مَمَاتٌ
يُحَيِّرُ هَوْلُ مَصْرَعِهِ اللَّبِيبَا(6/396)
وَيَا حُزْنَاهُ مِنْ حَشْرِي وَنَشْرِي
بِيَوْمٍ يَجْعَلِ الْوِلْدَانَ شِيبَا
تَفَطَّرَتْ السَّمَاءُ بِهِ وَمَارَتْ
وَأَصْبَحَتِ الْجِبَالُ بِهِ كَثِيبَا
إِذَا مَا قُمْتُ حَيْرَاناً ظَمِيئاً
حَسِيرَ الطَّرْفِ عُرْيَاناً سَلِيبَا
وَيَا خَجْلاهُ مِنْ قُبْحِ اكْتِسَابِي
إِذَا مَا أَبْدَتْ الصُّحُفُ الْعُيُوبَا
وَذِلَّةُ مَوْقِفٍ وَحِسَابِ عَدْلٍ
أَكُونُ بِهِ عَلَى نَفْسِي حَسِيبَا
وَيَا حَذْرَاهُ مِنْ نَارِ تَلَظَّى
إِذَا زَفَرَتْ وَأَقْلَقَتِ الْقُلُوبَا
تَكَادُ إِذَا بَدَتْ تَنْشَقُّ غَيْظاً
عَلَى مَنْ كَانَ ظَلاماً مُرِيبَا
فَيَا مَنْ مَدَّ فِي كَسْبِ الْخَطَايَا
خُطَاهُ أَمَا يَأْنِي لَكَ أَنْ تَتُوبَا
أَلا فَاقْلِعْ وَتُبْ وَاجْهَدْ فَإِنَّا
رَأَيْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبَا
وَأَقْبِلْ صَادِقاً فِي الْعَزْمِ وَاقْصُدْ
جَنَاباً لِلْمُنِيبِ لَهُ رَحِيبَا
وَكُنْ لِلصَّالِحِينَ أَخاً وَخِلا(6/397)
.. وَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرِيبَا
وَكُنْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ جَبَاناً
وَكُنْ فِي الْخَيْرِ مِقْدَاماً نَجِيبَا
وَلاحِظْ زِينَة الدُّنْيَا بِبُغْضٍ
تَكُنْ عَبْداً إِلى الْمَوْلَى حَبِيبَا
فَمَنْ يَخْبُرْ زَخَارِفَهَا يَجِدْهَا
مُخَالِبَةً لِطَالِبِهَا خَلُوبَا
وَغُضَّ عَنِ الْمَحَارِمِ مِنْكَ طَرْفاً
طَمُوحاً يَفْتِنُ الرَّجُلَ الأَرِيبَا
فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ
إِذَا مَا أَهْمَلْتَ وَثَبْتَ وَثُوبَا
وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرَفِ عَنْهَا
يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رُوحاً وَطِيبَا
وَلا تُطْلِقْ لِسَانَكَ فِي كَلامٍ
يَجُرُّ عَلَيْكَ أَحْقَاداً وَحُوبَا
وَلا يَبْرَحْ لِسَانُكَ كُلَّ وَقْتٍ
بِذِكْرِ اللهِ رَيَّاناً رَطِيبَا
وَصَلِّ إِذَا الدُّجَى أَرْخَى سُدُولاً
وَلا تَضْجَرْ بِهِ وَتَكُنْ هَيُوبَا
تَجِدْ أُنْساً إِذَا أُودِعْتَ قَبْراً
وَفَارَقْتَ الْمَعَاشِرُ وَالنَّسِيبَا(6/398)
.. وَصُمْ مَا تَسْتَطِيعُ تَجِدْهُ رِيّاً
إِذَا مَا قُمْتَ ظَمْآناً سَغِيبَا
وَكُنْ مُتَصَدِّقاً سِرّاً وَجَهْراً
وَلا تَبْخَلْ وَكُنْ سَمْحاً وَهُوبَا
تَجِدْ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ ظِلا
إِذَا مَا اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْكُرُوبَا
وَكُنْ حَسَنِ السَّجَايَا وَذَا حَيَاءٍ
طَلِيقَ الْوَجْهِ لاشَكْساً غَضُوبَا
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقاً يَقِيناً عَنْ مَعَاصِيكَ، وَأَرْشِدْنَا بِرُشْدِكَ إِلى السَّعْي فِيمَا يُرْضِيكَ وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ، وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
60- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام مراعاةُ الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ أَنْ نَضَعَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَنُرَاعِي كَرَامَتَهُ وَشُعُورَهُ وَنَجْعَلَهُ فِي الْمَكَانِ الذِي يَلِيقُ بِهِ.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ مُسَافِرَةً فَنَزَلَتْ مَنْزِلاً تَسْتَرِيحُ فِيهِ وَتَتَنَاوَلُ طَعَامَهَا فَجَاءَ سَائِلٌ فَقِيرٌ(6/399)
فَقَالَتْ: نَاوِلُوا هَذَا الْمِسْكِينَ قُرْصاً، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ يَرْكَبُ فَرَساً، فَقَالَتْ: ادْعُوهُ إِلى الطَّعَامِ. فَقِيلَ لَهَا: لِمَاذَا تَعْطِينَ الْمِسْكِينَ قُرْصاً، وَتَدْعِينَ هَذَا الْغَنِيَّ إِلى الطَّعَام، فَأَجَابَتْ إِنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَلَ النَّاسَ مَنَازِلَ لا بُدَّ لَنَا أَنْ نُنْزِلَهُمْ تِلْكَ الْمَنَازِلَ، هَذَا الْمِسْكِينُ يَرْضَى بِقُرْصٍ، وَقِبيِحٌ بِنَا أَنْ نُعْطِي هَذَا الْغَنِيَّ - وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ - قُرْصاً. فَرَحِمَهَا اللهُ مَا أَحْسَنَ هَذَا مِنْ جَوَابِ رَدٍّ دَلَّ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَحُسنِ الذُّوقِ، وَنَُبْلِ الْخُلُقِ، وَكَرَمِ الْمُعَامَلَةِ، وَالإِقْتِدَاءَ التَّامِ بِإِرْشَادَاتِ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ حَتَّى امْتَلأَ الْمَجْلِسُ، فَجَاءَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَكَاناً فَقَعَدَ عَلَى الْبَابِ فَلَفَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ وَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ عَلَى هَذَا» . فَأَخَذَ جَرِيرٌ الرِّدَاءَ، وَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُه وَيَبْكِي، مُتَأَثِّراً مِنْ إِكْرَامِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، ثُمَّ لَفَّهُ وَرَدَّه إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاكِراً مُقَدِّراً، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَجْلِسَ عَلَى ثَوْبِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَكْرَمَكَ اللهُ يَا رَسُولَ اللهِ كَمَا أَكْرَمْتَنِي، فَنَظَر الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِيناً وَشِمَالاً ثُمَّ قَالَ: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوه» .
فَانْظُرْ إِلى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْجَمِيلَةِ، تَجِدِ الْمَثَلَ الْكَاملَ فِي مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ لَهُ، حَيْثُ رَاعَى شُعُورَ جَرِيرٍ وَأَكْرَمَهُ، وَكَيْفَ تَأَثَّرَ جَرِيرٌ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْكَرِيمَةِ النَّبِيلَةِ اللَّطِيفَةِ.
61- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلزَّوْجَاتِ عَلَى الأَزْوَاجِ حُقُوقاً مِثْلُ(6/400)
الْحُقُوقِ الَّتِي لِلرِّجَالِ بِالْمَعْرُوفِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَتَرْكِ الإِضْرَارِ، وَجَعل {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ فِي الْخُلُقِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَطَاعَةِ الأَمْرِ، وَالإِنْفَاقِ، وَأَدَاءِ الْمَهْرِ، وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، وَالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
62- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أنَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَدُّ جُزْأً مِنْ ثَرْوَةِ أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا، وَكَانَ ابنُ الرجلِ يَرِثُ أَرْمَلَةَ أَبِيهِ بَعْدَ وَفَاتِهَا، وَكَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ الإِسْلامِ يَرِثُونَ النِّسَاءَ كُرْهاً، بَأَنْ يَأْتِي الْوَارِثُ وَيُلْقِي ثَوْبَه عَلَى زَوْجَةِ أَبِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَرِثْتُهَا كَمَا وَرِثْتُ مَالَ أَبِي، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرٍ، أَوْ زَوَّجَهَا لأَحَدٍ مِنْ عِنْدَهُ وَتَسلَّمَ مَهْرَهَا مِمَّنْ يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ كَيْ يَرِثَهَا، فَمَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّة هَذَا الظُّلْمِ وَهَذَا الإِرْثَ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً} وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ مِنَ الزَّوَاجِ، فَالابْنُ الْوَارِثُ كَانَ يَمْنَعُ زَوْجَةَ أَبِيهِ مِنَ التَّزوْجِ، كَيْ تُعْطِيَه مَا أَخَذَتْهُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، وَالأَبُ يَمْنَعُ ابْنَتَهُ مِنْ التَّزوُجِ حَتَّى تَتْرُكَ لَهُ مَا تَمْلِكُه، وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيَمْنَعُهَا مِنَ الزَّوَاجِ، حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ. وَالزَّوْجُ الْمُبْغِضُ لِزَوْجَتِهِ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا، وَيُمَلِّلُهَا، وَلا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَرُدَّ إِلَيْهِ مَهْرَهَا، فَالْعَرَبُ قَبْلَ الإِسْلام يَظْلِمُونَ الْمَرْأَةَ وَيَتَحَكَّمُونَ فِيهَا، قَالَ تَعَالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَكَانُوا لا يَعْدِلُونَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَأَمَرَ الإِسْلامُ بِالْعَدَالَةِ بَيْنَهُنَّ قَالَ تَعَالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، وَقَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} ، وَقَالَ: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وَقَالَ فِي نَاحِيَةِ الدِّينِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(6/401)
وَفِي نَاحِيَةِ الأَهْلِيَّةِ وَالْمُلْكِ قَالَ تَعَالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} ، وَقَالَ: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} .
وَحَسبُ الإِسْلامِ مَا كَفَلَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مُسَاوَاةٍ دِينِيَّةٍ، وَمِنْ مُسَاوَاةٍ فِي التَّمَلُكِ وَالْكَسْبِ، وَمَا حَقَّقَ لَهَا مِنْ ضَمَانَاتٍ فِي الزَّوَاجِ بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا دُونَ إِكْرَاهٍ وَلا إِهْمَالٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُنْكَحُ الثَّيبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنْ، وَإِذْنُهَا الصُّمُوت» . وَفِي مَهْرِهَا قَالَ: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} .
63- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ الإِسْلامِ يَئدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَدْفِنُونَهُنَّ وَهُنَّ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ خَوْفاً مِنَ الْعَارِ، يُهِلُ عَلَى ابْنَتِهِ التُّرَابَ حَتَّى تَمُوتَ، فَجَاءَ الإِسْلامُ وَحَرَّمَ وَأْدَهُنَّ وَقَتْلُهنَّ تَحْرِيماً قَاطِعاً، وَمَنَحَهُنَّ الْحَقَّ فِي الْحَيَاةِ، وَبِهَذَا أَنْصَفَ الإِسْلامُ الْمَرْأَةَ كُلَّ الإِنْصَافِ وَحَافَظَ عَلَى حَيَاتِهَا وَحُقُوقِهَا الإِنْسَانِيَّةِ.
اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَغَلَبَةِ الدِّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَزَيِّنْهَا بِمَحَبَّتِكَ وَجَمِّل أَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا وَوَفِّقْنَا لِحِفْظِ أَوْقَاتِنَا وَأَحْيينَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ.
فَصْلٌ 64- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ إِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَتَحْرِيمُهَا، وَتَحْرِيمُ زَجْرِ الطَّيْرِ،(6/402)
وَتَحْرِيمُ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِمَارِ، وَمِنْهَا الأَزَلامُ وَالْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي.
65- وَمِنْهَا رَمْيُ الْبَعْرَةِ، كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا دَخَلَتْ حُشِفاً وَلَبَسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طَيْباً حَتَّى تَمْضِي عَلَيْهَا سَنَة، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَةٍ حِمَارٍٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ مَا شَاءَتْ.
66- وَمِنْهَا قَتْلُ الأَوْلادِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ إِلى أَنْ نَهَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً} .
67- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَوَّلَ الْوَثِنِّيينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ إِلى مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، أَتْقِيَاءَ زُهَّاداً وَرِعِينَ يَخَافُونَ اللهَ، وَيَعْبُدُونه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وَيَقِفُونَ بِجَانِبِ الْحَقِّ، لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
68- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ تَحْرِيمُ الْغَدْرِ، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} ؟ وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِكلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فلانُ» . وَقَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ خَالِصاً» وَعَدَّ مِنْهَا: «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرْ» . وَقَالَ: «يَقُولُ اللهُ ثَلاثةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِي.
69- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ، وَكَسْبِ الرِّزْقِ، وَتَرْكُ الْكَسَلِ، وَسُؤَالَ النَّاسِ إِلا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالإِسْلامُ دِينُ سَعْيٍ(6/403)
وَعَمَلٍ وَاجْتِهَادٍ، لا دِينُ كَسَلٍ وَعَجْزٍ وَتَوَانٍ، دِينٌ يُحَافِظُ عَلَى الْعِزَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالْكَرَامَةِ الشَّخْصِيَّةِ، قَالَ تَعَالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ، وَقَالَ: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} وَيَحثُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَلِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وَيَقُول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} .
70- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ الْقَصْدُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وَعَنْ الْمِقْدَادِ بن مَعْدِي كَرْبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَاعِلاً فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفْسِهِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَة.
71- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ النَّهْيُ عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْحُقُوقِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي، وَمُسْلِم.
72- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الأَمْرُ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، قَالَ تَعَالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَاينُ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِراً، قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ» .
73- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ النَّهْيُ عَن الرِّشْوَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ(6/404)
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَوَرَدَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشُ الذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا» .
74- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى إِقَالَةِ النَّادِمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ وَجَبْرِ خَاطِرِهِ، فَفِي الْحَدِيث: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً أَقَالَ اللهُ عثْرُتَه» . وَفِي رِوَايَةِ: «مِنْ أَقَالَ نَادِماً أَقَالَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَصَلَّى.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمَنّا مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرَّجْفِ وَالزلْزَال، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
75- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ بَذْلُ النَّصِيحَةُ للهِ، وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ. فَالنَّصِيَحَةُ للهِ الإِيمَانُ بِهِ، وَنَفْي الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِه عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيهِ، وَمُوَالاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لَهُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ، فَالإِيمَانُ بِأَنَّهُ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ، وَالإِهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ وَالتَّدَبُّرُ لِمَعَانِيهِ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِهِ، وَالإِتِّعَاظُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالاِعْتِبَارُ بِزَوَاجِرِهِ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَمَحَبَّتُهُ، وَتَقْدِيمُهُ فِيهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَتَوْقِيرُهُ حَياً وَمَيِّتاً، وَمَعْرِفَةُ سُنَّتِهِ وَنَشْرُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ كَائِناً مَا كَانَ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ إِعَانَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَذْكِيرُهم بِحِوَائِجِ الْعِبَادِ وَنُصْحُهم بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَعَدْلٍ وَاعْتِقَادُ ولايَتِهِمْ وَالسَّمِعُ وَالطَّاعَةُ لَهُمْ فِي غَيْرِ(6/405)
مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحثُّ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَبَذْلُ مَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ إِرْشَادِهِمْ وَتَنْبِيهِهُمْ إِلى مَا يَنْفَعُهم، وَيَنْفَعُ النَّاسَ وَالْقِيَامُ بِوَاجِبِهِم، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ إِرْشَادُهُمْ لِمَصَالِحِهم فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَكَفُّ الأَذَى عَنْهُم، وَتَعْلِيمُهُم مَا جَهِلُوا مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَأَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُم عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ حَسَبَ الإِمْكَان.
76- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّحِمُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوْفَى عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» .
77- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنِ التَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ، وَعَنْ الزُّهْدِ فِي الطِّيبَاتِ، لأَنَّ الإِسْلامَ دِينُ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَالاعْتِدَالِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا فَأصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَداً. فَجَاءَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَنْتُمْ الذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا؟ أَمَّا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمُ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . رَوَاهُ الشَّيْخَانُ.(6/406)
قصيدة في غربة الإسلام:
أَقُولُ وَأَوْلَى مَا يُرَى فِي الدَّفَاتُرِ
وَأَحْسَنُ فَيْضاً مِنْ عُيُونِ الْمَحَابِرِ
هُوَ الْحَمْدُ لِلْمَعْبُودِ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاء
تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الْغُوَاةِ الْغَوَادِرِ
وَجَلَّ عَنْ الأَنْدَادِ لا رَبَّ غَيْرُهُ
وَعَنْ شَافِعٍ فِي الابْتِدَا أَوْ مُوَازِرِ
وَصَلَّى عَلَى مَنْ قَامَ للهِ دَاعِياً
وَشَيَّدَ أَعْلامَ الْهُدَى وَالشَّعَائِرِ
وَأَوْضَحَ دِينَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا سَفَتْ
عَلَيْهِ السَّوَافِي فِي الْقُرَى وَالْجَزَائِرِ
وَعَادَا وَوَالَى فِي رِضَى اللهِ قَوْمَهُ
وَلَمْ يَثْنِه عَنْ ذَاكَ صَوْلَةُ قَاهِرِ
مُحَمَّدٌ الْمُبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمةً
نِذَارَتُهُ مَقْرونَةٌ بِالْبَشَائِرِ
وَبَعْدُ فَإِنْ تَعْجَب لِخَطْبٍ تَبَلْبَلَتْ
لِفَادِحِهِ أَهْلُ النُّهَى وَالْبَصَائِرِ
فَلا عَجَبًا يَوْمٌ مِنَ الدَّهْرِ مِثْلَ مَا
أَنَاخَ بِنَا مِنْ كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
وَمَا ذَاكَ إِلا غُرْبَةُ الدِّينِ يَا لَهَا
مُصِيبَةُ قَوْمٍ مِنْ عِظَامِ الْفَوَاقِرِ(6/407)
تَرَى أَهْلَهُ مُسْتَضْعَفِينَ أَذِلَّةً
فَمَا بَيْنَ طَعَّانٍ عَلَيْهِمْ وَنَافِرِ
وَمُسْتَهْزِءٍ مِنْهُمْ فَيُنْغِضُ رَأْسَهُ
وَيَرْمُونَهُمْ شَزْرَ الْعُيُونِ النَّوَاضِرِ
وَعَادَاهُمُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ وَالْحِجَى
وُكَلُّ خَلِيلٍ أَوْ قَرِيبٍ مُصَاهِرِ
فَمَا شِئْتَ مِنْ شَتْمٍ وَقَذْفٍ وَغِيبَةٍ
وَتَنْقِيصُهِم فِي كُلِّ نَادٍ لِفَاجِرِ
وَأَعْيُنُهُمْ فِي فِعْلِ ذَاكَ قَرِيرَةٌ
فَمِنْ صَامِتٍ فِي فِعْلِهِ أَوْ مُجَاهِرِ
وَمَنْ قَامَ بِالإِنْكَارِ فَهُوَ مُشَدِّدٌ
يَكَادُونَ أَنْ يُبْدُوهُ فَوْقَ الْمَنَابِرِ
فَإِنْ يَحْكُموا بِالسَّوْطِ ضَرْباً فَإِنْ يَكُنْ
رُجُوعٌ وَإِلا بِالضُّبَا وَالْخَنَاجِرِ
وَأَصْبَحَ ذُو الإِيمَانِ فِيهِمْ كَقَابِضٍ
عَلَى الْجَمْرِ أَوْ فِي الْجَنْبِ صَلي الْمَجَامِرِ
وَإِخْوَانُه النُّزَّاعُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
لَدَى أَهْلِهَا فِي ذُلِّهِمْ كَالأَصَاغِرِ
وَمَا زَادَهُمْ إِلا ثَبَاتاً مَعَ الرِّضَى
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لِلْمُهَيْمِنِ شَاكِرِ
فَأَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ عُصْبَةِ الْحَقِّ إِنَّهُمْ(6/408)
.. لِحِفْظِ نُصُوصِ الدِّينِ أَهْلُ تَنَاصِرِ
إِذَا مَا بَدَا نَصَّ الْكِتَابِ وَسُنَّةٍ
تَنَادَوا عِبَادَ اللهِ هَلْ مِنْ مُثَابِرِ
وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَاهْتَدُوا
وَمَا رَغِبُوا عَنْهَا لِخِرْصِ الْخَوَاطِرِ
عَلَيْكَ بِهَاتَيْكَ الصِّفَاتِ مُنَافِساً
فَللهِ مَا أَسْنَا سَنَاهَا لِسَائِرِ
هُمْ الْقَوْمُ لا يَثْنِيهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ
مَلامَةُ لُوَّامٍ وَخُذْلانُ نَاصِرِ
بِنَفْسِي فَتَى مَا زَالَ يَدْأَبُ دَائِماً
إِلى رَبِّهِ أَكْرِمْ بِهِ مِنْ مُهَاجِرِ
مُكِبّاً عَلَى أَيِ الْكِتَابِ وَدَرْسِهِ
بِقَلْبٍ حَزِينٍ عِنْدَ تِلْكَ الزَّوَاجِرِ
فَيَا لَيْتَنِي أَلْقَاهُ يَوْماً لَعَلَّهُ
يُخَبِّرُنِي عَمَّا حَوَى فِي الضَّمَائِرِ
وَنَرْفَعُ أَيْدِينَا إِلى اللهِ بِالدُّعَا
لِيَنْصُرَ دِينَ الْمُصْطَفَى ذِيِ الْمَفَاخِرِ
وَيَنْصُرَ أَحْزَابَ الشَّرِيعَةِ وَالْهُدَى
وَيَقْمَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ مِنْ كُلِّ فَاجِرِ
فَآهٍ عَلَى تَفْرِيقِ شَمْلٍ فَهَلْ لِمَا
مَضَى عَوْدَةٌ نَحْوَ السِّنِينِ الْغَوَابِرِ(6/409)
.. عَسَى نَصْرَةٌ لِلدِّينِ تَجْمَعُ شَمْلَنَا
تَقرُّ بِهَا مِمَّا تَرَى عَيْنُ نَاظِرِ
فَيَرْتَاحُ أَهْلُ الدِّينِ فِيهَا أَعِزَّةً
وَأَعْدَاؤُهُ تَحْتَ الْقَنَا وَالْحَوَافِرِ
وَأَخْتِمُ نَظْمِي بِالصَّلاةِ مُسَلِّماً
مَدَى الدَّهْرِ مَا نَاضَتْ بُرُوقُ الْمَوَاطِرِ
عَلَى أَحْمَدٍ وَالآلِ وَالصَّحْبِ الذِي
لَهُمْ تَابِعٌ يَسْعَى بِفِعْلِ الأَوَامِرِ
اللَّهُمَّ لا تَجْعَل الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إِلى النَّارِ مَصِيرَنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يَخَافُكَ وَلا يَرْحَمُنَا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُّبَ وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
78- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ التَّرْغِيبُ فِي الدَّعْوَةِ إِلى الْخَيْرِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلى هُدَى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُص ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثُمَّ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» . رَوَاهُ مُسْلِم، وَأَبُو دَاودَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.(6/410)
79- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ حَثُّ الْمَرْءِ عَلَى انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْحَيَاةِ لِعَمَلِ مَا يَنْفَعُهُ فِي الآخِرَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَقَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} .
80- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى وُجُوبِ الاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ، ثُمَّ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِح، لا عَلَى مَالِهِ مِنْ صِلَةٍ بِالْمُقَرَّبِينَ إِلى اللهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا صَفِيَّةُ عمةُ رَسُولِ اللهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
81- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ الأَمْرُ بِتَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالإِصْلاحِ فَيُلْزِمُهَا بِأَدَاءِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالآيَاتُ فِي الْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى كَثِيرَةٌ.
82- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ يَجْعَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صِلَةٍ دَائِمَةٍ بِرَبِّهِ، حِينَ تَفِدُ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وَحِينَ تَنْزِلُ بِهِ الشِّدَّةُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِن إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
شِعْرًا: ... أَيَا ابْنَ آدمَ لا تَغْرُرْكَ عَافِيَةٌ ... عَلَيْكَ شَامَلةٌ فَالْعُمْرُ مَعْدُودُ
مَا أَنْتَ إِلا كَزَرْعٍ عِنْدَ خُضْرَتِهِ ... بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأَوْقَاتِ مَقْصُودُ ِ
فَإِنْ سَلِمْتَ مِن الآفَاتِ أَجْمَعِهَا ... فَأَنْتَ عِنْدَ كَمَالِ الأَمْرِ مَحْصُودُ(6/411)
83- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ يَحُثُّ الْخَلْقَ، وَيُوَجِّههم إِلى إِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ وَيُبَيِّن لَهُمْ كَيْفَ يُحَرِّرُونَ عُقُولَهم، وَيَسْمُونَ بِهَا عَنْ مَهَاوِي الضَّلالِ، إِلى أَنْ يَخُصُوا اللهَ جَلَّ وَعَلا بِالْعِبَادَةِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ كَيْفَ يَصْقُلُونَ نُفُوسَهُمْ، وَيُغذُّونَ أَرْوَاحَهُمْ بِالصَّلاةِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَيُوَضِّحَ لَهُمْ كَيْفَ يُطَهِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ بِأَدَاءِ حَقِّ اللهِ، وَكَيْفَ يَبْنُونَ الأُسْرَةَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي هِيَ نَوَاةُ الْمُجْتَمَعِ عَلَى أُسُسِ سَلِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَذَلِكَ بِتَوَاصُلِهم، وَمَعْرِفَتِهِمْ لِحَقِّ قَرَابَتِهِمْ، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَالَهُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَبٌ مَالَهُ تَعْبِدُ اللهِ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ» . الْحَدِيث رَوَاهُ الشَّيْخَان.
84- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ لِمَنْ يَعْلَمُ، وَتَحْرِيمُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي تُعَطِّلُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ وَتَحْرِيمُ الْقَوْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمِنَ الْغَايَاتِ الَّتِي حَرَصَ الإِسْلامُ عَلَى تَحْقِيقِهَا أَنْ يُقِيمَ الْمُجْتَمَعَ الإِنْسَانِي عَلَى أُسُسٍ قَوِيَّةٍ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَنْ تَسُودَ أَعْضَاءَهُ رُوحُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّعَاونِ الْمُثْمِرِ، وَيَسْلَمُ مِنْ عَوَامِلِ الضَّعْفِ. فَعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزَعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ، وَيَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ يَا غَافِرَ الذَّنْبِ وَقَابِلَ التَّوْبِ شَدِيدَ الْعَقَابِ ذِا الطَّوْلِ لا إِله إِلا أَنْتَ إِلَيْكَ الْمَصِير.(6/412)
نَسْأَلُكَ أَنْ تُذِيقَنَا برْدَ عَفْوِكَ، وَحَلاوَة رَحْمَتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَرْأَفَ الرَّائِفِينَ وَأَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهلنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.
(فَصْلٌ)
85- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ شِهَادَةِ الزُّورِ، وَقَوْلِ الزُّورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الأَضْرَارِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي مِنْهَا بَيْعُهُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُه إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتَهُ إِلى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُهُ إِلى الْقَاضِي بِإِضْلالِهِ عَنِ الْمَحَجَّةِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُهُ إِلى الأُمَّةِ بِزَلْزَلَةِ الْحُقُوقِ فِيهَا، وَعَدَمِ الاطْمِئْنَانِ عَلَيْهَا.
86- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ إِبْطَالُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَحْرِيمُهُ، وَهُمَا الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» .
87- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ فِي الْمُصِيبَاتِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعاَ بِدَعْوَى الْجَاهِليَّةِ» .
88- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ الإِسْتِيلاءِ عَلَى الْمَاءِ الذِي لا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ، وَمَنْعِهِ ابنَ السَّبِيلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلاةٍ يَمْنَعُه ابنَ السَّبِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ فِيهِ: «وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ،(6/413)
فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي، كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» .
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانَ هَادِماً لِلسَّيِّئَاتِ كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ هَادِماً لِلْحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفيتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأجَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) 89- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُحَرِّمُ الاعْتِدَاءِ أَوْ النَّيْلَ مِنَ النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْعقلِ، وَكُلَّ جَرِيمَةٍ مِنْ جَرَائِمِ الاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا عُقُوبةٌ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، وَالأَخْلاقُ الإِسْلامِيَّةُ مِنْ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ وَالْعِفَّةِ وَغَيْرِهَا، لَيْسَتْ أُمُوراً كَمَالِيَّةً فِي نَظَرِ الإِسْلامِ، كَمَا يَتَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ هِيَ وَاجِبَاتٌ يَحْرِصُ عَلَيْهَا وَمُعَرَّضٌ كُلُّ مَنْ يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَتِهَا بِأَنَّهُ سَيَقْتَصُّ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَتَدَارَكْ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مِنَ الْمُفْلِسُ)) ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاع. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسِ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَل مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) . رَوَاهُ مُسْلِم.
90- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُرْشِدُ مُعْتَنِقَهُ إِلى أَنَّ صَلاحَ حَيَاتِهِ يَتَطَلَّبُ مِنْهُ أَنْ يَكُوَن عَفّاً فِي كَلامِهِ، فَلا يَغْتَابُ، وَلا يُنِمُّ، وَلا يَسُبُّ، وَلا يُقْذِفُ مُسْلِماً، وَلا يَلْعَنُهُ، وَلا يَسْتَهْزِئُ بِهِ، وَلا يَفْتَرِي، وَلا يَكْذِبُ، عَنْ(6/414)
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» .
91- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يَحُثُّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِه، وَأَنْ لا يَدَّخِرَ جُهْداً فِي تَوْجِيهِ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ، وَكُلِّ مَنْ تَرْبُطُهُمْ بِهِ صِلَةٌ وَثِيقَةٌ إِلى الْخَيْرِ، وَوَسِيلَتُهُ إِلى هَذَا التَّوْجِيهِ هِيَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ.
92- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الأَمْرُ بِالْحَيَاءِ الذِي هُوَ أَصْلُ كُلُّ فَضِيلَةٍ، وَعِصْمةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَحْيُوا مِن اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحِي وَالْحَمْدُ للهِ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنْ الاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكر الْمَوْتَ وَالْبَلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَد صَحِيح.
93- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ شَيْءٍ فِيهِ رُوحٌ غَرَضاً يُرْمَى إِلَيْهِ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ نَصَبُوا طَيْراً وَهُمْ يَرْمُونَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ابنَ عُمَر تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَل هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً.
94- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ بِيعِ الْحُرِّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَعَالى ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ(6/415)
غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوفِّهِ أَجْرَهُ» .
95- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَل، وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ. للحديث المتقدم.
96- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ السِّحْرِ، وَتَحْرِيمُ تَصْدِيقِ الْكَاهِنِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطِيِّر لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكِهَّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
97- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الْقِيَادَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّة سَوَاءً كَانَ الْجَامِعُ رَجُلاً أَوْ امْرَأَةٌ.
98- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ السِّعَايَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِمَضَرَّةِ مُسْلِمٍ.
99- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ غَصْبِ الْمَالِ، لأَنَّهُ نُوعٌ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ.
100- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ غَصْبِ الْمَالِ، لأَنَّهُ نُوعٌ مِنَ الظُّلْمِ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
101- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى الاسْتِقَامَةِ، الَّتِي هَيِ الاعْتِدَالُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ، مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِ الأَحْوَالِ، الَّتِي تَكُونُ بِهَا النَّفُسُ عَلَى أَفْضَلِ حَالَةٍ وَأَكْمَلِهَا، فَلا يَظْهَر مِنْهَا قَبِيح، وَلا يَتَوَجَّه إِلَيْهَا ذَمٌّ، وَلا لَومٌ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الْقَوِيم، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ مَعَ التَّخَلُّقِ بِالأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا(6/416)
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» .
102- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ مَا حَرَّمَ شَيْئاً عَلَيْهِمْ إِلا عَوَّضَهُمْ خَيْراً مِنْهُ مِمَّا يَسُدُّ مَسَدَّهُ وَيُغْنِي عَنْهُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ابنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الاسْتِقْسَامَ بِالأزْلامِ، وَعَوَّضَهُمْ مِنْهُ دُعَاءَ الاسْتِخَارَةِ.
103- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا، وَعَوَّضَهُمْ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ.
104- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْقِمَارَ، وَأَعَاضَهُمْ مِنْهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ وَالإِبْلِ وَالسِّهَامِ.
105- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْحَرِيرَ، وَأَعَاضَهُمْ مِنْهُ أَنْوَاعَ الْمَلابِسِ الْفَاخِرَةِ مِن الصُّوفِ وَالْكِتَّانِ وَالْقِطْنِ.
106- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُرْبَ الْمُسْكِراتِ، وَأَعَاضَهُمْ عَنْهُ بِالأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ، النَّافِعَةِ لِلرِّوْحِ وَالْبَدَنِ.
107- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ مِن الْمَطْعُومَاتِ، وَأَعَاضَهُمْ عَنَّهَا بِالْمَطَاعِمِ الطَّيباتِ، وَهَكَذَا إِذَا تَتَبَّعْنَا تَعَالِيمَ الإِسْلامِ كُلَّهَا، وَجَدْنَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى عِبَادِهِ فِي جَانِبٍ، إِلا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي جَانِبٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
108- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْبَوَاعِثَ الْكَرِيمَةَ وَالْقَصْدَ الشَّرِيفَ وَالنِّيَةَ الطِّيبةَ، في تَشْرِيعَاتِهِ وَتَوْجِيهَاتِهِ كُلِّهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ(6/417)
وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَبِالنِّيَةِ الطَّيِّبَةِ تَنْقَلِبُ الْمُبَاحَاتُ وَالْعَادَاتُ إِلى طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ إِلى اللهِ، فَمَنْ تَنَاوَلَ غَذَاءَهُ بِنِيَّةِ حِفْظِ حَيَاتِهِ وَتَقْوِيَةِ جَسَدِهِ لِيَسْتَطِيعَ الْقِيَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ رَبِّهِ مِنْ حُقُوقٍ وَتَكَالِيفَ لأَهْلِهِ وَأَوْلادِهِ، كَانَ طَعَامُه وَشَرَابُه مَعَ النِّيَةِ الصَّالِحَةِ عِبَادَةً وَمَنْ أَتَى شَهْوَتَهُ مَعَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَهُ يَقْصِدُ إِعْفَافَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَابْتِغَاءَ ذُرِيَّةً صَالِحَةً، كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً تَسْتَحِقُّ الْمَثُوبَةَ وَالأَجْرَ مِنَ اللهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» . قَالُوا: يَا رَسُولُ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ إِنْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها فِي حَلالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» .
109- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ شِرَاءَ مَا غُصِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ أُخِذَ مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقِّ لأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُعِيناً لِلْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَالآخِذِ، وَهَذَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا سِرْقَةٌ، وَلَوْ طَالَ زَمَنُ غَصْبِهِ أَوْ سِرْقَتِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ أَوِ النَّاهِبِ، فَإِنَّ طُولَ الزَّمَنِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلامِيَّةِ، لا يَجْعَلُ الْحَرَامَ حَلالاً، وَلا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَالِكِ الأصلي بالتَّقَدُّم. وَهَذَا أَيْضاً مِنْ مَحَاسِنِهِ.
110- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الرِّبَا، لأَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَض، لأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِرْهَماً بِدِرْهَمَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَض، وَمَالُ الإِنْسَانِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. ثَانِياً: اسْتِعمَالُ الرِّبَا يُفْضِي إلى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ. ثَالِثاً: يَمْنَعُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ تِجَاهَ الاكْتِسَابِ، فَلا يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلى انْقِطَاعِ مِنَافِعِ الْخَلْقِ،(6/418)
وَتَكْسِيلِهِمْ عَنِ الْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ، وَقَدْ لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَه وَكَاتِبَه وَشَاهِدَيْه.
مَوْعِظَة:
عِبَادَ اللهِ إِنَّ مَا سَمِعْتُمْ مِنْ الْمَحَاسِنِ نُقْطَةٌ مِنْ بَحْرِ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي الذِي جَمَعَ اللهُ بِهِ فِرْقَةَ الْعَرَبِ وَشَتَاتَهُمْ وَوَحَّد بِهِ قُلُوبَهُمْ وَصُفوفَهم، وَهَذَّبَ طِبَاعَهُم وَأَخْلاقَهُم، حَتَّى أَوْجَدَ مِنْهُمْ أمةً شَدِيدَةَ الْبَأْسِ، وَاسِعَةَ السُّلْطَانِ، مَلَكَتْ نَاصِيَةَ الأَرْضِ، وَنَشَرَتْ عَلَّمَ الإِسْلامِ فِي نَوَاحِيهَا، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ، وَقَالَ: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} .
دِينٌ نَشَرَهُ اللهُ فِي أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَةِ كَالشَّمْسِ الضَّاحِيَةِ، لا يُحْجَبُ شَعَاعُهَا، وَكَالْقَمَرِ الزَّاهِرِ، لا يَخْفَى ضَوْءُهُ، وَلا يَخْسُفُ نُورُه.
دِينٌ تَرَى أَعْدَاءَهُ مُبْغِضِيهِ يَقْتَرِبُونَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ وَمِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونُ، لأَنَّهُمْ بِمُخْتَرَعَاتِهِمْ وَعُلُومِهِمْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنَّهُمْ بِهِ يَشْهَدُونَ، قَالَ تَعَالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} دِينٌ يَكِيدُ لَهُ أَعْدَاؤُهُ وَحُسَّادُهُ مِنْ يَوْمِ أُنْزِلَ، وَهُوَ كَمَا تَرَى لَمْ يُطْفَأْ لَهُ نُورٌ، وَلَمْ يَضْعُفْ لَهُ بُرْهَانٌ قَالَ تَعَالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُ حَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الدِّينَ الإِسْلامِي يَحْتَوِي عَلَى خَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَنَعِيمِ الَْاجِلَةِ وَالآجِلَةِ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلا حَثَّ عَلَيْهَا، وَمَا مِنْ رَذِيلَةٍ إِلا نَفَرَ مِنْهَا، فَإِذَا اعْتَصَمْتَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَحَرِصْتَ عَلَى الْعَمَلِ(6/419)
بِأَحْكَامِهِ، وَالتَّحَلِّي بِآدَابِهِ، عِشْتَ سَعِيداً، وَمُتَّ سَعِيداً حَمِيداً.
وَقَالَ ابن الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى:
هَذَا وَنَصْرُ الدِّينِ فَرْضٌ لازِمٌ
لا لِلْكِفَايَةِ بَلْ عَلَى الأَعْيَانِ
بِيَدٍ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَإِنْ عَجَزْ
تَ فَبِالتَّوَجُّهِ وَالدُّعَا بِجِنَانِ
مَا بَعْدَ ذَا وَاللهِ للإِيمَانِ حَبَّـ
ـةُ خَرْدَلٍ يَا نَاصِرَ الإِيمَانِ
بِحَيَاةِ وَجْهِكَ خَيْرَ مَسْؤُولٍ بِهِ
وَبِنُورِ وَجْهِكَ يَا عَظِيمَ الشَّانِ
وَبِحَقِّ نَعْمَتِكَ الَّتِي أَوْلَيْتَهَا
مِنْ غَيْر مَا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ
وَبِحَقِّ رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ جَمِيـ
ـعَ الْخَلْقِ مُحْسِنَهُمْ كَذَاكَ الْجَانِي
وَبِحَقِّ أَسْمَاءٍ لَكَ الْحُسْنَى مَعاً
فِيهَا نُعُوتُ الْمَدْحِ لِلرَّحْمَنِ
وَبِحَقِّ حَمْدِكَ وَهُوَ حَمْدٌ وَاسِعُ الْـ
أَكْوَانِ بِلْ أَضْعَافُ ذِي الأَكْوَانِ
وَبِأَنَّكَ اللهُ الإِلَهُ الْحَقُّ مَعْـ
ـبُودُ الْوَرَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ ثَانِ
بَلْ كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاكَ فَبَاطِلٌ
مِنْ دُونِ عَرْشِكَ لِلثَّرَى التَّحْتَانِي(6/420)
.. وَبِكَ الْمُعَاذُ وَلا مَلاذَ سِوَاكَ أَنْـ
ـتَ غِيَاثُ كُلِّ مُلَدَّدٍ لَهْفَانِ
مَنْ ذَاكَ لِلْمُضْطَرِ يَسْمَعُهُ سِوَا
كَ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ مَعَ الْعِصْيَانِ
إِنَّا تَوَجَّهْنَا إِلَيْكَ لِحَاجَةٍ
تُرْضِيكَ طَالِبُهَا أَحَقَّ مُعَانِ
فَاجْعَلْ قَضَاهَا بَعْضَ أَنْعُمِكَ الَّتِي
سَبَغَتْ عَلَيْنَا مِنْكَ كُلَّ زَمَانِ
انْصُرْ كِتَابَكَ وَالرَّسُولَ وَدِينَكَ الْـ
ـعَالِي الذِي أَنْزَلْتَ بِالْبُرْهَانِ
وَاخْتَرْتَهُ دِيناً لِنَفْسِكَ وَاصْطَفَيْـ
ـتَ مُقِيمَهُ مِنْ أمَّةِ الإِنْسَانِ
وَرَضِيتَهُ دِيناً لِمَنْ تَرْضَاهُ مِنْ
هَذَا الْوَرَى هُوَ قَيِّمُ الأَدْيَانِ
وَأَقِرَّ عَيْنَ رَسُولِكَ الْمَبْعُوثِ بِالدِّ
ينِ الْحَنِيفِ بِنَصْرِهِ الْمُتَدَانِ
وَانْصُرْهُ بِالنَّصْرِ الْعَزِيزِ كَمِثْلِ مَا
قُدْ كُنْتَ تَنْصُرُهُ بِكُلِّ زَمَانِ
يَا رَبُّ وَانْصُرْ خَيْرَ حِزْبَيْنَا عَلَى
حِزْبِ الضَّلالِ وَعَسْكَرِ الشَّيْطَانِ
يَا رَبُّ وَاجْعَلْ شَرَّ حِزْبَيْنَا فِداً(6/421)
.. لِخِيَارِهِمْ وَلِعَسْكَرِ الْقُرْآنِ
يَا رَبُّ وَاجْعَلْ حِزْبَكَ الْمَنْصُورَ أَهْـ
ـلَ تَرَاحُمٍ وَتَوَاصُلٍ وَتَدَانِ
يَا رَبُّ وَارْحَمْهُمُ مِن الْبِدَعِ الَّتِي
قَدْ أُحْدِثَتْ فِي الدِّينِ كُلَّ زَمَانِ
يَا رَبُّ جَنِّبْهُمْ طَرَائِقَهَا الَّتِي
تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلى النِّيرَانِ
يَا رَبُّ وَاهْدِهِمْ بِنُورِ الْوَحْيِ كَيْ
يَصِلُوا إِلَيْكَ فَيَظُفَرُوا بِجِنَانِ
يَا رَبُّ كُنْ لَهُمْ وَلِيّاً نَاصِراً
وَاحْفَظْهُمُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَتَّانِ
وَانْصُرْهُمْ يَا رَبُّ بِالْحَقِّ الذِي
أَنْزَلْتَه يَا مُنْزِلَ الْقُرْآنِ
يَا رَبُّ إِنَّهُمُ الْغُرَبَاءُ قَدْ
لَجَؤُا إِلَيْكَ وَأَنْتَ ذُو الإِحْسَانِ
يَا رَبُّ قَدْ عَادُوا لأَجْلِكَ كُلَّ هَـ
ـذَا الْخَلْقِ إِلا صَادِقَ الإِيمَانِ
قَدْ فَارَقُوهُمْ فِيكَ أَحْوَجَ مَا هُمُ
دُنْياً إِلَيْهِمْ فِي رِضَى الرَّحْمَنِ
وَرَضُوا وَلايَتَكَ الَّتِي مِنْ نَالَهَا
نَالَ الأَمَانَ وَنَالَ كُلَّ أَمَانِ(6/422)
.. وَرَضُوا بِوَحْيِكَ مِنْ سِوَاهُ وَمَا ارْتَضَوْا
بِسوَاهُ مِنْ آرَاءِ ذِي الْهَذَيَانِ
يَا رَبُّ ثَبِّتْهُمْ عَلَى الإِيمَانِ وَاجْـ
ـعَلْهُمُ هُدَاةَ التَّائِهِ الْحَيْرَانِ
وَانْصُرْ عَلَى حِزْبِ النَّفَاةِ عَسَاكِرَ الْـ
إِثْبَاتِ أَهْلَ الْحَقِّ وَالْعِرْفَانِ
وَأَقِمْ لأَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الـ
أَنْصَارَ وَانْصُرْهُمُ بِكُلِّ زَمَانِ
وَاجْعَلْهُمُ لِلْمُتَّقِينَ أَئِمَّةً
وَارْزُقْهُمُ صَبْراً مَعِ الإِيقَانِ
تَهْدِي بِأَمْرِكَ لا بِمَا قَدْ أَحْدَثُوا
وَدَعَوْا إِلَيْهِ النَّاسَ بِالْعُدْوَانِ
وَأَعِزَّهُمْ بِالْحَقِّ وَانْصُرْهُمْ بِهِ
نَصْراً عَزِيزاً أَنْتَ ذُو السُّلْطَانِ
وَاغْفِرْ ذُنُوبَهُمُ وَأَصْلِحْ شَأْنَهُمْ
فَلأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ
وَلَكَ الْمَحَامِدُ كُلَّهَا حَمْداً كَمَا
يُرْضِيكَ لا يَفْنَى عَلَى الأَزْمَانِ
مِمَّا تَشَاءُ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ
حَمْداً بِغَيْرِ نِهَايَةٍ بِزَمَانِ
وَعَلَى رَسُولِكَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَالتَّـ(6/423)
.. ـسْلِيمِ مِنْكَ وَأَكْمَلِ الرِّضْوَانِ
وَعَلَى صَحَابَتِهِ جَمِيعاً وَالأَلى
تَبَعُوُهمُ ُمِنْ بَعْدُ بِالإِحْسَانِ
وختاماً فإليك كلمة موجزة قالها أحد العلماء
أَرْسِلْ طَرْفَكَ إِلى نَشْأَةِ الأُمَّةِ وَتَبَيَّنْ أَسْبَابَ نُهُوضِهَا الأَوَّلَ فَتَرَى أَنَّ مَا جَمَعَ كَلِمَتَهَا وَأَنْهَضَ هِمَمَ آحَادِهَا وَلَحَّمَ بَيْنَ أَفْرَادِهَا وَصَعَدَ بِهَا إِلى مَكَانَةٍ
تُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى رُؤُوسِ الأُمَمِ وَتَسْوسُهُمْ وَهِيَ فِي مَقَامِهَا بِدَقِيقِ حِكْمَتِهَا إِنَّمَا هُوَ (دِينٌ) قَوِيمُ الأُصُولِ مُحْكِمُ الْقَوَاعِدِ شَامِلٌ لأَنْوَاعِ الْحكْمِ بَاعِثٌ عَلَى الألفَةِ دَاعٍ إِلى الْمَحَبَّةِ مُزَكٍّ لِلنُّفُوسِ مُطَهِّرٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ أَدْرَانِ الْخَسَائِسِ مُنُوِّرٌ لِلْعُقُولِ بِإِشْرَاقِ الْحَقِّ مِنْ مَطَالِعِ قَضَايَاهُ كَافِلٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ مَبَانِي الاجْتِمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَحَافِظٌ وُجُودَهَا وَيُنَادِي بِمُعْتَقَدِيهِ إِلى جَمِيعِ فُرُوعِ الْمَدِينَةِ الصَّحِيحَةِ، انْظُرْ إِلى التَّارِيخِ قَبْلَ بِعْثَةِ الدِّينِ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهَمَجِيَّةِ وَالشَّتَاتِ وَإِتْيَانِ الدَّنَايَا وَالْمُنْكَرَاتِ حَتَّى إِذَا جَاءَهَا الدِّينُ وَحَّدَهَا وَقَوَّاهَا وَهَذَّبَهَا وَنَوَّرَ عُقُولَهَا وَقَوَّمَ أَخْلاقَهَا وَسَدَّدَ أَحْكَامَهَا فَسَادَتْ عَلَى الْعَالَمِ وَسَاسَتْ مَنْ تَوَلَّتْهُ بِالْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ. أهـ.
اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرَكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بَأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكَ عَلَيْنَا جَمِيلَ سِتْرِكَ وَامْنُن عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِنَّا مِنْ عَقَابِكَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلِ فِيمَا وَلَيْتَنَا عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ دُنْيَا تَمْنَعُ خَيْرَ الآخِرَة وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ حَيَاةٍ تَمْنَعُ خَيْرَ الْمَمَاتْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ أَمَلٍ يَمْنَعُ خَيْرَ الْعَمَلْ وَنَسْأَلَكَ أَنْ تَنَوِّرَ قُلُوبَنَا وَتُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.(6/424)
(فَصْلٌ)
في ذكر بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
عِبَادَ اللهِ لَما كَانَتْ مُعْجِزَاتُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَارٌ
تُشْرِقُ عَلَى الْقُلُوبِ الطَّافِحَةِ بِالإِيمَانِ وَتَزِيدُهَا قُوَّةً وَثَبَاتاً وَاسْتِقَامَةً أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا وَاللهُ الْمَسْؤُولُ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا خَالِصاً لِوَجْهِهِ الْكَرِيم.
وَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنّ اللهَ قَدْ جَمَعَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَوَارِقِ. أَمَّا الْعِلْمُ وَالأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ وَالسَّمَاعُ وَالرُّؤْيَةُ.
1- فمثل إِخْبَارِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينْ وَأُمَمِهِمْ.
2- وَمُخَاطَبَتِهِ لَهُمْ وَأَحْوَالِهِ مَعَهُمْ.
3- وَكَذَلِكَ إِخْبَارِه عَنْ أُمُورِ الرَّبوية وَالْمَلائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِمَا يُوَافِقُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ مِنْهُمْ، وَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنَقُول الأَنْبِيَاءِ تَارَةً بِمَا فِي أَيدِيهِمْ مِن الْكُتُبِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ.
4- وَتَارَةً بِمَا يَعْلَمُهُ الْخَاصَّةُ مِن عُلَمَائِهِمْ.
5- فَإِخْبَارُهُ عَن الأُمُورِ الْغَائِبَةِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ.
6- وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الأُمُورِ الْمثسْتَقْبَلَةِ.
7- مِثْلَ مَمْلَكَةِ أُمَّتِهِ.
8- وَزَوَالِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ.
9- وَالرُّومِ.(6/425)
10- وَقِتَالِ التُّرْكِ وَأُلُوف مُؤلَّفَةٍ مِنَ الأَخْبَارِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ وَالتَّأْثِيرْ.
11- فَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ.
12- وَكَذَا مِعْرَاجُهُ إِلى السَّمَاوَاتِ.
13- وَكِثْرَةُ الرَّمْي بِالنُّجُومِ عِنْدَ ظُهُورِهِ.
14- وَكَذَا إِسْرَاؤُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.
15- وَتَكْثِيرُ الْمَاءِ فِي عَيْنِ تَبُوكَ.
16- وَعَيْنِ الْحُدَيْبِيَةِ.
17- وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
18- وَكَذَا تَكْثِيرُ الطَّعَامِ. وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ بَعْضُهَا مُوَضَّحاً مُفَصَّلاً قَرِيباً.
19- وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِياً أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» .
فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُومِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَانْقَادَتْ كَذَلِكَ(6/426)
حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْتَصَف فِيمَا بَيْنَهُمَا فلآمَ بَيْنَهُمَا حَتَّى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: «الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَالْتَأَمَتَا عَلَيْهِ.
فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِي فَتَبَاعَدَتْ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث.
20- وَمِنْهَا أَنَّهَا انْكَسَرَتْ رِجْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتَيْك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَمَا قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ الذِي يُؤْذِي النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فقَالَ لِي: «ابْسِطْ رِجْلَكَ» . فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُ.
21- وَقِصَّةُ أمِّ مَعْبَدٍ مَشْهُورَةٌ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِهَا طَلَبَ لَبَناً أَوْ لَحْماً يَشْتَرُونَهُ وَكَانُوا مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئاً قَطُ فَنَظَرَ إِلى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخِيمَةِ خَلَّفَهَا الْجُهْدُ عَن الْغَنَمِ، فَسَأَلَهَا: «هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ» ؟ فَقَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، فقَالَ: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا» ! فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْباً.
فَدَعَا بِالشَّاةِ فَاعْتَقَلَهَا وَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ وَدَعَا بِإِنَاءٍ يُشْبِعُ الرَّهْطَ فَحَلَبَ حَتَّى مَلأَهُ وَسَقَى الْقَوْمَ حَتَّى زَوَوْا ثُمَّ شَرِبَ آخِرُهُمْ ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى عَللاً بَعْدَ نهلٍ ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا وَذَهَبُوا فَجَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ قَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ أَنَّى لَكِ هَذَا وَالشَّاةُ عَازِبٌ حِيَالٌ وَلا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ فَقَالَتْ: لا وَاللهِ إِلا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ فقَالَ: صِفِيهِ فَوَصَفَتْهُ لَهُ، وَذَلِكَ فِي طَرِيقِ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ.(6/427)
وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ الأَبْيَاتُ الْمَشْهُورَةُ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرِفْنَا حَيْثُ وَجَّه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُشِيرُ إِلى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنِّ مِنْ أَسَفْلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ وَأَنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَه وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُول:
جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ
رَفِيقَيْنِ حَلا خَيْمَتِي أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزلا بالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا
فَأَفْلَحَ مِنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ
وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمِرْصَدِ
سَلُو أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا
فَإِنَّكُمُوا إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ
لَهُ بِصَرِيحِ ضَرَّةِ الشَّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهُ رَهْناً لَدَيْهَا لِحَالِبٍ
يُدِرُّ لَهَا فِي مَصْدَرِ ثُمَّ مَوْرِدِ
فَلَمَّا سَمِعَ حَسَّانُ بنُ ثَابت أَنْشَأَ يَقُولُ مُجِيباً لِلْهَاتِفِ:
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُم
وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي(6/428)
تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَظَلَّتْ عُقُولُهُمْ
وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ رَبُّهُمْ
وَأَرْشَدَهُمْ مَن يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُدِ
وَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْل يَثْرِب
رِكَابُ هُدىً حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِِ
نَبِيُّ يَرَى ما لا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ
وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ
فَتَصْدِيقَهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جِدِّه
بِصُحْبَته مَنْ يُسْعِدِ اللهُ يَسْعَدِ
22- وفي الترمذي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلا جَبَلٌ إِلا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ) . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحه.
23- وَجاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: بِمَ أَعْرَفُ أَنَّكَ نَبِي؟ قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولَ اللهِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِن النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ» . فَعَادَ فَأَسْلَم الأَعْرَابِيُّ.(6/429)
شِعْرًا: ... تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
آخر: ... عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخِصَاتٌ ... بأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَأَنَّ مُحَمَّداً خَيْرُ الْبَرَايَا ... إِلى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعاً لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
24- وَلَمَّا بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَدْرٍ فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَسِيراً قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنْتُ مُسْلِماً فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِإِسْلامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا فَافْتَدِ نَفْسَكَ وَابْنِي أَخَوَيْكَ» . قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا ذَاك عِنْدِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ الْمَالُ الذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأَمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ الذِي دَفَنْتُهُ لِبَنِي الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللهِ وَقُثَمّ» .
قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ.. إلخ.(6/430)
25- وَقِصَّةُ ارْتِجَافِ أُحُدٍ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعَدَ أُحُداً وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَثْبتْ أُحُدٌ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَان)) .
26- وَقِصَّةُ مَاءِ الرَّكْوَةِ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ يتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: «مَا لَكُمْ» ؟ قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ جَابِرِ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قَالَ سالِم: قُلْتُ لِجَابِرِ كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً (1500) .
27- وَقِصَّةُ مَوْتِ النَّجَاشِيِّ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيْبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: «إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ لِلنَّجَاشِيِّ أَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ وَحُلَّةً وَإِنِّي لَا أَرَاه إِلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى إِلَّا الهَدِيَّة إِلا سَتُرَدُّ إليَّ، فَإِذا رُدَّتْ إِليَّ فَهِيَ لَكِ» . فكَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ اِلنَّجَاشِيّ ِوَرُدَّتْ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّتُهُ فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ المِسْكِ وَأَعْطَى سَائِرَهُ أُمَّ سَلَمَةَ.
28-وَقِصَّةُ عُكَّاشَةَ بنِ مِحْصَن بنِ حَرْثَانِ الأَسَدِيِّ حِينَمَا انْدَفَعَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيحَصْدُ ُفِيهِمْ حَصْداً حَتَّى انْكَسَرَ سَيْفُهُ فَلَمْ يَثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ خَوْضِ الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ كَسْرِ سَيْفِهِ مَعْذِرَةً عَن الْقِتَالِ فَجَاءَ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِكَسْرِ سَيْفِهِ وَإِرَادَةِ غَيْرِهِ(6/431)
فَدَفَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ جَذْلاً مِنْ حَطَبٍ فقَالَ لَهُ: ((قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ)) .
فَلَمَّا أَخَذَهُ عُكَّاشَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَزَّهُ فَعَادَ فِي يَدِهِ سَيْفاً صَارِمَ القَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ فَقَاتَلَ بِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى فَتَحَ اللهُ تَعَالى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ ذَلِكَ السَّيْفُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي قِتَالِ الرِّدَةِ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
29- وَقِصَّةُ عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ الْجُمَحِي وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ وَكَانَ عُمَيْرٌ شَيْطَاناً مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقُون مِنْهُ عِنَاءً وَهُوَ بِمَكَّةَ وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: فَذَكَرَ عُمَيْرٌ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ فَقََالَ صَفْوَانُ: وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ.
قَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللهِ أَما وَاللهِ لَوْلا دَينٌ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضَّيْعَة بَعْدِي لَرَكِبْتُ إِلى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ فَإِنْ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةٌ ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ: فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا لا يَسَعُنِي شَيْءٌ يَعْجَزُ عَنْهُمْ.
فقَالَ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَكَ قَالَ: أَفْعَلُ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَمَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ(6/432)
بَدْرٍ وَمَا أَكْرَمَهُمْ اللهُ بِهِ وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِذ نَظَرَ عُمَرُ إِلى عُمَيْرٍ بنُ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَه عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، مُتَوَشِّحاً السَّيْفَ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُ اللهِ وَاللهِ مَا جَاءَ إِلا لِشَر.
ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا عَدُوُ اللهِ عُمَيْرُ ابنُ وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحاً سَيْفَهُ. قَالَ: ((فَأَدْخِلْْهُ عَلَيَّ)) . فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبَّبَهُ بِهَا.
وَقَالَ لِرَجَالٍ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْلِسُوه عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَ الْخَبِيثِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَرْسِلْهُ)) . فَدَنَا عُمَيْرٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ» ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الذِي فِي أَيْدِيكُمْ فَأَحْسِنُوا فِيهِ يَعْنِي وَلَدَهُ قَالَ: ((فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنِقِكَ)) ؟ قَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ وَهَلْ أَغَنَتْ عَنَّا شَيْئاً قَالَ: «أُصْدُقْنِي مَا الذِي جَاءَ بِكَ» ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِذَلِكَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلا دِينٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّداً فَتَحَمَّل لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وِعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاللهُ حَائِلٌ بِيَنْكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ» .
فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنْ الْوَحْيِ وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ(6/433)
يَحْضُرْهُ إِلا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلا اللهُ فَالْحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ. ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ وَاقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ» . فَفَعَلُوا الخ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
شِعْراً:
فُؤادٌ مَا يَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ
وَأَجْفَانٌ مَدَامِعُهَا غِزَارُ
وَلَيْلٌ طَالَ بالأَنْكَادِ حَتَّى
ظَننتُ اللَّيْلَ لَيْسَ لَهُ نَهَارُ
وَلِمَ لا والتُّقَى حَلَّتْ عُرَاهُ
وَبَانَ عَلَى بَنِيهِ الإنْكِسَارُ
لِيَبْكِ مَعِي عَلى الدِّيْنِ الْبَوَاكِي
فَقَدْ أَضْحَتْ مَوَاطِنُه قِفَارُ
وَقَدْ هُدَّتْ قَوَاعِدُهُ اعْتِدَاءً
وَزَالَ بِذَاكُمُوا عَنْهُ الْوَقَارُ
وأَصْبَحَ لا تُقَامُ لَهُ حُدُودٌ
وَأَمْسَى لا يُبَنَّ لَهُ شِعَارُ
وَعَادَ كَمَا بَدَا فِينَا غَرِيباً
هُنَالِكَ مَالَهُ فِي الْخَلْقِ جَارُ
فَقَدْ نَقَضُوا عُهُودَهُمُوا جِهَاراً
وَأَسْرَفُوا فِي الْعَدَاوَةِ ثُمَّ سَارُوا(6/434)
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتَنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرَهُ وَيُزِيلَ مَا حَدَثَ مِن الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيَقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
30- وَقِصَّةُ حَنِينِ الْجَذْعِ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلاماً نَجَّاراً قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ)) . قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرَ الذِي صُنِعَ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطِبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَتْ تَئِنُ أَنِينَ الصَّبِيِّ الذِي يَسْكُتْ.
31- وَقِصَّةُ عُكَّةِ أُمِّ سُلَيِم لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَ: كَانَتْ لَنَا شَاةٌ جَمَعت مِنْ سَمْنِهَا فِي عُكَّةٍ فَمَلأَتِ الْعُكَّةِ ثُمَّ بَعَثَتَ بِهَا مَعَ رَبِيبَةٍ فَقَالَتْ: يَا رَبِيبَةُ فَبَلِّغِي هَذِهِ الْعُكَّةَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتَدِمْ بِهَا فَانْطَلَقَتْ بِهَا الرَّبِيبَةُ حَتَّى أَتَتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ عُكَّةُ سَمْنٍ بَعَثَتْ بِهَا إِلَيْكَ أُمُّ سُلَيْم فَقَالَ: ((أَفْرِغُوا لَهَا عُكَّّتَهَا)) . فَفُرِّغَتْ الْعُكَّةُ فَدُفِعَتْ إِلَيْهَا فَأَنْطَلَقَتْ بِهَا.(6/435)
وَجَاءَتْ وَأُمُّ سُلَيْم لَيْسَتْ فِي الْبَيْتِ فَعَلَّقَتْ الْعُكَّةَ عَلَى وَتَدٍ فَجَاءَتْ أُمُّ سَلَيْمٍ فَرَأَتْ الْعُكَّةَ مُمْتَلِئَةً تَقْطُرُ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْم: يَا رَبِيبَةُ أَلَيْسَ أَمَرْتُكِ أَنْ تَنْطَلِقِي بِهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقِينِي فَسَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلَقَتْ وَمَعَهَا الرَّبِيبَةُ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ مَعَهَا إِلَيْكَ بِعُكَّةٍ فِيهَا سَمْنٌ قَالَ: ((قَدْ فَعَلَتْ قَدْ جَاءَتْ)) . قَالَتْ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَدِينِ الْحَقِّ إِنَّهَا لَمُمْتَلِئَةٍ تَقْطُرُ سَمْناً قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَتَعْجَبِينَ إِنْ كَانَ اللهُ أَطْعَمَكِ كَمَا أَطْعَمَ نَبِيَّهُ كُلِي وَأَطْعِمِي» . قَالَتْ: فَجِئْتُ إِلى الْبَيْتِ فَقَسَمْتُ فِي قُعْبٍ لَنَا كَذَا وَكَذَا وَتَرَكْتُ فِيهَا مَا ائْتَدَمْنَا بِهِ شَهْرَيْنِ.
32- وَقِصَّةُ طِيْبِ عُتْبَةَ صَاحِبِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أُمُّ عَاصِمٍ امْرَأَةُ عُتْبَةَ بن فَرْقَد كُنَّا عِنْدَ عُتْبَةَ ثَلاثَ نِسْوَةٍ مَا مِنَّا وَاحِدَةٌ إِلا وَهِيَ تَجْتَهِدُ فِي الطِّيبِ لِتَكُونَ أَطْيَبَ مِنْ صَاحِبَتِهَا وَمَا يَمَسَّ عُتْبَةُ بنُ فَرْقَدٍ طِيباً إِلا أَنْ يَلْتَمِسَ دُهْناً وَكَانَ أَطْيَبَ رِيحاً مِنَّا فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ أَصَابَنِي الشَّرَى (حَكَّةٌ فِي الْجِلْدِ) عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْعَدَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَجَرَّدْتُ وَأَلْقَيْتُ ثِيَابِي عَلَى عَوْرَتِي فَنَفَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفِّهِ ثُمَّ دَلَّكَ بِهَا الأُخْرَى ثُمَّ أَمَرَهُمَا عَلَى ظَهْرِي فَعَبَقَ بِهَا مَا تَرَوْنَ.(6/436)
33- وَقِصَّةُ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلاةِ الْعِشَاءِ وَهَاجَتْ الظُّلْمَاءُ مِنْ السَّمَاءِ وَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَادَةَ بنَ النُّعْمَانِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَتَادَةُ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ عَلِمْتُ إِنَّ شَاهِدَ الصَّلاةِ اللَّيلةِ قَلِيلٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَشْهَدَهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا انْصَرَفْتَ فَأْتِنِي)) . فَلَمَّا انْصَرَفَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِرْجُوناً وَقَالَ: «خُذْهُ فَسَيُضِيءُ أَمَامَكَ عَشْراً وَخَلْفَكَ عَشْراً» .
34- وَقِصَّةُ أَبِي جَابِرٍ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تُوفِّيَ أَبِي شَهِيداً فِي أُحُدٍ وَعَلَيْهِ دِيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُرَمَائِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافاً الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَة وَعِذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ» .
(أَنْوَاعُ التَّمْرِ) .
«ثُمَّ أَرْسِلْ إِليَّ» . قَالَ جَابِرُ: فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ: ((كِلْ لِلْقَوْمِ)) . قَالَ جَابِرٌ: فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنْ لَمْ يَنْقَصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
35- وَقِصَّةُ حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكَّةَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجَدِّ وَالتَّهَيؤُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا» .(6/437)
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَسِيرِ، كَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَمْرِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَعْطَاه امْرَأةً وَجَعَلَ لَهَا عَطَاءً عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشاً فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا (جَدَائِلَهَا) .
وأتى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فقَالَ: ((أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلى قُرَيْشٍ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ)) .
فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْخَلِيقَةِ (اسْمُ مَوْضِعٍ) فَاسْتَنْزَلاهَا فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئاً فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا كَذَبْنَا وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ.
فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُمَا قَالَتْ: أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِباً فَقَالَ: ((يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا)) .
فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيَّرتُ(6/438)
وَلا بَدَّلْتُ وَلَكِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ لي في الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلا عَشِيرَةٍ وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهم عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي فَلأَضْرِبُ عُنَقَهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلى أَصْحَابِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} الآية.
اللَّهُمَّ نُوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَيَسِّرْ أُمُورَنَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَارْفَعْ مَنَازِلَنَا فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
36- وَقِصَّةُ لَبَنِ أَهْلِ الصُّفَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَعَدَ يَوْماً عَلَى الطَّرِيقِ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُ وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» . قَالَ: قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِلْحِقْ)) . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَناً فِي قَدَحٍ فَقَالَ: ((مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ)) ؟ قَالُوا: مِنْ فُلانٍ أَوْ فُلانَةٍ.
قَالَ: ((أَبَا هِرّ)) . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِلْحِقْ إِلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهمْ لِي)) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاؤُوا أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ.
قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)) . قُلْتُ: لَبْيَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((خُذْ فَأَعْطِهِمْ)) .(6/439)
قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أَعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ. حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَى الْقومُ كُلُّهُمْ.
فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: ((أَبَا هِرّ)) . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ)) . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((أَقْعُدْ فَاشْرَبْ)) . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ: ((اشْرَبْ)) . فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ: ((اشْرَبْ)) . حَتَّى قُلْتُ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكاً.
قَالَ: ((فَأَرِنِي)) . فَأَعْطَيْتُه الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
37- وَقِصَّةُ طَعَامِ جَابِرٍ وَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخُنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْصاً شَدِيداً فَانْكَفَأْتُ إِلى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي برَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْصاً شَدِيداً.
فَأَخْرَجَتِ إِلَيَّ جِرَاباً فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنْ فَذَبَحْنَاهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلى فَرَاغِي وَقَطَّعَتْهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَا صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ.
فَصَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً فَحَيَّ هَلا بِكُمْ)) . فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا(6/440)
تَنْزِلَنَّ بِرْمَتَكُمْ وَلا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُم حَتَّى أَجيءَ)) . وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَدَّمَ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلَ الذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِيناً فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ.
ثُمَّ قَالَ: ((ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلا تُنْزِلُوهَا)) . وَهُمْ أَلْفٌ فَأَقْسِمُ بِاللهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
38- وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ شَاكِياً فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّراً فَارْفَعْنِي وَإِنْ كَانَ بَلاءً فَصَبِّرْنِي.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَيْفَ قُلْتَ)) ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَا قَالَ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَافِهِ)) أَوْ اشْفِهِ شَكَّ شُعْبَةُ قَالَ: فَمَا اشْتَكَيْتُ وَجَعِي بَعْدَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح.
39- وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ فَقَدْ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِه فَرَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْه وَأَحَدَهُمَا نَظَراً وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُهُ:
أَنَا ابْنُ الذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ
فَرُدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُؤةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَراتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلَنَا وَمِنْ فَوْقِنَا وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ(6/441)
أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
وَمِنْ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ يَمْدَحْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
وَهُوَ مِنْ قَصِيدَةٍ لأَبِي طَالِبٍ قَالَهَا تَمَالأَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشُ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَأَوُّلُهَا:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لا وِدَّ عِنْدَهُمْ
وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ جَاهَرُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالأَذَى
وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُّوِ الْمُزَائِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ
وَأَبْيَضَ غَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي
وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ
لَدَيْنَا وَلا يَعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
كَذِبْتُمْ وَرَبِّ الْعَرْشِ نَبْزِي مُحَمَّداً
وَلَمَّا نُطَاعِنْ عِنْدَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ دُونَهُ
وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلائِلِ(6/442)
.. وَيَنْهَضُ قَوْمٌ بِالْحَدِيدِ إِلَيْكُمْ
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلاصِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ نَحْوَكُمْ غَيْرَ عُزَّلٍ
بِبِيضٍ حَدِيثٍ عَهْدُهَا بالصَّيَاقِلِ
وَمَا تَركُ قَوْمٍ لا أَبَالَكَ سَيِّداً
يَحُوطُ الذَِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهَلاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاصِلِ
لَعُمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْداً بِأَحْمَدٍ
وَإِخْوَتِهِ دَأَبَ الْمُحِبِّ الْمُوَاصِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ
إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ
يُوَالِي إِلَهاً لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
وَمِيزَانُ حَقٍّ مَا يَعُولُ شَعِيرَةً
وَوَزَّانُ حَقٍّ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ
تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ(6/443)
لَكِنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ
مِنَ الدَّهْرِ جِداً غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدٌ ذُو أَرُومَةٍ
تُقَصِّرُ عَنْهَا سُورَةُ الْمُتَطَاوِلِ
حَدَبتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ
وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَى وَالْكَلاكِلِ
فَأَيَّدَهُ رَبُّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ
وَأَظْهَرَ ُديِناً حَقَّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
41- وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلى عَلِيَّ وَهُوَ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيهِ فَبَرِئَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ.
42- وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: مَالَكَ؟ قَالَ: ((فَعَلَ هَؤُلاءِ وَفَعَلُوا)) . قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) . فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي فَقَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا فَقَالَ لَها: ((ارْجِعِيْ)) . فَرَجَعَتْ حَتَّى عادَتْ إِلَى مَكَانِهَا فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حَسْبِي)) . وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى(6/444)
عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّظَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 43- وَمِنْهَا إِطْعَامُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَحْفِرُونَ الْخُنْدَقَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِتَمَرَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَفِي كُتُبِ السِّير وَغَيْرِهَا أَنَّ ابْنَةً لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ أُخْتَ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَتْ: دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي، ثُمَّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيّةُ اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا.
قَالَتْ: فَأَخَذْتهَا، فَانْطَلَقْت بِهَا، فَمَرَرْت بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي، فَقَالَ: «تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ، مَا هَذَا مَعَك» ؟ قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ: «هَاتِيهِ» . قَالَتْ: فَصَبَبْته فِي كَفّي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا مَلأْتهمَا.
ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانِ عِنْدَهُ: «أُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ، أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ» . فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مَنه، وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ، وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ.
44- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَبْلَ مَسِيرِهِمْ إِلى فَتْحِ مَكَّةَ وَهُمْ يَتَجَهَّزُونَ لِلْمَسِيرِ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ دَمَاءٌ قَلِيلَةٌ، فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ(6/445)
وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ كَتَائِبِهِ حِينَ دُخُولِهم مَكَّةَ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَعَدُوا بِالْخَنْدَمَة، لِيَردُّوا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ مُنَاوَشَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقُتِلَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمُ الرُّعْبُ وَالذُّعْرُ وَجَلَّلَهُمْ الْخَوْفُ، وَحَدِيثُهُمْ فِي خَبَرِ الْفَتْحِ مَشْرُوحٌ.
45- وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ لَمَّا رَجَعَ الأَحْزَابُ خَائِبِينَ: «الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا» . فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ قُرَيْشاً بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجَعُوا إِلى غَزْوِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّه إِلى مَكَّة عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَصَالَحُوه وَهَادَنُوهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ قَابِلْ مَعَ أَصْحَابِهِ آمِنِينَ، ثُمَّ فَتَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
46- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقاً بِهِ، فَكَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ يَوْماً، أَوْ سِتَّةِ أَشْهُر، عَلَى اخْتِلافِ الرِّوَايَاتِ، وَلَمْ يُتَوَفِّ قَبْلَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
47- وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَامِرَ بنَ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بنَ قَيْسٍ، وَهُوَ أَخُو لُبَيْدِ بنِ رَبِيعَةِ، وَفَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَامِر فَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: إِذَا قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي شَاغِلٌ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَاعْلُهُ أَنْتَ بِالسَّيْفِ، حَتَّى تَقْتُلَهُ، قَالَ أَرْبَدُ: أَفْعَلُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَامِرٌ يَمْشِي، وَكَانَ رَجُلاً جَمِيلاً، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(6/446)
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ، مَا لِي إِنْ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ: ((لَكَ مَا لِلإِسْلامِ وَعَلَيْكَ مَا عَلَى الإِسْلامِ)) . قَالَ: أَلا تَجْعَلْنِي الْوَالِي مِنْ بَعْدِكَ.
قَالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ وَلا لِقَوْمِكَ وَلَكِنْ لَكَ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ تَغْزُو بِهَا)) . قَالَ: أَوَ لَيْسَتْ لِي الْيَوْمُ، وَلَكِن اجْعلْ لِي وَلَكَ الْمَدَدَ، قَالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ)) . فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، إِلى هَا هُنَا فَقَامَ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ عَامِرٌ يَدَهُ بَيْنَ منكبَيْه، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلى أَرْبَدَ أَنِ أَضْرِبْ، فَسَلَّ أَرْبِدُ سَيْفَهُ قَرِيباً مِنْ ذِرَاعٍ، ثُمَّ أَمْسَكَ اللهُ يَدَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسُلَّه، وَلا يُغْمِدَهُ.
فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى أَرْبَدَ، فَرَآهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فقَالَ: ((اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمَا بِمَا شِئْتَ اللَّهُمَّ اهْدِ بَنِي عَامِر، وَاغْنِ الدِّينَ عَنْ عَامِر)) . فَانْطَلَقَا وَعَامِرٌ يَقُولُ: وَاللهِ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلاً دُهْماً وَوِرْداً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ)) . يَعْنِي الأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: وَيْلَكَ لِمَاذَا أَمْسَكْتَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا هَمِمْتُ بِهِ مَرَّةً، إِلا رَأَيْتُكَ وَلا أَرَى غَيْرَكَ أَفَاَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ.
وَسَارَ عَامِرٌ فَطَرَحَ اللهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ، فَقَتَلَهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ يَا آلَ عَامِرٍ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَوْتُ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. وَانْتَهَتْ حَيَاتُهُ لَعَنَهُ اللهُ وَأَمَّا أَرْبَدُ فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ. فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ دَعَانَا مُحَمَّدٌ إِلى عِبَادَةِ شَيْءٍ، لَوَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدِي الآنَ فَأَرْمِيهِ بَنَبْلِي هَذَا حَتَّى أَقْتُلَهُ.(6/447)
ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَمَعَهُ جِمَالٌ لَهُ تَتْبَعُه فَأَرسَلَ اللهُ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَقِيلَ نَزَلَ فِي صَاعِقَتِهِ {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إِلى قَوْلِهِ {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ} .
48- وَمِنْهَا إِطْعَامُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُطَّلِب بِذِرَاعِ جَزُورٍ وَعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ النَّقْلِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وأنذر عشيرتك الأقربين} أَمَرَ عَلِيّاً فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْذِرْ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعاً وَعَرِفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَى مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ فَصَمَّتُ علَيَهْاَ حَتَّى جَاءَنِي جِبْرِيلُ فقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِلا تَفْعَل مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُعَذِّبكَ رَبُّكَ. فَاصْنَعْ لَنَا صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، وَاجْعَلْ عَلَيْهَا رِجْلُ شَاةٍ، وَامْلأَ لَنَا عُساً مِنْ لَبَنٍ.
ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ)) . فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ، ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ لَهُ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلاً يَزِيدُونَ رَجُلاً أَوْ يَنْقُصُونَهُ فِيهِمْ أَعْمَامُهُ أَبُو طَالِب وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، دَعَانِي بِالطَّعَامِ الذِي صَنَعْتُهُ فَجِئْتُ بِهِ.
فَلَمَّا وَضَعْتُه تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَذْبَةً مِنَ اللَّحْمِ فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ ثُمَّ قَالَ: ((خُذُوا بِاسْمِ اللهِ)) . فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَاجَةٍ، وَايْمُ اللهِ(6/448)
إِن كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: ((اسْقِ الْقَوْمَ)) . فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا جَمِيعاً وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ.
فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، بَدَرَهُ أَبُو لَهَب فَقَالَ: سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقَالَ الْغَدِ: «يَا عَلِيٌّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلِ قَدْ سَبَقَنِي إِلى مَا سَمِعْتَ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ فَعُدَّ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ اجْمَعْهُمْ» . فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ فَدَعَانِي بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالأَمْسِ. فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا.
ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَقَدْ أَمَرَنِي اللهُ أَنْ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ)) . وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ مُؤآزَرَتَه عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهَذَا مِنْ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقاً لَهُ.
49- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي أَعْلامِ النُّبُوَّةِ أَنَّ مَعْمَرَ بنَ يَزِيد وَكَانَ أَشْجَعَ قَوْمِهِ اسْتَغَاثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ وَشَكُوا إِلَيْهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ بَنُو كِنَانَة تَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ وَتُطِيعُ(6/449)
أَمْرَهُ فَلَمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَادِمٌ إِلى ثَلاثٍ وَأُرِيحُكُمْ مِنْهُ وَعِنْدِي عِشْرُونَ أَلْفِ مُدَجَّجٍ فَلا أَرَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْدِرُ عَلَى حَرْبِي.
وَإِنْ سَأَلُونِي الدِّيَّةَ أَعْطَيْتُهُمْ عَشْرَ دِيَاتٍ فَفِي مَالِي سِعَةٌ وَهُو مَشْهُورٌ بِالشَّجَاعَةِ وَالْبَأْسِ فَلَبِسَ يَوْمَ وَعْدِهِ قُرَيْشاً سِلاحَهُ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فَوَافَقَهُمْ بِالْحَطِيمِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِجْرِ يُصَلِّي وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ فَمَا الْتَفَتَ وَلا تَزَعْزَعَ وَلا قَصَّرَ فِي صَلاةٍ.
فَقِيلَ: هَذاَ مُحَمَّدٌ سَاجِدٌ فَأَهْوَى إِلَيْهِ وَقَدْ سَلَّ سَيْفَهُ وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَمَى بِسَيْفِهِ وَعَادَ فَلَمَّا صَارَ إِلى بَابِ الصَّفَا عَثَرَ فِي دِرْعِهِ فَسَقَطَ فَقَامَ وَقَدْ أَدْمَى وَجْهَهُ بِالْحِجَارَةِ يَعْدُو كَأَشَدِّ الْعَدْوِ حَتَّى بَلَغَ الْبَطْحَاءَ مَا يَلْتَفِتُ إِلى خَلْفٍ فَاجْتَمَعُوا وَغَسَّلُوا عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ وَقَالُوا: مَاذَا أَصَابَكَ. قَالَ: وَيْحَكُمْ الْمَغْرُورُ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ. قَالُوا: مَا شَأْنَكَ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ دَعُونِي تَرْجِعُ إِليَّ نَفْسِي. فَتَرَكُوهُ سَاعَةً وَقَالُوا: مَا أَصَابَكَ يَا أَبَا اللَّيْثِ. قَالَ: إِنِّي لَمَّا دَنَوْت مِنْ مُحَمَّدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَهْوِي بِسَيْفِي إِلَيْهِ أَهْوَى إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ شُجَاعَانِ أَقْرَعَانِ يَنْفُخَانِ النِّيرَانِ تَلْمَعُ مِنْ أَبْصَارِهِمَا فَعَدَوْتُ فَمَا كُنْتُ لأَعُودَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاءَةِ مُحَمَّدٍ.
50- قَالَ: وَمِنْ أَعْلامِهِ:(6/450)
أَنَّ كِلْدَةَ بنَ أَسَدٍ أَبَا الأَشَدِّ وَكَانَ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَكَانٍ خَاطَرَ قُرَيْشاً يَوْماً فِي قَتْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمُوا لَهُ الْخَطَرَ إِنْ هُوَ كَفَاهُمْ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ يُرِيدُ الْمَسْجِدَ مَا بَيْنَ دَارِ عَقِيلٍ وَعِقَالَ فَجَاءَ كِلْدَةُ وَمَعَهُ الْمِزْرَاقُ فَرَجَعَ الْمِزْرَاقُ فِي صَدْرِهِ فَرَجَعَ فَزِعاً فقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: مَا لَكَ يَا أَبَا الأَشَدِّ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ مَا تَرَوْنَ الْفَحْلَ خَلْفِي؟ قَالُوا: لا مَا نَرَى شَيْئاً. قَالَ: وَيْحَكُمْ فَإِنِّي أَرَاهُ. فَلَمْ يَزَلْ يَعْدُو حَتَّى بَلَغَ الطَّائِفَ فَاسْتَهْزَأَتْ بِهِ ثَقِيفٌ فَقَالَ: أَنَا أَعْدُرُكم لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَهَلَكْتُمْ.
القصيدة الوعظية
لَيْسَ الْمَقَامُ بِدَارِ الذُّلِّ مِنْ شِيَمِي ... وَلا مُعَاشَرَةُ الأَوْبَاشِ مِنْ هَمِّي
وَلا مُخَالَطَةُ الأَرْذَالِ تَصْلُحُ لِي ... كَذَلِكَ الْبَازُ لا يَأْوِي إِلى الرَّخَمِ
يَا سَائِلِي عَنْ عُلُومٍ لَيْسَ يَفْهَمُهَا ... اسْمَعْ كَلامَاً كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْتَكِمِ
إِنْ الْوُعَيْظِي لَهُ فِي الشِّعْرِ نَافِلَةٌ ... يَحَارُ فِيهَا ذَوُو الأَلْبَابِ وَالْفُهُمِ
خَيْرُ الصَّنَائِعَ تَقْوَى اللهِ فَاتَّقِهِ ... يَكْفِيكَ فِي الْحَشْرِ مَا تَخْشَى مِنَ النَّدَمِ
وَالْوَالِدَيْنِ فَلا تَنْهَرْهُمَا أَبَداً ... قَدْ رَبَّيَاكَ صَغِيراً غَيْرَ مُنْفَطِمِ
قَدْ طَالَ مَا سَهرَتْ بِاللَّيْلِ أَعْيُنُهُمْ ... خَوْفاً عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
ثُمَّ الصَّلاةُ الَّتِي بَيْنَ الْفَتَى صِلَةٌ ... وَبَيْنَ خَالِقِهِ تَنْهَى عَنِ الإِثْمِ
أَدِّ الزَّكَاةَ عَنِ الأَمْوَالِ تَغْسِلُهَا ... كَالثَّوْبِ يُغْسَلُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الدَّسَمِ
وَالصَّوْمُ فَرْضَ مِنَ الرَّحْمَنِ أَوْجَبَهُ ... عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيَصُمِ
وَالْحجُّ فَرْض عَلَى الإِسْلامِ كُلِّهِمْ ... مَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَصُمِ(6/451)
مَنِ اسْتَطَاعَ عَلَى زَادٍ وَرَاحِلَةٍ ... وَمَسْلَكٍ آمِنٍ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ
فَإِنَّ حَجَجْتَ احْفَظْنَهَا كَيْ تَفُوزَ بِهَا ... وَاذْكُرْ مَسِيرَكَ مِنْ طَامٍ إِلَى أَكُمِ
وَلا تُضَيِّعْهَا تَصْلَى لَهِيبَ لَظَى ... وَتُحْرَمُ الشُّرْبَ مِنْ حَوْضٍ لِكُلِّ ظُمِ
وَكَمْ أَصَابَكَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ عَطَشٍ ... وَكَمْ تَعِبْتَ وَكَمْ جَاوَزْتَ مِنْ إِضَمِ
وَفِي الْجِهَادِ ثَوَابٌ إِنَّ صَاحِبَهَا ... فِي الْخَيْرِ وَالْحُورِ مَقْصُور مَعَ الْخِيَمِ
وَإِنْ ظَفَرْتَ فَمَشْكُورٌ وَمُفْتَخِرٌ ... وَإِنْ قُتِلْتَ جَزَاكَ اللهُ بِالنِّعَمِ
فَأَبْشِرْ بِجَنَّاتِ عَدْنِ غَيْرَ فَانِيَةٍ ... إِنْ أَنْتَ مُتَّ شَهِيدًا غَيْرَ مُنْهَزِمِ
وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ فَطَالِبُهُ ... يَنَالُ دُنْيَا وَدِينَا غَيْرَ مُتَّهَمِ
قَدْ شَرَّفَ اللهُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَافْتَخَرُوا ... بِأَنَّهُمُ أُمَنَاءُ اللهِ فِي الأُمَمِ
وَالْكَيْلَ أَوْفِهِ وَلِلْمِيزَانِ أَرْجِحُهُ ... كَمْ أَهْلَكَ اللهُ فِي هَذَيْنِ مِنْ أُمَمِ
وَأمر بِأَهْلِكَ يَا هَذَا وَحُضُّهُمْ ... عَلَى الصَّلاةِ فَفِيهَا كُلُّ مُغْتَنَمِ
وَاجْهَرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا مَعْشَرٌ حَضَرُوا ... وَانْطِقْ بِخَيْرٍ تَنَالَ حُسْنَ خَيْرِهِمْ
مَنْ طَابَ مَوْلِدُهُ طَابَتْ مَحَاضِرُهُ ... كَذَاكَ قَدْ قِيلَ فِي بَيْتٍ مِنَ الْقِدَمِ
وَلِلْبَنِينَ حُقُوقٌ لا تُضَيِّعُهَا ... حَالٌ كَرِيمٌ وَاسْمٌ غَيْرَ مُنْعَجِمِ
وَخُصُّهُمْ بِأَدِيبٍ فَاضِلٍ فَهِمٍ ... فَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ
وَأَقْرأْهُمُ النَّحْوَ وَالشِّعْرَ الْفَصِيحَ فَفِي ... ذَاكَ فَضِلَةٌ لَيْس الْفَضْلُ لِلْعَجَمِ
وَالضَّيْف أَكْرِمَهُ إِنَّ الضَّيْفَ مُرْتَحَلٌ ... يُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أُوِتيتَ مِنْ كَرَمِ
لَيْسَ الْكَرَامَةُ فِي طِيبِ الطَّعَامِ لَهُ ... وَلا تَكَلُّفَ مِنْ لَحْمٍ وَمِنْ أَدُمِ
بَلِ الْكَرَامَةُ أَنْ تَلْقَاهُ مُبْتَسِمًا ... لا خَيْرَ عِنْدَ مَضِيفٍ غَيْرَ مُبْتَسِمِ
أُوصِيكَ بِالرُّمْحِ وَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ فَفِي ... هَذَيْنِ عِزٌّ وَمّجْدٌ غَيْرَ مُنْهَمِ(6/452)
.. وَسَابِقْ الْخَيْلِ أَكْرِمْهَا مُحَافَظَةً ... فَإِنَّهَا عِدَّةٌ لِلْمَاجِدِ الْفَهِمِ
وَلا تُوَاكِلْ إِمَارَةً تَقُومُ بِهَا ... عَنْدَ الْعَلِيقِ وَلا وَغْدًا مِنَ الْخَدَمِ
وَإِنْ مَلَكْتَ فَكُنْ بِالْعَدِلِ مُتَزِرًا ... وَاحْذَرْ سِهَامَ الدُّجَى فِي حَنْدَسِ الظُّلَمِ
فَرُبَّ دَعْوَةِ مَظْلُومٍ تُصَادِفُهَا ... إِجَابَةٌ بِزَوالِ الْمُلْكِ وَالنِّعَمِ
وَاحْفَظْ نَصِيحَةَ مَنْ تَنْفَعْ نَصِيحَتُهُ ... وَالْبَدْلَ جَازِيهِ بِالتَّأْدِيبِ وَالْكَرَمِ
وَإِنْ دَنَوْتَ مِنْ السُّلْطَانِ وَارْتَفَعَتْ ... بِكَ الْمَرَاتِبُ لا تَأْمَنْ مِنَ النِّقَمِ
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا حَبَوْكَ وَاجْتَهَدُوا ... هُمْ يُتْبِعُوكَ لَهُمْ فِي سَائِرِ الْخَدَمِ
وَإِنْ جَفَوْتَ سَقُوكَ السُّمَّ وَاحْتَقَرُوا ... مَا كُنْتَ تَصْنَعُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ كَلِمِ
وَاحْذَرْ مِنْ الْبَغْيِ إِنَّ الْبَغْيَ مَنْقَصَةٌ ... عَوَاقِبُ الْبَغْيَ لا تُبْقِي وَلا تَدُمِ
وَإِنْ نَبَا مَنْزِلٌ يَوْمًا فَفَارِقُهُ ... لا خَيْرَ فِي الْمَنْزِلِ الْمُسْتَوْبِلِ الْوَخَمِ
أَرْضٌ بِأَرْضٍ وَإِخْوَانٍ بِمِثْلِهِمِ ... وَالرِّزْقُ يَأَتِي لَمَنْ يَسْعَى وَمَنْ يَقُمِ
وَانْهَضْ فَإِنَّ بِلادَ اللهِ وَاسِعَةٌ ... طٌولاً وَعَرْضًا وَمَا ضَاقَتْ لِمُقْتَحِمِ
وَإِنْ تَغَيَّرَ يَوْمًا مَنْ تُصَاحِبُهُ ... عَنْ وِدِّهِ وَبَدَا بِالصَّدِّ وَالصَّمَمِ
فَلا تُعَاتِبُهُ يَوْمًا بَلْ فَفَارِقُه ... لَيْسَتْ مُعَاشَرَةِ الأَرْذَالِ بِاللَّزَمِ
لا خَيْرَ فِي صَاحِبٍ تَبْدُو قَبَائِحُهُ ... بَعْدَ الْجَمِيلِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ وَخِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرِّبَا فِي الْمَالِ يَمْحَقُهُ ... وَالرِّبْحُ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ غَيْر مُتَّهَم
وَلا تُعَامِل لِمَخْلُوقٍ مُعَامَلَةٍ ... إِلا بِخَط شُهُودٍ يُقْتَدَى بِهِمُ
وَلِلدَّرَاهِيمِ فِي الْحَاجَاتِ مَنْفَعَةٌ ... نِعْمَ الصَّدِيقُ وَلا يُخْشَى مِنْ الْعَدَمِ
وَإِنْ تَدَايَنْتَ دَيْنًا لا تَكُنْ مَطِلاً ... فَإِنَّ حُسْنَ الْوَفَا مَقْرُونٌ بِالكَّرَمِ
أَتَأْخُذُ الدَّينَ حُلْوًا عِنْدَ حَاجَتِهِ ... وَعِنْدَ وَقْتِ الْقَضَاةَ فيه بِالْكَظِمِ
لا تَحْمِدَنَّ امْرِأ حَتَّى تُجِرِّبه ... وَلا تَذُمَّنهُ فِي الْعُسْرِ وَالْعَدَمِ(6/453)
.. وَابْنُ عَمِّكَ لا تَقْطَعْ مَوَدَّتُهُ ... وَصَلْ قَرَابَتُهُ فِي اللهِ وَالرَّحِمِ
وَإِنْ أَتَاكَ إِذَا نَابَتْكَ ناَئِبَةٌ ... مَطْلَعِ الرَّأْسِ عَارِ مٌحْتَشِمِ
فَذَاكَ أَفْضَلُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ وَلَدٍ ... تَعْزُو بِهِ النَّفْس وَالأَمْوَال وَالْهِمَمِ
وَالْمَجْدُ لا يَنْبَغِي إِلا بِأَرْبَعَةٍ ... بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالأَمْوَالِ وَالْفِهْمِ
وَإِنْ تَقَدَّمْتَ يَا هَذَا عَلَى نَفَرٍ ... فَكُنْ عَلَيْهُمْ كَمِثْلِ الْوَالِدِ الرَّحِمِ
وَاطْلُبْ رِضَاهُمْ إِذَا طَاعُوكَ وَاجْتَهَدُوا ... وَإِنْ عَصَوْكَ فَفَارِقْهُمْ وَلا تُقِمِ
وَاقْبَلْ مَعَاذِيرِ مَنْ أَتَاكَ مُعْتَذِرًا ... فَالْعُذْرِ يُقْبَلُ عِنْدَ السَّيِّدِ الْحُثَمِ
مَا كُلُّ مَنْ وَلَدَتْهُ الأُمِ قِيلَ أَخٌ ... وَلَوْ أَفَادَكَ بِالدِّيَاتِ وَالْخَدَمِ
أَخُوك فِي النَّاسِ مَنْ وَافَاكَ فَاحْفَظْهُ ... وَمَنْ يُوَاسِيكَ عِنْدَ الْعُسْرِ وَالْعَدَمِ
وَإِنْ مَدَحْتَ فَلا تَهْدِ الْقَرِيضَ إِلَى ... بَخِيلِ قَوْمٍ وَضِيعٍ غَيْرِ مُحْتَشِمِ
إِنْ جِئْتَ تَقْصُدُهُ أَرْخَى مَشَافِرَهُ ... كَأَنَّ شِدْقَيْهُ مَنْفُوذَيْنَ بِالْوَرَمِ
اقْصُدْ بِمَدْحِكَ ذَا فَضْلٍ وَذَا كَرَمٍ ... يَلْقَاكَ والْوَجْهِ بَسَّامٍ بِلا قَتَمِ
يَكْفِيكَ مِنْهُ الْقَلِيل أَنْتَ قَابِلَهُ ... مَعَ الْبَشَاشَةِ وَالأَرْزَاقِ بِالْقَسَمِ
وَإِنْ وَعَدْتَ فَاوَفْ مَا وَعَدْتَ بِهِ ... فَالْوَعْدُ دِينٌ عَلَى ذِي نَخْوَةِ لَزِمِ
واصْدُقْ فَإِنَّ حَدِيثَ الصِّدْقِ مَكْرَمَةٌ ... فاَلصِّدْقِ يُنَجِّيكَ عِنْدَ الله ِوَالأُمَمِ
وَلِلْكَذُوبِ عُيُوبٌ إِنَّ صَاحِبَهَا ... وَإِنْ تَحَدَّثَ صِدْقًا بِالتُّهَمِ
وَلا تَفَرِّطُ فِي جَارٍ وَلا نَسَبٍ ... واَعْلَمْ أَنَّهُمَا فِي أَكْبَرِ الأُمَمِ
وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ ... وَالسَّيْفُ أَصْدَقُ أَنباءِ مِنَ الْحِكَمِ
وَإِنْ خَشِيتَ مِنَ السُّلْطَانِ نَائِبَةً ... فَالْبُعْدُ أَسْلَمُ لِلأَعْنَاقِ وَالْهِمَمِ
فَالنَّارُ تُحْرَقُ مَنْ يَدْنُو بِجَانِبِهَا ... وَإِنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا فَازَ بِالسَّلَمِ
وَإِنْ تَزَوَجْتَ يَا هَذَا فَكُنْ حَفِظًا ... وَكُنْ غَيُورًا وَلا تُفْسِحْ لَهَا قِدَمِ(6/454)
.. وَلا تُمَكِّنُهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... وَلا الْخُرُوجُ مَعَ الدِّيَّاتِ وَالْخَدَمِ
وَإِنْ ظَنَنْتَ بِهَا سُوءً فَطَلِّقْهَا ... وَخُذْ سِوَاهَا وَلا تَعْتَادَ بِالنَّدَمِ
فَالْمَرْأَةُ السُّوءِ كَالضِّرْسِ الْعَلِيلِ فَإِنْ ... أَزَلْتَهُ زَالَ عَنْكَ الْبَأَسَ وَالأَلَمِ
وَاحْذَرْ عَجُوزًا تُوَلِّيهَا عَلَى حُرَمٍ ... فاَلذِّئْبُ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ عَلَى الْغَنَمِ
وَلا تُخَادِعَنَّكَ الأُنْثَى فَتَأْمَنُهَا ... يَوْمًا وَحَاذِرْ ذَوَاتَ الْمَكْرِ وَالتُّهَمِ
هُنَّ الْكَوَاذِيبُ لا قَوْلَ لَهُنَّ وَلا ... يَحْفَظْنَ عَهْدًا وَلا يُوفِينَ بِالذِّمَمِ
مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسْوَانِ مِنْ ثِقَةٍ ... وَلا أَمِين فَلا تَصْغُوا لِكَيْدِهِمْ
يَا مَنْ يُخَالِطُ فِي أُنْثَى وَفِي ذَكَرٍ ... إِذَا خَلا بِهَمَا إِبْلِيس فِي الظُّلَمِ
هَلْ تَأْمَنُ النَّار إِنْ أَوْدَعْتَهَا حَطَبًا ... كَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ في طَلْحَ مِنَ الرَّتْمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ النِّسَا أَصْحَابُ مَيْسَرَةٍ ... لا يَسْتَحِينَ وَلا يَصْبِرْنّ لِلْعَدَمِ
إِذَا دَعَتْهُنَّ أَغْرَاضٌ لَهُنَّ فَلا ... يَفْرِقْنَ بَيْنَ كَرِيمِ الْجَدِّ وَاللَّمَمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الزِّنَا عَارٌّ وَمَنْقَصَةٌ ... فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالأَهْلِينَ وَالْحَرَمِ
وَفِي الْحَلالِ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِرَةٌ ... يَصُونُ عِرْضِكَ مِنْ لَوْمٍ وَمِنْ إِثْمٍ
لا تَقْتُلْ النَّفْسَ وَالرَّحْمَنُ حَرَّمَهَا ... كَمِثْلِ تَحْرِيمِهِ لِلْبَيْتِ وَالْحَرَمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ مُطَّلَعٌ ... عَلَيْكَ وَاحْذَرْ مِنَ الْجَبَارِ وَاحْتَثِمِ
لا يَرْجِعُ السَّهْمُ يَوْمًا إِنْ رَمَيْتَ بِهِ ... كَالدَّرِّ لَيْسَ بِمَرْدُودٍ إِلَى الْحُلُمِ
وَإِنْ بَدَأْتَ بِخَيْرٍ لا تَمُنَّ بِهِ ... وَكُنْ بِخَيْرِكَ بَيْنَ النَّاسِ مُحْتَثِمِ
فَالْمَنُّ يُفْسِدُ مَا تُبْدِيهِ مِنْ كَرَمٍ ... إِنَّ الْعَطَا وَالسَّخَا مِنْ أَفْضَلِ الشِّيَمِ
وَمَنْ بَدَا لَكَ مَعْرُوفًا فَعَارِضُهُ ... شُكْرًا كَشُكْرِ نَبَاتِ الأَرْضِ لِلدِّيَمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ عَارِيَةٌ ... وَقْتًا يَكُونُ وَوَقْتَا عَنْكَ مُنْهَزِمِ
وَلِلْوَدِيعَةِ حَقٌّ لا تُضَيِّعُهَا ... إِنَّ الْوَفَى حَسَنُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ(6/455)
.. هِيَ الأَمَانَةُ أَعْطِيهَا لِصَاحِبِهَا ... تَنَالُ دِينًا وَتَنْجُو مِنْ أَذَى التُّهَمِ
وَإِنْ شَهِدتَ بِشَيْءٍ لا تُضَيِّعُهُ ... وَاصْدُقْ بِقَوْلِكَ بَيْنَ الْخَصْمِ وَالْحِكَمِ
إِنَّ الشَّهَادَةَ فَرْض لَيْسَ يَكْتُمَهَا ... إِلا لَئِيمٌ قَلِيلُ الدِّينِ ذُو تُهَمِ
وَلا تُصَاهِرْ بَخِيلاً فِي عَشِيرَتِهِ ... وَلَوْ أَتَاكَ بِمَالِ الْفَارِسِ السَّلَمِ
وَإِنْ خَطَبْتَ فَلا تَخْطُبْ وَإِنْ حَسُنَتْ ... إِلا كَبِيرَةَ بَيْتٍ غَيْرِ مُتْهَمِ
إِيَّاكَ تَشْتُمْ وَلا تَبْدُو بِفَاحِشَةٍ ... لِوَالِدَيْكَ وَابْذُلْ طَيِّبَ الْكَلِمِ
لا تَرْكَنَنَّ إِلَى بَيْت الزُّنَاةِ وَلَوْ ... جَاءَتْ بِمَالِ جَزِيلٍ وَاحْذَرْ قَطْعَتَ الرَّحِمِ
وَلا تَغُرَّنَّكَ سَوْدَاء فَتُودِعُهَا ... جَوَاهِرَ الصُّلْبِ لَيْسَ النُّورُ كَالظُّلَمِ
وَإِنْ جَمِعْتَ نِسَاءَ لا تُضَارِرُهُنْ ... فَإِنَّهُنْ وَدِيعَاتٌ لِذِي كَرَمِ
فَمَنْ تُطِيعُكَ أَكْرِمْهَا وَاحْفَظَهَا ... وَمَنْ عَصَتْكَ فَفَارِقْهَا وَلا تُقِمِ
إِيَّاكَ إِيّاكَ قَذْفَ الْمُحْصِنَاتِ بِلا ... ذَنْبٍ فَتُصْبِحَ فِي بَحْرٍ مِنَ الإِثْمِ
وَلا تَجَرَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ تَضْرِبُهُ ... وَأَحْسِنْ إِذَا كُنْتَ ذَا حُسْنٍ وَذَا كَرَمِ
وَاسْتَغْفِر الله مِنْ ذَنْبِ خَلَوْتَ بِهِ ... فَاللهُ يَنْظُرُهُ فِي حِنْدِسِ الظُّلَمِ
وَاحْفَظْ وَصِيَّةَ مَنْ وَصَّاكَ مُجْتَهِدًا ... وَخُذْ قَصِيدًا كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْتَكِمِ
وَإِنْ هَمَمْتَ بِقَوْمٍ أَنْ تُجَاوِرَهُمْ ... قَسَلْ عَنِ الْفَاضِلِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَرَمِ
مَعْرُوفَ بِالْخَيْرِ مَأْمُونًا عَوَاقِبُهُ ... لا يُنْكِرُ الْجَارَ إِلا مَعْشَرُ الْؤُمِ
لا خَيْرَ فِي الْجَارِ إِلا أَنْ يَكُونَ تَقِي ... عَنِ الْعَزِيزَيْنِ مِنْ مَال وَمِنْ خَدَمِ
مَا أَقْبَحَ الْجَارَ إِذْ يَزْنِي بِجَارَتِهِ ... فِي جُنْحِ لَيْلِ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْخَدَمِ
وَاكْتُمْ أَحَادِيثَ سِرٍّ أَنْ تُبَرِّزَهَا ... فَكَاتِمُ السِّرِّ مَأْمُونٌ مِنَ النَّدَمِ
وَالصَّمْتُ أَجْمَلُ ثَوْبٍ أَنْتَ لابِسُهُ ... كَمْ هَامَةٍ قُطَعِتْ مِنْ عَثْرَةٍ بِفَمِ
وَالْحُرٌ أَوْلَى بِسِرِّ النَّاسِ يَكْتُمُهُ ... بَعْدَ الثَّلاثَةِ مَا سِرٌ بِمُكَتِتمِ(6/456)
.. وَإِنْ كَسَاكَ كَرِيمٌ مِنْ صَنَائِعِهِ ... ثَوْبًا فَأَنْشِرَهُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ
وَإِنْ حَظِيتَ بِجَاهِ لا تَشُحَّ بِهِ ... يَوْمًا عَلى عُرُبٍ لا لا وَلا عَجَمِ
وَافْعَلْ جَمِيلاً إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا ... فَالْمَالُ يَفْنَى وَلا خَيْرُ بِمُنْصَرِمِ
وَلا تُشَاوِرْ وَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ... إِلا نَصُوحًا شَفِيقًا غَيْرَ مُتَّهَمِ
لا تَنْتَهِرَنَّ يَتِيمًا مَاتَ وَالدُهُ ... إِنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفُ الْقَلْبِ ذُو أَلَمِ
وَإِنْ أَتَى سَائِلاً يَوْمًا فَأَطْعِمُهُ ... مِمَّا رُزِقْتَ بِوَجْه غَيْرَ مُنْفَطِمِ
إِيَّاكَ لا تَنْهَرُهُ إِن لَجَّ فِي طَلَبِ ... ادْفَعْ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَيْلاً بِلا نَدَمِ
إِنَّ الْغَرِيبَ ذَلِيلٌ أَيْنَمَا سَلَكَتْ ... بِهِ الرِّكَابُ غَزِيرُ الدَّمْعِ مُنْسَجِمِ
إِنَّ مَاتَ يَوْمًا فَلا تُبْكِيهِ بَاكِيَةُ ... وَلا تُعَلِّلِهُ الأَوْصَافُ مِنْ سَقَمِ
وَإِنْ دُعِيتَ إِلَى قَوْمٍ لِتُصْلِحَهُمْ ... فَانْهَضْ فَإِنَّكَ مَأْجُورٌ بِصُلْحِهِمِ
وَإِنْ دَعَا بِكَ مَظْلُومٌ فَأَنْصِرُه ... بِقَوْلِكَ الْحَقْ أَوْ بِالصَّارِمِ الْحَكَمِ
وَإِنْ أَتَاكَ مَخِيفُ الْقَلْبِ أَمِّنَهُ ... فَالْخَوْفُ مُمْتَزجِ فِي لَحْمِهِ وَالدَّمِ
وَلا تَكُنْ شَرِهًا فِي الأَكْلِ كَمْ شَرِهِ ... كَانَتْ مَنِيَّتُهُ مُمْتَزِجِ فِي أَصْغَرِ اللُّقَمِ
وَكُثْرَةُ الأَكْلِ تُؤْذِي جِسْمَ صَاحِبَهَا ... حَتَّى يُصَبَّحَ مَضْرُورًا مِنَ الْبَثَمِ
وَغَسْلُ قَبْلِ صَعَامِ الأَكْلِ فِيهِ غِنَى ... وَالْعَسَلُ مِنْ بَعْدِهِ حِرْزٌ مِنَ اللَّمَمِ
وَكَثْرَةُ الْمَزْحَ مَذْمُومُ عَوَاقِبُهَا ... كَمْ مُزَاحِ دَعَا لِلشَّرَّ وَالشَّتَمِ
وَاحْذَرْ عَدُوَّكَ لا تَرْكَنْ لَهُ أَبَدًا ... وَلا يُخَادِعْكَ بِالأَيْمَانِ وَالْقَسَمِ
وَكُلَّمَا زَادَ إِحْسَانًا فَأَبْعِدُهُ ... وَانْظُرْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ عَمِ
كَمْ مِنْ عَدُوَّ رَمَى بِالإِفْكِ صَاحِبَهُ ... فَبَاتَ مُرْتَهِنًا فِي لَحْفِ مُنْتَقِمِ
وَإِنْ حَذَرْتَ عَدُوَّا مِنْكَ وَاحِدَةً ... فَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفًا لا تَكُنْ دَهِمِ
فَرُبَّمَا انْقَلَبَتْ يَوْمًا صَدَاقَتُهُ ... فَصَارَ يَخْبِرُ بِالأَسْرَارِ لِلنَّقَمِ(6/457)
.. وَلا تُصَادِقْ صَدِيقًا لَمْ تُجَرِّبَهُ ... فِي النَّائِبَاتِ وَكُنْ بِاللهِ مُعْتَصِمِ
فَمَا صَدِيقُ الرَّخَا وَالنَّائِبَات سِوَى ... وَلا يُقَاسُ قَوِيُّ الْقَلْبِ بِالْهَرَمِ
كَمْ مِنْ صَدِيقٍ ضَحُّوكِ السِّنِّ مُبْتَسِمٍ ... وَفِي الشَّدَائِدِ يَأْتِي غَيْرَ مُبْتَسِمِ
كَمْ مِنْ صَدِيقٍ مَنْ عَادَى أَبَاكَ وَلا ... يَغُرَّكَ الدَّهْرُ فِي أَعْدَائِكَ الْقِدَمِ
لا يَنْجَلِي صَارِمٌ فِي جَنْبِهِ حُرَبٌ ... لا بُدَّ مِنَ أَثَرِ بِالسَّيْفِ كَالْقَلَمِ
وَلا تَخَالِفُ قَوْمًا إِنَّهُمْ عُرِفُوا ... بِالْعَدْلِ وَاقْطَعْ جَمَالَ الْحِلفِ وَانْصَرِمِ
لا تَجْرَأَنَّ أَنَّ عَلَى الأَيْمَانِ كَاذِبَةَ ... وَلا يَغُرَّنَّكَ الشَّيْطَانُ فِي الْقَسَمِ
وَأَعْلَمْ بِأَنَّ دِيَارَ الْحَالِفِينَ تُرَى ... بَلاقِعًا مَسْكَنًا لِلْبُومِ وَالرَّخَمِ
وَحْفَظْ وَصِيَّةَ مَنْ أَوْصَاكَ مُجْتَهِدًا ... وَخُذْ قَصِيدًا كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْبَكِمِ
قَوْلُ الْهُمَامِ الْوُعَيْظِي الَّذِي شُهِرَتْ ... أَشْعَارُهُ فِي بِلادِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
إِنَّ الْقَصَائِدَ جَلَّتْ فِي مَفَاخِرِهَا ... أُرِيتَ شِعْرِي مُنِيفَ الْجَدِّ كَالْعِلْمِ
مَا قَالَ مِثْلَ قَصِيدِي شَاعِرٌ أَبَدًا ... وَلا يُؤَلِّفُهَا أَوْ يَنْطِقُ الصَّمِمِ
أَلْفَتْ جَوَاهِرُهَا كَالدَّرِّ مُحْتَكِمًا ... بَانَتْ مَحَاسِنُهَا بِالْوَعْظِ وَالْحِكَمِ
مَا قَالَ شَاعِرُ قَوْمٍ مِثْلَهَا أَبَدًا ... أَوْ يَنْطِقُ الْحَجَرُ الْمَنْعُوتُ بِالصَّمَمِ
وَدِيعَتِي لِلْمَنَايَا سَوْفَ يَطْرُقُهَا ... وَالْمَوْتُ حَتْمٌ وَعِنْدَ الله مُحْتَكَمِي
يَا رَبَّ يَا رَبَّ يَا رَحْمَنُ فَارْحَمُنَا ... بِصَبْوَةِ شَابَ مِنْهَا الرَّأْسُ وَاللَّمَمِ
وَاغْفِرْ ذُنُوبَ الْوَعيظِي إِنَّهُ رَجُلٌ ... عَاصِ وَمُعْتَرِفٌ بِالذَّنْبِ مُجْتَرِمِ
قَصَدْتُ بَابَكَ يَا رَحْمَنُ فَارْحَمُنَا ... وَاصْفَحْ بِعَفْوِكَ عَنْ ذَنْبِي وَعَنْ جُرْمِي
رَبِّي قَدِيرُ رَحِيمٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ ... مُهَيْمِنٌ قَاهِرٌ بِالْبَطْشِ وَالنَّقَمِ
وَوَارِثُ الأَرْضَ لانِدٌ يُعَانِدُهُ ... وَلا شَرِيكٌ لَهُ بَلْ جَلَّ فِي الْعِظَمِ
مُحْيِ الْقُلُوبَ وَمُنْشِئُمْ وَرَازِقهُمْ ... حَتَّى الْمَمَاتِ وَمُحْيِ دَارِس الرُّمَمِ(6/458)
.. وَبَاعِثُ الْخَلْقِ لِلْمِيقَاتِ أَجْمَعِهِمْ ... وَالْعَدْلُ يَنْشُرُهُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ
وَجِيءَ بِالْجَنَّةِ الْعُلْيَا مُزْخَرْفَةً ... قَدْ خَصَّهَا اللهُ بِالأَمْلاكِ وَالنِّعَمِ
وَلِلصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ إِذْ نُصِبَا ... كَرْبٌ وَكُلُّ الْوَرَى لِلْكَرْبِ مُلْتَزِمِ
وَلِلصَّحَائِفِ أَهْوَالٌ إِذَا نُشِرَتْ ... وَالنَّاسُ قَدْ شَخَصُوا مِنْ خَوْفِ رَبِّهِمِ
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَلَيْسَ الدَّهْرُ يُخْبِرُنِي ... أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَنْجُو يَوْمَ مُحْتَكَمِ
لَكِنَّ ظَنِّي بِرَبِّي أَنَّهُ مَلِكٌ ... يَعْفُو بِرَحْمَتِهِ عَنْ كُلِّ مُجْتَرِمِ
مَوْلايَ مَوْلايَ لا رَبٌّ سِوَاكَ فَعْفُ ... ذَنْبِي فَإِنَّكَ ذُو عَفْوٍ وَذُو كَرَمِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ سِيِّدِنَا ... مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى لِلْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
(فَصْلٌ)
51- ومنها إرسال الريح الشديدة على الأحزاب وهم قريش ومن معهم يوم الخندق أرسلها الله عليهم ليلاً قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بليل، وكانت الريح التي أرسلها الله عليهم الصبا، ففروا لشدتها عن بعض أثقالهم وأمتعتهم، ولو أقاموا إلى الصباح لهلكوا جميعاً. وهو المدلول عليه بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . ففي خبر القصة أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى من أصحابه الجزع لطول الحصار، صعد إلى الجبل فدعا الله وكان فيما دعاه أن قَالَ ((واصرف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك وحولك وقدرتك)) . فنزل جبريل يخبره عن الله بأنه استجاب له وأمر الله الريح والملائكة أن يهزموا قريشاً والأحزاب تلك الليلة، فأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذيفة بن اليمان أن يدخل معسكرهم أي قريش، ويأتي بأخبارهم، قَالَ له إن الله عز وجل قد أخبرني أنه أرسل على قريش الريح، وهزمهم. قَالَ: فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً، ولا بناء، فقطعت أصناب الفسطاط، وقلعت الأوتاد، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر.(6/459)
قَالَ: وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالخفّ وَلَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ فَرُدُوْا بِغَيْظِهِمْ {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} .
فالباري جل وعلا أرسل الريح على أولئك المشركين، نصراً لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتصديقاً لدعوته، واستجابة لدعائه، لعلمه تعالى أن أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك اليوم لا يقومون بقتال أولئك ففي هذه معجزة عظيمة فتأمل.
52- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ
لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ ((اجْمَعُوا ِلَيَّ مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ يَهُودَ)) فَجُمِعُوا، فَقَالَ لَهُم ((إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا نَعَمْ، يَا أبًا القَاسِم، فَقَالَ لَهُمْ ((مَنْ أَبُوكُمْ)) ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: ((كَذَبْتُمْ، أَبُوكُمْ فُلَانٌ)) قَالُوا صَدَقْتَ، وَبَرَرْتَ، قَالَ ((فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكمْ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ، كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، قَالَ لَهُمْ ((مَنْ أَهْلُ النَّارِ)) ؟ قَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. قَالَ ((اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً)) قَالَ ((هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ((هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟)) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ((مَا حَمَلَكُمْ(6/460)
عَلَى ذَلِكَ)) ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً لَمْ يَضُرَّكَ، رواه البخاري.
53- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عن صفوان بن عسال:
مسند أحمد - (ج 37 / ص 56)
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ
بَعْض الْيَهُودِ لِصَاحِبه، اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، لاَ تَقُلْ نَبِيٌّ لَوْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آياتٍ بَيَّنَاتٍ.
فَقَالَ ((لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ،
وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ولا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلَا تُوَلُوا الأدْبَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودُ أَنْ تَعْدُوا يَومَ السَّبْتِ)) فَقَبلا يدَهُ، ورجْلَهُ، وَقَالا: نَشْهَدُ إِنَّكَ نَيِيّ.
فَقَالَ ((مَا يَمْنَعُكُمْا أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالاَ إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ اتَّبَعْنَاكَ، تَقْتُلَنَا يَهُودُ. للترمذي والنسائي.
54- عَنْ جَابِرِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القَائِلةِ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا.
وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ(6/461)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، وَالسَّيْفُ صَلْتاً فِي يَدِهِ، فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ، فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ)) ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَكَان مَلِكَ قَوْمِهِ، فانْصَرَفَ حِيْنَ عَفى عَنْهُ، فَقَالَ لا أَكُوْنُ فيِ قَوْمٍ هُمْ حَرْبٌ لَكَ، متفق عليه.
55- ومنها إخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الْأَرَضَةَ أَكَلَتْ مِنْ صَحِيْفَةِ قريشٍ ما فيه ظُلْمُ، وَقَطِيْعَةُ رَحِمٍ.
وأبْقَتْ ما فِيْهَا مِنْ أسْمَاءِ الله تعالى.
ومن حديثها أن قريشاً كتبوا فيما بينهم صحيفة بأن لا يبيعوا بني هاشم، ولا يبتاعوا منهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، أو يدفعوا إليهم محمداً ليقتلوه، ودفنوها في الكعبة، فَقَامَ أبو طالب ومن معه بحماية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبقوا محصورين في الشعب سنتين أو ثلاثاً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمّ، إنّ اللهَ قَدْ سَلّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْماً هُوَ لِلّهِ إلّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ، فَقَالَ أَرَبِكَ أَخْبَرَك بِهَذَا، قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَوَاَللهِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ.
ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمّ صَحِيفَتُكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي فَانْتَهُوا عَنْ(6/462)
قَطِيعَتِنَا، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِباً، دَفَعْت إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي، فَقَالَ الْقَوْمُ رَضِينَا، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ
ثُمّ نَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرّاً. فَعِنْدَ ذَلِك صَنَعَ الرّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.
56- ومنها ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ لِعَليَّ يَوْمَ أحُد بعد انجلاء الهيجاء، إن قريشاً لن يصيبوا منا مثلها بعد هذا، حتَّى يفتح الله علينا مكة، فكان الأمر كما قَالَ، فإنه لم تصب قريش من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أحد ما أصابت منهم يوم أحد
وما زال أمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلو عليهم حتَّى غزاهم في عقر دارهم، ومحل قرارهم، ولم يستطيعوا دفعه، بل استأسروا له راغمين، فمن عليهم فاطلقهم من حبالة القتل، واعتقهم من رق الأسر وناداهم وهم مرعوبون ((اخرجوا فأنتم الطلقاء)) وبذلك يوم فتح مكة بالسنة الثامنة من الهجرة.
57- وَمِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عليه السلامُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ(6/463)
فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أُطْبِقَتُ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ)) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((بَلْ أَرْجُو، أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً)) متفق عليه.
58- وَمِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
صَعِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِرَاءً، فَتَحَرَّكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْكُنْ حِرَاءُ، ومَعَه َأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وعبدُ الرحمن بنُ عوف، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وسعيد فَتَحَرَّكَ الجبلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْكُنْ حِرَاءُ،
فَلَيسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ، فَسَكَنَ الجَبَلُ.
59- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك، في أربع مائة وعشرين فارساً إلى أكيدر دومة الجندل، من كندة فَقَالَ خالد يَا رَسُولَ اللهِ، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في عدد يسير، فَقَالَ ستجده يصيد البقر، فتأخذه فخرج خالد حتَّى إذا كان من حصنه بمنظر العين، في ليلة مقمرة صافية، وهو على سطح له، من شدة الحر، مع امرأته، فأقبلت البقر، تحك بقرونها باب الحصن، فَقَالَ أكيدر دومة: والله ما رأيت بقراً جاءتنا ليلاً غير هذه الليلة، لقد كنت أضمر لها الخيل، إذا أردتها شهراً أو أكثر، ثم نزل فركب بالرجال، والآلة، فلما فصلوا من الحصن، وخيل خالد تنظر إليهم، لا يصهل منها فرس، ولا يتحرك، فساعة فصل، أخذته الخيل، فاستؤسر أكيدر دومة.
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأرزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات(6/464)
وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
قَالَ ابن القيم رحمه الله تعالى:
يَا قَوْمُ فَرْضُ الْهِجْرَتَيْنِ بِحَالِهِ
واللهِ لَمْ يُنْسَخْ إِلَى ذَا الآنِ
فَالْهِجْرَةُ الأُولَى إِلَى الرَّحْمَنِ بِالْ
إِخْلاصِ فِي سِرٍّ وَفِي إِعْلانِ
حَتَّى يَكُونَ الْقَصْدُ وَجْهُ اللهِ بِالْ
أَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالإِيمَانِ
وَيَكُونُ كُلُّ الدِّينِ لِلرَّحْمَنِ مَا
لِسِوَاهُ شَيْءٌ فِيهِ مِنْ إِنْسَانِ
وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ اللَّذَيْنِ هُمَا لِكُلِّ م
وَلايَةٍ وَعَدَاوَةٍ أَصْلانِ
للهِ أَيْضًا هَكَذَا الإِعْطَاءُ وَالـ
ـمَنْعُ اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا يَقِفَانِ
وَاللهِ هَذَا شَطْرُ دِينِ اللهِ وَالتَّـ
ـحْكِيمِ لِلْمُخْتَارِ شَطْرٌ ثَانِ
وَالْهِجْرَةُ الأُخْرَى إِلَى الْمَبْعُوثِ بِالْ
إِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ
أَتَرَوْنَ هَذي هِجْرَةَ الأَبْدَانِ لا
وَاللهِ بَلْ هِيَ هِجْرَةٌ الإِيمَانِ
قَطْعُ الْمَسَافَةِ بِالْقُلُوبِ إِلَيْهِ فِي(6/465)
.. دَرْكِ الأُصُولِ مَعَ الْفُرُوعِ وَذَانِ
أَبَدًا إِلَيْهِ حُكْمَهَا لا غَيْرُهُ
فَالْحُكْمُ مَا حَكَمَتْ بِهِ النَّصَانِ
يَا هِجْرَةً طَالَتْ مَسَافَتُهَا عَلَى
مَنْ خَصَّ بِالْحُرْمَانِ وَالْخُذْلانِ
يَا هِجْرَةً طَالَتْ مَسَافَتُهَا عَلَى
كَسْلان مَنْخُوبِ الْفُؤَادِ جَبَانِ
يَا هِجْرَةً وَالْعَبْدُ فَوْقَ فِرَاشِهِ
سَبَقَ السُّعَاةَ لِمَنْزِلِ الرِّضْوَانِ
سَارُوا أَحَثَّ السَّيْرِ وَهُوَ فَسَيْرُهُ
سَيْرُ الدَّلالِ وَلَيْسَ بِالذَّمِلانِ
هَذَا وَتَنْظُرُه أَمَامَ الرَّكْبِ كَالْـ
ـعِلْمِ الْعَظِيمِ يُشَافُ فِي الْقِيعَانِ
رُفِعَتْ لَهُ أَعْلامُ هَاتِيكَ النُّصُو
صِ رُؤُوسُهَا شَابَتْ مِنَ النِّيرَانِ
نَارٌ هِيَ النُّورُ الْمُبِينُ وَلَمْ يَكُنْ
لِيَرَاهُ إِلا مَنْ لَهُ عَيْنَانِ
مَكْحُولَتَانِ بِمِرْوَدِ الْوَحْيَيْنِ لا
بِمَرَاوُدِ الآرَاءِ وَالْهَذَياَنِ
فَلِذَاكِ شَمَّرَ نَحْوَهَا لَمْ يَلْتَفِتْ
لا عَنْ شَمَائِلِهِ وَلا أَيْمَانِ(6/466)
.. يَا قَوْمُ لَوْ هَاجَرْتُمُوا لَرَأَيْتُمُ
أَعْلامَ طَيْبَةَ رُؤْيَةً بِعِيَانِ
وَرَأَيْتُمُ ذَاكَ اللِّوَاءَ وَتَحْتَهُ الرُّ
سْلُ الْكِرَامُ وَعَسْكَرُ الْقُرْآنِ
أَصْحَابَ بَدْرٍ وَالأُولَى قَدْ بَايَعُوا
أَزْكَى الْبَرِيَّةِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ
وَكَذَا الْمُهَاجِرَةُ الأُولَى سَبَقُوا كَذَا الْ
أَنْصَارُ أَهْلُ الدَّارِ وَالإِيمَانِ
وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَا
لِكُ هَدْيِهِمْ أَبَدًا بِكُلِّ زَمَانِ
لَكِنْ رَضِيتُمْ بِالأَمَانِي وَابْتُلِيتُمْ
بِالْحُظُوظِ وَنَصْرَةِ الإِخْوَانِ
بَلْ غَرَّكَمْ ذَاكَ الْغُرُورُ وَسَوَّلَتْ
لَكُمْ النُّفُوسُ وَسَائِسَ الشَّيْطَانِ
وَنَبَذْتُمْ غِلَّ النُّصُوصِ وَرَاءَكُمْ
وَقَنِعْتُمُ بِقَطَارَةِ الأَذْهَانِ
وَتَرَكْتُمُ الْوَحْيَيْنَ زُهْدًا فِيهِمَا
وَرَغِبْتُمُ فِي رَأْيِ كُلِّ فُلانِ
وَعَزَلْتُمُ النَّصَّيْنِ عَمَّا وُلِّيَّا
لِلْحُكْمِ فِيهِ عَزْلَ ذِي عُدْوَانِ
وَزَعَمْتُمُ أَنَّ لَيْسَ يَحْكُم بَيْنَنَا(6/467)
.. إِلا الْعُقُولُ وَمَنْطِقُ الْيَوْنَانِ
حَتَّى إِذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَحُصِّلَتْ
أَعْمَالُ هَذَا الْخَلْقِ بِالْمِيزَانِ
وَإِذَا انْجَلَى هَذَا الْغُبَارُ وَصَارَ مَيْـ
ـدَانُ السِّبَاقِ تَنَالُهُ الْعَيْنَانِ
وَبَدَتْ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهُ سِمَاتُهَا
وَسْم الْمَلِيكِ الْقَادِرِ الدَّيَّانِ
مُبْيَضَّةً مِثْلَ الرِّيَاضِ بِجَنَّةٍ
وَالسُّودُ مِثْلَ الْفَحْمِ لِلنِّيرَانِ
فَهُنَاكَ يَعْلَمُ رَاكِبٌ مَا تَحْتَهُ
وَهُنَاكَ يُقْرَعُ نَاجِذُ النَّدْمَانِ
وَهُنَاكَ تَعْلَم كُلُّ نَفْسٍ مَا الَّذِي
مَعَهَا مِن الأَرْبَاحِ وَالْخُسْرَانِ
وَهُنَاكَ يَعْلَمُ مُؤْثِرُ الآرَاءِ وَالشَّـ
ـطَحَاتِ وَالْهَذَيَانِ وَالْبُطْلانِ
أَيَّ الْبَضَائِعِ قَدْ أَضَاعَ وَمَا الَّذِي
مِنْهَا تَعَوَّضَ فِي الزَّمَانِ الْفَانِ
سُبْحَانَ رَبِّ الْخَلْقِ قَاسمِ فَضْلِهِ
وَالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمِيزَانِ
لَوْ شَاءَ كَانَ النَّاسُ شَيْئًا وَاحِدًا
مَا فِيهِمْ مِنْ تَائِهٍ حَيْرَانِ(6/468)
.. لَكِنَّهُ سُبْحَانَه يَخْتَصُّ بِالْـ
ـفَضْلِ الْعَظِيمِ خُلاصَة الإِنْسَانِ
وَسِوَاهُمُ لا يَصْلَحُونَ لِصَالِحٍ
كَالشَّوْكِ فَهُوَ عِمَارَةُ النِّيرَانِ
وَعِمَارَةُ الْجَنَّاتِ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى
اللهُ أَكْبَرُ لَيْسَ يَسْتَوِيَانِ
فَسَلِ الْهِدَايَةَ مَنْ أَزَمَّه أَمْرِنَا
بِيَدَيْهِ مَسْأَلَةَ الذَّلِيلِ الْعَانِ
وَسَلِ الْعِيَاذِ مِن اثْنَتَيْنِ هُمَّا اللَّتَا
نِ بِهُلْكِ هَذَا الْخَلْقِ كَافِلَتَانِ
شَرِّ النُّفُوسِ وَسَيِّءِ الأَعْمَالِ مَا
وَاللهِ أَعْظَمُ مِنْهُمَا شَرَّانِ
وَلَقَدْ أَتَى هَذَا التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا
فِي خُطْبَةِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ
لَوْ كَانَ يَدْرِي الْعَبْدُ أَنَّ مُصَابَهُ
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الشَّرَّانِ
جَعَلَ التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا دَيْدَانَهُ
حَتَّى نَرَاهُ دَاخِلَ الأَكْفَانِ
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التوحيد وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.(6/469)
(فَصْلٌ)
60- ومنها أخذ الله المشركين المستهزئين بالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شغلهم عنه وأزال منعهم إياه عن تبليغ الرسالة، وهو المشار إليه بقوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} .
وهم خمسة نفر من رؤساء قريش، الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان رأسهم، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة.
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا عليه، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أعْمِ بصره واثْكله بولده)) والأسود بن عبد يغوث بن وهب، والحارث بن قيس بن الطُّلاطلة.
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت.
فَقَامَ جبريل إلى جنبه، فمرَّ به الوليد بن المغيرة، فَقَالَ جبريل: يا مُحَمَّد كيف تجد هذا، فَقَالَ: بئس عَبْدُ الله، فَقَالَ: قد كُفِيْتَه، وأومأ إلى ساق الوليد، فمر برجل من خزاعة نبَّال يريش نباله، وعليه بُرْد يمان، وهو يجرُّ إزاره، فتعلقت شظية من نَبْلٍ بإزاره، فمنعه الكبر أن "يطاطئ رأسه فينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فخدشته، فمرض منها فمات.
ومرَّ به العاص بن وائل، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد، قال: بئس عبد الله، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه، وَقَالَ: قد كفيته، فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه، فنزل شعباً من تلك الشعاب، فوطئ على شبرقةٍ، فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فَقَالَ: لدغت لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتَّى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه.
فمرَّ به الأسود بن المطلب، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد، قَالَ بئس عبد الله، فأشار بَيّدِهِ إلى عينيه، وَقَالَ: قد كفيته، فعمي.
قال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء، فعمي فذهب بصره ووجعت عيناه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك.(6/470)
ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا محمد، قَالَ: بئس عبد الله على أنه ابن خالي)) فَقَالَ: قد كفيته، وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات
ومرَّ به الحارث بن قيس
فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد؛ فَقَالَ: عبد سوء فأومأ إلى رأسه وَقَالَ: قد كفيته، فامتخط قيحاً فقتله. وقِيلَ أكل حوتاً مالحاً فلم يزل يشرب عليه من الماء حتَّى انقد بطنه.
61- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما روي أن الحطم واسمه شريح بن صبيعة البكري - أتى المدينة، وخلف خيله خارج المدينة، ودخل وحده، على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إلام تدعو الناس فَقَالَ: ((إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) .
فَقَالَ: حسن، ولكن أنظرني، فلي من أشاوره، فلا أقطع أمراً دونهم، ولعلي أسلم، وآتي بهم، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، ثم خرج شريح من عنده، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة، فاستاقه، وانطلق، فاتبعوه فلم يُدركوه.
فلما كان العام القابل، خرج حاجاً، في حجاج بكر بن وائل، من اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلد الهدي، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا الحطم قد خرج حاجاً، فخلِّ بيننا وبينه. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلد الهدي، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية، فأبى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ َلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ} الآية.(6/471)
62- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوله في ليلة الإسراء، حين أصبح ((إن من آية ما أقول لكم، أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيراً لهم، فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان)) فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتَّى كان قريب من نصف النهار حتَّى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الَّذِي وصفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان كما أخبر.
63- وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أفراد من المشركين أصحاب القليب، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌه، جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَاجَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَضَعُهُ بَيْنَ كَتِفَيْ مُحَمَّد إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ.
فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِه، والنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ إلى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عنْهَا.
فَجَاءَتْ وهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا، دَعَا ثَلَاثَ مَراتٍ وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا فَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ.(6/472)
ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَذَكَرَ السَّابِعَ، وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ (قَلِيبِ بَدْرٍ) أخرجه الشيخان والنسائي تيسير الوصول ج 4 ص 216.
64- وَمِنْ ذَلِكَ ما في صحيح البخاري، عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ، فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حتَّى السَّاعَةِ.
65- وَمِنْ ذَلِكَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أَرَادَ الهجرة خرج من مكة، ومعه أبو بكر، فدخل غاراً في جبل ثور، ليستخفي من قريش، وقد طلبته، وبذلت لمن جاء به مائة ناقة، فأعانه الله بإخفاء أثره، ونسجت العنكبوت على باب الغار.
ولما خرج، لحقه سراقة بن مالك بن خعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فَقَالَ أبو بكر هذا سراقة قد قرب، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((اللَّهُمَّ أكفنا سراقة)) فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فَقَالَ سراقة يا مُحَمَّد ادع الله أن يطلقني، ولك على أن أرد من جاء يطلبكَ ولا أعين عَلَيْكَ أبداً، فَقَالَ ((اللَّهُمَّ إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه)) فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة، وحسن إسلامه.
شِعْرًا: ... أَشْكُو إِلَيْكَ ذُنُوبًا لَسْتُ أُنْكِرُهَا ... وَقَدْ رَجَوْتُكَ يَا ذَا الْمَنِّ تَغْفِرُهَا
مِنْ قَبْلِ سُؤْلِك لِي فِي الْحَشْرِ يَا أَمَلِي ... يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الأَهْوَالِ تَذْكُرُهَا
أَرْجُوكَ تَغْفِرُهَا فِي الْحَشْرِ يَا أَمَلِي ... إِذْ أَنْتَ سُؤْلِي كَمَا فِي الأَرْضِ تَسْتُرُهَا(6/473)
آخر: ... مَوْلايَ إِنِّي عَبْدٌ ضَعِيفْ ... أَتَيْتُكَ أَرْغَبُ فِيمَا لَدَيْكْ
أَتَيْتُكَ أَشْكُو مَصَابَ الذُّنُوبْ ... وَهَلْ يُشْتَكَى الضُّرُّ إِلا إِلَيْكْ
فَمُنَّ بِعَفْوِكَ يَا سَيِّدِي ... فَلَيْسَ اعْتِمَادِي إِلا عَلَيْكْ
66- وَمِنْ ذَلِكَ ما ذكره الماوردي في أعلام النبوة، من أن أبا لهب، خرج يوماً، وقد اجتمعت قريش، فقَالُوا له يا أبا عتبة، إنك سيدنا، وأنت أولى بمُحَمَّد منا، وإن أبا طالب، هو الحائل بيننا وبينه، ولو قتلته لم ينكره أبو طالب، ولا حمزة، منك شيئاً، وأنت برئ من دمه، نؤدي نحن الدية، وتسود قومك، فَقَالَ فإني أكفيكم، ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم.
فلما كان في تلك الليلة، وكان مشرفاً عليه، نزل أبو لهب وهو يصلي وتسلقت امرأة أبي لهب، وأم جميل الحائط، حتَّى وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ساجد فصاح به، أبو لهب، فلم يلتفت إليه، وهما كانا لا ينقلان أقدامهما، ولا يقدران على شيء، حتَّى تفجر الصبح، وفرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له أبو لهب يا مُحَمَّد، أطلق عنا، فَقَالَ: ((ما كنت لأطلق عنكما، أو تضمنا إنكما لا تؤذياني)) قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا.
67- وَمِنْ ذَلِكَ أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، وهو معتزل عنهم، رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فَقَالَ اليوم أدرك ثأري من مُحَمَّد، فأقتله، لأن أبا شيبة قتل يوم أحد في جماعة إخوته وأعمامه، قَالَ شيبة فلما أردت قتله، أقبل شيء حتَّى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أنه ممنوع.
شِعْرًا: ... لا تَرْكَنَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... فَأَنْتَ مِنْ عَاجِل الدُّنْيَا سَتَنْتَقِلُ
أَصْبَحْتَ تَرْجُو غَدًا يَأْتِي وَبَعْدَ غَدٍ ... وَرُبَّ ذِي أَمَلٍ قَدْ خَانَهُ الأَمَلُ(6/474)
شِعْرًا: ... هَذَا شَبَابُك قَدْ وَلَّتْ بَشَاشَتُهُ ... مَا بَعْدَ شَيْبِكَ لا لَهْوٌ وَلا جَدَلُ
مَاذَا التَّعَلُّلُ بِالدُّنْيَا وَقَدْ نَشَرَتْ ... لأَهْلِهَا صِحَّةً فِي طِيِّهَا عِلَلُ
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك.
اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك علي كل شيء قدير ولله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
68- وَمِنْ ذَلِكَ قصة أبي جهل وحجره ففي السيرة النبوية أن أَبُا جَهْلٍ قَالَ يَوْماً يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ مُحَمّداً قَدْ أَبَى إلّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَشَتْمِ آلْهِتَتَا، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللهَ لَأَجْلِسَنّ لَهُ غَداً بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ قَالُوا: وَاَللهِ لَا نُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَداً، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظره. وغدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما كان يغدو،
فَقَامَ يصلى، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتَّى إذا دنا منه، رجع منهزماً منتقعاً لونه مرعوباً، قد يبست يداه على حجره، حتَّى قذف الحجر من يده.(6/475)
وقام إليه رجال من قريش فقَالُوا له: ما لك يا أبا الحكم، قَالَ: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه، فحل من الابل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه، لفحل قط، فهم أن يأكلني، وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذلك جبريل لو دنا لأخذه.
69- ومنها قصة أخرى مع أبي جهل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّد وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلَّي كذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ فَمَا فَجِأهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ، فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقاً مِنْ نَارٍ، وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْواً عُضْواً)) قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا أدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لا {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} إلى آخر السورة.
70- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يلي: قَالَ مُحَمَّد بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، كَانَ سَيّداً حَلِيْماً، قَالَ يَوْماً وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّد وَأُكَلّمَهُ، وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُوراً لَعَلّهُ يَقْبَلُ منا بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ وَيَكُفّ عَنّا، وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ، وَيَكْثُرُونَ.
فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ فقُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ، فَقَامَ عُتْبَةُ حتَّى جَلَسَ(6/476)
إلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، مِنْ البسّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ، فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْت آلِهَتَهُمْ، وَكَفّرْت مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي، أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُوراً تَنْظُرُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ) فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْت تُرِيدُ شَرَفاً سَوّدْنَاك عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالاً بِمَا جِئْتَ بِهِ جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا، وإن كَانَ الَّذِي بِكَ رَئِيَّاً، لا نَسْتَطِيعُ رَدَّه، طَلَبْنَا لَك الطّبّ وَلَعَلَّ هَذَا شِعْرٌ جَاشَ بَصَدْرِكَ، فإنكمُ لَعمْرِي، بَنِي المطَّلِب، تَقْدُرُوْنَ من ذلكَ مَا لاَ يَقْدِرٌ عليه غَيرُكُمْ، حتَّى إذَا فَرَغَ مَا عَنْدَه، مِن سَائِر الأمُوْرِ التي يَزْعُمُ أنَّها تَرُدهُ عَمَّا يّقُولُ،، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ ((أَوَ قَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ)) ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ ((فَاسْمَعْ مِنّي)) قَالَ فَافْعَلُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ثُمّ مَضَى يَقْرَأ، فَلَمّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، مُعْتَمِداً عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، حتَّى انْتَهَى رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السّجْدَةِ فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ ((قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ)) فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمّا جَلَسَ فِيْهِم، قَالُوا: مَا وَرَاءَك، يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَالَ وَرَائِي أَنّي سَمِعْتُ قَوْلاً، وَاَللهِ مَا سَمِعْت بمِثْلَهُ قَطّ، مَا هُوَ بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ! يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا(6/477)
الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاَللهِ لَيَكُونَنّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزّهُ عِزّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ، فقَالُوا: سَحَرَك وَاَللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قفَالَ هَذَا رَأْيِي لكُم فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
71- ومنها ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن ابن ابنته فاطمة الحسين بن علي يقتل بالعراق فكان الأمر كما أخبر فقتل الحسين رضي الله عنه في كربلاء سنة إحدى وستين وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف الشهر.
72- ومنها دُعَاؤُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَسٌ بنِ مَالِكٍ واسْتِجَابَةُ الله لدٌعَائِه، فَعَن أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه، قَالَ جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَزَّرَتْنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا، وَرَدَّتْنِي بِنِصْفِهِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أُنَيسٌ ابْنِي أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ)) .
قَالَ أَنَسٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ أخرجه مسلم، وعن أبي خَلْدةَ خَالِدِ بن دِيْنَار، قَالَ قُلْتُ لأبي العالية، سَمِعَ أَنَسٌ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ خَدَمَةُ عَشْرَ سِنِيْنَ، وَدَعَا لَهُ، وكان لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ في السَّنَةِ الفَاكِهَةَ مَرَّتَيْن، وَكَانَ فِيْهِ رَيْحَانٌ، يَجِيء مِنْهُ رِيْحُ المسْكِ، أخرجه الترمذي.
73- وَمِنْ ذَلِكَ إخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مَقْتَل القُرَاءِ فَعَن
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ(6/478)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ.
وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ، فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ فَبَعَثَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ فَقَالُوا اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا.
قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَاماً خَالَ أَنَسٍ، مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ ((إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإِنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا.
74- وَمِنْ ذَلِكَ ما رُويَ َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لما تلا {والنجم إذا هوي} أن عتبة بن أبي لهب، كفرت بالَّذِي دنى فتدلى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ سلط عليه كلباً من كلابك)) يعني الأسد فخرج عتبة مع أصحابه، في عير إلى الشام، حتَّى إذا كانوا في طريقهم، زأر الأسد، فجعلت فرائض عتبة ترتعد، فَقَالَ أصحابه من أي شيء ترتعد، فوالله ما نحن وأنت إلا سواء، فَقَالَ إن محمداً دعا علي، وما ترد له دعوه، ولا أصدق منه لهجة.
فوضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه، وحاط القوم أنفسهم بمتاعهم، وجعلوا عتبة وسطهم، وناموا، فجاء الأسد يشَمّ رؤوسهم رجلاً رجلاً، حتَّى انتهى إلى عتبة، فهشمه هشمةً أوصلته إلى آخر رمق، فَقَالَ وهو بآخر رمق، ألم أقل لكم إن محمداً أصدق الناس لهجةً.(6/479)
75- وَمِنْ ذَلِكَ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس، وهو يومئذ غلام: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)) فخرج أفقه الناس في الدين، وأعلمهم بالتاويل، حتَّى سمي البحر، لسعة علمه، رضي الله عنه.
76- ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من أن عَائِشَةَ لَمَّا أَقْبَلَتْ بَلَغَتْ مِيَاهَ بَنِي عَامِرٍ لَيْلاً، نَبَحَتْ الْكِلَابُ، فقَالَتْ أَيُّ مَاءٍ هَذَا، قَالُوا مَاءُ الْحَوْأَبِ، قَالَتْ مَا أَظُنُّنِي إِلَّا أَنِّي رَاجِعَةٌ، قَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهَا بَلْ تَقْدَمِينَ، فَيَرَاكِ الْمُسْلِمُونَ فَيُصْلِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ ((كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ، تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ)) وفي حديث ابن عباس قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (0 ليت شعري، أيتكن صاحبة الجمل المدبب، تخرج فينبحها كلاب الحواب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير، ثم تنجو بعدما كادت)) رواه البزار ورجاله ثقات كل ذلك يقع طبق ما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخده سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السموات والأرض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلمهنا ذكرك وشكرك وحمدك.
اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.(6/480)
(فَصْلٌ)
77- ومنها إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَرَامٍ عن غَزْوِهَا في البَحْرِ وعُلوِ مَكَانَتِها فَفِي صحيح البخاري عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
فَدَخَلَ يَوْماً فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكاً عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ قَالَ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ)) شَكَّ إِسْحَاقُ قُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ! فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وهُوَ يَضْحَكُ، قُالَتْ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) كَمَا قَالَ في الأوْلَى، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: ((أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ)) فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
78- ومنها إخباره عن أول زوجاته لحوقاً بِهِ بَعْدَ وفَاتِه،
فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ رَسُولُ الله أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقاً، قَالَ أَطْوَلُكُنَّ يَداً، فَأَخَذُوا قَصَبَةً(6/481)
يَذْرَ عَنَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَداً، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقاً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه الشيخان.
79- وَمِنْ ذَلِكَ إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِلَ كِسْرَى مَلِكِ الفُرْس على اليَمَنِ أن الله وعده أن تقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا ومن حديثه أن كسرى كتب إلى عامله على اليمن باذان: إنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه.
فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكتب إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا)) فلما أتى باذان كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توقف لينتظر، وَقَالَ: إن كان نبياً فسيكون ما قَالَ، فقتل كسرى في اليوم الذى قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قتل على يدى ابنه شيرويه.
فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه، وإسلام من معه، ومن الفرس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الرسل من الفرس، إلى من نحن يَا رَسُولَ اللهِ ((أنتم منا وإلينا أهل البيت)) .
80- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، فَقَالَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقاً سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ يَا(6/482)
عَجَبِي ذِئْبٌ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ، فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ، يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ، حتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا.
ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بَيّدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ حتَّى يُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ، بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ.
قَالَ ابن كثير وهذا إسناد على شرط مسلم، وقد صححه البيهقي، ولم يروه إلا الترمذي من قوله: والَّذِي نفسي بَيّدِهِ لا تقوم الساعة حتَّى يكلم السباع الأنس إلى آخره.
81- وَمِنْ ذَلِكَ توقيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مواقيت الحج المكانية وذلك أنه عينها من قبل فتح بلدانها قَالَ الناظم:
وَإِحْرَامُ حِجٍّ مِنْ مَوَاقِيتٍ خَمْسَةٍ
لِطَيْبَةَ وَقْت ذَا الْحُلَيْفَةِ واقْصِدِ
وَلِلشَّامِ والْمِصْرِ والْغَرْبِ جُحْفَةً
وَلِلْيَمَنِ التَّالِي يَلْمَلَمُّ فَارْصِدِ
وَخُذْ ذَاتَ عِرْقٍ لِلْعِرَاقِ وَوَفْدِهِ
وَقَرْنًا لِوَفْدٍ طَائِفِيٍ وَمُنْجِدِ(6/483)
وَتَعْيِينُهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا
لِتَعْيِينِهِ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ الْمُعَدَّدِ
82- ومن ذَلِكَ إنْذَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيْح شَدِيْدَةٍ في تَبُوكَ، وَطَلَبَ مِن أصْحَابِهِ أَنْ يَأُخُذُوْا حِذْرَهُم، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَى، عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْرُصُوهَا، فَخَرَصْنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ: أَحْصِيهَا، حتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَانْطَلَقْنَا حتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((سَتَهُبُّ رِيحٌ شَدِيدَةٌ)) فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، وَجَاءَ رَسُولُ صَاحِبِ أَيْلَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْدَى لَهُ بُرْداً، ثُمَّ أَقْبَلْنَا، حتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ، عَنْ حَدِيقَتِهَا كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا فَقَالَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ،
تماماً كَمَا أخْبَرَ: 83 وَهَذِهِ أيْضَاً مُعْجزَة.
85- وَمِنْ ذَلِكَ إخْباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيأتي زمان ترتحل فيه الظعينة من الحيرة إلى الكعبة، لا تخاف إلا الله ووقع طبق ما أخبر.
ففي صحيح البخاري عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: ((يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ(6/484)
أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ ((فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، لَا تَخَافُ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ)) قُلْتُ: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ – أَيْ قُطَّاعُ الطَّريْقِ - الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ - - ((وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى)) قُلْتُ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، قَالَ: ((كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَداً يقبلهُ مِنْهُ.
وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ: لَهُ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَيُبَلِّغَكَ، فَيَقُولُ بَلَى: فَيَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالاً، فَيَقُولُ بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ)) قَالَ عَدِيٌّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) .
قَالَ عَدِيٌّ فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنْ فْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ)) .
85- وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنابغة الجعدي، بقوله له ((لا يفضفض الله فاك)) فعمر، وكان أحسن الناس ثغراً، كلما سقطت له سن، نبتت له أخرى.
86- وَمِنْ ذَلِكَ سقوط الأصنام، بإشارة من قضيب، كان في(6/485)
يده فإنه كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، أرجلها مثبتة بالرصاص، في الحجارة، تثبيتاً محكماً، فلما دخل عام الفتح إلى المسجد الحرام، جعل يشير بقضيب في يده إلى تلك الأصنام فوقعت لوجوهها، وظهورها، حسب إشارته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
87- وَمِنْ ذَلِكَ ما روي أن العباس بن عبد المطلب، بعث ابنه عبد الله، إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجة، فوجد عنده رجلاً، فرجع ولم يكلمه، من أجل مكان الرجل، فلقيَ العباسُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره بذلك، فَقَالَ ((روآه؟)) قَالَ نعم ((قَالَ أَتَدْرِي مَن ذاك الرجل؟)) ذَاكَ جِبْرِيِلُ، ولن يموت حتَّى يذهب بصره، ويؤتى علماً)) وقد مات ابن عباس، سنة ثمان وستين، بعد ما عمي بصره، رضي الله عنه وصار بحراً زاخراً في العلم.
88- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه للبيهقي عن خمارة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قَالَ: «ليس عَلَيْكَ من مرضك بأس، ولكن كيف بِكَ إذا عمرت بعدي فعميت؟» قَالَ: إذاً أحتسب وأصبر، قَالَ: «إذاً تدخل الجنة بغير حساب» . قَالَ فعمي بعد ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم رد الله عليه بصره، ثم مات.
89- ومن –ذلك إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن محنة عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ففي صحيح البخاري عَن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(6/486)
قَالَ كَنَت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فاسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)) فَفَتَحْتُ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فبَشَّرْتُهُ بمَا قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ الله.
ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فاسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)) فَفَتَحْتُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ فَأَخْبَرَتُهُ بما قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لِيْ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ)) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ فَأَخْبَرَتُهُ بما قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
90- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((َبَيْعٌ أَمْ هِبَةٌ؟ قَالَ بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، فأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا في الثَّلَاثِينَ وَالمِائَةِ، رَجُلٌ إِلَّا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا إِنْ كَانَ شَاهِداً أَعْطَاهُ إيَّاهُ،وَإِنْ كَانَ غَائِباً خَبَّأَ لَهُ، فجَعَلَ مِنْهُمَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْوا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا وفَضَلَت الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلتا عَلَى الْبَعِيرِ رَوَاهُ الشَّيْخَان.
91- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ سَمُرَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَدَاوَلُ فِي قَصْعَةٍ، مِنْ غَدْوَةٍ حتَّى اللَّيْلِ، يَقُومُ عَشَرَةٌ، وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ فقُلْنَا فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ، قَالَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ، مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ بَيّدِهِ إِلَى السَّمَاءِ. رواه الترمذي(6/487)
=92- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلًا يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ، وَضَيْفُهُمَا، حتَّى كَالَهُ، فَفَنِيَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ)) . رواه مسلم
93- وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مضر، وأمساك القطر عنهم، فإنهم لما كذبوه، وآذوه، في نفسه، وأصحابه، دعا عليهم، فَقَالَ ((اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ)) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمْسك عنهم القطر، حتَّى جف النبات والشجر، وماتت الماشية، وحتَّى اشتتووا القِدَّ، وأكلوا العَلهَرَ، وتفرقوا في البلاد، لشدة الحال.
فوفد حاجب بن زرارة، إلى كسرى فشكا إليه ما نالهم، وسأله أن يأذن له في الرعي، بالسواد ورهنه قوسه.
والقصة مشهورة، يسوقها أهل التفسير، عند قول الله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} .
اللَّهُمَّ أنا نعوذ بِكَ من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداد وسوء المنظر في الأهل والمال والولد اللَّهُمَّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
قَالَ ابن القيم رحمه الله:
يَا قَاعِدًا سَارَتْ بِهِ أنْفَاسُهُ
سَيْرَ الْبَرِيدِ وَلَيْسَ بِالذَّمَلاَنِ(6/488)
حَتَّى مَتَى هَذَا الرُّقَادُ وَقَدْ سَرَى
وَفْدُ الْمَحَبَّةِ مَعْ أُولِي الإِحْسَانِ
وَحَدَتْ بِهِمْ عَزَمَاتُهُمْ نَحْوَ الْعُلَى
لاَ حَادِيَ الرُّكْبَانِ وَالأَضْعَانِ
رَكِبُوا الْعَزَائِمَ وَاعْتَلَوا بِظُهُورِهَا
وَسَرَوْا فَمَا حَنُّوا إلَى نُعْمَانِ
سَارُوا رُوَيدًا ثُمَّ جاؤُوا أوَّلاً
سَيْرَ الدَّلِيلِ يَؤُمُّ بِالرُّكْبَانِ
سَارُوا بإثبَاتِ الصِّفَاتِ إلَيْهِ لاَ التَّـ
عْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالنُّكرَانِ
عَرَفُوهُ بِالأَوْصَافِ فَامتَلأتْ قُلُو
بُهُمُ لَهُ بِالْحُبِّ وَالإِيمَانِ
فَتَطَايَرَت تِلْكَ الْقُلُوبُ إلَيهِ بِال
أَشْوَاقِ إذْ مُلِئَتْ مِنَ العِرفَانِ
وَأشَدُّهُمْ حُبًّا لَهُ أدرَاهُمُوا
بِصِفَاتِهِ وَحَقَائِقِ القُرْآنِ
فَالْحُبُّ يَتْبَعُ لِلشُّعُورِ بِحَسْبِهِ
يَقْوَى وَيَضْعُفُ ذَاكَ ذُو تِبْيَانِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْعَارِفُونَ صِفَاتِهِ
أحْبَابَهُ هُمْ أَهْلُ هَذَا الشَّانِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْعَالِمُونَ بِرَبِّهِمْ(6/489)
.. أحْبَابَهُ وَبِشِرْعَةِ الإِيمَانِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْمُنْكِرُونَ لَهَا هُمُ ال
أَعْدَاءُ حَقًّا هُمْ أُولُو الشَّنَآنِ
وَلِذَاكَ كَانَ الْجَاهِلُونَ بِذَا وَذَا
بُغَضَاؤهُ حَقًّا ذَوِي شَنَآنِ
وَحَيَاةُ قَلْبِ الْمَرْءِ فِي شَيْئَيْنِ مَنْ
يُرْزَقْهُمَا يَحْيَى مَدَى الأزْمَانِ
فِي هَذِهِ الدُّنيَا وَفِي الأخْرَى يَكُو
نُ الْحَيَّ ذَا الرِّضْوَانِ وَالإِحْسَانِ
ذِكْرُ الإِلَهِِ وَحُبِّهِ مِنْ غَيْرِ إِشْ
رَاكٍ بِهِ وَهُمَا فَمُمْتَنِعَانِ
مِنْ صَاحِبِ التَّعْطِيلِ حَقًّا كَامْتِنَا
عِ الطَّائِرِ الْمَقْصُوصِ مِن طَيَْرَانِ
أَيُحِبُّهُ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ وَصْفَهُ
وَعُلُوَّهُ وَكَلاَمَهُ بِقُرْآنِ
لاَ وَالَّذِي حَقًّا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
مُتَكَلِّمًا بِالْوَحْيِ وَالْفُرْقَانِ
اللهُ أَكْبَرُ ذَاكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْ
تِيهِ لِمَنْ يَرْضَى بِلاَ حُسْبَانِ
وَتَرَى الْمُخَلَّفَ فِي الدِّيَارِ تَقُولُ ذَا
إِحْدَى الأَثَافِي خُصَّ بِالْحِرْمَانِ(6/490)
.. اللهُ أَكْبَرُ ذَاكَ عَدْلُ اللهِ يَقْـ
ضِيهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ إِنْسَانِ
وَلَهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا الْحَمْدُ فِي الْ
أُولَى وَفِي الأخْرَى هُمَا حَمْدَانِ
حَمْدٌ لِذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلاَلُهُ
وَكَذَاكَ حَمْدُ الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَيرَوْنَ خُسْرَانًا مُبِينًا بَيْعَهَا
فِي إِثْرِ كُلِّ قَبِيحَةٍ وَمُهَانِ
وَيَرَوْنَ مَيْدَانَ التَّسَابُقِ بَارِزًا
فَيُتَارِكُونَ تَقَحُّمَ الْمَيْدَانِ
وَيَرَونَ أَنْفَاسَ الْعِبَادِ عَلَيْهِمُ
قَدْ أُحْصِيَتْ بِالْعَدِّ وَالْحُسْبَانِ
وَيَرَوْنَ أنَّ أمَامَهُمْ يَوْمَ اللِّقَا
للهِ مَسْأَلَتَانِ شَامِلَتَانِ
مَاذَا عَبَدْتُمْ ثُمَّ مَاذَا قَدْ أَجَبْـ
ـتُمْ مَنْ أَتَى بِالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ
هَاتُوا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ وَهَيِّئُوا
أَيْضًا صَوَابًا لِلْجَوَابِ يُدَانِ(6/491)
وَتَيَقَّنُوا أَنْ لَيْسَ يُنْجِيكُمْ سِوَى
تَجْرِيدِكُمْ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ
تَجْرِيدُكُمْ تَوْحِيدَهُ سُبْحَانَهُ
عَنْ شِرْكَةِ الشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ
وَكَذَاكَ تَجْرِيدُ إتِّبَاعِ رَسُولِهِ
عَنْ هَذِهِ الآرَاءِ وَالْهَذَيَانِ
وَاللهِ مَا يُنْجِي الْفَتَى مِنْ رَبِّهِ
شَيْءٌ سِوَى هَذَا بِلاَ رَوَغَانِ
يَا رَبِّ جَرِّدْ عَبْدَكَ الْمِسْكِينَ رَا
جِي الْفَضْلِ مِنْكَ أَضْعَفَ الْعُبْدَانِ
لَمْ تَنْسَهُ وَذَكَرْتَهُ فَاجْعَلهُ لاَ
يَنْسَاكَ أَنْتَ بَدَأْتَ بِالإِحْسَانِ
وَبِهِ خَتَمْتَ فَكُنْتَ أَوْلَى بِالْجَمِيـ
لِ وَبِالثَّنَاءِ مِنَ الْجَهُولِ الْجَانِي
فَالْعَبْدُ لَيْسَ يَضِيعُ بَيْنَ خَوَاتِمٍ
وَفَوَاتِحٍ مِنْ فَضْلِ ذِي الْعِرْفَانِ
أَنْتَ الْعَلِيمُ بِهِ وَقَدْ أَنْشَأتَهُ
مِنْ تُرْبَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الأَرْكَانِ
وَالضَّعْفُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْنَا مِنْ جَمِيـ
عِ جِهَاتِنَا سِيمَا مِنَ الإِيمَانِ(6/492)
يَا رَبُّ مَعْذِرَةٌ إِلَيْكَ فَلَمْ يَكُنْ
قَصْدُ الْعِبَادِ رُكُوبَ ذَا الْعِصْيَانِ
لَكِنْ نُفُوسٌ سَوَّلَتْهَا وَغَرَّهَا
هَذَا الْعَدُوُّ لَهَا غُرُورَ أَمَانِ
فَتَيَقَّنَتْ يَا رَبُّ أَنَّكَ وَاسِعُ الـ
ـغُفْرَانِ ذُو فَضْلٍ وَذُو إِحْسَانِ
وَسَعَت إلَى الأبَوَايْنِ رَحْمَتُكَ الَّتِي
وَسِعَتْهُمَا فَعَلاَ بِكَ الأبَوَانِ
هَذَا وَنَحْنُ بَنُوهُمَا وَحُلُومُنَا
فِي جَنْبِ حِلْمِهَا لَدَى الْمِيزَانِ
جُزْءٌ يَسِيرٌ وَالْعَدُوُّ فَوَاحِدٌ
لَهُمَا وَأَعْدَانَا بِلاَ حُسْبَانِ
وَمَقَالُنَا مَا قَالهُ الأَبَوَانِ قَبْـ
لَ مَقَالَةِ الْعَبْدِ الظَّلُومِ الْجَانِ
نَحْنُ الأُولَى ظَلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ الـ
ـذَّنْبَ الْعَظِيمَ فَنَحْنُ ذُو خُسْرَانِ
يَا رَبُّ فَانْصُرْنَا عَلَى الشَّيْطَانِ لِيـ
سَ لَنَا بِهِ لَوْلاَ حِمَاكَ يَدَانِ
اللَّهُمَّ ثبت وقوي إيماننا بِكَ وبملائكتك وبكتبِكَ وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ عاملنا بعفوك وغفرانك وتمنن علينا بفضلك وإحسانك ونجنا من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك(6/493)
وكرمك وجودك الجنة دار القرار واجعلنا مع عبادك الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك وصلى الله على سيدنا محمد
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 94- ومن إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن محنة المسلمين وتداعي الأمم عليهم ففي سنن أبي داود،ِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده.
95- وَمِنْ ذَلِكَ إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتساع ملك المسلمين وفوزهم بكنوز كسرى وقيصر واضطراب أمر المسلمين في النهاية.
ففي صحيح مسلم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ
وَإِنَّ الله قَالَ لِيْ: يَا مُحَمَّد إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي(6/494)
أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، حتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً.
96-وَمِنْ ذَلِكَ ما في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيّاً فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ نَصْرَانِيّاً، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّد إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ، لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا، فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ.
97- وَمِنْ ذَلِكَ ما روي عَنْ عَلِيٍّ بنِ أبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ تَبْعَثَنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ قَالَ: انْطَلِقْ فإن اللَّهَ تَعَالَى سَيَهْدِي قَلْبِكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ)) قَالَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْن اثنين ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَقْضَاكُمْ عَلي)) .
98- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عن قيس بن أبي حازم عن أبي شهم وكان رجلاً بطالاً فمرت به جارية فأهوى بيدِهِ إلى خاصرتها قَالَ فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغد وهو يبايع الناس فقبض يده وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أصاحب الجبدة أمس؟)) قَالَ فقلت لا أعود يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((فنعم إذاً)) الحديث أخرجه النسائي.
99- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُما، قَالَ كُنْتُ جالساً مَعَ(6/495)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسلما، ثم قالا، يَا رَسُولَ اللهِ جئنا نسألك، فَقَالَ «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت» فَقَالَ أخبرنا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الثقفي للأنصار، سل، فَقَالَ أخبرني يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ «جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف، وما لك فيها، وعن طوافك بين الصفا والمروة، وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة، وما لك فيه، وعن رميك الجمار، ومالك فيه، وعن نحرك، وما لك فيه، مع الإفاضة)) فَقَالَ: والَّذِي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسالك.
قَالَ ((فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتك خفاً، ولا ترفعه، إلا كتب الله به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف، كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما طوافك بالصفا والمروة، كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة يقول عبادي جاؤني شعثاً، من كل فج عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي، مغفوراً لكم وعمَّن شفعتم له.
وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة رميتها، تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربِكَ، وأما حلاقك رأسك، فلك(6/496)
بكل شعره حلقتها حسنة، ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك يضع يده بين كتفيك فيقول اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى)) رواه الطبراني في الكبير والبزار واللفظ له ورواه ابن حبان في صحيحه.
100- ومنها إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقتل علي بن أبي طالب، وأن قاتله يخضب لحية علي من دم رأسه، فعن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري – وكان ابن فضالة من أهل بدر – قَالَ: خرجت مع أبي عائداً لعلي بن أبي طالب، من مرض أصابه ثقل منه، قَالَ فَقَالَ له أبي ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصاب أجلك إلا أعراب جهينة، تحمل إلى المدينة فإن أصابَكَ أجلك وليك أصحابُكَ، وصلوا عَلَيْكَ.
فَقَالَ عليٌّ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلىَّ أن لا أموت حتَّى أؤمَّرَ، ثم تخضب هذه، - يعني لحيته من دم هذه – يعني هامته، وعن عثمان بن صهيب عن أبيه، قَالَ قال علي قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((من أشقي الأولين؟)) قلت: لا علم لي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ ((الَّذِي يضربِكَ على هذه – وأشار علي إلى يافوخه بيدِهِ – فيخصب هذه من هذه)) يعني ليحته من دم رأسه، قَالَ: فكان يقول وددت أنه قد انبعث أشقاكم.
وقتل رضي الله عنه ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 40 هـ عندما خرج يوقظ الناس لصلاة الفجر، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه، فسال دمه على لحيته، رضي الله عنه وأرضاه فوقع طبق ما أخبره به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/497)
101- وَمِنْهَا إجَابَةُ دُعَائِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبِي هُريرةَ في تَحْبِيبهِ إلى الناس وأمِهِ، فَقَدْ وَرَدَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِناً يَسْمَعُ بِي أوَ يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي قَالَ إِنَّ أُمِّي كَانَتْ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا يَوْماً، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ.
فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)) فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةً (خَشْخَشَةَّ) وَسَمِعْتُ خَشْفَ رِجْلٍ - يَعْنِي وَقْعَهَا، فَقَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا أَنْتَ، ثُمَّ فَتَحَتْ الْبَابَ وَقَدْ لَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا أَنْ تَلْبَسَهُ، وَقَالَتْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنْ الْحُزْنِ.
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ، فَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ، وَقَدْ هَدَى الله أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْهُمْ(6/498)
إِلَيْهِمَا)) قَالَ أبُو هرَيْرة، فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِناً يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلا وَهُوَ يُحِبُّنِي.
102- وَمنهَا قِصَّةٌ أخرى، مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ وهِي مَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثاً كَثِيراً فَأَنْسَاهُ فَقَالَ ((ابْسُطْ رِدَاءَكَ)) فَبَسَطْتُهُ، ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ حَدَّثَنَا بَعْدَهُ، رواه البخاري.
وَقَالَ الإمام أحمد حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّني كُنْتُ امْرَأً مِسْكِيناً، أصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ في الْأَسْوَاقِ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً مَجْلِساً، فَقَالَ ((مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئاً سَمِعَهُ مِنِّي)) فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حتَّى قَضَى مَقَالَتَهُ، ثُمَّ قَبَضْتُهَا إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيدِهِ، مَا نَسِيتُ شَيْئاً سَمِعْتُهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِك.
اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا
اللَّهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الَّذِي يربح فيه المتقون اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجُدْ علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ(6/499)
مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ.
(فَصْلٌ)
103- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ اِلْحَسَنَ بْنِ عَلِيٍّ وهُوَ ابنُ فاطِمَةَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، فَتّمَ ذَلِك بِمُصَالَحَةِ الحَسَن لِمُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثِينَ سَنَةٍ.
104- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنَّ عَمَّارَ بنَ يَاسِرٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، وَيَكُونُ آخِرُ زَادِهِ ضِيَاحًا مِنْ لَبَنٍ، فَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّين، وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ آخِرَ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا ضِيَاحًا مِنْ لَبَنْ (وَالضِّيَاحُ) اللَّبَنُ الْخَاثِرُ يُصِبُّ فِيهِ الْمَاءَ ثُمَّ يُخْبَط.
105- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَه، وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ بِأَنَّ اللهَ يَفْتَحُ عَلَيْهِ الْيَمَنَ وَالشَّامَ وَالْمَغْرِبَ وَالْمَشْرِقَ، فَفِي السَّيْرِ وَالتَّفَاسِير عَنْ سَلمَانَ الْفَارِسي قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْخَنْدَقِ، فَغَلُظَتْ عَلَيَّ صَخْرَةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبٌ مِنِّي.
فَلَمَّا رَآنِي أَضْرِبُ، وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ، نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي، فَضَرَبَ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمَعْوَلِ بَرْقَة، قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةً أُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةٌ أُخْرَى، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الذِى رَأَيْتُ لَمَعَ تَحْتَ الْمَعْوَلِ وَأَنْتَ تَضْرِبُ قَالَ: ((أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ)) ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَم.(6/500)
قَالَ: " أَمَّا الأُولَى فَإِنَّ اللهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْيَمَن، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ الله فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّ اللهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ "". فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ الْيَمَنُ، فُتِحَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُتِحَتْ بَعْدَهَا الشَّامُ وَالْمَغْرِبُ، وَفَتِحَ بَعْدَ الشَّامِ الْمَشْرِقُ، فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
106- وَمِنْهَا قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، فَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَه قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلََهُ، فَقَالَ: ((بِعْنِيهِ بِأَوْقِيَّةٍ)) . قُلْتُ: لا. ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ)) . فَبِعْتُهُ بِأَوْقِيَّةٍ وَاشْتَرَطْتُ حُمْلانَهُ إِلى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغَتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ: ((أَتَرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
107- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَمَّا وَقَعَ لِخُبَيْبِ بنِ عَدِي فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَةِ، بَيْنَ عَسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ.
فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ التَّمْرَ فِي مَنْزِلٍ نَزَلُوهُ فَقَالُوا: تَمْرُ يَثْرِبَ فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحَاطَ بِهِمْ(6/501)
الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا الْقَوْمُ أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي بِهَؤُلاءِ أُسْوَةً، يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ، وَعَالَجُوهُ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ.
فَانْطُلِقوا بخُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ، حتَّى بَاعُوهُمَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسًى، يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فدرجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حتَّى أَتَاهُ، فوجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بَيّدِهِ.
قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْبًا.
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: لَوْلا أَنْ تَحْسِبُوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلَا تُبْقِ(6/502)
مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
آخر: ... (ولا غُروَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمْ
كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ)
(فَحَرْبَةُ وَحْشِي سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى
وَمَوْتَ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابنِ مُلْجِمِ)
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سِرْوَعَةَ، عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاةَ، وَأَخْبَرَ َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ، حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ، أَنْ يُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ، يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَبَعَثَ اللهُ لِعَاصِمٍ مِثَالَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَالشَّاهِدُ فِي إِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا.
108- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنَّ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يديه خَيْبَرَ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلٌ بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: ((لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ)) . فَبَاتَ النَّاسُ يَدوِكُونَ لَيْلَتَهُمْ، أَيُّهُمْ يُعْطَى فَقَالَ: ((أَيْنَ عَلِيٌّ بنُ أَبِي طَالِبٍ)) ؟ فَقِيلَ: هُوَ يَشْتَكِي(6/503)
عَيْنَيْهِ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الراية فَقَالَ: ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالى فِيهِ فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ)) . فَفَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ فَكَانَ كَمَا قَالَ.
109- وَمِنْ ذَلِكَ نَعْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا، وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِي عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِي خَبَرُهُمْ فَقَالَ: ((أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَها جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَها ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حتَّى أَخَذَ الراية سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ)) . يَعْنِي خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ، حتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
شِعْرًا: ... تَشَاغَلَ قَوْمُ بِدُنْيَا هُمُوا ... وَقَوْمُ تَخَلَّوْا لِمَوْلاهُمُوا
فَالْزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ ... وَعَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ أَغْنَاهُمُوا
إِذَا ذُكِّرُوا بِالَّذِي أَسْلَفُوا ... أَذَابَ الْقُلُوبَ وَأَبْكَاهُمُوا
فَمَا يَعْرفُون سوى حُبِّهِ ... فَوَالَوْا الإِلهَ وَوَالاهُمُوا
يَصُفُّونَ بِاللَّيْلِ أَقْدَمَهُمْ ... وَعَيْنُ الْمُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُوا
فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوبَى لَهُمْ ... إِذَا بِالتَّحِيَّةِ حَيَاهُمُوا
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ وَسَاوِسِ قُلُوبَنَا الْحَامِلَةِ عَلَى التَّورُّطِ فِي هُوَّةِ الْبَاطِلِ وَإِبْتِدَاعِهِ وَاجْعَلْ إِيمَانَنَا إِيمَانًا خَالِصًا صَادِقًا قَوِيًّا وَكُنْ لَنَا مُؤَيَّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ عَيْشَنَا عَيْشًا رَغَدًا. وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا فِي مَحَبَّتِكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَحِفْظًا كَامِلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا(6/504)
وَطَبْعًا صَفِيًا وَأَدَبًا مَرْضِيًا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
110- وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافعٍ، قَالَ: رُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَفُقِئَتْ عَيْنِي، فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا لِي، فَمَا آذَانِي مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدُ.
111- وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى مَرَّةً، فَقَامَ أَبُو لُبَابَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ التَّمْرَ فِي الْمَرَابِدِ.
فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا حتَّى يَقُومَ أَبُو لُبَابَةَ عِرْيَانًا فَيَشُدُّ مِرْبَدَهُ بِإِزَارِهِ)) . فَأَمْطَرَتْ فاجْتَمَعُوا: إِلى أَبِي لُبَابَةَ فَقَالُوا: إِنَّهَا لَنْ تُقْلِعَ حتَّى تَقُومَ عُرْيَانًا فَتَشُدَّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِكَ بِإِزَارِكَ فَفَعَلَ فَأَقْلَعتِ السَّمَاءُ.
112- وَمِنْهَا قِتَالُ الْمَلائِكَةِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقَاتِلانِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَّدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ.
113- وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ نَافِعِ بنِ جَبِير قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا، فَنَظَرْتُ إِلى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسطها كل ذلك يصرف عنه.
114- وَمِنْهَا دُعَاؤُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي طَلْحَةَ وَأُمّ سَلَمَة وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لِدَعْوَتِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لأَبِي طلحة(6/505)
ابنٌ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةُ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ: أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَّبِي: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ لَهُ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا)) . فَوَلَدَتْ غُلامًا، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حتَّى تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَقَالَ: ((أَمَعَهُ شَيْءٌ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ تَمَرَاتٌ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ الصَّبِي، ثُمَّ حَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدُ اللهِ. وَفِي رواية لِلبخاري قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قرؤوا الْقُرْآنَ يَعْنِي مِنْ أَوْلادِ عَبْدِ اللهِ الْمَوْلُودِ.
115- وَمِنْ ذَلِكَ الْكُدْيَةُ وَهِيَ الصَّخْرَةُ الصَّلْبَةُ الَّتِي لا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ فَشَكَوْهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَفَلَ فِيهِ ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُو بِهِ ثُمَّ نَضَحَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْكُدْيَةِ فَيَقُولُ مَنْ حَضَرَهَا: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لانْهَالَتْ حتَّى عَادَتْ كَالْكَثِيبِ، لا تَرَدُّ فَأْسًا، وَلا مِسْحَاةً.
116- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِرٍ بنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ فَزَعَمَ أَنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ)) . فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِذَا عَظِيمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ.(6/506)
117- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهُ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَنِي بِمَالٍ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَكَّةَ لِيَقْسِمُهُ فِي قُرَيْشٍ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ: ((الْتَمِسْ صَاحِبًا)) . فَجَاءَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلى مَكَّةَ فَتَلْتَمِسُ صَاحِبًا، قُلْتُ: أَجَلْ. قَالَ: فَأَنَا لَكَ صَاحِبٌ.
فَجِئْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ وَجَدْتُ صَاحِبًا قَالَ: ((مَنْ)) ؟ قُلْتُ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ: ((إِذَا هَبِطْتَ بِلادَ قَوْمِهِ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْقَائِلُ أَخُوكَ الْبَكْرِيُّ لا تَأْمَنْهُ)) . فَخَرَجْنَا حتَّى إِذَا كُنَّا بالأَبْوَاءَ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ حَاجَةً إِلَى قَوْمِي وَوَدِدْتُ أَنْ تَلَبَّثْ لِي قَلِيلاً، فَقُلْتُ: انْصَرِفْ رَاشِدًا فَلَمَّا وَلَّى ذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَدْتُ عَلَى بَعِيرِي فَخَرَجْتُ أُوضِعُهُ حتَّى إِذَا كُنْتُ بَالأَصَافِرِ إِذَا هُوَ يُعَارِضُنِي فِي رَهْطٍ فَأَوْضَعْتُ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي جَاءَنِي فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ لِي إِلَى قَوْمِي حَاجَةٌ، قُلْتُ: أَجَلْ وَمَضَيْنَا حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَفَعْتُ الْمَالَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ.
118- وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمٌ أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ مَنْ آذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ: آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ.
119- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو رَجَاءَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: ((مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أروَيْتُ حَائِطَكَ هَذَا)) ؟ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَجْهَدُ أَرْوِيهُ فََلا أُطِيقُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَجْعَلُ لِي مِائَةَ تَمْرَةٍ اخْتَارُهَا مِنْ تَمْرِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ(6/507)
الْغَرْبَ فَمَا لَبِثَ أَنْ أرْوَاهُ حتَّى قَالَ الرَّجُلُ: غَرِقَتْ عَلَيَّ حَائِطِي، فَاخْتَارَ مِائَةَ تَمْرَةٍ فَأَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حتَّى شَبِعُوا.
ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ تَمْرَةٍ كَمَا أَخَذَهَا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ.
اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتِنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْي الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 120- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ تَبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَجَلَسَ قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرّ: مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قُلْتُ الله وَرَسُوله، فَجَاءَ أَبُو بَكْرِ فَسَلَّمَ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: ((مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْر)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، فَجَاءَ عُمَرُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: ((يَا عُمَرُ مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ عُمَرُ، فَقَالَ: ((يَا عُثْمَانُ مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، فَتَنَاوَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، أَوْ تِسْعَ حَصَيَاتٍ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ.
ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُمرَ فَسَبَحَّنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ، فَسَبَحَّنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ، وَقَالَ الزُّهري يَعْنِي الْخِلافَة.(6/508)
121- وَمِنْهَا قِصَّة الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ فَعَنْ عِمَرانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسَفَارِهِِ وشَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ الْعَطَشَ فَدَعَا فُلانُ وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: ((اذْهَبَا فَابْغِيَا الْمَاءَ)) . فَانْطَلَقَا فَلَقِيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا.
فَقَالا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءَ، فَقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةُ وَنَفَرُنَا خُلُوفٌ، قَالا: انْطَلِقِي إِذًا. قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ، فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، واَطْلَقَ الْعَزَالِي، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا، وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى رَجُلاً أَصَابَتْهُ جَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ)) . وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا.
وَأيْمُ اللهِ لَقَدْ أَقْلَعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اجْمَعُوا لَهَا)) . فَجَمَعَوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسُوَيْقَةٍ، حتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فجَعَلُوهُ فِي ثَوْبٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: ((تَعْلَمِينَ مَا رَزَأْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا.
وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا)) . فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلانَةُ؟ قَالَتْ: الْعَجَبُ، لَقِيَنِي رَجُلانِ فَذَهَبَا بِي إِلَى(6/509)
هَذَا الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللهِ إِنَّهُ لأَسْحَرُ الناس مَنْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، تَعْنِي السَّمَاءِ إِلَى وَالأَرْضَ أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ حَقًّا، فكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ يُغِيرُونَ عَلَى مَا حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلا يُصِيبُونَ الْقَوْمَ الَّذِي هِيَ مِنْه.
فَقَالَتْ: يَوْمًا لِقَوْمِهَا، مَا أَرَى إلا أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ يَدَعُونَكُمْ عَمْدًا فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلامِ، فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ. وَفِي رِوَايَة قَالَتْ: لَهُمَا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لا مَاءَ لَكُمْ، وَفِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّها مُؤْتَمَّةٌ فَأَمَرَ بِرَاوِيَتِهَا، فَأُنِيخَتْ، فَمَجَّ فِي الْعَزَلاوَيْنِ الْعُلْيَاوَيْن.
ثُمَّ بَعَثَ بِرَاويَتِهَا فَشَرِبْنَا، وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، عِطَاشًا، حتَّى رَوينا وَمَلأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا، وَإِدَاوَةٍ وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا، وَهِيَ تَكَادُ تَتَضَرَّج بِالْمَاءِ، يَعْنِي الْمَزَادتين. رَوَاهُ الشَّيْخَان مطولاً.
122- وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ سَلَمَةَ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ حتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعْنَا أَزَاوِدَنَا، وبَسَطْ لَنَا نِطَعًا، فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَعِ، فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزُرَهُ كَمْ هُوَ، فإذَا هُوَ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (1400) فَأَكَلْنَا حتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ)) ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ من مَاءٍ، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا، نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً. رَوَاهُ الشَّيْخَان.(6/510)
123- وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الترمذيُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ فَضَمَّهُنَّ، ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَ، ثُمَّ قَالَ: ((خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ هَذَا أَوْ فِي الْمِزْوَدِ، فكُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ، وَخُذْ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا)) . فَفَعَلْتُ فَلقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حِقْوِي، حتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ انْقَطَعَ. وَاللهُ أعلم.
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِنْ لَفَحَاتِ الْجَحِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) 124- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَان عن السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ: فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ: فتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ، وَقَالَ الْجُعَيْدُ: رَأَيْتُ السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ، ابنَ أربع وَتِسْعِين، جَلْدًا مُعْتَدِلاً: فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَا مُتِعتْ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي إِلا بِدُعَاءِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
125- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِي، قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَخْطَبَ: مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيّدِهِ عَلَى وَجْهِي، وَدَعَا لِي، قَالَ عَزْرَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَمَا عَاشَ عِشْرِينَ وَمائَةَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي لِحْيَتِهِ إِلا شَعَرَاتٌ تُعدُّ بِيضٌ.
126- وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ بَلَغَ(6/511)
عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ، مَقْدَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاثٍ، لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أخَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ)) . قَالَ عَبْدُ اللهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلائِكَةِ.
((أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ، كَانَ الشَّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَت كَانَ الشَّبَهُ لَهَا)) . قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. الْحَدِيث.
127- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمَّتُه تَحْذُو حَذْوَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحَذْوَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ الأُمَمِ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقَذَّةِ وَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ.
وَكَانَ الأَمْرُ حَذَتْ حَذْوَهُم فِي الاخْتِلافِ، وَالتَّفَرُّقِ، وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالإِحْدَاثِ فِي الدِّين، وَالْكَذِب، عَلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذْوَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
128- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ هَوَازِنَ بِقَتْلِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ حُرْقُوصِ بنِ زَهُيَرْ السَّعْدِي، وَأَصْحَابِهِ مَارِقِينَ مِن الدِّينِ، خَارِجِينَ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ النَّاس.
وَحَدِيثُهم مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ السِّيْرِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ، وَمَضْمُونُه أَنَّ(6/512)
ذَا الْخُوَيْصرَةِ قَامَ إِلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ غَنَائِمَ هَوَازَنَ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَرِبَتْ يَدَاكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ أنا)) . فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنه نافق فمرني أَضْرِبْ عُنُقَهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ عِنْدَ صَلاتِهِمْ وَقِرَاءَتَه عِنْدَ قِرَاءَتَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ من الناس، يَقْتُلُهُم أُولَى الطَّائِفَتِين بِالْحَقِّ، آيَتُهُمْ الْمُخَدَّجُ)) . يَعْنِي ذَا الثُّدَيَّةِ، فَكَانَ الأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ بن أبي طالبٍ بَعْدَ حَرْبِ صِفِّينِ.
فَقَتَلَهُم عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي النَّهْرَوَانِ، وَاسْتَخْرَجَ الْمُخَدَّجَ ذَا الثُّدَيَّة، مِنْ الْمَاءِ مَقْتُولاً، حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ عَسْكَرِه وَكَانُوا مَا يَقْرُبُ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ حِينَ وَجَدَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَةَ شُكْرٍ، وَكَبَّر الْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَقَع طِبْقَ مَا قَالَ.
129- وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مَأْخُوذُ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} .
فَأَخْبَرَ أَنَّ عَمَّهُ أَبَا لَهَبٍ سَيَدْخُلُ النَّارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ، وَعَاشَا مُدَّةً،(6/513)
وَقَدَّرَ اللهُ أَنَّهُمَا مَاتَا عَلَى شِرْكِهِمَا وَلَمْ يُسْلِمَا حَتَّى وَلا ظَاهِرًا وَهَذَا مِنْ دَلائِل النُّبُوَةِ الْبَاهِرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَتَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ وَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَمْ يَقَعَ، وَلَنْ يَقَعَ صَدَقَ اللهُ الْعَظِيم فَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَة.
130- وَقَالَ تَعَالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وَهَكَذَا وَقَعَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مَكَّنَ اللهُ هَذَا الدِّينَ وَأَظْهَرَهُ وَأَعْلاهُ وَنَشَرَهُ فِي الآفَاقِ وَأَنْفَذَهُ وَأَمْضَاهُ.
131- وَقَالَ تَعَالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قِيلَ: إِنَّهُمْ فَارِسُ، وَقِيلَ: الرُّومُ، وَقِيلَ: هَوَازِنُ، وَثَقِيفُ، وَغَطَفَانُ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَقِيلَ: بَنُو حَنِيفَةَ، قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب، وَالْمُهِمُّ أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ.
132- وَقَالَ تَعَالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} إِلى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا خَيْبَرَ، أَوْ مَكَّةَ، فَقَدْ فُتِحَتْ وَأخِذَتْ كَمَا وَقَعَ بِهِ الْوَعْدُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.(6/514)
133- وَقَالَ تَعَالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} فَوَقَعَ إِنْجَازُ هَذَا الْوَعْدِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاء.
134- وَقَالَ تَعَالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} فَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ اللهُ.
135- وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَهَكَذَا وَقَعَ فَإِنَّ اللهَ عَوَّضَ مَن أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِخَيْرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَة.
136- وَقَالَ تَعَالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَهَكَذَا وَقَعَ عَوَضَهُم اللهُ عَمَّا كَانَ يَغْدُو إِلَيْهِمْ مَعَ حُجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَضَربِ الجزية عليهم، وَسَلْبِ أَمْوَالِ مَن قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا وَقَعَ بِكُفَّارِ أَهْلِ الشَّامِ مِن الرُّومِ، وَمَجُوسِ الْفُرْسِ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ الَّتِي انْتَشَرَ الإِسْلامُ عَلَى أَرْجَائِهَا.
137- وَقَالَ تَعَالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الآية. وهكذا وَقَعَ لَمَّا رَجَع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِاللهِ، لَقَدْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ،(6/515)
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْرِيَ أَحْوَالَهُمْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلا يَفْضَحُهُمْ عَنْدَ النَّاسِ.
138- وَقَالَ تَعَالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} وَهَكَذَا وَقَعَ لِمَا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ الْمُهم أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ سوَاَءً بِسَوَاءٍ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رَسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
موعظة: عِبَادَ اللهِ لَقَدْ تَغَيَّرَ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي أَحْوَالِهِمْ الدِّينِيَّةِ تَغَيِّرًا يُدْهِشُ النَّاظِرِينَ هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي هِيَ ثَانِي أَرْكَانِ الإِسْلامِ وَهِيَ عَمُودُهُ أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْهَا غَيْرَ مُبَالِينَ وَلا نَادِمِينَ جَهِلُوا مَا هِيَ الصَّلاةُ وَأَيُّ قِيمَةٍ قِيمَتُهَا وَمَا مَنْزِلَتُهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الطَّاعَاتِ وَمَا عَلِمُوا أَنَّهَا الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَهِيَ خَيْر مَوْضُوع وُضِعَ لِلتَّقَرُّبِ إِلى الرَّحْمَن ِوَلِذَلِكَ هِيَ تُطَهِّرُ الْمُصَلِّي الْمُقِيمِ لَهَا مِنْ ذُنُوبِهِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ فعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ أَنْ تَحْرِصْ عَلَيْهَا كُلَّ الْحِرْصِ وَأَنْ تَعْتَنِيَ بِهَا كُلَّ الاعْتِنَاءِ وَلا تُضَيّعْ هَذَا الْوَاجِبَ الْعَظِيمَ الَّذِي بِأَدَائِهِ تَكُونُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْمَرْهُوبِ. وَبِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ تَكُونُ مِنْ الْكَافِرِينَ الْمَوْعُودِينَ فِي الْجَحِيمِ أَبَدَ الآبِدِينَ فَإِذَا حَانَ وَقْتُهَا فَاهْتَمُوا بِهَا وَتَهَيَّئُوا لِمُنَاجَاةِ خَالِقِكم الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَخُذُوا زِينَتكُمْ مُمْتَثِلينَ قَوْلُهُ تَعَالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَاعْتَنُوا أَوْلاً بِالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُهَا ثُمَّ أَدُّوهَا بِخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ يُصَلُّونَ بِأَجْسَامِهِمْ وَيُحَرِّكُونَ أَلْسِنَتهُمْ وَشِفَاهَهُمْ وَيَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ مُكَبِّرِينَ وَيَحْنُون(6/516)
ظُهُورَهُمْ رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَ وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تَتَحَرَّكْ إِلى اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ مَوْلاهُمْ وَلَمْ تَتَدَبَّرْ مَعَانِي مَا تَلْفُظُ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ لأنَّهَا فِي أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا سَارِحَةٌ تُفَكِّرُ فِي الْعِقَارَاتِ وَالْمُدَايَانَاتِ وَالْفُلَلِ وَالْعَمَائِرِ الَّتِي عَنْ قَرِيب سَيُخَلِّفُونَهَا رَغْمَ أُنُوفِهِمْ إِذَا نَظَرْتَ إِلى أَحَدِهِمْ وَهُوَ يُصَلِّي لاهِيًا فِي تَفْكِيرِهِ يَعْبَثُ فِي ثَوْبِهِ تَارَةً وَفِي سَاعَتِهِ تَارَةً وَفِي أَنْفِهِ تَارَةً وَيُنَقِّشُ سِنَّهُ تَارَةً وَبَعْضُهُمْ يَلْمَسُ مَكَانَ لِحْيَتِهِ أَوْ يُصَلِّحُ مَيَازِيبَ غُتْرَتِهِ أَوْ يُقَلِّمُ أَظَفَارَهُ بِأَسْنَانِهِ. وَهَكَذَا حَتَّى يَخْرُج مِنْهَا صِفْرًا مَا مَعَهُ مِنْهَا اللهُ أَعْلَمُ إِلا الْعُشْرِ وَلِهَذَا لَوْ تَأَمَّلْتَ الْمُؤَدِي لَهَا هَكَذَا رَأَيْتَ أَنْ الصَّلاةَ هَذِهِ لَمْ تُؤَثِرْ عَلَيْهِ لا فِي تَتْمِيمِ الْوَاجِبَاتِ وَلا فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بَلْ وَلا فِي تَخْفِيفِهَا لأَنَّ الصَّلاةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي أَقَامَهَا صَاحِبُهَا مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا تُهَذِّبُ النَّفْسَ وَتُرَقِّقُ الْخُلُقَ وَتَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
فَإِذَا رَأَيْنَا إِنْسَانًا يُصَلِّي لَكِنَّهُ يَأْكُلُ الرِّبَا وَيَحْضُرُ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ أَوْ يَبِيعَهَا أَوْ يَشْتَرِيهَا أَوْ رَأَيْنَاهُ مَعَ السُّفَلِ الَّذِينَ يُلاحِقُونَ النِّسَاءَ فِي الأَسْوَاقِ أَوْ رَأَيْنَاهُ يُجَاهِرُ بِالْمَعَاصِي مِنْ شُرْبِ دُخَّانٍ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يَحْلِقُ لِحَيَتَهُ أَوْ يَحْلِقُ لِحَاءَ النَّاسِ أَوْ يَجْعَلُ خَنَافِسَ أَوْ يَرْتَشِي أَوْ يَحْمِلُ النِّسَاءَ بِدُونِ مَحْرَمٍ أَوْ يَخْلُو بِهِنَّ بِدُونِ مَحْرَمٍ أَوْ يُصَوِّرْ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، أَوْ يَبِيعَ الصُّوَرَ أَوْ يَسْخَرُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصَّلاةِ الَّتِي يُصَلِّي أَنَّهَا لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ فَلَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللهِ إِلا بُعْدًا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِن الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ مَعَ صَلاتِهِ أَنَّهُ يَكِيدُ بِهَا النَّاسَ وَيَتَّخِذُهَا أُحْبُولة يَتَصَيَّدُ بِهَا ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْحُصُولِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مُصَلٍّ يَتَصَيَّدُ بِصَلاتِهِ الدُّنْيَا:(6/517)
ذِئْبٌ رَأَيْتُ مُصَلِّياً
فَإِذَا مَرَرْتُ بِهِ رَكَعْ
يَدْعُو وَجُلُّ دَعَائِهِ
مَا لِلْفَرِيسَةِ لا تَقَعْ
عَجِّلْ بِهَا عَجِّلْ بِهَا
إِنَّ الْفُؤَادَ قَدِ انْصَدَعْ
ويقول الآخر:
إِذَا رَامَ كَيْداً بِالصَّلاةِ مُقِيمُهَا
فَتَارِكُهَا سَهْواً إِلى اللهِ أَقْرَبُ
آخر: ... مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلا ... حَتَّى يَعِيَهَا قَلْبُهُ أَوَّلاً
يَا قَوم لا أَظْلَمَ مِنْ وَاعِظٍ ... خَالَفَ مَا قَدْ قَالَهُ فِي الْمَلا
أَظْهَرَ لِلنَّاسِ إِحْسَانَهُ ... وَبَارَزَ الرَّحْمَنَ لَمَّا خَلا
آخر: ... أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْداً ... وَعَلَى الدِّينَارِ دَارُوا
لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّرَيَّا ... وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا
139- وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِ اللهِ تَعَالى: لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورةِ هُوَ أَنَّ رَهْطاً مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ الْحَارِثُ بنُ قَيْسٍ السَّهْمِيّ، وَالْعَاصُ بنُ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدُ بنُ الْمُغِيرَة، وَالأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالأَسْوَدُ بِنُ الْمُطَّلِبِ بن أُسد، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُّمَ فَاتّبِعْ دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ وَنُشْرِككَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سُنَّةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الَّذِي(6/518)
جِئْتَ بِهِ خَيْراً كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ وَأَخذنا حَظَّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْراً كُنْت قَدْ شَرَكْتَنَا فِيهِ، وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ.
فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ)) . قَالُوا: فَاسْتَلِمْ بَعْضَ آلِهَتِنَا نُصَدِّقكَ وَنَعْبُد إِلَهَكَ. فَقَالَ: ((لا حَتَّى أَنْظُرْ مَا يَأْتِينِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي)) . فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إِلى آخر السورةِ فَكَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتْبَعْهُمْ وَلَمْ يَتْعَبُوهُ فِي عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
140- وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَعَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي حَالِ ضَعْفِهِمْ، مِنْ أَنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُمَكِّنُهُمْ وَيُقَوِّيهِمْ، وَيُظْهِرُهُمْ، فَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفَ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَكُونُ الْعُقْبَى لَهُمْ، وَتَلا بِذَلِكَ الْقُرْآنَ.
فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} إِلى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فَتَمَكَّنَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَتْ الْعُقْبَى لَهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِ.
141- وَمِنْ ذَلِكَ إِلْقَاءُ النُّعَاسِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَماناً أَمَّنَهُمْ اللهُ بِهِ مِنْ خَوْفِهِمْ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ(6/519)
كثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدَهِمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ تَعَالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً منْهُ} والآية الأخرى.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْلِيلُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْيُن الْمُشْرِكِينَ وَتَقْلِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُقْدِمَ الْمُؤْمِنُونَ وَيَتَجَرُّؤُا وَيَطْعَمُوا فِيهِمْ ولئلا يَهْرَبَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ تَعَالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} .
142- وَمِنْ ذَلِكَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْفَأَ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الأَرْضُ، حَتَّى ثَبَتَتْ الأَقْدَام، وَتَوَضَؤُا مِنْهُ وَسَقَوا الرِّكَابَ، وَمَلَؤُا الأَسْقِيَةَ وَزَالَتْ عَنْهُمْ وَسَوَسَةُ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ تَسِيخُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَحَوَافِرُ الدَّوَابِ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ الْكُفَّارُ إِلى مَاءِ بَدْرٍ، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مُحْدِثِينَ، وَبَعْضُهُمْ مُجْنِبِينَ، وَأَصَابَهُمْ الظَّمَأُ، وَوَسْوَسَ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَفِيكُمْ نَبِيُّ اللهِ، وَأَنَّكُم أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَقَدْ غَلَبَكُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ وَمُحْدِثِينَ فَكَيْفَ تَرْجُونَ أَنْ تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْحَلُوا مَعَهُ.
143- وَمِنْ ذَلِكَ مَا نَزَلَ فِي رِجَالٍ بِأَعْيَانِهِمْ، مِنْ أَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلى أَنْ يَمُوتُوا مِنْ ذَلِكَ مَا نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوْعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئاً وَإِنِّي لأَعَزُّ مَنْ مَشَي بَيْنَ(6/520)
جَبَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ صَرَعَهُ اللهُ شَرَّ مَصرَعٍ، وَقَتَلَهُ أَسْوَأَ قَتْلَةٍ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لِكُلِّ أُمَّةٍ فِرْعَوْناً وَإِنَّ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ)) . وَنَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُفَسِّرِينَ.
144- وَمِنْهَا قِصَّةُ الْبَكَّاؤُونَ الَّذِينَ اسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ: ((لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)) . فَتَوَلَّوْا يَبْكُونَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.
وَقَامَ عُلَيَّةُ بنُ يَزِيدٍ فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ وَبَكَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ مَعَ رَسُولِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يُحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ.
ثُمَّ أَصْبَحَ مَع النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلةَ)) ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)) . فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبْشِرْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بَيّدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ)) . فَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ هَذَا غَيْبٌ أَعْلَمَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
145- وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلى تَبُوكَ فِي قَيْضٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبَدِهِ.(6/521)
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهِ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْراً فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَقَالَ: ((أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتَ السَّمَاءُ - أَيْ آذَنَتْ بِمَطَرٍ - فَأَطللَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَؤُا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَرَهَا جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ.
146- وَمِنْهَا حِينَمَا ظَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عَمَارَةُ بنُ حَزْمِ الأنصاري.
وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ الْقَيْنُقَاعِي وَكَانَ مُنَافِقاً، فَقَالَ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ وَهُوَ فِي رَحْلِ عَمَارَةَ وَعَمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنْ يُخْبِرَكُمْ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِمَارَةُ عِنْدَهُ: ((إِنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّّ مُحَمَّداً يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنْ يُخْبِرَكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا أَعْلَمَنِي اللهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسْتَهَا شَجَرةٌ بِزِمَامِهَا فَانْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا)) .
فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا وَقَدْ وَجَدَهَا الْحَارِثُ بنُ خَزْمَةَ الأَشْهَلِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ زَيْدٌ لَكَأَنِي لَمْ أُسْلِمْ إِلا الْيَوْمَ فَقَدْ كُنْتُ شَاكاً فِي مُحَمَّدٍ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا فِيهِ ذُو بَصِيرَةٍ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.(6/522)
(فَصْلٌ)
147- وَمِنْهَا أَنَّهُ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَائِراً فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ فُلانٌ فَيَقُولُ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرِه فَقَالَ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» .
وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ بَعِيرُهُ - أَيْ انْقَطَعَ - أَخَذَ الْمَتَاعَ مِنْ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِياً وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَازِلَهُ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» . فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ - وَاللهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحَمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . وَقَدْ تَحَقَّقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا نَفَى أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبْذَةَ فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفَّنَانِي.
ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا لَهُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ.
فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَهْطٌ مَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عُمَّاراً فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا جَنَازَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الإِبْلُ تَطَؤُهَا(6/523)
وَقَامَ الْغُلامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ.
فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ.
ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَوَارَوهُ ثُمَّ حَدَّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ إِلى تَبُوكَ وَاسْمُ أَبِي ذَرٍّ (جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ) وَمَاتَ فِي سَنَة 32 هـ.
وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ وَفَاتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: مَا لِي لا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسِ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ كَفَناً وَلا يَدَانِ لِي فِي تَغْيِيبِكَ.
قَالَ: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلا وَقَدْ مَاتَ فِي قَرْيَةٍ وَجَمَاعَةٍ فَأَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ فَأَبْصِرِي الطَّرِيقَ فَقُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُ وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ.
فَقَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي قَالَتْ: فَكُنْتُ أَشْتَدُّ إِلى الْكَثِيبِ أَتَبَصَّرُ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَمَرِّضَهُ فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمْ الرَّخْمُ تَخِبُّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ قَالَتْ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيَّ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ.(6/524)
فَقَالُوا: يَا أَمَةَ اللهِ مَا لَكِ؟ قُلْتُ: امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ. قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَفَدَّوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَر رَجُلٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي جَمَاعَةٍ.
وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَناً لِي أَوْ لامْرَأَتِي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثَوْبٍ هُوَ لِي أَوْ لَهَا وَإِنِّي أنْشُدُكُمْ اللهَ أَنْ لا يُكَفِّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ بَرِيداً أَوْ نَقِيباً وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتَىً مِنَ الأَنْصَارِ.
قَالَ: أَنَا أَكفِنُكَ يَا عَمَّ أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ فِي عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي قَالَ: فَأَنْتَ تُكَفِّينُنِي فَكَفَّنَهُ الأَنْصَارِيُّ وَقَامُوا عَلَيْهِ وَدَفَّنُوهُ فِي نَفَرٍ كُلُّهُمْ يَمَان فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ.
148- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِن أَنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ - بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّاماً إِلى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشٍ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيَأتْ لَهُ فِيهِ طَعَاماً.
فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الضَّحِّ - لَهَبُ الشَّمْسِ وَحَرَارَتُهَا - وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلِّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأةٍ(6/525)
حَسْنَاء فِي مَآلِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ وَالْعَدْلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لا أَدخُلَ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهيئا لِي زَاداً فَفَعَلَتَا ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ - أَيْ أَحْضَرَ جَمَلَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ وَأَعَدَّهُ لِلسَّفَرِ -.
ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَكَانَ عِنْدَمَا أَقْبَلَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» .
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ وَاللهِ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْراً وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ» . وَفِي هَذِهِ مُعْجِزَة.
149- وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ وَمِنْهُمْ مَخْشِيٌّ بنُ حِمْيَرَ قَالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً وَاللهِ لَكَأَنَّكُمْ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ إِرْجَافاً وَإِرْهَاباً لِلْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: مَخْشِيُ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ مِنَّا مَائِةَ جَلْدَةً وَأَنَّا نَنْقَلِبُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْانٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ وَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بن يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ.(6/526)
فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . فَقَالَ مَخْشِيُ ابنُ حِمْيَر: يَا رَسُولَ اللهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الذِي عَفَا عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيةِ وَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وسأل اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيداً لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ، فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةَ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً.
150- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْفَةً بَيّدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةَ.
قُلْتُ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى - عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِىَ النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتَّى آتِىَ» .
قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلاَنِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيءٍ مِنْ مَائِهَا فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئاً» ؟ قَالاَ: نَعَمْ.
فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمََا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيءٍ ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيْرٍ فاسْتَقَى النَّاسُ. فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ واضحة.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَاحْفَظْنَا مِن الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَالنَّفْس وَعَدُوِّكَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ(6/527)
الرَّاحِمِينَ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) 151- وَمِنْهَا قِصَّةُ أَبِي رِغَالٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْناً مِنْ ذَهَبٍ إِنْ رَأَيْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ)) . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً.
152- وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِارْجَاعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مَكَّةَ قَالَ اللهُ تَعَالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلى مَكَّةَ وَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ فَيَكُونُ عَلَماً عَلَى نُبُوتهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
153- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {َقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إلى قوله وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
154- فَفِي هَذِهِ الآيَاتِ إِخْبَارٌ عَنْ غُيُوبٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا تَزْكِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَإِعْلانُ الرِّضَا عَنْهُمْ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ.
وَلا شَكَّ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ إِذْ لَوْ كَانَ فِي إِيمَانِ أَحدهم دَخَلٌ لَشَكَّ وَارْتَابَ وَأَعْلَنَ ارْتِدَادَهُ وَكُفْرَهُ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى هَذَا الإِعْلانِ الْخَطِيرِ إِذْ لا يَعْلَم مَا فِي بُوَاطِنِهِمْ إِلا اللهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الإِخْبَار وَأَنَّهَا أَعلام على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
155- وَمِنْ ذَلِكَ الإِخْبَارُ بِحَوَادِثَ خَاصَّةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فَفِي هَذَا عَلَم عَلَى نُبُوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ هَذِهِ(6/528)
أُمُورٌ غَيْبِيَّةٌ أَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهَا.
156- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إِلى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلا مَاءٌ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ)) .
فَقَامَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلى رَحْلِِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لا إِلا قُوتُ صِبْيَانِي قَالَ: فَعَلِّلِيهِم بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ)) . فَهَذَا غَيْبٌ مِن الْغُيُوبِ أَعْلَمَ الله نَبِيَّهُ بِهِ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ وَاضِحَةٌ.
157- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً إلى قوله تعالى وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} .
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابنُ الْمُنْذِر وَابْنُ أَبِي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلاً مُنَافِقاً يَقُولُ الشِّعْرَ(6/529)
يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْحَلُهُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ ثُمَّ يَقُولُ قَالَ فُلانٌ كَذَا وَكَذا فَإِذَا أسَمعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَاللهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلا هَذَا الرَّجُلُ الْخَبِيثُ أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ وَقَالُوا ابْنُ الأُبَيْرِقِ قَالَهَا قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلَامِ.
وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ مِنْ الدَّرْمَكِ ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسَهُ وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمْ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ.
فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلاً مِنْ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ فَنُقِبَتْ الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلاحُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا َفذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا قَالَ: فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ.
قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا: وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ وَاللهِ مَا نُرَى صَاحِبَكُمْ إِلا لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلاحٌ وَإِسْلامٌ. فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ.
وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ وَاللهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ(6/530)
قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ أَهْلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَآمُرُ فِي ذَلِكَ)) .
فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو الأُبَيْرِقِ أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلامٍ وَصَلاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلا ثِبْتٍ.
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ فَقَالَ: ((عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبَتٍ وَلا بَيِّنَةٍ)) .
قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} يَعْنِي بَنِي أُبَيْرِقٍ {وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ ... فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلّى(6/531)
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسِّلاحِ فَرَدَّهُ إِلى رِفَاعَةَ.
158- وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي تَبْرِئَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِن الإِفْكِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . الآية.
عَشْرُ آيَاتٍ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حِينَ رَمَاهَا الإِفْكُ وَالْبُهْتَانُ مِنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا قَالُوا مِنْ الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَالْفِرْيَةِ الَّتِي غَارَ اللهُ لَهَا وَلِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا صِيَانَةً لِعِرْضِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا بَقِيَتْ الأَلْسِنَةُ لا يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِي وَمُسْلِم - وَهُوَ حَائِرٌ مُتَرَدِّدٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ يَسْأَلُ وَيَسْتَشِير.
وَالْمُنَافِقُونَ يُشِيعُونَ الْفَاحِشَةَ حَتَّى وَقَعَ فِيهَا مَنْ وَقَعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ جَاءَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبْرِئُكِ اللهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِري اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنْ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)) .
فَوَاللهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أَنْزَلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِن الْبُرَحَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لِيَتَحَدُّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ(6/532)
الْعَرَقِ فِي يَوْمِ شَاتٍ.
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي: ((يَا عَائِشَةُ احْمِدِي اللهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ)) . فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللهَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} الآيَاتِ فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَفَهَّمَهُ فَقَدْ كَانَ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَائِشَةَ بَعْدَ إشَاعَةِ الْفِرْيَةِ وَالْبُهْتَانِ مَوْقِفَ التَّرَدُدِ وَالْحَيْرَةِ.
ثُمَّ تَحَوَّلَ بَعْدَ الْوَحْي فُجْاءَةً إِلى مَوْقِفِ الثِّقَةِ وَالاطْمِئْنَانِ وَهَذَا التَّحَوُلُ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاثِقاً بِبَرَائَتِهَا بِإِخْبَارٍ مِن الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ جَلَّ وَعَلا وَتَنَزَهَ وَتَقَدَّسَ.
159- وَمِنْ ذَلِكَ تَحَدِّي الْيَهُودَ فِي تَمَنِّي الْمَوْتَ مَرَّتَيْن فَقَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
وَوَجْهُ الدَّلالةِ أَنَّهُ طَلَبَ مِن الْيَهُودِ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَارَضَتِهِمْ لَهُ وَكَيْدِهِمْ لَهُ فَقَامَ ذَلِكَ دَلِيلاً صَادِقاً عَلَى نِبُوَّتِهِ وَمُعْجِزَة عَظِيمَة.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا وَارْحَمْنَا عَنِ الرُّكُونِ إِلى عِدَاكَ وَارْزُقْنَا بُغْضَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ وَوَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ(6/533)
وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: فَأَخْبَرَ عَن الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ أَبَدَاً وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ فَلا يَتَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ أَبَدَاً وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بَأَنْ لا يَكُونَ أَبَدَاً وَمِنْ جِهَةِ صَرْفِ اللهِ لِدَوَاعِي الْيَهُودِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُمْ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ لَمْ تَنْبَعِثْ دَوَاعِيهِمْ لإِظْهَارِ تَكْذِيبِهِ بِإِظْهَارِ تَمَنِيَّ الْمَوْتَ. أ. هـ.
160- وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَهَذَا الإِخْبَارُ إِنَّمَا هُوَ مِن الْغَيْبِ وَوَقَعَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَحُفِظَ وَتَمَّ وَعْدُ اللهِ بِذَلِكَ.
وَلَمْ يَأْتِهِ تَغْيِيرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ تَعَالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
161- وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِعِصْمَةِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن النَّاسِ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ وَعْدَهُ فَحَفِظَ نَبِيَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْمُحَاوَلاتِ مِنْ أَعْدَائِهِ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبوته معجزة واضحة.
162- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَيْ يَكْفِيكَ شَرَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَفَى بِإِجْلاءِ بَنِي النَّضيرِ وَقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. أ. هـ.(6/534)
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزاً دَالاً عَلَى صِدْقِهِ حَيْثُ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ.
163- وَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَاهَلَةُ قَالَ اللهُ تَعَالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} .
قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هُوَ أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ صَاحِبَيْ نَجْرَانَ جَاءَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَادَلاهُ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ وَالْمُبَاهَلَةُ دُعَاءُ اللهِ وَالابْتِهَالُ إِلَيْهِ أَنْ يُنْزِلَ لَعْنَتَهُ عَلَى الْكَاذِبِينَ فَوَاعَدَاهُ عَلَى أَنْ يُلاعِنَاهُ الْغَدَاةَ.
فَغَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَاهُ وَأَقَرَا لَهُ بِالْخَرَاجِ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ قَالا لأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ الْوَادِي نَاراً فَفِي هَذَا عِلْمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ فَلَوْلا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ لِمَا أَحْجَمُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ ثَانِياً وَثُوقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
164- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الأَخْنَسِ بن شَرِيقٍ {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * َيحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * َلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} فَمَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بنِ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَنَزَلَ فِيهِ.(6/535)
آخر: يُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا:
قَطّعْتُ مِنْكَ حَبَائِل الآمَالِ ... وَحَطَطْتُ عَنْ ظَهَرِ الْمَطي رِحَالي
وَيَئسِتُ أَنْ أَبْقَى لِشَيْءٍ نِلْتُ مِمَّا ... فِيكَ يَا دُنْيَا وَأَنْ يَبْقَى لِي
فَوَجَدْتُ بَرْدَ الْيَأْسِ بَيْنَ جَوَانِحِي ... وَأَرَحْتُ مِنْ حَلَى وَمِنْ تَرْحَالي
وَلَئِنْ يَئِسْتُ لَرُبّ بَرْقَةِ خُلّبِ ... بَرَقَتْ لِذِي طَمَعٍ وَبَرَقْةِ آلِ
مَا كَانَ أَشَامَ إِذْ رَجَاؤكِ قَاتِلِي ... وَبَنَاتُ وَعْدِكِ يَعْتَلِجْنَ بِبَالِي
فَالآن يَا دُنْيَا عَرَفَتُكِ فَاذْهَبِي ... يَا دَارَ كُلِّ تَشَتتٍ وَزَوَالِ
وَالآنَ صَارَ لِي الزَّمَانُ مُؤدِّباً ... فَغَدَا عَلَيَّ وَرَاحَ بِالأَمْثَالِ
وَالآنَ أَبْصَرْتُ السَّبِيلَ إِلى الْهُدَى ... وَتَفَرّغَتْ هَمِمِي عَنِ الأَشْغَالِ
وَلَقْدَ أَقَامَ لِي الْمَشِيبُ نُعَاتَهُ ... يُفْضِي إِلَيّ بِمِفْرِقٍ وَقَذَالِ
وَلَقْدَ رَأَيْتُ الْمَوْتَ يُبْرِقُ سَيْفَهُ ... بِيَدِ الْمَنِيَّةِ حَيْثُ كُنتُ حِيالِي
وَلَقْدَ رَأَيْتُ عُرَى الْحَيَاةِ تَخَرَّمَتْ ... وَلَقَدْ تَصَدَّى الْوَارِثُونَ لِمَالِي
وَلَقْدَ رَأَيْتُ عَلَى الْفَنَاءِ أَدِلَّةً ... فِيمَا تَنَكَّرَ مِنْ تَصَرَّفِ حَالِي
وَإِذَا اعْتَبَرْتُ رَأَيْتُ خَطْبَ حَوَادِثٍ ... يَجْرِينَ بِالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ
وَإِذَا تَنَاسبتِ الرِّجَالِ فَمَا أَرَى ... نَسَباً يُقَاسُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَإِذَا بَحَثْتُ عَنِ التَّقِيّ وَجَدْتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفَعَالِ
وَإِذَا اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ وَأَطَاعَهُ ... فَيَدَاهُ بَيْنَ مَكَارِمٍ وَمَعَالِ
وَعَلَى التَّقِيِّ إِذَا تَرَسَّخَ فِي التُّقَى ... تَاجَانِ تَاجُ سَكِينَةٍ وَجَلالِ
وَاللَّيْلُ يَذْهَبُ وَالنَّهَارُ تَعَاوُراً ... بِالْخَلْقِ فِي الإِدْبَارِ وَالإِقْبَالِ
وَبِحَسْبِ مَنْ تُنْعَى إِلَيْهِ نَفْسُهُ ... مِنْهُ بِأَيَّامٍ خَلَتْ وَلَيَالِ
اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ فَأَنْتَ فِي ... عِبَرٍ لَهُنَّ تَدَارُكٌ وَتَوَالِ(6/536)
.. يَبْكِي الْجَدِيدُ وَأَنْتَ فِي تَجْدِيدِهِ ... وَجَمِيعُ مَا جَدَّدْتَ مِنْهُ فَبَالِ
يَا أَيُّهَا الْبَطِرُ الَّذِي هُوَ فِي غَدٍ ... فِي قَبْرِهِ مُتَفَرَقُ الأَوْصَالِ
حَذَفَ الْمُنَىَ عَنْهُ الْمُشَمِّرُ فِي الْهُدَى ... وَأَرَى مُنَاكَ طَوِيلَةَ الأَذْيَالِ
وَلَقَلَّ مَا تَلْقَى أَغَرَّ لِنَفْسِهِ ... مِنْ لاعِبٍ مَرَحٍ بِهَا مُخْتَالِ
يَا تَاجِرَ الْغَيِّ الْمُضِرَّ بِرُشْدِهِ ... حَتَّى مَتَى بِالْغَيّ أَنْتَ تُغَالِي
الْحَمْدُ للهِ الْحَمِيدِ بِمِنِّهِ ... خَسِرَتْ وَلَمْ يَرْبَحْ يَدُ الْبَطَّالِ
للهِ يَوْمٌ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ ذَوَائِبُ الأَطْفَالِ
يَوَمُ النَّوَازِلِ وَالزَّلازِلِ، وَالْحَوا ... مِلِ فِيهِ إِذْ يَقذِفْنَ بِالأَحْمَالِ
يَوْمٌ يَنَادَى فِيهِ كُلُّ مَضَلِّلٍ ... بِمُقَطِّعَاتِ النَّارِ وَالأَغْلالِ
لِلْمُتَّقِينَ هُنَاكَ نَزْلُ كَرَامَةٍ ... عَلَتِ الْوُجُوهَ بِنَضْرَةٍ وَجَمَالِ
زُمَرٌ أَضَاءَتْ لِلْحِسَابِ وُجُوهُهَا ... فَلَهَا بَرِيقٌ عِنْدَهَا وَتَلالِي
وَسَوَابِقٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ جَرَتْ ... خُمْصَ الْبُطُونِ خَفِيفَةَ الأَثْقَالِ
مِنْ كُلِّ أَشْعَثَ كَانَ أَغْبَرَ نَاحِلاً ... خَلِقَ الرِّدَاءِ مُرَقَّعَ السِّرْبَالِ
حِيَلُ ابنِ آدَمَ فِي الأُمُورِ كَثِيرَةٌ ... وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ حِيلَةَ الْمُحْتَالِ
نَزَلُوا بِأَكْرَمِ سَيِّدٍ فَأَظَلّهُمْ ... فِي دَارِ مُلْكِ جَلالَةٍ وَظِلالِ
وَمِنَ النَّعَاةِ إِلى ابْنِ آدَمَ نَفْسَهُ ... حَرَكُ الْخُطَى وَطُلُوعُ كُلِّ هِلالِ
مَا لِي أَرَاكَ لِحُرّ وَجْهِكَ مُخْلِقاً ... أَخْلَقْتِ يَا دُنْيَا وُجُوهَ رِجَالِ
قِسْتَ السُّؤَالَ فَكَانَ أَعْظَمَ قِيمَةً ... مِنْ كُلِّ عَارِفَةٍ جَرَتْ بِسُؤُالِ
كُنْ بِالسُّؤَالِ أَشَدَّ عَقْدِ ضَنَانَةٍ ... مِمَّنْ يَضِنُّ عَلَيْكَ بِالأَمْوَالِ
وَصُنِ الْمَحَامِدَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهَا ... فِي الْوَزْنِ تَرْجُحُ بَذْلَ كُلِّ نَوَالِ
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ الْمُثْمِّرِ مَالَهُ ... نَسِيَ الْمُثَمِّرُ زِينَةَ الإِقْلالِ(6/537)
.. وَإِذَا امْرُؤٌ لَبِسَ الشُّكُوكَ بِعَزْمِهِ ... سَلَكَ الطَّرِيقَ عَلَى عُقُودِ ضَلالِ
وَإِذَا ادَّعَتْ خُدَعُ الْحَوَادِث قَسْوَةً ... شَهِدَتْ لَهُنَّ مَصَارِعُ الأَبْطَالِ
وَإِذَا ابْتُلِيتَ بِبَذْلِ وَجْهِكَ سَائِلاً ... فَابْذُلْهُ لِلْمُتَكَرِّمِ الْمِفْضَالِ
وَإِذَا خَشِيتَ تَعَذُّراً فِي بَلْدَةٍ ... فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِعَاجِلِ التِّرْحَالِ
وَأَصْبِرْ عَلَى غَيْرِ الزَّمَانِ فَإِنَّمَا ... فَرَجُ الشَّدَائِدِ مِثْلُ حَلِّ عِقَالِ
انْتَهَى.
165- قَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إِلى قَوْلِهِ تَعَالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فَلَمْ يَزدْهُ اللهُ مَالاً وَلا وَلَداً بَعْدَ هَذَا كَمَا أَخْبَرَ، وَصَارَ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ إِلى أَنْ مَاتَ كَافِراً، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ حَيّاً سَلِيماً.
166- وَمِنْهُمْ النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ بنِ كِلْدَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ شَدِيدَ الرَّدِّ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ، وَالإرْصَادِ، وَقَدْ كَانَ رَحَلَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إِلى فَارِسَ، وَطَلَبَ مَا يَكِيدُ بِهِ الإِسْلامَ، فَاشْتَرَى أَخْبَارَ الْعَجَمِ، وَقَدِمَ بِهَا مَكَّةَ يُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشاً وَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّداً يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَنَا أُحَدِثُكُمْ بِحَدِيثِ رُسْتُمْ وَاسْفِنْدِيَار، وَأَخْبَارِ الأَكَاسِرَةِ. فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، وَيَتْرُكُونَ اسْتِمَاعَ كَلامَ اللهِ.
فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ.
وَقِيلَ: نَزَلَ فِيهِ أَيْضاً غَيْرُهَا وقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ ذَهَبَتْ بِقُحْفِ رَأْسِهِ وَحَلَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْسُورِينَ وَقَالَ: لا أَذُوقُ طَعَاماً وَلا شَرَاباً مَا دُمْتُ فِي أَيْدِيهِمْ فَمَاتَ مِن الضَّرْبَةِ وَصَارَ إِلى(6/538)
النَّارِ بَعْدَ أَنْ أَذَاقَهُ اللهُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ وَكَمَا أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلِزُومِ الطَّرِيقِ الَّذِي يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُوراً نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
167- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {آلَم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ حِينَ غَلَبَ سَابُورُ مَلِكُ الْفُرْسِ عَلَى بِلادِ الشَّامِ، وَمَا وَالاهَا مِنْ بِلادِ الْجَزِيرَةِ، وَأَقَاصِي بِلادِ الرُّومِ، حَتَّى ألْجَأَهُ إِلى الْقَسْطِنْطِينِيَّةِ، وَحَاصَرَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ إِلى هِرَقَل، كَمَا بَشَّرَ الْقُرْآنُ قَبْلَ سَبْعِ سَنَوَاتٍ، مِنْ انْتِصَارِهِ عَلَى الْفُرْسِ فَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ. فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِن الْقُرْآنِ عَلَى رِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
168- وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُهُ مَا جَاءَ(6/539)
عَنْ آدم ونشأته، وما وسوس به إليه إبليس، وما وقع له من الهبوط إلى الأرض، بعد أن كان في الجنة.
169- وحدثنا عن نوح أول المرسلين وما لقيه من قومه، من أذى وسخرية، ومدة لبثه فيهم، وما أرشده الله إليه من صنع الفلك وركوبه، وانجائه، ومن مع نوح وهم أصحاب السفينة، ودعوته لابنه، وعصيان ابنه له، وجواب الله له حين ما قَالَ {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} وانهمار السماء بالماء، وتفجر الأرض عيوناً، وإغراق الكافرين، ونجاة المؤمنين.
170- وأخبر القرآن عن موسى عليه السلام وما تم له عند ولادته، وما وقع له في مصر، وما حدث له في مدين، وما رآه في جبل الطور، وما كلف به من أعباء الرسالة، وما دار بينه وبين فرعون من حوار، وما جرى من السحرة، وما انتهى إليه أمر فرعون، وملائه وموسى وقومه.
171- وأخبر القرآن عن عيسى.
172- وأمه عليهما السلام، وما وقع لهما من الخوارق، وما صنعه لهما بنوا إسرائيل من مكائد.
173- وأخبر عن داود.
174- وسليمان عليهما السلام وذكر الإحسان إليهما وما آتاهما من العلم والفهم قَالَ الله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فأنعم الله على(6/540)
دواد بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه وأخبر أنه جل وعلا علمه صنعة الدروع وأخبر أنه أنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره وتسخير الشياطين تغوص في البحار وتعمل له أعمالاً أخرى.
175- وأخبر عن إبراهيم خليل الرحمن، ومحاجته للملك الجبار، وهو نمرود، البابلي، المعطل، المنكر، لرب العالمين، إلى أن وقف، وانقطعت حجته، واضمحلت شبهته، وأخبر عن طلبه لربه، أن يريه كيف يحيي الموتى، وإجابة الله دعوته، وتلبية طلبته، وعن ما ابتلاه به من ذبح ابنه إسماعيل وأخبر عن ما من عليه به من العلم، والدعوة، والصبر وما أكرمه به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب، وأنه جعل صفوة الخلق من نسله.
176- وأخبر عن يوسف عليه السلام، وما جرى له مع أخوته ومقدار لبثه في السجن، ومراودة امرأة العزيز له، وظهور براءته، وبيان صدقه، وايثار الله له على إخوته، وما جرى لأبيه يعقوب.
177- وأخبر عن لوط، وما قاله لقومه، توبيخاً لهم، وجوابهم السخيف له جزاء نصحه، وانجاء الله له، وأهل بيته إلا امرأته، وأخبر عن مجيء الرسل إليه، وأنه ساءه مجيئهم، وذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم وفعلاً جاؤا يهرولون إليه، وأخبر عن ما أوقعه الله بهم من العقوبة العظيمة، جزاء فعلتهم الشنيعة، التي لم يسبقهم بها أحد
178- وأخبر عن زكريا، وندائه لربه، وآثاره الصالحة ومناقبه(6/541)
الجميلة، وتبشير الله له بغلام اسمه يحيى، وطلبه من ربه أن يجعل له آية، يطمئن بها قلبه، وليس شكاً في خبر الله، وإنما هو كما قَالَ الخليل {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وإجابة الله إلى طلبته، ومنعه من الكلام، ثلث ليالٍ سوياً.
179- وأخبر عن يحيى عليه السلام وأن الله جعله براً بوالديه، ولا يتعالى عن قبول الحق، ووصفه بصفات كلها مناهج للخير، ووسائل الطاعة، أولها قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} إلى أن ذكر سبحانه جزاءه، على ما قدم من عمل صالح، وأسلف من طاعة ربه.
180- وأخبر عما أخبر الله به جل وعلا عن مريم ابنه عمران وأنه أنجب منها ولداً من غير أب، ويتقدم الكلام حولها وولدها عليهما السلام، وما لقيا من الابتلاء والامتحان، وما قابلا به ذلك.
181- وأخبر عن يونس عليه السلام، وإباقه إلى الفلك ومساهمته لأهل الفلك، والتقام الحوت له، وإنه كان من االمسبحين، الَّذِينَ يذكرون الله كثيراً، وعن نبذه في مكان خال لا نبات فيه، وأخبر عن لطفه به ورعايته له، وعنايته به، بانبات شجرة اليقطين، وأنه أرسله {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وأنهم آمنوا، ومتعهم الله إلى حين.
اللَّهُمَّ عاملنا بلطفك وإحسانك، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
عباد الله للعلم الديني آثار جليلة كم جل بها رجل حقير وكلما كان الرجل أعلم بالعلم الديني كان عند الله وعند العقلاء جليل مضى(6/542)
السلف الصالح الَّذِينَ يطيب المجلس بذكرهم لقدرهم المنقطع النظير كأنوار رجالاً مثلنا ولكن ببركات ما وهبهم مولاهم من العلم الديني وآثاره الجليلة كانوا خير الناس بعد النبيين كانوا أغنى العالم لأنهم رضوا بقسمة مولانا الحكيم الخبير وكانوا أشجع الناس لأنهم علموا أن الأجل لا يطيله الجبن الذميم فكم من قتلة قرنت بالجبن كما قِيلَ:
كَمْ مَخْلَصٍ وَعُلاً فِي خَوْضِ مَهْلَكَةٍ
وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بِالذَّمِّ فِي الْجُبُنِ
وكانوا في الحلم والعقل كالجبال الرواسي وكانوا محط رحال الجود والكرم لأنهم يعلمون أن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس وإن الَّذِي يرضي بالبخل ويحث عليه إبليس لعنه الله وكانوا يستقبلون البلايا مهما قست بالصبر الجميل لعلمهم أنها تصرف الحكيم الخبير وكانوا يستقبلون النعم بالحمد والشكر لجزمهم أنها لله ومن الله وأنه يزيد الشاكرين ويرضي عن الحامدين وكانوا أبعد الناس عن الشر ولا يحبون أهله لعلمهم أن ذلك يغضب الله وكانوا يحبون الخير لإخوانهم المسلمين وكانوا لا يضمرون حسداً ولا شراً لأحد من إخوانهم المؤمنين لعلمهم أن الله يحيط علماً بما يسرون وما يعلنون وكانوا إذا قَالُوا أو فعلوا يتحرون ما يرضي الله تعالى فيما يقولونه ويفعلونه وكانوا لا يشهدون المنكر والزور بل ينكرون على من يحضرون وكانوا يحنون إلى مجالس الذكر حنين الإلف فارقه الإلف وهكذا كانوا إذا أرادوا أن يتحركوا أو يسكنوا باستشارة العلم الديني يتحركون ويسكنون لهذا كانوا لليوم موضع إعجاب الشرق والغرب ونالوا فوق هذا رضي رب العالمين هكذا كانوا ببركات ما وهبهم الله من العلم الديني أما نحن فقد كنا موضع إعجاب من ناحية أن هدفنا(6/543)
في التعليم هو الحطام الفاني لا غير لهذا كان الواحد منا إذا رسب يكاد ينتحر ويقول فات علي سنة محصول رواتبها لا يقل عن خمسة آلاف ولو كان قصده العلم بما جهله وتوجيه عباد الله عندما ينجح كان عنده يتساوى السرعة والبطء لأجل أن يمهر في المعلومات لهذا القصد ماتت الفضائل وانتزعت بركة العلم وفقدت هيبة العالم عند كل أحد وصار كل يفتي وكل يرشح نفسه للفتيا فوراً ولكن الناس الورعين لا يطمئنون إلا إلى النوادر ممن يوثق بدينهم وأمانتهم ويتركون المرائين والمحبين للظهور والشهرة الَّذِينَ ضاعوا وضيعوا عباد الله.
وختاماً فلو أننا أحيينا طريقة سلفنا في العلم المطابق للعمل لأصبحنا وقد أحيينا عزهم وشرفهم الدفين رحمه الله على تلك الأرواح العاملة بما علمت.
شِعْرًا:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْكِ الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا
وَقَدْ غَيَّبْتَهَا فِي التُّرَابِ لُحُودُ
فَأَنْتَ بَهِيمِيُّ الطِّبَاعِ وَإِنَّمَا
قُصَارَاكَ ثَوْبٌ نَاعِمٌ وَثَرِيدُ
سَتَبْكِي الْعُلا قَوْمًا تَسَامَوْا لِنَيْلِهَا
كَأَنَّ لَهُمْ دَمْعَ الْعُيُونِ هُجُودُ
يُعِيدُونَ مِنْهَا مَا تَعَفَّتْ رُسُومُهُ
فَتُضْحِي عَلَيْهَا لِلْفِخَارِ بُرُودُ
كَفَى غُرْبَةً لِلدِّينِ هَذَا الَّذِي نَرَى
فَلَيْسَ عَلَى ذَا الاغْتِرَابِ مَزِيدُ
أَلَمْ تَبْقَ فِي أَهْلِ الدِّيَانَةِ هِمَّةٌ ... أَلَمْ يَبْقَ شَخْصٌ لِلطَّغَاةِ يَذُودُ(6/544)
اللَّهُمَّ رضنا بفضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعلى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فأنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ووفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين من امتثال أو امرك واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ
بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
182- وأخبر عن صالح عليه السلام، وإرساله إلى ثمود القبيلة المعروفة، الَّذِينَ يسكنون الحجر، وما حوله، وأنه دعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك وأنه جاءهم بآية، خارقة من خوارق العادات وهي ناقة شريفة، فاضلة.
وأخبر أنه بوأهم في الأرض ومكن لهم فيها وسهل لهم الأسباب الموصلة إلى ما يريدون وأمدهم بالقوة وأنهم قابلوا إخلاص صالح ونصحه بعقر الناقة، والتحدي بالعذاب، وآخر الأمر {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * َأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} ‘ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
183- وأخبر عن هود عليه السلام وإرساله إلى عاد الأولى في أرض اليمن يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، وأنهم قابلوا دعوته برميه بالسفاهة، والكذب، واستنكروا التوحيد، واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلاً ولا شرعاً أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد وتحدوه(6/545)
بإتيانه بالوعيد، وأجابهم هود علة مقالتهم، وآخر الأمر أنجى الله هوداً والَّذِينَ آمنوا معه، وقطع دابر المكذبين بآيات الله.
184- وأخبر عن شعيب عليه السلام وإرساله إلى مدين وأن لا يبخسوا الناس أشيائهم وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين وأن أشرافهم والكبراء منهم قابلوا ذلك بالتهديد باستعمال القوة السبعية ولم يراعوا ديناً، ور ذمةً، ولا حقّاً، بل لتبعوا عقولهم السخيفة، وآخر الأمر أخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
185- وأخبر عن أصحاب الكهف، وأنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله لطف بهم حيث وقفهم للإيمان، وأنهم اعتزلوا قومهم، وآووا إلى الكهف، وبين حالهم بعد أن آووا إلى الكهف وهو أن الشمس تميل عن كهفهم جهة اليمين، وعند الغروب تقرضهم ذات الشمال، فلا تصيبهم الشمس في طلوعها، ولا غروبها، وبين أن هدايتهم، كانت بعناية الله إلى آخر قصتهم.
186- وأخبر عن أيوب عليه السلام ما أصابه الشيطان به، ونداءه لربه واستجابة الله له، وكشف ما به من ضر، وإعطائه أهله، ومثلهم معهم.
187- وأخبر عن إسماعيل عليه السلام، وأنه كان صادق الوعد وأنه من وفائه بالوعد لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له، قَالَ ستجدني إن شاء الله صابراً وفي بذلك، ومكن أباه من الذبح، الَّذِي هو أعظم مصيبة تصيب الإنسان، وأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة الخ.(6/546)
188- وأخبر عن إدريس عليه السلام وأن الله وصفه بصفات الكمال حيث جمع له بين الصديقية وبين اصطفائه لوحيه وأنه رفعه مكاناً عالياً.
189- وأخبر عن إسحاق عليه السلام، وأنه ممن اختارهم الله واصطفاهم، وشرفهم بطاعته، وقواهم على العمل لما يرضيه، وآتاهم البصيرة في الدين قَالَ الله تعالى {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} .
190- وأخبر عن ذي القرنين، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وأن الله أعطاه من كل شيء سببا، وأخبر أنه لما بلغ بين السدين، وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم، وأنهم أخبروه، عن إفساد يأجوج ومأجوج، وأنهم أرادوا أن يجمعوا له ويجعلوا له خرجاً على أن يسد بينهم وبين يأجوج ومأجوج وأنه قَالَ ما أنا فيه خير مِمَّا تبذلونه وأجابهم إلى طلبهم وهو السد على يأجوج ومأجوج بأن يجعل ردماً. بينهم وبين يأجوج وماجوج.
191- وأخبر عن لقمان وأن الله آتاه الحكمة، وأخبر عن موعظته لابنه، المتضمنة للتحذير من الشرك، والأمر بالإخلاص لله وحده وذكر جل وعلا أمره له بالشكر، وأن شكر الشاكر يعود نفعه عليه، وإن من كفر فالله غني حميد فلا يضر الكفر إلا صاحبه، وأن من وصايا لقمان لابنه الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والصبر على ما يصيبه، وأن تلك(6/547)
الوصايا من الأمور المهمة التي يعزم عليها، ويتحتم على العباد فعلها، ولا محيص منها، ثم حذره من أشياء أخر أولها الكبر إلخ
192- وأخبر عن الخضر، وما اختص به من العلم، وما جرى بينه وبين موسى، عندما اتصل به، وما جرى لموسى وفتاه، في سفره إلى الخضر، وما تزوداه في السفر، إلى آخر القصة.
اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيلَ عثرات العاثرين، نسالك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
193- وأخبر عن أهل القرية، إذ جاءها المرسلون، وما جرى من أهل القرية، من التكذيب للرسل، وما قاله الرسل، وأن أهل القرية حينما توعدوا الرسل وهموا بقتلهم جاء رجل يسعى من أطراف المدينة، لينصح قومه، ويحضهم على اتباع الرسل، ويذب عن الرسل، وأنه أبان لهم أنه ما اختار لهم إلا ما اختار لنفسه، وهذا يشبه مؤمن آل فرعون الَّذِي دافع عن موسى عليه السلام، وأخبر عن ما حل بأهل القرية، من النكال والعقوبة.
194- وأخبر عن سبأ، وما أمدهم به من البساتين، والمياه العظيمة والثمار التي بها يتنعمون، ويحصل لهم بها الغبطة، والسرور، وأنهم ظلموا أنفسهم، وكفروا بالله، وبنعمته، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وذهب بالبساتين، وأهلك الحرث والنسل، وبدلوا بتلك الجنان، والبساتين الحسنة، بستانين ليس فيهما إلا أشجار تافهة، لا يؤبه لها وَمَا ظْلِمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.(6/548)
195- وأخبر عن قارون وما أوتيه من كنوز، وأن مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة، وأنه بغى على موسى وقومه، وأن قومه نصحوه، بعدة نصائح، وأنه قابلها بالإباء، وكفران النعمة، وأنه خرج مرة على قومه في زينته، وأخبر عن ما قَالَ له مريدوا الحياة الدنيا، وما قَالَ لهم أولو العلم وذكر مال بطره وأشره، وما حل به من الوبال، والنكال، وهو الخسف به وبداره.
وَقَالَ الله تعالى لنبيه ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} وَقَالَ {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وَقَالَ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وَقَالَ تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
وَقَالَ تعالى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} الآية.
وَقَالَ تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} .
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلمها عن مشاهدة ولكن أعلمه إياها الَّذِي أحاط بكل شيء علماً الَّذِي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وَقَالَ تعالى: {َلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} وأخبر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور غيبية غير ما ذكرنا أعلمه الله بها وفي بعض ما(6/549)
ذكرنا كفاية تامة لمن أحب أن يقرأها ويتأملها ليقوى إيمانه بالله ورسله وبما أخبروا به صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
اللَّهُمَّ بارك في أعمارنا وأصلح أعمالنا ونياتنا وذرياتنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وسيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وكرامات صالحي أمته من آياته.
وذلك يظهر بتدبر سيرته من ولد إلى أن بعث ومن حين بعث إلى أن مات وبتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الَّذِي جعل الله في ذرته النبوة والكتاب.
فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هذا وهذا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل.
ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ثم هو من قريش صفوة بني إبراهيم من بني هاشم صفوة قريش.
ومن مكة أم القرى وبلده البيت الذب بناه إبراهيم ودعا الناس إلى حجه ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف وكان من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم.(6/550)
مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جربت عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة.
وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله وكان أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) .
ولم يقرأ شيئاً من علوم الناس ولا جالس أهلها ولم يدع بنبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره.
وأخبر بأمر لم يكن في بلده ولا في قومه من يعرف مثله ولم يعرف قبله ولا بعده لا في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتى بمثل ما أتى بمثل ما أتى به ولا من ظهر كظهوره.
ولا من أتى من العجائب والآيات بمثل ما أتى به ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته، ولا من ظهر دينه على الأديان كلها بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره.
ثم إنه اتبعه الأنبياء وهم الضعفاء من الناس وكذبه أهل الرئاسة وعادوه وسعوا في هلاكه من تبعه بكل طريق كما كان الكفار يفعلون مع الأنبياء وأتباعهم.
والَّذِينَ اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم(6/551)
ولا جهات يوليهم إياها ولا كان له سيف بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه وقد آذوا أبتاعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم حلاوة الإيمان والمعروفة.
وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى الله صابراً على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم وعرفوه.
فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الَّذِي تخبرهم به اليهود وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عروا به مكانته فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم ثم أذن له في الجهاد ثم أمر به.
ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ عليه كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأبرهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة.
وهو على ذلك كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها حتَّى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان(6/552)
وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدماء المحرمة وقطعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معاذاً.
فصار أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق مابين الأمرين وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا متاعاً ولا دابة إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسقاً من شعير ابتاعها لأهله.
وكان بيدِهِ عقار ينفق منه على أهله والباقي يصرفه في مصالح المسلمين فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته منه شيئاً وهو في كل وقت يظهر على يديه من الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه.
ويخبرهم بما كان وما يكون ويأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويشرع الشريعة شيئاً بعد شيء.
أكمل الله دينه الَّذِي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه.
لم يأمر بشي فقِيلَ ليته لم يأمر به ولا نهى عن شيء فقِيلَ ليته لم ينه عنه وأحل الطيبات لم يحرم شيئاً منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحله غيره.
وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور(6/553)
نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه وأخبر بأشياء ليست في هذه الكتب.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وهو الَّذِي أمرهم بها والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم
«فصل» وَقَالَ آخر: غير شيخ الإسلام
اعلم أن من شاهد أحواله وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته.
مع ما يحكي من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع التي يعجز الفقهاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسبا بحيلة تقوم بها القوة البشرية.
بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتَّى إن العربي القُحَّ كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب.
فكان يشهد له بالصدق بمجرد رؤيته لشمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده أهـ.
لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالْخَبَرِ(6/554)
اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان ويناه واللسان وآجراه، يا من لا يخيب من دعاه، هب لكل منا ما رجاه، وبلغه من الدارين مناه، اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع الزلات، واستر علينا كل الخطيئات وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وجميع المسلمين بما أنزلته من الكلمات يا أرحم الرحمين اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبِكَ وسهل علينا طاعتك وفرغنا للتفكر في مخلوقاتك واجعل لنا رضاك موئلا وعاقبة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
إِلَى اللهِ نَشْكُوا قَسْوَةً وَتَوَحّدَا
وَنَرْجُوهُ غُفْرَانًا فَرَبُّكَ أَوْحَدُ
وَدُونَكَ مِنِّي النُّصْحَ يَا ذَا الْمُوَحَّدُ
قُمِ اللَّيْلَ يَا هَذَا لَعَلَّكَ تَرْشُدُ
إِلَى كَمْ تَنَامُ اللَّيْلَ وَالْعُمْرُ يَنْفَدُ
تَيَقَّظْ وَتُبْ فَاللهُ لِلْخَلْقِ رَاحِمٌ
وَإِنِّي لِنَفْسِي نَاصِحٌ وَمُلازِمُ
فَقُمْ لا تَنَمْ فَالشَّهْمُ بِاللَّيْلِ قَائِمٌ
أَرَاكَ بِطُولِ اللَّيْلِ وَيْحَكَ نَائِمُ
وَغَيْرُكَ فِي مِحْرَابِهِ يَتَهَجَّدُ
لَقَدْ فَازَ أَقْوَامٌ وَنَحْنُ نُشَاهِدُ
أَمَا تَسْتَحِي أَوْ تَرْعَوِي أَوْ تُجَاهِدُ
فَلَيْسَ سَوَاءٌ قَائِمٌ ذَا وَرَاقِدُ
وَلَوْ عَلِمَ الْبَطَّالُ مَا نَالَ رَاهدُ(6/555)
مِنَ الأَجْرِ وَالإِحْسَانِ مَا كَانَ يَرْقُدُ
فَكَمْ قَدْ أَكَلْنَا وَالتَّقِيُّونَ صُوَّمُ
وَنُمْنَا وَهُمْ بِاللَّيْلِ يَبْكُونَ قُوَّمُ
وَلَوْ مُفْلِسٌ يَدْرِي وَهَلْ أَيْنَ خَيَّمُوا
لَصَامَ وَقَامَ اللَّيْلَ وَالنَّاسُ نُوَّمُ
إِذَا مَا دَنَى مِنْ عَبْدِهِ الْمُتَفَرِّدُ
وَأَسْبَلَ فِي الدَّاجِي دُمُوعًا بِعَبْرَةٍ
وَتَابَ وَأَبْدَى الْخَوْفَ مِنْ كُلِّ هَيْبَةٍ
وَقَامَ وَصَلَّى خَائِفًا فِي مَحَبَّةٍ
بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَغْبَةٍ
وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ ذُو الْعَرْشِ يُعْبَدُ
فَحَاذِرْ مِن الدُّنْيَا وَمِنْ لَدْغِ صِلِّهَا
فَلَيْسَ لَهَا عَهْدٌ يَفِي لَوْ لِخِلِّهَا
فَسَافِرْ وَطَلِّقَهَا ثَلاثًا وَخَلِّهَا
وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَدُومُ لأَهْلِهَا
لَكَانَ رَسُولُ اللهِ فِيهَا مُخَلَّدُ
أَلَمْ يَأْنِ أَنْ نَخْشَعْ وَأَيْنَ التَّهَجُّدُ
أَفِي سِنَةٍ كُنَّا أَمِ الْقَلْبُ جَلْمَدُ
تَيَقَّظْ أَخِي وَاحْذَرْ وَإِيَّاكَ تَرْفُدُ
أَتَرْقُدُ يَا مَغْرُورُ وَالنَّارُ تُوقَدُ(6/556)
فَلا حَرُّهَا يَطْفَى وَلا الْجَمْرُ يَخْمُدُ
أَمَا لَوْ عَلِمْنَاهَا نَهَضْنَا إِذَا شَظَى
نَعُجُّ وَبَعْضُ الْقَوْمِ لِلْبَعْضِ أَيْقَظَا
وَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنًا بِتِذْكَارِنَا اللَّظَى
أَلا إِنَّهَا نَارٌ يُقَالُ لَهَا لَظَى
فَتَخْمُدُ أَحْيَانًا وَأَحْيَان تُوقَدُ
عَلَى الْخَمْسِ تَوْدِيعًا بِجِدٍّ فَصَلِّهَا
وَحَافِظْ عَلَى تِلْكَ النَّوَافِلِ كُلِّهَا
وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَذِلُّ بِذُلِّهَا
فَيَا رَاكِبَ الْعِصْيَانِ وَيْحَكَ خَلِّهَا
سَتُحْشَرُ عَطْشَانًا وَوَجْهَكَ أَسْوَدُ
أَلا إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي عِلْمِ غَيْبِهِ
لَهُمْ كُلُّ خَيْرٍ مِنْ إِلَهِي بِقُرْبِهِ
سَمَوْ بِالْهُدَى وَالنَّاسُ مِنْ فَوْقِ تُرْبِهِ
فَكَمْ بَيْنَ مَسْرُورٍ بِطَاعَةِ رَبِّهِ
وَآخَرُ بِالذَّنْبِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ
إِذَا كُوِّرَتْ شَمْسُ الْعِبَادِ وَأَنْجُم
وَقُرِبَتِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ تُضْرَمُ
وَكُبْكِبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا مُسَلَّمٌ
فَهَذَا سَعِيد فِي الْجِنَانِ مُنَعَّمُ
وَهَذَا شَقِيٌّ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدُ(6/557)
وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ رَبِّنَا مَضَى
وَلا بُدَّ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْحَشْرِ يُمْتَضَى
إِلَهِي أَنِلْنِي الْعَفْوَ مِنْكَ مَعَ الرِّضَى
إِذَا نُصِبَ الْمِيزَانُ لِلْفَصْلِ وَالْقَضَى
وَقَدْ قَامَ خَيْرُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدُ
نَبِيَّ الْهُدَى الْمَعْصُوم عَنْ كُلِّ زَلَّةِ
شَفِيعَ الْوَرَى أكْرم بِهَا مِنْ فَضِيلَة
وَمِلَّتَهُ يَا صَاحِبِي خَيْرُ مِلَّةٍ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ فِي كُلِّ لَيْلَة
مَعِ الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَارَ فرقد
اللَّهُمَّ ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة
وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ الماوردي رحمه الله في ذكر خصائص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضائله وشرف أخلاقه وشمائله المؤيدة لنبوته والمبرهنة على عموم رسالته:
فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه: كمال الخلق وكمال الخلق وفضائل الأقوال وفضائل الأعمال.
فأما الوجه في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف أحدها: السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم الداعية إلى التقديم والتسليم.(6/558)
وكان أعظم مهيب في النفوس حتَّى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياعهم بصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة.
فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم وإن لم يتعاظم بأهبة ولم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفاً وبالوطأة – أي السهولة – معروفاً.
والثاني: في الطلاقة الموجبة للإخلاص والمحبة الباعثة على المصافاة والمودة.
وقد كان صلوات الله عليه محبوباً استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتَّى لم يقله مصاحب ولم يتباعد منه مقارب وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب الماء البارد على الظمأ.
والثالث " حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتَّى تسرع إلى طاعته وتذعن بموافقته وقد كان قبول منظره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستولياً على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتَّى لم ينفر منه معاندٌ ولا استوحش منه مباعد إلا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى مخالفته.
والرابع: ميل النفوس إلى متابعته وانقيادها لموفقته وثباته على شدائده ومصابرته، فما شذ عنه معها من أخلص ولا ند عنه فيها من تخصص.
وهذه الأربعة من دواعي السعادة وقوانين الرسالة وقد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحق ما يقتضيها.(6/559)
وأما الوجه الثاني في كمال أخلاقه فيكون بست خصال:
(إحداهن) : رجاحة عقله وصحة وهمه وصد فراسته وقد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه.
وأنه ما استغفل في مكيدة ولا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الأعجاز في المبادئ فيكشف عيوبها ويحل خطوبها وهذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم وأوضح جزم.
والخصلة الثانية: ثباته في الشدائد وهو مطلوب وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهد الصياصي وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي.
والخصلة الثالثة: زهده في الدنيا وإعراضه عنها وقناعته بالبلاغ منها فلم يمل إلى غضارتها ولم يله لحلاوتها وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان.
وهو أزهد الناس فيما يفتني ويدخر وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر لم يخلف عيناً ولا ديناً ولا حفر نهراً ولا شيد قصراً ولم يورث ولده وأهله متاعاً ولا مالاً ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها.
وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتَّى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة ويقنع في العاجل(6/560)
وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر.
والخصلة الرابعة: تواضعه للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلا بإطراقه وحيائه، فصار بالتواضع متميزاً، وبالتذلل متغززاً.
ولقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته فَقَالَ خفض عَلَيْكَ فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه فهي غريزة فطر عليها وجبلة طبع بها لم تنذر فتعد ولم تحصر فتجد.
والخصلة الخامسة: حلمه ووقاره عن طيش يهزه أو خرق يستفزه فقد كان أحلم في النفار من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم.
وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفظ عليه بادرة ولا حليم غيره إلا ذو عثرة ولا وقور سواه إلا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزع الهوى وطيش القدرة لهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفاً وعلى الخلق عطوفا قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم.
وما تفرد بذلك سفهاؤهم عن حلمائهم ولا أراذلهم دون عظمائهم بل تمالا عليه الجلة والدون، فكلما كانوا عليه من الأمر – ألح كان عنهم أعرض وأصفح حتَّى قهر فعفا، وقدر فغفر.
(وَقَالَ لهم) حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه ما ظنكم بي قَالُوا ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بِكَ وإن تنقم فقد أسأنا فَقَالَ بل أقول كما قَالَ يوسف لإخوته {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .(6/561)
وَقَالَ اللَّهُمَّ قد أذقت أول قريش نكالاً فأذق آخرهم توالاً وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها.
فإن قِيلَ فقد ضرب رقاب بني قريظة صبراً في يوم واحد وهم نحو سبعمائة فأين موضع العفو والصفح قيل إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى.
وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق فَقَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة، فلم يجز أن يعفو عن حق وجبَ لله تعالى وإنما يختص عفوه بحق نفسه.
والخصلة السادسة: حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد فإنه ما نقض لمحافظ عهداً ولا أخلف لمراقب وعداً يرى الغدر من كبائر الذنوب والإخلاف من مساويء الشيم فيلتزم فيها الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظاً لعهده ووفاء بوعده حتَّى يبتدئ معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجاً كفعل اليهود من بني قريظة وبني النضير وكفعل قريش بصلح الحديبية فيجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة.
فهذه ست خصال تكاملت في خلقه، فضله الله تعالى على جميع خلقه والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى نِبِيّنا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله فمعتبر بثمان خصال:
(إحداهن) : ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطى من العلوم الجمة(6/562)
الباهرة، وهو أمي من أمه أمية لم يقرأ كتاباً ولا درس علماً ولا صحب عالماً ولا معلماً فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل.
وقد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سنناً حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه «لا صلاح للعالم إلا بدين ينقادون له ويعملون به» فما راق لها أثر ولا فاق لها خبر.
والخصلة الثانية: حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم وأخبار العالم في الزمن الأقدم حتَّى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذ عنه منها قليل ولا كثير.
وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه وما ذاك إلا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح وهذه الثلاثة آلة ما أستودع من الرسالة وحمل من أعباء النبوة فجدير أن يكون بها مبعوثاً وعلى القيام بها محثوثاً
والخصلة الثالثة: إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتَّى لم يخرج منه ما يوجبه معقول ولا دخل فيه ما تدفعه العقول.
ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً» لأنه نبه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسر ذلك إلا وهو عليه معان وإليه مقاد.
والخصلة الرابعة: ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب وحث عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التعطف على الضعفاء والأيتام.(6/563)
ثم ما نهى عنه من التباغض والتحاسد وكف عنه من التقاطع والتباعد لتكون الفضائل فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر، ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى الخير أسرع ومن الشر أمنع.
فيتحقق فيهم قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فلزموا أمره واتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم ودنياهم عز بهم الإسلام بعد ضعفه وذل بهم الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبراراً وقادة أخباراً.
والخصلة الخامسة: وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجاجه إذا جادل لا يحصره عي ولا يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلا كان جوابه أوضح وحجابه أرجح.
والخصلة السادسة: أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خير يكون إلى الكذب منسوبا وللصديق مجانبا فإنه لم يزل مشهوراً بالصدق في خبره فاشياً وكثيراً حتَّى صار بالصدق مرقوماً والأمانة مرسوماً.
وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه فمنهم من كذبه حسداً ومنهم من كذَّبه عناداً ومنهم من كذبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً.
ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلاً على تكذيبه في الرسالة، ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم وحسبِكَ بهذا دفعاً لجاحد ورداً لمعاند اللَّهُمَّ قابل سيئاتنا بإحسانك، واستر خطيئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك، واقهر عدونا بعز سلطانك، فما تعودنا منك(6/564)
إلا الجميل، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) والخصلة السابعة: تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته والاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هذرًا ولا يحجم عنه حصراً وهو فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية أجمل الناس صمتًا وأحسنهم سمتاً.
ولذلك حفظ كلامه حتَّى لم يختل وظهر رونقه حتَّى لم يعتل واستعذبته الأفواه حتَّى بقي محفوظاً في القلوب مدوناً في الكتب فلن يسلم الإكثار من الزلل ولا الهذر من الملل.
والخصلة الثامنة: أنه أفصح الناس لساناً وأوضحهم بياناً وأوجزهم كلاماً وأجزلهم ألفاظاً وأصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف ولا يتخلله فيهقة التعسف.
وقد دون كثير من جوامع كلمه ومن كلامه الَّذِي لا يشاكل في فصاحته وبلاغته ومع ذلك ف يأتي عليه إحصاء ولا يبلغه استقصاء.
ولو مزج كلامه بغيره لتميز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله ولبان صدقه من كذبه هذا ولم يكن متعاطياً للبلاغة ولا مخالطاً لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء وإنما هو من غرائر طبعه وبداية جبلته وما ذاك إلا لغاية تراد وحادثة تشاد.
وأما الوجه الرابع في فضائل أفعاله فمختبر بثمان خصال:
(أحداهن) حسن سيراته وصحة سياسته في دين نقل به الأمة عن مألوف وصرفهم به عن معروف أغلى غير معروف فأذعنت به النفوس طوعاً وانقادت خوفاً وطمعاً وشديد عادة منتزعة إلا لمن كان مع التأبيد الإلهي معاناً بحزم صائب وعزم ثاقب.(6/565)
وحسبِكَ بما استقرت قواعده على الأبد حتَّى انتقل عن سلف إلى خلف يزداد فيهم حلاوته ويشتد فيهم جدته ويرونه نظاماً لإعصار تنقلب صروفها ويختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهاناً ولمن ارتاب به بياناً.
والخصلة الثانية: أن جمع بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتَّى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته رغباً في عاجل وآجل ورهباً من زائل ونازل، لاختلاف الشيم والطباع في الانقياد الَّذِي لا ينتظم بأحدهما ولا يستديم إلا فلذلك صار الدين بهما مستقراً والصلاح بهما مستمراً.
والخصلة الثالثة: أنه عدل فيما شرعه من الدين عن الغلو والتقصير إلة التوسط وخير الأمور أوساطها وليس لما جاوز العدل حظ من رشد ولا نصيب من سداد.
والخصلة الرابعة: أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا ولا إلى رفضها وأمدهم فيها بالاعتداك، وَقَالَ: «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» وهذا صحيح لأن الانقطاع على أحدهما اختلال والجمع بينهما اعتدال.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نعم المطية الدنيا فارتحلوها تبلغكم الآخرة» وإنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته. ويستكثر فيها من طاعته وأنه لا يخلو تاركها من أن يكون محروماً مضاعاً أو مرحوماً مراعى وهو في الأول كل وفي مستدل.
اللَّهُمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابِكَ يوم تبعث عبادك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/566)
(فصل) والخصلة الخامسة: تصديه لمعالم الدين ونوازل الأحكام حتَّى أوضح للأمة ما كلفوه من العبادات وبين لهم ما يحل وما يحرم من مباحاث ومخظورات وفصل لهم ما يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات.
حتَّى احتاج أهل الكتاب في كثير من معاملاتهم ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره ثم مهد لشرعته أصولا تدل على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الأحكام المعللة فأغنى عن نص ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم بإنذاره ويحتج بإظهاره فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بلغوا عني ولا تكذبوا علي فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى منه هو أفقه منه» .
فأحكم ما شرع من نص أو تنبيه وعم بما أمر من حاضر وبعيد حتَّى صار لما تحمله من الشرع مؤدياً ولما تقلده من حقوق الأمة موفيًا لئلاً يكون في حقوق الله زلل وذلك في برهه من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتَّى أوجز وأنجز وما ذاك إلا بديع معجز.
والخصلة السادسة: انتصابه لجهاد الأعداد وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته وهو في قطب مهجور، وعدد محقور فزاد به من قل وعز به من ذل وصار بإثخانه في الأعداء محذورًا وبالرعب منه منصوراً فجمع بين التصدي لشرع الدين حتَّى ظهر وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدو حتَّى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلا لمن أمده الله بمعونته وأيده بلطفه والمعوز معجز.
والخصلة السابعة: ما خُصَّ به من الشجاعة في حروبه والنجدة في(6/567)
مصابرة عدوة فإنه لم يشهد حرباً في فزاع إلا صابر حتَّى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هرباً ولا حاز فيه رغباً.
بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولى عنه أصحابه يوم حنين حتَّى بقي بازاء جمع كثير وجم غفير في تسعةٍ من أهل بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إلى عباد الله «أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب» فعادوا أشدادا وأرسالا وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثرة ولا انكفأ عن مصاولة من صابره والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلّم.
(فصل) وقد عضده الله تعالى بأنجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتَّى أمده الله بنصره وما لهذه الشجاعة من عديل ولقد طرق المدينة فزع فانطلق الناس فتلقوه نحو الصوت فوجدوا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سبقهم إليه فتلقوه عائداً على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري وعليه السيف فجعل يقول أيها الناس لم تراعوا لم تراعوا ثم قَالَ لأبي طلحة إنا وجدنا بحراً وكان الفرس يبطئ فما فرس بعد ذلك.
وما ذاك إلا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره وأن دينه سيظهره تحقيقاً لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وتصديقاً لقول رَسُولِه اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» وكفى بهذا قياماً بحفه وشاهداً على صدقه.
والخصلة الثامنة: ما منح من السخاء والجود حتَّى جاد بكل موجودٍ(6/568)
وآثر بكل مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله.
وقد ملك جزيرة العرب فيها ملوك وأفيال لهم خزائن وأموال يقتنونها ذخراً ويتباهون بها فخراً ويستمتعون بها أشراً وبطراً وقد حاز ملك جميعهم فما اقتنى ديناراً ولا درهماً لا يأكل إلا الخشن ولا يلبس إلا الخشن.
ويعطي الجزل الخطير ويصل الجم الغفير ويتجرع مرارة الإقلال ويصبر على سغب الاختلال وكان يقول «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك ديناً أو ضياعاً فعليَّ ومن ترك مالاً ترك فلورثته» فهل مثل هذا الكرم والجود كرم وجود أم هل هذا لمثل هذا الإعراض والزهادة إعراض وزهد هيهات.
هل يدرك شأو من هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدداً ولا يدرك لها أمداً لم تكمل في غيره فيساويه ولا كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحدٍ أن يزري عليه في قول أو فعل.
أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلاً ود جهد جهده وجمع كيده.
فأي فضل أعظم من فضل شاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزاً لثالب أو قادح ولا مطعناً لجارح أو فاضح فهو كما قَالَ الشاعر:
شَهِدَ الأَنَامُ بِفَضْلِهِ حَتَّى الْعِدَا ... وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ الأَعْدَاءُ
وقول لآخر:
مَحَاسِنُ أَصْنَافِ النَّبِيِّينِ جَمَّةُ ... وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إِلا لأَحْمَدِ(6/569)
وبالجملة فآية أخلاقه صلوات الله عليه آية كبرى وعلم من أعلام نبوته العظمى وقد أجملها بعضهم بقوله وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة.
وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجمتع لبشر قط قبله ولا تجتمع لبشر بعده وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط كصبره ولا كحلمه ولا كوفائه ولا كزهده ولا كجوده ولا كنجدته ولا كصدق لهجته ولا ككرم عشرته ولا كتواضعه ولا كحفظه ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قَالَ ولا كعجيب منشئه ولا كعفوه ولا كدوام طريقته وقله امتنانه.
ولم تجد شجاعاً قط إلا وقد جال جولة وَفَرَّ فَرَّةً وانحاز مرة ولا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري أن يحدث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جال جولة قط ولا فَرَّ فَرَّةً قَطُ وَلا حَامَ عن غزوة ولا هاب حرباً من مكاثرة.
وذلك من أعجب ما آتاه الله نبياً قط مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات إذ أعداؤه جم غفير وجمعهم كثير فخصمهم حين جادلوه وصابرهم حين عاندوه وكابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلا كل معصوم ولم يسلم منها إلا منصور إلى أن علت كلمته وظهرت دعوته.
وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق، لأن الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين، انتهى كلامه.
اللَّهُمَّ اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ،(6/570)
اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأبرار وآتنا في الدنيا حسنه وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(قصيدة في غربة الإسلام وإهمال نصره)
(ممن ينتسب إليه)
لَهْفِي عَلَى الإِسْلامِ مِنْ أَشْيَاعِهِ
لَهْفِي عَلَى الْقُرْآنِ وَالإِيمَانِ
لَهْفِي عَلَيْهِ تَنَكَّرَتْ أَعْلامُهُ
إِلا عَلَى الْخِرِّيتِ فِي ذَا الشَّانِ
لَهْفِي عَلَيْهِ أَصْبَحَتْ أَنْوَارُهُ
مَحْجُوبَةً عَنْ سَالِكٍ حَيْرَانِ
لَهْفِي عَلَيْهِ أَصْبَحَتْ أَنْصَارُهُ
فِي قِلَّةٍ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ
لَهْفِي عَلَيْهِ أَهْلُهُ فِي غُرْبَةٍ
أَضْحَوْا وَهُمْ فِي الأَهْلِ وَالأَوْطَانِ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ أَصْبَحُوا فِي ضَيْعَةٍ
أَنْوَارُهُمْ تَخْفَى عَلَى الْعُمْيَانِ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ كَمْ لَنَا قَدْ أَخْلَصُوا
فِي النُّصْحِ لَوْ كَانَتْ لَنَا أُذُنَانِ
لَهْفِي عَلَى مَنْ يَجْلِبُونَ عَلَيْهِمُوا
بِالنُّصْحِ كُلِّ أَذَىً وَكُلَّ هَوَانِ(6/571)
لَهْفِي عَلَى مَنْ هُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى
مَا بَيْنَنَا لَوْ تُبْصِرُ الْعَيْنَانِ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ أُوجِدُوا فِي أُمَّةٍ
قَنِعَتْ مِن الإِسْلامِ بِالْعُنْوَانِ
لا يُعْرَفُ الْمَعْرُوفُ فِيمَا بَيْنَنَا
وَالنَّكْرُ مَأْلُوفٌ بِلا نُكْرَانِ
خَذَلَتْ ذَوِي النُّصْحِ الصَّحِيحِ وَأَصْبَحَتْ
عَوْنًا لِكُلِّ مُضَلَّلٍ فَتَّانِ
يَا وَيْحَ قَوْمٍ لا يُمَيِّزُ جُلُّهُمْ
ذَا الْحَقِّ مِنْ ذِي دَعْوَةِ الْبُطْلانِ
فَتَصَدَّرَ الْجُهَّالُ وَالضَّلالُ فِيـ
ـهِمْ بِادِّعَاءِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ
مِنْ كُلِّ مَنْ يَخْتَالُ فِي فَضَاضِهِ
فَدْمٌ ثَقِيلٌ وَاسِعُ الأَرْدَانِ
مُتَقَمِّشٌ مِنْ هَذِهِ الأَوْضَاعِ وَالْـ
أَرَاءِ إِمَّعَةٌ بِلا فُرْقَانِ
يُبْدِي التَّمَشْدُقَ فِي الْمَحَافِلِ كَيْ يُرَى
للنَّاسِ ذَا عِلْمٍ وَذَا إِتْقَانِ
تَبًّا لَهُ مِنْ جَاهِلٍ مُتَعَالِمٍ
مُتَسَلِّطٍ بِوِلايَةِ السُّلْطَانِ
رَفَعَتْ خَسِيسَتَهُ الْمَنَاصِبُ فَازْدَرَى(6/572)
.. أَهْلَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالإِيمَانِ
لَيْسَ التَّرَفُّعُ بِالْمَنَاصِبِ رِفْعَةً
بِالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى عُلُّو الشَّانِ
تَرَكَ الْمَنَابِرَ مَنْ يَقُومُ بِحَقِّهَا
مِنْ كُلِّ ذِي لَسْنٍ وَذِي عِرْفَانِ
وَنَزَا عَلَيْهَا سَفْلَةٌ يَا لَيْتَهُمْ
قَدْ أُدْرِجُوا مِنْ قَبْلُ فِي الأَكْفَانِ
خَطَبُوا التَّفَرُّقَ فَوْقَهَا وَلَطَالمَا
خُطِبَتْ عَلَيْهَا إِلْفَةُ الإِخْوَانِ
كَمْ يَأْمُرُونَ بِمُحْدَثاتٍ فَوْقَهَا
تَقْضِي عَلَى سُنَنٍ سُنِنَّ حِسَانِ
تَبْكِي الْمَنَابِرُ مِنْهُمُوا وَتَوَدُّ لَوْ
تَنْدَكُّ تَحْتَهُمُوا إِلَى الأَرْكَانِ
مَا عِنْدَهُمْ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ خِبْرَةُ
بَلْ نَقْلُ آرَاءٍ أَوْ اسْتِحْسَانِ
ثَكِلَتْهُمْ الآبَاءُ إِنَّ حَيَاتَهُمْ
مَوْتٌ لِسُنَّةِ خَاتَمِ الأَدْيَانِ
جَهِلُوا كِتَابَ اللهِ وَهُوَ نَجَاتُهُمْ
وَهُدَى النَّبِي مُبَيِّنِ الْقُرْآنِ
وَجَفَوْا مَنَاهِجَ خَيْرِ أَسْلافٍ لَهُمْ
فِي التَّعْلِمِ وَالتَّقْوَى وَفِي الإِتْقَانِ(6/573)
.. لا يَرْجِعُونَ لآيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ
أَوْ سِيرَةِ الْمَاضِينَ بِالإِحْسَانِ
بَلْ يَرْجِعُونَ لِرَأْيِ مَنْ أَلْقَوْا لَهُمْ
بِأَزِمَّةِ التَّقْلِيدِ وَالأَرْسَانِ
وَكَذَاكَ يَرْجِعُ مَنْ تَصَوَّفَ فِيهِمُوا
لذَّوْقِ أَوْ لِتَخَيُّلٍ شَيْطَانِي
فَالأَوَّلُونَ أَتَوْا بِأَحْكَامٍ لَنَا
فِيهَا مُخَالِفُ سُنَّةٍ وَقُرْآنِ
وَالآخَرُونَ أَتُوا لَنَا بِطَرَائِقٍ
غَيْرَ الطَّرِيقِ الأَقْوَمِ الْقُرْآنِي
وَمُحَصَّلُ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا
أَوْضَاعُ سُوءٍ رَدَّهَا الْوَحْيَانِ
وَكَذا رُؤُوسُهُمُ الطُّغَاةُ فَإِنَّهُمْ
لَمْ يَرْفَعُوا رَأْسًا بِذَا الْفُرْقَانِ
مَا حَكَّمُوا فِيهِمْ شَرَائِعَ دِينِهِمْ
وَالْعَدْلُ فِيهَا قَائِمُ الأَرْكَانِ
بَلْ حَكَّمُوا فِي النَّاسِ آراءً لَهُمْ
مِنْ وَحْيِ شَيْطَانٍ أَخِي طُغْيَانِ
وَيْحَ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَشَايِخِ جُبَّةٍ
وَاللابِسِينَ لَنَا مُسُوكَ الضَّانِ
غَزَوا الْوَرَى بِالزِّيِ وَالسَّمْتِ الَّذِي(6/574)
.. يُخْفِي مَخَازِي الْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ
وَرُؤُوسُ سُوءٍ لا اهْتِمَامَ بِهِمْ بِدِيـ
نٍ قَامَ أَوْ قَدْ خَرَّ لِلأَذْقَانِ
وَلَرُبَّمَا أَبْدَوْا عِنَايَتَهُمْ بِهِ
بِسِيَاسَةٍ تَخْفَى عَلَى الإِنْسَانِ
تَعْسًا لِمَنْ أَضْحَى يُتَابِعُ قَوْلَ مَنْ
بَخَسَ الْهُدَى وَمَزِيَّةَ الأَذْهَانِ
تَرَكُوا هِدَايَةِ رَبِّهِمْ وَرَسُولِهِمْ
هَذَا وَرَبِّكَ غَايَةَ الْخُذْلانِ
حُرِمُوا هِدَايَةَ دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ
هَذَا وَرَبِّكَ غَايَةَ الْخُسْرَانِ
تَرَكُوا هِدَايَةَ رَبِّهِمْ فَإِذَا بِهِمْ
غَرْقَى مِن الآرَاءِ فِي طُوفَانِ
وَتَفَرَّقُوا شِيَعًا بِهَا عَنْ نَهْجِهِ
مِنْ أَجْلِهَا صَارُوا إِلَى شَنْآنِ
كُلٌّ يَرَى رَأْيًا وَيَنْصُرُ قَوْلَهُ
وَلَهُ يُعَادِي سَائِرَ الإِخْوَانِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ عِنْدَ التَّنَازُعِ وُفِقُوا
لَتَحَاكَمُوا للهِ دُونَ تَوَانِ
وَلأَصْبَحُوا بَعْدَ الْخِصَامِ أَحِبَّةً
غَيْظَ الْعِدَا وَمَذَلَّةَ الشَّيْطَانِ(6/575)
.. لَكِنَّهُمْ إِذْ آثَرُوا وَادِي تَخَيَّـ
ـيَبَ أَصْبَحُوا أَعْدَاءَ هَذَا الشَّانِ
فَالْمُقْتَدِي بِالْوَحْيِ فِي أَعْمَالِهِ
يَلْقَى الأَذَى مِنْهُمْ وَكُلَّ هَوَانِ
لِعُدُولِهِ عَنْ أَخْذِهِ بِمَذَاهِبِ
فِي الرَّأْيِ مَا قَامَتْ عَلَى بُرْهَانِ
جَعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ مُسَيْطَرَةً عَلَى
فَهْمِ الْحَدِيثِ وَمَنْزِلِ الْقُرْآنِ
ذَادُوا ذَوِي الأَلْبَابِ عَنْ فِقْهِ الْكِتا
بِ وَفِقْهِ سُنَّةِ صَاحِبِ التِّبْيَانِ
وَغَدَتْ شَرِيعَتُنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِمْ
مَنْسُوخَةٌ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ
حَجَبُوا مَحَاسِنَهَا بِتَأْوِيلاتِهِمْ
فَغَدَتْ مِن الآرَاءِ فِي خُلْقَانِ
وَلَوْ أَنَّهَا بَرَزَتْ مُجَرَّدَةً لَهَا
مَ الأَذْكِيَاءُ بِحُسْنِهَا الْفَتَّانِ
لَكِنَّهُمْ قَامُوا حَوَائِلَ دُونَهَا
كَالأَوْصِيَاءِ لِقَاصِرِ الصِّبْيَانِ
مَا عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّنَاظُرِ حُجَّةٌ
أَنَّى بِهَا لِمُقَلِّدِ حَيْرَانِ
لا يَفْزَعُونَ إِلَى الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا(6/576)
.. فِي الْعَجْزِ مَفْزَعُهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ
لا عُجْبَ إِذْ ضَلُّوا هِدَايَةَ دِينِهِمْ
أَنْ يَرْجِعُوا لِلْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ
هَا قَدْ غَلَوْا فِي الأَوْلِيَاءِ وَقُبُورُهُمْ
أَضْحَتْ يُحَجُّ لَهَا مِن الْبُلْدَانِ
وَبَنَوْا عَلَى تِلْكَ الْقُبُورِ مَسَاجِدًا
وَالنَّصُّ جَاءَ لَهُمْ بِلَعْنِ الْبَانِي
وَكَذَاكَ قَدْ صَنَعُوا لَهَا الأَقْفَاصَ تُو
ضَعُ فَوْقَهَا فِي غَايَةِ الإِتْقَانِ
يَكْسُونَهَا بِمَطَارِفٍ مَنْقُوشَةٍ
قَدْ كَلَّفَتْهُمْ بَاهِظَ الأَثْمَانِ
بَلْ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ تَلْقَى نُصْبَهُ
قَدْ عَمَّمُوهَا عِمَّةَ الشَّيْخَانِ
وَلَسَوْفَ إِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِمْ تَرَى
وَلَهَا يَدَانِ تَلِيهِمَا الرِّجْلانِ
وَدَعَوْهُمُوا شُفَعَاءَهُمْ أَيْضًا كَمَا
قَدْ كَانَ يَزْعُمُ عَابِدُو الأَوْثَانِ
وَتَقَرَّبُوا لَهُمُوا بِتَسْيِيبِ السِّوَا
ثِبِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الْقُرْبَانِ
وَتَمَسَّحُوا بِقُبُورِهِمْ وَسُتُورِهِمْ
وَكَذَاكَ بِالأَقْفَاصِ وَالْجُدْرَانِ(6/577)
.. وَإِذَا رَأَيْتَهُمُوا هُنَاكَ تَرَاهُمُوا
مُتَخَشِّعِينَ كَأَخْبَثِ الْعُبْدَانِ
مَا عِنْدَهُمْ هَذَا الْخُشُوعُ إِذَا هُمُوا
صَلَّوْا لِرَبِّهِمْ الْعَظِيمِ الشَّانِ
وَاسْتَنْجَدُوا بِهِمُوا لِمَا قَدْ نَابَهُمْ
نَاسِينَ فَاطِرَ هَذِهِ الأَكْوَانِ
وَدَعَوْهُمُوا بَرًّا وَبَحْرًا لا كَمَنْ
خَصُّوا الدُّعَاءَ بِرَبِّهِمْ فِي الثَّانِي
فَهُمُوا بِهَذَا الْوَجْهِ قَدْ زَادُوا عَلَى
مَنْ أَشْرَكُوا فِي غَابِرِ الأَزْمَانِ
تَرَكُوا دُعَاءَ الْحَيِّ جَلَّ جَلالُهُ
لِدُعَاءِ أَمْوَاتٍ بِلا حُسْبَانِ
وَإِلَيْهِمُوا جَعَلُوا التَّصَرُّفَ فِي الْوَرَى
فَهُمُوا مُغِيثُ السَّائِلِ الْحَيْرَانِ
فَكَأَنَّهُمْ أَرْجَى لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ
وَعَلَيْهِمُوا أَحْنَى مِنَ الرَّحْمَنِ
وَكَأَنَّهُمْ وُكَلاؤُهُ فِي خَلْقِهِ
سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي بُهْتَانِ
وَكَأَنَّهُمْ حُجَّابُ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ
هُمْ قَاسِمُوهَا بَيْنَهُمْ بِوِزَانِ
يَا قَوْمُ لا غَوْثٌ يَكُونُ مُغِيثُكُمْ(6/578)
.. إِنَّ الْمُغِيثَ اللهُ لِلإِنْسَانِ
يَا قَوْمُ فَأدْعُو اللهَ لا تَدْعُوا الْوَرَى
أَنْتُمْ وَهُمْ بِالْفَقْرِ مَوْسُومَانِ
مَا بَالُكُمْ لَمْ تُخْلِصُوا تَوْحِيدَكُمْ
تَوْحِيدُكُمْ وَالشِّرْكُ مُقْتَرَنَانِ
هَا أَنْتُمُوا أَشْبَهْتُمُوا مَنْ قَبْلَكُمْ
فِي شِرْكِهِمْ بِعِبَادَةِ الدَّيَّانِ
إِنْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ لا يُسْمَوْنَهُ
بِعِبَادَةِ فَهِيَ اسْمُهُ الْقُرْآنِي
مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثَابِتٌ مُتَحَقَّقٌ
فِي فِعْلِكُمْ شَرْعًا وَعُرْفِ لِسَانِ
إِنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ بَلْ مُخُّهَا
قَدْ قَالَ ذَا مَنْ جَاءَ بِالْفُرْقَانِ
فَإِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ
تَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ
فَالْجَاهِلِيَّةُ كَانَ هَذَا زَعْمُهُمْ
أَيْضًا وَقَدْ نُسِبُوا إِلَى الْكُفْرَانِ
مَا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْتَقِدُونَهُمْ
خَلَقُوا هُمُوا يَا جَاهِلَ الْقُرْآنِ
وَاللهُ مَا شَرَعَ التَّوَسَّلَ لِلْوَرَى
إِلا بِطَاعَتِهِ مَعَ الإِيمَانِ(6/579)
.. وَالْفِعْلِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ حَتَّى يَجِي
أَمْرٌ بِهِ شَرْعًا إِلَى الإِنْسَانِ
وَالْعَامِلُونَ عَلَى وِفَاقِ الأَمْرِ لا
يَعْدُونَهُ بِالزَّيْدِ وَالنُّقْصَانِ
وَالْعَامِلُونَ بِمُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ
هُمْ مُؤْثِرُونَ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ
هَلْ مَا فَعَلْتُمْ جَاءَكُمْ أَمْرٌ بِهِ
مِنْ رَبِّكُمْ عَنْ صَاحِبِ التِّبْيَانِ
أَوْ هَلْ أَتَى مِنْ قُدْوَةٍ فِي الدِّينِ مِنْ
صَحْبِ النَّبِي وَتَابِعِ الإِحْسَانِ
وَهُنَا لَكُمْ عِنْدِي نَصِيحَةُ مُخْلِصٍ
لا يَمْتَرِي فِيمَا يَقُولُ اثْنَانِ
أَنْ تَأْخُذُوا بِالاحْتِيَاطِ لأَمْرِكُمْ
قَبْلَ الْخُلُودِ بِمَوْقِدِ النِّيرَانِ
إِنْ كَانَ مَا تَأْتُونَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَالشِّرْكُ مَخْشِيٌّ لَدَى الإتْيَانِ
فَالابْتِعَادُ عَنْ الْمَخُوفِ مُقَدَّمٌ
عَقْلاً عَلَى الأَقْدَامِ لِلإِنْسَانِ
خاتمة ونداء للعلماء
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ لَبُّوا دَعْوَةً
تُعْلِي مَقَامَكُوا عَلَى كِيوَانِ(6/580)
.. يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ هُبُّوا هَبَّةً
قَدْ طَالَ نَوْمَكُو إِلَى ذَا الآنِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ قُومُوا قَوْمَةً
للهِ تُعْلِي كِلْمَةَ الإِيمَانِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ عَزْمَةَ صَادِقٍ
مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيْرَ جَبَانِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْتُمْ مُلْتَجَا
لِلدِّينِ عِنْدَ تَفَاقُمِ الْحَدَثَانِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ كُونُوا قُدْوَةً
لِلنَّاسِ فِي الإِسْلامِ وَالإِحْسَانِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْتُمْ حُجَّةٌ
لِلنَّاسِ فَادْعُوهُمْ إِلَى الْقُرْآنِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ سُكُوتَكُمْ
مِنْ حُجَّةِ الْجُهَّالِ كُلَّ زَمَانِ
يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ لا تَتَخَاذَلُوا
وَتَعَاوَنُوا فِي الْحَقِّ لا الْعُدْوَانِ
وَتَجَرَّدُوا للهِ مِنْ أَهْوَائِكُمْ
وَدَعُوا التَّنَافُسَ فِي الْحُطَامِ الْفَانِي
وَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا أَنْ تَنْصُرُوا
مُتَعَاضِدِينَ شَرِيعَةَ الرَّحْمَنِ
كُونُوا بِحَيْثُ يَكُونُ نَصْبَ عُيُونِكُمْ(6/581)
.. نَصْرُ الْكِتَابِ وَسُنَّةُ الإِيمَانِ
قَدْ فَرَّقَتْنَا كَثْرَةُ الآرَاءِ إِذْ
صِرْنَا نُشَايِعُهَا بِلا بُرْهَانِ
وَمِنْ أَجْلِهَا صِرْنَا يُعَادِي بَعْضُنَا
بَعْضًا بِلا حَقٍّ وَلا مِيزَانِ
وَغَدَتْ أُخُوَّةُ دِينِنَا مَقْطُوعَةً
وَالظُّلْمُ مَعْرُوفٌ عَنِ الإِنْسَانِ
وَاللهُ أَلَّفَ بَيْنَنَا فِي دِينِهِ
وَعَلَى التَّفَرُّقِ عَابَ فِي الْقُرْآنِ
عُودُوا بِنَا لِسَمَاحَةِ الدِّينِ الَّذِي
كُنَّا بِهِ فِي عِزَّةٍ وَصِيَانِ
عُودُوا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدَى
أَسْلافُكُمْ فِي سَالِفِ الأَزْمَانِ
فَإِلَيْكُمُوا تَتَطَلَّعُ الأَنْظَارُ فِي
تَوْحِيدِ كِلْمَتِنَا عَلَى الإِيمَانِ
فَاللهُ يَنْصُرُ مَنْ يَقُومُ بِنَصْرِهِ
وَاللهُ يَخْذُلُ نَاصِرَ الشَّيْطَانِ
اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتوفيق المبين واجعلنا بفضلك من المقربين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ اللَّهُمَّ ارزقنا حبِكَ وحب من يحبِكَ وحب العمل الَّذِي يقربنا إلى حبِكَ وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه(6/582)
راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ماسألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) وَقَالَ الإمام ابن حزم: رهان ضروري لمن تدبره حسي لا محيد عنه وهو أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى إلى قوم لقاح لا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس نشأ هذا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم منذ ألوف منذ ألوف من الأعوام قد سرى الفخر والعز والنخوة والكبر والظلم والأنفة في طباعهم وهم أعداد عظيمة ملأوا جزيرة العرب وهي نحو شهرين في شهرين قد صارت طباعهم طباع السباع وهم ألوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بعضهم لبعض أبداً فدعاهم بلا مالٍ ولا أتباع – بل خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة.
ومن الحرية والظلم إلى جزي الأحكام عليهم ومن طول الأيدي يقتل من أحبوا وأخذ مال من أحبوا إلى القصاص من النفس ومن قطع الأعظاء ومن اللطمة من أجل من فيهم لأقل علج فغريب دخل فيهم وإلى إسقاط الأنفة والفخر إلى ضرب الظهور بالسياط وبالنعال إن شربوا خمراً أو قذفوا إنساناً.
وإلى الضرب بالسوط والرجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا فانقاد أكثرهم لكل ذلك طوعًا بلا طمع ولا غليبة ولا خوف ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط وما غزا قط غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات بعضها له. فصح ضرورة أنهم إنما آمنوا طوعاً لا كرهاً.(6/583)
وتبدلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ومن الجهل إلى العلم ومن الفسق والقسوة إلى العدل العظيم الَّذِي لم يبلغه أكابر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر وصحب الرجل منهم قاتلَ ابنه وأبيه وأعدى الناس له صحبة الأخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ولا رياسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ولا مال يتعجلونه فقد علم الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا عطاء ولا غلبة.
فهل هذا إلا بغلبة من الله تعالى نفوسهم كما قَالَ {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ثم بقي عليه الصلاة والسلام كذلك بين أظهرهم بلا حارس ولا ديوان جند ولا بيت مال محروساً معصوماً.
وَقَالَ ابن حزم رحمه الله أيضاً قبل ذلك: كانت العرب بلا خلاف قوماً لقاحاً لا يملكهم أحد كمضر وربيعة وإياد وقضاعة أو ملوكاً في بلادهم يتوارثون الملك كابراً عن كابر كملوك اليمن وعمان وشهر بن آرام ملك صنعا والمنذر بن ساوي ملك البحرين والنجاشي ملك الحبشة وجيفر وعياذ ابني الجلندي وملكي عمان فانقادوا كلهم لظهور الحق وبهوره وآمنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوعاً وهم آلاف آلاف وصاروا إخوة كبني أب وأم وانحل كل من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم إلى رسله طوعاً بلا خوف غزو ولا إعطاء مالٍ ولا طمع في عز بل كلهم أقوى جيشاً من جيشه وأكثر مالاً وسلاحاً منه وأوسع بلداً من بلده كذي الكلاع وكان ملكاً ابن ملوك متوجين تسجد له جميع رعيته يركب أمامه(6/584)
ألف عبد من عبيدِهِ سوى بني عمه من حمير وذي ظليم وذي زود وذي مران وذي عمرو وغيرهم كلهم ملوك متوجون في بلادهم.
هذا كله أمر لا يجهله أحد من حملة الأخبار بل هو منقول كنقل كون بلادهم في مواضعها وهكذا كان إسلام جميع العرب أولاهم كالأوس والخزرج ثم سائرهم قبيلة إنما ثبت عندهم من آياته وبهرهم من معجزاته وما اتبعه الأوس والخزرج إلا وهو فريد نابذه قومه حسداً له.
إذ كان فقيراً يتيماً أمياً لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل والجاهلية يرعى غنم يتقوت بها فعلمه الله تعالى الحكمة دون معلم وعصمه من كل أراده بلا حرس وبلا حاجب ولا بواب ولا قصر يمتنع فيه على كثرة من أَرَادَ قتله من شجعان العرب وفتاكهم كعامر بن الطفيل وأربد بن جزء وغورث بن الحارث وغيرهم مع أقرار أعدائه بنبوته كمسيلمة وسجاح وطليحة والأسود وهو مكذب لهم فهل بعد هذا برهان أو أنذر الأنصار بالأثرة عليهم بعده وتابعوه على الصبر على ذلك.
قام له أصحابه على قدم فمنعهم وأنكر ذلك عليهم وأعلمهم أن القيام لله تعالى لا لخلقه ورضوا بالسجود له فاستعظم ذلك وأنكره إلا لله وحده.
ولا شك في أن هذه ليست صفة طالب دنيا قط أصلاً ولا صفة راغب في غلبة ولا بعد صوت بل هذه حقيقة النبوة الخالصة لمن كان له أدني فهم.(6/585)
ثم قَالَ الإمام ابن حزم وأيضاً فإن سيرة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد له بأنَّهُ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقاً فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكفى وذلك أنه عليه الصلاة والسلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين.
إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع والأخر أيضاً إلى أول الشام ولم يطل بها البقاء ولا فارق قومه قط ثم أوطأه الله تعالى رقاب العرب كلها فلم تتغير نفسه ولا حالت سيرته إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله.
أصواع ليست بالكثيرة ولم يبت قط في ملكه دينار ولا درهم وكان يأكل على الأرض ما وجد ويخصف نعله بيدِهِ ويرفع ثوبه ويؤثر على نفسه وقتل رجل من أفاضل أصحابه مثل فقده يهد عسكراً قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى دمائهم ولا إلى دم واحد منهم ولا إلى أموالهم بل فداه من عند نفسه بمائة ناقة.
وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوى به وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ولا يقتضي هذا أيضاًَ ظاهر السيرة والسياسة فصح يقيناً بلا شك أنه إنما كان متبعاً ما أمر به ربه عز وجل سواء كان ذلك مضراً به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضر به وهذا عجيب لمن تدبره.(6/586)
ثم حضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنية وأيقن بالموت وله عم أخو أبيه هو أحب الناس إليه وابن عم هو من أخص الناس به وهو أيضاً زوج ابنته وكلاهما عنده من الفضل والدين والسياسة في الدنيا والبأس والحلم وخلال الخير ما كان كل واحد منهما حقيقاً بسياسة العالم كله فلم يحابهما وهما من أشد الناس محبة فيه وهو من أحب الناس فيهما.
إذ كان غيرهما متقدماً لهما في الفضل قاصداً أتباع ما أمر به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يورث ورثته ابنته ونساءه وعمه فلساً فما فوقه وهم كلهم أحب الناس إليه وأطوعهم له، وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنما تصرف بأمر الله تعالى له لا بسياسة ولا بهوى فوضح بما ذكرنا ولله الحمد كثيراً أن نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إلى تصديقها والقطع على أنها الحق الَّذِي لا حق سواه وأنها دين الله تعالى الَّذِي لا دين له في العالم غيره انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
هذه قصيدة جميلة أزلنا ما فيها من الغلو وعوضنا عنه ما بين الأقواس:
كَأَنَّ نُجُومًا أَوْ مَضَتْ فِي الْغَيَاهِبِ
عُيُونُ الأَفَاعِي أَوْ رُؤُوسُ الْعَقَارِبِ
إِذَا كَانَ قَلْبُ الْمَرْءِ فِي الأَمْرِ حَائِرًا
فَأَضْيَقُ مِنْ تِسْعِينَ رَحْبُ السَّبَاسِبِ
وَتَشْغَلُنِي عَنِّي وَعَنْ كُلِّ رَاحَتِي
مَصَائِبُ تَقْفُوا مِثْلَهَا فِي الْمَصَائِبِ
إِذَا مَا أَتَتْنِي أَزْمَةٌ مُدْلَهِمَّةٌ
تُحِيطُ بِنَفْسِي مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ
تَطَلَّبَْتُ هَلْ مِنْ نَاصِرٍ أَوْ مُسَاعِدٍ
أَلُوذُ بِهِ مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْعَوَاقِبِ(6/587)
.. (فَلَسْتُ أَرَى إِلا الَّذِي فَلَق النَّوَى
هُوَ الْوَاحِدُ الْمُعْطِي كَثِيرُ الْمَوَاهِبِ)
(وَمُعْتَصَمُ الْمكْرُوبِ فِي كُلِّ غَمْرَةٍ
وَمُنْتَجَعُ الْغُفْرَانِ مِنْ كُلِّ هَائِبِ)
(مُجِيبُ دُعَا الْمُضْطَّرِ عِنْدَ دُعَائِهِ
وَمُنْقِذُهُ مِنْ مُعْضِلاتِ النَّوَائِبِ)
(مُعِيدُ الْوَرَى فِي زَجْرَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ
لِفَصْلِ حُقُوقٍ بَيْنَهُمْ وَمَطَالِبِ)
فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ تَرَى الْوَرَى
سُكَارَى وَلا سُكْرٌ بِهِمْ مِنْ مَشَارِبِ
حُفَاةً عُرَاةً خَاشِعِينَ لِرَبِّهِمْ
فَيَا وَيْحَ ذِي ظُلْمٍ رَهِينَ الْمَطَالِبِ
فَيَأْتُوا لِنُوحٍ وَالْخَلِيلِ وَآدَمٍ
وَمُوسَى وَعِيسَى عِنْدَ تِلْكَ الْمَتَاعِبِ
لَعَلَّهُمُ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ مُعْضِلاتِ الْمَصَاعِبِ
فَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمُوا عِنْدَ هَذِهِ
نَبِيٌّ وَلَمْ يُظْفِرْهُمُ بِالْمَآرِبِ
هنَاكَ رَسُولُ اللهِ يَأْتِي لِرَبِّهِ
لِيَشْفَعْ لِتَخْلِيصِ الْوَرَى مِنْ مَتَاعِبِ(6/588)
فَيَرْجِعُ مَسْرُورًا بِنَيْلِ طِلابِهِ
أَصَابَ مِنَ الرَّحْمَنِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ
سُلالَةُ إِسْمَاعِيلِ وَالْعِرْقُ نَازِعُ
وَأَشْرَفُ بَيْتٍ من لُؤي بن غَالِبِ
بَشَارَةُ عِيسَى وَالَّذِي عَنْهُ عَبَّرُوا
بِشِدَّةِ بَأْسٍ بِالضَّحُوكِ الْمُحَارِبِ
وَمَنْ أَخْبَرُوا عَنْهُ بِأَنْ لَيْسَ خُلْقُهُ
بِفَظٍّ وَفِي الأَسْوَاقِ لَيْسَ بِصَاخِبِ
وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ بِنَائِهِ
بِمَكَّةَ بَيْتًا فِيهِ نَيْلُ الرَّغَائِبِ
جَمِيلُ الْمَحْيَا أَبْيَضُ الْوَجْهِ رَبْعَةً
جَلِيلُ كَرَادِيسِ أَزَجُ الْحَوَاجِبِ
صَبِيحٌ مَلِيحٌ أَدْعَجُ الْعَيْنِ أَشْكَلٌ
فَصِيحٌ لَهُ الإِعْجَام لَيْسَ بِشَائِبِ
وَأَحْسَنُ خَلْقِ اللهِ خَلْقًا وَخِلْقَةً
وَأَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ عِنْدَ النَّوَائِبِ
وَأَجْوَدُ خَلْقِ اللهِ صَدْرًا وَنَائِلاً
وَأَبْسَطُهُمْ كَفًّا عَلَى كُلِّ طَالِبِ
وَأَعْظَمُ حُرٍّ لِلْمَعَالِي نُهُوضُهُ
إِلَى الْمَجْدِ سَامٍ لِلْعَظَائِمِ خَاطِبٍ
تَرَى أَشْجَعَ الْفُرْسَانِ لاذَ بِظَهْرِهِ(6/589)
.. إِذَا احْمَرَّ بَأْسٌ فِي بَئِيسِ الْمَوَاجِبِ
وَآذَاهُ قَوْمٌ مِنْ سَفَاهَةِ عَقْلِهِمْ
وَلَمْ يَذْهَبُوا مِنْ دِينِهِ بِمَذَاهِبِ
فَمَا زَالَ يَدْعُو رَبَّهُ لِهُدَاهُمُ
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَاسَى أَشَدَّ الْمَتَاعِبِ
وَمَا زَالَ يَعْفُو قَادِرًا مِنْ مُسِيئهِمْ
كَمَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَ جَبْذَةَ جَاذِبِ
وَمَا زَالَ طُولَ الْعُمْرِ للهِ مُعْرِضًا
عَن الْبَسْطِ فِي الدُّنْيَا وَعَيْشِ الْمَزَارِبِ
بَدِيعُ كَمَالٍ فِي الْمَعَالِي فَلا امْرؤٌ
يَكُونُ لَهُ مِثْلاً وَلا بِمُقَارِبِ
أَتَانَا مُقِيمَ الدِّينِ مِنْ بَعْدِ فَتْرَةٍ
وَتَحْرِيفِ أَدْيَانٍ وَطُولِ مَشَاغِبِ
فَيَا وَيْلَ قَوْمٍ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ
وَفِيهِمْ صُنُوفٌ مِنْ وَخِيمِ الْمَثَالِبِ
وَدِينُهُمْ مَا يَفْتَرُونَ بِرَأْيِهِمْ
كَتَحْرِيمِ حَامٍ وَاخْتِرَاعِ السَّوَائِبِ
وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ حَرَّفُوا دِينَ رَبِّهِمْ
وَأَفْتَوْا بِمَصْنُوعٍ لِحِفْظِ الْمَنَاصِبِ
وَيَا وَيْلَ مَنْ أَطْرَى بِوَصْفِ نَبِيِّهِ
فَسَمَّاهُ رَبَّ الْخَلْقِ إِطْرَاءَ خَائِبِ(6/590)
.. وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ قَدْ أَبَارَ نُفُوسَهُمْ
تَكَلُّفُ تَزْوِيقٍ وَحُبُّ الْمَلاعِبِ
وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ قَدْ أَخَفَّ عُقُولَهُمْ
تَجَبُّرُ كِسْرَى وَاصْطِلامُ الضَّرَائِبِ
فَأَدْرَكَهُمْ فِي ذَاكَ رَحْمَةُ رَبِّنَا
وَقَدْ أَوْجَبُوا مِنْهُ أَشَدَّ الْمَعَائِبِ
فَأَرْسَلَ مِنْ عَلْيَا قُرَيْشٍ نَبِيَّهُ
وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْهُ بِكَاذِبِ
وَمِنْ قَبْلَ هَذَا لَمْ يُخَالِطْ مَدَاس الْ
يَهُودِ وَلَمْ يَقْرَأَ لَهُمْ خَطَّ كَاتِبِ
فَأَوْضَحَ مِنْهَاجَ الْهُدَى لِمَنْ اهْتَدَى
وَمَنَّ بِتَعْلِيمٍ عَلَى كُلِ رَاغِبِ
وَأَخْبَرَ عَنْ بَدْءِ السَّمَاءِ لَهُمْ وَعَنْ
مَقَامٍ مَخُوفٍ بَيْنَ أَيْدِي الْمُحَاسِبِ
وَعَنْ حُكْمِ رَبِّ الْعَرْشِ فِيمَا يُعِينُهُمْ
وَعَنْ حِكَمٍ تُرْوَى بِحُكْمِ التَّجَارُبِ
وَأَبْطَلَ أَصْنَافَ الْخَنَى وَأَبَادَهَا
وَأَصْنَافَ بَغْيِ لِلْعُقُوبَةِ جَالِبِ
وَبَشَّرَ مَنْ أَعْطَى الرَّسُولَ قِيَادَةً
بِجَنَّةِ تَنْعِيمٍ وَحُورٍ كَوَاعِبِ
وَأَوْعَدَ مَنْ يَأْبَى عِبَادَةَ رَبِّهِ(6/591)
.. عُقُوبَةَ مِيزَانٍ وَعِيشَةَ قَاطِبِ
فَأَنْجَى بِهِ مَنْ شَاءَ رَبِّي نَجَاتَهُ
وَمَنْ خَابَ فَلْتَنْدِبْهُ شَرُّ النَّوَادِبِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ
بِحَقٍّ وَلا شَيْءٍ هُنَاكَ بِرَائِبِ
وَقَدْ كَانَ نُورُ اللهِ فِينَا لِمُهْتَدٍ
وِصِمْصَالمُ تَدْمِيرٍ عَلَى كُلِّ نَاكِبِ
وَأَقْوَى دَلِيلٍ عِنْدَ مَنْ تَمَّ عَقْلُهُ
عَلَى أَنَّ شُرْبَ الشَّرْعِ أَصْفَى الْمَشَارِبِ
تَوَاطُئ عُقُولٍ فِي سَلامَةِ فِكْرِهِ
عَلَى كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَطَالِبِ
سَمَاحَةُ شَرْعٍ فِي رَزَانَةِ شِرْعَةٍ
وَتَحْقِيقِ حَقٍّ فِي إِشَارَةِ حَاجِبِ
مَكَارِمُ أَخْلاقٍ وَإِتْمَامُ نِعْمَةٍ
نُبُوة تَأْلِيفٍ وَسُلْطَانُ غَالِبِ
نُصَدِّقُ دِينَ الْمُصْطَفَى بِقُلُوبِنَا
عَلَى بَيِّنَاتٍ فَهْمُهَا مِنْ غَرَائِبِ
بَرَاهِينُ حَقٍّ أَوْضَحَتُ صِدْقَ قَوْلِهِ
رَوَاهَا وَيَرْوِي كُلُّ شَبٍ وَشَائِبِ
وَمِنْ ذَاكَ كَمْ أَعْطَى الطَّعَامَ لِجَائِعٍ
وَكَمْ مَرَّةٍ أَسْقَى الشَّرَابَ لِشَارِبِ(6/592)
.. وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ قَدْ شُفِي مِنْ دُعَائِهِ
وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْفَى لِوَجْبَةِ وَاجِبِ
وَدَرَّتْ لَهُ شَاةٌ لَدَى أُمِّ مَعْبَدٍ
حَلِيبًا وَلا تَسْطَاعُ حَلْبَةَ حَالِبِ
وَقَدْ سَاخَ فِي أَرْضِ حِصَانُ سُرَاقَةٍ
وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ بَرَاءِ بنِ عَازِبِ
وَقَدْ فَاحَ طِيبًا كَفُّ مِنْ مَسَّ كَفَّهُ
وَمَاحَلَ رَأْسًا حَبْسُ شِيبِ الذَّوَائِبِ
وَأَلْقَى شَقِيُّ الْقَوْمِ فَرْثَ جَزُورِهِمْ
عَلَى ظَهْرِهِ وَالله لَيْسَ بِعَازِبِ
فَأَلْقُوا بِبَدْرٍ فِي قَلِيبٍ مُخَبَّثٍ
وَعَمَّ جَمِيعَ الْقَوْمِ شُؤْمُ الْمَدَاعِبِ
وَأَخْبَرَ أَنْ أَعْطَاهُ مَوْلاهُ نُصْرَةً
وَرُعْبًا إِلَى شَهْرٍ مَسِيرَةَ سَارِبِ
فَأَوْفَاهُ وَعْدَ الرُّعْبِ وَالنَّصْرِ عَاجِلاً
وَأَعْطَى لَهُ فَتْحَ التَّبُوكِ وَمَارِبِ
وَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنْ سَيَبْلُغُ مُلْكُهُ
إِلَى مَا رَأى مِنْ مَشْرِقٍ وَمَغَارِبِ
فَأَسْبَلَ رَبُّ الأَرْضِ بَعْدَ نَبِيِّهِ
فُتُوحًا تُوَارَى مَالَهَا مِنْ مَنَاكِبِ
وَكَلَّمَهُ الأَحْجَارُ وَالْعُجْمُ وَالْحَصَى(6/593)
.. وَتَكْلِيمُ هَذَا النُّوعِ لَيْسَ بِرَائِبِ
وَحَنَّ لَهُ الْجِذْعُ الْقَدِيمُ تَحَزُّنًا
فَإِنَّ فِرَاقَ الْحُبِّ أَدْهَى الْمَصَائِبِ
وَأَعْجَبُ تِلْكَ الْبَدْرُ يَنْشَقُ عِنْدَهُ
وَمَا هُوَ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ عَجَائِبِ
وَشَقَّ لَهُ جِبْرِيلُ بَاطِنَ صَدْرِهِ
لِغَسْلِ سَوَادٍ بِالسُّوَيْدَاءِ لازِبِ
وَأَسْرَى عَلَى مَتْنِ الْبُرَاقِ إِلَى السَّمَا
فَيَا خَيْرَ مَرْكُوبٍ وَيَا خَيْرَ رَاكِبِ
وَرَاعَتْ بَلِيغُ الآيِ كُلَّ مُجَادِلٍ
خَصِيمٍ تَمَادَى فِي مِرَاءِ الْمَطَالِبِ
بَرَاعَةُ أُسْلُوبٍ وَعَجْزُ مُعَارِضٍ
بَلاغَةُ أَقْوَالِ وَأَخْبَارُ غَائِبِ
وَسَمَّاهُ رَبُّ الْخَلْقِ أَسْمَاءَ مِدْحَةٍ
تُبَيِّنُ مَا أَعْطَى لَهُ مِنْ مَنَاقِبِ
رَؤُوفٌ رَحِيمٌ أَحْمَدٌ وَمُحَمَّدٌ
مُقَفَى وَمِفْضَالٌ يُسَمَّى بِعَاقِبِ
إِذَا مَا أَثاَرُوا فِتْنَةً جَاهِلِيَّةً
يَقُودُ بِبَحْرٍ زَاخِرٍ مِنْ كَتَائِبِ
يَقُومُ لِدَفْعِ الْبَأْسَ أَسْرَعَ قَوْمِهِ
بِجَيْشٍ مِن الأَبْطَالِ غُرِّ السَّلاهِبِ(6/594)
.. أَشِدَّاءُ لِدَفْعِ الْبَأْسِ مِنْ كُلِّ بَاسِلٍ
وَمِنْ كُلَّ قَرْمٍ بِالأَسِنَّةِ لاعِبِ
تَوَارُثُ إِقْدَامًا وَنُبْلاً وَجُرْأَةً
نُفُوسُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتٍ نَجَائِبِ
جَزَى اللهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
جَمِيعًا كَمَا كَانُوا لَهُ خَيْرَ صَاحِبِ
وَآلُ رَسُولِ اللهِ لا زَالَ أَمْرُهُمْ
قَوِيمًا عَلَى إِرْغَامِ أَنْفِ النَّوَاصِبِ
ثَلاثُ خِصَالٍ منْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا
نَجَابَةُ أَعْقَابٍ لِوَالِدِ طَالِبِ
خِلافَةُ عَبَّاسٍ وَدِينِ نَبِيِّنَا
تَزَايدَ فِي الأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
يُؤيِّدُ دِينَ اللهِ فِي كُلِّ دَوْرَةٍ
عَصَائِبُ تَتْلُو مِثْلَهَا مِنْ عَصَائِبِ
فَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَدْفَعُونَ عَدُوَّهُمْ
بِسُمْرِ الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ الْقَوَاضِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَغْلِبُونَ عَدُوَّهُمْ
بِأَقْوَى دَلِيلٍ مُفْحِمٍ لِلْمُغَاضِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ بَيَّنُوا شَرْعَ رَبِّنَا
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ وَوَاجِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَدْرُسُونَ كِتَابَهُ(6/595)
.. بِتَجْوِيدِ تَرْتِيلِ وَحِفْظِ مَرَاتِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ فَسَّرُوهُ بِعِلْمِهِمْ
وَهُمْ عَلَّمُونَا مَا بِهِ مِنْ غَرَائِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ بِالْحَدِيثِ تَوَلَّعُوا
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَحِيحٍ وَذَاهِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ مُخْلِصُونَ لِرَبِّهِمْ
بِأَنْفُسِهِمْ خُصْبُ الْبِلادِ الأَجَادِبِ
وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يُهْتَدَى بِعِظَاتِهِمْ
قِيَامٌ إِلَى دِينِ مِنَ اللهِ وَاصِبِ
عَلَى اللهِ رَبِّ النَّاسِ حُسْنُ جَزَاءِهِمْ
بِمَا لا يُوَافِي عَدُّهُ ذِهْنَ حَاسِبِ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْكُرْ جَمَالَ بُثَيْنَةٍ
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْزِلْ بِحُبِّ الرَّبَائِبِ
سَأَذْكُرُ حُبِّي لِلْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ
إِذَا وَصَفُ الْعُشَّاقِ حُبَّ الْحَبَائِبِ
وَيَبْدُو مُحَيَّاهُ لِعَيْنِي فِي الْكَرَى
بِنَفْسِي أَفْدِيهِ إِذَا وَالأَقَارِبِ
وَتُدْرِكُنِي فِي ذِكْرِهِ قَشْعَرِيرَةٌ
مِنَ الْوِجْدِ لا يَحْوِيهِ عِلْمُ الأَجَانِبِ
وَأُلْفِي لِرُوحِي عِنْدَ ذَلِكَ هَزَّةً
وَأُنْسًا وَرَوْحًا فِيهِ وَثْبَةُ وَاثِبِ(6/596)
.. وَإِنَّكَ أَعْلَى الْمُرْسَلِينَ مَكَانَةً
وَأَنْتَ لَهُمْ شَمْسُ وَهُمْ كَالثَّوَاقِبِ
وَصَلِّ إِلَهِي كَلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ
عَلَى خَاتِمِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الأَطَايِبِ
اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شيء يحيي العظام وهي رميم. نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ومن الأدلة والبراهين والقرائن الدالة على صدق الرسل كلهم ما ذكره صاحب البرهان القاطع رحمه الله.
فأولها أنهم من أعدل الناس طريقة وأصدقهم لهجة وأكثرهم وقاراً وأقلهم طيشاً. وأزهدهم في المال والجاه وأرفضهم لحب الدعة والراحة. قد خبروا على طول الزمن، واشتدت عليهم المحن، واعتورت أحوالهم طوارق الفتن، وتفاقم في الكناية لهم كيد ذوي الإحن. فما لينت الشدائد منهم صلباً لا فترت المكايد لهم عزماً بل كانوا كسبيكة الذهب وفلذة الياقوت. كلما إزدادت النار لها أكلا إزدادت على طول السبِكَ حسناً، لا حافوا في حكم على عدو ولا شهدوا بغير الحق لصديق.
قام نوح عليه ألف سنة إلا خمسين عاماً بين ظهراني قومه وعشيرته وحماته من العدو وملاذه فنابذهم وجانبهم وضللهم وكفرهم، حتَّى كانوا يضربونه ويهينونه ويؤذنه بأنواع الأذى ويمقتونه، ولا يحصل له بذلك غرض دنيوي ولا مقصد عاجل، ولا له في ذلك هوى ولا شهوة. وهذا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ عرضت عليه قريش المال والزوجة والجاه والرياسة ويترك ما يدعيه من تسفيه حلوم آبائه، وتعنيف الأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ من عشيرته. فلم يرفع إلى كلامهم رأساً، ولم يلتفت إلى مقالتهم أصلاً وما أحسن البيت المشهور:(6/597)
.. وَرَاوَدَتْهُ الْجِبَالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهَبٍ ... عَنْ نَفْسِهِ فَأَرَاهَا أَيَّمَا شَمَمِ
وكم عسى أن نذكر من فضائل لا تحصى، ومحاسن لا تستقى.
وثانيها: معاداتهم لقراباتهم، وأرحامهم الَّذِينَ جبلت الطباع على محبتهم، وعلى رجاء الاستنصار لهم بحيث تركوا مناهج آبائهم التي ولع الطبع بإتباعها وعادوا عشيرتهم التي يتقى من كل عدو بمحاماتها ولقوا في الصبر عنهم الحتوف ووقعوا في الدنيا لذلك في أعظم مخوف.
هذا نوح عليه السلام ترك ابنه وفلذة كبده وماء سواد عينه وريحانة فؤاده مع الغرقى وأستغفر من دعائه أن لا يهلك مع الهلكى، وهذا إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله وعزم على ذبح ولده الَّذِي هو قرة عينه ومزنة غيثه وأحب الناس إليه، وأعزهم عليه.
وهذا مُحَمَّد الَّذِي شهد العدو والصديق بأنه أبر الخلق بعامة أمته دع عنك خاصة رحامته، حتَّى إن الله عاتبه على كثرة رحمته فَقَالَ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ترك الثناء على أمه وأبيه والذكر لهما والترحم عليهما، وولع بذكر النجاشي وصلى عليه وأثنى علي سلمان الفارسي وأهدى ثمرات الجميل إليه وأمثالهما ممن لم يلتصق عرقه بعرقه، ولم يلتحم نجره بنجره. وقد أجمع الأصدقاء والأعداء والكفرة والبررة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أعقل الناس، وأوقر الخلق، أما الْمُسْلِمُونَ فعقائدهم فيها ظاهرة، وأما الكفار فيقولون إنهم بحسن تدبيرهم ولطف دهائهم شرعوا شرائع وإستمالوا خلائق، ودان لهم من الناس عوالم.
فكيف ترى هؤلاء العقلاء الحذاق يعادون أرحامهم ويصادقون من لم تتصل وشيجة نسب بينه وبينهم ويتركون ما في موالاة العشيرة من الأنتصار عند الهضم والسلامة من الظلم، ويتحملون مضار عداوتهم، عوضاً من منافع ولا يتهم، لغير غرض يعود عليهم، ولا فائدة ترجع إليهم.
وثالثها: إنهم فقراء مساكين تقتحمهم العيون وتزدريهم القلوب ولا يغلب في ظن عاقل ولا فراس حاذق، أن من الفقر صفته والنزاع لجميع من في العالم طلبته يساعد على إثارة الفتن وتهييج الحروب بين البشر، ولا يبلغ إلى أمل، ولا يزكو له عمل.(6/598)
كموسى وهرون حين أتيا فرعون لابسين لعباء الصوف ومرقعات المسوح منتقلين من مراعي الغنم إلى معارضات الملوك، مظهرين لمخاشنتهم، مفصحين بالترقع عليهم بغير عدة ولا مال، ولا قوة ولا رجال. فأتياه على هذه الحال التي لا يؤبه لصاحبها ولا تمتلئ عين من النظر إلى من جاء عليها، وجواهر التيجان تلمع على جبينه وأنطاع ضرب الأعناق معدة لمن أغضبه عن شماله ويمينه فأتياه بأعظم ما يوجب ضرب أعناقهما وأكبر ما يجرؤه على قتلهما لا ترتعد لهما فريصة، ولا يخافان من الدنيا نقيصة.
وهذا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ جاء إلى قريش، وقام في جاهلية العرب، وأنوفهم تعط بالكبر وألْسِنَتُهُمْ لا تَنْطِقُ إلاَّ بالفخر يرون أن يبيد أولهم وآخرهم ويفنى أصاغرهم وأكابرهم على أيسر عار يلم بساحاتهم، وأهون نقص يدنو من أنسابهم فجاء وحيداً من الناصر فقيراً من المال يسب ألهتهم، ويلهب أفئدتهم ويسفه أحلامهم.
يتيم قد مات أبواه وأسترضع في غير قومه وكفله من شدة فقر أبيه عمه
فبينما هو يتيم مكفول في حجر من هب فخره مهب الجنوب والقبول إذ قام يعيب على كافله دينه ويسفه رأيه، ولا يستريب من شجعان العرب المشاهير أن عارضهم جميعاً، وأنفرد بعداوتهم وحيدًا.
ورابعها: حصول أغراضهم كما قَالَ تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكما ثبت في البخاري من حديث ابن عباس {ثُمَّ تَكُونُ لَهم الْعَاقِبَةُ} وكذلك وقع ولله الحمد.
فإن أحداً ممن طلب الدنيا والراحة والملك والرياسة من الفلاسفة والمنجمين والمشعوذين والمرجمين بل من أهل الأموال والعشائر، وأرباب الخدم والعساكر من ملوك حمير والتبابعة والقياصرة والأكاسرة ما بلغ مِمَّا بلغ منه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ المعشار، ولا استدام له بعد موته، ما استدام لمُحَمَّد ?.(6/599)
وهذا نوح عليه السلام الفقير القليل الناصر الَّذِي كان ضرب ويشتم ويهان فلا يجد ملجأ ولا معاذاً ولا منقذاً ولا مجيراً من الخلق نبعت له الأرضون عيوناً والسموات غيوثاً حتَّى كان من عجيب غرق قومه ما كان. ولم يستطيع دفع ما جاء به إنس ولا جان.
ومن أدل ذلك على الله الخسف بأهل السبت من اليهود قردة وذلك مِمَّا يحصل به العلم الضروري لمن شاهده أو تواتر له، لأن تحول الصورة إلى صورة أخرى لا يكون بالطبع، ولا تدخل فيه شبهة لأهل الكفر.
وخامسها: زهدهم في الدنيا وإطراحهم للأهوى وقلقهم من هول المعاد الأخروي. وتقطع نياط قلوبهم من الخوف للعذاب السرمدي. وهو شيء علم منهم أنه جد لا مزاح فيه ولا هزل وحق لا تصنع فيه ولا تكلف. وكيف والتكلف لا تخفي آثاره.
ولا تستمر أحواله. زفراتهم كانت متصعدة، ونيار خوفهم لم تزل متوقدة، ومدامع عيونهم لم تبرح مترقرقة، وعلى وجنات خدودهم متدفقة، وعيونهم غائرة وعزماتهم باترة، وأجسادهم ناحلة، ونفوسهم عن الدنيا مائلة، وشفاههم من ظمأ الهواجر ذابلة، وألسنة أحوالهم في خطاب مولاهم قائلة:
وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ نَفْسِي كُلِّهَا ... وَيَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي
كان عيسى عليه السلام دابته رجلاه وسراجه القمر، وفراشه المدر ومتاعه الشجر داره الأرض، ترى خضرة الشجر من شفيف بطنه. لا تنقص الشدائد عقدة عمه عزمه.
وكان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ يصلي حتَّى تورمت دماه ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل فقِيلَ له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبِكَ وما تأخر فَقَالَ: {أَفَلَا أَكُونَ عبدَاً شَكوراً} .
ولما أخطأ داود عليه السلام كان يبكي وينوح حتَّى نبت العشب من دمعه المسفوح، ونقش خطيئته على كفه وحزن حزن الثكلى على ذنبه. فليت شعري أي غرض يقدر أنه يحصل لهم ويظن أنه أربهم حتَّى قطعوا أعمارهم على هذه الطريقة وأداموا تحملهم لهذه(6/600)
الأعباء الثقيله، أطلب العيش في الدنيا ورجاء الظفر بالأهواء، فقد عاش سقط الناس بأيسر من ذلك ونيلت بأهون سعي ملاذ المعايش وقد ملكوها على ما يأتي بيانه فلم يلتفتوا إليها، ورغبوا عنها ولم يرغبوا فيها. وتنزهت عنها شرائف أحوالهم. وأنشد لسان حالهم:
تَجَرَّدْ عَنِ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدُ
وسادسها: إن جمعاً منهم تمكنوا من الدنيا واستولوا على ما يحب الناس منها فلم تتغير لهم طريقة، ولم تتحول لهم سجية. ملك سليمان عليه السلام ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فخدمته الطير وحشرت له، وحملته الريح على متن الهواء وسخرت له، ودانت له ملوك الإنس.
وخضعت له عفاريت الجن، وكان البساط يحمله في أرجاء الأجواء مستقراً على متن الريح الخفاقة والهواء. وكانت الطير تظلة، وكانت الأرض في يده وكانت أو امره مطاعة، والخلائق له طائعة.
ومع ذلك كان يأكل من كد يده ويتواضع على عظيم ملكه حتَّى إختار من الحرف أهضمها للنفس وأقمعها لجامع الهوى وهو الخوض أي الحصر الَّذِي يرتفع عنه أكثر السوقة ولا يرتضيه من له أدني عزة. فما تراه يريد بهذا وإلى أي شيء من الدنيا يتوصل به.
وسابعها: قوة يقينهم بمواعيد الله وتسليمهم نفوسهم لما أمر الله وإن كان في ظاهره كالجناية على النفس، والإلقاء بها إلى التهلكة كقول نوح وحده لقومه مع كثرتهم وقوتهم «ثم اقضوا إلى ولا تنظرون» ونحو ذلك قَالَ هود وَمِنْ ذَلِكَ إلقاء أم موسى له في البحر وهو طفل.
ومنه نهي رَسُولِ اللهُ لأصحابه عن حراسته بعد قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .
وثامنها: أنها ظهرت عليهم خوارق العادات وبواهر المعجزات من غير ممارسة لشيء من علوم الطبائعيين والمرتاضين، والمتفلسفين والمنجمين والمتكهنين المصاحبين للجن والشياطين(6/601)
وأخبروا عن الغيوب ووصلوا في خرق العادات إلى مرتبة قصر عنها أهل الدراية في فنون هذه العلوم.
هذا الكليم فعل مع السحرة ما فعل حتَّى كانوا هم المقرين له والشاهدين بأن الحق معه، وهم ألوف يحص بخبرهم العلم، ويستحيل تواطؤهم على الكذب وكيف وسيف فرعون على أعناقهم مسلول، ودفع كيده بسوى الله غير مأمول. وهذا عيسى عليه السلام أحيا الموتى وأبرأ الأكمة والأبرص وهذا مُحَمَّد جاء بنوع من الإعجاز لا يتصور فيه السحر ولا تعقل فيه التعمية قرآن بلى فشيب الدهر وإعجازه جديد، وهرم شباب الزمان ورنقه إلى مزيد فأسكت به مصاقعة العرب العرباء والمفلقين من البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء
قد مضى الآن إحدى وثمان مائة سنة «قلت وهذا بالنظر إلى زمن صاحب الأدلة والبراهين وأما الآن فقد مضي أربعة عشر قرناً» ولم يأت له فيها معارض على أن هذه المدة الطويلة منذ هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مرت على سحرة الكتابة والخطباء ونقضت عن مهرة البرعة أساة أساليب الكلام إذا أعتل وبناة أساسات البيان إذا أختل:
يَرْمُونَ بِالْخَطْبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيَ الْمَلاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
فانظر كيف تقضت السني والأعوام وتصرمت الليالي والأيام. ولم يأت أحد من هؤلاء البلغاء بمثل هذا القرآن ولا بسورة من مثله. تصديقاً لما جاء به مُحَمَّد من قوله عز سلطانه {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أ.هـ.
اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمله ورجاه واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العظيم يا أكرم الأكرمين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ في كتاب الأربعين في أصول الدين: واعلم أن الرسل كانت له معجزات كثيرة سوى القرآن والعلماء أو ردوا في ذكرها كتباً وضبط القول فيها أن نقول معجزاته عليه السلام قسمان حسية وعقلية. أما الحسية فثلاثة أقسام: أحدها أمور خارجة عن ذاته، وثانيها أمور في ذاته، وثالثها أمور في صفاته:(6/602)
أما القسم الأول: وهو الأشياء الخارجة عن ذاته فهو كانشقاق القمر واجتذاب الشجر إليه، وتسليم الحجر عليه، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وحنين الخشب، وشكاية الناقة وشهادة الشاة المشوية، وإظلال السحاب قبل بعثته، وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أَرَادَ أن يضربها على رأسه وما كان من شاة أم معبد حين مسح يده على ضرعها.
وأما القسم الثاني: وهو الأحوال العائدة إلى ذاته فهو مثل النور الَّذِي كان ينتقل من أب فأب إلى أن خرج إلى الدنيا، وما كان من الخاتم، وما شوهد من خلقته وصورته التي يحكم علم الفراسة بأنها دالة على نبوته.
وأما القسم الثالث: وهو ما يتعلق بصفاته فهي كثيرة ونحن نشير إلى بعضها.
فالأول: أن أحداً ما سمع منه لا في مهمات الدين ولا في مهمات الدنيا كذبا البتة ولو صدر عنه الكذب مرة واحدة لاجتهد أعداؤه في تشهيره وإظهاره.
الثاني: أنه ما أقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها وإن عظم الخوف مثل يوم أحد ويوم الأحزاب. وهذا يدل على أنه كان قوي القلب بمواعيد الله حيث قَالَ تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَقَالَ تعالى {حَسْبُكَ اللهُ} وَقَالَ تعالى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} .
الرابع: أنه كان عظيم الشفقة والرحمة على أمته قَالَ تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَقَالَ تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} وَقَالَ تعالى: {عزيز عليه ما عنِتمُ} .
الخامس: إنه عليه السلام كان في عظم الدرجات في السخاوة.
السادس: أنه ما كان للدنيا في قلبه وقع وأن قريشاً عرضوا عليه المال والزوجة والرياسة حتَّى يترك هذه الدعوى فلم يلتفت إليهم.
السابع: أنه كان في غاية الفصاحة، كما قَالَ «أوتيت جوامع الكلم» .
الثامن: أنه مضى على طريقته المرضية في أول عمره إلى آخره والكذاب المزور لا يمكنه ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .(6/603)
التاسع: أنه كان َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ مع أهل الدنيا والثروة في غاية الترفع ومع الفقراء والمساكين وأهل الدين في غاية التواضع.
العاشر: إنه َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ كان في كل واحدة من هذه الصفات والأخلاق في الغاية القصوى من الكمال كان مستجمعاً لها بأسرها ولم يتفق ذلك لأخذ من الخلق فكان اجتماعهما في ذاته من أعظم المعجزات.
وأما المعجزات العقلية فهي ستة أنواع:
النوع الأول: إنه َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ إنما ظهر من قبيلة ما كانوا من أهل العلم بل كان بلدة ما كان فيها أحد من العلماء، بل كانت الجهالة غالبة عليهم، ولم ينفق له سفر من تلك البلدة إلا مرتين إلى الشام وكانت مدة تلك المسافرة قليلة ولن يذهب أحد من العلماء والحكماء إلى تلك البلدة حتَّى يقال إنه تعلم من ذلك الحكيم.
وإذا خرج من مثل هذه البلدة ومثل هذه القبيلة إنسان من غير أن يمارس شيئاً من العلوم ولا تتلمذ لأحد من العلماء البتة ثم بلغ في معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه هذا المبلغ العظيم الَّذِي عجز جميع الأذكياء من العقلاء عن القرب منه بل أقر الكل بأنه لا يمكن أن يزاد في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن.
ثم ذكر قصص الأولين وتواريخ المتقدمين بحيث لم يتمكن أحد من الأعداء أن يقول إنه أخطأ في شيء منها، بل بلغ كلامه في البعد عن الريب والشك إلى أن قَالَ عند مجادلهم إياه {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} وَقَالَ تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} .
ولم يقدر أحد أن يقول إنه طالع كتاباً ولا تتلمذ لأستاذ وكانت هذه الأحوال ظاهرة معلومة للأصدقاء والأعداء على ما قَالَ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} وَقَالَ: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وَقَالَ: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(6/604)
وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم علم أن هذه الأحوال لا تتيسر إلا بالتعليم الإلهي الرباني.
النوع الثاني: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ كان قبل إظهار دعواه الرسالة والنبوة ما كان يشرع في هذه المسائل الآلهية وما كان يبحث عنها وما جرى على لسانه قط حديث النبوة والرسالة.
والَّذِي يدل على صحة قولنا أنه لو اتفق له شروع في هذه الطالب والمباحث قبل إظهار إدعاء النبوة لقال الكفار له إنك أفنيت عمرك في التدبر والتأمل وتحصيل الكلمات حتَّى قدرت الآن على إظهارها.
ولما لم يذكر هذا الكلام أحد من الأعداء مع شدة حرصهم على الطعن فيه وفي نبوته علمنا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ ما كان شارعاً قبل إظهار النبوة في شيء من هذه العلوم.
ومعلوم أن من أنقضي من عمره أربعون سنة ولم يخص في شيء من هذه المطالب العلمية ثم إنه خاض فيها واحدة وأتى بكلام عجز الأولون والآخرون عن معارضته بل أنقضي الآن قريب من ستمائة سنة قلت وهذا بالنظر إلى زمن صاحب كتاب الأربعين في أصول الدين وأما الآن فقد مضى أربعة عشر قرناً وما أحد يمكنه إقامة المعارضة، فصريح العقل بأن هذا لا يكون إلا عللا سبيل الوحي والتننزيل أهـ.
شِعْرًا: ... تُغَازِلُنِي الْمَنيَّةُ مِنْ قَرِيبِ ... وَتَلْحَظُنِي مُلاحَظَةَ الرَّقِيبِ
وَتَنْشُرُ لِي كِتَابًا فِيهِ طَيِّي ... بِخَطِّ الدَّهْرِ أَسْطُرُهُ مَشِيبِي
كِتَابٌ فِي مَعَانِيهِ غُمُوضٌ ... يَلُوحُ لِكُلِّ أَوَّابٍ مُنِيبِ
أَرَى الأَعْصَارَ تَعْصِرُ مَاءَ عُودِي ... وَقِدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ الْقَضِيبِ
أَدَالَ الشَّيْبُ يَا صَاحِ شَبابِي ... فَعُوِّضْتُ الْبَغِيضَ مِنَ الْحَبِيبِ(6/605)
وَبَدَّلْتُ التَّثَاقُلَ مِنْ نَشَاطِي ... وَمِنْ حُسْنِ النَّضَارَةِ بِالشُّحُوبِ
كَذَاكَ الشَّمْسُ يَعْلُوهَا اصْفِرَارٌ ... إِذَا جَنَحَتْ وَمَالَتْ لِلْغُرُوبِ
تُحَارِبُنَا جُنُودٌ لا تُجَاري ... وَلا تُلْقَى بِآسَادِ الْحُرُوبِ
هِيَ الأَقْدَارُ وَالآجَالُ تَأْتِي ... فَتَنْزِلُ بِالْمُطَبَّبِ وَالطَّبِيبِ
تُفَوِّقُ أَسْهُمًا عَنْ قَوْسِ غَيْبٍ ... وَمَا أَغْرَاضُهَا غَيْرُ الْقُلُوبِ
فَأَنّى بِاحْتِرَاسٍ مِنْ جُنُودٍ ... مُؤَيَّدَةٍ تُمَدُّ مِنَ الْغُيُوبِ
وَمَا آسَى عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنْ ... عَلَى مَا قَدْ رَكِبْتُ مِنَ الذُّنُوبِ
فَيَا لَهْفِي عَلَى طُولِ اغْتِرَارِي ... وَيَا وَيْحِي مِنَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ
إِذَا أَنَا لَمْ أَنُحْ نَفْسِي وَأَبْكِي ... عَلَى حَوْبِي بِتَهْتَانٍ سَكُوبِ
فَمَنْ هَذا الَّذِي بَعْدِي سَيَبْكِي ... عَلَيْهَا مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبِ؟
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا بالتوبة النصوح من الفساد واجمع قلوبنا على محبتك وخشيتك وأهدنا إلى أقرب الطريق إليك والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد.
«فَصْلٌ» (فوائد متنوعة ومواعظ نافعة)
قَالَ في الفنون من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.
وقد رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الَّذِي لا يجدي والقبيح الَّذِي يوبق ويؤذي فلا أجد منهم من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.
وما أرى لذلك سبباً إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين، قلت فكيف لو(6/606)
رأى أهل هذا الزمن الَّذِي كثرت فيه المعاصي والملاهي وانفتحت فيه الدنيا على كثير من الناس فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن عجيب ما رأيت أنا أن أحدنا إذا ناداه أمير أو وزير أو مساعد أو مدير يبادر ويقوم بسرعة لداعي الدنيا ولا يتأخر ويسمع داعي الله يدعوه إلى الصلاة التي هي الصلة بينه وبين ربه جل وعلا وتقدس فيتثاقل ولا يهتم لها وإن قام بعد التريث فكأنه مكره يدفع إليها دفعا عكس ما عليه السلف الصالح من المبادرة والمرابطة وترك الأعمال فوراً عند ما يسمعون (حي على الصلاة حي على الفلاح) وكثير من المساجد عندهم تجد الصف الأول يتم قبل الأذان وقد ازداد الطين بلة بما حدث عندنا من المنكرات قتالة الأوقات، مفرقة النفوس والأبدان، ومشتت القلوب، وذلك كالتلفزيون والمذياع والفيديو والجرائد والمجلات ومخالطة المنحرفين والفاسقين والمنافقين والكافرين والمجرمين أبعدهم الله.
سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبُ ... فَمَا تَبِينُ وَلا يَعْتَاقُهَا نَصَبُ
كَيْفَ النَّجَاءُ وَأَيْدِيهَات مُصَمِّمَتٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدِيَّ لَيْسَتَ لَهَا نَصَبُ
وَهَلْ يُؤَمِّلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٍ عَجَبُ
وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزِلٍ هَتَفَتْ ... فِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنَّا رَبْعَهُ نُوَبُ
وَآذَنْتَنَا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ
أَزْرَتْ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إِلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ
هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ ... وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلَّهُ نَصَبُ
وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعِ الْبَلأ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌ وَمُرْتَقِبُ
أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي إِبْتِنَائِهِمُوا ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا
قَالَ ابن القيم رحمه الله كل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع القلب(6/607)
وفساد القلب يعود بضياع حقه من الله تعالى ونقصان درجته ومنزلته عنده.
ولهذا أوصى بعض الشيوخ فَقَالَ احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب فإن ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها وكان ممن قَالَ الله فيه {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .
ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى الَّذِي به تحيا القلوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصارت أمورهم ومصالحهم فرطا أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عليهم بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.
وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرسول لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من أتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله.
والغفلة عن ذكر الله والدار الآخرة متى تزوجت بأتباع الهوى تولد بينهما كل شر وكثيراً ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العالم عموماً وخصوصاً وجده ناشئاً عن هذين الأصلين فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذلك من الضالين، وأتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته وأتباعه، فيكون من المغضوب عليهم.
وأما المنعم عليهم فهم الَّذِينَ من الله تعالى عليهم بمعرفة الحق علماً وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملاً وهؤلاء هم الَّذِينَ على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك.
ولهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات {اهدِنَا(6/608)
الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} .
فإن العبد مضطر إلى أن يكون عارفاً بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون مؤثراً مريداً لما ينفعه مجتنباً لما يضره فبمجموع هذين قد هدى إلى الصراط المستقيم فإن معرفه ذلك سلك سبيل الضالين.
وإن فاته قصده وأتباعه سلك سبيل المغضوب عليهم وبهذا تعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدت الحاجة إليه سعادة الدنيا والآخرة عليه.
وَقَالَ آخر حافظ على الأوقات فإن الوقت رأس المال ولا تضيعها بالفراغ وأملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعاً واعرف ما يذهب به ليلك ونهارُك وجدد توبتك في كل وقت.
وقسم وقتك ثلاثة قسم لطلب العلم وقسم للعمل الَّذِي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جل وعلا وتقدس فريق في الجنة وفريق في السعير.
واستحضر قرب الله منك كما في الحديث فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأكرم الكتبة الحافظين فقد أوصى رسول الله بالجار من الناس الَّذِي بينك وبينه جدار وأحجار فكيف بالجار الكريم الَّذِينَ قَالَ الله فيهم {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَالَ جل وعلا وتقدس {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} .
فرعاية جواره أحق وإكرام قربه أوجب لأنه أسبق وألصق وليس بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومع الأسف الشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر.
شِعْرًا: ... وَوَكَّلَ الله مِنَ الْكِرَامِ ... اثْنَيْنِ حَافِظِينَ لِلأَنَامِ
فَيَكْتُبَانِ كُلَّ أَفْعَالِ الْوَرَى ... كَمَا أَنِّي بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ امْتِرَا(6/609)
قال بعضهم:
تَنَكَّر مَنْ كُنَّا نُسَر بِقُرْ بِهِ ... وَصَارَ زُعَافًا بَعْدَ مَا كَان سَلْسَلا
وَحُقَّ لِجَارٍ لَمْ يُوَافِقْهُ جَارَهُ ... وَلا لا أَمَتْهُ الدّرُ أنْ يتحَوَّلا
آخر: ... كُنْ لَيِّنًا لِلْجَارِ وَأحْفَظْ حَقَّهُ ... كَرَمًا ولا تَكُ لِلْمُجَاوِرِ عَقْرَبا
وَأحْفَظْ أَمَانَتَهُ وكُنْ عِزًا لَهُ ... أَبَدًا وَعَمَّا سَاءهُ فَتَجَنَّبَا
علامة صحة الإرادة أن يكون همُّ المريد رضاءَ ربه واستعداده للقائه وحزنه على وقت في غير مرضاة ربه وأسفه على قربه والأنس به وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره.
وَقَالَ: أعظم الإضاعات هما أصل كل إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة وإضاعة الوقت من طويل الأمل.
فاجتمع الفساد كله في أتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله في أتباع الهدى والاستعداد للقاء الله والله المستعان.
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حظٌ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار.
ومن المحال عادة أن يطلب فيها نعيم ولذة وراحة إنما ذلك بعد انتهاء السفر ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة ولا المكلف واقف. وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِ ... مَا هَذِهِ الدُّنَيا بِدَارِ قَرَارِ
جُبلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنَتَ تُرِيْدُهَا ... صَفْوًا مِنْ الأقْذَارِ والأكْدَارِ
فاقْضُوا مَآرِبَكُمْ عِجَالاً إِنَّمَا ... أَعْمَارُكُمْ سَفَرٌ مِنْ الأسْفَارِ(6/610)
قال بعض العلماء: يا إخواني اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجوا من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} نقول قد عملنا فلم ينفعنا.
وَقَالَ رجل لمُحَمَّد بن المنكدر الجد الْجد والحذر الحذر فإن يكن الأمر على ما ترجون كان ما قدمتم فضلاً وإن يكن الأمر على غير ذلك لم تلوموا أنفسكم.
وَقَالَ بعضهم لبعض الفقراء مرة وقد رأى عليه أثر الجوع والضر: لم لا تسأل ليعطوك، قَالَ أخاف أن أسالهم فيمنعوني فلا يفلحوا، وقد بلغني عن النبي أنه قَالَ: «لو صدق السائل ما أفلح من منعه» .
المراحل التي يمر بها الخلق ستة:
السفر الأول سفر السلالة من الطين.
السفر الثاني سفر النطفة من الظهر إلى الباطن.
السفر الثالث من البطن إلى الدنيا.
السفر الرابع من الدنيا إلى القبور.
السفر الخامس من القبور إلى العرض للحساب.
السفر السادس من العرض إلى منزل الإقامة.
وقد قطعنا نصف السفر نسأل الله الإعانة والسداد والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وآلِهِ وصحبه وَسَلَّمَ
شِعْرًا:
حَيَاتُكَ فِي الدُّنْيَا قَلِيلٌ بَقَاؤُهَا
وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيدٌ عَنَاؤُهَا
ولا خَيْرَ فِيهَا غَيْرَ زَادٍ مِنَ التُّقَى
يُنَال بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا(6/611)
بَلَى إنَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مَطِيِّةٌ
عَلَيْهَا بُلُوغُ الْخَيْرِ والشَّرُ دَاؤُهَا
وَمَنْ يَزْرَع التَّقْوَى بِهَا سَوْف يَجْتَنِي
ثِمَارًا مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا
نُؤَمِلُ أنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أنَّنَا
عَلَى ثِقةٍ أنَّ الْمَمَاتَ انْتِهَاؤُهَا
فَكُنْ أيُهَا الإنْسَانُ في الْخيْرِ رَاغِبًا
يَلُوحُ مِنَ الطَّاعَاتِ فِيكَ بَهَاؤْهَا
وَجَانِبْ سَبِيلَ الْغَيَ واتْرُكْ مَعَاصِيًا
يُذِيبُكَ مِنَ نَارِ الْجَحِيمِ لَظَاؤُهَا
فَلا بُدَّ يَوْمًا أنْ تَمُوتَ بِمَشْهَدٍ
يُسَاعِدُ مِنْ نَاحَتْ عَلَيْكَ بُكَاؤُهَا
وَتَنْزِلُ قَبْرًا لا أَبَالَكَ مُوحِشًا
تَكُونُ ثَرَى أُمٍ عَلَيْكَ ثَرَاؤُهَا
وَتَبْقَى بِهِ ثَاوٍ إلَى الْحَشْرِ والْجَزَاء
وَنَفْسُكَ يَبْدُو في الْحِسَابِ جَزَاؤُهَا
فَإمَا تَكُونَ النَّفْسُ ثَمَّ سَعِيْدَةٌ
فَطُوبَى وإلا فالضَّرِيعُ غِذَاؤُهَا
يُسَاقُ جَمِيعُ النَّاسِ في مَوْقِفْ القَضَا
وَتُنْشَرُ أَعْمَالٌ يَبِينُ وَبَاؤُهَا
هُنَالِكَ تَبْدُو لِلْعْبَادِ صَحَائِفٌ(6/612)
.. فَتُوضَعُ في الْمِيزَانِ والذَّنْبُ دَاؤُهَا
وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ آخِذٍ بِشِمَالِهِ
صَحِيْفَتَهُ السَّوْدَا الشَّدِيدُ بَلاؤُهَا
وآخِرُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةَ أَخِذٌ
صَحِيفَتَهُ الْبَيْضَاءَ طَابَ لِقَاؤُهَا
اللَّهُمَّ يا حي يا ذا الجلال والإكرام يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، أجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة، والإخلاص والخشوع والمراقبة، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما خمس من كن فيه سعد في الدنيا والآخرة، أولها أن يذكر لا إله إلا الله محمداً رسول الله وقتاً بعد وقت.
وإذا أبتلى ببلية قَالَ إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا أعطي نعمةً قَالَ الحمد لله رب العالمين شكراً للنعمة.
وعن سفيان الثوري أنه قَالَ اختار الفقراء خمساً واختار الأغنياء خمساً اختار الفقراء راحة النفس، وفراغ القلب، وعبودية الرب، وخفة الحساب والدرجة العليا،
وإذا ابتدأ في شيء قَالَ بسم الله الرحمن الرحيم
وإذا أفرط منه ذبناً قَالَ استغفر الله العظيم وأتوب إليه.
واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وعبودية الدنيا وشدة الحساب والدرجة السفلي
شِعْرًا: ... يَا سَاكِنَ الدُّنْيَا تَأَهَّبْ ... وانْتَظِرْ يَوْمَ الْفِرَاقْ
وأعِدَّ زَادًا لِلْرَّحِيلِ ... فَسَوفَ يُحْدَى بالرِّفَاقْ
وابِكَ الذُّنُوبَ بِأَدْمُعِ ... تَنْهَلُ مِن سُحْبِ الْمَآقْ
يا مَنْ أضَاعَ زَمَانَهُ ... أرَضِيتَ مَا يَفْنَي بِبَاقْ
آخر: ... ألَيْسَ إلَى الآجَالِ نَهْوىَ وَخَلْفَنَا ... مِن الْمَوتِ حَادٍ لا يُغِبُّ عَجُوْلُ(6/613)
.. وَمَنْ نَظَرَ الدُّنْيَا بِعَينٍ حَقِيْقَةً ... تَيَقَنَ أنَّ الْعَسْشَ سَوْفَ يَزُوْلُ
وَمَا هَذِهِ الأيَّامُ إِلا فَوَارِسٌ ... تُطَارِدُنَا وَالنَّائِبَاتُ خُيُولُ
وَقَالَ بعضهم العجلة تحسن في تجهيز الميت، وتزويج البنت إذا بلغت، وقطف الثمرة إذا استوت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا فرط، وإطعام الضيف إذا نزل.
وَقَالَ عثمان رضي الله عنه إن المؤمن في ستة أنواع من الخوف، أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان، والثاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة.
والثالث من قبل الشيطان أن يبطل عمله، والرابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلة بغتة، والخامس من قبل الدنيا أن يغتر بها وتشغله عن الآخرة، والسادس من قبل الأهل والعيال أن يشتغل بهم فيشغلونه عن ذكر الله تعالى.
وَقَالَ أيضاً أضيع الأشياء عشرة عالم لا يسأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه وخيل لا تركب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره.
وَقَالَ إبراهيم بن أدهم حين سألوه عن قول الله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وأنا ندعوه فلم يَسْتجِبْ لنا فَقَالَ ماتت قلوبكم من عشرة أشياء، أولها إنكم عرفتم الله ولم تؤدوه حقه، وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، وادعيتم عداوة إبليس وواليتموه.
وادعيتم حب الرسول وتركتم أثره وسنته، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها، وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم ‘ وأكلتم رزق الله ولا تشكرونه.
شِعْرًا: ... قَدْ قَلْتُ لِلْنَفْسِ وَبَالَغْتُ ... وَزِدْتُ في الْعُتْبِ وَأَكْثَرْتُ
يا نَفْسُ قَدْ َقَصَّرتِ ما قَدْ كَفَى ... تَيَّقِظي قدْ قَرُبَ الْوَقْتُ
جُدِّي عَسَى أنْ تُدْرِكي مَا مَضَى ... قدْ سَبَقَ النَّاسُ وخُلِّفْتُ(6/614)
.. أَنَا الَّذِي قدْ قُلْتُ دَهْرًا غَدًا ... أَتُوبُ مِنْ ذَنْبِي فَمَا تُبْتُ
لَوْ كُنْتُ ذَا عَقْلٍ لَمَا حَلَّ بِي ... نُحْتُ عَلَى نَفْسِي مَا عِشْتُ
وَاحَسْرَتِي يَوْمَ حِسَابِي إِذَا ... وَقَفْتُ لِلْعَرْضِ وَحُوسِبْتُ
وَاخَجْلَتِي إِنْ قِيلَ لِي قَدْ مَضَى ... وَقْتُكَ تَفْرِيطًا وَوُبِّخْتُ
اللَّهُمَّ تَوَفْنَا مُسْلِمينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحْيِنَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة) قَالَ بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدَّارة خدَّاعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها كاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت.
ولو كانت الدنيا عروساً وجدتها ... بما قتلت أولادها لا تزوج
وكم مطمئن إليها خذلت فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها دار نفاد لا دار إخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت.
وقد تطابق على ما ذكر دلالات قواطع النقول وصحاح العقول والطعام وقضى به الحس والعيان حتَّى لم يقبل لوضوحه إلى زيادة في العرفان.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهارُ إلى دليل ولما كانت الدنيا بهاذه الحال التي ذكرت والعظة التي تقدمت جاء في القرآن الكريم من التحذير عن الاغترار بها والركون إليها والاعتماد عليها ما هو أعرف من أن يذكر وأشهر من أن يشهر.
شِعْرًا: ... يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغُرُورِ اغْتِرَارَ ... رَاكِبًا فِي طَلابِهَا الأَخْطَارَا
يَبْتَغِي وَصْلَهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ ... وَتَرَى أَنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا(6/615)