عن أَبِي هُرَيْرَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم:
«من لم يدع قول الزور والْعَمَل به فلَيْسَ لله حَاجَة في أن يدع طعامه وشرابه» . رواه البخاري وَأَبُو دَاود واللفظ له.
ويسن لمن شتم وَهُوَ صائم أن يَقُولُ: «إني صائم» . سواء في رمضان أو غيره لما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا كَانَ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم» . متفق عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
تَزَوَّدْ مَا اسْتَطَعْتَ لِدَارِ خُلْدٍ
فَخَيْرُ الزَّادِ زَادُ الْمُتَّقِينَا
وَلا يَغْرُرْكَ فِي الدُّنْيَا ثَرَاءٌ
هُنَاكَ تَرَى أُجُورُ الْعَامِلِينَا
تَبَصَّرْ يَا هَدَاكَ اللهُ إِنَّا
نَسِيرُ عَلَى طَرِيقِ السَّابِقِينَا
فَإِنَّ الْمَوْتَ غَايَةُ كُُلِّ حَيٍ
وَبَطْنُ الأَرْضِ مَثْوَى الْعَالَمِينَا
أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللاءَ كَانُوا
مُلُوكًا فِي الْقُرُونِ الْغَابِرِينَا
أَضَاعُوا الْعُمْرَ فِي لَهْوٍ وَظُلْمٍ
وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُتَّقِينَا
وَلَمْ يَجِدُوا لِدَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ ... سَبِيالاً فَاسْتَكَانُوا صَاغِرِينَا
نَعِيمُ الْخُلْدِ لا يَفْنَى فَسَارِعْ ... لأَعْمَالِ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَا(5/32)
اللَّهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بِفَضْلِكَ آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جَمِيع الأَحْوَال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النَّعِيم واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلّى اللهُ على محمدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
قال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللهُ: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها. انتهى.
شِعْرًا: ... أَيَضْمَنُ لِي فَتَىً تَرْكَ الْمَعَاصِي ... وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلاصِ
أَطَاعَ اللهَ قَوْمٌ فَاسْتَرَاحُوا ... وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي
آخر: ... خَلِيلِي إِنِّي مَا غَبَطْتُ سِوَى الَّذِي ... أَتَى مُخْلِصًا للهِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ
يَقُومُ طِوَالَ اللَّيْلِ تَجْرِي دُمُوعُهُ ... عَلَى مَا مَضَى مِنْ مُوبِقَاتٍ وَزَلَّتِي
آخر: ... مَنْ مِثْلُ رَبِّكَ تَعْصِيه وَتَهْجُرُهُ ... وَيُسْبِلُ السِّتْرَ يَا ذَا الْغَدْرِ فَارْتَدعِ
يَا نَاقِضَ الْعَهْدِ يَا مَنْ حَاله قُبحتْ ... مَعَ الإِلهِ بِلا خَوْفٍ وَلا جَزَعِ(5/33)
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ تَسْوِيفًا بِلا عَمَلٍ ... تُمْسِي وَتُصْبِحُ بَيْنَ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ
وَتَسْمَعُ الْوَعْظَ لانْتِهَاكَ زَاجِرَةُ ... بَلْ أَنْتَ فِي غَفْلَة عَنْ ذَاكَ فَاسْتَمِع
فَقُمْ لِتَقْرَعَ بَابًا لِلَّذِي كَثُرتْ ... لِلسَّائِلِينَ عَطَايَاهُ وَأَنْتَ مَعِي
لَعَلَّهُ أَنْ يَرَانَا تَائِبِينَ لَهُ ... يَمُنُّ بِالْعَفْوِ عَنْ عِصْيَانِنَا الشَّنِعِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل في (تحريم الظلم)
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة وَهُوَ منبع الرذائل ومصدر الشرور، وحد الظلم أنه وضع الشَيْء في غير موضعه وَهُوَ انحراف عن العدالة ومتى فشى وشاع في أمة أهلكها وإذا حل في قرية أو مدينة دمرها. وَهُوَ والفساد قرينان بهما تخرب الديار وتزول الأمصار وتقل البركات ويحل الفشل محلها وَهُوَ ظلمَاتَ تزل الأقدام في غياهبه وتضل به الأفهام ويظهر الفساد وينتشر بسببه وينتشر بسببه الفزع بين النَّاس.
وأعظم الظلم وأشده وأخبثه الشرك بِاللهِ قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} ، وَقَالَ: {أَنَا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الآيات. وَقَالَ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآيَة.(5/34)
هَذَا مِمَّا ورد في القرآن الكريم في حق الظالمين وأما السنة فمن ذَلِكَ ما ورد عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظلم ظلمَاتَ يوم القيامة» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمَاتَ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كَانَ قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . رواه مسلم.
وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليملي للظَالِم فإذا أخذه لم يفلته - ثُمَّ قَرَأَ -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وَأَظْلِمْ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ مُشْرِكًا ... بِرَبِّ الْوَرَى فَافْهَمْهُ فَهْمَ مُوَحِّدِ
وظلم النَّاس أنواع يجمعها قوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» .
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الشيطان قَدْ يئس أن يعبد الأصنام في أرض الْعَرَب ولكنه سيرضى منكم بدون ذَلِكَ بالمحرمَاتَ وهي الموبقات يوم القيامة اتقوا الظلم ما استطعتم فإن الْعَبْد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما زال عبد يَقُولُ يا رب ظلمني عبدك فَيَقُولُ: امحوا من حسناته وما يزال كَذَلِكَ حتى ما يبقى له حسنة من الذُّنُوب» .
إِنْ تَمْطُلِ اليوم الْحُقُوقَ مَعَ الْغِنَى ... فَغَدًا تُؤدِّيهَا مَعَ الإِفْلاسِ
وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ يَوْمًا عَبْدَهُ ... أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ(5/35)
«وإن مثل ذَلِكَ كسفر نزلوا بفلاة من الأَرْض لَيْسَ معهم حطب فتفرق القوم ليحبطوا فلم يلبثوا أن احتطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا وكَذَلِكَ الذُّنُوب» . رواه أبو يعلى من طَرِيق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. ورواه أَحَمَد، والطبراني بإسناد حسن نحوه باختصار.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شَيْء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كَانَ له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عَلَيْهِ» . رواه البخاري، والترمذي.
وعنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قَالُوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فَقَالَ: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقَدْ شئتم هَذَا وقذف هَذَا، وأكل مال هَذَا، وسفك دم هَذَا، وضرب هَذَا فيعطى هَذَا من حسناته وهَذَا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عَلَيْهِ أخذ من خطاياهم فطرحت عَلَيْهِ ثُمَّ طرح في النار» . رواه مسلم، الترمذي.
وعن ابن عثمان عن سلمان وسعد بن مالك وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود حتى عد ستة أو سبعة من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفة حتى يرى أنه ناج فما تزال مظَالِم بني دم تتبعه حتى ما يبقى له من حسنة ويحمل عَلَيْهِ من سيئاتهم. رواه البيهقي في الشعب بإسناد جيد.(5/36)
وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم فيما يرويه عن ربه عَزَّ وَجَلَّ. أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» . الْحَدِيث رواه مسلم والترمذي وابن ماجة.
وروي عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قال: «لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوات فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا» . رواه الطبراني.
اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفدك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين، الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(موعظة)
عباد الله بما أن الله جَلَّ وَعَلا من عليكم بالإسلام فيجب عليكم أن تحبوه، فإنه الَّذِي بيده خَيْر الدُّنْيَا والآخِرَة، وأن تحبوا رسوله ? الَّذِي لولا الله ثُمَّ لولاه لكنتم من حطب جهنم تلتهب بكم أبد الآبدين، وأن تحبوا أحباب الله، وأحبابه هم الَّذِينَ لزموا طاعة مولاهم وتباعدوا عن معصيته كما يتباعد الإِنْسَان عما يقتله من سم ونحوه بل السم أَهْوَن وأخف من كثير المعاصي كيف لا والمعاصي لا تسلم فاعلها إِلا إلى الْعَذَاب الأليمِ إن لم يتجاوز عَنْهُ مولاه مضى في صدر هذه الأمة أناس قال الله فيهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وهم الَّذِينَ كَانُوا بأرواحهم في سبيل الله يجودون، وكَانُوا يرون السعادة كُلّ السعادة في ذَلِكَ الجود وإذا لم يستطيعوا(5/37)
كَانُوا لذَلِكَ يحزنون وكَانَ هؤلاء النَّاس يحبون رسولهم فوق محبتهم لأموالهم وأنفسهم وكَانَ حب أحدهن لأخيه أعظم من حبه لأثاثه وماله يحب له ما يحب لنفسه ولذَلِكَ كَانُوا في كُلّ المنافع، لا يعرفون إِلا خلق الإيثار، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ سل التاريخ عَلَيْهمْ يخبر عنهم أخبارًا ما سمعت قط بمثلها يخبرك أنهم كَانُوا سادة الدُّنْيَا يعترف بذَلِكَ الْعَدُوّ قبل الصديق اعتراف إقرار وإذعان يخبرك أنهم كَانُوا إذا اتجهوا لغزو جهة ينهزم أهلها وبينهم وبينهم مسافة عظبمة وكيف لا يعزهم ربهم وقُلُوبهمْ كانت وقفًا على حبه وحب رسوله ? وحب كُلّ ما يرضيه من مبار، هؤلاء كَانُوا عبيد الله عبودية ما رأت الدُّنْيَا عبودية مثلها في سائر العبيد عدا الرسل الكرام لذَلِكَ كَانُوا يحنون لطاعته حنينًا لا ينقضي عجبه وَهُوَ مخلص وشديدٌ كَانُوا لا يشبعون من العبادة بالنَّهَارَ فيستقبلون الليل بعزائمهم بعثتها همم عاليةٌ، اتكل ولا تمل من العبادة، بل هِيَ في العبادة كالسمك في البحر، والليل على ذَلِكَ شهيد ومن الَّذِي يَقُولُ إن الدُّنْيَا والآخِرَة هؤلاء الَّذِينَ هم خَيْرةُ الله من خلقه هم سلفنا الصالح، فينبغي أن نقفوا آثارهم، ونكون على مثل ما كَانُوا عَلَيْهِ من المحبة الفائقة والطاعة الفريدة لمولانَا.
قال بَعْضهمْ يصف السَّلَف:
مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى رَحْلٍ كَأَنَّهُمْ ... رَكْبٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَمْضُوا وَيَنْتَقِلُوا
عَفَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ ... فَالصِّدْقُ مَذْهَبُهُمْ وَالْخَوْفُ وَالْوَجَلُ
آخر: ... تَنَعَّمَ قَوْمٌ بِالْعِبَادَةِ وَالتُّقَى ... أَلَذَّ النَّعِيمِ لا اللَّذَاذَةَ فِي الْخَمْرِ
فَقَرَّتْ بِهِ طُولَ الْحَيَاةِ عُيُونُهُمُ ... وَكَانَتْ لَهُمْ زَادًا إِلَى الْقَبْرِ(5/38)
آخر: ... دَعِ التَّكَاسُل فِي الطَّاعَاتِ تَفْعَلُهَا ... فلَيْسَ يَسْعَدُ بِالطَّاعَاتِ كَسْلانُ
وَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِمًا ... فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبٍ ... فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَخُذْلانُ
مَنْ يَزْرَعِ الشَّرِ يَحْصُدْ فِي عَوَاقِبِهِ ... نَدَامَة وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ
مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارَ نَامَ وَفِي ... قَمِيصِهِ مِنْهُمْ صِلٌ وَثُعْبَانُ
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ
آخر: ... اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدُ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ
لا يَطْلُبُونَ وَلا تُطْلَبْ مَسَاعِيهِمْ ... فَهُمْ عَلَى مَهَل يَمْشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّاله قَصَدُوا ... فَجُلّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رُقَّادُ
آخر: ... يَا بَاغِي الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ ... لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَةِ الآمَالِ
انْظُرْ إِلَى هَدْيَ الصَّحَابَةِ وَالَّذِي ... كَانُوا عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ الْخَالِ
وَاسْلُكْ طَرِيق الْقَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا ... خُذْ يَمْنَةً فَالدَّرْبُ ذَاتُ شَمَالِ
تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ سِوَى
سُبُلَ الْهُدَى فِي الْقَوْلِ وَالأَفْعَالِ
دَرَجُوا عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ
وَبِهِ اقْتَدَوْا فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ
نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِي الْهُدَى
فَمَاله فِي الْحَشْرِ خَيْرُ مَآلِ
الْقَانِتِينَ الْمُخْبِتِينَ لِرَبِّهِمْ
النَّاطِقِينَ بِأَصْدَقِ الأَقْوَالِ ... ?(5/39)
.. التَّارِكِينَ لِكُلِّ فِعْلٍ سَيءٍ
وَالْعَامِلِينَ بِأَحْسَنِ الأَعْمَالِ
أَهْوَاءُهُمْ تَبَعٌ لِدِينِ نَبِيِّهِمْ
وَسِوَاهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذِي الْحَالِ
مَا شَابَهُمْ فِي دِينِهِمْ نَقْصٌ وَلا
فِي قَوْلِهِمْ شَطْحُ الْجَهُولِ الْغَالِ
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا
فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ
وَسِوَاهُمُ بِالضِّدِ فِي أَحْوَالِهِمْ
تَرَكُوا الْهُدَى وَدَعَوا إِلَى الضَّلالِ
فَهُمْ الأَذِلَّةُ لِلْحَيَارَى مَن يَسِرْ
بِهُدَاهُمُ لَمْ يَخْشَ مِنْ إِضْلالِ
وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وَإِضَاءَةً
وَعُلُو مَنْزِلَةٍ وَبُعْدَ مَنَالِ
يَمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْنًا نُطْقُهُمْ
بِالْحَقِّ لا بِجَهَالَةِ الْجُهَّالِ
حَلِمًا وَعِلْمًا مَعَ تُقَىً وَتَوَاضِعِ
وَنَصِيحَةٍ مَعَ رُتْبَةِ الإِفْضَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ
بِتِلاوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ
وَعُيُونُهُمْ تَجْرِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ
مِثْلَ انْهِمَالِ الْوَابِلِ الْهَلالِ ... ?(5/40)
.. فِي اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ
لِعَدُوِّهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأَبْطَالِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرِّهَبَانِ رَأَيْتَهُمْ
يَتَسَابَقُونَ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ
بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ
وَبِهَا أَشِعَةُ نُورِهِ الْمُتَلالِ
وَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الْكِتَابُ صِفَاتِهِمْ
فِي سُورَةِ الْفَتْحِ الْمُبِينِ الْعَالِ
وَبِرَابِعِ السَّبْعِ الطِّوَالِ صَفَاتُهُمْ
قَوْمٌ يُحِبُّهُمُ ذُووا أدْلالِ
وَبَرَاءَةٍ وَالْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ
وَبِهَلْ أَتَى وَبِسُورَةِ الأَنْفَالِ ... ?
اللَّهُمَّ أذقنا عفوك وغفرانك واسلك بنا طَرِيق مرضاتك، وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا ما يبعد عن طَاعَتكَ، اللَّهُمَّ وثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليمَنِ فَقَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(5/41)
وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» . رواه أَحَمَد والترمذي وحسنه وابن ماجة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبزار مختصرًا بلفظ:
«ثلاث حق على الله أن لا يرد لَهُمْ دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع» .
وفي رواية للترمذي: «ثلاث دعواتٍ لا شك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» . وروى أبو داود هذه بتقديم وتأخَيْر.
وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة» . رواه الحاكم وَقَالَ: رواته متفق على الاحتجاج بِهُمْ إِلا عاصم بن كليب فاحتج به مسلم وحده.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ» . رواه أَحَمَد بإسناد حسن. وروى عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دعوتان لَيْسَ بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب. رواه الطبراني وله شواهد كثيرة.
وعن خزيمة بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يَقُولُ الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» . رواه الطبراني.
شِعْرًا:
... وَمَا مِنْ يَدٍ إِلا يَدُ اللهِ فَوْقَهَا ... وَلا ظَالِمٌ إِلا سَيُبْلَى بِظَالِمِ(5/42)
آخر: ... وأظلم أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ مُشْرِكًا ... بِخَالِقِهِ فَاحْذَرْ هُدِيتَ عَنِ الشِّرْكِ
قال بَعْضهمْ يصف دعوة المظلوم وَهُوَ في الحَقِيقَة لغز.
وَسَائِرَةٍ لَمْ تَسْرِ فِي الأَرْضِ تَبْتَغِي
مَحَلاً وَلَمْ يَقْطَعْ بِهَا الْبِيْدَ قَاطِعُ
سَرَتْ حَيْثُ لَمْ تَحْدَ الرِّكَابُ وَلَمْ تُنَخْ
لِوَرْدٍ وَلَمْ يَقْصُرْ لَهَا الْقَيْدَ مَانِعُ
تَمُرُّ وَرَاءَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ ضَارِبٌ
بِجُثْمَانِهِ فِيهِ سَمِيرٌ وَهَاجِعُ
إِذَا وَفَدَتْ لَمْ يَرْدُدِ اللهُ وَفْدَهَا
عَلَى أَهْلِهَا وَاللهُ رَاءٍ وَسَامِعُ
تَفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ دُونَهَا
إِذَا قَرَعَ الأَبْوَابَ مِنْهُنَّ قَارِعٌ
وَإِنِّي لأَرْجُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّمَا
أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
آخر: ... أَلا رُبَّ ذِي ظُلْمٍ كَمَنْتُ لِحَرْبِهِ
فَأَوْقَعُهُ الْمَقْدُورُ أَيَّ وُقُوعٍ
وَمَا كَانَ لِي إِلا سِلاحُ تُركُّعٍ
وَأَدْعِيَةٌ لا تُتَّقَى بِدُرُوعِ
وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْجُو الظَّلُومُ وَخَلْفَهُ
سِهَامُ دُعَاءٍ مِن قِسِّيٍ رُكُوعِ ... ?
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها(5/43)
هنا التقوى ها هنا» . ويشير إلى صدره «بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كُلّ المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه» . رواه مسلم.
وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالاً كُلّهَا: أيها الملك المسلط المبتلي المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدُّنْيَا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات فساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نَفْسهُ وساعة يتفكر فيها في صنع الله عَزَّ وَجَلَّ وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.
وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إِلا لثلاث تزودٍ لمعادٍ أو مرمةٍ لمعاش أو لذةٍ في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للِسَانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إِلا فيما يعنيه.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فما كانت صحف مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام؟ قال: «كانت عبرًا كُلّهَا: عجبت لمن أيقن بالموت ثُمَّ يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار ثُمَّ هُوَ يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثُمَّ هُوَ ينصب، عجبت لمن رأى الدُّنْيَا وتقلبها بأهلها ثُمَّ اطمأن إليها عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثُمَّ لا يعمل» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قال: «أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس الأَمْر كله» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «عَلَيْكَ بتلاوة القرآن وذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، فإنه نور لك في الأَرْض، وذخر لك في السماء» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «إياك وكثرة الضحك، فإنه(5/44)
يميت الْقَلْب، ويذهب بنور الوجه» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «عَلَيْكَ بالجهاد فإنه رهبانية أمتي» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «أحب المساكين وجالسهم» .
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هُوَ فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدرى نعمة الله عندك» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «قل الحق وإن كَانَ مرًّا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «ليردك عن النَّاس ما تعلمه من نفسك ولا تجد فيما تأتي وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك وتجد عَلَيْهمْ فيما تأتي» . ثُمَّ ضرب بيده على صدري، فَقَالَ: «يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق» . رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم، وَقَالَ: صحيح الإسناد
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(موعظة) : عباد الله ما للألسن عن شكر نعم الله المتتالية قاصرة، وما للعيون إلى زهرة الحياة الدُّنْيَا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طَرِيق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن الْعَمَل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى دار الآخِرَة، أركونًا إلى الدُّنْيَا وقَدْ فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم(5/45)
اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كُلّ لحظة سائرةٍ أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه وَاللهِ الفكرة والصفقة الخاسرة لَقَدْ رانت على القُلُوب قبائح الأعمال، وضربت عَلَيْهَا وعلى المسامَعَ من الذُّنُوب أقفالٌ فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب ويا خيبة من ماله إلى نار تلتهب إلى إحراقه التهابًا، فمتى تقبلون على الله بقُلُوب صادقة لا تنتهون من مفارقة الذُّنُوب بعزمة صادقة، لا في الصادقين تيقنون أنه ثابت لكم قدم، ولا في التائبين صحت لكم توبة وإقلاع وعزم وندم. ولا عَنْدَ تلاوة كتاب الله تقشعر منكم الجلود ولا عَنْدَ سماع المواعظ ترق منكم القُلُوب التي هِيَ أقسى من الجلمود فبماذا ترجون لحاق السعداء وكيف تطمعون في الفوز والنجاة معهم غدًا وأنتم تتبعون الخطايا بالخطايا وتبارزون.
الله بها في البكر والعشيا، فيا حَسْرَة نفوس أطمأَنْتَ إلى الدُّنْيَا دار الغرور، ويا خراب قُلُوب عمرت بأماني كُلّهَا باطل وزورٍ، ويا نفاذ أعمار ينقص منها كُلّ يوم وساعة ولا يزَادَ ويا خيبة مسافر يسير السير السريع وَهُوَ بلا زادٍ، فالبدار البدار عباد الله بالتوبة البدار والغنيمة الغنيمة قبل خروج وَقْت الاختيار، وإيتان وَقْت لا تقال فيه العثار:
... نَسِيرُ إِلَى الأَجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا تَخَطَّتُهْ الأَمَانِي بَاطِلُ
تَرَحَّلْ مِن الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرَكَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِلُ
آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا حَقِيقَتُهَا مُحَالٌ ... تَمُرُّ كَمَا يَمُرُّ بِكَ الْخَيَالُ
وَكَمْ قَدْ غَرَّ زُخْرُفُهَا رِجَالاً ... غُرُورَ ذَوِي الظَّمَا بِالْقَاعِ آلُ(5/46)
جج
آخر: ... سَوَاءٌ مَنْ أَقَلَّ التُّرْبُ مِنَّا ... وَمَنْ وَارَى مَعَالِمَهُ التُّرَابُ
وَإِنَّ مُزَايِل الْعَيْشِ اخْتِصَارًا ... مُسَاوٍ لِلَّذِينَ بَقُوا فَشَابُوا
وَأَوَّلُنَا الْعَنَاءُ إِذَا طَلَعْنَا ... إِلَى الدُّنْيَا وَآخِرُنَا الذَّهَابُ
آخر: ... قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كَانَ فِي الْعَالَم مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ آمِل خَيَّبْتُ آمَاله ... وَجَامِعِ بَدّدْتُ مَا يَجْمَعُ
آخر: ... خَرَجْتُ مِن الدُّنْيَا كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ
دَخَلْتُ إليها قَطُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ
تَبَلَّغْتُ فِيهَا بِاليسِيرِ وَقَدْ كَفَى
وَحَصَّلْتُ فِيهَا مَا عَمَرْتُ بِهِ قَبْرِي
يُؤَنِّسُنِي فِيهِ إِذَا مَا سَكَنْتُهُ
وَنِعْم رَفِيقٌ صَاحِبٌ لِي إِلَى الْحَشْرِ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا رُوَيْدَكَ فَاقْتَصِرْ
فَإِنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ تَأْتِي وَمَا تَدْرِي
وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فالْغَبْنُ كُلُّهُ
لِمَنْ مُنِحَ الدُّنْيَا وَرَاحَ بِلا أَجْرِ ... ?
آخر: ... عَلَى مِثْلِ هَذَا كُلُّ جَمْعٍ مَاله ... وِصَالُ وَتَفْرِيقُ يسر وَيُؤْلمُ
وَإِنْ مُنِعَ الْغُيَّابُ أَنْ يَقْدَمُوا لَنَا ... فَإِنَّا عَلَى غُيَّابِنَا سَوْفَ نَقْدَمُ
آخر: ... يَا مُنْزِلاً لَعِبَ الزَّمَانُ بِأَهْلِهِ ... فَأَبَادَهُمْ بِتَفَرُّق وَسَيجُمَعُوا
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقَى الَّذِينَ حَيَاتُهُمْ لا تَنْفَعُ
آخر: ... وَعَضَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ ... وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُّرَابُ خُفُوتُ
أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ ... لِمَنْ تَجْمَعِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ(5/47)
آخر: ... يَا نَفْسُ مَا هِيَ إِلا صَبْرُ أَيَّامِ ... كَأَنَّ مُدَّتَهَا أَضْغَاثُ أَحْلامِ
يَا نَفْسُ جُوزِي عَنِ الدُّنْيَا مُبَادَرَةً ... وَخَلِّ عَنْهَا فَإِنَّ الْعَيْشَ قُدَّامِ
آخر: ... تَقْنَ اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَا لَذَّتَهَا ... مِن الْحَرَامِ وَيَبْقَى الإثْمُ وَالْعَارُ
تَبْقَى مَغَبَّةُ وُسُوءٍ مِنْ تَطَلُّبِهَا ... لا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
آخر: ... بَنِي الدُّنْيَا أَقِلُوا الْهَمَّ فِيهَا ... فَمَا فِيهَا يَؤُولُ إِلَى الْفَوَاتِ
بِنَاءٌ لِلْخَرَابِ وَجَمْعُ مَالٍ ... لِيَفْنَى وَالتَّؤالُدُ لِلْمَمَاتِ
اللَّهُمَّ وفقنا للإستعداد لما أمامنا واهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل الصالح ليوم المعاد واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» . فَقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللهِ أنصره إذا كَانَ مظلومًا؛ أفرَأَيْت إن كَانَ ظالمًا كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذَلِكَ نصره» . رواه البخاري.
فالمظلوم في حقه أو ماله يمنع عَنْهُ الظلم ويرفع عَنْهُ الحيف بكل ما يستطاع من الوسائل والقصد أن تَكُون ايد مَعَ يد المظلوم حتى يأخذ حقه وأما نصر الظَالِم فمنعه عن الظلم فإن أراد استلاب مال حلت بينه وبينه وأخذت بيده.
وإن أراد البطش ببريء ضربت على يده إن كانت يدك أقوى من يده وتراعي الحكمة لئلا ينقلب ظالمًا لك وإن كانت النَّصِيحَة رادعة(5/48)
سلكتها وإِلا فتستعمل معه القوة حتى يرجع إلى الحق، وطرق الظلم كثيرةٌ جدًّا ووسائله جمةٌ وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.
ولا يختص الظلم بأرباب الوظائف والمناصب وأرباب الحكم والسُّلْطَان، حيث أن كلا ممن عدا هؤلاء رب بيت أو بيوتٍ، وزعيم أسرة وفي الأسرة الكبير والصغير والقوي والضعيف والخادم والأجير ولكل واحد من هؤلاء حقوق في أعناق المسؤلين وسيسألون عَنْهَا بل إنَّ الإِنْسَان ليعد ظالمًا إذا تعدى على حقوق نَفْسهُ الشخصية فقَدْ يكون مبذرًا وحالته تدعو إلى الاقتصاد وقَدْ يكون مقترًا وحالته تدعو إلى التيسير فمن ظلم الإِنْسَان لأهله سياستهم بالقَسْوَة كما يفعله بَعْضهمْ ظنًّا منه أنه مدعاة لاحترامهم له أو يبخل عَلَيْهمْ فلا ينفق النفقة الواجبة كأمثالهم أو لا يحسن معاشرتهم فقَدْ ذكر أن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ ذات يوم مستلقيًا على ظهره في بيته وصبيانه يلعبون حوله فدخل عَلَيْهمْ.
أحد عماله فانكر ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ له عمر: كيف أَنْتَ مَعَ أهلك؟ فَقَالَ: إذا دخلت سكت الناطق. فَقَالَ له عمر: اعتزل عملنا فإنك لا ترفق بأهلك وولدك فَكَيْفَ ترفق بأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم ومن ظلمه لأولاده أن يتركهم بلا أمرٍ ولا نهيٍ ولا توجيهٍ ومَعَ هَذَا فربما وجدته أمر النَّاس البعيدين عَنْهُ بالمعروف وينهاهم عن الْمُنْكَر وقَدْ صدق عَلَيْهِ المثل
شِعْرًا: ... كَمُرْضِعَةٍ أَوْلادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنْ الْقَصْدِ
آخر: ... كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ ... وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا(5/49)
ومن ظلمه لجيرانه أن لا يقوم بحق الجوار لَهُمْ، ولا يواسيهم بل ولا يكف شره وشر أولاده وأهله ولَقَدْ أوصى الله بالجار فقال (والجار ذي القربى، والجار الجنب) وأوصى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم به فَقَالَ: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه» . وقيل: إن فلانة تصوم النَّهَارَ وتَقُوم الليل وهي سئية الخلق تؤذي جيرانها بلسانها.
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا خَيْر فيها، هِيَ من أَهْل النار» .
شِعْرًا:
يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي ... وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يَنْغِصُ
فَقُلْتُ لَهُمْ كَفُوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا ... ف بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرَخُصُ
ومن ظلم القضاة الحيف مَعَ أحد الخصمين أو شهادة الشهود وشر أنواع الظلم ظلم ولاة الأمور لرعيتهم وإذا انتشر الظلم في أمة سلبت الأمن على الرواح والأموال والأعراض وانتشرت فيها المفاسد وسوء الأَخْلاق، وفشت فيها العداوة والبغضاء وأكل القوي الضعيف، وقُلْتُ فيها اليد العاملة، واتسع نطاق الجهل وتذهب من الأمة الشجاعة والحمية، ويحل محلها النفاق والملق، ويثمران النميمة ونقل الكلام والْغَضَب والسرقة والاختلاس ونهب أموال النَّاس والربا والتطفيف في المكاييل والموازين والتغرير بالعامل والغش والخيانة للوديع والأجير والجعيل والمقارض والشريك والوكيل وهَذَا كله من الظلم الَّذِي توعد الله أهله، وَقَالَ فيهم: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ولكنها درجات متفاوتة والجزاء على كُلّ شَيْء بحسبه ولَقَدْ وصل النَّاس اليوم في ظلم بَعْضهمْ بعضًا إلى حد تقصر عن شرحه العبارة وَذَلِكَ أنهم لا يتهيبون ظلمًا إِلا إذا رأوا بجانبه إقامة الحد الشرعي فإذا أمن أحدهم من العقوبة(5/50)
الشرعية بطش بطش الجبارين، فإذا اشتهت نَفْسهُ قذف شخص قذفه مهما كَانَ نقي العرض وإذا اشتهت نَفْسهُ سب إنسان وشتمه سبه وشتمه بل ولعنه والعياذ بِاللهِ وإذا اشتهت نَفْسهُ غيبة غَافِل أو بهته إغتابه وبهته وإذا اشتهت نَفْسهُ ضربه مال عَلَيْهِ وضربه ضربًا لا رحمة معه وإذا همت بأكل ماله نفذ ذَلِكَ بغاية الجرأة والوقاحة وبطرق شتى مسلكها يهون وإن سولت له نَفْسهُ أن يطعن بنسب إنسان وحسبه طعن طعنًا تقشعر منه الأبدان وإذا زينت له نَفْسهُ أن يقتل إنسانَا أراق دمه في الحال غير مفكر وغير متندم وهكَذَا من توغل في الظلم وأمن العقوبة لا يقوم في نَفْسهُ لون من الظلم إِلا نفذه مسرعًا كأنه لا يؤمن بالبعث ولا بالموت ولا بأن الجزاء واقع على الأعمال ولذَلِكَ تَرَى نيران الظلم تلتهب في أنحاء الدُّنْيَا بحالة تزعج الناظرين ولَقَدْ غفل النَّاس عن عواقب الظلم دنيًا وأخرى ولو علموا أن شقاء الدُّنْيَا والآخِرَة وليد الظلم وأثر مِمَّا له من آثار ما دنا من الظلم أحد ولو لبهيم لا يحسب له أدنى حساب فالظلم يتغير منه قلب المظلوم ويتفاوت التغير بتفاوت ما للظلم من مقدار وعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الظلم يكون الْغَضَب والانتقام، خصوصًا إذا كَانَ المظلوم ضعيفًا لا ناصر له.
شعرًا:
خَفِ اللهَ فِي ظُلْمِ الْوَرَى وَاحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يَوْمَ عَضّ الظَّالِمِينَ عَلَى اليدِ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُهْمِلُ خَلْقَهُ ... وَلَكِنَّهُ يُمْلِي لِمَنْ شَاءَ إِلَى الْغَدِ
آخر: ... إِذَا مَا الظَّلُومُ اسْتَحْسَنَ الظُّلْمَ مَذْهَبًا ... وَلَجَّ عُتُوًا فِي قَبِيحِ اكْتِسَابِهِ
فَكِلْهُ إِلَى صِرْفِ إلَّيالي فَإِنَّهَا ... سَيَبْدُوا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِمًا مُتَمَرِّدًا ... يَرَى النَّجْمَ تِيهًا تَحْتَ ظِلِّ رِكَابِهِ(5/51)
فَعَمَّا قَلِيلٍ وَهُوَ فِي غَفَلاتِهِ ... أَنَاخَتْ صُرُوفُ الْحَادِثَاتِ بِبَابِهِ
فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلا جَاهٌ يُرْتَجَى ... وَلا حَسَنَاتٌ يَلْتَقِي فِي كِتَابِهِ
وَجُوزِي بِالأَمْرِ الَّذِي كَانَ فَاعِلاً ... وَصَبَّ عَلَيْهِ اللهُ سَوْطَ عَذَابِهِ
شِعْرًا: ... يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيل سَتُلقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الْحَمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... قَدْ آن لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللبِّ أَنْ يَأْتِي
اللَّهُمَّ اجعلنا ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه وأعد عدة تصلح لرمسه واستدراك في يومه ما ضيعه في أمسه واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين اللَّهُمَّ احفظنا من المخالفة والعصيان ولا تؤاخذنا بجرائمنا وما وقع منا من الخطأ والنسيان واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله لَقَدْ امتلأت الأَرْض من الشر ووسائله. وضجت وما فيها مِمَّا وصل إليه من المعاصي الإِنْسَان وإن شئت فزر أي جهةٍ من جهات العَالِم وتَرَى ما يتقطع له قلبك حسرات افتتن النَّاس بزخارف الدُّنْيَا فاستولت على قُلُوبهمْ وملكتها فنسوا يوم الحساب وأصبحت المعاصي أمرًا مألوفًا عَنْدَ كثير من النَّاس وغلب المستقيمون على أمرهم فلم يستطيعوا إزالتها فتمادى المجرمون على انتهاك الآداب فتفاقم الخطب ثُمَّ تفاقم إلى أن التهبت الدُّنْيَا بالموبقات خف الزنى الَّذِي هُوَ من كبائر الذُّنُوب حتى صار الغيور الْمُنْكَر به المقبح يسمى رجعيًّا لا يعرف الحرية(5/52)
مَعَ أن الزنى من بين المعاصي عار تسود له الوجوه، وتنتكس له الرؤوس وتنهدم به بيوت المجد العاية، وهان التعامل بالربا مَعَ أنه من بين سائر المعاصي قَدْ توعد الله فاعله المستمر على التعامل به بالحرب وقارف كثير من النَّاس المسكرات مَعَ أن الخمر أم الخبائث وهذه شهادة الزور قَدْ هأَنْتَ مَعَ أنها من عظائم الذُّنُوب وهذه فاحشة اللواط قَدْ انتشرت انتشار الوباء مَعَ أن القرآن يحكي عن أمة كانت تفعل ذَلِكَ أنها خسف بها، وأمطرت عَلَيْهَا حجارة من سجيل وأما الأَرْض فهان اغتصابها مَعَ أن المغتصب يكون طوقًا لمغتصبه في دار الانتقام، وأما الأموال والأعراض فحدث عن الاستخفاف بها وانتهاكها ولا حرج وهَذَا الغش قَدْ صار عادةً لا يكاد يسلم منه معامل مَعَ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من غشنا فلَيْسَ منا» . وهَذَا حلق اللحية قَدْ أصبح عَنْدَ كثير من النَّاس كأنه واجب مَعَ أمر النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم بإعفائها هَذَا وأضعاف أضعافه حاصل في هَذَا العصر المظلم الحالك الَّذِي عادة فيه غربة الدين.
شِعْرًا: ... سَمَّوْكَ يَا عَصْرَ الظَّلامِ سَفَاهَةً
عَصْرَ الضِّيَاءِ وَأَنْتَ شَرُّ الأَعْصُرِ
وَتَقَدَّمَتْ فِيكَ الْحَضَارَةُ حَسْبَمَا
قَالُوا فِيَا وَحْشِيَّةَ الْمُتَحَضِّرِ
وَالْعِلْمُ قَدْ يَأْتِي بِكُلِّ بَلِيَّةٍ
وَيَسِيرُ نَحْوَ الْمَوْتِ بِالْمُسْتَبْصِرِ ... ?(5/53)
آخر: ... وَلا خَيْر فِي الدُّنْيَا وَلا فِي نَعِيمِهَا ... إِذَا انْحَطَّتِ الْبَازَاتُ وَارْتَفَعَ الْبَطُّ
آخر: ... لَقَدْ أُخِّرَ التَّصْدِيرُ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ ... وَقُدِّمَ غَمْرٌ جَامِدُ الذُّهْنِ خَامِدُهُ
آخر: ... إِذَا لَمْ يَكُنْ صَدْرُ الْمَجَالِسِ سَيِّدًا ... فَلا خَيْرَ فِيمَنْ صَدَّرَتْهُ الْمَجَالِسُ
وَكَمْ قَائِلٍ مَا لي رَأَيْتُكَ رَاجِلاً ... فَقُلْتُ لَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَارِسُ
آخر: ... لا يَغُرَّنَكُمْ عُلُوُّ لَئِييْم ... فَعُلُّوُه لا يَسْتَحِقُّ سِفَالٍ
فَارْتِفَاعُ الْغَرِيق فِيهِ فُضُوحِ ... وَعُلُو الْمَصْلُوبِ فِيهِ نَكَالْ
آخر: ... هَذَا الزَّمَان عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِوَجٍ ... حَكَى انْقِلابَ لَيَإليه بِأَهْلِيهِ
غَدِيرَ مَاءٍ تَرَآ فِي جَوَانِبِهِ ... خِيَالُ قَوْمٍ تَمَشَّوْا فِي نَوَاحِيهِ
فَالرَّأْسُ يُنْظَرُ مَنْكُوسًا أَسَافلُهُ ... وَالرِّجْلُ تُنْظَرُ مَرْفُوعًا أَعَالِيهِ
آخر: ... وَعَاشَ بِدَعْوَى الْعِلْمِ نَاسُ وَمَا لَهُمْ ... مِن الْعِلْمِ حَظُّ لا بِعَقْل وَلا نَقْلِ
آخر: ... وَقْتُ عَلا قَدْرُ الْوَضِيعِ بِهِ ... وَغَدا الشَّرِيفُ يَحُطُّهُ شَرَفُهْ
كَالْبَحْرِ يَرْسُبُ فِيهِ لُؤْلُؤهُ ... سِفْلاً وَيَطْفُو فَوْقَهُ جِيفُهْ
اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك وألهمنا ذكرك وشكك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خَيْر من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين(5/54)
أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ: والظلم لا يباح بحال حتى أن الله تَعَالَى قَدْ أوجب على الْمُؤْمِنِين أن يعدلوا على الكفار في قوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والْمُؤْمِنِين كَانُوا يعادون الكفار بأمر الله فَقَالَ تَعَالَى: {لا يحملنكم بغضكم للكفار على أن لا تعدلوا بل اعدلوا عَلَيْهمْ فإنه أقرب للتقوى} وحينئذ فهؤلاء المشركين لَيْسَ لبَعْضهمْ أن يفعل ما به يظلم غيره بل إما أن يؤدي قسطه فيكون محسنًا ولَيْسَ له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذَلِكَ الْمَال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء فيتضاعف الظلم عَلَيْهمْ.
فإن الْمَال إذا كَانَ يؤخذ لا محالة وامتنع بجاهٍ أو رشوةٍ أو غيرهما كَانَ قَدْ ظلم من يؤخذ منه القسط الَّذِي يخصه، ولَيْسَ هَذَا بمنزلة أن يدفع عن نَفْسهُ الظلم من غير ظلم لغيره فإن هَذَا جائز مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه، فلا يؤخذ ذَلِكَ منه ولا من غيره.
وهَذَا كالوظائف السلطانية التي توضع على القرى، مثل أن يوضع عَلَيْهمْ عشرة آلاف درهم فيطلب من له جاه بأمرةٍ أو مشيخةٍ أو رشوةٍ أو غير ذَلِكَ أن لا يخذ منه شيء وهم لا بد لهم من أخذ جميع المال وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من الشركاء فيمتنع من أخذ ما ينوبه ويؤخذ من سائر الشركاء فإن هَذَا ظلم منه لشركائه لأن هَذَا لم يدفع الظلم عن نَفْسهُ إِلا بظلم شركائه وهَذَا لا يجوز.(5/55)
ولَيْسَ له أن يَقُولُ: أَنَا لم أظلمهم، بل ظلمهم من أخذ مِنْهُمْ الحصتين لأنه يُقَالُ أولاً: هَذَا الطالب قَدْ يكون مأمورًا ممن فوقه أن يأخذ ذَلِكَ الْمَال فلا يسقط عن بَعْضهمْ نصيبه إِلا إذا أخذه من أخذه من نصيب الآخِر فيكون أمره بأن لا يأخذ أمرًا بالظلم.
الثاني: أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى فعَلَيْهِ أن يعدل بينهم فيما يطلبه مِنْهُمْ وأن أصل الطلب ظلمًا فعَلَيْهِ أن يعدل في هَذَا الظلم ولا يظلم فيه ظلمًا ثانيًا فيبقى ظلمًا مكررًا فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلمًا مكررًا بخلاف ما إذا أخذ من كُلّ قسطه، ولأن النُّفُوس ترضى بالعدل بينها بالحرمان وفيما يؤخذ منها ظلمًا ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء.
الثالث: أنه إذا طلب من القاهر أن لا يأخذ منه وَهُوَ يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقَدْ أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره.
ولَيْسَ للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره وإن كَانَ هُوَ لم يأمره بالظلم كمن يولي شخصًا ويأمره أن لا يظلم وَهُوَ يعلم أنه يظلم فلَيْسَ له وكذلك من وكل وكيلاً وأمره أن لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه ومن طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال وَهُوَ يعلم أنه لا يوفيه إِلا مِمَّا ظلمه من النَّاس وكَذَلِكَ إذا طلب منه أن يعفيه من الظلم وَهُوَ يعلم أنه لا يعفيه إِلا بظلم غيره فلَيْسَ له أن يطلب منه ذَلِكَ. أ. هـ.
وَقَالَ في تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لما عد بعض الكبائر قال: ومنها الدخول على الظلمة بغير قصد صحيح بل إعانة لَهُمْ وتوقيرًا(5/56)
ومحبةً، قال الله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثُمَّ وَالْعُدْوَانِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ستَكُون أمراء، من دخل عَلَيْهمْ فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فلَيْسَ مني، ولست منه، ولن يرد على الحوض» . رواه أَحَمَد والبزار بإسناد رجاله رِجَال الصحيح وابن حبان في صحيحه وهَذَا لفظه وساق غير هَذَا الْحَدِيث حول هَذَا الموضوع ثُمَّ قال: قَدْ يَقُولُ من اعتاد الدخول على الملوك الظلمة والقضاة الخونة إنما قصدي بذَلِكَ نصر المظلوم أو مساعدة ضعيف أو دفع ظلامة أو التسبب في معروف ونحو ذَلِكَ وهَذَا لا يخلو إما أن يكون ممن يتناول من مآكلهم ومشاربهم، ويشاركهم في مقاصدهم ومآربهم، ويقبل من أموالهم التي اكتسبوها من الجهات المحرمَاتَ أو وجوه المظَالِم والمكوس والمصادرات، ويداهنهم فيما يراه عندهم من المنكرات، فهَذَا لا يحتاج النظر في سوء حاله إلى دَلِيل إذ يشهد كُلّ ذي بصيرة أنه ضال عن سواء السبيل وأنه من {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ويزعمون أنهم {مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} ثُمَّ قال: ليت شعري كيف يمكن من يأكل من أموالهم، أن ينكر قبيح أفعالهم، وأنى يرجع الظَالِم مِنْهُمْ إليه وَهُوَ يرى منته في الصحبة واللقمة عَلَيْهِ، وكيف يقبل منه الكلام وباطنه قَدْ امتلأ من ماله الحرام. واختصار الكلام في مثل هَذَا أليق والسَّلام وإن كَانَ ممن يعف عن مآكلهم ومشاربهم ولا يقبل مِنْهُمْ إدرارًا ولا صلةً وينكر عَلَيْهمْ ما قَدْ يراه عندهم من المنكر(5/57)
فهَذَا في محل اشتباه والحالة ميزان يعلم بها صحته من سقمه وَهُوَ أن يرى أنه كالمكره في دخوله عَلَيْهمْ وكلامه معهم ويود أن لو كفي بغيره ولو انتصر المظلوم بسواه ولا يتبجح بصحبتهم ولا بالاجتماع عَلَيْهمْ ولا في فلتات لِسَانه قُلْتُ للسلطان وَقَالَ لي السُّلْطَان وانتصر بي فلان فنصرته وطلب مني المساعدة فلان فساعدته ونحو ذَلِكَ ولو قدم السُّلْطَان المعروف لما شق عَلَيْهِ ذَلِكَ بل يجد عنده انشراحًا بذَلِكَ وفرحًا به إذا كفاه الله التعرض إلى هَذَا الخطر العَظِيم بما لا يثق بصحة قصده فيه، ولا يقطع بإخلاص نيته في القيام به. انتهى.
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ مَهْلاً لا تُدَنِّسُهُ ... بِالْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ
الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ ... وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ
آخر: ... فَمَا لَكَ وَالْبَقَاءَ بِدَارِ ذُلٍّ ... وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الْفَضَاءِ
إِذَا خَانَ الأَمِيرُ وَكَاتِبَاهُ ... وَقَاضِي الأَرْضِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ... لِقَاضِي الأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ
آخر: ... عَنَوا يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
شَبَابًا فَلَمَّا حَصَّلُوهُ وَحَشَّرُوا
وَصَحَّ لَهُمْ إِسْنَادُهُ وَأُصُولُهُ
وَصَارُوا شُيُوخًا ضَيَّعُوهُ وَأَدْبَرُوا
وَمَالُوا عَلَى الدُّنْيَا فَهُمْ يَحْلُبُونَهَا
بِأَخْلافِهَا مَفْتُوحَةً لا تُصَرَّرُوا ... ?(5/58)
ج
... فَيَا عُلَمَاءَ السُّوءِ أَيْنَ عُقُولُكُمْ
وَأَيْنَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الْمُتَخَيِّرُ ... ?
آخر: ... رَأَيْتُ فَقِيهَ الشَّكْلِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ ... وَيَقْنَعُ مِنْ حَالِ الْفَقَاهَةِ بِالاسمِ
آخر: ... فَقُلْتُ وَقَدْ وَافَى بِتَضْلِيعِ عِمَّةٍ ... تَضَلَّعَ جَهْلاً مَا تَضَلَّعَ بِالْعِلْمِ
عَجِبْتُ لأَهْلِ الْعِلْمِ كَيْفَ تَشَاغَلُوا
عَنِ الْعِلْمِ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَ الْمَمَالِكِ
يَطُوفُونَ حَوْلَ الظَّالِمِينَ كَأَنَّمَا
يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ ... ?
آخر: ... دَعِ الْمَنَاصِبْ لِنَاسٍ يُشْغَفُونَ بِهَا ... وَاضْرِبْ عَلَى النَّفْسِ لا تَسْمَعْ دَعَاوِيهَا
لا يَعْرِفُ الزُّهْدَ إِلا كُلُّ مَنْ عَزَفَت ... نَفْسٌ لَهُ عَنْ هَوَى الدُّنْيَا وَطَارِيهَا
وَاسْتَدْرَكَ الْعُمْرَ فِي الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ ... وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَعْ كُتبٍ تُدَانِيهَا
اللَّهُمَّ إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كُلّ بر والسلامة من كُلّ إثُمَّ ونسألك أن تغفر لنا.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان في قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا بِطَاعَتكَ وامتثال أمرك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
إذا فهمت ما تقدم من شناعة الظلم وقبح عاقبته وما ورد من(5/59)
الوعيد الشديد على مرتكبه وأن من مَاتَ قبل رد المظَالِم أحاط به يوم القيامة خصماؤه فهَذَا يأخذ بيده وهَذَا يقبض على ناصيته وهَذَا يمسك يده وهَذَا يتعلق بلببه وهَذَا يتعلق برقبته هَذَا يَقُولُ: ظلمني فغشني. وهَذَا يَقُولُ: ظلمني فبخسني. وهَذَا يَقُولُ: خدعني. وهَذَا يَقُولُ: قذفني. وهَذَا يَقُولُ: أكل مالي. وهَذَا يَقُولُ: شتمني. وهَذَا يَقُولُ: اغتابني. وهَذَا يَقُولُ: كذب علي. وهَذَا يَقُولُ: قطع رحمي.
وهَذَا يَقُولُ: جاورني فأساء مجاورتي. وهَذَا يَقُولُ: رآني مظلومًا فلم ينصرني. وهَذَا يَقُولُ: رآني على منكر فلم ينهني. وهَذَا يَقُولُ: جحد مالي. وهَذَا يَقُولُ: باعني وأخفى عني عيب السلعة. وهَذَا يَقُولُ: سرق مالي. وهَذَا يَقُولُ: قطع من ملكي.
وهَذَا يَقُولُ: شهد علي بالزور. وهَذَا يَقُولُ: سخر بي. وهذه زوجة تَقُول: لم يعدل بيني وبين زوجته الأخرى. وهذه تَقُول أكل صداقي. وهَذَا يَقُولُ: تعدى على محارمي. وهَذَا يَقُولُ: نشز زوجتي. وهذه تَقُول: نشز زوجي.
وهَذَا يَقُولُ: غدر بي. وهَذَا يَقُولُ: خانني. وهَذَا يَقُولُ: دلس علي. وهَذَا يَقُولُ: نجش علي في السلعة التي أريد شراءها. وهَذَا يَقُولُ: كادني. وهَذَا يَقُولُ: منعني النوم بملاهيه من مذياع وتلفزيونه وبكمه وسينمائه. فبينما أَنْتَ على تلك الحال المخيفة التي لا يرى فيها بغضك من كثرة من تعلق بك من الغرماء الَّذِينَ أنشبوا فيك مخالبهم وأحكموا في تلابيبك أيديهم وأَنْتَ مبهوت متحير مضطرب الفكر والعقل من كثرتهم ومطالبتهم حتى لم يبق أحد ممن جالستهم أو عاملتهم أو صاهرتهم أو شاركتهم ولو(5/60)
مدة قليلة إِلا وقَدْ استحق عَلَيْكَ مظلمة وقَدْ ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجَاءَ إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلصك من أيديهم.
إذا قرع سمعك نداء الجبار جَلَّ وَعَلا وتقدست أسماؤه: {اليوم تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليوم} فعَنْدَ ذَلِكَ ينخلع قلبك وتضطرب أعضاؤك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار وتذكر ما أنذرك الله تَعَالَى به على لسان رسله حيث قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إليهمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} .
وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآيَة فيالها من مصيبة، وما أشدها من حَسْرَة في ذَلِكَ اليوم، إذا جَاءَ الرب جَلَّ وَعَلا للفصل بين عباده بحكمه العدل وشوفه الظَالِم بالخطاب وعلم أنه مفلس فقير عاجز مهين لا يقدر على أن يرد حقًّا أو يظهر عذرًا.
فعَنْدَ ذَلِكَ تؤخذ حسناته التي تعب عَلَيْهَا في عمره، ليلاً ونهارًا حضرًا وسفرًا وتنقل إلى الخصماء عوضًا عن حقوقهم وتقدم حديث أَبِي هُرَيْرَةِ في بيان المفلس من الأمة فلينظر العاقل إلى المصيبة في مثل ذَلِكَ اليوم الَّذِي ربما لا يسلم له فيه شَيْء من الحسنات فإن سلم شَيْء ابتدره الغرماء وأخذوه فَكَيْفَ تَكُون حال من رأى صحيفته خالية من حسناتٍ طالما تعب فيها، فإذا سأل عَنْهَا قيل له نقُلْتُ إلى صحيفة خصمائك الَّذِينَ ظلمتهم ويرى صحيفته مشحونة بسيئات لم يعملها،(5/61)
فإذا سأل عَنْهَا ومن أين جاءت إليه؟ قيل: هذه سيئات القوم الَّذِينَ طالما تمضمضت بهتك أعراضهم وتناولت أموالهم وقذفتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسُّوء وخنتهم في المبايعة والمجاورة والمعاملة ونحو ذَلِكَ من أنواع الظلم اللَّهُمَّ قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا: ... وَفِي النَّاسِ مِنْ ظُلْمُ الْوَرَى عَادَةً لَهُ
وَيَنْشُرُ أَعْذَارًا بِهَا يَتَأَوَّلُ
جَرِيءٌ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ وَيَدَّعِي
بِأَنَّ لَهُ فِي حِلِّ ذَلِكَ مَحْمَلُ
فَيَا آكِلَ الْمَالِ الْحَرَامِ ابن لَنَا
بِأَيِّ كِتَابٍ حَلَّ مَا أَنْتَ تَأْكُلُ
أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ اللهَ يَدْرِي بِمَا جَرَى
وَبَيْنَ الْبَرَايَا فِي الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ
حَنَانِيكَ لا تَظْلِمْ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ
وَبِالْبَعْثِ عَمَّا قَدْ تَوَلَّيْتُ تُسْأَلُ
وَتَوَقَّفُ لِلْمَظْلُومِ يَأْخُذُ حَقَّهُ
فَيَأْخُذُ يَوْمَ الْعَرْضِ مَا كُنْتُ تَعْمَلُ
وَيَأْخَذُ مِنْ وِرْزٍ لِمَنْ قَدْ ظَلَمْتَه
فَيُوضَعُ فَوْقَ الظُّهْرِ مِنْكَ وَيَجْعَلُ
فَيَأْخُذْ مِنْكَ اللهَ مَظْلَمَةَ الَّذِي
ظَلَمْتَ سَرِيعًا عَاجِلاً لا يُؤَجَّلُ ... ?(5/62)
.. تَفِرُّ مِن الْخَصْمِ الَّذِي قَدْ ظَلَمْتَهُ
وَأَنْتَ مُخَوَّفٌ مُوجَفُ الْقَلْبِ مُوجَلُ
تَفِرُّ فَلا يُغْنِي الْفِرَارُ مِن الْقَضَا
وَإِنْ تَتَوَجَّلْ لا يُفِيدُ التَّوَجُّلُ
فَيَقْتَصُّ مِنْكَ الْحَقَّ مَنْ قَدْ ظَلَمْتَهُ
بَلا رَأْفَةٍ كَلا وَلا مِنْكَ يَخْجَلُ ... ?
وحكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على جدار الحبس:
... أَمَا وَاللهِ إِنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ
وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى الدَّيَّانَ يَوْمَ الدِّينِ نَمْضِي
وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا
غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ
تَنَامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ الْمَنَايَا
تَنَبَهْ لِلْمَنِيَّةِ يَا نَؤُومُ
لَهَوْتَ عَن الْفَنَاءِ وَأَنْتَ تَفْنَى
وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا يَدُومُ
تَرُومُ الْخُلْدُ فِي دَارِ الْمَنَايَا
وَكَمْ قَدْ رَامَ غَيْرُكَ مَا تَرُومُ
سَلِ الأَيَّامَ عَنْ أُمَمٍ تَقَضَّتْ
سَتُخْبِرُكَ الْمَعَالِمُ وَالرُّسُومُ ... ?(5/63)
فأخبر الرشيد بذَلِكَ فَبَكَى بكاءً شديدًا ودعًا أبا العتاهية فأستحله ووهب له ألف دينارٍ لحبسه من غير موجبٍ شرعي.
آخر: ... مَا دَارُ دُنْيَا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ ... وَبِهَا النُّفُوسُ فَرِيسَةُ الأَقْدَارِ
مَا بَيْنَ لَيْلٍ عَاكِفٍ وَنَهَارِهِ ... نَفَسَانِ مُرْتَشِفَانِ لِلأَعْمَارِ
طُولُ الْحَيَاةِ إِذَا مَضَى كَقَصِيرِهَا ... وَاليسْرُ لِلإِنْسَانِ كَالإِعْسَارِ
وَالْعَيْشُ يَعْقِبُ بِالْمَرَارَةِ حُلْوَهُ ... وَالصَّفْوُ فِيهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ
وَكَأَنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرِّدَى ... لِفَنَائِنَا وَطْرًا مِن الأَوْطَارِ
وَالْمَرْءُ كَالطَّيْفِ الْمُطِيفِ وَعُمْرُهُ ... كَالنَّوْمُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالأَسْحَارِ
خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الْخُطُوبُ لِهَوْلِهِ ... أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ
نُلْقِي الصَّوَارِمَ وَالرِّمَاحَ لِهَوْلِهِ ... وَنَلُوذُ مِنْ حَرْبٍ إِلَى اسْتِشْعَارِ
إِنَّ الَّذِينَ بَنُوا مَشِيدًا وَانْثَنَوْا ... يَسْعُونَ سَعْي الْفَاتِكِ الْجَبَّارِ
سَلَبُوا النَّضَارَةَ وَالنَّعِيمَ فَأَصْبَحُوا ... مُتَوَسِّدِينَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ
تَرَكُوا دِيَارَهُمُ عَلَى أَعْدَاهِم ... وَتَوَسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ
خَلَطَ الْحِمَامُ قَوِيَّهمُ بِضَعِيفِهِمْ ... وَغَنِيَّهمُ سَاوَى بِذِي الأَقْتَارِ
وَالْخَوْفُ يُعْجِلُنا عَلَى آثَارِهِمْ ... لا بُدَّ مِنْ صُبْحِ الْمُجِدِّ السَّارِي
وَتَعَاقُبُ الْمَلَوَيْنِ فِينَا نَاثِرٌ ... بِأَكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأَعْمَارِ
اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا حالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا راد لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كُلّ شَيْء قدير وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.(5/64)
موعظة
عباد الله لَقَدْ توعد الله الَّذِينَ يخالفون أمره ويتصرفون عن ذكره ويجترؤن على معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال كثير من النَّاس بعد القرون الأولى عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومأموراته فاجتنبوها ثُمَّ عادوا بمر الشكوى من تغبر الأَحْوَال وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال.
أحسبت أنك يا ابن آدم تهمل وتترك فلا تعاقب، وتظلم وتتقلب في النَّعِيم كيف شئت ولا تحاسب أنسيت قول النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إن ليملي للظَالِم حتى إذا أخذه لم يفلته» . كُلّ هَذَا من جهالتك وانطماس بصيرتك ولكن اعمل ما شئت فسيرى الله عملك ثُمَّ ترد إليه ويجازيك بما تستحق جهلت في حال النَّعِيم وكَانَ الواجب عَلَيْكَ أن تتعرف إِلَى اللهِ في الرخاء ليعرفك في الشدة، ولكن لم تفعل وأصبحت بعد زوالها منك شكو لمن؟ تشكو لمن عصيته بالأمس تشكو لمن خالفت أوامره وفعلت نواهيه مَعَ علمك أنه المنتقم الجبار تشكو لمن حاربته بالمعاصي المتنوعة وقَدْ أسبغ عَلَيْكَ نعمه ظاهرة وباطنة ولو شَاءَ لمنعها عَنْكَ لأنه الفعال لما يريد تشكو لمن تأكل نعمه في أرضه مستعينًا بها على معاصيه أليس عملك هَذَا في منتهى اللآمة والخساسة يمدك بالنعم وتبارزه بالمعاصي ألك صبر على جهنم وزمهريرها ألك طاقة بالويل والغساق والزقوم والحميم والضريع، عباد الله هَذَا الَّذِي نَحْنُ فيه من الانهماك في الدُّنْيَا وقتل كُلّ الوَقْت في جمعها والابتعاد عن الآخِرَة وانتشار المعاصي بسرعة هائلة ما هُوَ والله(5/65)
إِلا بما كسبت أيدينا قال تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآيَة. عباد الله إن غلاء الأسعار، وانتشار الأمراض، وما رأيتم من الفتن والتعقيد في الممتلكات والتقاطع والعقوق ما هُوَ وَاللهِ إِلا جزاء عملنا وما هُوَ إِلا قليل من كثير فقَدْ تمادينا في المعاصي والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب قال صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا أحد أغير من الله» . الْحَدِيث.
تَيَقَنْتُ أَنِّي مُذْنِبٌ وَمُحَاسِبْ
وَلَمْ أَدْرِ هَلْ نَاجٍ أَنَا أَوْ مُعَاقَبُ
وَمَا أَنَا إِلا بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَاقِفٌ
فَإِمَّا سَعِيدٌ أَمْ بِذَنْبِي مُطَالَبُ
وَقَدْ سَبَقْتَ مِنِّي ذُنُوبٌ عَظِيمَةٌ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا تَكُونُ الْعَوَاقِبُ
فَيَا مُنْقِذِ الْغَرْقَى وَيَا كَاشِفَ الْبَلا
وَيَا مَنْ لَهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ مَوَاهِبُ
أَغِثْنَا بِغُفْرَانٍ فَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ
مُجِيبًا لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ ... ?
اللَّهُمَّ أحينا في الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين تائبين واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وعن عَبْد اللهِ بن الزبير بن العوام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير(5/66)
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أي رسول الله أيكرر عَلَيْنَا ما كَانَ بيننا في الدُّنْيَا مَعَ خواص الذُّنُوب؟ قال صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدي إلى كُلّ ذي حق حقه» . قال الزبير: وَاللهِ إن الأَمْر لشديد. رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: ((والَّذِي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحا)) . تفرد به أَحَمَد رَحِمَهُ اللهُ. وفي المسند عن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: رأى النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم شاتين ينتطحان فَقَالَ: «أتدري فيما ينتطحان يا أبا ذر» ؟ قُلْتُ: لا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لكن الله يدري وسيحكم بينهما» .
فتفكر الآن في نفسك إن خلت صحيفتك عن المظَالِم وعفى الله عَنْكَ ورحمك فأيقنت بسعادة الأبد كيف يكون سرورك واغتباطك في منصرفك من فصل الِقَضَاءِ وقَدْ خلع عَلَيْكَ خلعة الرِّضَا وعدت بسعادة لَيْسَ بعدها شقاء ونعم بدنك بنعيم لا يدور بحواشيه الفناء وعَنْدَ ذَلِكَ طار قلبك سرورًا وأنسًا وابتهاجًا وفرحًا وصرت من الحزب الَّذِينَ ابيضت وجوههم واستنارت وأشرقت فتصور مشيك بين الخلائق رافعًا رأسك خَاليًا من الأوزار ظهرك، يعرف في وجهك نضرة النَّعِيم والخلق ينظرون إليك وإلى حالك ويغبطونك في حسنك وجمالك والملائكة يَمْشُونَ بين يديك يبشرونك بما يسرك.
وإن تكن الأخرى والعياذ بِاللهِ بأن خرجت الصحيفة مملؤة من المظَالِم ومقته الله ولعنه ونكس هَذَا المجرم رأسه الوجه أزرق(5/67)
العينين وأخذته الزبانية بناصيته يسحبونه على وجهه على ملأ من الخلق وهم ينظرون إليه وَهُوَ ينادي بالويل والثبور له ولأمثاله {لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فما أعظم جرم من يستتر ويحترز عن ملاء من الخلق خشية الافتضاح عندهم في هذه الدُّنْيَا المضمحلة المنقرضة ثُمَّ لا يخشى من الافتضاح عَنْدَ علام الغيوب وفي ذَلِكَ الملاء العَظِيم مَعَ التعرض لسخط بديع السماوات والأَرْض فالق الحب والنوى.
شِعْرًا: ... تَوَارَى بِجُدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى
وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لَوْ كُنْتَ تُنْظُرُ
وَتَخْشَى عُيُونَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا بِهَا
وَلَمْ تَخْشَ عَيْنَ اللهِ وَاللهُ يَنْظُرُ
آخر: ... يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الأَلِيلِ
وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا
وَالْمُخَّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَلِ
وَيَرَى مَكَانَ الدَّمِ مِنْ أَعْضَائِهَا
مُتَنَقِّلاً مِنْ مَفْصِلٍ فِي مَفْصِلِ
وَيَرَى مَكَانَ الْمَشْيِ مِنْ أَقْدَامِهَا
وَخَطِيضَهَا فِي مَشْيِهَا الْمُسْتَعْجِلِ
وَيَرَى وَيَسْمَعُ حِسَّ مَا هُوَ صَوْتُهَا
فِي قَعْرِ بَحْرٍ غَامِضٍ مُتَجَدْوِلِ ... ?(5/68)
.. أَصْوَاتُهَا مَرْفُوعَةً عَِنْدَ النِّدَا
أَرْزَاقُهَا مَقْسُومَةٌ لِسُّؤَلِ
اغْفِرْ لِعَبْدٍ تَابَ مِنْ فَرَطَاتِهِ
مَا كََانَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ
آخر: ... إِنَّ الْقُلُوبَ يَدُ الْبَارِي تُقَلِّبُهَا
فَاسْأَل مِن اللهِ تَوْفِيقًا وَتَثْبِيتًا
مَنْ يُضلِلِ اللهَ لا تَهْدِيهِ مَوْعِظَةُ
وَإِنْ هَدَاهُ فَلَوْ قَدْ كَانَ عِنْتِيْتَا
فَهَذِهِ غُرْبَةُ الإِسْلامِ أَنْتَ بِهَا ... فَكُنْ صَبُورًا إِذَا فِي اللهِ أَوْذِيتَا
وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ خَيْرًا يَمُنَّ بِهِ ... عَلَيْكَ وَاصْبِرْ وَلَوْ فِي الدِّينِ عُودِيتَا
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَخْلُوقٌ لِطَاعَتِهِ ... فَإِنْ أَجَبْتَ فَلِلْخَيْرَاتِ أُوتِينَا
وَسَوْفَ تَرْضَى غَدًا إِنْ كُنْتَ مُعْتَصِمًا ... بِالْوَاحِدِ الْفَرْدِ لا بِالشِّرْكِ إِنْ جِيتَا
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثَبِّتْ محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(مَوْعِظَةٌ في الحَثِّ عَلى الإقْبَالِ عَلى الآخِرَةِ)
إخواني أين رفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيرانَا أين أصدقاؤنا أين زملاؤنا وأقراننا أين علماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا(5/69)
وأجدادنا رحلوا وَاللهِ بعدهم بقاؤنا هذه مساكنهم فيها غيرهم قَدْ نسيناهم محبهم وجفاهم أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة قبضت عَلَيْهمْ يد الْمَنَايَا فظفرت ونقلوا إلى أجداثٍ ما مهدت إذ حفرت ورحلوا بذنوب لا يدرون هل غفرت أو بقيت فالصحيح مِنْهُمْ بالحزن قَدْ سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم واْلكِتَاب قَدْ سطر بالذُّنُوب فرقم. ولذيذ عيشهم بالتنغيص قَدْ ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قَدْ حتم والولد قَدْ ذل ويتم فتفكروا في القوم كيف رحلوا وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسي المقابر والبلى.
شِعْرًا: ... إِنَّ الْحَبِيبَ مِن الأَحْبَابِ مُخْتَلَسُ ... لا يَمْنَعُ الْمَوْتَ بَوَّابٌ وَلا حَرَسُ
فَكَيْفَ تَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا ... يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفْسُ
أَصْبَحْتَ يَا غَافِلاً فِي النُّقْصِ مُنْغَمِسًا ... وَأَنْتَ دَهْرَكَ فِي اللَّذَاتِ مُنْغَمِسُ
لا يَرْحَمُ الْمَوْتُ ذَا جَهْلٍ لِغَرَّتِهِ ... وَلا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعِلْمُ يُقْتَبَسُ
كَمْ أَخْرَسَ الْمَوْتُ فِي قَبْرٍ وَقَفْتُ بِهِ ... عَنِ الْجَوَابِ لِسَانَا مَا بِهِ خَرْسُ
قَدْ كَانَ قَصْرُكَ مَعْمُورُ لَهُ شَرَفُ ... وَقَبْرُكَ اليوم فِي الأَجْدَاثِ مُنْدَرِسُ
آخر: ... لَنا كُلّ يَومٍ رَنَّةٌ خَلفَ ذاهِبٍ
وَمُسْتَهْلَكٌ بينَ النَوى وَالنَوائِبِ
وَقَلعَةُ إِخْوَان كَانَا وَرَاءَهُمْ
نُرامِقُ أَعْجَازَ النُّجُومِ الغَوَارِبِ ... ?(5/70)
.. نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفًا
نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفًا
وَنَأمُلُ مِن وَعدِ المُنى غَيرَ صادِقٍ
وَنَأمَلُ مِن وَعدِ الرَدى غَيرَ كاذِبِ
إِلى كَم نُمَنّى بِالغُرورِ وَنَنثَني
بِأَعناقِنا لِلمُطمِعاتِ الكَواذِبِ
نُراعُ إِذا ما شيكَ أَخمَصُ بَعضِنا
وَأَقدامُنا ما بَينَ شَوكِ العَقارِبِ
وَنُمشي بِآمالٍ طِوالٍ كَأَنَّنا
أَمِنّا بَناتَ الخَطبِ دونَ المَطالِبِ
نَعَم إِنَّها الدُّنْيَا سِمومٌ لِطاعِمٍ
وَخَوفٌ لِمَطلوبٍ وَهَمٍّ لِطالِبِ
وَإنَا لَنَهواها عَلى الغَدرِ وَالقِلا
وَنَمدَحُها مَع عِلمِنا بِالمَعائِبِ
وَمَن كانت الأَيّامُ ظَهرًا لِرَحلِهِ
فَيا قُربَ ما بَينَ المَدى وَالرَكائِبِ
تَحِلُّ الرَزايا بِالرِجالِ وَتَنجَلي
وَرُبَّ مُصابٍ يمُقْلِعِ عَن مَصائِبِ ... ?
آخر:
عَزّى بَعْضهمْ أخًا فَقَالَ:
... تَصَبَّرْ فَإِنَّ الأَجْرَ أَسْنَى وَأَعْظَمُ ... وَلازِمْ لِمَا يَهْدِي لِمَا هُوَ أَقْوَمُ
وَلَوْ جَازَ فَرْطُ الْحُزْنِ لِلْمَرْءِ لَمْ يُفِدْ ... فَمَا بَالَنَا لا نَسْتَفِيدُو نَأْثَمُ ج(5/71)
وَإِنِّي عَنْ نَدْبِ الأَحِبَّةِ سَاكِتُ ... وَإِنْ كَانَ قَلْبِي بِالأَسَى يَتَكَلَّمُ
وَقَالَ آخر مَاتَ له طفل:
فَإِنْ كُنْتَ تَبْكِيهِ طَلابًا لِنَفْعِهِ ... فَقَدْ نَالَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُسَارِعًا
وَإِنْ كُنْتَ تَبْكِي أَنَّهُ فَاتَ عَوْدُهُ ... عَلَيْكَ بِنَفْعِ فَهُوَ قَدْ صَارَ شَافِعًا
آخر: ... جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبِّهُ ... شَتَّانَ بَيْنَ جَوَارِهِ وَجِوَارِي
اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كُلّ من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلهمنا ذكرك وشكرك وأن تأخذ بنواصينا إلى ما ترضاه وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا وأن تهون أمر الدُّنْيَا عَلَيْنَا وأن تغفر لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) في تحريم القتل وإثُمَّ القاتل
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذُّنُوب وأشد الآثام بل هُوَ أغلظها جميعًا بعد الإشراك بِاللهِ وما زال النَّاس مُنْذُ تكونوا جماعات وظهر فيما بينهم تعارض الرغبات والشهوات وتمكنت بها في النُّفُوس بواعث التعدي يرون أن جريمة القتل من أكبر الجرائم وَذَلِكَ أنها سلب لحياة المجني عَلَيْهِ بغير حق وتيتيم لأولاده وترميل لنسائه وحرمان لأهله وأقاربه وإضاعةً لحقوقه،(5/72)
وقطع لأعمال حَيَاتهُ، والحيلولة بينه وبين التوبة والوصايا وغير ذَلِكَ وإيصال النَّاس حقوقهم إن كَانَ عَلَيْهِ لَهُمْ شَيْء وأَنْتَ إذا تتبعت المعاصي معصية معصية لا تجد لواحدةٍ منها فسادًا يساوي فساد القتل لأن الإِنْسَان إذا مَاتَ ومحي من الوجود ذهب كله ولم يبق ناحية من نواحيه ولَيْسَ ذَلِكَ المعنى في أي معصية ولذَلِكَ كانت هذه الكبيرة تلي الشرك بِاللهِ وورد عن أبي مُوَسى رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلما ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته، فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ ويلبسه التاج» . رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه.
وأيضًا تحد لشعور الجماعة البشرية الَّذِي فطرت عَلَيْهِ من اعتقاد أن الحياة جعلها الله حقًّا لكل حيٍّ يمتع به ولا يجوز انتزاعه منه إِلا بحق شرعي.
وأيضًا جريمة القتل مزعزعة لما ترجو هذه الجماعة، من هدوء الحياة واستقرارها وأيضًا هدم لعمارة شادها الله تتَكُون منها ومن أمثالها العمارة لهَذَا الكون.
وهَذَا القرآن الكريم يحدثنا عن أول اعتداءٍ وقع من الإِنْسَان على أخيه ويصور لنا كيف كَانَ القاتل والمقتول كلاهما يعدان القتل جريمة آثمة تستوجب غضب الله وعقابه وأن القاتل لشعوره بهَذَا كَانَ يعالج في(5/73)
نفسه الأقدام على هذه الجريمة علاج الكاره المتحرج حتى {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وَقَالَ بعض المفسرين علة قوله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} من أجل الاعتداء الَّذِي لا موجب له ولا مبرر على المسالمين الوادعين الَّذِينَ لا يريدون شرًّا ولا مدافعة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أن جريمة قتل نفس واحدة بلا مبرر من قصاص أو دفع لفساد عام كجريمة قتل النَّاس جميعًا وأن حماية نفس واحدة واستحياءها بهذه الحماية في أية صورة من صورها ومنها القصاص كأنها استحياء للناس جميعًا.
ذَلِكَ أن الاعتداء على نفس واحدة هُوَ اعتداء على حق الحياة الَّذِي يصون للناس جميعًا فالاستهتار بهَذَا الحق اعتداء على كُلّ من يدلي به ويتحصن به والمحافظة عَلَيْهِ محافظة على الحق الَّذِي تصان به دماء النَّاس وأرواحهم فلَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تقتل إنما هُوَ حقها في الحياة التي يشاركها فيها النَّاس، ولَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تصان إنما هِيَ كُلّ نفس مستحقة للصيانة بما استحقت به تلك النفس الواحدة. أ. هـ.
وقَدْ اختلف الْعُلَمَاء هل للقاتل من توبة أم ى فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف علماء الكوفة فيها فرحلت إلى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فسألته فَقَالَ: نزلت هذه الآيَة: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} . الآيَة وهي من آخر ما نزل، وما نسخها شَيْء.(5/74)
وعن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عَنْدَ ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عَبْد اللهِ بن عباس ما تَرَى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فَقَالَ: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} قال: أفرَأَيْت إن {تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى والَّذِي نفسي بيده، لَقَدْ سمعت نبيكم صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «ثكلته أمه، قاتل مُؤْمِن متعمدًا، جَاءَ يوم القيامة آخذ بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه في قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيما قتلني» ؟ وأيم الَّذِي نفس عَبْد اللهِ بيده لَقَدْ أنزلت هذه الآيَة فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عَلَيْهِ وسلم وما نزل بعدها من برهان.
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «يجيء المقتول متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذ رأسه بيده فَيَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيم قتلني قال: فَيَقُولُ قتلته لتَكُون العزة لفلان قال: فإنها لَيْسَتْ له بؤ بإثمه قال: فيهوى في النار سبعين خريفًا» .
وعن معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا» . رواه أَحَمَد والنسائي، ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كَذَلِكَ وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من أعان على قتل مُؤْمِن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» .
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(5/75)
(فَصْلٌ)
أخَرَجَ الطبراني في الكبير والضياء في المختَارَّة عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أبى الله أن يجعل لقاتل المُؤْمِن توبة» .
وروي عن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن على الله من قتل مُؤْمِن بغير حق» . رواه ابن ماجة بإسناد حسن. ورواه البيهقي والأصبهاني، وزَادَ فيه: «ولو أن أَهْل سماواته وأَهْل أرضه اشتركوا في دم مُؤْمِن لأدخلهم الله النار» .
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن عَنْدَ الله من قتل رجل مسلم» . رواه مسلم والنسائي والترمذي مرفوعًا وموقوفًا ورجح الموقوف.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء» . رواه البخاري ومسلم وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لن يزال المُؤْمِن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» . وَقَالَ ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إن من ورطات الأمور التي لا مخَرَجَ لمن أوقع نَفْسهُ فيها سفك الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرطهما وروى ابن ماجة عن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: رَأَيْت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يطوف بالكعبة وَيَقُولُ «ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لحرمة المُؤْمِن عَنْدَ الله أعظم من حرمتك ماله ودمه» . وعن أبي سعيد وأَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن رسول الله(5/76)
صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لو أن أَهْل السماء وأَهْل الأَرْض اشتركوا في دم مُؤْمِن لأكبهم الله في النار» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب وروى الطبراني في الصغير من حديث أبي بكرة عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لو أن أَهْل السماوات والأَرْض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار» .
وعن جندب بن عَبْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الْجَنَّة ملء كف من دم امرئ مسلم أن يهريقه، كما يذبح به دجاجة كُلَّما تعرض لباب من أبواب الْجَنَّة حال الله بينه وبينه ومن استطاع منكم أن لا يجعل في بطنه إِلا طيبًا فليفعل فإن ما ينتن من الإِنْسَان بطنه» . رواه الطبراني ورواته ثقات.
وَقَالَ عبد الملك بن مروان كنت أجالس بريرة بالْمَدِينَة فكانت تَقُول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالاً، وإنك لخليق أن تلي الأَمْر فإن وليته فاحذر الدُّنْيَا فإني سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «إن الرجل ليدفع عن باب الْجَنَّة بعد أن ينظر إليها، بملء محجمة من دم يهريقه من مسلم بغير حق» . انتهى.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أبغض النَّاس إِلَى اللهِ ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» . رواه البخاري.(5/77)
قال شيخ الإسلام: أخبر صلى الله عَلَيْهِ وسلم أن أبغض النَّاس إِلَى اللهِ هؤلاء الثلاثة وَذَلِكَ لأن الفساد إما في الدين وإما في الدُّنْيَا فأعظم فساد الدُّنْيَا قتل النُّفُوس بغير حق، ولهَذَا كَانَ أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الَّذِي هُوَ الكفر.
وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا لرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا» . رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده، فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلمًا ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء، فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويلبسه التاج» . رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «يخَرَجَ عنق من النار يتكلم فَيَقُولُ: وكلت اليوم بثلاثةٍ: بكل جبار عنيدٍ ومن جعل مَعَ الله إلهًا آخر ومن قتل نفسًا بغير حق فينطوي عَلَيْهمْ فيقذفهم في حمراء جهنم» . رواه أَحَمَد والبزار.
فَإِيَّاكَ قَتْلُ النَّفْسِ ظُلْمًا لِمُؤْمِنٍ
فَذَلِكَ بَعْدَ الشِّرْكِ كُبْرَى التَفَسُّدِ
كَفَى زَاجِرًا عَنْهُ توعُّدُ قَادِرٍ
بِنَارٍ وَلَعْنٍ ثُمَّ تَخْلِيدِ مُعْتَدِ
فَقَدْ قَالَ عَبْد اللهِ ذُو الْعِلْمِ وَالتُّقَى
بِنَفْيِ مَتَابِ الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ ... ?(5/78)
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وممن يرى أنه لا توبة لقاتل المُؤْمِن عمدًا أَبُو هُرَيْرَةِ وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن والضحاك بن مزاحم نقله ابْن أَبِي حَاتِم عنهم وبالتالي فلو لم يرد في بيان ضخامة هَذَا الذنب ذنب القتل، وعظمه الَّذِي لا يتناهى إِلا قوله تَعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .
لكَانَ فيها كفاية وموعظة وزجر، ففيها من الوعيد الشديد الَّذِي ترجف منه القُلُوب وتنصدع له الأفئدة وينزعج منه أولو العقول، فقرن سُبْحَانَهُ وتَعَالَى القتل بالشرك، وبين أن جزاءه جهنم وأنه خالد فيها وأن مَعَ ذَلِكَ الْعَذَاب والخلود غضب الرب جَلَّ وَعَلا ولم تسكت الآيَة، بل أضافت إلى ذَلِكَ اللعن، وَهُوَ الطرد والإبعاد عن الرحمة ولم تنته الآيَة إلى هَذَا الحد من بيان عظم جزاء القاتل بل صرحت تصريحًا لا خفاء فيه بأن عذاب ذلك القاتل سيكون نوعًا وحده في الشدة لا يماثله عذاب أي معصية ما عدا الشرك، فذنبه أعظم الذُّنُوب وعقوبته أشد العقوبات هَذَا مِمَّا ورد في قتل الإِنْسَان غيره وأما قتل الإِنْسَان نَفْسهُ المعروف عندنا اليوم بالانتحار فهو نوع من قتل النفس التي حرم الله وَهُوَ جدير بأن يكون أفظع أنواع القتل لأن حرض الإِنْسَان على حَيَاتهُ أمر فطري يبعد(5/79)
كل البعد أن تثور عَلَيْهِ عوامل الْغَضَب والانتقام.
ونفس الإِنْسَان لَيْسَتْ ملكًا له فهو لم يخلق نَفْسهُ ولا عضوا من أعضائه، بل ولا خلية من خلاياه، وإنما نَفْسهُ وديعة وأمانة عنده استودعه الله إياه، فلا يجوز له التفريط فيها ولا التصرف فيها إِلا على وفق الشرع فيكف بالاعتداء عَلَيْهَا بالتخلص منها قال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فالمسلم يراد منه أن يكون صلب العود قوي العزم في مواجهة الشدائد ولم يبح له أن يهرب من الحياة، ويخلع ثوبها لبَلاء نزل به، أو أملٍ كَانَ يحلم به فخاب أمله فإن المُؤْمِن خلق للجهاد لا للعقود وللكفاح لا للفرار، وإيمانه بِاللهِ وخلقه يأبيان عَلَيْهِ أن يفر من ميدان الحياة ومعه السِّلاح الَّذِي لا يفل، والذخيرة التي لا تنفد، سلاح الإِيمَان المكين، وذخيرة الخلق المتين الَّذِي استمده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إليك إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفقنا الله وَجَمِيع المسلمين إلى الإقتداء بهما والتمسك بهما علمًا وعملاً.
وإذا كَانَ جزاء من قاتل المُؤْمِن عمدًا ما سمعت فإن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يصور لنا جزاء قاتل نَفْسهُ من ذَلِكَ قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأَ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» . رواه البخاري ومسلم والترمذي وَأَبُو دَاود والنسائي، فهَذَا الْحَدِيث يصرح بالخلود المؤبد في حق قاتل نَفْسهُ ويفيد أن قاتل نَفْسهُ في أي آلة من(5/80)
الآلات القاتلة يعذب نَفْسهُ بتلك الآلة في نار جهنم فيستعملها هناك كما استعملها هنا عِنْدَمَا قتل نَفْسهُ فيجتمَعَ عَلَيْهِ عذابان عذاب النار وعذاب الآلة المذكورة نسأل الله العافية في الدُّنْيَا والآخِرَة وعن وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ والَّذِي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ» . رواه البخاري.
ومن ذَلِكَ ما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَدْ قَاتَلَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى النَّارِ» . فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِين أَنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحة شَدِيدةٌ فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَأَخَذَ ذُبَابَ سَيْفِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . وعن جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كان ممن كان قيلكم رجل به جرح فجزع فاخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات فقال الله بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) وعن جابر بن سمرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رجلاً كانت به جراحة فأتى قرنًا له فأخذ مشقصًا فذبح به نَفْسهُ فلم(5/81)
يصل عَلَيْهِ النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم. رواه ابن حبان في صحيحه.
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا متعمدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْء لَا يَمْلِكُ وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمْ.
وجَاءَ في ترويع المسلم عدة أحاديث كقوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كَانَ أخاه لأبيه وأمه» .
وَقَالَ ?: «من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة» .
وَقَالَ ?: «من أخاف مؤمنًا كَانَ حقًّا على الله ألا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة» .
شِعْرًا: ... فَيَا عَجَبًا نَدْرِي بِنَارٍ وَجَنَّةٍ ... وَلَيْسَ لِذِي نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وَشَوْقٌ وَلا حَيَا ... فَمَاذَا بَقِي فِينَا مِنَ الْخَيْرِ يُذْكَرُ
وَلَيْسَ لِحَرٍّ صَابِرِينَ وَلا بَلَى ... فَكَيْفَ عَلَى النِّيرَانِ يَا قَوْمُ نَصْبِرُ
وَفَوْتُ جِنَانِ الْخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً ... عَلَى تِلْكَ فَلَلْيَسْتَحْسِرِ الْمُتَحَسِّرِ
فَأُفٍّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ ... إِلَى بتْنِهَا نَغْدُوا وَلا نَتَذَبَّرُ
نَبِيعُ خَطِيرًا بِالْحَقِيرِ عِمَايَةً ... وَلَيْسَ لَنَا عَقْلُ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ(5/82)
فَطُوبِي لِمَنْ يُؤْتَى الْقَنَاعَةَ وَالتُّقَى ... وَأَوْقَاتُهُ فِي طَاعَةِ اللهِ يَعْمُرُ
آخر: ... تَوَرَّعْ وَدَعْ مَا أَنْ يَرِيبُك كلّهُ ... جَمِيعًا إِلَى مَا لا يَرِيبِكَ تَسْلَمِ
وَحَافظَ عَلَى أَعْضَائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً ... وَرَاعِ حُقُوَق اللهِ فِي كُلُّ مُسْلِم
وَكُنْ رَاضِيًا بِاللهِ رَبًّا وَحَاكِمًا ... وَفَوّضْ إليه فِي الأُمُورِ وَسَلّم
آخر: ... لِكَسْرَةٌ مَنْ رَغِيفِ الْخُبْزِ تُشْبِعُنِي ... وَشَرْبَةٌ مِنْ قَرَاحٍ الْمَاءِ تُرْوِينِي
وَخِرْقَةٍ مِنْ خَشِينِ الثَّوْبِ تَسْتُرُنيِ ... حَيًّا وَإِنْ مِتُّ تَكْفِينِي لِتَكْفِينِي
لا أَبْتَغِي وَصْلَ مَنْ يَبْغِي مُفَارَقَتِي ... وَلا ألينُ لِمَنْ يَبْتَغِي لِينِي
آخر: ... قَنِعْتُ بِالْقُوتِ فِي زَمَانِي ... وَصُنْتُ نَفْسِي عَنِ الْهَوَانِ
خَوْفًا مِن النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا ... فَضْل فُلانٍ عَلَى فُلانِ
مَنْ كُنْتُ عَنْ مَاله غَنِيًّا ... فَلا أُبَالي إِذَا جَفَانِي
وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ نَقْصٍ ... رَأَيْتُه بِالَّذِي رَآنِي
وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ تَمٍّ ... رَأَيْتُهُ كَامِلَ الْمَعَانِي
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم.
موعظة
عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كُلّ مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وَإِيَّاكَ وما نهاك الله عَنْهُ وحرمه فمتاع الدُّنْيَا قليل؛ أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عَلَيْكَ من الحقوق، وَاحْذَر من(5/83)
ترك الْعَمَل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعْلَمْ أن من ترك الْعَمَل وغلب عَلَيْهِ الكسل حتى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضًا، ولا يلقاه أحد إِلا وكره لقياه قال تَعَالَى حاثًا على طلب الرزق: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} والمُؤْمِن المحترف الكسوب الَّذِي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم عَنْدَ أهله والأولاد وكَانَ نوح وداود يحترفان التجارة ومُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم رعى الغنم، ومُوَسى كَانَ أجيرًا عَنْدَ صَاحِب مدين وكَانَ إدريس خياطًا، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكَانَ السَّلَف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عمالاً مكتسبين فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيفٍ، لا تشغلهم الدُّنْيَا عن الآخِرَة ولا يمنعهم الدين عن طلب الكسب والقيام بالواجبات، وهم مَعَ هذا من أقوى النَّاس توكلاً على الله ورضى بما قدّر وقضاه وهَذَا أمر الله به ورضيه.
شِعْرًا:
لِمَنْ تَطْلُبَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا ... رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ
آخر: ... وَكُنْ بِالَّذِي قَدْ خَطَّ بِاللَّوْحِ رَاضِيًا
فَلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ
وَإِنَّ مَعَ الرِّزْقِ اشْتِرَاطُ الْتِمَاسِهِ
وَقَدْ يَتَعَدَّى إِنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ
فَلَوْ شَاءَ أَلْقَى فِي فَمِّ الطَّيْرِ قُوتَهُ
وَلَكِنَّهُ أَوْحَى إِلَى الطَّيْرِ لَقْطَهُ ... ?(5/84)
آخر: ... وَمَا طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِي ... وَلِمَنْ أَلْقِ دَلْوَكَ بِالدَّلاءِ
تَجِيءُ يِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَورًا ... وَتَجِيءُ بِحَمْأةٍ وَقَلِيلِ مَاءِ
آخر:
لا تَقْعُدَنَّ بِكَسْرِ الْبَيْتِ مُكْتَئِبًا
يَفْنَى زَمَانُكَ بَيْنَ اليأَسِ وَالأَمَلِ
وَاِحْتَلْ لِنَفْسِكَ فِي رِزْقٍ تَعِيشُ بِهِ
فَإِنَّ أَكْثَرَ عَيْشِ النَّاسِ بِالْحِيَلِ
وَلا تَقُلْ إِنَّ رِزْقِي سَوْفَ يُدْرِكُنِي
وَإِنْ قَعَدَتُ فَلَيْسَ الرِّزْقُ كَالأَجَلِ ... ?
اللَّهُمَّ اغفر لنا ولا تعذبنا ووفقنا ولا تخذلنا ولا تسلب الإِيمَان منا لا ملجأ إِلا إليك ولا معول لنا إِلا عَلَيْكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في التحذير من الزنا وآثاره في الدُّنْيَا والآخِرَة
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الله جَلَّ وَعَلا من حكمته ورحمته ركب في الإِنْسَان شهوة الفرج تركيبًا قويًّا وجعل لها عَلَيْهِ سلطة شديدةً فإذا هاجت كانت أشد الشهوات عصيانًا على العقل فلا تقبل منه صرفًا ولا عدلاً فمن لم يجعله الله قوي الإرادة شجاعًا انقاد لها صاغرًا وأطاعها ذليلاً ولولا قوة هذه الشهوة التي جعلها الله وشدة سلطانها على الإِنْسَان لأبى أن يحتمل ما يترتب عَلَيْهَا من(5/85)
مشاق البيتوتة وتكاليف الزوجية وتربية الأولاد والكد والتعب من أجلهم والرضى بالآلام التي تنتابه إذا مرضوا أو أصيبوا بمكروهٍ.
فخلق الله هذه الشهوة من القوة من أوضح الدلالة على قدرة الخالق وكمال علمه وخبرته وجليل حكمته فإن الإِنْسَان مسوق إلى التناسل رغم أنفه ومسخر على احتمال كُلّ ما يترتب عَلَيْهِ من النصب ومَعَ ذَلِكَ فهو راضٍ كُلّ الرِّضَا.
وكَذَلِكَ المرأة لولا ما جعل الله فها من هذه الشهوة القوية ما كانت تستطيع حمل عبء الولادة والحمل ومشاق تربية الأولاد وهم صغار والسهر في الليالي والقيام على حراستهم ودفع الأضرار المكروهة عنهم وهم أطفال صغار واحتمال ما يعتريهم من الآلام وعدم الرَّاحَة وأيضًا فإن الله قَدْ خلق النساء على حالةٍ من الضعف لا يقدرن معها على احتمال تكاليف الحياة ومشاق الجهاد في معتركها.
فسخر الله لهن الرِّجَال يحملون عنهن كُلّ ما يعجزهن عن احتماله في سبيل حياتهن بدافع هذه الشهوة القوية التي أودعها العزيز الحكيم جَلَّ وَعَلا، ولولاها لما كَانَ للنساء هَذَا السُّلْطَان على النُّفُوس.
وإذا علمت ذَلِكَ من أن شهوة الفرج لها من القوة والتأثير هذه المكانة وأنها إنما خلقت لحكمة أرادها الله فاعْلَمْ أن العقل مسئول عن تصريف هذه الشهوة والوقوف معها عَنْدَ الحد الَّذِي خلقت من أجله ولا يتركها تهيج بالوسائل المختلفة بل يجب عَلَيْهِ أن يبعد عن كُلّ المناظر والأسباب التي تحركها وتبعثها إلى ما هُوَ ممنوع شرعًا. والأسباب التي(5/86)
تثير هذه الشهوة وتهيجها منها: النظر، والخلوة بالأجنبية، وحديث النفس، وتقدم الكلام على النظر والخلوة.
وشر مضار شهوة الفرج الزنا واللواط فالزنا اكبر الكبائر بعد الشرك والقتل وَهُوَ فاحشة مهلكة وجريمة موبقة وفساد لا تقف جرائمه عَنْدَ حد ولا تنتهي آثاره ونتائجه إلى غاية وَهُوَ ضلال في الدين وفساد في الأَخْلاق وانتهاك للحرمَاتَ والأعراض واستهتار بالشرف والمروءة، وداعية للبغضاء والعداوة.
وإليك ما قال أحد المتكلمين عَنْهُ: عاره يهدم البيوت الرفيعة ويطأطئ الرؤس العالية ويسود الوجوه البيض ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضًا ويخرس الألسنة البليغة ويبدل أشجع النَّاس من شجاعتهم جبنًا لا يدانيه جبن ويهوي بأطول النَّاس أعناقًا وأسماهم مقامًا وأعرقهم عزًّا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة لَيْسَ لها من قرارٍ.
وَهُوَ أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما تسع ونباهة الذكر مهما بعدت وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كَانَ في بيوتهم لفتة احترامٍ وَهُوَ أي الزنا لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كُلّ صحائفه البيض وتركت العيون لا تَرَى منها إِلا سوادًا حالكًا.
وَهُوَ الذنب الظلوم الَّذِي إن كَانَ في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم بل يمتد شينه إلى من سواها مِنْهُمْ فيشينهن جميعًا شينًا يترك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي وَهُوَ العار الَّذِي يطول عمره طولاً فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعَلَيْهِ. أ. هـ.
وَقَالَ آخر: إن الزنى يحط نَفْسهُ من سماء الفضيلة إلى حضيض الرذيلة ويصبح بمكَانَ من غضب الله ومقته عَظِيم ويكون عَنْدَ الخلق(5/87)
ممقوتًا وفي دنياه مهين الجانب عديم الشرف منحط الكرامة ساقط العدالة تزدريه العامة من الفاسقين وإن كَانَ على أخلاقهم ويسير في ركابهم.
وتبعد عَنْهُ الخاصة من ذوي المروءة والكرامة والشرف، مخافة أن يلوثهم ويعديهم بجربه ولا تقبل روايته ولا تسمَعَ شهادته ولا يرغب في مجاورته بل يبتعد عَنْهُ كُلّ البعد ويكون متهمًا في حركاته وسكناته وَجَمِيع حالاته ولا يرغب في مصادقته ومخالطته ومعاملته.
إن سار قال النَّاس: أين يذهب هَذَا المجرم؟ وإن قعد قَالُوا: لم قعد هَذَا الفاسق في هَذَا المكَانَ وإن صاحبته أو عاملته أخذوك بذنبه ورموك بما رموه به غالبًا وإن جاورته فأعظم النَّاس إخلاصًا لك ومعرفةً بك شك في نزاهتك وأبعد عن زيارتك يخشى أن يظن أنه يريد بيت هَذَا الفاسق ولو جَاءَ إليه لأمر ضروري أكثر التلفت عَسَى أن لا يراه أحد وَهُوَ حول باب هَذَا الدنس النذل المجرم.
وإن مشت معه أنثى من أقاربه ظنوها أجنبية منه جريًا على ما اشتهر به وعلم عَنْهُ وإن جَاءَ إلى بيت إنسان شريف لأمر ضروري اشمأز منه وحرص على التخلص منه بسرعة لا يراه أحد وَهُوَ عَنْدَ بابه وإن مشى مَعَ شريف لحاجة في النَّهَارَ ود الشريف أنه كَانَ بالليل لئلا يراه أحد وَهُوَ يمشي مَعَ هَذَا الدنس العرض الساقط نسأل الله العافية.
اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين، ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمتعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(5/88)
ج
شِعْرًا: ... رَأَيتُكَ فَيْمَا يُخْطِئُ النَّاسُ تَنظُرُ
وَرَأسُكَ مِن مَاءِ الخَطيئةِ يَقْطُرُ
تَوَارَى بِجُدرانِ البُيوتِ عَنِ الوَرى
وَأَنْتَ بِعَينِ اللَهِ لَو كُنتَ تَشعُرُ
وَتَخشى عُيونَ الناسِ أَن يَنظُروا بِها
وَلَم تَخشَ عَينَ اللَهِ وَاللَهُ يَنظُرُ
وَكَمْ مِن قَبيحٍ قَد كَفى اللَهُ شَرَّهُ
أَلا إِنَّهُ يَعفو القَبيحَ وَيَستُرُ
إِلى كَم تَعامى عَن أُمورٍ مِنَ الهُدى
وَأَنْتَ إِذا مَرَّ الهَوى بِكَ تُبصِرُ
إِذا ما دَعاكَ الرُشدُ أَحجَمتَ دونَهُ
وَأَنْتَ إِلى ما قادَكَ الغَيُّ تَبدُرُ
وَلَيْسَ يَقومُ الشُكرُ مِنكَ بِنِعمَةٍ
وَلَكِن عَلَيكَ الشُكرُ إِن كُنتَ تَشكُرُ
وَما كُلُّ ما لَم تَأتِ إِلّا كَما مَضى
مِنَ اللَهوِ في اللَذاتِ إِن كُنتَ تَذكُرُ
وَما هِيَ إِلّا تَرحَةٌ بَعدَ فَرحَةٍ
كَذالِكَ شُربُ الدَهرِ يَصفو وَيَكدُرُ
كَأَنَّ الفَتى المُغتَرَّ لَم يَدرِ أَنَّهُ
تَروحُ عَلَيْهِ الحادِثاتُ وَتَبكُرُ
أَجَدَّكَ أَمّا كُنتَ وَاللَهوُ غالِبٌ
عَلَيكَ وَأَمّا السَهوُ مِنكا فَيَكثُرُ ... ?(5/89)
.. وَأَمّا بَنو الدُّنْيَا فَفي غَفَلاتِهِم
وَأَمّا يَدُ الدُّنْيَا فَتَفري وَتَجزُرُ
وَأَمّا جَميعُ الخَلقِ فيها فَمَيِّتٌ
وَلَكِنَّ آجالاً تَطولُ وَتَقصُرُ
لَهَوتَ وَكَمْ مِن عِبرَةٍ قَد حَضَرتَها
وَأَنْتَ تَرَى في ذَاك أَنَّكَ تَتْجُرُ
خُدِعتَ عَنِ الساعاتِ حَتّى غُبِنتَها
وَغَرَّتكَ أَيّامٌ قِصارٌ وَأَشهُرُ
فَيا بانِيَ الدُّنْيَا لِغَيرِكَ تَبتَني
وَيا عامِرَ الدُّنْيَا لِغَيرِكَ تَعمُرُ
وَمالَكَ إِلّا الصَبرُ وَالبِرُّ عُدَّةٌ
وَإِلا اعتِبارٌ ثاقِبٌ وَتَفَكُّرُ ... ?
وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله إن التوبة من الذُّنُوب مفتاح السعادة في هذه الدار وفي دار القرار، وإنما كانت التوبة كَذَلِكَ لأن بها يغفر الله الذُّنُوب جميعًا لا فرق بين صغارها والكبار ولأن التائب إذا صحت توبته بأن اجتمعت شروطها وانتفت الموانع يصبح التوبة أمينًا على دينه لا يخل بواجب من واجبات الإسلام فتوبوا عباد الله توبة نصوحًا لتستنير قلوبكم وأبدانكم بدل ظلمَاتَ كانت مخيمة عَلَيْهَا تثقلكم عن طاعة مولاكم وستجدون بإذن الله انشراحًا في صدوركم بدل انقباضها وضيقها فإن الذُّنُوب تؤثر على(5/90)
القُلُوب والأبدان انقباضًا يشتد على المصر على الذُّنُوب حتى يضيق به فسيح الأرجَاءَ ولك أيها التائب العامل بالطاعات الأمل القوي بتوالي الطاعات لأن الخيرات تنتج بإذن الله بعضها بعضًا ولك الأمل القوي بأن تنقاد لك الأرزاق بعد أن كانت ممتنعة فتصبح في يسر بعد أن كنت في إعسارٍ ولك الأمل في أن العداوات التي كانت بينك وبين الخلق تصبح بإذن الله حبًّا يلفت الأنظار ذَلِكَ أن الذُّنُوب والمعاصي هِيَ أسباب الشرور والعقوبات المؤلمَاتَ وأن المرء بالتوبة منها يرضي بديع الأَرْض والسماوات فتأكد أيها الأخ أن التوبة هِيَ الينبوع الفياض لكل خَيْر في الدُّنْيَا والآخِرَة فلا تشك في أن الله تَعَالَى يفيض من فضله وجوده ما يفيض على من أخلص الْعَمَل لجلاله فتب أيها الأخ واصدق في التوبة واسأله أن يبلغك بها رضوانه وأن يجعلك من حزبه المفلحين الَّذِينَ {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فتعيش وتموت وتبعث في رعاية ربك ولطفه وغيرك ممن لم يتوبوا في إهانته البالغة يتقلبون فعَلَيْكَ بالاعتماد على الله والتوكل عَلَيْهِ واللجَاءَ إليه دائمًا متضرعًا متملقًا خصوصًا في آخر الليل.
شِعْرًا: ... إِذَا وَجَدَ الإِنْسَان لِلْخَيْرِ فُرْصَةً ... وَلَمْ يَغْتَنِمْهَا فَهُوَ لا شَكَّ خَاسِرُ
وَهَلْ مِثْلَ تَالي اللَّيْلِ لِلْعَفْوِ مَوْسِمُ ... وَلَكِنْ فَأَيْنَ الْعَامِلُ الْمُتَبَادِرُ
شِعْرًا: ... لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا
وَبِتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلاي مَا أَجِدُ
فَقُلْتُ يَا أَمَلِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ
وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَعْتَمِدُ ... ?(5/91)
.. أَشْكُو إليك أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا
مَالي إِلَى حَمْلِهَا صَبْرٌ وَلا جَلَدُ
وقَدْ مَدَدْتُ يَدِي بِالذُّلِّ مُبْتَهِلاً
إليك يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إليه يَدُ
فَلا تَرُدَنَّهَا يَا رَبُّ خَائِبَةً
فَبَحْرُ جُودِكَ يُرْوِي كُلَّ مَنْ يَرِدُ
آخر: ... عَطَاءُ ذِي الْعَرْشِ خَيْرٌ مِنْ عَطَائِكُمُ
وَسَيْبُهُ وَاسِعٌ يُرْجَى وَيَنْتَظَرُ
أَنْتُمْ يُكَدِّرُ مَا تُعْطُونَ مِنَّتُكُمْ
وَاللهُ يُعْطِي وَلا مَنٌّ وَلا كَدَرُ
لا حُكْمَ إِلا لِمَنْ تَمْضِي مَشِيئَتُهُ
لا حُكْمَ إِلا لِمَنْ تَمْضِي مَشِيئَتُهُ
آخر: ... شَادَ الْمُلُوكَ قُصُورَهُمْ فَتَحَصَّنُوا
عَنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةً أَوْ رَاغِبِ
غَالَوْا بِأَبْوَابِ الْحَدِيدِ لِعِزِّهَا
وَتَتَوَّقُوا فِي قُبْحِ وَجْهِ الْحَاجِبِ
فَإِذَا تَلَطَّفَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ
رَاجٍ تَلَقَّوْهُ بِوَعْدٍ كَاذِبِ
فَاقْصِدْ إِلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ وَلا تَكُنْ
يَا ذَا الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِنْ طَالِبِ ... ?
اللَّهُمَّ وفقنا للتوبة النصوح، وَاجْعَلْنَا ممن يغدو مشمرًا في طاعتك(5/92)
ويروح وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ
(أدلة على تحريم الزنا)
قال الله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} .
ومن السنة ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . الْحَدِيث رواه البخاري ومسلم.
عَنْ ابْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . رواه البخاري ومسلم.
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يشهد أن لا إله إِلا الله، وأن محمدًا رسول الله إِلا في إحدى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ فإنه يرجم ورجل خَرَجَ محاربًا لله ولرسوله، فإنه يقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأَرْض أو يقتل نفسًا فيقتل بها» . رواه أبو دلود والنسائي.
عن عثمان بن أبي العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عن رسول الله(5/93)
صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عَنْهُ، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إِلا استجاب الله عَزَّ وَجَلَّ له، إِلا زانية تسعى بفرجها، أو عشارًا» . وفي رواية: «إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إِلا لبغي بفرجها أو عشار» . رواه أَحَمَد والطبراني.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلاعَنَةِ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْء وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إليه احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» . رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه.
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سألت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: أي الذنب أعظم عَنْدَ الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وَهُوَ خلقك» . قُلْتُ: إن ذَلِكَ لعَظِيم، ثُمَّ أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» . قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قال: «أَنْتَ تزاني حليلة جارك» . رواه البخاري ومسلم ورواه الترمذي والنسائي.
وعن المقداد بن الأسود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا» ؟ قَالُوا: حرام حرمه الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فَقَالَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشر نسوةٍ، أيسر عَلَيْهِ من أن(5/94)
يزني بامرأة جاره» . رواه أَحَمَد ورواته ثقات والطبراني في الكبير والأوسط.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا عَنْهُمَا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكَثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: لأنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتَ هَذَا مِنْ مَخَافَةِ اللهِ فَانَا أَحْرَى اذْهَبِي فََلِكَ مَا أَعْطَيْتُكَ وَوَاللَّهِ لَا أَعْصِيهِ بَعْدَهَا أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ فَعَجَبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا ظهر الزنا والربا في قوم، فقَدْ أحلوا بأنفسهم عذابًا» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ إِلَّا وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ، حَتَّىَ يَرْضَى» . ثُمَّ الْتَفَتَ إلينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «فَمَا ظَنُّكُمْ» ؟ رواه مسلم وَأَبُو دَاود.(5/95)
وروى أبو يعلى وأَحَمَد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من حديث: «وَمَنْ مَاتَ مُدْمِنُ خَمْرْ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ» . قِيلَ: وَمَا نَهْرُ الْغُوطَةِ؟ قَالَ: «نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِمْ» .
شِعْرًا: ... تَبِيتُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَسَاوِي ... فَأَنْتَ بِغَفْلَةٍ وَاللهِ بِتَّا
يُدِيمُ عَلَيْكَ إِحْسَانًا وَفَضْلاً ... وَأَنْتَ تُدِيمُ لُؤْمًا أَيْنَ كُنْتَا
وَبِالْعِصْيَانِ تَخْطُر بِاخْتِيَالٍ ... سَكَرْتَ مِنَ الْغُرُور وَمَا صَحَوْتَا
أَفِقْ مِنْ غَفْلَةٍ وَأَنِبْ لِرَبَّ ... تَنَلْ مِنْهُ السَّمَاحَ إِذَا أَنَبْتَا
وَتَظْفَرُ بِالْقُبُولِ وَبِالأَمَانِي ... وَفِي الدَّارَيْنِ بِالإِسْعَادِ فُزْتَا
اللَّهُمَّ ارحم غربتنا في القبور وآمنا يوم البعث والنشور وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ
عباد الله كلنا يعلم أن الزنا من كبائر الذُّنُوب وأن فيه فسادًا للزاني والزانية أما فساده للزانية فهو واضح لأنها بذَلِكَ الجرم العَظِيم - جرم الزنا - تجد حلاوة فتفسد كُلّ من اتصل بها، فيصبحون في تعلقهم بالنساء كالكلب المسعور هَذَا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى تفسد فراش زوجها إن كَانَ ذات زوجٍ وَرُبَّمَا أدخلت عَلَيْهِ أولادًا من الزناة ينفق عَلَيْهمْ طول حَيَاتهُ ويرثون منه بعد وفاته، ويتفوظون حرم الزوج، وَرُبَّمَا تولوا عقَدْ نكاح لهن، أو صاروا محارم لهن في حج، أو نحو ذَلِكَ نسأل الله العافية ومن جهة فساد الزاني فإنه بالزنا ينكلب ويتولع فيه، وكل أنثى يتعدى عَلَيْهَا يحلو لها هَذَا السفاح فنفسد كالأولى كثيرين من الناس(5/96)
تنبهوا بعد أن كَانُوا غافلين فيفسدون من النساء كثيرات وهكَذَا فالواني لص يسرق ثروة النَّاس في حياتهم وبعد الْمَمَات بما يدخله عَلَيْهمْ من أولاد يعولونهم وإن كانت المرأة التي تعدى عَلَيْهَا غير متزوجة فقَدْ أفسد حياتها بهتك عرضها وصرف أنظار راغبي الزواج عَنْهَا فتعيش بعد جرم الزنا عيشة ذل وهوان لا زوج يحصنها ولا عائل يعولها هَذَا مضافًا إلى سوء السمعة وإلى الجناية على شرفها وأهلها فيقفون منه موقف الانتقام غالبًا وَرُبَّمَا قضوا عَلَيْهِ أو على ابنتهم وإن لم يقضوا وثَبِّتْ ذَلِكَ بطرق الشرع فإما جلد مائة وإما رجم يؤدي بالنفسين، هَذَا عاقبة هذه الكبيرة عصمنا الله وإياكم منها ومِنْ جَمِيعِ المعاصي فعلى الإِنْسَان أن يفكر ويعرف عواقب الجنايات على الأعراض ليحذر ويحذر عَنْهَا أجنبية أو قريبة ولا ادري كيف يقدم الزاني على الزنا وَهُوَ يؤمن أن الله مطلع عَلَيْهِ لا تخفى عَلَيْهِ منه خافية وأن جزاءه إن لم يتب توبةً نصوحًا الهاوية نسال الله السلامة منها ولا أدري كيف يزني وَهُوَ لا يشك أنه سيجازى على فعله في الدُّنْيَا قبل الآخِرَة ومن كَانَ الزنا من أعماله فلا يؤمن حتى على محارمه ولا يرغب في مصاهرته ولا مجاورته ولا مشاركته ولا معاملته ولا الإجتماع معه في محل عمله قال الله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقَدْ أحلوا بأنفسهم عذاب الله» . رواه الحاكم اللَّهُمَّ احمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مُحَمَّد اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأرض اللَّهُمَّ وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا(5/97)
بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ
ومن مضار الزنا وآثاره السيئة في المجتمَعَ الإنساني ضياع النسل والجناية عَلَيْهِ فالزاني والزانية لو أدركا متا قَدْ يترتب على زنيتهما التي تنقضي على الفور من الآثام والشرور لهان عَلَيْهِمَا أن ينفيا من الوجود ولا يرتكبا تك الجريمة الشنعاء فقَدْ يترتب على عملهما وجود ولدٍ قَدْ تخنقه تلك الفاسقة في مهده وتسقطه جنينًا.
وقَدْ تلده إنسانَا كاملاً ثُمَّ تطرحه في شارع أو مسجد أو نحو ذَلِكَ معرضًا لمحن الحياة ومصائب الليالي والأيام لا يعرف له أمًا تحنو عَلَيْهِ ولا أبًا يرحم طفولته، ويحفل بتربيته، وقَدْ يؤول إلى حضانة إنسان غير مستقيم فيربيه على غير دين الإسلام أو على أَخْلاق فاسدة فينشأ عضوًا ضارًا بالمجتمَعَ الإنساني وَذَلِكَ بَلاء عَظِيم وضرر مبين.
فإن كانت المزني بها ذات زوج كانت خيانتها أشد وجنايتها أعظم فإنها تدخل عنصرًا غريبًا بين أبنائها تغش به زوجها فيربى غير بنيه يكد يومه ويسهر ليله لينفق على من ظنه له ولدًا وَهُوَ في الحَقِيقَة لَيْسَ له أبًا وقد يكون هذا الولد الذي أدخل على هذا الإنسان نكبة على الأسرة بتمامها فإنه قَدْ ينزع إلى أبيه الحقيق ويتبعه في أخلاقه وفساده وإجرامه فيفسد على الإِنْسَان الأسرة بأكملها.
وإن كانت غير متزوجة فإن هَذَا الفاسق المتعدي تعدى على شرفها وعائلتها وأقاربها، فأفسد حياتهم، وأهان كرامتها، وأساء(5/98)
سمعتها وسمعتهم وعرضها للقتل أو للعقوبة الشديدة أو عرض عرضها للسقوط في بوءةٍ لا ينقذها منها إِلا الموت فإن قتلت فهو السبب الأول في قتلها، وإن أسقطت فهو الجاني، والإثُمَّ أوله وآخره، قَدْ نال منه ذَلِكَ الغادر المعتدي الحظ الأوفر.
ولو قيل لهَذَا المجرم الفاسق هل ترضى عملك أن يعمل في بناتك وأخوتك لبطش بالقائل إن كَانَ ضعيفًا يقدر على الانتقام منه والنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه» . رواه البخاري فما أبعد هَذَا المعتدي عن الْعَمَل بهَذَا الْحَدِيث.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ؟ فَقَالَ: «أدْنُهْ» . فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ: «اجْلِسْ» . فَجَلَسَ فَقَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» . قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْء. وورد عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عَنْدَ الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» .(5/99)
ومن مضار الزنا أن هَذَا الولد المدخل على البريء منه يرث من ماله ويكون محرمًا لبناته وزوجاته ولا يحتجبن عَنْهُ.
ومن مضاره أنه إضاعة للمال الَّذِي نهي عن إضاعته.
ومن مضاره اختلاط الأنساب وإفساد الأَخْلاق وأنه يفضى إلى فناء الأمة وأنه يدعو إلى الشقاق والفساد وأنه يوقع في الأمراض وينشرها ومن آثاره السيئة على البدن السيلان والسل الرئوي، والزهري والتشويش والقروح الأكالة.
ومن آثاره السيئة أنه يصرف الْقَلْب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه.
ومن ذَلِكَ أنه يعمي الْقَلْب ويطمس نوره وأنه يحقر النفس ويقمعها وأنه يسقط كرامة الإِنْسَان عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه وأنه يؤثر في نقصان العقل وانه يمحق بركة العمر وأنه يضعف في الْقَلْب تعَظِيم الله ومثله سائر المعاصي نسأل الله العفو والمعافاة من ذَلِكَ كله.
وَالسِّرّ في كثرة الزنا إلى هَذَا الحد موت غيرة كثير من النَّاس على نسائهم لا يبالون بهن ولا تتحرك مِنْهُمْ شعرة غيرة وحمية، يدلك على ذَلِكَ أن الرجل يرى امرأته بعينيه تتزين وتخَرَجَ من بيته إلى حيث لا يعلم ليلاً ونهارًا وتركب مَعَ أي سائق شاءت، وتدخل على أي خياط أرادت وتذهب إلى أي دكتورٍ باسم الكشف والعلاج وزوجها مشغول بدنياه لا يهتم لها تَرَى في خروجها رجالاً أجمل منه وأقوى منه وأنظف منه.
وَمِنْهُمْ الأفصح الأحلى كلامًا منه وهَذَا يحادثها وذاك يسامرها وقل -(5/100)
ولا تبال -: إن بَعْضهمْ يغازلها، وكثيرًا ما تمتد إليها الأيدي الخائنة فهل هِيَ حجر كلا إنها بشر وناقصة عقل ودين فقل من تقوى على الوقوف أمام شهواتها فلا تقف مخافة الله بينها وبين هيجانها الحيواني.
بل الرجل الَّذِي هُوَ أقوى منها عقلاً ودينًا لا يستطيع أن يقف أمام نَفْسهُ إذا هاجت وطلبت هَذَا الشَيْء وأصبحت تشعر بلذة لم تشعر بها في حياتها. أما البكر فواضح وأما المتزوجة فإن لذة الحلال عندها ناقصة لا تساوي لذة الحرام ولا تدانيها فإن الممنوع أحب وألذ كما قيل:
وَزَادَنِي كَلَفًا فِي الْحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ
أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الإِنْسَانِ مَا مُنِعَا ... ?
لاسيما وإبلَيْسَ يساعد عَلَيْهِ والنفس الأمارة بالسُّوء والهوى. فإذا ذاقت هذه اللذة الجديدة اشتد حرصها عَلَيْهَا كُلّ وَقْت وحينئذ تَكُون هِيَ الطالبة لا المطلوبة فتصبح تفتك بالرِّجَال فتكًا وكل رجل يزني ينكلب فيفتك النساء.
وكل امرأة يفتك بها الرجل تنكلب فتفك بالرِّجَال ويكون في هَذَا من الفساد في الأَرْض ما لا يعلم مداه إِلا الله وفي هذه الجيوش الفاسدة الجرب من الأمراض المختلفة والأوباء الكثيرة ما لا يعلم له قدر ولا حصر وباختلاطهم والحال هذه تسري أمراضهم إلى الأصحاء نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها وأن يقمَعَ أهلها والراضين بها والقادرين على إزالتها ولم يزيلوها.(5/101)
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللَّهُمَّ ثبتنا على الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أَنْتَ الوهاب، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الزنا أعاذنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين منه تختلف درجاته في غلظه فلَيْسَ الزنا في امرأة الكافر المحارب مثله في امرأة المعاهد ولَيْسَ هُوَ في امرأة المعاهد مثله في امرأة المسلم ولَيْسَ هُوَ في امرأة المسلم الَّذِي لَيْسَ لك بجار مثله في امرأ الجارة ولَيْسَ هُوَ في امرأة الجار مثله في امرأة الجار القريب منك وامرأة الأقرب أشد من امرأة القريب وامرأة المجاهد أشد من امرأة غيره وغير ذات الزوج لَيْسَ الزنا بها كالزنا بذات الزوج وهكَذَا تتفاوت درجاته.
وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: وأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جاره فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما ينتهكه من الحرمة، فالزنا بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثمًا وعقوبة من التي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه وتعليق نسب غيره عَلَيْهِ وغير ذَلِكَ من أنواع أذاه فهو أعظم إثمًا وجرمًا من الزنا بغير ذات البعل، فإن كَانَ زوجها جارًا له إنضاف إلى ذَلِكَ سوء الجوار.
وقَدْ ثَبِّتْ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «لا يدخل الْجَنَّة(5/102)
من لا يأمن جاره بوائقه» . ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأته فالزنا بمائة امرأةٍ لا زوج لها أيسر عَنْدَ الله من الزنا بامرأة الجار فإن كَانَ الجار أخًا له أو قريبًا من أقاربه انضم إلى ذَلِكَ قطيعة الرحم فيتضاعف الإثُمَّ فإن كَانَ الجار غائبًا في طاعة الله كالصَّلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف الإثُمَّ.
حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة ويُقَالُ خذ من حسناته ما شئت قال النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «فما ظنكم» ؟ أي ما ظنكم أن يترك له من حسنات قَدْ حكم في أن يأخذ منها ما شَاءَ على شدة الحاجة إلى حسنةٍ واحدةٍ حيث لا يترك الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقًّا يجب عَلَيْهِ.
فإن اتفق أن تَكُون المرأة رحمًا منه إنصاف إلى ذَلِكَ قطيعة رحمها فإن اتفق أن يكون الزاني محصنًا كَانَ الإثُمَّ أعظم فإن كَانَ شيخًا كَانَ أعظم إثمًا وَهُوَ أحد الثلاثة الَّذِينَ {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ} فإن اقترن بذَلِكَ وقوعه في شهرٍ حرامٍ، أو بلدٍ حرامٍ، أو وقتٍ معظمٌ عَنْدَ اللهِ كأوقات الصلواتِ وأوقات الإجابة تضاعف الإثُمَّ والعقوبة وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العَالِم فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها زوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين النَّاس وإن حملت من الزنا، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله(5/103)
أجنبيًا لَيْسَ مِنْهُمْ فورثهم ولَيْسَ مِنْهُمْ ورآهم وخلا بِهُمْ وانتسب إليهم ولَيْسَ مِنْهُمْ وأما زنا الرجل فإنه يوَجَدَ اختلاط الأنساب أيضًا وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ففي هذه الكبيرة خراب الدُّنْيَا والدين.
ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين النَّاس.
ومن خاصيته أيضًا أنه يشتت الْقَلْب ويمرضه ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان فلَيْسَ بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهَذَا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ الْعَبْد أن امرأته أو حرمته قتلت كَانَ أسهل عَلَيْهِ من أن يبلغه أنها زنت.
وفي الصحيحين من خطبة النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: «يا أمة مُحَمَّد، وَاللهِ إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمدٍ، وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» ثُمَّ رفع يديه فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هل بلغت» .
وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله فظهور الزنا من أمارات خراب العَالِم وَهُوَ من أشراط الساعة كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: لأحدثكم حديثًا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجل وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد وقَدْ جرت سنة الله سُبْحَانَهُ في خلقه أنه عَنْدَ ظهور الزنا يغضب(5/104)
الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ويشتد غضبه فَلا بُدَّ أن يؤثر غضبه في الأَرْض عقوبة» .
وخص سُبْحَانَهُ حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص، أحدها القتل فإنه أبشع القتلات وحيث خففه فقَدْ جمَعَ فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى الْقَلْب بتغريبه عن وطنه سنة، الثاني أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد عَلَيْهمْ.
الثالث: أنه سُبْحَانَهُ أمر أن يكون حدهما بمشهد من الْمُؤْمِنِين فلا يكون في خلوة حيث لا يراهما أحد وَذَلِكَ أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر.
ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى الوقوع في هذه المعصية خروج النساء إلى الأسواق متبرجات لسان حالهن يدعو إليهن الفسقة فخروجهن في هَذَا الزمان إلى الأسواق خطر عليهن من أكبر الأخطار فقل أن تسلم المرأة من التعرض لها إذا خرجت قولاً أو فعلاً وقَدْ يكون معها أبوها أو أخوها ولا تسلم من الاعتداء.
ومن الأسباب دخول الجانب على المرأة فإن الأجنبي إذا وقعت عينه على المرأة فأعجبته أو أعجبها كَانَ وراء ذَلِكَ الأمور التي تخشى عواقبها وأخطر الأجانب على المرأة أقارب زوجها وأقارب أبويها فَإِنَّهُمْ يترددون غالبًا وَرُبَّمَا كَانَ يجمعهم بيت واحدٌ وتَارَّة تَكُون وحدها في البيت عَنْدَ دخول أحدهم.
وفي ظِلّ ذَلِكَ التردد والتزاور والاجتماع يكون ما يكون مَعَ الدوام(5/105)
والاستمرار ومن الأسباب وجود الخدامين والخدامَاتَ والمربيات والسواقين والطباخين والخيطاطين والخياطات ونحو ذَلِكَ.
ومن الأسباب تأخَيْر من بلغ من الشابات والشبان فإنه بمجرد بلوغه تهيج عَلَيْهِ الشهوة هيجان النيران فإذا لم يكن بجانبه حلال يطفئ ذَلِكَ الهيجان رما أطفأه بما يعقب له العار في الدُّنْيَا ويعقبه في الآخِرَة إن لم يتب النار.
ومن تلك الأسباب اعوجاج الأزواج وخيانتهم بالاتصال بغيرهن على غير الوجه الشرعي فإن المرأة إذا علمت أن زوجها أصبح لغيرها أصبحت لغيره مقلدة له في ذَلِكَ ومتبعة لطريقته فسفلت فباعت عرضها تسفلاً منها وانتقامًا من زوجها الَّذِي فتح أمامها باب الإثُمَّ وسار أمامها في مهاوي الخطيئة والمرأة غالبًا على دين زوجها، أفلا يكون هَذَا الرجل هُوَ الفاسق الآثُمَّ لأنه الَّذِي سن لها هذه السنة السيئة ومن سن سنة سيئة فعَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وَرُبَّمَا كَانَ مثالاً سيئًا يقتدى به في ذَلِكَ وَرُبَّمَا قلدته بناته وأولاده وأخواته وقديمًا قيل في الزوجة.
... لا تَطّلِعْ مِنْكَ عَلَى رَيْبَةٍ
فَيَتْبَعُ الْمَقْرُونُ حَبْلَ الْقَرِينِ ... ?
آخر: ... وَلا تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا ... فَإِنَّ خَلائِقَ الْفُسَّاقِ تُعْدِي
وروى القاسم بن بشير في أماليه وابن عدي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مرفوعًا: عفوا تعف نساؤكم» . وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من ستر عورة أخيه ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة(5/106)
أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها» . قال بَعْضهمْ:
يَا هَاتِكًا حَرَمَ الرِّجَالِ وَتَابِعًا
طُرُقَ الْفَنَادِ فَأَنْتَ غَيْرُ مُكَرَّمِ
مَنْ يَزْنِ فِي قَوْمٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمْ
فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ
إِنَّ الزِّنَا دِينٌ إِذَا اسْتَقْرَضْتَهُ
كَانَ الْوَفَاءُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ ... ?
وإنه لينذر جدًا أن تَرَى فاجرًا من بيت عفيف أو عفيفًا من بيتٍ فاجر وإن وَجَدَ ذَلِكَ على ندرته فَلا بُدَّ وَاللهُ أَعْلَمُ أن يكون من تأثير بيئة أخرى غير بيئة المنزل التي هِيَ المزرعة الأولى لبذور الأَخْلاق.
شِعْرًا: ... أَرَى صَاحِبَ النِّسْوَانِ يَحْسَبُ أَنَّهَا ... سَوَاءٌ وَبُونٌ بَيْنَهُنَّ بَعِيدُ
فَمِنْهُنَّ جَنَّاتٌ يَفِيءُ ضَلالُهَا ... وَمِنْهُنَّ نِيْرَاةٌ لَهُنَّ وَقُودُ
آخر: ... بَعْضُ النِّسَاءِ وَإِنْ عُرِفْنَ بِعِفَّمةٍ ... جِيَفٌ عَلَيْهِنَّ النُّسُورُ الْحُوَّمُ
اليوم عِنْدَكَ جِيدُهَا وَحَدِيثُهَا ... وَغَدًا لِغَيْرِكَ عَطْفُهَا وَالْمُعْصَمُ
كَالْخَانِ تَنْزِلُهُ وَتَصْبِحُ رَاحِلاً ... عَنْهُ وَيَنْزِلُ فِيهَا مَنْ لا يَعْلَمُ
وأولى النَّاس بالعفة والحرص على التحلي بفضيلتها والابتعاد عن مواقع الريب هم الْعُلَمَاء والعظماء لأنهم قدوة يقتدى بِهُمْ.
أقوالهم مأثورة، وأفعالهم منظورة، وهفواتهم عظائم، وزلاتهم من أكبر الجرائم فعَلَيْهمْ أن يعرفوا أقدار أنفسهم ويقدروا لها موضعها من الكرامة.(5/107)
أَدْرِكُوا الْعِلْمَ وَصُونُوا أَهْلَهُ ... عَنْ ظَلُومٍ حَادَ عَنْ تَبْجِيلِهِ
إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْعِلْمِ مَنْ ... سَهِرَتَ عَيْنَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ
آخر: ... يَا خَائِفَ الْمَوْتِ لَو أَمْسَيْتَ خائِفَهُ
كانت دُمُوعُكَ طُولَ الدَّهْرِ تَنْبَجِسُ
أَمَا يَهُولُكَ يَومٌ لا دِفَاعَ لَهُ
إِذْ أَنْتَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسُ
أَمَا تَهُولُكَ كَأسٌ أَنْتَ شارِبُها
وَالْعَقْلُ مِنْكَ لِكُوبِ الْمَوْتِ مُلْتَبِسُ
لِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الأَقْوَامُ كُلُّهُمْ
وَلِلْبِلَى كُلُّ مَا بَنُوا وَمَا غَرَسُوا
إِيّاكَ إِيّاكَ وَالدُّنْيَا وَلَذَّتَها
فَالْمَوتُ فِيهَا لِخَلْقِ اللهِ مُفْتَرِسُ
إِنَّ الْخَلائِقَ فِي الدُّنْيَا لَوِ اجتَهَدوا
أَنْ يَحبِسُوا عَنْكَ هَذَا الْمَوْتَ ما حَبَسُوا
إِنَّ الْمَنِيَّةَ حَوْضٌ أَنْتَ تَكرَهُهُ
وَأَنْتَ عَمّا قَليلِ سَوْفَ تَنغَمِسُ
ما لي رَأَيتُ بَني الدُّنْيَا قَدِ اِفتَتَنوا
كَأَنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا لَهُمْ عُرُسُ
إِذَا وَصَفْتُ لَهُم دُنْيَاهُمُ ضَحِكوا
وَإِن وَصَفْتُ لَهُمْ أُخْرَاهُمُ عَبَسُوا
مَا لِي رَأَيْتُ بَنِي الدُّنْيَا وَإِخْوَتِهَا
كَأَنَّهُم لِكِتَابِ اللهِ مَا دَرَسُوا ... ?(5/108)
اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين وخصنا بالتَّوْفِيق المبين وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ من المخلصين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون.
اللَّهُمَّ وفقنا للعمل بما يرضيك وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فصل في إثُمَّ فاحشة اللواط
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه وجنبنا وَإِيَّاكَ ما يكرهه ولا يرضاه أن اللواط رذيلة من أسوء الرذائل وخصلة من شر الخصال التي لا تليق بالإِنْسَان فإن الله خلق الإِنْسَان من ذكر وأنثى وجعل الأنثى محلاً لِقَضَاءِ الشهوة ومَكَانًا لذَلِكَ الْعَمَل الْخَاص فهو مسوق بفطرته إلى ذَلِكَ المعنى.
واللواط - أعاذنا الله وَإِيَّاكَ منه - خروج عن ذَلِكَ، واعتداءٌ صريح على الطبيعة التي ركبها الله وَذَلِكَ شر وبيل وفساد كبير وفيه عار الزنا وإثمه وعقابه بل هُوَ أشد عارًا أعظم إجرامًا ونَحْنُ بالبداهة ندرك أن عار امرأة يزنى بها لَيْسَ كعار رجل يلاط به كما أن احتقارنا وبغضنا إياها مهما كَانَ شديدًا أخف على كُلّ حال من نفرتنا من اللوطي ومقتنا له.
والسبب في هَذَا أن الزنا وإن خالف مقتضى الشرعة لم يخالف مقتضى الطبيعة التي ركبها الله في الإِنْسَان بخلاف اللواط فقَدْ خالف مقتضى الشريعة والطبيعة معًا. وقَدْ أجمَعَ أَهْل العلم على تحريم اللواط وقَدْ ذمه الله تَعَالَى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم.
قال الله تَعَالَى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(5/109)
وفي قصة قوم لوط يبدو انحراف الفطرة واضحًا حتى لأن لوطًا ليجيبهم بأنهم بدع دون خلق الله فيها وأنهم في هَذَا الانحراف الشنيع غير مسبوقين.
قال عمرو بن دينار في قوله تَعَالَى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} قال: ما نزل ذكر على ذكر حتى كَانَ قوم لوط. وَقَالَ الوليد ابن عبد الملك لولا أن الله عَزَّ وَجَلَّ قص عَلَيْنَا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.
وعجب أن نرى تلك العادة الشائنة القبيحة تنتقل من أولئك الأَشْرَار الَّذِينَ خسف الله بِهُمْ إلى غيرهم من النوع الإنساني مَعَ إنها لم تكد توَجَدَ في الحيوانات الأخرى فإنك لا تكاد تجد حيوانَا من الذكور يأتي ذكرًا مثله اللَّهُمَّ إِلا قليلاً نادرًا كبعض الحمر الأهلية وإلى ذَلِكَ تشير الآيَة الكريمة فإنه تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: إن تلك الفاحشة لم يسبقكم بها أحد من العالمين والعَالِم كُلّ ما سِوَى الله فيشمل الإِنْسَان والْحَيَوَان قال في كتاب الأَخْلاق الدينية.
وإذا كَانَ الإِنْسَان تسوقه شهوته إلى أن يفعل ما تأباه نفوس الحيوانات العجماء فماذا يكون حاله أليس من أكبر المصائب أن تنحط درجة الإِنْسَان في شهوة الفرج عن درجة الْحَيَوَان.
اللَّهُمَّ إن في ذَلِكَ من الخزي والعار ما لا تطيقه النُّفُوس الكريمة ولا تحتمله الطباع السليمة فلو لم يكن في رذيلة اللواط سِوَى ذَلِكَ لكفى بها ذمًا يصرف النَّاس عَنْهَا ويزهدهم فيها ولكنها فوق ذَلِكَ يترتب عَلَيْهَا من المضار والمفاسد ما يؤذي المجتمَعَ الإنساني.
وإليك البيان. أولاً: إذا فشت تلك العادة في أمة من الأمم وأصبحت(5/110)
داء خلقيًّا فيها لا تلبث أن تتعرض للفناء بانقراض نسلها ولو بعد حين لأن الرِّجَال فيها تنصرف عن النساء، فيقل النسل تدريجيًا وتنقرض الأمة فِي وَقْت ما.
ثانيًا: أنم اللائط يستغني بالذكر عن المرأة فإن كَانَ متزوجًا يهمل زوجته، فيعرضها للخنا والفساد، وإن كَانَ أعزب، لم يفكر في الحصول على زواج وإذا عمت اللواطية أمة استغنت رجالها عن نسائها وأصبحت النساء ضائعات لا يجدن موئلاً ولا يظفرن بمعين يرحم ضعفهن وفي ذَلِكَ من الخطر الاجتماعي والعمراني ما فيه.
وَقَالَ: فداء اللواطية ماله الانصراف عن النساء ومَعَ ذَلِكَ فإن إتيان النساء في غير محل الولادة عادة مرذولة يترتب عَلَيْهَا ضياع النسل كما قدمنا.
ثالثًا: أن اللائط لا يبالي أن يستهوي الأحداث الَّذِينَ لا يدركون العار ولا يعرفون الفضيحة فيمرنهم على فساد الأَخْلاق ويولد عندهم ذَلِكَ الداء فإذا ما بلغوا حد الرجولة وجدوا أنفسهم منغمسين في الرذيلة فيضيع الحياء من وجوههم ولا يبالون بارتكاب الجرائم الأخلاقية، ولا يتعففون عن المحرمَاتَ الدنيئة ويكون ذَلِكَ الوزر في عنق اللائط الَّذِي عمل على إفساد أخلاقهم وكَانَ سببًا في انتزاع ماء الحياء من وجوههم وَذَلِكَ عَظِيم عَنْدَ الله تَعَالَى ومن يفعله يضاعف له الْعَذَاب يوم القيامة لأن عَلَيْهِ ورزين وزر ذَلِكَ الْعَمَل الشائن ووزر إفساد الغلام الَّذِي لم يكلف لتلك الشهوة الفاسدة التي تخلف وراءها ذَلِكَ البَلاء المبين. أ. هـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى.
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا(5/111)
وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ: والدَلِيل من السنة على تحريم اللواط وعظم جرمه وعقوبة فاعله قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي.
عَنْ جَابِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ» . رواه ابن ماجة والترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط» . رواه النسائي وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: إن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً، أو امرأة في دبرها» . رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، ومِمَّا جَاءَ في إتيان النساء في أدبارهن ما يلي.
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «هِيَ اللوطية الصغرى يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها. وعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . رواه أَحَمَد والبزار ورجالهما رِجَال الصحيح.
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قال: عشر خصال من أعمال قوم لوط: تصفيف الشعر، وحل الإزار، ورمي البندق، والخذف بالحصا، واللعب بالحمام الطيارة، والصفير بالأصابع، وفرقعة الأكعب، وإسبال الإزار، وحل أزر الأقبية، وإدمان شرب الخمر، وإتيان الذكور وستزيد(5/112)
عَلَيْهَا هذه الأمة مساحقة النساء في أدبارهن» . رواه أبو يعلى بإسناد جيد وروي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «ثلاثة لا تقبل لَهُمْ شهادة أن لا إله إِلا الله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر» . حديث غريب جدًا رواه الطبراني في الأوسط. وعن جابر رض الله عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم نهى عن محاش النساء. رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات. وروى ابن ماجة والبيهقي كلاهما عن الحارث بن مخلدة عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجل جامَعَ امرأة في دبرها» . وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه كفر بما أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم» . وعن مجاهد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: من أتى صبيًا فقَدْ كفر.
وروي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من مَاتَ من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله تَعَالَى إليهم حتى يحشره معهم» . وخَرَجَ الطبراني من حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال فيه: «وإذا كثر اللواطية رفع الله يده عن الخلق، فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا» . وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
ولما كانت فاحشة اللواط شأنها في القبح كما ذكر اختلف أئمة الإسلام في عقوبتها لمن ثبتت عَلَيْهِ فَقَالَ قوم: إنها كالزنا تمامًا أي يرجم فيها المحصن، ويجلد غيره مائة جلدةٍ ويغرب. وَقَالَ آخرون: يرجم(5/113)
الفاعل والمفعول به على أي حال كَانُوا عملاً بالْحَدِيث المتقدم قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ وقَدْ أطبق أصحاب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم على قتله لم يختلف فيه مِنْهُمْ رجلان وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله.
ومن تأمل قوله سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} ، وقوله في اللواط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} تبين له تفاوت ما بينهما فإنه سُبْحَانَهُ نكر الفاحشة في الزنا أي هُوَ فاحشة من الفواحش وعرفها في اللواط، وَذَلِكَ يفيد انه جامَعَ لمعاني اسم الفاحشة كما تَقُول: زيد الرجل، ونعم الرجل زيد، أي: أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عَنْدَ كُلّ أحد فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها، ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ شأن فحشها بأنها لم يعملها أحد من العالمين قبلهم {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} .
ثُمَّ زَادَ في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القُلُوب وتنبو عَنْهُ الأسماع وتنفر منه أشد النفور وَهُوَ إتيان الرجل رجلاً مثله ينكحه كما ينكح الأنثى فَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال} ثُمَّ نبه على استغنائهم عن ذَلِكَ.
وأن الحامل لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع وحصول الْمَوَدَّة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصول النسل الَّذِي هُوَ حفظ هَذَا النوع الَّذِي هُوَ أشرف المخلوقات وتحصين المرأة.
وقضاء الوطر وحصول علاقة المصاهرة التي هِيَ أخت النسب وقيام الرجل على النساء وخروج أحب الخلق إِلَى اللهِ من جماعهن(5/114)
كالأنبياء والأَوْلِيَاء والْمُؤْمِنِين ومكاثرة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنبياء بأمته إلى غير ذَلِكَ من مصالح النكاح.
والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذَلِكَ كله وترَبِّي عَلَيْهِ بما لا يمكن حصر فساده ولا يعلم تفصيله إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن اللواطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عَلَيْهَا الرِّجَال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأَمْر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرِّجَال شهوة من دون النساء.
ولهَذَا قلب الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ ديارهم فجعل عإليها سافلها، وكَذَلِكَ قلبوا هم ونكسوا في الْعَذَاب على رؤوسهم ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن حكم عَلَيْهمْ بالإسراف وَهُوَ مجاوزة الحد فَقَالَ: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} فتأمل هل جَاءَ مثل ذَلِكَ أو قريب منه في الزنا؟ .
وأكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ الذم بوصفين في غاية القبح فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وسماهم مفسدين في قول نبيهم: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام: {أَنَا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ومن ذمه الله بمثل هذه المذمَاتَ ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة وقَدْ أخبروه بإهلاكهم قيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .(5/115)
شِعْرًا: ... وَكُن ناصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ
بِإِرْشَادِهِمْ لَلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُم بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَاِنْهِهِمْ
عَنِ السُّوءِ وَاِزْجُر ذَا الْخَنَا عَن خَنائِهِ
وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ
لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمُ بِدَوَائِهِ
فَإِنْ يَهْدِي مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا
تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرِ عَطَائِهِ
وَإِلا فَقَدْ أَدَّيْتُ مَا كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْكَ وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اِهْتِدَائِهِ ... ?
اللَّهُمَّ اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يارب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله ذنب اللواط من أعظم الذُّنُوب يغضب رب العباد إنها لفاحشة يضيق بها الفضا وتعج لها السماء ويحل بها البَلاء فكشف حال، وسوء مآل، وداء عضال، وقبح أفعال وعيب دونه سائر العيوب، عيب تموت به الفضيلة وتحيا به الرذيلة وتتفتت على أهلها الأكباد، وتذوب من أجلها حياة القُلُوب، فعمل مسبوب، ووضع مقُلُوب، وفاعل ملعون، ومفعول به عَلَيْهِ مغضوب، وخلق فاسد، وشرف مسلوب، وعرض ممزق، وكرامة معدومة، وزهري، وجرب ذو ألوان، وقذر وأنتان، ووساخة دونها كُلّ وساخة، اللَّهُمَّ إن في هذه(5/116)
الفعلة الشنيعة من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة، كانت أمة قديم عصرها، باق ذكرها، كثير شرها تسكن بين الحجاز والشام، ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة والجريمة الفظيعة علنًا في نواديهم ويذرون ما خلق الله من أزواج، ولا يبالون بمن يعتب عَلَيْهمْ ويشنع عَلَيْهمْ ولا يخافون لومة اللوام، فبعث الله إليهم لوطًا عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام فدعاهم إلى التَّوْحِيد، وترك عبادة الأصنام وحذرهم من فعل فاحشة اللواط وبالغ في إنذارهم وتحذيرهم، وكَانَ الجزاء والجواب مِنْهُمْ على هذه النَّصِيحَة أن قَالُوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ومقصود هؤلاء الأشقياء بهَذَا الوصف السخرية والتهكم بلوط ومن معه، وهَذَا كما يقوله الفساق والمرجة المعاصرون لبعض الصلحاء إذا أنكروا عَلَيْهمْ ووعظوهم، أخرجوا عنا هذا المتدين، أو هَذَا المتزهد، وهَذَا برهان واضح على أن قُلُوبهمْ ممتلئة من الحقَدْ والحسد والغيظ على الْمُؤْمِنِين فليموتوا بغيظهم ولله در القائل:
... إِذَا بَعُدَ الْعُنْقُودُ عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ ... إليه بِوَجْهٍ قَالَ مُرٌّ وَحَامِضُ
وَيَقُولُ الآخر:
دَعِ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدٍ ... كَفَاكَ مِنْهُ لَهِيبُ النَّارِ فِي كَبِدِهْ
إِنْ لُمْتَ ذَا حَسَدِ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ ... وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْتَهُ بِيَدِهْ
آخر: ... ضَارِي الطِّبَاعِ سُرُورُ النَّاسِ يُحْزِنُهُ ... وَلا انْشِرَاحَ لَهُ إِلا إِذَا آذَى
آخر: ... فَدْمٌ يَذُمُّ فُنُونَ الْعِلْمِ مُحْتَقِرًا ... بِهَا وَمِنْ جَهْلِ الأَشْيَاءِ عَادَاهَا(5/117)
آخر: ... أَصَمَّكَ سُوءُ فَهْمِكَ عَنْ خِطَابِي ... وَأَعْمَاكَ الضَّلالُ عَنْ اهْتِدَائِي
قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .
وَقَالَ آخر:
وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ ... ?
فقلبت مدينتهم أي قوم لوط واتبعوا بحجارة من سجيل مسومة عَنْدَ الله للمسرفين أيها المسلم أتدري لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العَظِيم وعلى لسان نبيه الكريم إنه وَاللهُ أَعْلَمُ لنعتبر بما أصابهم، ونحذر كُلّ الحذر ما كَانُوا عَلَيْهِ من سوء الحال، وقبح الفعال، قال الله تَعَالَى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} سبحان الله كيف يقع ذكر على ذكر وَهُوَ يعلم أن الله جَلَّ وَعَلا يراه وقَدْ نهاه ويعلم ما في ذَلِكَ من مخالفة العقل والدين، وما فيه من مرض خطير، وشر مستطير، وخزي وعار، هَذَا بالحَقِيقَة فعل تترفع عَنْهُ طباع الكلاب. والبغال والحمير، بل والقردة والخنازير، وما ظهر اللواط في أمة إِلا أذلت وأخزيت، وسلب عزها، وإذا أرادها الله عَزَّ وَجَلَّ إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار، قال الله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فانتبهوا أيها الإِخْوَان وتناصحوا واحفظوا أولادكم واعلموا أنكم مسئولون عنهم وعن همالكم لَهُمْ احرصوا عَلَيْهمْ فوق حرصكم على أموالكم لعلكم تنجوا من التبعات وتسلموا من العقوبات جعلنا الله وإياكم ممن إذا خوف بِاللهِ ندم وخاف(5/118)
ورزقنا وإياكم من الإنابة والإنصاف ما يلحقنا بصالح الأسلاف وغفر لَنَا وَلَكُمْ وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وتأمل خبث اللواطية وفرط تمردهم على الله حيث جاءوا نبيهم لوطًا لما سمعوا بأنه قَدْ طرقه أضياف هم من حسن البشر صوروا فأقبل اللواطية إليه يهرعون، فلم رآهم قال لَهُمْ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهنَّ خوفًا على نَفْسهُ وعلى أضيافه من العار الشديد.
فَقَالَ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أليس مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} فردوا عَلَيْهِ ولكن رد جبار عنيد {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فنفث نَبِيّ اللهِ نفثة مصدور خرجت من قلب مكروب، فَقَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
فكشف له رسل الله عن حَقِيقَة الحال وأعلموه أنهم ممن لَيْسَ يوصل إليهم ولا إليه بسببهم فلا تخف مِنْهُمْ ولا تعبأ بِهُمْ وهون عَلَيْكَ، فَقَالُوا: {يَا لُوطُ أَنَا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إليك} وبشروه بما جاءوا به من الوعد له، ومن الوعد المصيب لقومه فَقَالُوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} فاستبطأ نَبِيّ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام موعد هلاكهم، وَقَالَ: أريد أعجل من هَذَا فقَالَتْ الملائكة: {أليس الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .(5/119)
فوَاللهِ ما كَانَ بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إِلا ما بين السحر وطلوع الفجر وإذا بديارهم قَدْ اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الَّذِي لا يرد، من عَنْدَ الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبريل بأن يقلبها عَلَيْهمْ، كما أخبر به في محكم التنزيل.
فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَإليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفًا لمن شاركها في أعمالهم من المجرمين وجعل ديارهم بطَرِيق السالكين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} أخذوا على غرة وهم نائمون، وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون فما أغنى عنهم ما كَانُوا يكسبون تقلبوا على تلك اللذات طويلاً فأصبحوا بها يعذبون.
... مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا
مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا ... ?
ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات تمتعوا قليلاً وعذبوا طويلاً رتعوا مرتعًا وخيمًا فأعقبهم عذابًا أليمًا أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استفاقوا منها إِلا وَهُوَ في منازل الهالكين فندموا وَاللهِ أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم فلو رَأَيْت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة والنار تخَرَجَ من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويُقَالُ لَهُمْ وهم على وجوههم يسحبون {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ولَقَدْ قرب سبحانه(5/120)
مسافة الْعَذَاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في الْعَمَل، فَقَالَ مخوفًا لَهُمْ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . انتهى.
ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى هذه المعصية النظر إلى الأمرد، فعلى الإِنْسَان أن يمنع نَفْسهُ من ذَلِكَ، فقَدْ صح عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «زنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا اليد لبطش، وزنا الرجل الخطا، وزنا الأذن الاستماع، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِكَ أو يكذبه» . ولأجل ذَلِكَ بالغ الصالحون في الأعراض عن المردان وعن النظر إليهم وعن مخاطبتهم وعن مجالستهم قال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لَهُمْ صورًا كصور العذارى فهم أشد فتنة من النساء. وَقَالَ بعض التابعين: ما أَنَا بأخوف على الشاب الناسك مَعَ سبعٍ ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه وكَانَ يقال: لا يبيتن رجل مَعَ أمرد في مكَانَ واحد وحرم قياسًا على المرأة لأن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما خلا رجل بامرأة إِلا كَانَ الشيطان ثالثهما» . وفي المردان من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم وانه يمكن في حقه من الشر ما لا يمكن في حق النساء ويسهل في حقه من طَرِيق الريبة والشر ما لا يتسهل في حق المرأة، فهو بالتحريم أولى، وأقوال السَّلَف في التنفير مِنْهُمْ والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر.
شِعْرًا:
... صُنِ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلا فَيَذْهَبُ
فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالاً وَيَكْسِبُ
وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَاله
وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبُ ... ?(5/121)
.. فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللهَ إِنْ تُرِدْ
دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبُ
يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَة
وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لِلْحُسْنِ تَسْلِبُ
وَتَكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ
وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبُ
فَسَارِعْ إِلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدِ الْهَنَا
غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبُ
فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَثَّةٍ بِهَا
نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظَى تَتَلَهَّبُ ... ?
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
موعظة روى أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «تفرغوا من الدُّنْيَا، فإنه من كانت الدُّنْيَا أكبر همه، فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ومن كانت الآخِرَة أكبر همه جمَعَ الله له أموره وجعل غناه في قَلْبهُ وما أقبل عبد بقَلْبهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِين تفد إليه بالود والرحمة وكَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ إليه بكل خَيْر أسرع» . ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أَهْل الشام اسمعوا قول أخٍ ناصحٍ فاجتمعوا إليه فَقَالَ: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون إن الَّذِينَ كَانُوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا عتيدًا فأصبح أملهم غرورًا ومساكنهم قبورًا. وَقَالَ بَعْضهمْ:
... أَجِدّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا ... وَهَلْ هِيَ إِلا جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ
لَعمرِي لَقَدْ شَاهَدْتُ فِيهَا عَجَائِبًا ... وَصَاحِبْنِي فِيهَا مَسْودٌ وَسَيِّدُ
رَأَيْتُ بِهَا أَهْلُ الْمَوَاهِبِ مَرَّةً ... وَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُّرُورُ يُجَدَّدُ(5/122)
فَمَا رَاعَهمُ إِلا الرَّزَايَا ثَوَابِتٌ ... عَلَيْهِمْ وَقَامَتْ فِي أَذَاهُمْ تُحَشِّدُ
وَأَسْقَتْهُمُوا كَأْسًا مِن الذُّلِ مُتْرَعًا ... وَكَانَ لَهُمْ فَوْقَ السَّمَاكِينِ مَقْعَدُ
وَدَانَتْ لِمَنْ نَاوَاهُمُ بَعْضَ بُرْهَةٍ ... عَلَى نَكَدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ
آخر: ... أَأمل أن أخلد والْمَنَايَا ... تدور علي من كُلّ النواحي
وما أدري وإن أمسيت يومًا ... لعلي لا أعيش إلى الصباح
إن كُلّ يوم يمر بكم يحمل ما ثَبِّتْ فيه من خَيْر أو شر يمضي فلا يعود أبدًا فإن قدرتم أن تحظوا كُلّ يوم بمكرمةٍ وتثبتوا فيه حسنةً فلا تؤخروا فإن الأيام صحائف فخلدوا فيها الجميل فقَدْ رأيتم حفظها لما استودعت من المحامد والمحاسن والمكارم في قديم الدهر وحديثه.
شِعْرًا:
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمَنِ
إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
تَمُرُّ ساعاتُ أَيَّامي بِلا نَدَمٍ
ولا بُكاءٍ وَلا خَوْفٍ ولا حَزَنِ
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني
مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني
وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً
عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني
يَا زَلَّةً كُتِبَتْ يَا غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ
يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تَقْتُلْنِي ... ?(5/123)
ج
... دَعْ عَنْكَ عَذْلِي يا مَنْ كَانَ يَعْذِلُنِي
لَوْ كُنْتَ تَعْلَمْ مَا بِي كُنْتُ تَعْذُرُنِي
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها
دَعْنِي أَسِحُّ دُمُوعًا لا انقطاع لَهَا
فَهَلْ عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُنْي
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحًا
عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقَدْ أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني
وَلَمْ أَرَ مِنْ طَبِيبِ اليوم يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها
مِن كُلّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها
وصَارَ في الحَلْقَ مُرًا حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا
بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا كَفَنِي
وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ
وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ
وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقًا
حُرًا أَدِيْبًا أَرِيبًا عَارِفًا فَطِنِي
فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني
مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني(5/124)
.. واطَّرَّحُونِي عَلى الأَلْواحِ مُنْفَرِدًا
وَصَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني
غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِيابًا لا كِمومَ لها
وَصارَ زَادي حَنُوطًِا حينَ حَنَّطَني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا
خَلْفَ الإِمَامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها
ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني في قَبري على مَهَلٍ
وَأَنْزَلُوا واحِدًا مِنْهُمْ يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني
وَأَسْبلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِمًا بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً
وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عَلَيْهِ التُّرْبَ واغْتَنِموا
حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا
أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
وَأَوْدَعُونِي وَلَجُوا في سُؤ الهِمُوا
مَا لِي سِوَاكَ إِلَهِي مَنْ يُخَلِّصْنِ(5/125)
.. وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ
مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كَانَ أَدهَشَني
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لَهُمْ
إذْ هَالَني مِنْهُمَا مَا كَانَ فَأَفْزَعَني
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يَا أَمَلي
فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا
وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الزَّادِ والكَفَنِ ... ?
... خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها ... لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي ... فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بِفَضْلِكَ وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فصل في التحذير عن تعاطي المسكرات والمخدرات
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من أشرف هبات الله للإنسان عقله وقَدْ روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قال في قول الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي في العقل، وورد عن المصطفى ? أنه قال: «ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى - أو يرده عن ردى، ولا استقام دينه حتى يستقيم عقله» .(5/126)
فالعقل جعله الله للإنسان ليميز به النافع من الضار ويفهم عن الله شرعه لماذا حسن الحسن وقبح القبيح ويفهم ما لله من الحقوق وما لرسله وما ينبغي نحو عباد الله.
فهو الجوهرة التي دون قدرها الأثمان وما يقدر بالأثمان بل الدُّنْيَا بأسرها لا قيمة لها بجانب هَذَا العقل العَظِيم الشأن الَّذِي رفع الله درجة بني آدم إلى أن أخاطبهم جَلَّ وَعَلا وَهُوَ الَّذِي صلح لأن يكون من خدمه تَعَالَى يؤدي ما له من واجباتٍ.
وَهُوَ الَّذِي به يكون أهلاً لأن يكون من ضيوفه تَعَالَى في دار الكرامَاتَ، بل هُوَ الَّذِي سما به إلى أن يرى ربه تَعَالَى في دار الرضوان، إن قيمة كُلّ شَيْء إنما تقدر بقدر ما له من آثار العقل، لا يدانيه فيها غيره، مهما كَانَ لذَلِكَ الغير من مقدار، إذ هُوَ أجل محنة منحها الله ابن آدم في هذه الدار بل لا تَكُون الْجَنَّة جنة إذا سلب العقل فيها من الإِنْسَان.
إذا علمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن النَّاس يتفاوتون في الدرجات بتفاوت ما لَهُمْ من عقول فكُلَّما كَانَ العقل أقوى كَانَ أقدر على دفع النفس عما لها من فضول ومن هَذَا نستطيع أن نقول إن أعقل الْمُؤْمِنِين أتقاهم لله أما ضعيف العقل فيضعف دفعه للنفس عن ما لها من شهوات.
هُوَ من الأَشْيَاءِ التي تشير أسماؤها إلى معناها سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه غالبًا عما لا ينبغي ولذَلِكَ إذا جن الإِنْسَان رأيته كالوحش الضاري يبطش بكل ما قابله.
مَا وَهَبَ اللهُ لامْرِئٍ هِبَهْ ... أَشْرَفَ مِنْ عَقْلِهِ وَمِنْ أَدَبِهْ
هُمَا حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَا ... فَإِنَّ فَقْدَ الْحَيَاةِ أَجْمَلُ بِهْ
آخر: ... يَزينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ ... وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ(5/127)
ج
وَيُرزِي بِهِ فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ ... وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُه وَمَنَاسِبُهُ
وَأَفْضَل قَسْمِ الله لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ ... ولَيْسَ مِن الْخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهُ
إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ ... فَقَدْ كَملَتْ أَخْلاقُهُ وَضَرَائِبَهُ
آخر: ... إِذَا كُنْتَ ذَا عِلْمَ وَلَمْ تَكُ عَاقِلاً ... فَأَنْتَ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ
أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ عُمْدٌ لِعَقْلِهِ ... وَلا خَيْرَ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ
أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ عُمْدٌ لِعَقْلِهِ ... وَلا خَيْرَ فِي غِمْدٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصْلُ
والمقصود من سياق هذه المقدمة حول العقل، هُوَ أنه يوَجَدَ قسم من النَّاس قَدْ عميت بصائرهم وأسقطوا أنفسهم من درجة الكمال الَّذِي أعدهم الله له، وأنزلوا أنفسهم إلى مرتبة الْحَيَوَان أو أنزل، ورضوا بأن يكونوا معاول لهدم الفضيلة ويدًا عاملة لنشر الرذيلة وهؤلاء قَدْ استحوذ عَلَيْهمْ الشيطان ولعب بِهُمْ وزين لَهُمْ أن يفارقوا عقولهم زمنًا بتناول المخدرات وتعاطي المسكرات ولَيْسَ هَذَا الاعتداء على العقل الَّذِي شرفهم الله به في العمر مرة بل ولا في السنة مرة لكنه عندهم دوامًا نسأل الله العافية أما علم أولئك التعساء أن الخمر أم الخبائث ورأس الْمُنْكَر كله وطَرِيق الفساد العام.
فساد الدين وفساد الأَخْلاق وفساد العقل وفساد الجسم وفساد الْمَال وفساد الذرية ولهَذَا قال صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كُلّ الشر» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد، فالخمر محرمة باْلكِتَاب والسنة والإجماع.
أما اْلكِتَاب فقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} .
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين(5/128)
اللَّهُمَّ يا ملقب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وأما السنة فقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . رواه أبو داود والإمام أَحَمَد وروى عَبْدُ اللهِ بنَ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إليه» . رواه أبو داود.
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من شرب الخمر في الدُّنْيَا، ومَاتَ ولم يتب منها، وَهُوَ مدمن لها، لم يشربها في الآخِرَة» . رواه مسلم وروى مسلم عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر، أن يسقيه الله من طينة الخبال» . قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أَهْل النار» .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من شرب الخمر في الدُّنْيَا، يحرمها في الآخِرَة» . وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن وروى النسائي من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لا يدخل الْجَنَّة عاق، ولا مدمن خمر» . وفي رواية: «ثلاثة لا يدخلون الْجَنَّة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث، وَهُوَ الَّذِي يقر السُّوء في أهله» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ والتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» . رواه البخاري،(5/129)
وفي الْحَدِيث: «من زنى أو شرب الخمر، نزع الله منه الإِيمَان كما يخلع الإِنْسَان القميص من رأسه» . وفيه عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ان رائحة الْجَنَّة لتوَجَدَ من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا عابد وثن» .
وروى الإمام أَحَمَد من حديث أبي مُوَسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا يدخل الْجَنَّة مدمن خمر ولا مُؤْمِن بسحر ولا قاطع رحم ومن مَاتَ وَهُوَ يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغوطة وَهُوَ ماء يجري من فروج المومسات - أي الزانيات - يؤذي أَهْل النار ريح فروجهن» .
وَقَالَ ابن عمر: أمرني رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فاتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثُمَّ أعطانيها وَقَالَ: «اغد علي بها» . ففعلت فخَرَجَ بأصحابه إلى أسواق الْمَدِينَة، وفيها زقاق الخمر قَدْ جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كَانَ من تلك الزقاق بحضرته ثُمَّ أعطانيها وأمر أصحابه الَّذِينَ كَانُوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كُلّهَا فلا أجد فيها زق خمر إِلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواها زقًا إِلا شققته.
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: إن هذه الآيَة التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال: هِيَ في التوراة إن الله أنزل الحق ليذهب به الْبَاطِل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن، والكبارات يعني البرابط، والزمارات، يعني به الدف والطنابير والشعر، والخمر مرة لمن طعمها أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس.(5/130)
اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا حالت بيننا وبين ذكرك شكرك واعف عن تقصيرنا فِي طَاعَتكَ ووفقنا للزوم الطَرِيق الموصلة إليك وثبتنا عَلَيْهَا حتى الْمَمَات اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعلمنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
قصيدة تحتوي على حكم ومواعظ
تَأوَّيني هَمُّ كَثِيرٌ بِلابِلُهْ ... طَرُوقًا فَغَالَ النَّوْم عَنِّي غَوَائِلُهْ
فَوَيْحِي مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ وَاقِعٌ ... وَلِلْمَوْتِ بَابٌ أَنْتَ لا بُدَّ دَاخِلُهْ
أَيَأْمَنُ رَيْبِ الدَّهْرِ يَا نَفْسُ وَاهِنٌ ... تَجِيشُ لَهُ بِالْمُفْظَعَاتِ مَرَاجِلُهْ
فَلَمْ أَرَ فِي الدُّنْيَا وَذُو الْجَهْلِ غَافِلٌ ... أَسِيرًا يَخَافُ الْقَتْلَ وَاللَّهْوُ شَاغِلُهْ
فَمَا بَاله يَفْدِي مِن الْمَوْتِ نَفْسَهُ ... وَيَأْمَنُ سَيْفَ الدَّهْرِ وَالدَّهْرُ قَاتِلُهْ
وَلا يَفْتَدِي مِن مَوْقِفٍ لَوْ رَمَى الرَّدَى ... بِهِ جَبَلاً أَضْحَتْ سَرَابَا جَنَادِلُهْ
وَبَعْدَ دُخُولِ الْقَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ ... وَهَوْلٌ تُشِيبُ الْمُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ
إِذَا الأَرْضُ خَفَّتَ بَعْدَ نَقْلٍ جِبَالِهَا ... وَخَلَّى سَبِيلَ الْبَحْرِ يَا نَفْسُ سَاحِلُهْ
فَلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ ... مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْوِزْرِ حَامِلُهْ
إِذَا الْجَسَدُ الْمَعْمُورُ زَايَل رُوحَه ... خَوَى وَجَمَالُ الْبَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ
وَقَدْ كَانَ فِيهِ الرُّوحُ حِينًا يَزِينُهُ ... وَمَا الْغِمْدُ لَوْلا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهْ
يُزَايلُنِي مَالي إِذَا النَّفْسُ حَشْرَجَتْ ... وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أَزَايلُهْ
إِذَا كَلَّ عِنْدَ الْجُهْدِ يَا نَفْسُ مُنْطِقِي ... وَعَايَنْتُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا لا أُحَاوِلُهْ
وَيَغْسِلُ مَا بِالْجِلْدِ مِنْ ظَاهِرِ الأَذَى ... وَلا يَغْسِلُ الذَّنْبَ الْمُخَالِفَ غَاسِلُهْ
وَمَنْ تُفْلِتِ الأَمْرَاضُ يَوْمًا فَإِنَّهُ ... سَيُوشِكُ يَوْمًا أَنْ تُصَابَ مَقَاتِلُهْ(5/131)
وَقَدْ تُفْلِتُ الْوَحْشَ الْجِبَالُ وَرُبَّمَا ... تَقَبَّضَتِ الْوَحْشِيَّ يَوْمًا حَبَائِلُهْ
إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ صَارَ حُجَّةً ... عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ جَاهِلُهْ
وَقَدْ يُنْعِشُ الذِّكْرُ الْقُلُوبَ، وَإِنَّمَا ... تَكُونُ حَيَاةُ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَابِلُهْ
أَرَى الْغُصْنَ لا يَنْمِي إِذَا جَفَّ أَصْلُهُ ... وَلَيْسَ بِبَاقٍ مَنْ أُبِيحَتْ أَوَائِلُهْ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا ... يُصَدَّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاغِلُهْ
وَلا يَسْتَقِيمُ الدَّهْرَ سَهْمٌ لِوَجْهِهِ ... بِهِ مَيْلٌ حَتَّى يُقَوَّمَ مَائِلُهْ
وَفِيكَ إِلَى الدُّنْيَا اعْتِرَاضٌ وَإِنَّمَا ... تُكَالُ لَدَى الْمِيزَانِ مَا أَنْتَ كَائِلُهْ
فَلا تَنْتَكِثْ بَعْدَ الْهَوَى عَنْ بَصِيرَةٍ ... كَمَا نَكَثَ الْحَبْلَ الْمُضَاعَفَ فَاتِلُهْ
وَتَطْلُبُ فِي الدُّنْيَا الْمَنَازِلَ وَالْعُلا ... وَتَنْسَى نَعِيمًا دَائِمًا لا تُزَايلُهْ
كَمَنْ غَرَّهُ لَمعُ السَّرَابِ بَقِيعَةٍ ... فَقَصَّرَ عَنْ وِرْدٍ تَجِيشُ مَنَاهِلُهْ
وَقَدْ خَانَتْ الدُّنْيَا قُرونًا تَتَابَعُوا ... كَمَا خَانَ أَعْلَى الْبَيْتَ يَوْمًا أَسَافِلُهْ
وَتُصْبِحُ فِيهَا آمِنًا ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ... لِتَأْمنَ فِي وَادٍ بِهِ الْخَوْفُ نَازِلُهْ
وَقَدْ خَتَلَتْنَا بِاللَّطِيفِ مِهَ الْهَوَى ... كَمَا يَخْتِلُ الْوَحْشِيَّ بِالشَيْءِ خَاتِلُهْ
رَضِينَا بِمَا فِيهَا سَفَاهًا وَلَمْ يَكُنْ ... يَبِيعُ سَمِينَ اللَّحْمِ بِالْغَيْثِ آكِلُهْ
وَعَاقِبَةُ اللَّذَاتِ تَخْشَى وَإِنَّمَا ... يُكَدِّرُ يَوْمًا عَاجِلَ الأَمْرِ آجِلُهْ
وَإِنْ فَرَحَتْ بِالْمَرْءِ يَوْمًا حَلائِلٌ ... فَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرِنَّ حَلائِلُهْ
فَكَمْ مِنْ فَتَى قَدْ كَانَ فِي شِرِّةِ الصِّبَا ... فَأَقْصَرَ بَعْدَ الْعَذْلِ عَنْهُ عَوَاذِلُهْ
إِذَا مَا سَمَا حَقٌّ إليك وَبَاطِلٌ ... عَلَيْكَ فَلا يَذْهَبْ بِحَقَّكَ بَاطِلُهْ
وَقَدْ يَأْمَلُ الرَّاجِي فَيُكْذِبُ ظَنَّهُ ... أُمُورٌ وَيَلْقَى الشَّيْءَ مَا كَانَ يَأْمَلُهْ
اللَّهُمَّ انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ في دار أمانك وعافنا يا مولانَا في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ(5/132)
الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وأجمعت الأمة على تحريم الخمر، وقليل الخمر وكثيره كله حرام لما أخرجه ابن حبان والطحاوي عن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» .
وروى أَحَمَد وابن ماجة والدارقطني وصححه عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله» .
وروى أَحَمَد في مسنده وَأَبُو دَاود في سننه بسندٍ صحيح عن أم سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: نهى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عن كُلّ مسكر ومفتر ولم يكتف الشارع بتحريم شرب قليلها وكثيرها، بل حرم الاتجار بها ولو مَعَ غير المسلمين فلا يحل لمسلم يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر أن يعمل مستوردًا أو مصدَّرًا أو صَاحِب محل لبيع الخمر أو عاملاً في هَذَا المحل كيف وقَدْ لعن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له.
وَكَذَا يحرم إهداؤها فقَدْ روي عن جابر بن عَبْد اللهِ قال: كَانَ رجل يحمل الخمر من خيبر إلى الْمَدِينَة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمالٍ فقدم بها الْمَدِينَة فلقيه رجل من المسلمين فَقَالَ: يا فلان إن الخمرة قَدْ حرمت فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عَلَيْهَا بأكسية ثُمَّ أتى النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بلغني أن الخمر قَدْ حرمت قال: «أجل» . قال: لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: «لا يصح ردها» . قال: لي أن(5/133)
أهديها إلى من يكافيني منها؟ قال: «لا» قال: فإن فيها مالاً ليتامى في حجري. قال: «إذا أتانَا مال البحرين فانَا نعوض أيتامك من مالهم» . ثُمَّ نادى بالْمَدِينَة فَقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللهِ الأوعية ينتفع بها؟ قال: «فحلوا أوكيتها» . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي.
ويجب مقاطعة مجالس الخمر وشاربيها فعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فلا يقعد على مائدة تدار عَلَيْهَا الخمر» . رواه أَحَمَد ومعناه عَنْدَ الترمذي. وروي عن عمر بن عَبْد الْعَزِيز أنه كَانَ يجلد شارَبِّي الخمر، ومن شهد مجلسهم، وإن لم يشرب، ورووا عَنْهُ أنه رفع إليه قوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم فقيل إن فيهم فلانَا، وقَدْ كَانَ صائمًا، فَقَالَ: به ابدؤوا أما سمعتم قول الله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} .
وروى عن عثمان بن عفان أنه كَانَ يَقُولُ: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كَانَ رجل فيمن كَانَ قبلكم يتعبد ويعتز النَّاس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جارتها أن تدعوه لشهادةٍ فدخل معها فطفقت كُلَّما دخل بابًا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئةٍ عندها غلام وباطية خمر فقَالَتْ: إني وَاللهِ ما دعوتك لشهادةٍ ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هَذَا الغلام أو تشرب هَذَا الخمر فسقته كأسًا فَقَالَ: زيدوني فلم يزل حتى وقع عَلَيْهَا وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمَعَ هِيَ والإِيمَان أبدًا أوشك أحدهما أن يخَرَجَ صاحبه. رواه البيهقي.
وروى الطبراني بسند صحيح والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرط مسلم عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن أبا بكرٍ وعمر وناسًا جلسوا بعد(5/134)
وفاة رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم فأرسلوني إلى عَبْد اللهِ بن عمرو أسأله فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذَلِكَ ووثبوا إليه جميعًا حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسًا أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه فاختار الخمر وأنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أرادوه منه» .
وأن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منها شَيْء إِلا حرمت عَلَيْهِ بها الْجَنَّة، فإذا مَاتَ في أربعين ليلة مَاتَ ميتة جاهلية» .
وفي تصوير إثُمَّ الخمر يَقُولُ أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت عَلَيْهِ منارة لم أؤذن عَلَيْهَا ولو وقعت في بحر فجف فنبت الكلأ لم أرعه.
وَقَالَ ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لو دخلت أصبعي فيها لم تتبعني. قال بَعْضهمْ محذرًا عن الخمر:
إِلامَ وَأَنْتَ فِي زَهْوٍ وَلَهْوٍ ... وَإِنَّ الْعُمْرَ مُعْظَمُهُ تَقَلَّصْ
تُعَاقِرُ خَنْدَرِيسَ السُّوءِ دَوْمًا ... نَدِيمُكَ مَنْ إِلَى الْفَحْشَا تَرَبَّصْ
وَتَهْجُرُ كُلَّ ذِي هَدْيٍ قَوِيمٍ ... وَتُوصِلُ كُلَّ سِكِّيرٍ تَمَلَّصْ
بِذَا أَطْفَأْتَ نُورَ الْعَقْلِ حَتَّى ... ضَللْتَ عَنِ الْهِدَايَةِ يَا مُنْغَّصْ
أَنِرْ بِإِنَابَةِ للهِ عَقْلاً ... لَهُ نُورُ الْهُدَى بِالْحَقِّ حَصْحَصْ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ لنا قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة: عباد الله إنما حرم الله عليكم الخمر لما فيه من الأضرار والأخطار، وما منعكم من شربها إِلا لما ينشأ عن ذَلِكَ من المفاسد(5/135)
والشرور والأضرار، فشارب الخمر ملعون على لسان نبيكم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم وبائعها، وشاريها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، ومدمن شربها لا يدخل الْجَنَّة، بل يدخل النار ويسقى من طينة الخبال، عرق أَهْل النار وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن فشارب الخمر مفسد لدينه، ومفسد لجسمه، وصحته وجان على نَفْسهُ، وعلى أولاده، وأقاربه، وأهله وجيرانه ومفرط في ماله ومسرف فيه وعابث بكرامته، وساع إلى الشر والفساد بيده، ورجله، ولِسَانه، وصائل، خبيث على الخلاق والأديان شارب الخمر عضو مسموم في جسم مواطنيه إذا لم يبادروه بالعلاج أو يقطعوه أصابهم ضرره، شارب الخمر يزين الشر ويحسنه، لبنيه، وبناته، وأصدقائه ويدعوهم بلسان حاله ومقاله، وأنتم تعلمون أن داعي الفساد مجاب قي كُلّ زمان ومكَانَ وأنصاره بلا عدٍّ ولا حسبان، وإذا دبت الخمر في رأس شاربها فقَدْ شعوره، وزنى، ولاط، أو ليط به، وجَاءَ بأنواع الفحش، والفجور، وسب وشتم، وقذف، ولعن، وطلق وسب الدين والمسلمين بل ربما وقع على أمه، أو بنته أو أخته أو على نساء جيرانه أو على بهائمه، وَرُبَّمَا كفر بِاللهِ وارتد عن الإسلام، وترك الصَّلاة، وأفطر في رمضان، وسب القرآن، وبالجملة أن من تعاطى الخمر سقط من شاهق مجده إلى مستوى الخنازير، والقردة يصدق بهَذَا من عاين شارب الخمر وقَدْ استولى عَلَيْهِ الشراب وغطى عقله فتَرَى من يقوده متعب، يجره كما يجر الدابة الحرون بل الدابة تمشي احيانَا هادئة إذا جرت لا تتعب القائد دائمًا، وأما السكران فيميل بقائده هكَذَا وهكَذَا حتى يكلفه متاعب عظيمة، والدابة إذا رأت حفرة امتنعت عَنْهَا وتباعدت عَنْهَا، أما شارب الخمر فتَكُون الحفرة أمامه، ويسقط فيها، والدابة ربما دافعت عن طعامها وشارب الخمر تسلب منه النقود، ولا(5/136)
يحصل منه أدنى ممانعة، ومعنى هَذَا أن البهيمة أرجح وأحسن حالاً منه وقَدْ قال الخبير بأحوال شراب الخمر: من أراد أن يعرف قدر السكير فلينظر إلى قهقهته، وضحكه، والخمار يوالي الصفعات على قفاه، ولينظر رقصه أمام البزور، كأنه قرد يرقصه صاحبه، ليضحك من يراه، ولينظره وَهُوَ يجري وراء أمه، أو بنته، ليقضي منها حاجته ومناه، ولينظر وامرأته تكنس ملابسه وتمسحها من الأوساخ التي يقذفها على ثيابه، والقاذورات، هَذَا قدر شارب الخمر عندنا، أما عَنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ فهو كعابد وثن ملعون نسأل الله جَلَّ وَعَلا أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها ومن سائر المعاصي وأن يلطف بنا ويوفقنا.
شِعْرًا: ... أَتَعْصِي اللهَ وَهُوَ يَرَاكَ جَهْرًا ... وَتَنْسَى فِي غَدٍ حَقًا لِقَاهُ
وَتَخْلُوا بِالْمَعَاصِي وَهُوَ دَانٍ ... إليك وَلَسْتَ تَخْشَى مِنْ سُطَاهُ
وَتُنْكُرُ فِعْلَهَا وَلَهُ شُهُودٌ ... عَلَى الإِنْسَانِ تُكْتُبُ مَا حَوَاهُ
فَوَيْلُ الْعَبْدِ مِنْ صُحْف وَفِيهَا ... مَسَاوِيهِ إِذَا وَافَى مَسَاهُ
وَيَا حُزْنَ الْمُسِيءِ لِشُؤْمِ ذَنْبٍ ... وَبَعْدَ الْحُزْنِ يَكْفِيهِ جَوَاهُ
وَيَنْدَمُ حَسْرَةً مِنْ بَعْدِ فَوْتٍ ... وَيَبْكِي حَيْثُ لا يُجْدِي بُكَاهُ
يَعَضُّ يَدَيْهِ مِنْ أَسَفٍ وَحُزْنٍ ... وَيَنْدَمُ حَسْرَةً مِمَّا دَهَاهُ
فَكُنْ بِاللهِ ذَا ثِقَةٍ وَحَاذِرٍ ... هُجُومَ الْمَوْتِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرَاهُ
وَبَادِرْ بِالْمَتَابِ وَأَنْتَ حَيٌّ ... لَعَلَّكَ أَنْ تَنَالَ بِهِ رِضَاهُ
وَتَقْفُ الْمُصْطَفَى خَيْرَ الْبَرَايَا ... رَسُولاً قَدْ حَبَاهُ وَاجْتَبَاهُ
عَلَيْهِ مِنْ الْمُهَيْمِنِ كُلِّ وَقْتٍ ... سَلامٌ عَطَّرَ الدُّنْيَا شَذَاهُ
اللَّهُمَّ يا عَظِيم العفو يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام اللَّهُمَّ أذقنا عفوك وغفرانك واسلك بنا طَرِيق مرضاتك. وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا ما يبعد عن طَاعَتكَ اللَّهُمَّ وثَبِّتْ محبتك في(5/137)
قلوبنا وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ: واعْلَمْ أن الخمر نجسة يغسل ما أصابته من بدن أو ثوب أو إناء ويصب على ما أصابته من الأَرْض ماء كنجاسة البول لما في حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا بأرض قوم أَهْل كتاب يأكلون الخنزير ويشربون الخمر أفنأكل في آنيتهم قال: «لا، إِلا أن تجدوا غيرها، فاغسلوها ثُمَّ كلوا فيها» .
ولا يجوز التداوي بالخمر لما في صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي انه سال النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فَقَالَ: أصنعها للدواء فَقَالَ: «إنه لَيْسَ بدواءٍ ولكنه داء» . وروى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إن الله انزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواء، فتداووا ولا تتداووا بالمحرم» .
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم وفي السُّنَن عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: نهى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عن الدواء الخبيث. وفي السُّنَن انه صلى الله عَلَيْهِ وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء؟ فَقَالَ: «إنها داء ولَيْسَ بالدواء» . رواه أبو داود والترمذي، ويذكر عَنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «من تداوى بالخمر فلا شفاه الله» .
وقَدْ نبه ابن القيم رجمه الله على جانب نفسي هام فَقَالَ: وها هنا سر لطيف في كون المحرمَاتَ لا يستشفى بها فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء فإن(5/138)
النافع وهو المبارك وأنفع الأَشْيَاءِ أبركها والمبارك من النَّاس هُوَ الَّذِي ينتفع به حيث حل ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مِمَّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقي طبعه لها بالقبول بل كُلَّما كَانَ الْعَبْد أعظم إيمانَا كَانَ أكره لها وأسوأ اعتقادًا فيها وطبعه أكره شَيْء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داءٌ لا دواءً إِلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة بالمحبة وهَذَا ينافي الإِيمَان فلا يتناولها المُؤْمِن قط إِلا على وجه أنها داء. انتهى.
ومن ذَلِكَ تلك المواد التي تعرف باسم المخدرات مثل الحشيش، والكوكايين، والأفيون ونحوها مِمَّا عرف أثرها عَنْدَ متعاطيها أنها تؤثر في العقل فيرى الْبَعِيد قريبًا وبالعكس القريب بعيدًا ويذهل عن الواقع ويتخيل ما لَيْسَ بواقع ويسبح في بحر من الأوهام والأحلام وهَذَا ما يريد متعاطيها لأجل أن يذهلوا أنفسهم وينسوا دينهم ودنياهم ويهيموا في أودية الخيال.
وهَذَا غير ما تحدثه من فتور في الجسم وخدر في الأعصاب وهبوط في الصحة وفوق ذَلِكَ ما تحدثه من خور في النفس وتحلل الإرادة وتمييع للخلق وتضعيف للشعور بالواجب مِمَّا يجعل هؤلاء التعساء المدمنين لها أعضاء مضرة بالمجتمَعَ فضلاً عما وراء ذَلِكَ من إتلاف الأموال وخراب البيوت.
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه ما خلاصته: إن هذه الحشيشة الملعونة هِيَ وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله ورسوله وسخط عباده الْمُؤْمِنِين المعرضة صاحبها لعقوبة الله تشتمل على ضررٍ في دين(5/139)
المرء وعقله وخلقه وطبعه وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نَفْسهُ وغير ذَلِكَ.
فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر ولهَذَا قال الْفُقَهَاء: إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين.
ومن استحل ذَلِكَ وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإِلا قتل مرتدًا لا يصلى عَلَيْهِ ولا يدفن في مقابر المسلمين.
إِلَى كَمْ ذَا التَّمَادِي بِالدَّسَائِسْ ... وَأَنْتَ بِحَمْأَةِ الْبُهْتَانِ غَاطِسْ
تُسَاعِدُ كُلَّ نَمَّامٍ بِإِفْكٍ ... وَتَغْتَالُ الأَكَارِمَ وَالأَوَانِسْ
تُسَابِقُ كُلَّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ... بِمَا تُبْدِيهِ مِنْ فِتَنِ الْوَسَاوِسْ
أَضَعْتَ الْعُمْرَ فِي زُورٍ وَوِزْرٍ ... وَلَهْوٍ مَعَ ذَوِي الْغَدْرِ الأَبَالِسْ
فَعَجِّلْ بِالْمَتَابِ لِنَيْلِ عَفْوٍ ... لِتُحْبَى مِنْ جَنَا مَا أَنْتَ غَارِسْ
وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في بعض مضار الخمر
ونسوق إليك نموذجًا من مضار الخمر مِمَّا ذكره الْعُلَمَاء والأطباء:
1- أنها فساد في الدين.
2- أنها فساد في الأَخْلاق.
3- أنها فساد في العقل.
4- أنها فساد في الجسم تحطم قوته وتهدم بنيته وتسقم الجسد.
5- أنها فساد في الذرية.(5/140)
6- أنها جناية على الشرف.
7- أن الخمر رجس من عمل الشيطان.
8- أنها نجسة، تنجس ما اتصلت به.
9- أنها تورث الذل والمهانة.
10- أن ضررها متعدٍ.
11- أنها تضر اقتصاديًا.
12- ما فيها من الضَّرَر الاجتماعي.
13- أن الجهاز الهضمي يصاب بالنزلة المعوية الحادة فيحصل فساد في الهضم وخمود في المعدة والتهاب في الأمعاء واستحالة في منسوج الكبد وتيبس والتهاب وتغير فيه وأخيرًا تفتت الكبد وتتلف وتنتهي حَيَاتهُ.
14- أن الجهاز البولي والتناسلي يحصل فيه تنبه، ينشأ عَنْهُ التهاب الكلى وفساد منسوجها وضعف الانعاظ وضياع محصل النسل.
15- الجهاز العصبي يصاب المخ باضطراب يكون منه الجنون السكري والخوف والخيالات المختلفة كرؤية الهيئات الشنيعة والارتعاش وفقَدْ الإحساس والشلل المحدود الَّذِي يؤول إلى شللٍ عمومي وقَدْ تؤدي الخمر إلى الصراع والتشنج واستحالة المراكز العصبية المخية الشوكية وعلى العموم يحصل في البنية اضطراب تضعف أمامه عن مقاومة المؤثرات الخارجية.(5/141)
16- أنه يعتري الْقَلْب ضمور والاستحالة الشحمية فينشأ عن ذَلِكَ إبطاء في الدورة الدموية بالرئة تحدث عَنْهُ النزل الشعبية وموت الفجأة.
17- أنه يسبب انسداد في بعض أوعية الرئة وَذَلِكَ ما تعرف أعراضه بالسعال.
18- أنها تعرقل هضم الطعام فينشأ عن ذَلِكَ التخم والحموضة في المعدة والقيء.
19- تضعف المناعة وتخدر الكرات الدموية البيضاء التي يجعلها الله حارسة لجسم الإِنْسَان.
20- التعريض لفجأة ذهاب البصر.
21- مبادرة انقطاع شهوة الجماع وسرعة وقوف النسل.
22- أن أكثر حوادث السيارات من شراب الخمر والمخدرات وبالحَقِيقَة أن الشيطان يصد الشارب عن ذكر الله وعن الصَّلاة ويوقعه في معصية الله وسخطه ويعرضه لخزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة يرتكب الكبائر ويقترف الجرائم والآثام ويخبط في الحرام، ويتجنب ما وجب عَلَيْهِ من الأحكام، فيفعل نكرًا وينطق بالعظائم من القول والزور ويسب ربه وأمه وأباه ويطلق ويزني ويلوط ويعبث بالأعراض والكرامَاتَ ويتلف أثاثه وأمواله ويوسخ ثيابه ويبول على نَفْسهُ ويبكي بلا سبب ويضحك من غير عجب فتهزأ به الصبيان ويعبث به الفساق ويسخر به السفهاء ويمقته العقلاء ويبغضه أهله للخطر المتوقع منه في سكره ليلاً ونهارً ويمقته(5/142)
جيرانه ولا يأمنون من وثباته إذا سكر ولا شك إن فتك أن الخبائث الخمر أشد من فتك الطاعون والحرب والمجاعات والعاهات لإن ضرر الخمر اقتصادي وصحي ونفسي واجتماعي وأخلاقي.
فشاربها عضو مسموم في جسم أمته ومواطنيه إن لم يعالج أو يسِوَى له عملية ويقطع سرى سمه وداؤه الفتاك إلى سائر الأعضاء وأثر على الجسم كله.
وقيل لعدي بن حَاتِم: مالك لا تشرب الخمر؟ فَقَالَ: ما أحب أن أصبح حكيم قومي وأمسي سفيههم وكَانَ بعض الملوك يجمَعَ أفاضل دولته ويلقي عَلَيْهمْ أسئلة علمية يتعرف بها فضلهم فيومًا حضر هَذَا المجلس رجل رث الهيئة فكَانَ إذا انتهى الْعُلَمَاء من إجابتهم تكلم بما لم يحم حوله واحد مِنْهُمْ وكَانَ ذَلِكَ حاله في كُلّ سؤال ولما انصرف الْعُلَمَاء أراد أن ينصرف هُوَ أيضًا فأشار إليه الملك أن لا ينصرف فَلَمَّا خليا أدناه الملك ثُمَّ أدناه حتى أجلسه إلى جنبه ثُمَّ عرض عَلَيْهِ كأسًا من الخمر فاستعفى فألح عَلَيْهِ أن يشربها فاستعفى وأخبره أنه لا يريدها ثُمَّ قال للملك: إني الآن في مجلس يحسدني عَلَيْهِ النَّاس جميعًا وَهُوَ إحسان ومكَانَ عَظِيم لم يوصلني إليه إِلا عقلي فلا أسيء إلى عقلي أبدًا باحتساء كأس من الخمر يقضي عَلَيْهِ فازداد إعجاب الملك به وازداد فضلاً عنده على فضله ولعله كَانَ يختبره بذَلِكَ.
وختامًا فإن الفلاح مرجو حصوله باجتنابها قال عز من قائل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
نسأل الله أن يوقظ ولاتنا فيأخذوا على أيدي السفهاء منا ويزيل ما حدث من هذه المنكرات، وأن يوقفنا وَجَمِيع المسلمين لطاعته، ويتوفانا(5/143)
مسلمين، ويلحقنا بعباده الصالحين، وَيَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ وَيَرْحَمْنَا بِرَحْمَتِهِ أنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل في التحذير عن المسكرات)
وَإِيَّاكَ شُرْبًا لِلْخُمُورِ فَإِنَّهَا
تُسَوَّدُ وَجْهَ الْعَبْدِ فِي اليوْمِ مَعْ غَدِ
أَلا إِنْ شُرْبَ الْخَمْرِ ذَنْبٌ مُعَظَّمٌ
يُزِيلُ صِفَاتِ الآدَمِي الْمُسَدَّدِ
فَيَلْحَقُ بِالأَنْعَامِ بَلْ هُوَ دُونَهَا
يُخَلِّطُ فِي أَفْعَاله غَيْرَ مُهَْدِ
وَيَسْخَرُ مِنْهُ كُلُّ رَاءٍ لِسُوءِ مَا
يُعَايِنُ مِنْ تَخْلِيطِهِ وَالتَّبَدُدِ
يُزِيلُ الْحَيَا عَنْهُ وَيَذْهَبُ بِالْغِنَا
وَيُوقِعُ فِي الْفَحْشَا وَقَتْلِ الْمُعَرْبَدِ
وَكُلُّ صِفَاتِ الذَّمِ فِيهَا تَجَمَّعَتْ
كَذَا سُمِّيتَ أُمَّ الْفُجُورِ فَاسْنِدِ
فَكَمْ آيَةٍ تُنْبِي بِتَحْرِيمِهَا لِمَنْ
فَكَمْ آيَةٍ تُنْبِي بِتَحْرِيمِهَا لِمَنْ
وَقَدْ لَعَنَ الْمُخْتَارُ فِي الْخَمْرِ تِسْعَةً
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ
وَأَقْسَمَ رَبُّ الْعَرْشِ أَنْ لَيُعَذِّبَنْ
عَلَيْهَا رَوَاهُ أَحْمَدٌ عَنْ مُحَمَّدِ
وَمَا قَدْ أَتَى فِي حَظْرِهَا بَالِغٌ إِذَا
تَأَمَلْتَهُ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَاهْتَدِ ... ?(5/144)
.. وَاجْمَعْ عَلَى تَحْرِيمِهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ
فَكَفِرْ مُبِيحِيهَا وَفِي النَّارِ خَلِّدِ
وَإِدْمَانِهَا إِحْدَى الْكَبَائِرِ فَاجْتَنِبْ
لَعَلَّكَ تُحْظَى بِالْفَلاحِ وَتَهْتَدِي
وَيَحْرُمُ مِنْهَا النَّزْرُ مِثْلَ كَثِيرِهَا
ولَيْسَتْ دَاوَءً بِلْ هِيَ الدَّاءُ فَابْعِدِ
فَمَا جَعَلَ اللهُ الْعَظِيمَ دَوَاءَنَا
بِمَا هُوَ مَحْظُورٌ بِمِلَّةِ أَحْمَدِ
وَكُلُّ شَرَابٍ إِنْ تَكَاثَرَ مُسْكِرٌ
يُحَرَّمُ مِنْهُ النَّزْرُ بِالْخَمْرِ فَاعْدِدِ
وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَحْرُمُ مُطْلَقًا
وَلَوْ كَانَ مَطْبُوخًا بِغَيْرِ تَقَيُّدِ
فَسِيَّانَ مِنْ بُرٍّ وَمِنْ ذُرَةٍ وَمِنْ
شَعِيرٍ وَتَمْرٍ أَيْ وَكُلِّ مُعَوَّدِ
سِوَى لِظَمَا الْمُضْطَّرِ إِنْ مُزِجَتْ بِمَا
يُرَوِّي وَلِلْمُغْتَصِّ إجْمَاعًا ازْرُدِ
ثَمَانِينَ فَاجْلِدْ مُسْلِمًا شَارِبًا رِضَى
عَلَيْهَا بِاسْكَارِ الْكَثِيرِ الْمُزَبِّدِ
وَمَنْ مَاتَ فِي حَدٍّ بِغَيْرِ تَزَيُّدٍ
فَلا غُرْمَ فِيهِ وَلْيُغَسَّلْ وَيُلْحَدِ ... ?
موعظة
عباد الله إن مفتاح سعادة المرء في دنياه وأخراه أن يراقب مولاه(5/145)
بحيث يكون في كُلّ حال من أحواله مستحضرًا عظمة ربه وجلاله ولا ينساه مؤمنًا بأنه تَعَالَى يراه أينما كَانَ ويعلم سره ونجواه فمن كَانَ هكَذَا أورثه ذَلِكَ خشية ربه في سره وعلانيته، فإذا خاف الإِنْسَان ربه خوفًا صحيحًا وقف ولا بد عِنْدَمَا حد له من حدود يفعل أوامره ويجتنب نواهيه لا يحمله على ذَلِكَ إِلا إجلاله لربه، ومن أبعد الْعَبْد أن يقرب المعصية من كَانَ هكَذَا، لأنه يستحضر أن الله تَعَالَى يراه، ويوقن أن الله تَعَالَى يجازيه على كُلّ ما قدم من طاعة أو معصية فإذا وصل الْعَبْد إلى هذه الحالة كَانَ مَعَ توفيق الله له من صفوة خلق الله المتقين الَّذِينَ لله تَعَالَى بِهُمْ عناية فوق ما يتصوره المتصورون هُوَ أنه تَعَالَى أخبره عن مبلغ هذه العناية في اْلكِتَاب المبين أخبر تَعَالَى أنه معهم لما هم عَلَيْهِ مِمَّا وفقهم له من تقوى وإحسان، وإذا كَانَ الأَمْر هكَذَا. فمن يغلب التقي ومعه القاهر الغلاب ومن يذله ومعه من بيده ناصية كل مخلوق ومن يحوجه ومعه من كُلّ العوالم تتقلب في بحبوحة جوده وكرمه الباهر، ومن يشقيه ومعه من لا سعادة إِلا وهي من فيض كرمه وإحسانه. فعَلَيْكَ بلزوم تقوى الله وطاعته تنل السعادة في الدُّنْيَا والآخِرَة، قال صل الله عَلَيْهِ وسلم: «أفضل الإِيمَان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . رواه الطبراني وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا: قصيدة وعظية زهدية ألق لها سمعك
... أَعَارَتْكَ دُنْيًا مُسْتَرَدٌّ مُعَارُهَا ... غَضَارَةَ عَيْشٍ سَوْفَ يَذْوِي اخْضِرَارُهَا
وَهَلْ يَتَمَنَّى الْمُحْكَمُ الرَّأْي عِيشَةً ... وَقَدْ حَانَ مِنْ دُهْمِ الْمَنَايَا مَزَارُهَا
وَكَيْفَ تَلَذُّ الْعَيْنُ هَجْعَةَ سَاعَةٍ ... وَقَدْ طَالَ فِيمَا عَايَنَتْهُ اعْتِبَارُهَا
وَكَيْفَ تَقِرُّ النَّفْسُ فِي دَارِ نُقْلَةٍ ... قَدْ اسْتَيْقَنَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَرَارُهَا(5/146)
وَإِنِّي لَهَا فِي الأَرْضِ خَاطِرُ فِكْرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْنَ مَحَارُهَا
أليس لَهَا فِي السَّعْيِ لِلْفَوْزِ شَاغِلٌ ... أَمَا فِي تَوَقِّيهَا الْعَذَابَ ازْدِجَارُهَا
فَخَابَتْ نُفُوسُ قَادَهَا لَهْو سَاعَةٍ ... إِلَى حَرِّ نَارٍ لَيْسَ يَطْفَى أَوَارُهَا
لَهَا سَائِقٌ حَادِ حَثِيثٌ مُبَادِرٌ ... إِلَى غَيْرِ مَا أَضْحَى إليه مَدَارُهَا
تُرَادُ لأَمْرٍ وَهِيَ تَطْلُبُ غَيْرَهُ ... وَتَقْصِدْ وَجْهًا فِي سِوَاهُ سِفَارُهَا
أَمُسْرِعَةٌ فِيمَا يَسُوءُ قِيَامُهَا ... وَقَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْعَذَابَ قُصَارُهَا
تُعَطَّلُ مَفْرُوضًا وَتَعْنَى بِفَضْلَةٍ ... لَقَدْ شَفَّهَا طُغْيَانُهَا وَاغْتِرَارُهَا
إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ الْبَلاءَ سُكُونُهَا ... وَعَمَّا لَهَا مِنْهُ النَّجَاحُ نِفَارُهَا
وَتُعْرِضُ عَنْ رَبٍّ دَعَاهَا لِرُشْدِهَا ... وَتَتَبعُ دُنْيًا جَدَّ عَنْهَا فِرَارُهَا
فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ بَادِرْ بِرَجْعَةٍ ... فَلِلَّهِ دَارٌ لَيْسَ تَخْمُدُ نَارُهَا
وَلا تَتَخَيَّرْ فَانِيًا دُونَ خَالِدٍ ... دَلِيلٌ عَلَى مَحْضِ الْعُقُولِ اخْتِيَارُهَا
أَتَعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا تَرَكْتَهُ ... وَتَسْلُكُ سُبْلاً لَيْسَ يَخْفَى عَوَارُهَا
وَتَتْرُكَ بَيْضَاءَ الْمَنَاهِجَ ضِلَّةً ... لِبَهْمَاءَ يُؤْذِي الرِّجْلَ فِيهَا عُثَارُهَا
تُسَرُّ بِلَهْوٍ مُعْقِبٍ بِنَدَامَةٍ ... إِذَا مَا انْقَضَى لا يَنْقَضِي مُسْتَثَارُهَا
وَتَفْنَى اللَّيَالي وَالْمَسَرَّاتُ كُلَّهَا ... وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنُوبِ وَعَارُهَا
فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْتَيْقِظٌ فَقَدْ ... تَبَيَّنَ مِن سِرِّ الْخُطُوبَ اسْتِتَارُهَا
فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوَانِ رَبِّكَ وَاجْتَنِبْ ... نَوَاهِيَهُ إِذْ قَدْ تَجَلَّى مَنَارُهَا
تَجِدُّ مُرُورُ الدَّهْرِ عَنْكَ بِلاعِبِ ... وَتُغْرِي بِدُنْيَا سَاءَ فِيكَ سَرَارُهَا
فَكَمْ أُمَّةٍ قَدْ غَرَّهَا الدَّهْرُ قَبْلَنَا ... وَهَاتِيكَ مِنْهَا مُقْفِرَاتٌ دِيَارُهَا
تَذَكَّرْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى وَاعْتَبِرْ بِهِ ... فَإِنَّ الْمُذَكِّي لِلْعُقُولِ اعْتِبَارُهَا
تَحَامَى ذُرَاهَا كُلَّ بَاغٍ وَطَالِبٍ ... وَكَانَ ضَمَانًا فِي الأَعَادِي انْتِصَارُهَا
تَوَافَتْ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَأَنْشَتَّ شَمْلُهَا ... وَعَادَ إِلَى ذِي مُلكةِ مُسْتَعَارُهَا
وَكَمْ رَاقِدٍ فِي غَفْلَةٍ عَنْ مَنِيَّةٍ ... مُشَمِّرَةٍ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ سِعَارُهَا(5/147)
وَمَظْلَمَةٍ قَدْ نَالَهَا مُتَسَلِّطٌ ... مُذِّلٌ بِأَيْدٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ثَأْرُهَا
أَرَاكَ إِذَا حَاوَلْتَ دُنْيَاكَ سَاعِيًا ... عَلَى أَنَّهَا بَادٍ إليك أَزْوُرَارُهَا
وَفِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ يُقْعِدُكَ الْوَنَى ... وَتُبْدِي أَنَاةً لا يَصِحُّ اعْتِذَارُهَا
تُحَاذِرُ إِخْوَانًا سَتَفْنَى وَتَنْقَضِي ... وَتَنْسَى الَّتِي فَرْضٌ عَلَيْكَ حِذَارُهَا
كَأَنِّي أَرَى مِنْكَ التَّبَرَّمَ ظَاهِرًا ... مُبِينًا إِذَا الأَقْدَارِ حُلَّ اضْطِرَارُهَا
هُنَاكَ يَقُولُ الْمَرْءُ مَنْ لِي بِأَعْصُرٍ ... مَضَتْ كَانَ مِلْكًا فِي يَدَيَّ خِيَارُهَا
تَنَبَّهْ لِيَوْمٍ قَدْ أَظَلَّكَ وِرْدُهُ ... عَصِيبٍ يُوَافِي النَّفْسَ فِيهِ احْتِضَارُهَا
تَبَرّأ فِيهِ مِنْكَ كُلُّ مُخَالِطٍ ... وَأَنَّ مِن الآمَالِ فِيهِ انْهِيَارُهَا
فَأَوْدَعْتُ فِي ظَلْمَا ضَنْكٍ مَقَرُّهَا ... يَلُوحُ عَلَيْهَا لِلْعُيُونِ اغْبِرَارُهَا
تُنَادِي فَلا تَدْرِي الْمُنَادِي مُفْرَدًا ... وَقَدْ حُطَّ عَنْ وَجْهِ الْحَيَاةِ خِمَارُهَا
تُنَادَى إِلَى يَوْمٍ شَدِيدٍ مُفَزِّعٍ ... وَسَاعَةِ حَشْرٍ لَيْسَ يَخْفَى اشْتِهَارُهَا
إِذَا حُشرتْ فِيهِ الْوُحُوشُ وَجُمِّعَتْ ... صَحَائِفُنَا وَانْثَالَ فِينَا انْتِثَارُهَا
وَزُيَّنَتِ الْجَنَّاتِ فِيهِ وَأَزْلَفَتْ ... وَأُذِكيَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ اسْتِعَارُهَا
وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةِ بِالضُّحَى ... وَأُسْرِعَ مِنْ زَهْرِ النُّجُومِ انْكِدَارُهَا
لَقَدْ جَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنْهُ انْتِظَامُهَا ... وَقَدْ عُطِّلَتْ مِنْ مَالِكيْهَا عِشَارُهَا
فَإِمَّا لِدَارٍ لَيْسَ يَفْنَى نَعِيمُهَا ... وَأَمَّا لِدَارٍ لا يُفَكُّ إِسَارُهَا
بِحَضْرَةِ جَبَّارٍ رَفِيقٍ مُعَاقِبٍ ... فَتُحْصَى الْمَعَاصِي كُبْرُهَا وَصِغَارُهَا
وَيَنْدَمُ يَوْمَ الْبَعْثِ جَانِي صِغَارِهَا ... وَتُهْلِكَ أَهْلِيهَا هُنَاكَ كِبَارُهَا
سَتُغْبَطُ أَجْسَادٌ وَتَحْيَا نُفُوسُهَا ... إِذَا مَا اسْتَوى أَسْرَارُهَا وَجِهَارُهَا
إِذَا حَفُّهُمْ عَفْوُ الإِلَهِ وَفَضْلُهُ ... وَأسْكَنَهُمْ دَارًا حَلالاً عِقَارُهَا
يَفزُّ بَنُو الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمْ الَّتِي ... يَظُنُّ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ اقْتِصَارُهَا
هَيِ الأُمُّ خَيْرُ الْبَرِّ فِيهَا عُقُوقُهَا ... وَلَيْسَ بِغَيْرِ الْبَذْلِ يُحْمَى ذِمَارُهَا(5/148)
ج
فَمَا نَالَ مِنْهَا الْحَظَّ إِلا مُهِينُهَا ... وَمَا الْهُلْكُ إِلا قُرْبُهَا وَاعْتِمَارُهَا
تَهَافَتَ فِيهَا طَامِعٌ بَعْدَ طَامِعٍ ... وَقَدْ بَانَ لِلُّبِ الذَّكِيّ اخْتِبَارُهَا
تَطَامَنْ لِغَمْرِ الْحَادِثَاتِ وَلا تَكُنْ ... لَهَا ذَا اعْتِمَارٍ يَجْتَنِبْكَ غِمَارُهَا
وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِمَا تَرَى ... فَقَدْ صَحَّ فِي الْعَقْلِ الْجَلِيِّ عِيَارُهَا
رَأَيْت مُلُوكَ الأَرْضِ يَبْغُونَ عُدَّةً ... وَلَذَّةِ نَفْسٍ يُسْتَطَابُ اجْتِرَارُهَا
وَخَلُّوا طَرِيقَ الْقَصْدِ فِي مُبْتَغَاهُمُ ... لِمُتْبِعَةِ الصِّفَارُ جَمٌّ صِغَارُهَا
وَإِنَّ الَّتِي يَبْغُونَ نَهْجَ بَقِيَّةٍ ... مَكِين لِطُلابِ الْخَلاصِ اخْتِصَارُهَا
هَلْ الْعِزُّ إِلا هِمَّةٌ صَحَّ صَوْنُهَا ... إِذَا صَانَ هَمَّاتُ الرِّجَالِ انْكِسَارُهَا
وَهَلْ رَابِحٌ إِلا امْرُؤٌ مُتَوَكِّلٌ ... قُنُوعٌ غَنِيُّ النَّفْسِ بَادٍ وَقَارُهَا
وَيَلْقَى وُلاةُ الْمُلْكِ خَوْفًا وَفِكْرَةً ... تَضِيقُ بِهَا ذَرْعًا وَيَفْنَى اصْطِبَارُهَا
عَيَانًا نَرَى هَذَا وَلَكِنْ سَكْرَةً ... أَحَاطَتْ بِنَا مَا أَنْ يَفِيقُ خُمَارُهَا
تَدَبَّرْ مَن الْبَانِي عَلَى الأَرْضِ سَقْفَهَا ... وَفِي عَلْمِهِ مَعْمُورُهَا وَقِفَارُهَا
وَمَنْ يُمْسِكُ الإِجْرَامَ وَالأَرْضَ أَمْرُهُ ... بِلا عَمَدٍ يُبْنَى عَلَيْهِ قَرَارُهَا
وَمَنْ قَدَّرَ التَّدْبِيرَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ ... فَصَحَّ لَدَيْهَا لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا
وَمن فَتقَ الأَمْوَاهَ فِي صَفْحِ وَجْهِهَا ... فَمِنْهَا يُغَذَّى حَبُّهَا وَثِمَارُهَا
وَمَنْ صَيَّرَ الأَلْوَانَ فِي نُورِ نَبْتِهَا ... فَأَشْرَقَ فِيهَا وَرْدُهَا وَبَهَارُهَا
فَمِنْهُنَّ مُخْضَرٌّ يَرُوقُ بِصَيْصُهُ ... وَمِنْهُنَّ مَا يَغْشَى اللِّحَاظَ احْمِرَارُهَا
وَمَنْ حَفَرَ الأَنْهَارَ دُونَ تَكلُّفٍ ... فَثَارَ مِنَ الصُّمِّ الصِّلابِ انْفِجَارُهَا
وَمَنْ رَتَّبَ الشَّمْسَ الْمُنِيرَ ابْيِضَاضُهَا ... غُدوًّا وَيَبْدُو بِالْعَشِيّ اصْفِرَارُهَا
وَمَنْ خَلَقَ الأَفَلاكَ فَامْتَدَّ جَرْيُهَا ... وَأَحْكَمَهَا حَتَّى اسْتَقَامَ مَدَارُهَا
وَمَنْ إِنْ أَلمتْ بِالْعُقُولِ رَزِيَّةٌ ... فَلَيْسَ إِلَى حَيٍّ سِوَاهُ افْتِقَارُهَا
تَجِدْ كُلَّ هَذَا رَاجِعٌ نَحْوَ خَالِقٍ ... لَهُ مُلْكُهَا مُنْقَادَةً وَائْتِمَارُهَا(5/149)
أَبَانَ لَنَا الآيَاتِ فِي أَنْبِيَائِهِ ... فَأَمْكَنَ بَعْدَ الْعَجْزِ فِيهَا اقْتِدَارُهَا
فَأَنْطَقَ أَفْوَاهًا بِأَلْفَاظِ حِكْمَةٍٍ ... وَمَا حَلَّهَا إِثْغَارُهَا وَاتِّغَارُهَا
وَأَبْرِزَ مِنْ صُمٍّ الْحِجَارَةِ نَاقَةً ... وَأَسْمَعُهُمْ فِي الْحِينِ مِنْهَا حُوَارُهَا
لِيُوقِنَ أَقْوَامٌ وَتَكَفُّرِ عُصْبَةً ... أَتَاهَا بِأَسْبَابِ الْهَلاكِ قدَارُهَا
وَشَقَّ لِمُوَسَى الْبَحْرَ دُونَ تَكَلُّفُ ... وَبَانَ مِنَ الأَمْوَاجِ فِيهِ انْحِسَارُهَا
وَسَلَّمَ مِنْ نَارِ الأَنُوقَ خَلِيلَهُ ... فَلَمْ يُؤْذِهِ إِحْرَاقُهَا وَاعْتِرَارُهَا
وَنَجَى مِن الطُّوفَانِ نُوحًا وَقَدْ هَدَّتْ ... بِهِ أُمَّةٌ أَبدَى الْفُسُوقَ شِرَارُهَا
وَمَكَّنَ دَاوُدًا بِأَيْدٍ وَابْنَهُ ... فَتَعْسِيرُهَا مُلْقَىً لَهُ وَبِدَارِهَا
وَذِلَّلِ جَبَّارَ الْبِلادِ بِأَمْرِهِ ... وَعَلَّمَ طَيْرًا فِي السَّمَاءِ حِوَارُهَا
وَفَضَّلَ بِالْقُرْآنِ أُمَّةَ أَحْمَدٍ ... وَمَكَّنَ فِي أَقْصَى الْبِلادِ مُغَارُهَا
وَشَقَّ لَهُ بَدْرَ السَّمَاءِ وَخَصَّهُ ... بِآيَاتٍ حَقٍّ لا يُخَلُّ مُعَارُهَا
وَأَنْقَذَنَا مِنْ كُفْرٍ أَرْبَابِنَا بِهِ ... وَقَدْ كَانَ عَلَى قُطْبِ الْهَلاكِ مَنَارُهَا
فَمَا بَالُنَا لا نَتْرُكُ الْجَهْلَ وَيْحَنَا ... لِنُسْلَمُ مِنْ نَارٍ تَرَامَى شَرَارُهَا
اللَّهُمَّ تب عَلَيْنَا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات وسامحنا فأَنْتَ الحليم المسامح وانفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا فمنك الفضل والمنائح وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ في تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ
ومِمَّا يتأكد اجتنابه والبعد عَنْهُ، والتحذير منه في رمضان وفي غيره حلق اللحية وقصها ونتفها لما يأتي من الآيات وَالأَحَادِيث.(5/150)
.. قال الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} قال البغوي رَحِمَهُ اللهُ قيل: الرِّجَال باللحى، والنساء بالذوائب، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} ، وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وقَدْ رأى النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم على عَبْد اللهِ بن عمرو ثوبين معصفرين فَقَالَ له: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» . رواه مسلم , فالعاقل المتدين البصير الورع يبعد كُلّ البعد عن تقليدهم والتشبه بِهُمْ، والدنو إلى مستواهم المنحط الشاذ وإليك ما ورد في التحذير عن التشبه بِهُمْ، والأَمْر بمخالفتهم لتَكُون على بصيرة من ذَلِكَ وتفهم الأدلة وتنصح من رأيته يقلدهم ويتشبه بِهُمْ وتبين له أنه قَدْ أمر صلى الله عَلَيْهِ وسلم بإعفاء اللحية ومخالفة المشركين فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» . رواه أَحَمَد ومسلم.
وعن ابن عمر عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «خالفوا المشركين وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب» . متفق عَلَيْهِ. وروى الإمام أَحَمَد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «أعفوا اللحى وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنَّصَارَى» . وللبزار: «لا تشبهوا بالأعاجم، أعفوا اللحى» .
وروى عن ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من تشبه بقوم فهو مِنْهُمْ» . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود.(5/151)
وَقَالَ أيضًا: «إن اليهود والنَّصَارَى لا يصبغون فخالفوهم» . رواه البخاري ومسلم.
وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا النَّصَارَى» . وروي عن ابن عمر: «من تشبه بِهُمْ حتى يموت حشر معهم» .
وفي كتاب عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى عتبة بن فرقَدْ: وَإِيَّاكَ وزي أَهْل الشرك. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن عقيل رحمه الله: النهي عن التشبه بالعجم للتحريم.
وَقَالَ شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رَحِمَهُ اللهُ:
التشبه بالكفار منهي عَنْهُ بالإجماع. وَقَالَ على حديث ابن عمر: من تشبه بقوم فهو مِنْهُمْ. وقَدْ احتج الإمام أَحَمَد وغيره بهَذَا الْحَدِيث قال: وهَذَا أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بِهُمْ، وإن كَانَ ظاهره يقتضي كفر المتشبه بِهُمْ كما في قوله تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . انتهى.
وقَدْ جَاءَ في حديث رواه ابن إسحاق وابن جرير أنه صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله أمرني بإعفاء لحيتي وقص شارَبِّي» .
ومن الأدلة على تحريم حلق اللحية قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من رغب عن سنتي فلَيْسَ مني» . ومن سنته صلى الله عَلَيْهِ وسلم(5/152)
إعفاء اللحية. وروى الإمام أَحَمَد في زوائد المسند بأسانيد جيدة عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عَظِيم اللحية، وهَذَا يدل على أنه كَانَ يعفيها، ولا يأخذ منها شَيْئًا. وروى مسلم عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم كثير اللحية وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لحيته قَدْ ملأت من ها هنا وأمر يده على عارضه.
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم كث اللحية، تملأ عارضيه. وقال أبو معمر: قلنا لخباب ابن الأرت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، فقلنا له: بم كنتم تعرفون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته. رواه البخاري. وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: كيف كنتم تعرفون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرية؟ قال: باضطراب لحيته.
وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته. رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، فهذا يدل على عظمها وطولها وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: «هكذا أمرني ربي» . رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» . رواه أحمد وأبو داود.(5/153)
وَالذي يَحْلِقُها قََدْ كَرهَ الشَّعْرَ الأسْوَدَ، فَضْلاً عنْ الأَبيضِ الذِي هُوَ نورُ المَسلِم، وقد أخْرَجَ مُسْلِمُ في الصَّحيْحِ مِن حَديْثِ قتادة عن أنسِ بن مالكٍ قالَ: كنّا نكرَهُ أنْ يَنِتفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ البَيْضاءَ مِن رأسِه ولِحْيَتِه.
وكانَ أبُو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كَثَّ اللحْيَةِ، وكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَقيْقَ اللَّحْيةِ، وَكانَ عليُّ عَرْيضَ اللحية، وَقَدْ مَلأتْ مَا بَيْنْ مَنْكِبَيْهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقدْ قالَ صَلَّى اللهُ عَلْيهِ وسَلم: «عَلْيكُم بسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيَّينَ منْ بَعْدِيْ، عضُّوا عَليْهَا بالنَّواجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدثَاتُ الأمُورِ، فَإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بَدْعة» . الخ ومن الأدلة على تحريم حلق اللحية - مع ما تقدم، وأنه تشبه بأعداء الله اليهود والنصارى - أنه أيضًا تشبه بالنساء.
وبالأمرد في عدم الشعر بالوجه، وقد ورد اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، في عدة أحاديث تقدمت في فصل مفرد لها.
وأيضًا فحلق اللحية تغيير لخلق الله وتمثيل بالشعر، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق» . رواه الطبراني. قال أهل اللغة: مثل بالشعر: صيرة مُثْلَه، بأن حلقه من الخدود أو نتفه، أو غيره بالسواد.
وقد عمت هذه البدعة في زمننا، وانتشرت انتشارًا يؤلم قلب كل(5/154)
مؤمن، فإنه إذا التفت إلى وجوه من حوله من الرجال وجد الأكثر منهم مغيرًا لما جمله الله به، وجعله - لو أبقاه - داعيًا إلى وقاره واحترامه وهيبته، ويندر جدًا أن ترى وجه المتأدب بآداب الشريعة، الذي لا يتعرض للحيته بحلق ولا قص ولا نتف، ولا تسويد الشعر الأبيض، عليه ما زينه الله به من سيما الرجولة والوقار حيث أبقاها، إذ هو بحلقها يزيل جماله الشاهد في بقائها وينفق ماله في حلقها وسيسأل عنه يوم القيامة ويهدم رجولته، ويعدم هيبته ووقاره، ويرضى لنفسه أن يعيش طول حياته متشبهًا بأعداء الإسلام الإفرنج، فإن حلقها علامتهم جميعًا في هذا الزمان كما نشاهد وأما إعفاء اللحية فعلامة المرسلين وأتباعهم وأحبائهم السائرين علي منهاجهم عباد الله الصالحين. نسأل الله أن يوفقنا لسلوك منهاجهم إنه القادر على ذلك.
قال ابن القيم: ثم تأمل لم صارت المرأة والرجل إذا أدركا اشتركا في نبات العانة ثم ينفرد الرجل عن المرأة باللحية، فإن الله عز وجل لما جعل الرجل قَيِّمًا على المرأة، وجعلها كالخول والعاني في يديه، ميزة عليها بما فيه له المهابة والعز والوقار والجلالة، لكماله وحاجته إلى ذلك، ومنعتها المرأة، لكمال الاستمتاع بها والتلذذ، لتبقى نضارة وجهها وحسنه لا يَشِينُهُ الشعر. انتهى.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل: وقال في الدر المختار وأما الأخذ منها وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد اهـ ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته والحلق أعظم بكثير، لأنه لا يبقي شيئًا منها(5/155)
وقال أبو شامة وقد حدث قوم يحلقون لحالهم وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال. أ. هـ.
قال بعضهم:
أَلا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي جَرِ ثَوْبِهِ ... وَجَزٍّ لِبَعْضٍ الرَّأْسِ فِعْلَ الأَسَافِلِ
فَمَا الْعِزُّ فِي حَلْقِ اللِّحَا أَوْ خَنَافِسٍ ... وَلا شُرْبِ دَخَّانٍ هَوَتْهُ الأَسَافِلِ
وَلَكِنَّهُ بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى ... وَجُودٍ وَحِلْمٍ وَاقْتِنَاءِ الْفَضَائِلِ
آخر: ... لَيْسَ السِّيَادَةُ أَشْنَابًا مُفَتَّلَةً ... وَلا لِحًا أَنْهِكَتْ بِالْمُوسِ وَالنِّيَرِ
لَكِنَّهَا بِالتُّقَى وَالزُّهْدِ يَعْرِفُهَا ... مَنْ بِالْفَضَائِلِ مَشْهُورًا لَدَى الْبَشَرِ
آخر: ... لَعَمْرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلا ابْنُ دِينِهِ ... فَلا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبْ
فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الشَّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبْ
آخر: ... لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ فِي الْوَرَى ... وَزِينَةُ الْمَرْءِ بِتَوْحِيدِهِ
قَدْ يُرْفَعُ الْمَرْءُ بِتَوْحِيدِهِ ... فِينَا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ
... وفي اللحية خصال نافعة: أولاً: مخالفة المشركين.
ثانيًا: تمييز الرجل عن المرأة. ثالثًا: تمييز الرجل عن الصبي وتغطية ما في منبتها من تشوية أو تثن لاسيما في الكبر. رابعًا: تعظيم الرجل الذي يعفيها وتوقيره. خامسًا: أن إعفاءها من سنن المرسلين. سادسًا: أنه ينظر إلى معفيها بعين التعظيم والإجلال والتقدير. سابعًا:(5/156)
تقديم من يعفيها على الجماعة وتعقيله والسلامة من تضييع قطعة من العمر في حلقها أو قصها ثامنًا: صحة إمامته بالجماعة. تاسعًا إبعاده عن مشابهه النساء والصبيان، واليهود والنصارى والمجوس والمخنثين.
ووصف بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس، قال: وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفًا، فلم يذكر حنفه ولا عوره، وذكر كراهية عدم اللحية، لإن من لا لحية له يرى عند العقلاء ناقصًا، وكان الأحنف عاقلاً حليمًا، يضرب به المثل في الحلم، وذكر عن شريح القاضي، قال: وددت أن لي لحية بعشرة آلاف درهم وأهل زمننا بعضهم يود لو عدمها وساق آلافًا من الورق ولا تفيد معه النصائح مهما أيدت بالآيات والأحاديث، وذكر العلماء أن في اللحية إذا أزيلت بالكلية ولم تعد الدية كاملة، وهؤلاء المجاهرون بهذه المعصية العظيمة، المعاكسون لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في إبقائها وإكرامها، والمتشبهون باليهود والنصارى في حلقها، يرون الجمال والتمدن بالقضاء على أعظم الفوارق بين الذكر والأنثى وهو اللحية عكس رأي أهل الدين والصلاح، قال الله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وأكثر حالقي لحاهم وصل بهم التشبه إلى حد إن أبقوا شواربهم واقفة ليس فيها قصير، وكأنهم بفعلهم هذا يعاندون المصطفى صلى الله عليه وسلم ويعاكسونه، حيث أنه يأمر بإبقاء اللحى وإحفاء الشوارب، وزيادة على هذا يجعلون ما يسمى بالتواليت ويفرقونه ويكدونه، وبعضهم يزيد ويخنفس، فهل هذا التشبه والتتبع لسفاسف الأخلاق إلا من الانتكاس وعمى البصيرة والتقليد الأعمى ولا يفهم أن هذا إزالة(5/157)
للجمال والرجولة والهيبة والوقار والكمال، نعوذ بالله من الانتكاس وهذا من نتيجة تقليد الأجانب، ولهذا ترى كثيرًا من الناس أهملوا أمر الدين واستهانوا بحقوقه، وعبثوا بواجباته وانتهكوا حرمات الله، ولم يبالوا بارتكاب ما لا يرضاه الله من الشرور والمنكرات والقبائح، سائر كل منهم وراء شهوته وهواه، ونفسه الأمارة بالسوء.
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ويا ليت أنهم قلدوا الأجانب فيما يفيد وينفع من الصناعات.
وكل ما يرقي شؤونهم، من الفنون التي تعود إلى مصلحة الإسلام والمسلمين، لكن قلدوهم فيما يضر ولا ينفع، في حلق اللحى وشرب الدخان، ولعب القمار والمسكرات، والربا في البنوك وغيرها، وفي التأمينات، وفي الملاهي بأنواعها، وفي التصوير والتبرج والتهتك واللعب بالكرة، وضياع العمر عند المذياع والتلفزيون والسينماء، وسائر أنواع المحرمات التي قضت على العمر والوقت والمال والأخلاق، فيا للأسف على ذهاب العمر النفيس الذي لا قيمة له ولا خطر، ولا يعادلة جوهر ولا ذهب ولا فضة ولا در ولا مرجان، ولا لؤلؤ ولا عقيان عند الملاهي والمنكرات التي سوف يعضون أيديهم على ضياع الوقت عندها إذا نودوا للوقوف بين يدي العزيز الجبار.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(5/158)
ج
شِعْرًا: ... أَعُوذُ بِرَبِّ الْعَرْشِ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ ... وَأَسْأَلُهُ عَفْوًا لِكُلِّ خَطِيئَةٍ
وَحِفْظًا لِدِينِي ثُمَّ دُنْيَايَ ثُمَّ مَا
أُكِنُّ وَمَا أَبْدِيهِ مَعْ حُسْنِ نِيَّةِ
فَأَحْيَا مُحِبًّا لِلنَّبِي وآله
وَأَصْحَابِهِ فِي خَيْرِ هَدْيٍ وَسُنَّةِ
فَمِنْ هَدْيِ خَيْرِ الْخَلْقِ إِعْفَاءٌ لِحْيَةٍ
وَمِنْ هَدْيِهِ يَا صَاحِ لُبْسٌ لِعَمَّةِ
وَقَدْ جَاءَ أَقْوَامٌ عَتَاةٌ تَجَاسَرُوا
عَلَى هَدْمِ أَعْلامِ الْهُدَى بِوَقَاحَةِ
وَيَا لَيْتَهُمْ لمَّا عَنْ الْحَقِّ أُعْرِضُوا
بِأَفْعَالِهِمْ مَا عَارَضُوا بِصَرَاحَةِ
هُمُ مَثَّلُوا مِنْ جَهْلِهِمْ بِوُجُوهِهِمْ
لَقَدْ بَلَغُوا فِي ذَاكَ حَدَّ الشَّنَاعَةِ
أَقُولُ لِمَنْ أَمْسَى عَن الدِّينِ نَاكِبًا
مُعَانِدًا أَعْلامَ الْهُدَى لِلشَّرِيعَةِ
يُجَاهِرُ فِي نُكْرٍ وَيُبْدِي تَشَبُّهًا
بِأَعْدَاءِ دِينٍ يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةِ
يُمَثِّلُ فِي وَجْهٍ بِحَلْقٍ لِلحْيَةِ
لَعَمْرِي لَقَدْ سَاوَى لِوَجْهٍ بِعَانَةِ
فَأَصْبَحَ مِنْهُ الْوَجْهُ أُسْتًا مَشَوَّهًا
لَدَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ بِأَقْبَحِ صُورَةِ
تَعَوَّدَ هَذَا الْخُلْقَ طَبْعًا لأَنَّهُ
يُلائِمُ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ خَلاعَةِ ... ?(5/159)
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
... أَخِي اسْتَمِعْ مِنِّي هُدِيتَ نَصِيحَةٍ ... بِقَوْلٍ حَرِيٌّ بِالصَّوَابِ وَنَافِعِ
أَتَتْ مِنْ أَخِي وِدٍّ شَفِيقٍ عَلَى الَّذِي ... عَن الْكِبْرِ نَاءٍ مَائِلٍ لِلتَّوَاضِعِ
إِذَا أَبْصَرْتَ عَيْنَاكَ مَخْلُوقَ لِحْيَةٍ ... مُقَلِّدَ أَهْلِ الْغَرْبِ صُهْبَ الْمَفَارِعِ
فَلِلَّهِ فَالْجَأْ حَامِدًا مُتَضَرِّعًا ... وَقُلْ مَا أَتَى عَمَّنْ أَتَى بِالشَّرَائِعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُنَابِذًا ... لأَخْلاقِهِمْ تُحْضَى بِأَعْلَى الْمَوَاضِعِ
وَتَعْنَى بِأَخْلاقِ النَّبِي وَصَحْبِهِ ... مُعَفِّي اللَّحَا أَهْلِ الْعُلُومِ الْجَوَامِعِ
فَكَمْ بَيْنَ مَنْ قَدْ شَابَهوا خَيْرَ مُرْسَلٍ ... بِإِعْفَائِهِمْ أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ مُتَابِعِ
وَمَنْ رَدَّ أَمْرَ الْمُصْطَفَى فَاغْتَدَى لَهَا ... بِحَلْقِ لَهَا أَوْ نَتْفِهَا بِالأَصَابِعِ
أَوْ الْقَصِّ أَوْ تَحْرِيقَهَا أَوْ بَكِيِّهَا ... يَرَى تَرْكَهَا مِنْ مُعْظَمَاتِ الْفَضَائِعِ
يُغَيِّرُ عَلَيْهَا كُلَّ صُبْحٍ بِمَا حَقٍ ... إِذَا مَا بَدَا شَعْرٌ عَلاهُ بِقَاطِعِ
كَأَنَّ لَهُ ثَأْرًا عَلَيْهَا مُضَاعَفًا ... فَمَا نَاصِحٍ مُغْنٍ وَلا شَفْعُ شَافِعِ
مُهَدَّةْ فِي كُلِّ صُبْحٍ وَرَوْحَةٍ ... فَمَا أَمْنُهَا إِلا بِجِلْدٍ مُمَانِعِ
إِذَا قُلْتُ لَمْ تَعْصِ النَّبِي مُحَمَّدًا ... فَتَحْلِقُهَا حَلْقَ الْعَنِيدِ الْمُدَافِعِ
أَمَا أَوْجَبَ الرَّحْمَنُ طَاعَةَ أَحْمَدٍ ... عَلَيْنَا وَعِصْيَانَ الْعَدُوِّ الْمُقَاطِعِ
أَمَا قَالَ أَرْخُوا لِلِّحَاءِ وَوَفِّرُوا ... فَوَفَّرْ تَكُنْ لِلْمُصْطَفَى بِمُتَابِعِ
فَاطْرَقَ حَتَّى أَنْ ظَنَنْتَ بِأَنَّهُ ... سَيَرْجِعُ عَنْ إِتْلافِهَا بِمُسَارِعِ
وَيَنْدَمُ عَمَّا قَدْ مَضَى مِنْهُ أَوَّلاً ... وَيَعْزِمُ فِي جِدَّ مِنَ الْجَزْمِ قَاطِعِ
فَقَالَ بِمَا قَالَ الْكَثِيرُ مُعَانِدًا ... أَلَسْتَ تَرَى غَيْرِي فَلَسْتَ بِسَامِعِ
فَقُلْتُ أليس الأَكْثَرُونَ عَن الْهُدَى ... تَوَلَّوْا فَضَلُّوا فِي وَخِيمِ الْبَلاقِعِ(5/160)
وَفِي تَافِهَةَ الأَشْيَاءِ لِلضِّدِّ قَلَّدُوا ... وَفِي الدِّينِ وَالأَخْلاقِ صُفْرُ الْبَضَائِعِ
فَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا ... تُقَارِنُ فِي عَدْلٍ عَن الْجُورِ شَاسِعِ
وَأَخْتمُ قَوْلِي حَوْلَ مَا قُلْتُ أَوَّلاً ... فَمَا فِي يَدِي حَوْلٌ وَلَسْتُ بِدَافِعِ
سَلامٌ عَلَى مُعْفِي اللِّحَا كُلَّ مَا بَدَا ... لَنَا شَعْرُهَا مَا بَيْنَ سُودِ وَنَاصِعِ
وَصلى إِلَهِي كُلَّ مَا ذَرَّ شَارِقٌ ... عَلَى أَحْمَدِ الْمُخْتَار جَمِّ الْمَنَافِعِ
وبالتالي فلو لم يكن في حلقها إلا أنه اعتراض على حكمة الله حيث جعلها ميزة للرجل عن الأنثى ثانيًا: أن من نواقض الإسلام كراهة ما جاء عن الله أو عن رسوله ويخشى على حالقها من ذلك. ثالثًا: أن حلقها معصية لله ولرسوله لقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} وقد أمر الرسول بإعفائها. رابعًا: أن حلقها تمثيل بالشعر وتقدم حديث من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاقٌ. خامسًا: أنه تشبه باليهود. سادسًا: أنه تشبه بالنصارى. سابعًا: أنه تشبه بالمجوس. ثامنًا: أنه تشبه بالنساء. تاسعًا: أنه تشبه بالمرد. عاشرًا: أنه دليل على أن حالقها يميل إلى غير أمته. الحادي عشر: أن من حلقها أو قص منها لرضاء الزوجة أو الزملاء ملتمس رضا الناس بسخط الله لأن من عصى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله.
اللهم ثبت وقوِّ محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة: عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم، أم هم في الأمر متهاونون، ولأي شيء يجتمعون، ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام(5/161)
الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعوظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه، وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحياء من فاطر الأرض والسماوات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنًا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الآذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السماوات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ(5/162)
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الذين بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التلفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شؤون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكورة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب، وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والحالة هذه مخيفة لذوي العقول، والفهوم، لاسيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبدٍ وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} » . وقال قتادة: ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
شِعْرًا: ... كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّينِ(5/163)
وقال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة.
فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين عمله قرب الناهي وهو الله) .
تَوَارَى بِجِدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى ... وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لاشَكَّ تَنْظُرُ
فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان.
حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأفٍ للذنوب ما أقبح آثارهًا وأسوء أخبارها انتهى كلامه.
أَمَا آنَ الرُّجُوعُ إِلَى الصَّفُوحِ ... عَن الزَّلاتِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ
تُبَادِرُهُ بِقُبْحِ الْفِعْلِ سِرًّا ... وَلا تَخْشَاهُ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ
هَدَاكَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ... وَأَنْتَ ضَلَلْتَ عَنْ هَذَا الصَّحِيحِ
وَفِي دُنْيَاكَ تُؤثرُ كُلَّ فَانٍ ... عَنِ الْبَاقِي الْمُعَزَّزِ وَالْمَلِيحِ
آخر: ... يَا طَالِبَ الطِّبِّ مِنْ دَاءِ تَخَوَّفَهُ ... إِنَّ الطَّبيبَ الَّذِي أَبْلاكَ بِالدَّاءِ
هُوَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُرْجَى لِعَافِيَةٍ ... لا مَنْ يُذِيبُ لَكَ التِّرْيَاقَ بِالْمَاءِ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنًا لإغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح.(5/164)
والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
فَصْلٌ في الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ
وصرفه فيما فيه النفع من صلاة وزكاة وصيام وحج وتسبيح وتهليل وتكبير، وسائر أنواع القربات لله، التي هي عمارة بيته الذي سيسكنه طويلا.
ومما يتأكد إجتنابه والتحذير منه في رمضان وغيره الجلوس في المجالس التي هي كفيلة بالخسران والندامة، كمجالس آلات اللهو من الاسطوانات والمذياع وأعظم من ذلك السينما والتلفزيون والفديو والكرة.
أما المذياع فلأنه آلة لهو محرم، لدخوله في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية وقد فسر لهو الحديث، كثير من السلف - من الصحابة والتابعين - بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي ويشغل عن الخير، فإن فسرت هذه الآية بالغناء والمزامير فهو رأس الملاهي كلها، وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي ويشغل عن الخير فهو الجامع لذلك، وفوق ذلك الوصف، ومن المعلوم لدى كل ذي عقل سليم منصف أن الراديو المقصود الأصلي منه اللهو والغناء، والاشغال عن طاعة الله.
وفي المذياع يجمع بين كلام الله والغناء، وهذا من أعظم التنقص والامتهان لكتاب الله، ومن جهة أخرى فهو استهزاء واستخفاف بكتاب الله وقد قال جل وعلا وتقدس: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} وعدم(5/165)
تنزيه كتاب الله عن مزامير الشيطان من أعظم الظلم وأقبحه، وأجور الجور وأشنعه وربما أغلق المذاع كراهة للقرآن وهذا ردة قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان: وأما سماعه أي الغناء، من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادًا للدين.
قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعهم فهو سفيه، ترد شهادته، وغلظ القول فيه، وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثًا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. قلت: فكيف لو رأى الراديو، وما يأتي من الخلاعة والغناء، والمنكرات العظيمة، التي أنبتت النفاق، ومكنته من قلوب الأولاد والشباب والكهول والشيوخ، إلا من عصمه الله، وكذلك لو رأى التلفزيون أو السينما أو المجلات الخليعة، وما في ذلك من المفاسد والصور والمنكرات والشرور والخلاعات فيالله للمسلمين.
وقال: كان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق.
قال ابن القيم: وأما تسميته رُقَيَّةَ الزنا: أي الغناء فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق فليس في رُقْيه الزنا أنجع منه، وهذه التسميه معروفة عن الفضيل بن عياض، قال إبراهيم بن محمد المروزي، عن(5/166)
أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم ولا بد فاعلون فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا. قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جن الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني. فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعني ابنته فإن كففته وإلا خرجت عنك، ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم قال: اخصوهم. فقال عمر بن عبد العزيز: هذا مثلة فلا يحل فخلى سبيلهم.
فإذا كان الشاعر المفتوق اللسان، الذي هابت العرب هجاءه، خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره، ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب.
ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًا، فإذا كان الصوت بالغناء كان انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال(5/167)
النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حاديه: «يا أنجشة رويدك رفقًا بالقوارير» . يعني النساء، فإذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابه والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء حبلت من هذا الغناء، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنىً وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد وحلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف من أشجانٍ وأحزانٍ، فلم يجد بدًا من قبول تلك الهدايا، وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من الآم منتظره، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة.
قال: وأما تسميته منبت النفاق فعن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع، والذكر ينبت الأيمان في القلب، كما ينبت الماء الزرع، فإن قيل: فما وجه انباته للنفاق من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة(5/168)
المرض فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرق والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطب الناس.
وقال: فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلوب بالنفاق ونباته كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعَا لبان وفي تهييجها علي القبائح كفرسَى رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وحديثه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ.
وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخييل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة، فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الأيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء ومال إليه، نقص عقله، وقل حياؤه وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما(5/169)
تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب. ولله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من النونية في سماع أهل الجنة.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسَلُ رَبُّنَا ... ???? ... رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ ... ???? ... فَتَثِيرُ أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ ... ???? ... إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ ... ???? ... يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي
بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ ... ???? ... أَوَ مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهُمْ فِيهَا غِنَا ... ???? ... ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ ... ???? ... مُلِئَتْ بِهِ الأَذَانِ بِالإِحْسَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ ... ???? ... مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ ... ???? ... لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ ... ???? ... ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ ... ???? ... مَا ظَنَّ سَامِعَهُ بِصَوْتٍ أَطْيَبَ الْـ ... ???? ... أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ ... ???? ... نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيِّرَا ... ???? ... تٌ كَامِلاتٌ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ ... ? ... ????ج(5/170)
جج
... لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَالَنَا ... ???? ... سَخَطٌ وَلا ضَعَنٌ مِنَ الأَضْعَانِ ... ???? ... طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو ... ???? ... بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُنَا لَفْظَانِ ... ???? ... نَزِهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ ... ???? ... ذَيَّاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ ... ???? ... لا تُؤْثِر الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ ... ???? ... رَمَ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحِرْمَانِ ... ???? ... إِنَّ اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِلِ الْـ ... ???? ... أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِن النُّقْصَانِ ... ???? ... وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهم فِي الْقَلْبِ وَالْـ ... ???? ... إِيمَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ ... ???? ... وَاللهِ مَا أَنْفَكَ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ ... ???? ... أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ ... ???? ... فَالْقَلْبُ بَيْتُ اللهِ جَلَّ جَلاله ... ???? ... حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ ... ???? ... فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ ... ???? ... عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ ... ???? ... حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا ... ???? ... فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ ... ???? ... ثَقُلُ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُوا لَمَّا رَأَوْا ... ???? ... تَقْيِيدَهُ بِشَرَائِعِ الإِيمَانِ ... ? ... ????(5/171)
.. وَاللَّهُوُ خَفَّ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَأَوْا ... ???? ... مَا فِيهِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَلْحَانِ ... ???? ... قُوتُ النُّفُوسِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ قُوتُ ... ???? ... الْقَلْبِ أَنَّى يَسْتَوِي الْقُوتَانِ ... ???? ... وَلِذَا تَرَاهُ حَظُّ ذِي النُّقْصَانِ كَالْـ ... ???? ... جُهَّالِ وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ ... ???? ... وَأَلذُهُمْ فِيهِ أَقَلُّهُمْ مِنْ الْـ ... ???? ... مَقْلِ الصَّحِيحِ فَسَلْ أَخَا الْعُرْفَانِ ... ???? ... يَا لَذَّةَ الْفُسَّاقِ لَسْتَ كَلَذَّةِ الْـ ... أَبْرَارِ فِي عَقْلٍ وَلا قُرْآنِ
نسأل الله أن يلهمنَا رشدنَا ويبصرنَا بعيوب أنفسنَا ويشغلنا بإصلاحها ويوفقنا لقبول نصح الناصح وإرشاد المرشد. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
موعظة
عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله، ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهة باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب والآم والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام أنت تطلب الجنة يا هذا ولا نفيس أنفس منها لإنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك(5/172)
دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعي فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعي لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها علي بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجري الله العادة أن من خاف شيئا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر، وكل الفرار، ويذهب هدوئه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارا لا اختيارا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته وصفوها جهنم يا هذا اعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار.
الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو كان إيمانك قوي في قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات،
شِعْرًا: ... وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ
آخر: ... تَذَكَّرْتُ أَيَّامِي وَمَا كَانَ فِي الصَّبَا ... مِنْ الذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْجَفَا
وَكَيْفَ قَطَعْتُ الْعُمْرَ سَهْوًا وَغَفْلَةً ... فَأَسْكَبْتُ دَمْعِي حَسْرَةً وَتَلَهُّفَا
وَنَادَيْتُ مَنْ لا يَعْلَمُ السِّرَّ غَيْرُهُ ... وَمِنْ وَعْدِ الْغُفْرَانِ مَنْ كَانَ قَدْ جَفَا(5/173)
وَتَابَ إليه مِنْ ... كِبَارِ ... ذُنُوبِهِ ... فَجَادَ ... عَلَيْهِ ... بِالْجَمِيلِ تَعَطُّفَا
أَغِثْنِي إِلَهِي وَاعْفُ عَنِّي فَإِنَّنِي ... أَتَيْتُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَلَهِّفَا
وَخُذْ بِيَدِي مِنْ ظُلْمَةِ الذَّنْبِ سَيِّدِي ... وَجُدْ لِي بِمَا أَرْجُوهُ مِنْكَ تَلَطُّفَا
اللهم وفقنا لاتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، واكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصة، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة، وسر المسألة أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا، وأيضًا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك مغمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق.
وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل، قول الحق وعمل بالطاعة وهذا ينبت علي الذكر وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل وعمل الغي، وهذا ينبت على الغناء، وأيضًا فمن علامات النفاق قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، وقل أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه، وأيضًا فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه(5/174)
يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق وأيضًا فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك، وأيضًا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله، من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء، فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
قال: وأما تسميته قرآن الشيطان. فمأثور عن التابعين. وعن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيمًا، فاجعل لي بيتًا، قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلسًا. قال: الأسواق ومجامع الطرق. قال: فاجعل لي طعامًا. قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فاجعل لي شرابًا. قال: كل مسكرٍ. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: المزمار. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: الشعر. قال: فاجعل لي كتابًا. قال: الوشم. قال: اجعل لي حديثًا. قال: الكذب. قال: اجعل لي رسلاً. قال: الكهنة. قال: اجعل لي مصائد، قال: النساء» .
اللهم خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبرار واصرف عنا شر الأشرار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار ويا كريم ويا ستار(5/175)
ويا حليم ويا جبار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
شِعْرًا: ... قَدْ أَشْرَقَتْ (رَايَةُ الإِسْلامِ) وَالأَدَبِ ... فَحَيِّهَا مُعْلِنًا بِالشِّعْرِ وَالْخَطَبِ
وَاهْجُرْ سَبِيلَ الأوُلَى جَادُوا بِشِعْرِهِمْ ... لِمَنْزِلٍ دَارَسِ الإطلالِ مِنُ نُوَبِ
يُشْجِيهِمْ ذِكْرُ آرَام نَعِمْنَ بِهِ ... تَسُومُ بِنْتُ الرُّبَى فِي مَأْمَنَ خَصَبِ
وَذِكْرُ عَيْنٍ لَهَا فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةُ ... تَلْقَى قُلُوب أُولِي الأَحْلامِ فِي كُرَبِ
كَمِثْلِ رِيمِ يَمِينِ الرَّنْدِ قَدْ عَرَضَتْ ... أَلْقَتَ إِليَّ سِهَامَ الْحُزْنِ وَالشَّجَبِ
عِينُ الْمَهَاةِ رَمَتنِي وَهِيَ مُعْرِضَةُ ... فَصِرْتُ ذَا حَيْرَةِ فِي كَفِّ مُسْتَلِبِ
لَمَّا تَوَلَّتْ بِقَلْبِي قُلْتَ وَآسَفِي ... هَلْ مِنْ جَنَاحٍ فَأقْفُو مُنْتَهَى طَلَبِي؟
لَوْلا التَّجَلُّدُ مَا أَمْسَيْتُ فِي سَكَنٍ ... وَكُنْتُ فِي الْبَيْدِ بَيْنَ الْوَحْشِ لَمْ أَثْبِ
لَعَلَّ رِيحُ الصِّبَا تَأْتِي بِرَائِحَةِ ... مِنْ نَفْجِ عَنْبَرِهَا يَشْفِي لِذِي الْوَصَبِ
مَا كُنْتُ أَعْرِفُ قَبْلَ إليوْمِ مَا وَصَفَتْ ... أَهْلُ النَّسِيبِ مِنَ الأَشْجَانِ وَالْكَأَبِ
لَمَا بُلِيتُ أَقَمْتُ الْعُذْرَ دُونَهُمْ ... عُذْرَ الْخَبِيرِ بِسَهْمِ الْفَاتِكِ الأَرَبِ
فَلَيْتَ ذَا الْعَقْلِ يَرْثِي لِي وَيَعْذُرُنِي ... وَلَيْتَ أَهْلُ النُّهَى وَالدِّينِ وَالأَدَبِ
إِذْ يَعْذِلُونُ لِصَبٍ يَأْتِ مُكْتَئِبًا ... يَلْقَوْنَ مِثْلَ الَّذِي أَلْقَى مِن النَّصَبِ
أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى نُصْحٍ وَمَوْعِظَةٍ ... مِنَ الْكِتَابِ وَتَذْكِيرٍ بِهَدْي نَبِي
كَيْمَا يَكُونُ مَرِيضٌ الْقَلْبِ مِنْ سَفَهٍ ... أَوْ غَفْلَةٍ بَيْنَ خَوْفِ اللهِ وَالرَّغَبِ
نِعْمَ الشِّفَاءُ كِتَابُ اللهِ مَعَ سُنَنِ ... كَمْ أَبْرَءَآ دَنِفِ التَّشْكِيكِ وَالرِّيبِ
فَأَدْمِنَ الْوَعْظَ وَالإِرْشَادِ مُجْتَهِدًا ... وَانْشُرْ مَحَاسِنِ هَذَا الدِّينِ فِي دَأَبِ
أَمَا تَرَى النَّشْءَ قَدْ حَادَتْ رَكَائِبَهُمْ ... عَنِ التَّقَدُّمِ لِلْعَالي مِنَ الرُّتَبِ؟
وَغَرَّهُمْ صَوْتُ مِذْيَاعٍ قَدْ امْتَلأَتْ ... مِنْهُ الْمَسَامِعُ فِي تَمْجِيدِ كُلَّ غَبِي؟
بَثُوا الدِّعَايَةَ لِلدُّنْيَا وَزُخْرَفِهَا ... وَلِلتَّنَافُس بِالأَمْوَالِ وَالنَّشَبِ
وَضَلَّلُوا النَّشْء بِالآرَاءِ خَادِعَةٌ ... وَضَيَّعُوا الْوَقْتَ فِي مَلْهَى وَفِي طَرَبِ(5/176)
وَلَقَّبُوا الْحَقَّ الْقَابًا مُشَوَّهَةً ... لِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ باللَّقَبِ
وَحَارَبُوا الدِّينَ وَالأَخْلاقَ جُهْدَهُمُ ... يَا بِئْسَ مَا وُعِدُوا فِي شَرِ مُنْقَلَبِ
وَحَسَّنُو السُّبُلَ اللآتِي يَهِيمُ بِهَا ... قَوْمُ يَرَوْنَ الْعُلَى بِالْمِقْول الذَّرِبِ
مَا الْعِلْمُ سَبْكٌ وَتَنْمِيقٌ وَشَقْشَقَةُ ... مِنْ دُونِ نُورٍ مِنَ الْوَحْيَيْن مُصْطَحِبِ
أَغَايَةَ الْعِزِّ أَنْ تَقْلُوا مَبَادِئَكَمْ؟ ... وَتَتْرُكُوا مَجْدَكُمْ نَهْبًا لِمُنْتَهَبِ؟
وَهَلْ يُعدُ عَزِيزًا مِنْ نِهَايَتُهُ؟ ... قَعْرُ الْجَحِيمِ مَعَ الطَّاغِي أَبِي لَهَبِ؟
وَكَمْ غَبِيٍ يَرَى الإِسْلامَ أَخَرَّنَا! ... وَالْكَفَرَ قَدّمِ أَهْلَ الْغَرْبِ وَالْعَجَمِي
يَرَى التَّقَدمُ فِي تَرْكِ التَّدَيُّنَ لَمْ ... يَنْظُرْ لِصَفْوَتِنَا فِي سَالِف الْحُقُبِ
لِذَاكَ عَابَ عَلَى الإِسْلامِ يَهْدِمُهُ ... بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبِ
مِثْلُ الْغُرَابِ الَّذِي يَهْوَى وَيَعْجُبُه ... مَشْيُ الْحَمَامَةِ فِي حُسْنٍ وَفِي خَبَبِ
فَحَاوِلْ الْغُمْرُ أَنْ يَحْكِي لِمَشْيَتِهَا ... فَضَلّ مِشْيَتَهُ الأُولَى وَلَمْ يُصِبِ
(لا تَظْلِمُوا الدِّينَ إِذْ كَلَّتْ عَزَائِمِكم) ... وَتَلَصَّقُوا كُلَّ عَيْبٍ فِيهِ بِالْكَذِبِ!
تَعَلُّمُ الطِّبِ لَيْسَ الشَّرْعَ يَمْنَعُهُ ... وَلا الصَّنَائِعُ فِي نَفْعٍ لِمُكْتَسِبِ
وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ الأُمُورَ إِذَا ... أَدَّتْ لِمَعْصِيَةِ تُلْقِيكَ فِي الْعَطَبِ
بَلْ جَاءَنَا النَّصُّ فِي إِعْدَادِ قُوتِنَا ... كَيْمَا يَكُونُ عَدُو الدِّينِ فِي رَهَبِ!
وَمَنْ أَرَادَ رُقِيًّا أَوْ مُغَالَبَةً ... مِن دُونِ دِينٍ فَمَا أَوْهَاهُ مِنْ سَبَبِ
مَهْلاً بَنِي يَعْربٍ لا تَخْلدُوا كَسَلاً ... وَشَجِّعُوا النَّشْءَ مِنْ أَبْنَائِنَا النُّجُبِ
عَلَى اقْتِحَامِ الْعُلَى فِي كُلِّ آوِنَةٍ ... وَحَاذِرُوا سَكْرَةَ اللَّذَاتِ وَاللَّعِبِ
كَيْمَا تَعُودُ إِلَى الإِسْلامِ عِزَّتُهُ! ... وَيَصْبَحُ الْجَهْلُ وَالْكُفْرَانُ فِي نَصَبِ
أَفِتْيَةُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ لَكُمْ ... مَنَاهِلُ عَذُبَتْ أَحْلَى مِن الضَّرْبِ
وَطَالِبُ الْعِلْمِ مَأْمُولٌ لَهُ أَبَدًا ... مُسْتَقْبَلٌ شَامِخٌ أَعْلَى مِن الشُّهُبِ
وَالْمَجْدُ وَالْعِلْمُ مَقْرُونَانِ فِي قَرَنٍ ... لَكِنَّمَا الْعِلْمُ لا يُجْنَى بِلا تَعَبِ
يَا فِتْيَةِ الضَّادِ إِنَّ الْعِزَّ أَجْمَعُهُ ... فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ الْمَمْدُوحِ فِي الْكُتُبِِ(5/177)
مَا بَارَزَ الْمُصْطَفَى قَوْمًا بِعِدَّتِهِ ... وَلا الْعَدِيدِ وَلَكِنْ صِدْقُ مُحْتَسَبِ
وَلا الصَّحَابَةُ مَنْ خَافَتْ جُمُوعُهُمُ ... أَهْلُ الْبَسِيطَةِ مِنْ نَاءٍ وَمُقْتَرِبِ
هُمْ دَوَّخُوا كُلَّ جَبَّارٍ وَذِي أَشَرَ ... بِعَزمَةِ الصِّدْقِ ثُمَّ الْعَزْمُ بِالْقُضُبِ
تِلْكَ الْغَطَارِفَةُ الأَمْجَادِ لَمْ يَهِنُوا ... يَوْمًا عَلَى شِدَّةِ الضَّرَاءِ وَالسَّغَبِ
حَدَاهُمْ الشَّوْقُ لِلْمَوْعُودِ فِي زَبُرُ ... حَتَّى اسْتَوَوْا فَوْقَ مَتْنِ الْعِزِّ بِالْغَلَبِ
وَأَنْزَلُوا الْفُرْسَ عَنْ دِيوَانِ مَمْلَكَةٍ ... مَنِيعَةٍ شَمَخَتِ عَنْ كُلَّ مُغْتَصِبِ
وَلَمْ يَعُدْ مَجْدُهَا مِن بَعْدِهِمْ أَبَدَا ... وَكَانَتْ الْفُرْسُ تَحْتَ الذُّلِّ لِلْعَرَبِ
وَقَيْصَرُ قَصَّرَتْ أَيَّامَهُ وَغَدَا ... تَحْتَ السَّنَابِكِ فِي وَيْلٍ وَفِي حَرَبِ
أَمَا سَمِعْتَ بِجُنْدِ اللهِ كَمْ نَصَرُوا؟ ... وَمَزَّقُوا الرُّومَ بِالْحَمَلاتَ وَالرُّعُبِ؟
وَفِي (الأَبِلَّةِ) وَ (الْيَرْمُوكَ) مَا فَعَلُوا ... وَ (الْقَادِسِيَّةِ) يَوْمَ الْجَحْفَل اللَّجِبِ
وَكَمْ بِأَنْدَلسٍ مِنْ وَقْعَةٍ عَظُمَتْ ... فَنَالَتِ الْعُرْبُ فِيهَا مُنْتَهَى الأَرَبِ
وَأَصْبَحَ الْحَقُّ فِي الآفَاقِ مُنْبَعِثًا! ... كَالشَّمْسِ لَكِنَّهُ أَبْهَى وَلَمْ يَغِبِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى أَزْكَى الْوَرَى شَرَفًا ... أَكْرِمْ بِهِ خَيْرَ مَبْعُوثٍ وَمُنْتَخَبِ!
عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ: وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر، فهي تسمية الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره ففاضت عيناه، فقال(5/178)
عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى الناس؟ قال: «إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، وخمش وجوه،
وشق جيوب، ورنة، وهذه رحمة، ومن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وأما تسميته صوت الشيطان فقد قال تعالى للشيطان وجز به {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} عن ابن عباس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} كل داع إلى معصية، ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به انتهى بتصرف يسير) إنتبه وألق سمعك وحضر قلبك لكلام شيخ الإسلام.
وقال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا: «إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وأن مأدبة الله هي القرآن» . ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قَلَّتْ رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه به، ويكمل إسلامه.(5/179)
ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها، لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة.
ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها، لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافًا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفًا، بل لا بد أن توجب له فسادًا في قلبه ودينه، ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين الجاهليين: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرًا منهما» . فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعًا من الاغتذاء، أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية، فتفسد عليه حاله من حيث لا يعلم كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر، وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع. أ. هـ. قلت: لله دره من إمام ما أعمله وأبصره بأمراض القلوب وعلاجها فتدبر كلامه رحمه الله بحضور قلب لعل الله ينفعك به. والله أعلم.
اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان ووفقنا لصالح الأعمال، اللهم تفضل علينا بالقبول والإجابة وارزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(5/180)
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من شر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن الأدلة على تحريم الغناء ما روى سعيد بن أبي زيد عن أخيه عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن باسط عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم المغنية وبيعها، وثمنها وتعليمها والاستماع إليها» .
وروى لاحق بن حسين بن عمر أن ابن أبي الورد المقدسي قال: حدثنا أبو المرجي ضرار بن علي بن عمير القاضي الجيلاني حدثنا أحمد بن سعيد عن محمد بن كثير الحمصي حدثنا فرج ابن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن الحنفية عن علي ابن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا علمت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، إذا كان المال دولاً، والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبس الحرير، واتخذت القينات، والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليتوقعوا عند ذلك ريحًا حمراء ومسخًا وخفسًا وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، ألا إن منهن الغناء والنوح والتصاوير» . الحديث. وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل تعليم(5/181)
المغنيات، ولا شراؤهن ولا يبعهن، ولا اتخاذهن، وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت» .
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم تعليم المغنيات، وشراءهن وبيعهن، وأكل أثمانهن» . وذكر البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس إلى قينة، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» . وعن ابن عباس في قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قال: الغناء. وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم المعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض» .
قال حذيفة بن إليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب، كعرض، الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين أسود مربدًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض» . قال ابن(5/182)
القيم: فشبه عرض الفتن على ما القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء، كما يشرب الأسفنج الماء، فتنكتت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه، حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: «كالكوز مجخيا» . أي منكوسا.
فإذا اسود وانتكس، عرض له من هذين الآفتين خطران متراميان به إلى الهلاك، أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا وربما استحكم عليه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلاً، والباطل حقًا.
الثاني تحكيمه هواه على ما جاءه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر مصابحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته، والفتنة التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. أ. هـ. والله أعلم. وصلى على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
فالقلوب نوعان قلب إذا عرضت عليه الفتنة أشربها وأحبها ومال(5/183)
إليها وأيدها، وقلب ينكرها وينفر منها ويحذر عنها، فذلك القلب الأبيض الذي أشرق بنور الإيمان، وهو معنى ما تقدم في حديث حذيفة، وقال أيضًا: ومن حيل الشيطان ومكائده الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقد اتخذ لذلك القرآن مهجورًا.
ومما ورد في النهي عما يلهو به الرجل إلا ما استثنِيَ ما ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه وتأدبيه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق» . ففي الحديث دليل على أن كل ما يلهو به الإنسان فهو باطل، أي محرم ممنوع ما عدا هذه الثلاث التي استثناها رسول صلى الله عليه وسلم، فإنهن من الحق أو وسيلة إلى الحق.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الكلام علي حديث عقبة: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل» . الحديث ما معناه: الباطل ضد الحق فكل ما لم يكن حقًا، أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعًا فإنه باطل مشغل للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا. أ. هـ.
اللهم اكتب في قلوبنا الإيمان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأرض اللهم وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا(5/184)
برحمتك الواسعة إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل: وقال ابن القيم رحمه الله: إذا أشكل حكم شيء هل هو للإباحة أو للتحريم؟ فلينظر إلى مفسدته، وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ولاسيما إذا كان مفضيًا إلى ما يغضب الله ورسوله وقال إلى شيخ الإسلام: لا يجوز اللعب بالطاب والمنقلة، وكل ما أفضى كثيره إلى حرمه، وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببًا للشر والفساد، وما ألهى أو شغل عن ما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة، وسائر ما يلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي، فكل ذلك حرام. أ. هـ.
وكذا ينبغي أن يحذر مما يعوق سيره إلى الله والدار الآخرة، كالمطالعة في المجلات والصحف، والكتب التي لا يعود على صاحبها منها إلا الضرر، وضياع عمره الذي هو رأس ماله فيها قال بعضهم:
آخر: ... إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ
آخر: ... وَأَسْوَأَ النَّاسِ تَدْبِيرًا لِعَاقِبَةٍ ... مَنْ أَنْفَقَ الْعُمْرَ فِيمَا لَيْسَ يَنْفَعُهُ
وسوف يسأل الإنسان عما أفناه فيه. فقد قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدمَا ابن ادم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل بما علم» .
فالعاقل من كان ملء قلبه، ومالك لبه قوله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فسارع في الخيرات وبادر بالأعمال الصالحات، عاملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرن إلا فقرًا منسيًا أو غنىً مطغيًا،(5/185)
أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . رواه الترمذي.
شِعْرًا: ... نَخْطُوا وَمَا خَطْوُنَا إِلا إِلَى الأَجَلِ
وَنَنْقَضِي وَكَأنَّ الْعُمْرَ لَمْ يَطُلِ
وَالْعَيْشُ يُؤْذِنُنَا بِالْمَوْتِ أَوَّلُهُ
وَنَحْنُ نَرْغَبُ فِي الأَيَّامِ وَالدُّوَلِ
يَأْتِي الْحِمَامُ فَيُنْسِي الْمَرْءَ مُنْيَتَهُ
وَأَعْضَلُ الدَّاءِ مَا يُلْهِي عَنْ الأَمَلِ ... ?
آخر: ... تُرْخِي النَّوَائِبُ عَنْ أَعْمَرِنَا طَرَفًا ... وَنَسْتَقِرُّ وَقَدْ أَمَسْكَنَ بِالطُّولِ
لا تَحْسَبِ الْعَيْشَ ذَا طُولٍ فَتَتْبَعُهُ ... يَا قُرْبَ مَا بَيْنَ عُنْقِ الْمَرْءِ وَالْكَفَلِ
سَلَّى عَنْ الْعَيْشِ أَنَّا لا نَدُومُ لَهُ ... وَهَوَّنَ الْمَوْتَ مَا نَلْقَى مِنْ الْعَلَلِ
لَنَا بِمَا يَنْقَضِي مِنْ عُمْرِنَا شُغُلٌ ... وَكُلُّنَا عَلِقُ الأَحْشَاءِ بِالْغَزَلِ
وَنَسْتَلِذُّ الأَمَانِي وَهِيَ مُرْدِيَةٌ ... كَشَارِبِ السُّمّ مَمْزُوجًا مَعَ الْعَسَلِ
مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرَّةٍ ... فَتَخَوَّفوا مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الْفَتَى فِيهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَاله يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ الْمَنِيَّةِ شَرْبَةً ... وَحَمَتْهُ فِيهِ بَعْدَ ذَاكَ رِضَاعَا
فَغَدَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِينَةً ... لا يَسْتَطِيعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لَوْ كَان يَنْطِقُ قَالَ مِنْ تَحْتَ الثَّرَى ... فَلْيُحْسِنِ الْعَمَلَ الْفَتَى مَا اسْتَطَاعَا
آخر: ... يُسِيءُ امْرُؤُ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائمَا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ
أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيْخُ وَالْكَهْلُ وَالْفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمِنْ كُلِّ النَّوَاظِرِ تُرْمَقُ(5/186)
ج
... وَمَا هِيَ أَهْلُ أَنْ يُؤهَّلَ مِثْلُهَا ... لِوُدٍّ وَلَكِنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ
اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكلفت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
قال بعض العلماء بعد سياقه لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أيها الناس لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى متمسكة بكتاب الله، عاملة بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها حسنة في معاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها بصيرة في دينها راقية في آدابها وعلومها فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة مهيبة، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعادتها، وتدهورت أخلاقها وجهلت أمر دينها ودنياها وتأخرت علومها وصنائعها فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة مغلوبة على أمرها، متأخرة في مرافق حياتها تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وما ذلك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة وظنت الإباحية حرية والخلاعة رُقِيًّا، فتعدت حدود الدين والعقل.(5/187)
وأغضبت خالق الأرض والسماء فساءت حالها، وسلط عليها عدوها، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أيها الناس لقد ذاقت الأمة وبال أمرها، وعوقبت بشر أمالها، وتجرعت مرارة الذل والهوان، والتفرق والإنحلال، كل ذلك نتيجة لازمة لعدم استقامة الأمة، وانحرافها عن الصراط المستقيم، {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} كل ذلك نازل بنا وواقع علينا، ونحن لا نفيق من سكرتنا، ولا ننتبه من غفلتنا، ولا ننزجر بالمحن والبلايا، ولا نعتبر بحوادث الأيام فلو كانت لنا نفوس حية وقلوب يقظة وشعور حي وإحساس قوي، لنبهتنا البلايا، وأيقظنا المؤلمات، أيها المسلم: الدين عقيدة صحيحة، وعبادة قوية، ومعاملات حسنة عادلة، وأخلاق كريمة، فانظروا وفكروا، وفتشوا علي أنفسكم، هل أنتم سائرون في أعمالكم وأحوالكم علي منهج الصراط المستقيم، أم أنتم منحرفون عنها، فألزموها السير على الطريق القويم، وفقنا الله وإياكم للأستقامة، وأمننا وإياكم من أهوال يوم القيامة، ووقانا وإياكم شر الحسرة والندامة، وغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين، صلى الله علي محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.
فصل في تحريم الدخان وذكر مفاسده
ومما يتأكد اجتنابه والتحذير عنه الدخان، لدخوله في قسم المحرمات، ومن الأدلة على تحريمه قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} ولا(5/188)
يمتري عاقل في دخوله في الخبائث وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر.
وفي الحديث الآخر: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» . فهذه الأدلة تدل على حرمته، فإنه تارة يسكر، وتارة يفتر، ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت طبيًا أن التبغ يفتر ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت أن التبغ يحتوي على كمية كبيرة من مادة النيكوتين السامة، وأن شاربه يتعرض لأمراض خطرة في بدنه أولاً، ثم تدريجيًا فيضطرب الغشاء المخاطي ويهيج ويسيل منه اللعاب بكثرة، ويتغير، ويتعسر عليه هضم الطعام، وأيضًا يحدث التهابًا في الرئتين، ينشأ عنه سعال، ويتسبب عن ذلك تعطيل للشرايين الصدرية، وعروض أمراض، ربما يتعذر البرء منها وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين، يجتمع مثله على عروق القلب، والقلب يضغط على فتحاته فيحصل عسر في التنفس، ويؤثر على القلب بتشويش انتظام دقاته، وربما أدى بشاربه إلى الموت، فيكون شاربه قد تسبب لقتل نفسه وقتل النفس محرم من الكبائر قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} وقال ع: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدَا» .
ومن الأدلة على تحريمه أنه إسراف، وليس فيه مباح، بل هو محض ضرر، بإخبار أهل الخبرة من شاربيه وغيرهم، وقد حرم الله الإسراف، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب المسرفين قال تعالى: {وَلاَ(5/189)
تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} .
والتبذير هو الذي ينفقه الإنسان في غير طاعة وفيما لا منفعة فيه وقال مجاهد: لو أنفق ماله في الحق ما كان تبذيرَا وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقال ابن عباس: إنفاق المال في غير منفعة. وقال بعضهم: الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى وإن قَلَّتْ. فيتبين لك مما مضى ومما يأتي أن هذا الدخان الخبيث المحرم عين الإسراف والتبذير وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . وهذا في الجار الذي بينك وبينه جدار وقال فيه أيضًا: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» . فكيف بالجيران الطيبين الكرام الكاتبين الذين عن اليمين وعن الشمال قعيد وهم الذين يكتبون الحسنات والسيات فالمدخن يؤذيهم نعوذ بالله من حاله والمفروض أنه يستعمل المسواك طيب الرائحة بدلاً من هذه الشجرة الخبيثة ومن خصائص هذا الدخان أنه ينفر عن الطاعة وعن قراءة القران والمكث في المساجد ومحبة أهل الدين والصلاح الخ.
ونهى الشرع عن إضاعة المال، وكم من حريق التهم نفوسًا وأموالاً، سببه الدخان، وكم من بريء اتصل بشاربه فصار مثله، وكم من ملايين من الأثمان يوميًا تحرق وتتلف في هذا الدخان الخبيث الكريه فنضرب لذلك مثلاً لما يتلف يوميًا من الفلوس بسبب شرب الدخان، فإذا كانت الدولة عشرين مليونًا، وثلاثة أرباعهم يشربونه، أي(5/190)
خمسة وسبعون في المائة، وقلنا أدنى مصرف للواحد يوميًا في الدخان ريال، فمعناه أن الذي يتلف على الجميع يوميًا خمسة عشر مليونًا من الريالات وفي الشهر يكون الذي يتلف في سبيل هذا الدخان الخبيث أربعمائة وخمسين مليونًا، وفي السنة خمسة آلاف مليون وأربع مائة مليون من الريالات. نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منه ومن سائر المعاصي اللهم صل على محمد وآله وسلم ومن الأدلة على تحريم الدخان كون رائحته كريهة، تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وتؤذي الكرام الكاتبين، وتؤذي المعقبات، وبالخصوص أذيته في مجامع الناس، كاجتماعهم لصلاة الجماعة، ولصلاة التراويح، إن وجد من شاربيه أحد يصلي التراويح، وكذا يؤذي زملاءه، إن كان أستاذًا أو كان تلميذَا، ويؤذي زوجته، ويسري إلى أولاده، لأنه إذا شربه عنده صار تعليمًا فعليًا لهم، وما نالهم من الضرر الناشئ عن الدخان الذي صار هو السبب في شربهم له فلا يسلم والله أعلم من الإثم، وكذلك يسري لقرابته وأصدقائه، وجيرانه وزملائه أحيانًا، وإيصال الضرر إلى المسلم حرام، وأذيته حرام وقد ورد عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» . وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس» . وفي الحديث الآخر: «من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» . وأذية المسلم محرمة، ومن المعلوم عند كل عاقل منصف، أن رائحة الدخان، لا تقل كراهتها وأذيتها عن كراهية رائحة الثوم والبصل والكراث» . بل هي عند بعضهم أعظم كراهة وهذا الدخان من العادات القبيحة، المضرة بالشارب وغيره فترى الشاب تميل نفسه إليه، ويميل به هواه إلى مشابهة غيره في تعاطيه، وربما عدة تظرفًا، وظنه مدنية وترفًا، فإذا قدم له أحد(5/191)
زملائه أو أترابه أو غيرهم هذا الدخان لأول مره، وبدأ يستنشق دخانه السام، ولا يلبث إلا قليلاً حتى يأخذ في الإكثار من تناول هذا السم الناقع، فيصبح له عادة لا يستطيع إلى تركها سبيلا، وإذا طال الزمن، ومكث على ذلك مدة: استحكمت في نفسه هذه العادة القبيحة السيئة، وبدأت صحته تضعف، وقوته تنقص، وشهيته للطعام تقل، ورغبته في المشي وما يقوي البدن تضعف، وإذا ذلك الوجه الناظر الحسن المشرق، وذلك الجسم الممتلئ عافية، والشباب الغض قد تغير وعراه الذبول، وتمكن منه النحول، فترى جلده يسترخي، وبصره يضعف، وسمعه كذلك يضعف، وقوة الشهوة تضعف جدًا، وعقله يضعف بإذن الله تبعًا للجسم، ويصبح بعد غضارته ونضارته ذابلاً، وجسمًا ناحلاً، يأخذه سعال مؤلم، ويحس بخفقان قلبه، ودقه وفتور جسمه، ويتمنى بعد ذلك لو يقاسمه إنسان ماله، ويتسبب له في منعه من هذه العادة السيئة الخبيثة، ولكن أنى له بذلك، هيهات إلا أن يشاء الله جل وعلا، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم هذا الشارب للدخان يفقد بشاشته ويحرم صفاء نفسه، وقوة فكره، فتتغير أخلاقه وتتبدل صفاته، وتراه إذا أعوزه الدخان أحيانًا، يذهل نفسه وينكس رأسه كأنما هو في هم ناصب، وعناء وتعب، وقد تتغير سجاياه، فإذا ذلك الحليم الهادئ الأعصاب، غضوب جموح، وإذا ذلك الساكن هائج وثائر، يظهر منه فلتات كلام، يتعجب منها من يعرفه أولاً، وتراه يلجأ إلى تناول الدخان، لتسكين غضبه، وتهدئة ثائرة نفسه. فعلى العاقل أن يبتعد عن هذا وأمثاله من الفسقة قال بعضهم:
تَبَاعَدْ عَن الْفُسَّاقِ لا تَقْرَبَنَّهُمْ ... فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي الصَّحِيحْ وَيُعْطِبُ
فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ صَارَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمُوا ... أَخَا عِلَلٍ مِمَّا بِهِمْ فَهُوَ أَجْرَبُ(5/192)
آخر: ... صَاحِبُ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ ... فَالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ
كَالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ ... نَتْنًا مِنَ النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِنَ الطِّيبِ
وختامًا فعلى الإنسان أن يتعاهد أبناءه، وكذلك على المعلم أن بتعاهد الطلاب بالنصح والتحذير من هذا الوباء الفتاك، وعليه أن يراقبهم في كل وقت، وبالأخص في أوقات الفراغ، وأن يحرص كل الحرص على أنهم لا يتصلون بمن يشرب الدخان ليحفظ عليهم صحتهم وراحتهم، ويدفع عنهم شر هذا المرض ويصون أموالهم عن الضياع حتى إذا عقلوا عرفوا لوليهم ذلك الجميل الذي أسداه إليهم.
تُعَالِجُ بِالتَّطَبُّبِ كُلِّ دَاءٍ ... وَلَيْسَ لِدَاءِ ذَنْبِكَ مِنْ عِلاجِ
سِوَى ضَرَعٍ إِلَى الرَّحْمَن ِمَحْضٍ ... بِنِيَّةِ خَائِفٍ وَيَقِينِ رَاجِ
وَطُولِ تَهَجُّدٍ بِطُلابٍ عَفْوٍ ... بِلَيْلٍٍ مُدْلِّهِمِ السِّتْرِ دَاجِ
وَإِظْهَارِ النَّدَامَةِ كُلَّ وَقْتٍ ... عَلَى مَا كُنْتُ فِيهِ مِن اعْوِجَاجِ
لَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ غَدًا عَظِيمًا ... بِبُلْغَةِ فَائِزٍ مَسْرُورِ نَاجِ
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
سئل الشيخ عبد الله بن محمد رحمه الله عن التنباك الذي اعتاد شربه كثير من الناس؟ فأجاب رحمه الله: لا ريب أن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه: «وأوتيت جوامع الكلم» . وهي أن يقول الكلمات اليسيرة، الجامعة لأحكام كثيرة، لا تعد ولا تحصى، ومن(5/193)
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» . فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات، التي وتزيل العقل، من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه والحادثة بعده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المسكر وهو الخمر الذي يغطي العقل ويزيله، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» . ولفظ مسلم: «وكل مسكر حرام» . وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» . وفي رواية لمسلم: «كل شراب مسكر حرام» . ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء في تحريم المسكر، وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، إذا تقرر هذا. فاعلم أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان (أحدهما) ما كان فيه لذة وطرب. قال العلماء: وسواء كان من حب أو من تمر أو لبن أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب أو غيرها، مما يؤكل لأجل لذته وسكره (والثاني) ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد من شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حله متأولاً، وهو قول الشافعي وأحمد.
قال: وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم يتبين لك بيان تحريم التَّتِنِ الذي كثر في هذا الزمان استعامله وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة أسكاره في بعض الأوقات، خصوصًا إذا أكثر منه، أو تركه يومًا أو يومين لا يشربه ثم(5/194)
شربه فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله، وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وأن يقدم أمره على قول كل أحد من الناس.
وقال رحمه الله: والذي يشرب التنباك إن كان شربه له بعد ما عرف أنه حرام فيضرب ثمانين جلدة، ضربًا خفيفًا ما يضره، فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالتوبة والاستغفار، والذي يقول لكم من علماء تهامة إن التِّتِنَ ليس حرامًا ولا حلالاً فهذا جاهل ما يعرف ما يقول، ولا يلتفت لقوله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» . «وما أسكر كثيره حرم قليله» .
وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التِّتِنِ من فم رجل جلد ثمانين جلدة.
وأجاب أيضًا: وأمَّا شارب التِّتِنَ إذا شهد عليه شاهدان أنهم رأوه يشربه فيجلد أربعين جلدة.
وأجاب أيضًا: وأما شارب التِّتِنِ فيؤدب بأربعين جلدة، فإن لم ينته بذلك أدب بثمانين.
وأجاب أيضًا: والذي زرع التنباك يؤدب، أو يوجد في بيته أو متاعه أو يشربه يؤدب.(5/195)
وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التتن من فم رجل يحد، لأن الصحابة رضي الله عنهم حدوا على ريح الخمر، وهذا خمر، لأنه مسكر خمر وكل مسكر خمر.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن التِّتِنِ؟ فأجاب: هو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر» . وفي لفظ: «حرام» . وفي لفظ: «ما أسكر كثيره، فملء الكف منه حرام وهذا عام في كل مسكر» . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وقد نص العلماء على ذلك.
وسئل عن شارب التنباك؟ فأجاب: وأما شارب التنباك فيجلد أربعين جلدة.
وقد سئل الشيخ عبد الله أبا بطين عن التنباك؟ فأجاب بقوله: الذي نرى فيه التحريم، لعلتين (أحدهما) حصول الأسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه، أو أكثر منه، وإن لم يحصل إسكار حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثًا مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن كل مسكر ومفتر (والعلة الثانية) أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده.
واحتج العلماء بقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة وكالخنزير يترك الطيبات ويأكل النجاسات وكالهدهد يأكل العذرة.
وأجاب الشيخ خالد بن أحمد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله: لا تجوز إمامة شارب التنباك، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر.(5/196)
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية اللقاني، ومن علماء دمشق النجم الغزي العامري الشافعي، ومن علماء اليمن الشيخ إبراهيم بن جمعان، وكثير من العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، كالشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعلماء كثيرون يطول علينا تعدادهم، فنكتفي بمن ذكرنا، ومن أراد زيادة على هؤلاء فليسأل، ولا أظن يفتي بحله عالم عاقل، يعلم مضاره دِينِيًّا واقتصاديًا واجتماعيًا وخلقيًا وصحيًا، بل ولا أظن عالمًا يتوقف بالقول بتحريمه، حتى ولو أنه ممن ابتُلِيَ بشربه لوضوح مضاره، وبالأخص لشرابه، وان شككت فاسأل منصفيهم يخبرونك ويحذرونك، اللهم اعصمنا من جميع المعاصي، وامنن علينا يا مولانا وجميع المسلمين بالتوفيق للعمل الصالح، والاستقامة على الطريق، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يأرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال في تيصرة الإخوان: وقد أشغل جهايذة الأطباء قوة أفكارهم، ودققوا النظر غاية في اكتشاف أضرار التبغ بنوعيه المعلومين، وشحذوا أقلامهم في بيان ما ظهر لهم فيه، بعد التحقيق والتدقيق التَّامَّيْنِ، فذكروا (أولاً) أنه من الفصيلة الباذنجانية التي تشتمل على أكثر النباتات السامة، كالبلادوتا والبرش والبنج، قالوا: وهو(5/197)
نوعان، توتون وتنباك، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في تركيبه الكيماوي إلا قليلا، فانهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر، ومن مادة صمغية، ومادة أخرى مرة حريقة، تسمى نيكوتين. قالوا: وهي سم من أشد السموم فعلاً، بحيث أنه لو وضعت نقطة منها على لسان كلب لمات في أقرب زمن، مع أن الكلب أقوى تحملاً للسموم من الإنسان، ومن سائر أنواع الحيوان، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة، يحوي كمية وافرة من المادة السامة هي النيكوتين، فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيرًا موضعيًا وعموميًا لأنه عند دخوله الفم توتر المادة الحريقة السامة التي فيه - وهي النيكوتين - في الغشاء المخاطي فتهيجه تهيجًا قويًا، وتسيل منه كمية زائدة من الطعام وتغير تركيبة الكيماوي، بحيث، تقلل فعله في هضم الطعام وكذلك تفعل في مفرز المعدة، مثل ما فعلت في مفرز الفم، فيحصل حينئذ عسر في مفرز الهضم، وعند وصول الدخان إلى الرئتين على طريق الحنجرة، تؤثر فيها التهابًا قويًّا مزمنًا، فتهيج السعال حينئذ، لإخراج ذلك المفرز الغزير، الذي هو البلغم المعروف ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها.
وبالجملة فقد تحقق عن عامة المحققين، من أئمة الطب، أن مضار الدخان - أعم من أن يكون توتونًا أو تنباكًا - كثيرة، قالوا: ويشعر بأعراضها الجزئية كل من يباشر استعماله قبل الاعتماد عليه، وهي دوران وغثيان، وقيء وصداع، وارتخاء العضلات أي الأعصاب، ثم سبات أي راحة وهو كناية عن حاله التخدير الذي هو من لوازم التبغ، وما ذكر(5/198)
من الأعراض الناشئة عنه، في بدء استعماله قبل الأعتماد عليه، لما يحويه من المادة السامة التي هي النيكوتين، ويجد فساد الذوق وعسر الهضم، وقلة القابلية للطعام وهذه الأشياء كلها تحدث من تخلل الدخان في اللعاب، فيسبب اضطرابًا معديًّا، وكثيرًا ما يحدث المرض المعروف بالبيروسس، وهو الحرقة المعدية، وهذا كله في استعماله على سبيل القلة والإعتدال، وأما الإكثار منه فهو مفض إلى عطب ليس له زوال، ومن المعلوم الثابت شرعًا أن كل ما أضر بالصحة يحرم تعاطيه قطعًا، ولذلك حرم الأكل فوق الشبع، وأكل الطين، لما فيهما من الأضرار بالصحة، قال عليه الصلاة والسلام: «من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه» . وفي رواية: «فإنما أعان على قتل نفسه» . وليس التدخين أقل ضررًا من أكل الطين، بل هو أشد ضررًا منه بكثير، قال: وقد سألت عدة من الأطباء الموثوقين بهم عن تفاوتهما في الضرر؟ فأجابوا: بأنه لا نسبة بينهما في الضرر تفاوتًا كليًا، حيث أن الجزء الفعال، الذي ينشأ عن التدخين وهو النيكوتين، لا يعادله شيء في الأضرار، كما هو ظاهر لدى الامتحان، فيكون نهي الشارع صلى الله عليه وسلم عن أكل الطين، لما فيه من الضرر، شاملاً لفعل التدخين بالأولوية حيث كان الضرر فيه أشد وأعظم، كما علمته، قال: وقد ذكر جمع من أكابر العلماء وجهابذة الأطباء: أن من العقل - فضلاً عن الشرع - وجوب اجتناب التدخين، حفظًا للصحة التي هي من الله تعالى منة ومنحة، ودفعا لدواعي الضعف الذي هو من مقدمات الهلاك والدمار، كما هو معلوم لذوي الأستبصار كيف وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على أنه لا يقتصر ضرر التدخين على المدخن وحده، بل يعم حلساءه في المكان، لأنه يفسد الهواء، فيتعين الفرار حينئذ من الجلوس في أماكن التدخين، ولاسيما إذا كانت مغلقة(5/199)
الأبواب. قالوا: ويسري الضرر أيضًا إلى نسله، فيجعله ضعيف البنية، شاحب اللون، فاسد المزاج، لتمكن سم التبغ في جسم الوالد أما سريان الضرر قبل الولادة، فيما إذا كانت الأم تشرب أيضًا كالأب، فمن تغذيته حال كونه جنينًا، من دم أمه الفاسد بسم التبغ، الذي هو النيكوتين، حيث أنه يفعل على الحويصلات العصبية فعلاً مؤثرًا، يتصل بالجنين.
وأما سريان الضرر عليه بعد الولادة، فمن ثلاث جهات (أحدهما) تَغَذِيهِ من اللبن المتحمل سموم التبغ، المفسدة للمواد الغذائية، (ثانيها) استنشاقه الهواء الفاسد بتدخين الأبوين أو أحدهما، (ثالثهما) صيرورة الأبوين سببًا حاملاً للولد على سلوك تلك العادة الوخيمة، وذلك لأن الطفل من طبعه التقليد والتشبه بمن يراه، فإذا نظر أبويه يدخنان، وعلى فرض أنهما ينهيانه عن ذلك فنظر لكونه لا يفهم سر النهي لا ينتهي من غير مبالاة، إلى أن يصير التدخين عادة لازمة، فإذا اعتاد هذا المسكين التدخين من مبدأ نشأته، فهناك الطامة الكبرى، والبلية العظمى، لأنه لا يلبث قليلاً إلا ويشكو من قلة القابلية ووجع الصدر، ويصحبه أيضًا سعال قوي، مزعج للصدر، ولا يزال يزداد ضعفًا على ضعف، وسقمًا على سقم إلى أن يمضي عمره في الأسقام والآلام. والله أعلم.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(5/200)
(فَصْلٌ)
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَادَةَ التَّدْخِينِ مِنْ أَقْبَحِ العَوْائِدِ، لأنَّهَا تَسْتَبْعِدُ مُتَّبِعِيهَا، وَتُقَيِّدُهُمْ بِسَلاسِلَ وَأَغْلالٍ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّخَلُّصَ لا يَجْدُونَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا، وَهِيَ عَادَةٌ لَوْ لَمْ يَتَّبِعْهَا الإِنْسَانُ في زَمَنِِ صِبَاهُ - الذِي هُوَ زَمَنُ جَهْلِهِ، وَعَدْمِ تَبَصُّرِهِ بِالعَوَاقِبِ -، لَكَانَتْ قَلِيَلةً جِدًا بَيْنَ أَفْرَادِ النُّوعِ الإِنْسَانِي وَالبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ غَيْرِ المُدَخِّنِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَبَّ وَصَارَ بِتَمَامِ التَّمْيِيزْ، وَتَحَقَّقَ مَضَارَّ الدُّخَانِ الصِّحِّيَّةِ وَالمَاليةِ، وَالأَخْلاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، عَنْ طَرِيقِ الاسْتِقْصَاءِ وَالنَّظَرِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالخَبَرِ، حَمِدَ اللهَ تَعَالَى حَمْدًا كَثِيرًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ تِلْكَ العَادَةِ الوَخِيمَةِ، وَمَنْ تَكُنْ هَذِهِ حَالَتُهُ فَإِنَّهُ يَتَبَاعَدُ بِلا شَكِّ عَنِ السُّلُوكِ فِي هَذَا الطَّرِيق، الذِي يوصِّلُهُ إِلَى فِرَاشِ التَّمْرِيضِ، بِسَلْبِ الصِّحَّةِ التي يُقَدَّرُ قَدْرُهَا.
قَالَ: هَذَا وَإِنَّ التَّعَوُّدَ عَلَى التَّدْخِينِ لا يَحْصَلُ غَالبًِا إِلا فِي أَيَّامِ الصِّبَا، كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفَا، حَيْثُ يَكُونُ الإِنْسَانُ حِينَئِذٍ بِتَمَامِ الاسْتِعْدَادِ لِلتَّقْلِيدِ فِيمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ سِوَاهُ، فَتَرَى الصَّبِيَّ يُدَخِّنُ تَشَبُهًا بِغَيْرِهِ، رَغْمًا عَنِ اسْتِكْرَاهِهِ لِرَائِحَةِ الدُّخَانِ، وَمَرَارَةِ طَعْمِهِ مُتَكَلِّفًا تَحَمُّلَ أَثْقَالِ أَعْرَاضِهِ المُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ، مِنْ دَوَرَانِ الرَّأْسِ وَصُدَاعِهِ، وَغثَيَانِ الصَّدْرِ وَأَوْجَاعِهِ فَإِذَا تَعَوَّدَهُ بَعْدَ طُولِ المُكَابَدَةِ، وَتَحَمُّلِ المَشَاقِ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ لا يَجِدُ لَهُ غِنَىً عَنْ تَعَاطِيهِ، لَكِنَّهُ كُلَّمَا كَبُرَ سِنُّهُ وَزَادَ لا يَقْرِنُ القَوْلَ بِالفِعْلِ، إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ الدَّاءُ، وَيَصِلُ إِلَى حَالَةٍ لا يَنْفَعُهُ الدَّوَاءُ فَيْبَقَى هَذَا المِسْكِينُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فِي مُقَاسَاتِ الآلامِ وَشِدَّةِ الأَسْقَامِ، يَغْبِطُ(5/201)
الأَصِّحَّاءِ عَلَى التَّوَسّدِ فَي الفِرَاشِ، وَطِيبِ المَنَامِ وَيُكْثِرُ مِنَ التَّأَوُّهُ وَالأَنِينِ، وَيَتَأَسَّفُ عَلَى فَقْدِ الصِّحَّةِ التِي بَاعَهَا بِلَذَّةِ التَّدْخِينِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ، وَالفِرَارَ الفِرَارَ مِنْ لَذَّةٍ تُوجِبُ البَوَارَ وَالدَّمَارَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنْ أَطِبَّاءِ الزَّمَان، مَا نَصُّهُ: أَمَّا التَّدْخِينُ بِالتُوتُن والتِّنْبَاكِ فَإِنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى مَادَّةٍ سُمِّيَّةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ، تُسَمَّى نِيكُوتِينْ، فَلَوْ استُخْلِصَتْ وَحْدَهَا، وَجُرِّبَ فِعْلُهَا، بِوَضْعٍ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا عَلَى لِسَانِ كَلْبٍ لَقَتَلَتْهُ حَالاً بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، وَهَذَا السُّمُّ تَحْتَ رِدَاءٍ رَقِيقٍ، بِوَاسِطَةِ التَّدْخِينِ المُسْتَعْمَلِ عُمُومًا، وَقَدْ قِيلَ:
تَرُومُ الشَّهْدَ مِنْ أَنْيَابِ أَفْعَى ... وَطَعْمَ الدِّبْسِ مِنْ مُرٍّ غَرِيزِي
كِلا الأَمْرَيْنِ لَمْ يَطْلُبْهُ إِلا ... جَهُولُ جَهْلُه المُرْدِي غَرِيَزِي
لِذَاكَ سَرَيْت بِالإِفْسَادِ تَرْجُو ... صَلاحَ الحَالِ مِنْ مَلِكٍ عَزِيزِ
رُوَيْدَكَ غَرَّكَ الشَّيْطَانُ حَتَّى ... ضَلَلْتَ عَنِ الحَقِيقَةِ يَا عَزِيزِي
إِذَا رُمْتَ الصَّلاحَ أَنِبْ لِرَبٍّ ... تَفُزْ بِالخَيْرِ وَالحِرْزِ الحَرِيزِ
آخر: ... إِنَّ الأَفَاعِي وَإِنْ لانَتْ مَلامِسُهَا
عِنْدَ التَّقَلُّبِ فِي أَنْيَابِهَا العَطَبُ ... ?
فَمِنْ مَضَرَّاتِهِ الكُلِّيَّةِ: تَخْرِيبُ كُرَيَّاتِ الدَّمِ، وَمِنْهَا التَّأْثِيرُ عَلَى القَلْبِ، وَمِنْهَا مُعَارَضَتُهُ لِشَهْوَةِ الطَّعَامِ، وَمِنْهَا انْحِطَاطُ القُوَى العَصَبِيَّةِ عَامَّةً، وَيَظْهَرُ هَذَا بِالخُدُورِ وَالدَّوَرَانِ الذِي يَحْصُلُ حُدُوثُهُ عَقِبَ اسْتِعْمَالِ التَّدْخِينِ لِمَنْ لَمْ يَأْتَلِفَهُ، وَلِمَنْ كَانَ مُؤْتَلِفًا وَانْقَطَعَ عَنْهُ مُدَّةَ عَشْرِ سَاعَاتٍ تَقْرِيبًا، وَمِنْ مَضَرَّاتِهِ إِحْدَاثِهِ لِلْجُنُونِ التُّوتُونِيّ.
قَالَ: وَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى رِسَالَةٍ لِلْمُحَقِّقِ مُحَمَّد فِقْهِي العَيْنِيَ نَزْيلُ(5/202)
الأسِتَانَة العَلِيَّةْ، وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الحَنَفِيَّةِ، ذَكَرِ فِيهَا تَحْرِيمُ الدُّخَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ (أَحَدُه) : كَوْنُهُ مُضِرًا بِالصِّحَّةِ بِأَخْبَارِ الأَطِبَّاءِ المُعْتَبَريْنَ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذِلَكَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَاله اتِّفَاقًا. (ثَانِيهَا) : كَوْنُهُ مِنَ المُخَدِّرَاتِ المُتَّفَقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، المَنْهِيّ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا شَرْعًا، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِر وَمُفَتِّرٍ، وَهُوَ مُفَتِّرٌ بِاتِّفَاقِ الأَطِبَّاءِ، وَكَلامُهُمْ حٌجَة فِي ذَلِكَ وَأَمْثَاله، سَلَفًا وَخَلَفًا. (ثَالِثُهُمَا) : كَوْنُ رَائِحَتِهِ الكَرِيهَةِ تُؤذِي النَّاسَ الذِينَ لا يَسْتَعْمِلُونَهُ، وَعَلَى الخُصُوصِ في مَجَامِعِ الصَّلاةِ وَنَحْوِهَا بَلْ وَتُؤْذِي المَلائِكَةَ المُكَرَّمِينَ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانُ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ جَابِرِ بِن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفوعًا: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدنَا، وَلْيَقْعُد في بَيْتِهِ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَائِحَة التَّدْخِينِ لَيْسَتْ أَقَلَّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الثُّومِ وَالبَصَلِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إَنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ) ، وفي الحَدِيثُ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَنِي، وَمَنْ آذَنِي فَقَدْ آذَى اللهَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (رَابِعُهَا) : كَوْنُه سَرَفًا إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَفَعٌ مُبَاحٌ، بَلْ فِيهِ الضَّرَرُ المُحَقَّقُ، بِإِخْبَارِ أَهْلِ الخِبْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُرْمَةَ مَا فِيهِ السَّرَفُ وَالضَّرَرُ، ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلاً.
قَالَ: وَقَدْ نَصَّ فِي (نِصَابُ الاحْتِسَابَ) وَغَيْرِهِ مِنَ المُعْتَبَرَاتِ الفِقْهِيَّةِ عَلَى: أَنَّ اسْتِعْمالَ المُضِرِّ حَرامٌ اتفاقًا.
قَالَ: وَقَالَ العَلامَةُ أَحْمَدُ العَبجِيّ الحَلَبِيَ في كِتَابِ الأَشْرِبَةِ مِنْ(5/203)
شَرْحِهِ عَلَى (الدُّرِّ المُخْتَارِ، شَرْحُ تَنْوِيرِ الأَبْصَارِ) بَعْدَ نَقْلِ الشَّارِحِ تَحْرِيمُ الدُّخَانِ عَنْ شَيْخِهِ النَّجْمُ الغَزِّيْ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَحْرِِيمِه في رِسَالَةٍ لَمْ تُسْبَقْ بنَظِير، أَدْخَلْنَا تَحْرِيمَهُ فِيهَا تَحْتَ الأُصُولِ الأَرْبَعَةِ، وَرَدَدْنَا كُلَّ مَا نَافَاهُ مِنْ كَلامِ الغَيْرِ رَادًّا جَامِعًا مَانِعًا، مُؤيَّدًا بالحُجَجِ.
اللَّهُمَّ الْهِمْنَا ذِكْرِكَ وشُكْركَ وَوَفِقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... يَا مَنْ يَرُومُ التُّقَى مِنْ كُلِّ مَأْثَمَةٍ
اسْلكْ سَبِيلَ الهُدَى وَامْشِ عَلَى السُّنَنِ
وَلا تَحُدْ أَبَدًا عَنْ ذِي الطَّرِيقِ تَفُزْ
وَخَالِفَ النَّفْسَ وَاقْهَرْهَا عَنِ المِحَنِ
إِيَّاكَ مِنْ مِحْنَةٍ تُلْقِيكَ فِي عَطَبٍ
لاسِيَّمَا مَا فَشَى فِي النَّاسِ مِنْ تُتُنِ
مُخَدرٌ الجِسْمِ لا نَفَعٌ بِهِ أَبَدَا
بَلْ مُورِثُ الضُّرِّ وَالأَسْقَامِ فِي البَدَنِ
وَحَيْثُ قَدْ ثَبَتَتْ هِذِي الصِّفَاتُ لَهُ
فَاجْزِمْ بِتَحْرِيمِهِ إِنْ كُنْتَ ذَا فِطَنْ
وَإِنْ تُرِدْ ثِقَةً فِيمَا أَقُولُ فَسَلْ
بِهِ الخَبِيرَ تَنَلْ مِنْ عِلْمِهِ الحَسَن ... ?
وقال آخر:
... كَمْ في الدُّخَانِ مَعَائِبٌ وَمَكَارِهٌ
دَلَّتْ رَذَائِلُهُ عَلَى إِنْكَارِهِ ... ?(5/204)
.. سَأُرِيكَ بَعْضًا مِنْ مَعَائِبِ شُرْبِهِ
يَا صَاحِبي أَحْبَبَتْنِي أَمْ كَارِهِ
يُؤْذِي الكِرَامَ الكَاتِبِينَ بَنَتْنِهِ
وَأَمَاَم وَجْهِكَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارِهِ
كَمْ مِنْ نُقُودٍ يَا فَتَى وَملابِسٍ
أَتْلَفْتَهَا بِشَرَائِهِ وَشَرَارِهِ
وَبِهِ الثَّاَنيَا اللؤْلُؤِيَّةِ أُفْسِدَتْ
بِقَبِيحِ لَوْنِ سَوَادِهِ وَصَفَارِهِ
كَانَتْ كَمِثْلِ الدُّرِ حُسْنًا شَانَهَا
مِنْ نَفْخِهَا الشِّدْقَيْنِ فِي مِزْمَارِهِ
وَتَرَا الصَّفَارَ عَلَى شَوَارِبِهِ بَدَا
مِنْ جَذْبِهِ الدُخَانَ مِنْ مِنْخَارِهِ
وَتَرَى الذِي فِي شُرْبِهِ مُتَوِلِهًا
يَلْتَذُّ فِي الصُّهْرُوجِ بِاسْتِكْثَارِهِ
وَتَرَا الهَوَامَ إِذَا أَحَسَّ بِرِيحِهِ
تَرَكَ المَكَانَ وَفَرَّ مِنْ أَوْكَارِهِ
وَالنَّحْلُ لا تَلْوِي إليه لِخُبْثِهِ
أَبَدًا وَلا تَدْنُو إِلَى أَزْهَارِهِ
وَلِنَتْنِهِ وَلِقُبِحِهِ فِي طَعْمِهِ
لَمْ تَدْنُ سَائِمَةٌ إِلَى أَشْجَارِهِ
إِنْ خَالَطَ المَأْكُولُ مِنْهُ دُرَيْهِمٌ
غَلَبَتْ خَبَائِثُه عَلَى قِنْطَارِهِ ... ?(5/205)
.. وَإِذَا تَنَاوَلَ سَاخِنًا مِنْ مَأْكَلٍ
سَالَ أَنْفُهُ وَأَنِفْتَ مِنْ أَقْذَارِهِ
فَإِنْ انْتَهَيْتَ وَمَا أَظُنَّكَ تَنْتَهِي
وَرَغِبْتَ عَنْهُ نَجْوَتَ مِنْ أَوْعَارِهِ
وَأَرَحْتَ نَفْسَكَ مِنْ عَنَا تَحْصِيلِهِ
وَحَفِظتَ مَالَكَ مِنْ مُصَابِ خَسَارِهِ ... ?
وقال آخر:
... يَا شَارِبَ التِّنْبَاكِ مَا أَجَرَاكَا
مَن ذَا الذِي فِي شُرْبِهِ أَفْتَاكَ
أَتَظُنَّ أَنَّ شَرَابَهُ مُسْتَعْذَبٌ
أَمْ هَلْ تَظُنَّ بَأَنَّ فِيِه غِذَاكَا
هَلْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَكَ يَا فَتَى
كَلا فَلا فِيهِ سِوَى إِيَذَاكَا
وَمَضرَّةٌ تَبْدُو وَخُبْثُ رَوَائِحٍ
مَكْرُوهَةٍ تُؤذِي بِهَا جُلَسَاكَا
وَفُتُورُ جُسْمٍ وَارْتُخَاءُ مَفَاصِلٍ
مَعَ ضِيقِ أَنْفَاسٍ وَضُعْفِ قُوَاكَا
وَتَلافُ مَالٍ لا تَجِدْ عِوَضًا لَهُ
إَلا دُخَانًا قَدْ حَشَى أَحْشَاكَا
وَرَضَيْتَ فِيهِ بَأَنْ تَكُونَ مُبَذِّرًا
وَأَخُو المُبَذِّرِ لَمْ يَكُنْ يَخْفَاكَا ... ?(5/206)
.. فَإِذَا حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ وَاسْتَنْشَقُوا
مِنْ فِيكِ رِيحًا يَكْرَهُونَ لِقَاكَا
يَكْفِيكَ ذَمًّا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَن
قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ يَوَدُّ فِكَاكَا
فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ وَاتَّبِعْ آثَارَ مَنْ
أَهْدَاكَ لا مَنْ فِيهِ قَدْ أَغْوَاكَا
إِنْ كُنْتَ شَهْمًا فَاجْتَنِبْهِ وَلا تَكُنْ
فِي شُرْبِهِ مُسْتَتْبِعًا لِهَوَاكَا
إِنَّي نَصَحْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِنَصِيحتى
وَنَهَيْتُ فَاتْبَعْ قَولَ مَنْ يَنْهَاكَا
وَبَذْلَتُ قَوْلِي نَاصِحًا لَكَ يَا فَتَى
فَعَسَاكَ تَقْبَلُ مَا أَقُولَ عَسَاكَا ... ?
وَقَالَ الشَّيْخُ العَلامَةُ الفَقِيهُ مُحَمَّدُ الطَرَابِيشِي الحَلَبِيّ المَالِكِيّ بَعْدَ كَلامٍ لَهُ طَوِيلٍ عَلَى الدُّخَانِ مَا لَفْظُهُ: وَبِالجُمْلَةِ فَقْدَ تَحَرَّرَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَرَّر الحُكْمُ عَلَى الدُّخَانِ المَشْهُورِ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ المُخَدَّرَاتِ التِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا، وَأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالصِّحَّةِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ - أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ مَضَرَّاتِهِ الوَخِيمَةِ - حَرُمَ شُرْبُهُ دِينًا - أَيْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ - عِنْدَ الأَئِمَّةِ المحَققينَ، كَمَا حُرِّمَ طِبًّا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالنَّصُّ عَلَى المَنْعِ مِنْ شُرْبِهِ وَبَيْعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمهما، إِذْ مُفَاُد الْمَنْعِ التَّحْرِيمُ، وَحَيْثُ حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَةِ شُرْبِهِ، حَرُمَ شِرَاؤُهُ أَيْضًا لأنَّ كُلَّ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ شِرَاؤُهُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. فَقِفْ عِنْدَ هَذِه الفُتْيَا لِهَذا المَالِكِيّ، وَعِنْدَ فُتْيَا الحَنَفِيّ التي قَبْلَهَا تَعْرِفُ كَلامَ المُحَقِّقِينَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ.(5/207)
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا حَمْدَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: في بَيَانِ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَاسْتِعْمَاله وَاتِّخَاذِهِ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لَمَا يُحِبّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ وَجَنِّبْنَا وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مَا يَكْرَهُهُ وَلا يَرْضَاهُ، أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْهُ - فِي رَمَضَانَ وَغَيْرُهُ - التَّصْوِيرُ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرُ مُجَسَّدَةٍ، وَقَدْ كَانَ بِسَبَبِهِ حَدَثَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ فِي بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِير: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بن قَيْسٍ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمْ الذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَق لَنَا إِلَى العِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ.
فَلَمَّا مَاتُوا جَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إليهم إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إَنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ المَطَرَ، فَعَبَدُوهُم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَلَمَا هَلَكُوا صَوَّرَ قَوْمُهُمْ صُوَرَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَليهِم الأمدُ فَعَبَدُوهُمْ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِم بِسَنَدِهِ عَنْ أبِي المُطَهَّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عَنْدَ أَبِي جَعْفر - وَهُوَ قَائِمٌ يُصلي - يَزِيدَ بنَ المهَلبِ، قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ،(5/208)
قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بنَ المُهَلَّبِ أَمَّا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرُوا رَجُلاً مُسْلِمًا، وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ اعْتَكَفُوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ، وَجَزِعُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُم عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ أُصَوِّرَ لَكُمِ مِثْلَهُ فَيكونُ في نَادِيكُم فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَوَّرَ لَهُم مِثْلَهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهْ.
فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تِمْثَالاً فَيَكُونَ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَثِّل لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالاً مِثْلهْ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدَرَسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهْ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأْولادُهُمْ، كَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ وُدّ الصَّنَمُ الذِي سَمُّوهُ وَدَّا. أ. هـ.
وَعَنْ هَذَا انْتَشَرَتْ الوَثَنِيَّة، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهَا فِي كُلِّ زَمَانِ وَمَكَانْ، وَفِي هَذَا التَّصْويرِ مَعْنَىً فِي غَايَةِ القُبْحِ وَالبَشَاعَةْ، وَهُوَ التَّشَبُّهِ بِالخَالِقِ الحَكِيمِ، فَإِنَّ المُصَوِّرَ بِيَدِهِ أَوْ بِآلَة يَرْسِمُ الصُّورَةَ رَسْمًا يُشْبِهُ الحَقِيقَةَ وَلِذَا يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةْ: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُم» ، وَيُكَلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورَةِ الرُّوحِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ أَبَدًا، فَيْسَتَمِرُّ العَذَابْ نَسْأَلُ اللهَ العافية.
فَصْلٌ: وَإليك الأَدِلَّةُ الدَّالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ طَمْسِ الصُّوَرِ، سَوَاءً كَانَ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّدَةْ وَفِي عَمَلِهَا الوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْمُصَوِّرِينَ، وَالإِخْبَارُ بِأنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةَ.(5/209)
وَأَنَّ التَّصْوِيرُ مِنْ سُنَنِ النَّصَارَى.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} ، قَالَ عِكْرِمَة: هُمِ الذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرْ.
وَعَنْ أَبِي هَرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مَمَّنَ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً» . أَخْرَجَاهُ.
وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارْ، يُجْعَلُ لَهُ بَكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ فَيُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمْ» .
وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِنَافِخْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُسْتَتِرَةُ بِقَرامٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَّوَنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثٌمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمِ القِيَامَةِ الذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِي، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمْ.
وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نَمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرِ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى البَابِ،(5/210)
فَلَمْ يَدْخُلَ، فَعَرِفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَة، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ قَالَ: «مَا بَالُ النَّمْرُقَةْ» ؟ فَقَالَتْ: اشْتَرْيتُهُا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوُرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَة، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» .
وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الذِي فِيهَ الصُّوَر لا تَدْخُلُهُ المَلائِكَةْ» . رَوَاهُ مَالِك، وَالشَّيْخَانْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى التَّمَاثِيلَ قَامَ بَيْنَ البَابَيْنِ وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهْ.
وَلِمُسْلِمِ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ قاَل: قَالَ لِي عَلِيَّ: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثنَِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَنْ لا تَدَعْ صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا، وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهْ.
وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَة» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعَانْ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنَِّي وُكَِّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إلِهًا آخَرْ، وَبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِالمُصَوِّرْ» . وَفِي البُخَارِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ البَغْيِ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَالمُصَوِّرَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَلْمٍ لا يَنْفَعْ وَعَمَلٍ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/211)
(فَصْلٌ)
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ المُصَوِّرِينَ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةً، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَيَا أَرْضَ الحَبَشَة، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِير فَيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنُوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر، أُولَئِكَ شِرُارُ خَلْقِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمِ القَيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيّ، أَوْ قَتَلَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ، وَالمُصَوِّرُونَ، وَعَالِمٌ لا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الإِيمَان.
وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ: «أَيّكُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى المَدِينَةِ فَلا يَدَعُ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرَهُ، وَلا قَبْرًا إِلا سَوَّاهُ، وَلا صُورَةً إِلا لَطَّخَهَا» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْطَلَقَ فَهَابَ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرَجَعْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا أَنْطَلِقُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَدَعْ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرْتُهُ، وَلا قَبْرًا إِلا سَوَّيْتَه، وَلا صُورَةً إِلا لَطَّخْتُهُا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَ لِصَنْعَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي زَوَائِدِ المُسْنَد، وَأَبُو دَاود الطَّيَالِسي في مُسْنَدِهِ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ(5/212)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الكَعْبَةِ وَرَأَى صُوَرًا، قَالَ: فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: «قَاتَلَ اللهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لا يَخْلُقُونَ» رَوَاهُ أَبُو دَاودَ الطَّيَالِسي في مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدْ.
... وَأَصْلُ الحَزْمِ أَنْ تُضْحِي وَتُمْسِي ... وَرَبُّكَ عَنْكَ فِي الحَالاتِ رَاضِ
وَأَنْ تَعْتَاضَ بِالتَّخْلِيطِ رُشْدًا ... فَإِنَّ الرُّشْدَ مِنْ خَيْرِ اعْتَيَاضِ
وَدَعْ عَنْكَ الذِي يُغْوِي وَيُرْدِي ... وَيُورِثُ طُولَ حُزْنٍ وَارْتِمَاضِ
وَخُذْ بِاللَّيْلِ حَظَّ النفسِ وَاطْرُدْ ... عَنِ العَيْنَيْنِ مَحْبُوبَ الغِمَاضِ
فَإِنَّ الغَافِلِينَ ذَوِي التَّوَانِي ... نَظَائِرٌ لِلْبَهَائِمِ فِي الغياضِ
اللَّهُمَّ وَفِّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِن جَمِيعِ الأهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرجْفِ وَالزِلْزَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ فِيمَا فِي الأَحَادِيثِ المُتَقَدِّمَةِ مِنَ الفَوَائِدْ)
فَفِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ مِنَ الفَوَائِدِ (أَوَّلاً) : تَحْرِيمُ التَّصْوِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ المُضَاهَاةِ بِخَلْقِ اللهِ. (ثَانِيًا) : أَنَّهُ لا أَحَدَ أَلأمَ مِنَ المُصَوِّرْ. (ثَالِثًا) : التَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ عَنِ التَّصْوِيرِ. (رَابِعًا) : أَنَّ المُصَوِّرِينَ عِنْدَهُمْ مِنْ قِلَّةِ الحَيِاءِ، وَسَخَافَةِ العُقُولِ مَا لا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ حَيْثُ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ يُضَاهِئُونَ بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. (خَامِسًا) : تَحَدِّيهِم فِي أَنْ يَخْلُقُوا ذَرَّة أَوْ حَبَّة، وَبَيَانِ عَجْزِهْم وَحَقَارَتِهِمْ. (سَادِسًا) : أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَةِ المُجَسَّدَةَ وَغَيْرُ المُجَسَّدَةَ وَهْيِ التِي لا ظِلَّ لَهَا.
(وَالعِلَّّّةُ) فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ هِيَ المُضَاهَاةُ بَخَلْقِ اللهِ تَعَالَى(5/213)
وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، (وَالعِلَّةُ الثَّانِيَةُ) لِلتَّحْرِيمِ هِيَ: أَنْ التَّصْوِيرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عِبَادَةِ الصُّوَرِ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ نُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى، وَالوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ، وَلَهُ (عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ) وَهِيَ: التَّشَبُّهِ بِالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَكُلُّ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ العِلَلِ الثَّلاثَ تَكْفِي فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ.
وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مَنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِلْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَامْ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ نَفْسٌ فَيُعَذّبُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَفِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلِى الأَعْمَالِ، وَفِي الحَدِيثِ التَّحْذِيرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ التَّصْوِيرِ.
وَالحَدِيثِ الذِي بَعْدَهُ فِيهَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ المُصَوّرَ فِي الدُّنْيَا يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّوَرِ التِي صَوَّرَهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَذَا الأمْرُ يُرَادُ بِهِ إِهَانَتَهُمْ، وَتَعْجِيزَهُمْ، وَتَحْقِيرَهُمْ، وَفِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
وَحَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيهَ دَلِيلٌ أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ، وَدَلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَأَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَإِثْبَاتِ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
وَحَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الكَبِائِرِ، وَعَلَى اسْتِمْرَارِ تَعْذِيبِ المُصَوِّرِينَ، لأَنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى إِحْيَاءِ(5/214)
الصَّوَرِ المَطْلُوبِ مَنْهُمْ إِحْيَاؤُهَا، وَإِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
وَحَدِيثُ عَائِشَة (أَوَّلاً) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، يُسْتَفَادُ مِنْ إِنْكَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَصْبِ السِّتْرِ، وَتَلَوُّنِ وَجْهِهِ وَهَتْكِهِ لَهُ، وَمِنْ الوعِيدِ الشَّدِيدِ لِلْمُصَوِّرِينَ.
(ثَانِيًا) : أَنَّهُ مِنَ الكَبَائِر، لِمَا جَاءِ فَيهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
(ثَالِثًا) : أَنَّ المُصَوِّرِينَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ.
(رَابِعًا) : أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ هِي المُضَاهَاةُ بِخَلْقِ اللهِ.
(خَامِسًا) : أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّدَةْ، لأَنَّ التِي أَنْكَرَهَا النَّبِيَُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُجَسَّدَةْ.
(سَادِسًا) : الغَضَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ المُنْكَرِ وَتَمَعُّرِ الوَجْهِ.
(سَابِعًا) : كَرَاهَةُ دُخُولِ البَيْتِ الذِّي فِيهِ صُورَةً.
(ثَامِنًا) : إِنْكَارً المُنْكَرِ بَحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ وَالقُدْرَةِ، فَمَنْ قَدِرَ بِيَدِهِ فَهُوَ الوَاجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَِي هَتْكِ السِّتْرِ بِيَدِهِ الكَرِيمَةِ، فَإِنَّ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ.
(تَاسِعًا) : أَنَّهُ يُكَلِّفُ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَتِهِ.
(عَاشِرًا) : دَلِيلٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَذَابِ المُصَوِّرِ، وَإِثْبَاتِ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ.
اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِخَاتِمَةِ السَّعَادَةِ وَاجْعَلْنَا مَمَّنْ كُتِبَتْ لَهُمْ الحُسْنَى وَزِيَادَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/215)
(حَادِي عَشَرْ) : أَنَّ البَيْتَ الذِي فِيهِ صُورَةٌ لا تَدْخُلُهْ المَلائِكَةُ.
وَحَدِيثُ أَبِي الهيَّاجِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَمْسِ الصُّوَرِ، وَهَدْمِ القُبُورِ المُشَرَّفَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ المُجَسَّدَةِ وَغَيْرَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِنْكَارِ المُنْكَرِ، وَالرَّدِ عَلِى مَنْ زَعَمَ أَنَّ المَنْعَ خَاصٌ بِالصُّوَرِ المُجَسَّدَةِ فَإِنَّ الصُورَةَ التِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحْوِهَا غَيْرُ مُجَسَّدَةٍ.
وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلا كَلْبٌ، وَالمُرَادُ المَلائِكَة الذِينَ يَنْزِلُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ المُسْتَغْفِرُونَ لِلْعَبْدِ، المُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلا فَوَاتِ هَذِهِ الغَنَائِمْ لَكَانَ العَاقِلُ يَحْزَنُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ آثَامٌ، وَسَبَبٌ امْتِنَاعِ دُخُولِ المَلائِكَةَ الْبَيْتَ الذِي فِيهِ صُورَةٌ، كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً، وَفِيهَا مُضَاهَاةً بِخَلْقِ اللهِ، وَأَمَّا الكَلْبُ فَلِكَوْنِهِ نَجِسًا، وَلِكَثْرَةِ أَكْلِهِ النَّجَاسَةَ، وَلِقُبْحِ رَائِحَتِهِ، وَلأنَّهُ مَنْهِيَّ عَنِ اتِّخَاذِهَا إِلا لِحَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «يَخْرُجُ عُنْقٌ مِنَ النَّارِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَبِائِرِ الذُّنُوبِ لِشِدَّةِ الوَعِيدِ، وَإِنْ مَصِيرَ المُصَوِّرِينَ إِلَى النَّارِ، مَعَ الجَبَابِرَةِ وَالمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لا ظِلَّ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الجُزء الخَارِجَ مِنَ النَّارِ المُوَكَّلِ بِالمُصَوِّرِ وَالمُشْرِكِينَ وَالجَبَّارِ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، وَأَنَّهُ يَنْطِقُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَعَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَإِثْبَاتِ النَّارِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ وَاسْأَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ كَيْفَ قَرَنَ المُصَوِّرَ بِالجَبَّارِ العَنِيدِ، وَبِمَنْ جَعْلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، تَفْهَمُ كَيْفَ قَدْرِ المُصَوِّرِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَذَابُهُ، وَالحَدِيثُ(5/216)
الذِي سَبَقَ تُؤَكِّد عِبَارَتُهُ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ» ، وَالحَدِيثُ السَّابِقُ أَيْضًا يُفْهِمْكَ أَنَّ الذنبَ كَبِيرٌ جِدًا، وَلِذَلِكَ يُكَلَّفُ فَاعِلُهُ وَهُوَ فِي النَّارِ أَنْ يَنْفُخَ فِيمَا صَوَّرَ الرُّوحَ وَلَيْسَ فِي إِمْكَانِهِ، فَيَسْتَمِرُّ التَّبْكِيتُ وَالتَّعْذِيبُ. كَمَا وَرَدَ فِي خَائِنِ الأَمَانَةِ وَالمُتَحَلِّمِ بِمَا لَمْ يَرَ مِنْ أَنَّهُ يكلف إخراجها بعد سقوطها في النار.
والحَدِيثُ الذي بَعْدَهُ فِيهِ لَعْنُ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَالوَاشِمَةِ وَالمُسْتَوْشِمَةِ، وَالمُصَوِّرِ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنْ الكَبِائِر، لأنَّ اللَّعْنَ لا يَكُونُ إِلا عَلَى كَبِيرَةٍ، وَفِيهِ شِدَّةُ الوَعِيدِ لِلْمُصَوِّرِينَ، لأنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌ لِمَا لَهُ ظِلٌ وَلِمَا لا ظِلَّ لَهُ مِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ.
وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ فِيهِ لَعْنُ المُصَوِّرِ، وَإِنَّ التَّصْوِيرِ مِنَ الكَبَائِرِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
وَحَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحُ المَعْنَى.
قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِي رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ العُلَمَاء: تَصْوِيرُ صُورَةِ الحَيَوَانِ حَرَامٌ، شَدِيدُ الحُرْمَةِ وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ، لأنَّهُ مُتَوَعِّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، المَذْكُورِ فِي الأَحَادِيثِ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالِّ، لأنَّ فِيهِ مُضَاهَاةٌ بِخَلْقِ اللهِ، وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ، أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ، أَوْ فِلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ، أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: وَلا فَرْقَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌ وَمَا لا ظِلَّ لَهُ، هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي المَسْأَلَةِ، وَبِمَعْنَاهَا قَالَ جَمَاهِيرُ العُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمِنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِي، وَمَالِكٍ، وَأِبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.(5/217)
شِعْرًا: ... فَلا تَرْجُ إِلا اللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ
فَأَلْقِ إليه بَثَّ شَكْوَاكَ تُحْمَدُ
لَهُ المَلْكُ بِالأَكْوَانِ لا بِمُؤازِرِنْ
وَلا بَنَصِيرٍ فِي الدِّفَاعِ لِمُعْتَدِ
قَرِيبُ وَلَكِنَ بِالذُّنُوبَ تَبَاعَدَتْ
مَسَائِلُنَا عَنْ رَوْضِ إِحْسَانِهِ النَّدِي
فَقُمْ قَارِعًا لِلْبَابِ وَالنَّابِ نَادِمًا
عَلَى مَا جَرَى وَارْفَعْ دُعَاءَكَ يَصْعَدِ
وَقُمْ سَائِلاً وَالدَّمْعُ فِي الخَدِّ سَائِلٌ
تَجِدْ مَا تَشَا مِنْ لُطْفِهِ وَكَأنْ قَدِ
وَقُمْ زُلَفًا فِي اللَّيْلِ إِنْ نَشَرَ الدُّجَى
جَنَاحَ غُدَافٍ يُلْبِسُ الكَوْنَ عَنْ يَدِ
وَرُدَّ ظَلامَ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ مُشْرِقًا
فَقَدْ فَازَ مَنْ بِالذِّكْرِ يَهْدِي وَيَهْتَدِي
وَأَمَّا بَنُو الدُّنْيَا فَلا تَرْجُ نَفْعَهُمْ
فَلا مُنْجِدٌ فِيهِمْ يُرَجَّى لِمُجْتَدِ
فَإِنِّي تَتَبَّعْتُ الأَنَاَم فَلَمْ أَجِدْ
سِوَى شَامِتٍ أَوْ حَاسِدٍ أو مُفَنِّدِ
وَقَدْ رَضَعُوا ثَدْيَ المَهَابَةِ كُلُّهُمْ
وَكُلٌ بِذَيْلِ الذُّلِّ أَصْبِحَ مُرْتَدِ
فلم أَرَ أَرْمَى إَلا بِالسِّهَامِ مِن الدُّعَا
إَلَى مَقْتَلِ الأَعْدَاءِ مِنْ قَوْسِ مِذْوَد ... ?(5/218)
.. وَعَنْ مَا قَلِيلٍ يُدْرِكُ السَّهْمُ صَيْدَهُ
فَكَمْ صَادَ سَهْمُ اللَّيْلِ مُهْجَةَ أَصْيَدِ
وَأُوصِيكَ بِالتَّقْوَى لِرَبِّكِ إِنَّهُ
سَيَحْمِدُ تَقْوَاهُ المُوَفَّقُ فِي غَدِ
وَخُذْ لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادًا فَإِنَّمَا
أَقَامَكَ فِي الدُّنْيَا لأَخْذِ التَّزَوُّدِ
وَعَنْ مَا قَلِيلٍ قَدْ أَنَاحَ رِكَابُنَا
بِقَصْرِ خَلِيٍّ مُظْلِمِ الجَوِّ فَدْفَدِ
فَإِنَّ اللَّيَالي كَالمَرَاكِبِ تَحْتَنَا
تَرُوحُ بِنَا فِي كُلِّ حِينٍ وَتَغْتَدِي
فَيَا حَبَّذَا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا
تَحُطُّ رِحَالَ القَادِمِ المُتَزَوُّدِ
وَلَيْسَ لَنَا إِلا الرَّجَاءُ فَإِنَّهُ
يُبْلِغُنَا مِنْ فَضْلِهِ خَيْرَ مَقْعَدِ ... ?
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا مَنَاهِجَ السَّلامَةِ وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَوَفِّقْنَا لِلاسْتِعْدَادِ لِمَا وَعَدْتَنَا وَأَدِمْ لَنَا إِحْسَانِكَ وَلُطْفَكَ كَمَا عَوَّدْتَنَا وَأَتْمِمْ عَلَيْنَا مَا بِهِ أَكْرَمْتَنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةْ
خَطَبَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: اتَّقُوا اللهِ عِبَادَ اللهِ، وَبَادِرُوا آجَالِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ - أَيْ اشْتَرُوا مَا يَبْقَى مِنَ النَّعِيمِ الأَبَدِي، مِمَّا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا(5/219)
أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرْ، بِمَا يَفْنِي مِنْ لَذَّة الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا الزَّائِلَةْ، وَتَرْحًلُوا فَقَدْ جَدَّ لَكُمُ الانْتِقَالْ - أَيْ حُثِثْتُمْ وَأُزْعِجْتُمْ إِلَى الرَّحِيلِ - وَاسْتَعِدُّوا فَانْتَبِهُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، فَاسْتَبْدِلُوهَا بِدَارِ الآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكُكُمْ سُدَى - أَيْ مُهْمَلِين، بِلا رَاعٍ يَزْجُرُكُمْ عَمَّا يَضُرُّكُمْ، وَيَسُوقَكُمُ إِلَى مَا يَنْفَعُكُمْ - وَمَا بَيْنِ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلا المَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ، وَإِنَّ غَايةً هِيَ الأَجَلُ، تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ المُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِبًا يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّّّيْلِ وَالنَّهَارِ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِمًا يَقْدُمُ بِالفَوْزِ أَوْ الشَّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لأَفْضَلِ العُدَّةْ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرَزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُم غَدًا، فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّم تَوْبَتَهُ وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ، وَالشَّيْطَانُ مُوَكّلٌ بِهِ، يُزَيِّنُ لَهُ المَعْصِيْةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لَيُسَوِفِهَا حَتَّى تَهْجُمَ مَنِّيَتِهِ عَلَيْهِ، أَغْفَل مَا يَكُونَ عَنْهَا.
... قَلَبَ الزَّمَانُ سَوَادَ رَأْسِكَ أَبْيَضَا ... وَنَعَاكَ شَيْبُكَ كُلُّه فَتَيقَضَا
وَعَرَفْتَ نَفْسَكَ فِي سُكُونِكَ قَاعِدًا ... وَعَرَفْتَ نَفْسَكَ إِذْ هَمَمْتَ لِتَنْهَضَا
فَلَئِنْ عَجِبْتُ لأَعْجَبَنَّ لِغَافِل ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ لِلْحَوَادِثِ مُعْرِضًا
آخر: ... جَهُولٌ لَيْسَ تَنْهَاهُ النَّوَاهِي ... وَلا تَلْقَاهُ إِلا وَهُوَ سَاهِي
يُسَرُّ بِيَوْمِهِ لَعِبًا وَلَهْوًا ... وَلا يَدْرِي وَفي َغِده الدَّوَاهِي
مَرَرْتُ بِقَصْرِهِ فَقُلْتُ مَنْ ذَا ... عَجِِيبًا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَنَاهِي
رَأَيْتٌ بِبَابِهِ سُودَ الجَوَارِي ... فَقَالُوا ذَلِكَ المَلِكُ المُبَاهِي
تَبَيَّنْ أَيَّ دَارٍ أَنْتَ فِيهَا ... وَلا تَسْكُنْ إليها وَادْرِ مَا هِي
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنِ المَعَاصِي وَالزَّلاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(5/220)
فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الرِّشْوَةْ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، أَنَّ الرِّشْوَةَ دَاءٌ مِنْ أَخْطَرَ الأَدْوَاءِ فَتْكًا بِالمُجْتَمَعَاتِ، ذَلِكَ أَنَّهَا لا تَشِيعُ فِي مُجْتَمَعٍ إِلا تَدَاعَتْ أَرْكَانُهْ، وَهَبَطَ فِي مُسْتَوَاهُ الخُلُقِي إِلَى الحَضِيضِ، وَسَيْطَرَتْ فَيهِ المَادَّةُ الجَشِعَةُ عَلَى الحُكَّامِ وَالمَحْكُومِينَ، فَيُصْبِحُ صَاحِبُ الحَقِّ فِي قَلَقٍ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنَهُ الحُصُولُ عَلَى حَقِّهِ إِلا إِذَا قَدَّمَ جُعْلاً لَمْنَ عِنْدَهُ وَسِيلَةٌ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ.
وَلا تَرَى صَاحِبُ ظَلامَةً يَطْمَعُ فَي رَفْعِ ظَلامَتِهِ عَنْهُ، إَلا أَنْ يَرْشِي مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى رَفْعِهَا، وَقَدْ يَبْلُغُ الأَمْرُ بَالمُرْتَشِي إَلَى أَنْ يُمَاكِسَ الرَّاشِي فِي مِقْدَارِ الرِّشْوَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذِلَكَ جَهْرًا، بَلا حَيِاءٍ وَلا خَجَلْ.
وَلا تَسْأَلْ عَنْ مَا يَنْتُجُ عَْنَها مِنَ الأَضْرَارِ التي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى مِنْ ضَيَاعِ الكَرَامَةِ، وَهَضْمِ الحُقُوقِ، وَقَبْر النُّبُوغْ وَتَلاشِى الْجِدِّ فِي العَمَلِ، وَاضْمِحْلالُ الغِيَرِة عَلِى أَدَاءِ الوَاجِبِ، وَتَرْكَ العَامِلِينَ كُلُّ ذَلِكَ يَذْهَبُ وَلا تَجِدْ لَهُ أَثَرَا، وَيَحِلُّ مَكَانَهُ الخُمُولُ وَالضَّعْفُ، وَالغِشُّ وَالخِيَانَةْ، وَمَا إِلَى ذَلِكْ.
إِذَا رُشْوَة مِنْ سُورِ بَيْتٍ تَقَحَّمَتْ ... ???? ... لِتَسْكُنَ فِيهِ وَالأَمَانَةُ فِيهِ ... ???? ... سَعَتْ هَرَبًا مِنْهُ وَوَلَّتْ كَأَنَّهَا ... ???? ... حَلِيمٌ تَوَلَّى عَنْ جَوَابِ سَفِيهِ ... ? ... ???? وَتُصَابُ مَصَالِحُ الأُمَّةِِ بِالشَّلَلْ، وَعُقُولِ النَّابِغِينَ بِالعُقْمِ، وَمَوَاهِِبُ المُفَكِّرِينَ بِالجُمُودِ، وَعَزَائِمُ المُجِدِّينَ وَهِمَمِهُمْ بِالخُورِ وَالفُتُورِ، وَأَيُّ خَيْرٍ(5/221)
يُرْجَى مَنْ يَوْمٍ يَكُونُ مِقْيَاسُ الكَفَاءَة فِيهم مَا يَتَقَّرَبُ المَرْؤُوسُ بِهِ مَن قُرَابِين، وَأَيُّ ثَمَرةٍ مِنْ عَمَلٍ لا يُوصَلَ إليه إِلا بِالرُّشَا وَالمَطَامِعِ.
وَقَدْ تُلْبَسُ الرِّشْوَةُ ثَوْبًا مُسْتَعَارًا وَلَكِنْ يَشِفُّ عَنْ حَقِيقَتِهَا كَمَا قِيل:
... ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشِّفُ عَمَّا تَحْتَهُ ... ???? ... فَإِذَا التَحَفْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارِي ... ? ... ???? فَقَدْ تَكُونُ الرِّشْوَةُ فِي صُورَةِ تُحْفَةٍ أَوْ هَدِيَّة، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاء، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنْ دِين، أَوْ يُشْرِكهُ في أَرْض أَوْ يَتَوَسَّطُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكْ، وَنَحْوِ ذَلِكِ وَكُلُّ هَذِهِ الحِيَلِ لا تُزْيلُ الحَقَائِقَ.
وَهْي فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ رُشْوَةٌ بَشِعَةُ المَنْظَرُ، سَيِّئَةُ الْمَخْبَرْ كَرِيهَةُ الرَّائِحَةِ، مُلَوَّثَةٌ لِلشَّرَفِ، مُضَيِّعَةٌ لَلْعِفَّةِ وَالكَرَامَةِ وَالمَهَابَةِ وَلِذَا كَانَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي مَلْعُونِين، لأَنَّ الرَّاشِي يُسَاعِدُ المُرْتَشِي عَلَى تَضْيِيعِ الحُقُوقِ، وَيُسَهِّلَ لَهُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَيُنَمِّي فِيهِ الخُلُقَ الذَّمِيمْ، وَيُيَسِّرُ لَهُ التَّحَكُمَ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَيَسْتَمْرِئُ هَذَا الْمَرْعَى الْوَخِيم، وَالمُرْتَشِي قَدْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ، وَمَنَعَ الحَقَّ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَأْخُذُ الرُّشْوَة مِنْهُ.
وَالرُّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ مَا تُوصِلُ بِهِ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ تَمْشِيَةِ بَاطِلْ، أَمَّا مَا وَقَعَ لَلتَّوَصُّلِ لَحِقٍ، أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، فَلَيْسَ بِرُشْوَةٍ مَنْهِيَّةٍ، قَالَ فِي المُغْنِي: فَأَمَّا الرُّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، وِرُشْوَةُ الْعَامِلِ، فَحَرَامٌ بِلا خَلافْ.
قَالَ تَعَالَى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قَالَ الحَسَنُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيْر في تَفْسِيره: هُوَ الرِّشْوَة. وَقَالَ: فَأَمَّا الرَّاشِي، فَإِنْ رَشَاهُ لِيَحْكُمَ لَهُ(5/222)
بِبَاطِلْ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ حَقًا فَهُوَ مَلْعُونْ، وَإِنْ رَشَاهُ لِيَدْفَع ظُلْمَهُ، وَيَجْزِيَهُ عَلَى وَاجِبَه، فَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بنُ زَيْدٍ، وَالحَسَنْ: لا بَأَسْ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: وَلأَنَّهُ يَسْتَنْقِذُ مَاله، كَمَا يَسْتَنْقِذُ الرَّجُلِ أَسِيرَه. انتهى.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي فِي الحُكْم» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. أَمَّا الحَدِيثِ فَوْجُهُ الاسْتِدْلالُ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّشْوَةِ وَاضِحْ، إِذْ لا يَسْتَحِقُ لَعْنَةَ اللهِ إِلا فَاسِقٌ أَوْ كَافِرْ، وَأَمَّا الآيةُ فَقِيلَ: إَنَّ مَعْنَاهَا: لا تُدْلُوا بِأَمْوَالِكُمْ إِلَى الْحُكَّامْ، أَيْ لا تُصَانِعُوهُم بِهَا، وَلا تَرْشُوهُمْ لِيَقْطَعُوا لَكُمْ حَقًا لِغَيْرَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لا يَحِلُّ لَكُمْ، فَالآيةُ تَنْهِي المُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَأَكْلُوا أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالبَاطِلْ، وَالرُّشْوَةُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ هَذَا الأَكْل الْمَنْهِيّ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُهم يَصِف المُحَابِينَ لأَصْدِقَائِهم:
قَالَ الشَّاعِر:
... إِذا حَاوَلُوا أَمْرًا لِشَخْصٍ يَهُمُّهُمْ ... تَنَاسُوا أُمُورَ الشَّرْعَ فِيهِ وَلَفَّقُوا
وَإِلا رَمُوا أَوْرَاقِهِ عِنْدَ وَجْهِهِ ... وَقَالُوا لَهُ خُذْ مَا تَرَاهُ وَأَطْرَقُوا
آخر: ... وَإلى اليقِينَ وَعَادِ الشَّكَ أَجْمَعَهُ
وَإلى اليقِينَ وَعَادِ الشَّكَ أَجْمَعَهُ
فَالخَطْبُ عَمَّ وَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُم
مُعَظِّمِينَ لِبِدْعِيٍّ وَمَرْدُودِ
هَذَا الزَّمَانُ الذي كُنَّا نُحَاذِرُهُ
فِي قَوْلِ كَعبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ ... ?(5/223)
.. فَصَاحِبُ الدِّينِ مَمْقُوتٌ وَمُنْكَتِمٌ
وَصَاحِبُ الفِسْقِ فِيهِمِ غَيْرُ مَظْهُودِ
كُلٌّ يُقَلِّدُ فِي الأَهْوَاءِ صَاحِبَهُ
حَتَّى البِلادَ لَهَا شَأنٌ بِتَقْلِيدِ
وَالأَمْرُ بِالعُرْفِ ثُمَّ النَّهْيُ عَنِ نُكُرٍ
صَارَا لَدَيْنَا بِلا شَكٍ كَمَفْقُودِ
إِذَا نَصَحْتَ لِشَخْصٍ قَالَ أَنْتَ كَذَا
فِيكَ العُيوبُ لَدَيْنَا غَيْرَ مَحْمُودِ
إِذَا رَأَوا صَالِحًا يَدْعو لِنَهْجِ هُدَىً
تَأنَّبُوهُ بِإِيذَاءٍ وَتَبْعِيدِ
حُكْمُ القَوَانِينِ قُالُوا فِيهِ مَصْلَحَةٌ
وَفِي الرِّبَا سَاعَدْتَ شِيبٌ لِمَوْلُودٌ
أَهْلُ الهَوَى وَالرَّدَى مَالُوا لِمُحْدَثَةٍ
قَالُوا الشَّرِيعَةَ لا تَكْفِي لِمَقْصْودِ
قُولُوا لَهُمْ قُوْلَ نُصْحٍ مَا بِهِ شَطَطٌ
مَقَالَةً صَاغَهَا حَبْرٌ بِتَسْدِيدِ
مُخَالِفُ الشَّرْعِ لَمْ يَظْفُرْ بِحَاجَتِهِ
لَوْ نَالِ خَيْرًا قُصَارَاهُ لِتَبْدِيدِ
إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غِيَر
لَمْ يُبْكَ مَيْتٍ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمَوْلُودِ ... ?
اللَّهُمَّ إِنَّا نسألكَ العافية في الدُّنيا والآخرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَو والْعَافيةَ في دِيننَا ودُنيانَا وآخِرتنَا وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوراتِنا وَأَمنِ روعاتِنا واحْفَظنا مِن بين أيدينا ومنِ خَلفنا وَعن أيمانِنَا وعن شَمائِلنا ومن(5/224)
فَوقِنا ونَعُوذ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
قَالَ العُلَمَاءُ: الرَّاشِي هُوَ الذِي يُعْطِي الرِّشْوَةُ، وَالمُرْتَشِي هُوَ الذِي يَأْخُذُ الرِّشْوَة، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّي مِنْحَةُ الحُكَّامِ رِشْوة لأَنّها وُصْلَةٌ إِلَى المَقْصُودْ، بَنَوْعٍ مِنَ التَّصْنِيع، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّشَاءِ، وَهُوَ الحَبْلُ الذِي يُتَوَّصل بِهِ إِلَى نَزْحِ المَاءِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
... وَلَيْتَ الحُكْمَ خَمْسًا بَعْدَ عَشْرٍ ... ???? ... لَعَمْرِي وَالصِّبَا فِي العُنْفُوِانِ ... ???? ... فَلَمْ تَضِعِ الأَعَادِي قَدْرَ شَانِي ... ???? ... وَلا قَالُوا فُلانٌ قَدْ رَشَانِي ... ? ... ???? وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخر: أَنَّ اللَّعْنَة عَلَى الرَّائِشَ أَيْضًا، وَهُوَ السَّاعِي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ تَابِعٌ لِلرَّاشِي فِي قَصْدِهِ، إِنْ قَصَدَ خَيْرًا لَمْ تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةِ، إِلا لَحِقْتَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أِبِي أُمَامَةَ البَاهِلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةْ، فَقَدْ أَتِى بِابًا مِنْ أَبْوِابِ الرِّبَا» ، وَعَنِ ابِنِ مَسْعُودٍ قَال: السَّحُتْ: أَنْ تَطْلُبَ لأَخِيكَ الْحَاجَةَ، فَتَقْضِي فَيُهْدِي إليك هَدِيَّةً فَتَقَبَلُهَا مِنْهُ.
وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَلَّمِ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلَمَةٍ فَرَدَّهَا، فَأَهْدَى إليه(5/225)
صَاحِبُ المَظْلَمَةِ وَصِيفًا، فَرَدَّهَا وَلَمْ يَقْبَلُهَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُول: مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةٍ فَأَعْطَاهُ عَلَيْهَا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا فَهْوَ سَحُتْ، فَقَالَ الرَّجُلْ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنْ السُّحْتَ إِلا الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، فَقَالَ: ذَلِكَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ.
قَالَ العُلَمَاءُ: وَيَحْرُمُ عَلَى القَاضِي قُبُولُ هَدِيَّة إِلا مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلايَتِهْ، إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةْ، لِمَا رَوَىَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِي إلي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيِجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهِدِيَ إلي، أَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أُيُهْدَى إليه أَمْ لا، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَأخُذَ شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءْ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرْ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ عُقْدَةَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا: ... لا يَأْمَِنِ الوَقْتَ إِلا الخَائِنُ البَطِرُ
مَنْ لَيْسَ يَعْقِلُ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ
مَا يَجْهَلُ الرُّشْدَ مَنْ خَافَ الإِلَه وَمَن
أَمْسَى وَهِمَّتُهُ فِي دِينِهِ الفْكَرُ
فِيمَا مَضَى فِكْرَةٌ فِيهَا لِصَاحِبِهَا
إِنْ كَانَ ذَا بَصَرٍ بِالرَّأْيِ مُعْتَبِرُ
أَيْنَ القُرُونُ وَأَيْنَ المُبْتَنُونَ لَنَا
هَذِي المَدائِنُ فِيهَا المَاءُ وَالشَّجَرُ ... ?(5/226)
.. وَأَيْنَ كِسْرَى أَنُو شُرْوانَ مَالَ بِهِ
صَرَفُ الزَّمَانِ وَأَفْنَى مُلْكَهُ الغِيَرُ
بَلْ أَيْنَ أَهْلُ التُّقَى بَعْدَ النَّبِيّ وَمَنْ
جَاءَتْ بِفَضْلِهُم الآيَاتُ وَالسُّوَرُ
أُعْدُدْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِيقَ أَوَّلَهُمْ
وَنَادِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الفَضْلِ يَا عُمَرُ
وَعُدَّ مِنْ بَعْدِ عُثْمَانٍ أَبَا حَسَنٍ
فَإِنَّ فَضْلَهُمَا يُرْوَى وَيُذَّكَرُ
لَمْ يَبْقَ أَهْلُ التُّقَى فِيهَا لِبِرِّهُمُ
وَلا الجَبَابِرَةُ الأَمْلاكُ مَا عَمَرُوا
فَاْعَملْ لِنَفْسِكَ وَاحْذَرْ أَنْ تُوَرِّطَهَا
فِي هُوَّةِ مَالَهَا وِرْدٌ وَلا صَدَرُ
مَا يَحْذَرُ اللهَ إِلا الرَّاشِدُونَ وَقَدْ
يُنْجِي الرَّشِيدَ مِنَ المَحْذُورَةِ الحَذَرُ
وَالصَّبْرُ يُعْقِبُ رِضْوَانًا وَمَغْفِرِةً
مَعَ النَّجَاحِ وَخِيْرُ الصُّحْبَةِ الصَّبْرُ
النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَفَرٍ
وَعَنْ قَرِيبٍ بِهِمْ مَا يَنْقَضِي السَّفَرُ
فَمِنْهُمْ قَانِعٌ رَاضٍ بِعَيْشَتِهِ
وَمِنْهُمْ مُوسِرٌ وَالقَلْبُ مُفْتَقِرُ
مَا يُشْبِعُ النَّفْسَ إِنْ لَمْ تُمْسِ قَانِعَةً
شَيْءٌ وَلَوْ كَثُرَتْ فَي مِلْكِهَا البَدْرُ ... ?(5/227)
.. والنَّفْسُ تَشْبَعُ أَحْيَانًا فَيُرْجِعُهَا
نَحْوَ المَجَاعَةِ حُبُّ العَيْشِ وَالبَطَرُ
وَالمَرْءُ مَا عَاشَ فِي الدُّنْيَا لَهُ أَثَرٌ
فَمَا يَمُوتُ وَفِي الدُّنْيَا لَهُ أَثَرُ ... ?
اللَّهُمَّ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بَنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَزَحْزِحْنَا عَنِ النَّار وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ دَارَ القَرارِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة
عِبَادَ اللهْ: لَقْدَ نَهَانَا رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَاسْتِحْلالِهَا بِدُونِ حَقٍّ، وَأَخْذِهَا بِوَجْهٍ لَمْ يُبِحْهُ الدِّينْ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ، يَنْهَانَا عَنْ رَفْعَ الدَّعَاوِي الكَاذِبَةِ، وَالإِدْلاءِ بِالقَضَايَا المُخْتَلِقَةِ المُلَفَّقَةِ، وَتَقْدِيمِ صَفَحَاتِهَا إِلَى القُضَاةِ، رَجَاءِ الفَصْلٌ فِيهَا بِالبَاطِلِ، اسْتِنَادًا إِلَى اليمِينِ الغَمُوسِ الْكَاذِبَةِ، وَارْتِكَانًا عَلَى شَهَادَةِ الزُّوْرِ الفَاجِرَةِ، أَوْ اعْتِمَادًا عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالوَسَائِطِ، وَاسْتِظْهَارًا بِتِلْكَ الرَّشَاوِي التِي تُقَدَّمُ بِاسْمِ الهَدَايَا إِلَى مَنْ لا خَلاقَ لَهُمْ، فَيَتَخَّطُونَ العَدَالَةَ لِقَاءَ هَذَا، وَيَجُورُونَ فِي الحُكُومَةِ وَالقَضَاءِ.
إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التِي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ قَبْسٌ مِنْ نَارْ، وَأُتُونُ مُسْتَعِرَةٌ بِاللَّظَى، وَتَنُّورٌ مَسْجُورٌ، مُوقِد إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ، جَذْوَةٌ مِنْ لَهِيبٍ، وَشُعْلَةٌ مُتَوَهِّجَةٌ، إِنَّ أَمْوالَ النَّاسِ التِي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ آفةٌ مُهْلِكَةٌ، تَأْكُلُ الأَخْضَرِ وَاليابِسْ وَتَأْتِي عَلَى الغَضِّ وَالهَشِيمِ، هَذَا إِذَا فَنِيَتْ وَزَالَتْ، وَأَمَّا إِذَا بَقِيَتْ وَدَامَتْ، وَرَبَتْ وَنَمَتْ، وَزَادَتْ وَكَثُرَتَ،(5/228)
وَشَبَّ عَلَيْهَا جِسْمُهُ، وَنَمَا عَلَيْهَا عَظْمُهُ وَلَحْمُهُ، فَالْوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لآكِلِ الحَرَامِ، الْتَفِتُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ يَمِينًا وَشِمَالاً تَرَوْا إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التِي أُكِلَتْ حَرَامًا مَا أَغْنَتْ آكِلِيهَا، وَمَا أَجْدَتْ عَلَى غَاصِبِيهَا وَنَاهِبِيهَا، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، أَتَتْ عَلَى بُيُوتِهِمْ فَخَرَّبَتْهَا، وَدَكَّتْ صُرُوحَ عِزِّهِمْ وَمَجْدِهِمْ فَهَدَّمَتْهَا، فَلَيْتِ شِعْرِي بِمَاذَا يَكُونُ الجَوَابُ إِذَا وَقَفُوا غَدًا بَيِنَ يَدِيْ أَحْكَمِ الحَاكِمِينَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ هِذِهِ الأَمْوَالْ بِأَيِّ وَجِهٍ أَخَذُوهَا، وَعَلَى أَيّ دِينٍ اسْتَبَاحُوهَا، وَبِأَيّ شَيْءٍ يَنْطِقُونَ إَذَا شَهَدَتْ عَلَيْهُمْ الْجَوَارِحُ وَوَاجَهَتْهُمُ الأَعْضَاءُ بِالحَقَائِقِ، فَقَالَ اللِّسَانُ: بِي نَطَقَ كِذْبًا وَبُهْتَانًا، وَقَالَتِ اليدَانِ: بِي أَخَذَ المَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَقَالَتْ الرِّجْلانْ: بِي سَعِى الأَثِيمُ إِلَى دَارِ القَضَاءِ يَطْلُبُ الإِنْصَافَ، كَأَنَّهُ مَغْبُونٌ وَمَظْلُومٌ، وَقَالَتِ الرِّجْلانِ أَيْضًا بِي مَشَى إِلَى الزِّنَا أَوْ اللِّواطْ، أَوْ السَّرِقَةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الجَرَائِمْ.
آكِلُ الحَرَامِ فَتِّشْ حَوَاليك تَجِدُ الْحَرَامَ لا يَنْفَعْ، قَلِّبْ النَّظَرَ مَلِيًّا تَرَى المُبْطِلُ لا يَتَقَدَّمْ، تَأَمَّلْ قَلِيلاً وَفَكِّرْ فِي الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ العَافِيَةَ تَزُولُ، ارْجِعْ النَّظَرَ كُرَّاتٍ وَرَدِّدِ الْبَصَرِ مَرَّاتٍ، تُجبْكَ الحَوَادِثُ بِلَهْجَةِ الخَبِيرِ، بِأَنَّ العُمُرَ وَإْنْ طَالَ قَصِيرْ، وَإِنَّ الحِسَابِ عَسِيرُ وَشَدِيدٌ، وَأَنَّ المَوْقِفَ رَهِيبٌ وَشَاقٌ، وَأَنَّ الْمَصِيرَ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ أَيْقِنُوا بِأَنَّ الأَحْكَامِ التِي تُؤْخَذُ فِي الدُّنْيَا بِالسَّفْسَطَةِ وَالتَّدْلِيسِ لا تَرْفَعُ الإثْمَ، وَلا تَرُدُّ العِقَابْ، لأنَّ الحُكُومَةْ سَتُعَادُ، وَالشُّهُودَ عِيَانٌ، وَالْقَضَاءُ بِالْقِسْطَاسِ، وَالقَاضِي الحَكَمْ الْعَدْلُ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} . وَقَالَ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(5/229)
وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الحَاجِيَّاتِ التِي تُؤْخَذُ خِلْسَةً وَتُخْتَطَفُ فِي غَفْوَةٍ، أَوْ تُؤْخَذُ رَغْمًا وَكُرْهًا فِي صَحْوٍ وَيَقَظَةٍ، بَاقِيَةٌ لأَصْحَابِهَا سَتَقْضُونَهَا مِنْ حَسَنَاتِكِمْ، وَتُؤَدُّونَهَا مِنْ مُبَرَّاتِكُمْ، إِنْ كَانَتْ لَكُمْ حَسَنَاتٌ وَمَبَرَّاتٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِنَ خَطَايَا أَصْحَابِهَا فَطُرِحَتْ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ تُلْقَوْنَ بِهَا فِي النَّارِ، فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَحَرُّوا الكَسْبِ الطَّيِّبْ، فَقْدَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتْدَرُونَ مَنِ المُفْلِسْ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعٌ، فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مِنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَّ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .
شِعْرًا: ... خَفِ اللهَ وَانْظْرِ فِي صَحِيفَتِكَ التِي
حَوَتْ كُلَّمَا قَدَّمْتَهُ مِنْ فِعَالِكَا
فَقَدْ خَطَّ فِيهَا الكَاتِبَانِ فَأَكْثَرَا
وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ يَقُولا فَذَالِكَا
وَوَاللهِ مَا تَدْرِي إِذَا مَا لَقِيتَهَا
أَتُوضَعُ فِي يُمْنَاكَ أَوْ فِي شَمِالِكَا
وَلا تَحْسَبَنَّ المَرْءَ يَبْقَى مُخَلَّدًا
فَمَا النَّاسُ إِلا هَالِكٌ فَابْكِ هِالِكَا
آخر: ... إِذَا انْقَطَعْتْ أَعْمَالُ عَبْدٍ عَنِ الوَرِى
تَعَلَّقَ بِالرَّبِ الكَرِيمِ رَجَاؤُهُ ... ?(5/230)
جج
... فَأَصْبحَ حُرًا عِزَّةً وَقَنَاعَةً
عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ
وَإِنْ عَلِقَتْ بِالْخَلْقِ أَطْمَاعُ نَفْسِهِ
تَبَاعَدَ مَا يَرْجُو وَطَالَ عَنَاؤُهُ
فَلا تَرْجُ إِلا اللهَ لِلْخَطْبِ وَحْدَهُ
وَلَوْ صَحَّ فِي خِلِّ الصَّفَاءِ صَفَاؤُهُ ... ?
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءَةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتَنَا رَطِبَةً بِذْكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ العَافِيةَ فِي دِينِنَا ودُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا وَمِنْ فَوقِنَا ونَعُوذُ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ في حكم التأمين)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَجَنَّبَنَا وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِِ المُسْلِمِينَ مَا يَكْرَهُهُ وَلا يَرْضَاهُ أَنَّ مَمَّا حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَانْتَشَرَ فِي الأَرْضِ انْتِشَارَ الْوَبَاءِ الفَتَّاكْ، مَا يُسَمَّى بِالتَّأْمِين عَلَى الحَيَاةِ وَعَلَى الأَمْوَالِ، وَهُوَ عَقْدٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مُؤَمِّنٌ، وَالآخَرُ مٌؤَمَّنٌ، يَلْتَزِمُ فِيهِ المُؤْمِنُ أَنْ يُؤَدِّي إِلَى المُؤْمِّن مَبْلَغًا مِنَ المَالِ، أَوْ شَيْئًا مُرَتَّبًا عَنِدَمَا يَحْصُل ضَرَرٌ أَوْ حَادِثْ، وَذَلِكَ فِي مُقَابِلِ قِسْطٌ أَوْ أَيَّةِ دُفْعَةٍ مَاليةٍ أُخْرَى يُؤَدِّيهَا المُؤْمِّنُ إِلَى المُؤَمَّنِ.
وَفِي الغَالِبِ أَنَّ الذِي يَقُومُ بِالتَّأْمِينِ شَرِكَاتٌ مُسَاهِمَةٌ كَبِيرَةٌ مٌهِمَّتُهَا(5/231)
التِي مِنْ أَجْلِهَا أُنْشِئَتْ: التَّأْمِينُ عَلَى الحَيِاةِ فِيمَا زَعَمُوا، وَعَلَى الأَمْوَالِ أَيْ ضَمَانِهَا، وَدَفْع ثَمَنَهَا إَذَا تَلَفَتْ، فَانْكَبَّ النَّاسُ عَلَيْهَا انْكِبَابًا عَظِيمًا، وَلَمْ يُفَكِّرُوا وَلَمْ يَفْحَصُوا، وَلِمْ يَسْأَلُوا عَنْ حِلَّهَا وَحُرْمَتِهَا وَضَرَرِِهَا، عَاجِلاً وَآجِلاً.
فَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى الحَيَاةِ فَطَرِيقَتُهُمْ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَى حَيَاتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَرْكَزِ شَرِكَةِ التَّأْمِينْ وَيُفْهِمُهَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ مِنَ الأَمْوَالِ كَذِا لِتَضْمَنَ لَهُ حَيَاتَهُ كَذِا مِنَ السِّنِينِ، وَإِذَنْ هِيَ تُحْضِرُ حُكَمَاءَهَا البَارِعِينَ فِيمَا زَعَمَتْ وَيَبْحَثُونَ جِسْمَهُ بِحْثًا دَقِيقًا، ثُمَّ يُعْطُونَ الشَّرِكَةِ رَأْيَهُمْ فِي مَبْلَغِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، وَفِي سَنِّهِ التِي هُوَ فِيهَا إِذْ ذَاكَ، فَإِذَا أَحَاطَ رِجَالُ الشِّرْكَةِ العَامِلُونَ بِمِقْدَارِهِ أَصْدَرُوا أَمْرَهُمْ بِضَمَانِ حَيِاتِهِ عَشْرَ سِنِين، أَوْ عِشْرِين، أَوْ ثَلاثِين، أَوْ أَرْبَعِين، أَوْ خَمْسِين. وَلَيْسَ كُلُّ شَخْصٍ بَلِ المُرَادُ عِنْدَهُم الصَّحِيحُ، أَمَّا المَرِيضِ أَوْ مِنْ يَتَعَاطَى الأَشْيَاءِ التي تَجْلِبُ الأَمْرَاضْ فَيُقَدَّرُ لَهُ عَلَى قَدْرِ حَاله فِيمَا يَرَوْنَ، فَإِذَا انْتَهَى تَسَلَّمُوا أَوَّلَ قِسْطٍ مِنَ الأَقْسَاطِ التِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا مَعَ المُتَعَاقِدْ.
وَهَذِهِ الأَقْسَاط مَعَ المُدَّةِ المَعْلُومَةْ تَكُونث مَكْتُوبَةً فِي وَثِيقَةً يَمِضِي عَلَيْهَا مُمَثِّلُ الشِّرْكَةِ وَالمُتَعَاقِدْ، وَبِيَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا نُسْخَةً مِنْهَا، تَكُونُ سَنَدًا لَهُ عَلَى الآخَرِ عِنْدَ اللّزُوم، وَتَلْتَزِمُ الشَّرِكَةُ فِي هَذِهِ الوَثِيقَة: إِنَّ المُتَعَاقِدْ مَعَهَا لَوْ مَاتَ فِي اليوم الذِي حَصَلَ فِيهِ الْعَقْدِ تَدْفَعُ لِوَرِثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ لِمَنْ يُعَيِّنَهُ فِي الوَثِيقَةِ - وَإِنَ كَانَ لا يَقْرَبُ لَهُ، وَلا لَهُ بِهِ صِلةْ، وَلَوْ أَنَّهُ خَادِمٌ عِنْدَهُ، أَوْ عِنْدَ غِيْرِهِ - تَدْفَعُ مَبْلَغًا يُوَازِنُ أَوْ يَزْيدُ عَنِ المَبْلَغِ الذِي ذَكِرَ المُتَعَاقِدْ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلشَّرِكَةِ فِي المُدَّةِ الْمُتَّفِق عَلَيْهَا، لَكِنْ يَشْتَرِطُ(5/232)
هَؤُلاءِ الْوَضِيعُونْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ عَادِيَّا، لَيْسَ بِجِنَايَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا: الشِّرْكَة لا تَدْفَعُ المَبْلَغَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يُقَالُ لَهَا: إِنَّهُ مَاتَ، بَلْ لَهَا أَبْحَاثٌ وَمُنَاقَشَاتٌ تَطُولُ وَتَدُق، يَكْتَشِفُونَ بِهَا كَيْفَ مَات، رُبَّمَا يَنْشَأ عَنْ هَذِهِ الفُحُوصِ سَبُّ المَيِّتِ وَلَعْنَهُ وَأَعْمَاله وَمَا أَرَّثَ وَإِنْ قِيلَ لَهُمْ، أَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْمَوْتَ يُرَادُ بِهِ الوُصُولُ إِلَى الْمَبْلَغِ الْمَعْلُومِ، فَانْظُرْ كَيْفَ يَعْمَلُونْ. عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَعِنْدَ هَؤُلاءِ الْوَضعِيّينَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ بَعْضُ الأَقْسَاطِ ثُمَّ عَجِزِ عَنِ البَاقِي ذَهَبَ عَلَيْهِ كُلُّ الذِي دَفَعَهُ، وِفِيهِ شُرُوطٌ أُخْرَى، مِنْهَا كَوْنُ الشِّرْكَة تَشْتَرِطُ عَلَى نَفْسِهَا أَنْ تَدْفَعَ رِبْحًا خَمْسَةِ فِي الْمِائَةِ فِي حَالِةِ اسْتِمْرَارُ عَقْدِ التَّأْمِين، وَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ بِلا شَكْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَسْلِيمُ دَرَاهِمُ مُقَسَّطَةٌ فِي دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا مُؤَجَّلَةً، قًدْ يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَفُوتُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ الأَقْسَاطِ، فَحِقِيقَتُهَا شِرَاءُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مَمْنُوع، وَشِرَاءُ دَرَاهِمٍ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مَنْهَا وَهُوَ مَمْنُوع.
وَمِنْ جِهَةٍ فَهِيَ تُشْبِهُ بَيْعَ الآبِقِ الذِي لا يَصِحُّ بَيْعُه، فِي حَالَةِ جَهَالَةِ الحُصُولِ عَلِى العِوَضِ المَشْرُوطِ، وَقَدْ يَفُوتُ عَلَيْهِ مَعَ رَأْسِ مَاله، وِمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنْ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّأْمِينِ عَلَى الحَيِاةِ هِيَ مِنَ المُعَامَلاتِ الفِاسِدَةْ، وَلِمُشَابَهَتِهَا لِعَقْدِ الْمَيْسِرِ حَقِيقَةٌ وَمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .(5/233)
اللَّهُمَّ اجْمَعْ قُُلُوبِ المُؤْمِنِينَ عَلِى مَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَأَزِلْ عَنْهُمَ مَا حَدَثَ مِنَ المنُكْرَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى الأَمْوَالِ فَأَنَا أُوَضِّحُ لَكَ خَطَرَهُ وَضَرَرَهُ، وَأُمَثِّلُ لَهُ، وَأَذْكُرُ مَا تَيَسَّرِ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلِى تَحْرِيمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِنْسَانٌ إِلَى شَرِكَةِ التَّأْمِينِ مَثَلاً: عَشْرَةِ آلافِ رِيَالٍ، لِتَأْمِينِ بِضَاعَتِهِ التِي قَيمَتُهَا نِصْفُ مُلْيُونٍ، أَوْ لِتَأْمِين مَكْتَبَتِهِ أَوْ مَطْبَعَتِهِ التِي تُسَاوِي نِصْفَ مَلْيُونٍ مَثَلاً، ثُمَّ تَلِفَتْ، فَالزَّائِدَةُ عَلِى مَا دَفَعَهُ لِلشَّرِكَةِ عَلِى أَيّ وَجْهٍ تُحِلُّ لَهُ، أليس يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جِائِحَةٌ، فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذُ مِنْهُ شِيْئًا، بِمَ يَأْخُذُ أُحَدَكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . رَوَاهُ مْسْلِمْ.
وَإِذَا سَلِمَتْ الْبِضَاعَةُ الْمُؤَمَّنَةُ، أَوْ الْمَطْبَعَةْ أَوْ الْمَكْتَبَةُ أَوْ الْبَيْتُ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَحِلُّ لِلشَّرِكَةِ أَكْلَ مَا دَفَعَهُ لَهَا مُقَسِّطًا أَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لا هِبَةً وَلا مِيرَاثًا وِلا وِقْفًا، أليس بِدُونِ مُقَابِلْ، أليس اللهُ جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: وُهْوَ أَصْدَقُ قَائِلْ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} مَعَ الحَدِيثِ المُتَقَدِّمْ: «بِمَ يَأْخُذُ أُحَدَكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» أليس هَذَا العَمَلُ فِيهِ مِنَ الغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مَا لا يَخْفَى.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْي عَنِ الْغَرَرِ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُل ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلْ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبهُ أَوْ يَنْظُرُ إليه.
وَنَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المُلامَسَةِ، وَهِيَ لَمْسَ الرَّجَلِ الثَّوْبَ لا يَنْظُرُ إليه، وَنَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.(5/234)
ج
شِعْرًا: ... لَيْسَ الظَّرِيفُ بِكَامِلٍ فِي ظَرْفِهِ ... حَتَّى يَكُونَ عَنِ الحَرَامِ عَفِيفَا
فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمِ رَبِّهِ ... فَهُنَاكَ يُدْىَ فِي الأَنِامِ ظَرِيفَا
وَقَالَ: «لا تَشْتَرُوا السَّمَك فِي المَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ» وَنَهَى عَنْ بَيْعِ حَبْلِ الحَبْلَةِ.
وَنَهَى عَنْ ضَرْبَةِ الغَائِص، وَهُوَ مَا سَيُخْرِجُهُ الغَائِصُ، وَنَهَى عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضُ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّم، وَنَهَى عَنْ بَيْعُ المَضَامِينَ، وَهُوَ مَا يَنْتُجُ مِنْ أَصَلابِ فُحُولِ الإِبِلِ الأَصْلِيَّةِ مِنْ نِتَاجٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الغَرَرِ وَالجَهَالَةِ.
وَقَالَ العُلَمَاءُ: وَلا يَجُوزُ بَيْعُ الآبِقِ وَالشَّارِدِ، وَلا الطَّيْرِ فِي الهَوَاءِ لأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الحُصُولِ وَعَدَمِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّوَاحِي تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْمِينِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى دَاخِلٌ فِي القَرْضِ الذِي يَجُرُّ نَفْعًا وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ قِمَارٌ، لأنَّ المُتَقَامِرَيْنِ الأَصليَيْنِ حِينَ المُقَامَرَةِ لا يَدْرِي كُلٌّ مِنْهُمَا لِمَنْ تُكُونَ الغَلَبَةُ، حَتَّى يَكُونُ المَالُ الذِي اتَّفَقَا أَنْ يَدْفَعَهُ الْمَقْمُورُ وَهَكَذَا الحَالُ هُنَا وَمَا يُرَى مِن أَخْذِ الشَّرِكَةِ مَالَ المُتَعَاقِدِ أَوَّلاً لا عِبْرَةً بِهِ، فَقْدَ يَنْقَلِبُ الأمْرُ، وَتَكُونُ هِيَ الدَّافِعَةُ، وَكَمَا أَنَّ المُقُامِرَ يَعْتَمِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَظِّهِ، وَيَنْتَظِرُ مَا يَنْكَشِفُ مِمَّا غُيِّبَ لَهُ أَوْ لِصَاحِبِهِ، فَكَذَلِكِ الأَمْرُ هُنَا، لا مُرَجِّحَ لأَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فِي الأَخْذِ أَوْ الدَّفْعِ، وَمَا تَرِاهُ مِنَ الرُّجْحَانِ فِي جَانِبِ الشَّرِكَةِ قَدْ يَنْقَلِبُ مَرْجُوحًا.
وَكَمَا أَنَّ المُشْتَغِلينَ بِاللَّعِبِ بِالقُمَارِ لم يَعْمَلْ أَحَدُهُمَا عَمْلاً يُفِيدُ صَاحِبَهُ أَي فَائِدَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا المََبْلَغُ الذِي يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَوْ غَلَبَهُ، فَالأمْرُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَاتِ وَمَنْ يَتَعَاقَدُ مَعَهَا كَذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الدَّفْعَ فِي القِمَارِ يَكُونُ مِنْ جَاِنبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الجَانِبُ المَغْلُوبُ فَالأمرُ هُنَا كَذِلَكَ.(5/235)
وَكَمَا أَنَّ المُشْتَغِلِينَ بِلِعْبِِ القُمَارِ، لَمْ يَعْمَلْ أَحَدُهُمَا عَمَلاً يُفِيدُ مِنْهُمَا، وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ يَدْفَعُ المَالَ الْمَشْرُوطَ، فَكَذَلِكَ هُنَا، تَقُولُ الشِّرِكَة لَهُ: إِنْ احْتَرَقَ الْبَيْتُ، أَوْ المُسْتَوْدَعُ، أَوْ الْمَكْتَبَةُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَخَذْتُ مِنِي قَيمَتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَرِقُ، أَسْتَمِرُّ أَنَا آخُذُهَا مَا تَدْفَعُهُ لِي، إِنْ كَانَ مُقَسَّطًا، فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ الضَّمَانِ.
وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَامِرِينِ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي وَجَلِ مِنْ ظُهُورِ الغَلَبَةِ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ وَيُسَرُّ كُلَّ السُّرُورِ، وَإِذَا ظَهَرْتَ نَتِيجَةُ اللَّعِبِ فِي نَاحِيَتِهِ كَذَلِكَ الحَالُ هُنَا، فَالشَّرِكَةُ مَا دَامَ هَذَا الْمَغْرُورُ - الذِي هُوَ صَاحِبُهَا – يَدْفَعُ، وَفِي جَانِبِهَا الاطمِئْنَانُ عَلَى الْمَنْزِلِ فِي سُرُورٍ، إِلا أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى مَمْلُوءَةً رُعْبًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَطْرَأ الطَّارِئُ المَخُوفُ الذِي بِهِ تُصْبِحُ مُكُلَّفَةً بِدَفْعِ الضَّمَانِ، وَالمُتَعَاقِدُ دَائِمًا فِي أَلَمٍ وَهَمٍّ، مِنْ دَفْعِهِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ نَفْسَهُ بِهِ، لأَنَّهُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ فِي مَظْهَرِ الْمَغْلُوبِ، لَكِنْ لَوْ حَدَثَ بِالمَنْزِلِ حَرِيقٌ يُفْزِعُهُ لَوْ حَصَلَ وَلا ضَمَانٌ – تَرَاهُ فِي مُنْتَهَى الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، لأَنَّهُ فِي اطْمِئْنَانٍ عَلَى قِيمَةِ الْمَنْزِلِ، كَأَنَّهَا فِي جَيْبِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَإِنْ غُلِبَتْ الشَّرِكَةُ فَهِي تَغْلِبُ مَرَّاتٍ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَالشَّرِكَةُ غَالِبًا تُعَامِلُ بِالرِّبَا، لأنَّهَا تُعْطِي الأَمْوَالَ بِفَوْائِدَ، فَالمَالُ بِاخْتِلاطِهِ بِالأَمْوَالِ الرَّبَوِّيَةِ، وَبِاسْتِعْمَاله فِي الرِّبَا أَصْبَحَ خَبِيثًا مُلَوَّثًا، ثُمَّ بِرَدِ مَبْلَغٍ مِنَ الرِّبَا مِنَ الْمَبْلَغِ الأَصلي، يَزِيدُ خُبْثًا عَلَى خُبْثِهِ، فَيَكُون الدَّافِعُ لِلشَّرِكَةِ - الذِي هُوَ المُؤَمِّنُ - قَدْ أَعَانَ عَلَى فُشُوِّ الرِّبَا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} .
شِعْرًا: ... زِيَادَةُ المَالِ مِنْ رِبْحِ البُنُوكِ وِمَا ... ضَاهَى البُنُوكَ مِنَ الأَرْبَاحِ خُسْرَانِ
فَاْحَذْر مَكَاسِبِهَا إِنْ كُنْتَ ذَا وَرِعِ ... فَفِي الحَلالِ لأَهْلِ الدِّين غُنْيَانُ(5/236)
آخر: ... فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمٌ ... أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ
وَتُمْحَقُ أَمْوَال الرِّبَا وَإِنْ نِمْتْ ... وَيَرْبُو قَلِيل المَالِ فِي صِدْقِ مَوْعِدِ
آخر: ... وَقَائِلَةٍ مَا لِي أَرَِاكَ مُجَانِبًا ... أُمُورًا وَفِيهَا لِلتِّجَارَةِ مُرْبَحُ
فَقُلْتُ لَهَا كُفِي مَلامَكَ وَاسْمِعِي ... فَنَحْنُ أُنَاسٌ بِالسَّلامَةِ نَفْرَحُ
اللَّهُمَّ ثَبِّت مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُبَّ وَالاسْتِعْدَادَ لِلقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى السَّيَارَاتِ وَحَوَادِثِهَا فَهُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا، وَأَكْثَرُ جَهَالَةً مِنْ مَا مَثَّلْنَا فِيهِ (أَوَّلاً) : لأَنَّ السَّيَّارَةَ كَمَا يَأْتِي يَفُوتُ فِيهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ لا تَقَعُ فِي الحُسْبَانِ، وَصِفَةُ التَّأْمِينِ لَهَا: هُوَ أَنْ يَتَّفِق الشَّخْصُ الذي يُرِيدُ التَّأْمِينَ لَهَا مَعَ شَرِكَةِ التَّأْمِينِ، سَوَاء كَانَ كَامِلاً أَوْ ضِدَّ الغِيرِ أو الغَيَارِ، فَيْدَفَعُ قَدْرًا مَعْلُومًا مِنَ الْمَالِ عَلَى تَأْمِينِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِشُرُوطٍ وَالتِزَامَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَمَهْمَا حَصَلَ عَلَى هَذِهِ السَّيَّارَةِ المُؤَمَّنَةِ مِنْ إِصَابَاتٍ أَوْ أَصَابَتْ غَيْرَهَا، وَغَرِمَ صَاحِبُهَا أَمْوَالاً بِسَبِبِ مَا أَتْلَفَتْ مِنْ نُفُوسٍ وَأَمْوَالٍ، أَوْ تَلِفَ بِهَا فِي خِلالِ هَذِهِ المُدَّةِ المُتَعَاقَدِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ شَرِكَةِ التَّأْمِينِ مُلْزَمَةٌ بِضَمَانِهِ، بَالِغًا فِيهَا مَا بَلَغَ فَمَثَلاً لَوْ أَمَّنَ سَيَّارَتَهُ الكَبِيرَةَ بِخَمْسَةِ آلافٍ، وَتَلِفَ فِيهَا مائَةُ نَفْسٍ، وَاحْتَرَقَتْ هِيَ، وَبِهَا نُقُودٌ كَثِيرَةٌ احْتَرَقَتْ مَعَهَا، فَالشَّرِكَةُ مَلْزَمَةٌ بِضَمَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالزَّائِدُ عَلَى خَمْسَةِ آلافِ مِنَ دِيَّاتٍ وَأَمْوَالٍ مَا المُسَوَّغُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ؟ أليس بِدُونِ مُقَابِلٍ؟ وَقَدْ مَرَّتْ الآيَةُ الكَرِيمَةُ، وَالأَحَادِيثُ(5/237)
الشَّرِيفَةُ فِي الفَصْلٌ الذِي قَبْلَ هَذَا فَنَكْتَفِي بِذَلِكَ عَنِ التِّكْرَارِ وَالإِطَالَةِ وبالتالي فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ أَضْرَارِ التَّأْمِينِ إِلا أَنَّ أَكْثَرَ المُؤْمِنِينَ لِسَيَّارَاتِهِمْ أَدَّى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَهَوَّرُوا فِي السُّرْعَةِ فِي السِّيَاقَةِ لِلسَّيَّارَةِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الشَّرِكَةَ سَتَقُومُ بِدَفْعِ مَا نَتَجَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ اقْتَدَى بهم غيرهم في السُّرْعَةِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ أَضْرَارٌ عَظِيمَةٌ لا يَعْلَمُ مَدَاهَا إِلا اللهُ جَلَّ وَعَلا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلَيِّ العَظِيمِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة
أَيُّهَا الإِخْوَانُ لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ.
أَبَنِي أَبِينَا نَحْنُ أَهْلُ مَنَازِلٍ ... ???? ... أَبَدًا غُرَابُ البَيْنِ فِيهَا يَنْعِقُ ... ? ... ????
آخر: ... يُسَاقُ بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الحَتْفِ عَنْوَةً ... وَلا يَشْعُرُ الْبَاقِي بِحَالَةِ مَنِْ يَمْضِِي
كَأَنَّهُمُ الأَنْعَامُ في جَهْلِ بَعْضِهَا ... بِمَا تَمَّ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ عَلَى بَعْضِ
فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
هُوَ المَوتُ ما مِنْهُ ملاذٌ وَمَهْرَبُ ... مَتَى حُطَّ عَنْ نَعْشِهِ ذَاكَ يَرْكَبُ(5/238)
ج
نُشاهدُ ذا عَينَ اليقينَ حَقيقَةً
عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ
وَلكن عَلا الرَّانُ القُلُوبَ كَأَنَّنَا
بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا نُكَذِّبُ
نُؤَمِّلُ آمَالاً وَنَرْجُو نِتَاجَهَا
وَعَلَّ الرَّدَى مِمّا نُرَجّيهِ أَقْرَبُ
وَنَبْنِي القُصُورَ المُشْمَخِرَّاتِ في الهَوَى
وَفِي عِلْمِنَا أَنَّا نَمُوتُ وَتَخْرَبُ
وَنَسْعَى لِجَمْعِ المَالِ حِلاً وَمَأْثَمًا
وَبِالرَّغْمِ يَحْوِيهِ البَعِيدُ وَأَقْرَبُ
نُحَاسَبُ عَنْهُ دَاخِلاً ثُمَّ خَارِجًا
وَفِيمَا صَرَفْنَاهُ وَمِنْ أَيْنَ يُكْسَبُ
وَيُسْعَدُ فِيهِ وَارِثٌ مُتَعَفِّفٌ
تَقِيٌّ وَيَشْقَى فِيهِ آخِرُ يَلْعَبُ
وَأَوَّلُ مَا تَبْدُو نَدَامَةُ مُجْرِمٍ
إِذَا اشْتَدَّ فِيهِ الكَرْبُ وَالرُّوحُ تُجْذَبُ
وَيُشْفِقُ مِنْ وَضْعِ الكِتَابِ وَيَمْتَنِي
لَوْ أَنْ رُدَّ لِلدُّنْيَا وَهَيْهَاتَ مَطْلَبُ
وَيَشْهَدُ مِنَّا كُلُّ عُضْوٍ بِفِعْلِهِ
وَليْسَ عَلَى الجَبَّارِ يَخْفَى المُغَيَّبُ
إِذَا قِيلَ أَنْتُمْ قَدْ عَلِمتُمْ فَمَا الذي
عَمِلْتُمْ وَكُلٌّ فِي الكِتَابِ مُرَتَّبُ ... ?(5/239)
.. وَمَاذَا كَسَبْتُمْ فِي شَبَابٍ وَصِحَّةٍ
وَفِي عُمُرٍ أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تُحْسَبُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا نَقُولُ وَمَا الذِي
نُجُيبُ بِهِ وَالأَمْرُ إِذْ ذَاكَ أَصْعَبُ
إِلَى اللهِ نَشْكُو قَسْوَةً فِي قُلُوبِنَا
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ واعِظُ الْمَوْتِ يَنْدُبُ
وَلِلَّهِ كَمْ غَادٍ حَبِيبٍ وَرَائِحٍ
نُشَيِّعُهُ لِلقَبْرِ وَالدَّمْعُ يَسْكُبُ
أَخٌ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ تَقِيٌّ مُهَذَّبٌ
يُواصِلُ في نُصْحِ العِبَادِ وَيَدْأَبُ
نَُهِيلُ عَلَيْهِ التُّربَ حَتَّى كَأنَّهُ
عَدُوٌّ وَفِي الأَحْشَاءِ نَارٌ تَلَهَّبُ
وَمَا الحَالُ إِلا مِثْلُ مَا قَالَ مَنْ مَضَى
وَبِالجُمْلَةِ الأَمْثَالُ لِلنَّاسِ تُضْرَبُ
لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيلَيْنِ فِرْقَةٌ
وَلَو بَينَهُمْ قَدْ طَابَ عَيْشٌ وَمَشْرَبُ
وَمِنْ بَعْدِ ذَا حَشْرٌ وَنَشْرٌ وَمَوْقِفٌ
وَيَوْمٌ بِهِ يُكْسَى المَذَلَّةَ مُذْنِبُ
إِذَا فرَّ كُلٌّ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
كَذَا الأُمُّ لَمْ تَنْظُرْ إليه وَلا الأَبُ
وَكَمْ ظَالِمٍ يَدْمِي مِنَ العَضِّ كَفُّهُ
مَقَالتَهُ يا وَيلَتِي أَيْنَ أَذْهَبُ ... ?(5/240)
.. إِذا اِقْتَسَمُوا أَعْمَاله غُرَماؤُهُ
وَقِيلَ لهُ هَذَا بِمَا كُنْتَ تَكْسِبُ
وَصُكَّ لَهُ صَكٌّ إِلَى النَّارِ بَعْدَمَا
يُحَمَّلُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ وَيُعَذَّبُ
وَكَمْ قَائِلٍ وَاحَسْرَتا لَيْتَ أَنَّنَا
نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا نُنِيبُ وَنَرْهَبُ
فَحُثُّوا مَطَايَا الإِرْتِحَالِ وَشَمِّرُوا
إِلَى اللهِ وَالدَّارِ التي لَيْسَ تَخْرُبُ
فَمَا أَقْرَبَ الآتِي وَأَبْعَدَ مَنْ مَضَى
وَهَذَا غُرابُ البَيْنِ بِالدَّارِ يَنْعُبُ
وَصَلِّ إلهي ما هَمَا الوَدْقُ أَوْ شَدَا
عَلَى الأَيكِ سَجَّاعُ الحَمَامِ المُطَرِّبُ
عَلَى سَيِّدِ السَّادَاتِ وَالآلِ كُلِّهِمْ
وَأَصْحَابِهِ مَا لاحَ في الأُفُقِ كَوكَبُ ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ ومَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ واليوم الآخِر وَالقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الغِشِّ)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ وَإِنْكَارُهُ، الغِشُّ وَالخِدَاعُ فِي المُعَامَلاتِ(5/241)
فَإِنَّ الإِسْلامَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ بِكُلِّ صُورَةٍ، فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَفِي سَائِرِ أَنْوَاعِ المُعَامَلاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالمُسْلِمُ مُطَالَبُ بِالتْزَامِ الصَّدْقِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَغْلا مِنْ كُلِّ كَسْبٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِِّينُ النَّصِيحَةُ» .
وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «الْبَيْعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وَمَرَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ ظَاهِرُهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، فَرَأَى بَلَلاً فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبُ الطَّعَامِ» ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ (أي المطر) فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» .
وَفِي رِوَايِةٍ: أَنَّهُ مَرَّ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ، فَإِذَا طَعَامُ رَدِيءٌ، فَقَالَ: «بِعْ هَذَا عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ مَنْ غَشَّنَا فَلَيَْسَ مِنَّا» .
فَانْظُرْ بِمَاذَا حَكَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي الطَّعَامِ، وَالطَّعَامُ مَادَةً يَنْقَضِي أَثَرُهَا بِسُرْعَةٍ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَالإِيمَانُ الصَّحِيحُ الكَامِلُ يَقْتَضِي الصِّدْقَ وَالإِخْلاصَ، وَالتَّقْوَى وَالنُّصْحَ، وَأَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
فَإِذَا سَأَلَكَ إِنْسَانٌ مُؤْمِنٌ عَنْ حَالِ رَجُلٍ وَأَخْلاقِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَدِينِهِ، فَأَجَبْتَهُ بِغَيْرِ مَا تَعْرِفُ وَتَعْلَمُ، كَأَنْ كَانَ فَاسِقًا فَقُلْتُ: إِنَّهُ صَالِحٌ، أَوْ كَانَ صَالِحًا فَقُلْتَ: إِنَّهُ مِنَ المُفْسِدِينَ، فَقَدْ غَشَشْتَهُ. وَفِي الحَدِيثِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَإِذَا سَأَلَكَ أَخُوكَ المُؤْمِنُ عَنِ امْرَأَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، تَعْرِفُهَا(5/242)
وَتَعْلَمُ صِفَاتِهَا، وَأَخْلاقِهَا وَأَهْلِهَا، فَلَمْ تَصْدِقُهُ الحَقِيقَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ لَهُ الحَقَّ الذِي تَعْرِفُهُ، فَقُلْتَ لَهُ: إِنَّ شَكْلَهَا جَمِيلٌ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ ذَمِيمَةٌ، أَوْ قُلْتَ لَهُ: ذَمِيمَةٌ، وَهِيَ جَمِيلَةٌ، أَوْ أَجْبَتَهُ أَنَّ أَخْلاقَهَا وَسِيَرَتَهَا غَيْرُ حَمِيدَةٍ وَالأمْرُ بِخَلافِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَذَبْتَ وَغَشَشْتَ وَكُنْتَ مِنَ الخَائِنِينَ وَإِذَا سَأَلَكَ أَخُوكَ عَنْ تَاِجرٍ وَمُعَامَلَتِهِ لِلنَّاسِ فَقُلْتَ غَيْرَ الحَقِّ، وَعميَّت عَلَيْهِ أَمْرَهُ فَمَدَحْتَهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ بِذَلِكَ جَمْعَتَ بَيْنَ الغِشِّ وَالكَذِبِ.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الغِشِّ لِلنَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالمُجْتَمَعِ الإِسْلامِي الإِتْيَانُ بِكُفَارِ خَدَّامِين أَوْ سَوَّاقِينَ أَوْ طَبَّاخِينَ أَوْ خَيَّاطِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ وَرَسُلِهِ وَالْمُؤْمِنين وَلا يَألُون جُهْدًا عَنِ السعي فِي ضَرَرِ الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَجِبْ الْبُعْدِ عَنْهُمْ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
شِِعْرًا: ... حَتَّى مَتَى لا تَرَى عَدْلاً تُسِرُّ بِهِ ... وَلا تَرَى لِدُعَاةِ الْحَقِّ أَعْوَانَا
مُسْتَمْسِكِينَ بِحَقٍّ قَائِلِينَ بِهِ ... إِذَا تَلَّونَ أَهْلُ الشَّرِ أَلْوَانَا
يَا لِلرِّجَال لدَاءٍ لا دَوَاءَ لَهُ ... وَقَائِدُ الْقَوْمِ أَعْمَى قَادَ عُمْيَانَا
آخر: ... بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرَج اللّوى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلا ضُحَى الْغَدِ
آخر: ... لَقَدْ أَبَاحَكَ غِشًّا فِي مُعَامَلَةٍ
مَنْ كُنْتَ مِنْهُ بِغَيْرِ الصِّدْقِ تَنْتَفِعُ ... ?
وَمَحَلِّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِذَا كَانَ السَّائِلُ لَهُ مَصْلَحَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُمْ، فَيَلْزِمُكَ دِيَانَةً وَإِنْسَانِيَّةً أَنْ تَصْدِقَهُ الْخَبَرَ، وَأَنْ تَبْذِلَ لَهُ النَّصِيحَةِ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تَعَالى، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّائِلُ مِنَ الذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَتْبَعُونَ عَوْرَاتِهِمْ وَهَفْوَاتِهِمْ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ، وَالْقَدْحِ في أَعْرَاضِهِمْ وَتَنَقُّصِهِمْ فَلْيَكُنْ جَوَابَكَ لَهُ عَلَى كُلِّ سُؤَالٍ، قَوْلَ النَّبِيِّ(5/243)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» . وَقُلْ لَهُ: الأَوْلَى بِكَ أَنْ تُفَتِّشَ عَلَى نَفْسِكَ وَعُيُوبِهَا، وَتَسْعَى فِي إِصْلاحِهَا وَاحْذَرْ أَنْ تَتَّصِفَ بِمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
... شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيْبِ النَّاسِ مُشْتَغِلاً
مِثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعَ الْعِلَل ... ?
وَاعْمَلْ بِمَا قَالَ الآخر:
... عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعَائِبِهَا
وَخَلِّ مِنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ لِلنَّاسِ ... ?
وَإِذَا كَانَ الْغِشُّ - وَهُوَ تَقْدِيمُ الْبَاطِلِ فِي ثَوْبٍ مِنَ الْحَقِّ - يَكُونُ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، وَالْفَتْوَى وَالإِرْشَادِ، وَالتَّوْجِيهِ وَالْوَظِيفَةِ، فَإِنَّ غِشَّ الطَّعَامِ فِي الإِفْسَادِ أَقَلُّ بِدَرَجَاتٍ مِنْ الغِشِّ فِي هَذِهِ النَّوَاحِي، الْمُمْتَدُ أَثَرُهَا الشَّامِلُ ضَرَرُهَا، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ السَّلَفُ يَفْهَمُونَ مَدَى ضَرَرِ الغِشِّ، وَيُطَبِّقُونَ أَحَادِيثَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يُبَيِّنُونَ مَا فِي الْمَبِيعِ مِنْ عَيْبٍ وَلا يَكْتُمُونَ، وَيَصْدُقُونَ وَلا يَكْذِبُونَ، وَيَنْصَحُونَ وَلا يَغُشُّونَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَحِلُّ لامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ بِهَا دَاءً إِلا أَخْبَرَ بِهِ» .
وَبَاعَ ابنُ سِيرِينَ شَاةً، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَبْرَأُ إليك مِنْ عَيْبٍ فِيهَا، إِنَّهَا تَقَلِبُ العَلَفَ بِرِجْلِهَا، وَبَاعَ الْحَسَنُ بن صَالِحٍ جَارِيَةً فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: إِنَّهَا مَرَّةً عِنْدَنَا تَنَخَّمَتْ دَمًا، وَمَعَ هَذَا يَأْبَى ضَمِيرُ الْمُؤْمِنِ إِلا أَنْ يَذْكُرَ الْعَيْبَ وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ، وَتَتَأكَّدَ الْحُرْمَةُ إِذَا قَوَّى غِشَّهُ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلِفُ مَنْفَعَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» .
شِعْرًا: ... كُلْ وَاشْرَب الناسَ عَلَى خِبْرَةٍ ... فَهُمْ يَمُرُّونَ وَلا يَعْذُبُونْ
وَلا تُصَدِّقُهم إِذَا حَدَّثُوا ... فَإِنَّنِي أَعْهَدُهُمْ يَكْذِبُونْ
وَإِنْ أََرَوْكَ الوِدَّ عَنْ حَاجَةٍ ... فَفِي حِبَالٍ لَهُمْ يَجْذبُونْ(5/244)
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَأَكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ: عِبَادَ اللهِ قَدْ أَصْبَحِ الغِشُّ عِنْدَ كَثِيرٍ منَ الباَعَةِ رُكْنًا وَيَنْذُرُ وُجُودُ بَائِعٍ غَيْرِ غَاشٍ، فَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الذِي سَادَ فِيهِ الْغِشُّ وَعَمَّ وَطَمَّ، وَقَلَّ فِيهِ الرَّدْعُ، وَالضَّرْبُ عَلَى أَيْدِي الْغَشَّاشِينَ، أَنْ يَتَحَفَّظَ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ مِن تَحَفُّظٍ، وَيَنْتَبِهِ كُلَّ الانْتِبَاهِ لِكَلامِهِمْ، وَحَرَكَاتِهِمْ، وَسَكَنَاتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُرِقَ وَهُوَ لا يَشْعُرُ.
وَلِهَذَا تَجِدْ رِجَالاً يُقْبِلُونَ عَلَى الْبَاعَةِ، وَهُمْ قَلِيلُوا الْخِبْرَةَ، سَرِيعُوا التَّصْدِيقِ لِمَا يُقَالُ لَهُمْ، فَيَلْعَبُ بِهِمْ هَؤُلاءِ الْغَشَّاشُونَ وَيَسْتَغِلُّونَ سَذَاجَتَهُمْ فِي كَسْبٍ مُضَاعَفٍ، أَوْ تَغْطِيَةِ عَيْبٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَبُرَتْ خِيَانَةٌ أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ، وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ» .
وَلَعَلَّكَ فَهِمْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي السُّوقِ بَلْ يَقَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي السُّوقِ، لأَنَّهُ مَحَلُّ الأَخْذِ وَالإِعْطَاءِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْعُقُودِ غَالبًا، الْمُهِمُّ أَنَّكَ تَتَحَفَّظْ مِنْ هَؤُلاءِ الْغَشَّاشِينَ السُّرَاقِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا سُرَّاقًا لأَنَّ السِّرْقَةَ الأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْغَشَّاشِ.
تَذْهَب إِلى الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، أَوْ مَا يَجْعَلُ فِي أَحَدِهِمَا، فَتَجِدُ أَعْلاهُ نَظِيفًا مُنَقَّىً، تَشْتَاقُ إِلى شِرَائِهِ، وَعِنْدَمَا تَأْخُذُهُ وَتُسَلِّمُ الْفُلُوسِ، وَتَنْظُرُ إليه بِدَقَّةٍ تَجِدْهُ مُخْتَلِفًا عَمَّا نَظَرْتَ إليه أَوَّلاً، بِرَدَاءَةٍ، وَإِنْ ذَهَبْتَ إِلى بَاعَةِ الْمَلابِسِ قَدَّمَ لَكَ الْبَائِعُ ثَوْبًا رَدِيئًا بِاسْمِ أَجْوَدِ الْمَلابِسَ، وَيُعْلِمُكَ بِثَمَنٍ زَائِدٍ جِدًّا عَنْ ثَمَنِهِ الْحَقِيقِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ(5/245)
مُنْتَبِهًا وَصَدَّقْتَ الْبَائِعِ كُنْتَ مَسْرُوقًا بِذَلِكَ الْفَرْقِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ نَاقَشْتَهُ الْقَوْلَ عَاجَلَكَ بَأَغْلَظِ الأَيْمَانِ بَأَنَّهُ يَنْتَقِي لَكَ الْجَيِّدِ لِيَخْدِمَكَ وَلِتَتَعَرَّفْ بِمَحَلِّهِ لِتَكُونَ زَبُونًا لَهُ، حَتَّى رُبَّمَا لا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ صَادِقٌ مِنْ كَثْرَةِ الأَيْمَانِ التِي لَفَظَهَا فُوهُ، وَسَوَّدَ بِهَا صَحِيفَتَهُ، وَإِذَا أَتَيْتَ إِلى تَاجِرِ الدَّقِيقِ حَلَفَ لَكَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ البُرِّ، وَهُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَبُرٍّ مُنْخِشِ، قَدْ أَكَلَ الدُّودُ لُبَّهُ، أَلا يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا شَاهِدٌ رَقِيبٌ، وَأَنَّهُ أَعَدَّ لأَمْثَاله مِنْ الْغَشَّاشِينَ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إليه، وَتَاجِرُ الْمَاشِيَةِ تَجِدُ حَوْلَهُ لَفِيفًا مِن النَّجَاشِينَ الذِينَ يَكْتَنِفُونَ الْمُشْتَرِي مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَهَذَا يَزِيدُ كَاذِبًا، وَذَاكَ يَحْلِفُ آثِمًا، إِلى أَنْ يَقَعَ فِي الشِّرْكِ الْمِسْكِينُ، إِذَا كَانَ شَارِيًا، أَمَّا إِذَا كَانَ بَائِعًا زَهُّدُوْهُ فِيمَا يُرِيدُ بَيْعَهُ، وَأَحَاطُوَا بِهِ وَكُلٌّ يُرذِّلُ سِلْعَتَهُ مِنْ جِهَةٍ، إِلى أَنْ تَسْقُطَ مِنْ عَيْنِ صَاحِبِهَا فَيبِيعُهَا لَهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ.
وَإِذَا أَتَيْتَ إِلى بَائِعٍ الْخُضَرِ وَجَدْتَ الأَعَلا زَيْنًا وَالوَسَطَ فَاسِدًا مُمَرِّضًا لِلْبَدَنِ، وَتَدْخُلُ إِلى مَنْ عِنْدَهُ السَّمْنُ وَالزُّبْدُ وَالْعَسَلُ فَيَبِيعَكَ بِاسْمِ الْجَيِّدِ، وَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَهْلَ الصِّنْفِ قَالُوا لَكَ: هَذَا غَيْرُ الذِي تُرِيدُ، أَوْ مَخْلُوطًا مَعَهُ غَيْرُهُ. ومثله القهوة المحموسة يخلِطُونَ مَعَهَا غَيْرَهَا.
وَإِذَا ذَهَبْتَ إِلى مَبِيعِ السَّيَّارَاتِ رَأَيْتَ مَا يُزْعِجُكَ وَيُشَتِّتُ ذِهْنَكَ مِنْ كُثْرَةِ النَّجَاشِينَ وَالغَشَّاشِينَ الْمُعَمِّينَ لِلْعُيُوبِ الذِينَ قَدْ مَهَرُوا فِي الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالْمَلْقِ وَالنِّفَاقِ.
وَإِذَا أَتَيْتَ أَهْلَ الأَوَانِي وَالْغَضَارِ وَالصَّنَادِيقِ وَجَدْتَ الأَصْبَاغَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِتَغْطِيَةِ الْعَيْبِ عن الْمُشْتَرِي.
وَإِذَا ذَهَبْتَ إِلى أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ الْغِشِّ(5/246)
وَإخْلافِ الْوَعْدِ الشِّيْءَ الْكَثِيرَ، وَلا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ نَجَّارِ وَحَدَّادِ، وَخَيَّاطٍ وَصَبَّاغٍ، وَصَائِغٍ وَطَبَّاخٍ، وَسَبَّاكٍ وَبَنَّاءٍ، وَنَقَّاشٍ وَخَزَّارُ، وَسَاعَاتِي وَحَبَّاكٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، كُلُّهُمْ فِي حِرْصٍ تَامٍ عَلَى أَخْذِ الْفُلُوسِ، وَلَوْ بِلا عَمَل يُقَابِلُهُ. فَانْتَبِه لَهُمْ.
وَإِنْ ذَهَبْتَ إِلى بَائِعِي مَوَادِّ الْبِنَاءِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ أَلْوَانِ الْغِشِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ.
وَبِهَذَا صَارَ جَوُّ التِّجَارَةِ، الْمِهْنَةِ الشَّرِيفَةِ، التِي لَوْ صَدَقَ صَاحِبُهَا لَحَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ جَوًّا وَبِيئًا، مُشْبَعًا بِالْكَذِبِ واَلأَيْمَانِ الآثِمَةِ، مَلِيئًا بِالتَّغْرِيرِ، وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ، وَإِخْفَاءِ الْعُيُوبِ، وَمَا إِلى ذَلِكَ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ بَاقِي أَهْلِ الأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْمُقَاوِلِينَ وَغَيْرَهُمْ وَمِنْ أَلْوَانِ الْغِشِّ تَطْفِيفُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ اهْتَمَّ الْقُرْآنُ بِهَذَا الْجَانِبِ مِنْ الْمُعَامَلَةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ وَصَايَاهُ الْعَشْرِ فِي آخِرِ سُورَةِ الأَنْعَامِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، وَقَالَ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ يَدْعُو قَوْمَهُ أَوَّلاً إِلى تَوْحِيدِ اللهِ، وَيُتْبِعُهُ بِالنَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانِ مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا، قَالَ تَعَالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .(5/247)
ج
شِعْرًا: ... يَا مُنْفِقَ الْعُمْرِ فِي حِرْصٍ وَفِي طَمَعٍ
إِلى مَتَى قَدْ تَوَلَّى وَانْقَضَى الْعُمُرُ
إِلى مَتَى ذَا التَّمَادِي فِي الضَّلالِ أَمَّا
تَثْنِيكَ مَوْعِظَةً لَوْ يَنْفَعُ الذِّكْرُ
بَادِرْ مَتَابًا عَسَى مَا كَان مِنْ زَلَلٍ
وَمَا اقْتَرَفْتَ مِنَ الآثَامِ يُغْتَفَرُ
وَجَنِّبْ الْحِرْصَ وَاتْرُكْهُ فَمَا أَحَدٌ
يَنَالُ بِالْحِرْصِ مَا لَمْ يَعْطِهِ الْقَدَرُ
وَلا تُؤْمِلْ لِمَا تَرْجُو وَتَحْذَرُهُ
مَنْ لَيْسَ فِي كَفِّهِ نَفْعٌ وَلا ضَرَرُ
وَفَوِّضِ الأَمْرَ لِلرَّحْمَنِ مُعْتَمِدًا
عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
وَاحْذَرْ هُجُومَ الْمَنَايَا وَاسْتَعِدَّ لَهَا
مَا دَامَ يُمْكِنُكَ الإِعْدَادُ وَالْحَذَرُ ... ?
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَرِزْقًا وَاسِعًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَإِيمَانًا خَالِصًا، وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ، وَخُشُوعِ الْمُخْبِتِينَ، وَأَعْمَالِ الصَّالِحِينَ، وَيَقِينِ الصَّادِقِينَ، وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ، وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ، يَا أَفْضَلْ مَنْ رُجِيَ وَقُصِدَ، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(5/248)
(فَصْلٌ)
وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِقَاصَ الْحُقُوقِ عَلَى أَيُّ طَرِيقِ كَانَ أَسَاسٌ كَبِيرٌ لِزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمِعِ، وَسَبِيلٌ إِلى قَطْعِ الصَّلاتَ وَإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ، وَتَضِيعُ الْمَصَالِحُ، فَالْقِصَّةُ يُفْهَمُ مِنْهَا - كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - أَنَّ الْهَدَفَ هُو اقْتِلاعُ الْخَلْقِ الذِي يَدْفَعُ الإِنْسَانِ إِلى انْتِقَاصِ الْحُقُوقِ، وَالْكَيْدِ لأَصْحَابِهَا عَن طَرِيقِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ، وَعَنْ طَرِيقِ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ الْعَامَةِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ اِلْخَاصَةِ، وَهَذَا هُوَ الذِي يَعْقِبُ حَقًّا الإِفْسَادَ فِي الأَرْضِ، وَزَلْزَلَةَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ عَلَى أَصْحَابِهَا.
قَالَ: وَمِنْ هُنَا يَجْدُرُ بِالْمُوَظِّفِ وَالْكُتَّابِ وَالْمُوَجِّهِ وَالْمُشِير وَالْمُعَلِّمِ أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَخْصِيصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فِي رِسَالَةِ شُعَيْبٍ، وَقَرْنِهَما بِعِبَادَةِ اللهِ، وَاعْتِبَارِ انْتِقَاصِهِمَا إِفْسَادًا فِي الأَرْضِ - يُجْدُرُ بِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ عِظَةً، وَأَجْدَى عِبْرَةً، وَإِنَّ انْتِقَاصَ الْكَيْل وَالْمِيزَانِ - فِيمَا وَرَاءَ السِّلَعِ الْمَادِيَّةِ - لأَشَدُّ خَطَرًا، وَأَقْبَحُ أَثَرًا، وَأَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ انْتِقَاصِ حَفْنَةٍ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ أَوْقِيَةٍ مِنْ رَطْلٍ.
إِنَّ مِنْ حَقِّ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِحَقِّهِ كَامِلاً غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِن عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنْ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَيُعَاوِنَه فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ إِذَا اسْتَرْشَدَهُ، وَأَنْ يَمْحَضَهُ النَّصْحَ إِذَا اسْتَنْصَحَهُ، وَأَنْ يَفِي لَهُ إِذَا عَاهَدَهُ، وَأَنْ يُصَدَقُهُ إِذَا حَدَّثَهُ أَوْ وَعَدَهُ، إِنَّها مُبَادَلَةُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي السِّلَعِ وَلا فِي الطَّعَامِ، وَلا فِي الشَّرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْخَلْقِ وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقُ وَالإِيمَان، وَالانْحِرَافٌ(5/249)
فِيهَا عَنْ مُقَابَلَةِ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ، تَطْفِيفٌ فِي الْكَيْلِ، وَانْتِقَاصٌ لِلْحُقُوقِ.
وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ عَلامَةً مِنْ عَلامَاتِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَأَنْزَلَ فِي شَأْنِهِ سُورَة كاملة، هي سورة اسْتَهْلَها بِقَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . انتهى.
وَلَقْدَ صَارَ الْغِشُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى اللَّبَنَ فِي ضَرْعِ الْحَيَوَانِ وَحَتَّى فِي الشُّعُورِ، جَعَلُوا يَصْبُغُونَها بِالسَّوَادِ غِشًّا وَتَدْلِيسًا.
شِعْرًا: ... قَالَتْ أَرَاكَ خَصَبْتَ الشَّيْبَ قُلْتَ لَهَا ... سَتَرَْتُه عَنْكِ يَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي
فَقَهْقَهْتْ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ ذَا عَجَبٌ ... تَكَاثَرَ الْغِشُّ حَتَّى صَارَ فِي الشَّعْرِ
آخر: ... إِنَّ السَّوَادَ لِتَدْلِيسِ يُغَشُّ بِهِ ... كَالثَّوْبِ فِي الَّسْوِق مَطْوِيًا عَلَى خَرَقِ
آخر: ... أُسَوّدُ أَعْلاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... فَيَا لَيْتَ مَا يَسْوَدُّ مِنْهَا هُوَ الأَصْلُ
آخر: ... يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُسَوَّدُ شَعْرَهِ ... كَيْمَا يُعَدُّ بِهِ مِنْ الشُّبَّانِ
أُرْفُقْ فَلَوْ سَوَّدْتَ كُلَّ حَمَامَةٍ ... بَيْضَاءَ مَا عُدَّتْ مِنْ الْغِرْبَانِ
آخر: ... فَإِنْ تَسْأَلَنِي عَنْ خِضَابِي فَإِنَّنِي ... لَبِسْتُ عَلَى فَقْدِ الشَّبَابِ حِدَادَا
آخر: ... دَعْنِي فَإِنَّ غَرِيمَ الشَّيْبِ لازَمَنِي ... وَذَا زَمَانُكَ فَأمرحْ فِيهِ لازَمَنِي
مَضَى الشَّبَابُ بِمَا أَحْبَبْتُ مِنْ مَنَحٍ ... وَالشَّيْبُ وَافَى بِمَا أَبْغَضْتُ مِنْ مَحَنِ
فَمَا كَرِهْتَ ثوى عِنْدِي وَعَنَّفَنِي ... وَمَا حَرِصْتُ عَلَيْهِ مُنْذُ عَنَّ فَنِي
آخر: ... يَا خَاضب الشَّيْبِ بالْحِنَّاء تَسْترُهُ ... سَلِ الإِلَه سِتْرًا مِنَ النَّارِ
لَنْ يَرْحَلِ الشَّيْبَ مِنَ دَارٍ يُلِمُّ بِهَا ... حَتَّى يَرُحّلَ عَنْهَا صَاحِبَ الدَّارِ(5/250)
آخر: ... قَصَرَ اللَّيَالي خَطْوَهُ فَتدانَى ... وَحَنَوْنَ قَائِمَ صُلْبِهِ فَتَحَانَا
وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْد ذَلِكَ كُلِّهِ ... وَكَأَنَّمَا يَعْنِي بِذَاكَ سِوَانَا
آخر: ... لأَمْرٍ مَا بَكيتُ وَهَاجَ شَوْقِي ... وَقَدْ سَجَعَتْ عَلَى الأَيْكِ الْحَمَامُ
لأَنَّ بَيَاضَهَا كَبَيَاضِ شَيْبِي ... فَمَعْنَى شَجْوِهَا قُرْبُ الْحِمَامِ
آخر: ... لِلضَّيْفِ أَنْ يُقْرَأ وَيُعْرَفَ حَقُّهُ ... وَالشَّيْبُ ضَيْفُكَ فَاقْرِهِ بِخِضَابِ
وَافَى بأَكْذَبَ شَاهِدٍ وَلَرُبَّمَا ... وَافَى الْمَشِيبُ بِشَاهِدٍ كَذَّابِ
فَافْسَخْ شِهَادَتَهُ عَلَيْكَ بِخَضْبِهِ ... تَنْفِي الظُّنُونَ بِهِ عَنِ الْمُرْتَابِ
فَإِذَا دَنَا وَقْتُ الْمَشِيبِ فَخَلِّهِ ... واَلشَّيْبُ يَذْهَبُ فِيهِ كُلَّ ذَهَابِ
آخر: ... لِمَّا سَئَمْتُ مِن الْمَشِيبِ أَجَبْتُهُم ... قَوْلَ امْرءٍ فِي أَمْرِهِ لَمْ يَمْذِقِ
طَحَنَ الزَّمَانُ بِرَيْبِهِ وَصُرُوفِهِ ... عُمْرِي فَثَارَ غُبَارَهُ فِي مَفْرِقَيْ
آخر: ... لَمَّا رَأَتْ شَيْبِي تَغَيَّرَ لَوْنُهُ ... وَرَأتُهُ مُحْتَجِبًا وَرَاءَ حِجَابِ
قَالَتْ خَضِبْتَ فَقُلْتُ شَيْبِي إِنَّمَا ... لَبِسَ الْحِدَادَ عَلَى ذَاهَابِ شَبَابِي
وبالتالي فَإِنَّ الْغِشَّ مَعْصِيَةٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَأَنَّهُ لا يَفِيدُ صَاحِبَهُ إِلا الْوَزْرَ، وَالْخِزْيَ الْعَاجِلَ وَالآجِلَ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَالْعَارْ (ثَالِثًا) : أَنَّ الْغِشَّ يُضَيِّعُ الثِّقَةَ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَجْلِبُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، وَأَنَّهُ حَجَرٌ فِي طَرِيق تَقَدُّمِ صَاحِبِ الْعَمَلِ، وَأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفوُهُ بِذَلِكَ انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَأُغَِْقَ فِي وَجْهِهِ أَبْوَابُ الرِّبْحِ.
وَمِنْ جِنَايَاتِ الْغِشِّ عَلَى صَاحِبِه أَنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ مِن عَمَلِ يَدَيْهِ، وَرُبَّمَا دَارَتْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الدَّوَاِئرْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ صَاحِبِه خَبِيثَةٌ طَاغِيَةٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبُه يُعْتبَرُ مِمَّنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.(5/251)
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبِه مَا عِنْدَهُ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ لإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ مَا يُحِبُّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّه سَبَبٌ لِقَطْعِ الصِّلاتِ، وَزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبضُْغضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِنَشْرِ الْفَسَادِ وَتَضْيِيع الْمَصَالِحِ.
وَأَنَّهُ مَانِعٌ لِلإِنْسَانِ مِنْ تَمَتُّعِهِ بِحَقِّهِ كَامِلاً، وَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ، مِنْ أَنَّهُ يُمَكِّنُ أَخَاهُ مِنْ حَقِّهِ وَيُعَاوِنُهُ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ.
وَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلنَّصِيحَةِ.
وَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ عِدَادِ الْكَذَّابِينَ الْخَوَنَةِ وَالظَّلَمَةِ وَأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الإِخْلاصِ.
وَأَنَّ صَاحِبَهُ يَكُونُ مَرْمُوقًا بَعَيْنِ الاحْتِقَارِ وَالازْدِرَاءِ عَكْسَ الْمُخْلِصِ فِي عَمَلِهِ.
وَأَنَّ الْغِشَّ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لا يُزَكِّي وَأَنَّهُ لا يَتَنَسَّخِ مِن الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لأَن مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَهم يَبْعِد جِدًا أَنْ يُعْطِيهُمْ.
وَأَنَّ الْغِشَّ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ وَالْهَلَعِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ بِدَلِيلٍ عَدَمِ اكْتِفَائِهِ بِمَا أَعْطَاهُ اللهِ.
وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَعَدَمِ احْتِرَامِهِ لأَحَادِيثِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاكَسَتِهِ لَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا.
وَمِنْ جِنَايَاتِ الْغِشِّ أَنَّهُ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي طُولِ الْمَوْقِفِ وَالْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَثْرَةِ الْخُصَمَاءِ الذِينَ أخَذَ أمَوْاَلَهُم بغير حَقٍّ.(5/252)
وَأَنَّهُ سَبَبٌ لإِضَاعَةِ حَسَنَاتِهِ، أَوْ لِحَمْلِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ مِمَّنْ غَشَّهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ لِجَنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغِشِّ.
وَمِنْ مَضَارِّ الْغِشِّ أَنَّ صَاحِبَهُ يُسِيءُ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ إِذَا اشْتَهَرَ بِهِ، لأَنَّهُ يُلوثُهُمْ بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ، وَالْفَائِهَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: عَائِلَةُ الْغَشَّاشِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ، وَأَذِيَّةِ الْغَشَّاشِ لأَوْلادِهِ خَاصَّةَ أَشَدُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَذَيْتِهِ لِبَاقِي الأُسْرَةِ الْبَعِيدَيْنِ مِنْهُ، لأَنَّ الأَبْنَاءِ حَوْلَ أَبِيهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْهُ،َ َوْيَنْشَئُونَ عَلَى أَخْلاق أَبِيهِمْ غَالِبًا فَإِنَّهُمْ إِذَا نَشَئُوا عِنْدَهُ لا بُدَّ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ طَبَاعِهِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ غَشَّاشِينَ بَعْدَ مَا يَبْلُغُوا مَبْلَغ الرُّجُولَةِ، فَيَكُونَ أَبُوهُمْ سَبَبًا فِي وُقُوعِهِمْ فِي ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَحَرَّجُوا وَلا سَلَكُوا طَرِيقَةَ أَبِيهِمْ بِالْغِشِّ فَمَا مِنْ سَلامَة، يُعَيِّرُهُمُ النَّاسُ وَيَقُولُونُ لَهُمْ: يَا أَوْلادَ الْغَشَّاشِ، وَهَذِهِ أَذِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، تُؤَدِّي إِلى التَّشَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ وَتَبَادُلِ السِّبَابِ.
وَأَمَّا أَذِيَّةُ الْغَشَّاشِ لِجَمَاعَتِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ فَوَاضِحَةٌ، لأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً، يُسَمُّونَهُمْ قَوْمَ الْغَشَّاشِ، وَجَمَاعَةَ الْغَشَّاشِ، وَالطِّبَاعُ سَرَّاقَةٌ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ أَصْحَابُهَا وَمِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَيَسْرِي إليهمْ هَذَا الطَّبْعُ وَالْخُلُقُ الذِي هُوَ الْغِشُّ، فَإِنْ لَمُ يُصِبْ الْجَمِيعَ تَأثرَ بِهِ الْبَعْضُ كَالْجَرَبِ.
وَبِهَذَا تُنْسَبُ الْجَمَاعَةُ وَالسَّاكِنُونَ فِي بَلَدِهِ إِلى الْغِشِّ، نَظَرًا لِذَلِكَ الْغَشَّاشِ، وَيُقَالُ: بَلَدُ الْغَشَّاشِ، كَمَا يُقَالَ: بِلادُ الْفَرَاعِنَةِ، وَهَذِهِ مُصِيبَةُ عَظِيمَةٌ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيًا.
وَأَمَّا ضَرَرُ الْغَشَّاشِ وَأَذِيَّتُهُ لِلدِّينِ، فَيَالَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ فَادِحَةٍ، وَعَقَبَةٍ كَؤُودٍ ضِدَّ الْقَائِمِينَ بِالدَّعْوَةِ إِلى الإِسْلامِ، وَنَشْر مَحَاسِنِهِ، وَالْحَثِّ(5/253)
عَلَى التَّخَلُّقِ بأخْلاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأدُبِ بِآدَابِهِمْ، لأَنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلامِ إِذَا نَظَرُوا إِلى هَؤُلاءِ الْغَشَّاشِينَ، يَرْمُونَ الدِّين الإِسْلامِي بِالنَّقْصِ، وَلا يَقُولُونَ: إِنَّ النَّقْصَ فِي النَّاسِ لِعَدَمِ تَمَسُّكِهِمْ بِالدِّينِ، وَعَدَمِ تَطْبِيقِهِمْ لأَحْكَامِهِ، بَلْ يُلْصِقُونَ النَّقْصَ وَالْعَيْبَ بِالدِّينِ الإِسْلامِي، وَذَلِكَ صَدُّ عَن إتِّبَاعِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْغِشِّ مِنَ الأَضْرَارِ وَالأَذَايَا، اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ خَشْيَةَ الإِطَالَةِ، وَإِلا هُوَ يَسْتَدْعِي مُصَنَّفًا وَحْدَهُ.
وبالتالي فَمَا الدَّاعِي إِلى ذَلِكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؟ أَهُوَ الْقُوتُ الذِي تَكَفَّلَ بِهِ الْحَيِّ الذِي لا يَمُوت. وَمَا رَأَيْنَا تَقِيًّا مَاتَ جَوْعًا، أَوْ مُؤْمِنًا وَرِعًا قَضَى غَرْثَانًا طَاوِيًا، أَمْ هُوَ الْجَشَعُ وَالطَّمَعُ، وَشَرَهُ النُّفُوسِ فِي جَمْعِ الْحُطَامِ الْفَانِي؟ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ، وَتَقْوِيمِهَا حَتَّى تَرْعَوِي وَتَسْتَقِيمَ، أَمْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي قَدْ ارْتَكَبَ مِنْ الْوِزْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ.
أَيُّهَا التُّجار مَا هَكَذَا يَكُونُ الرِّبْحُ، وَمَا هَكَذَا يَكُونُ الْمَكْسَبُ وَمَا بِتَلْكَ الأَسَاليبَ تَتَكَوَّنُ الثَّرْوَةِ وَيَجْمَعُ الْمَالُ، وَلَكِنَّ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالذِّمَّةِ وَالشَّرَفِ، وَالْعِفَّةِ عن الْحَرَامِ، فَكِّرُوا فِي مَصِيرِ مَا أَتْعَبْتُمْ نُفُوسَكُمْ وَأَبْدَانَكُمْ فِي جَمْعِهِ، وَفَكَّرُوا فِي الْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَأَنَّكُمْ مُفَارِقُوهُ عَنْ قَرِيبٍ رَغَمَ أُنُوفِكُمُ لأناسِ يُضَيِّعُوُه في الملاهي والمنكرات كالتلفزيون والفيديو والسينماء والْمَذَايِيع وَالسَّفَرِ لِبِلادِ الْكُفْرِ. وَبَعْضُهُمْ يُنْفِقُونُهَا فِي دِرَاسَتِهِمْ عَلَى الْكَفَرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، وَيَأْتُونَ بِشِهَادَاتٍ مِن الْكُفَّار يأكلون بها نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِمَّا ابْتُلُوا بِهِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِن الْمُخَالَفَةِ وَالْعَِْصَيانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمنَا ومَا وَقَعَ مِنَّا ِمْن الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ(5/254)
منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شِعْرًا: ... أَبْعَدَ بَيَاضِ الشَّيْبِ أَعْمُرُ مَنْزِلاً
سِوَى الْقَبْرِ إِنِّي إِنْ عَمَرتُ لأَحْمَقُ
يُخْبِرُنِي شَيْبِي بَأَنِّيِ مَيِّتٌ
وَشِيكُّا فَيَنْعَانِي إِليَّ وَيَصْدُقُ
يُخَرَّقَ عُمْرِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
فَهَلْ مُسْتَطَاعٌ رَقْعُ مَا يَتَخَرَّقُ
كَأَنِّي بِجِسْمِي فَوْقَ نَعْشِي مُمَدًّا
فَمَنْ سَاكِتْ أَوْ مُعْوِل يَتَحَرَّقُ
إِذَا سُئِلُوا عَنِّي أَجَابُوا وَأَعْوَلُوا
وَأَدَمَعُهُم تَنْهَلُ هَذَا الْمُوَفَّقُ
وَغُيبتُ فِي صَدْعٍ مِنْ الأَرْضِ ضَيِّقٍ
وَأوُدعْتِ لَحْدًا فَوقَهُ الصَّخْرُ مُطْبَقُ
وَيَحْثُو عَلَيَّ التُّربَ أَوْثَقُ صَاحِبٍ
وَيُسْلِمُنِي لِلْقَبْرِ مِنْ هُوَ مُشْفِقُ
فَيَا رَبَّ كُنْ لِي مُؤْنِسًا يَوْمَ وَحْشَتِي
فَإِنِّي بِمَا أَنْزَلْتَهُ لَمُصَدِّقُ
وَمَا ضَرَّنِي أَنِّي إِلى اللهِ صَائِرٌ
وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِي أَبَرُّ وَأَرْفَقُ
آخر: ... نَرْضَى بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَوْلانَا
وَمَا يَكُونُ وَمَا مِنْ أَمْرِهِ كَانَا ... ?
ج(5/255)
.. وَالحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدَ الحَامِدِينَ لَهُ
حَمْدًا كَثِيرًا كَمَا يُرْضِيهِ رِضْوَانًا
أَلا فَإِنَّا لَهُ مَاضٍ تَصَرُّفُهُ
فِينَا لَعْمرِي أَلا إليه رُجْعَانَا
قَضَى وَقَدَّرَ أَنَّ الْمَوْتَ دَائِرَةٌ
كُؤوسُهُ فِي الوَرَى لِمْ تبُْقِ إِنْسَانَا
فَأَيْنَ عَادٌ وَكِسْرَى وَابنُ ذِي يَزِنٍ
وَمَنْ يُوازِرُهُمْ وَمَنْ لَهُمْ عَانَا
لَمْ يَمْنَعِ الْمَوْتَ عَنْهُمْ حَاجِبُونَ وَلَمْ
يُبْقِ البَلَى لَهُمُ صَرْحًا وَإِيوَانَا
بَلْ أَيْنَ صَفْوَةٌ خَلْقِ اللهِ قَاطِبَةً
وَأَرْجَحَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مِيزَانَا
تَجَرَّعَ الكُلُّ كَأْسَ الْمَوْتِ وَانْتَقِلُوا
عَنْ هَذِهِ الدَّارِ شِيبَانًا وَشُبَّانَا
فَتِلَكَ مَوْعِظَةٌ لأنْفُسٌ فُجِعَتْ
أَضْحَتْ وَقَدْ لَقِيَتْ هَمَّا وَأَحْزَانَا ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِاليوم الآخرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا وَأَكْفِنَا شَرَّ أَشْرَارَنَا واحْفَظنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا ونَعُوذُ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا وَنَسْأَلَكْ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
اللَّهُمَّ إِنَّ نَوَاصِينَا بِيَدِكَ وَأُمُورَنَا تَرْجِعُ إليك وَأَحْوَالُنَا لا تَخْفَى عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا، وَإليك نَرْفَعُ بَثَّنَا وَحُزْنَنَا وَشِكَايَتَنَا، يَا مَنْ يَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيتَنَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفَيْتَهُ وَاسْتَهْدَاكَ(5/256)
فَهَدَيْتَهُ وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ وَجُدْ عَلَيْنَا بِإِحْسَانِكَ الْعَمِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة: عِبَادَ اللِه فَتِّشُوا قُلُوبَكُمْ بِتَأَنِّ وَائِّتَآدٍ، وَابْحَثُوا عَمَّا تَغَلْغَلَ فِيهَا مِنَ الأَضْغَانِ وَالأَحْقَادِ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاجْتَهِدُوا وَاعْمَلُوا عَلَى سُرْعَةِ إِزَالَتِهِ وَمَحْوِهِ بِجَدٍ وَاجْتِهَادٍ وَأَعْرِضُوا بِكُلِّيَتِكُمْ عَنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ، وَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ القَوِيِّ القَدِيرِ مِنْ هَمَزَاتِهِ وَهَوَاجِسِهِ، فَإِنَهُ لا يُرِيدُ إِلا إِيقَاعَكُمْ فِي البَلا، وَتَعْرِيضَكُم لِسَخَطِ اللهِ وَمَقْتِهِ الشَّدِيدِ، مَاذَا يَضُّرُكُمْ إِنْ تَنَازَلْتُمْ عَنْ بَعْضِ حُقُوقِكُمْ، وَتَجَاوَزْتُمْ وَصَفَحْتُمْ عَمَّنْ أَسَاءَ إليكُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَقَصَدْتُمْ وَجْهَ اللهِ وَثَوَابِهِ فِي صَفْحِكُمْ وَتَنَازُلِكُمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُونَ قَدْ أَرْضَيْتَمُ اللهَ رَبِّ العَالَمِين، وَأَبْعَدْتُمْ شَبَحَ الشَّرِ عَنْكُمْ وَعَنْ إِخْوَانِكُمْ المُسْلِمِينَ وَكُنْتُمْ أَصْحَابَ الْفَضْلِ وَالمِنَّةِ، يَشْكُرُ اللهُ وَالنَّاسُ لَكُمْ هَذَا الخُلُقُ الطَّيِّبَ الحَمِيدَ، أَلا فَاحْرِصُوا عِبَادَ اللهِ عَلَى الفَضْلِ العَظِيمِ، وَأَقْبِلُوا سِرَاعًا إليه، وَاكْظِمُوا غَيْظَكُمْ، وَابْذِلُوا جُهْدَكُمْ فِي التَّغَلُبِّ عَلَيْهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَاللهُ يَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِ العَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَيُمَجِّدُ الكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَيَتَوَلاهُمْ بِالفَضْلِ وَالكَرَامَةِ، وَيُزَوِّجُهُمْ مِنْ حُورِ الجِنَانِ مَا يَشَاءُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَدْعُوهُمْ يَوَمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ إِلَى تِلْكَ الكَرَامَةِ لِيَعْلَمْ فَضْلَهُمْ، وَيَشْهَدَ مَجْدَهُمْ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ. فَإِذَا مَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَقَارِنُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَامِلُ اللهُ بِهِ المُشَاحِنَ الحُقُودَ الحَسُودَ، الذِي أَجَابَ دَاعِي الشَّيْطَانِ، وَأَعْرَضْ عَنْ نَصِيحَةِ رَبِّهِ الذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ، وَيَسَّرَ لَهُ أُمُورَهُ، وَأَصَّرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالشَّحْنَاءِ وَالصُّدُودِ، وَسَتَرَوْنَ أَنَّهُ بِعِنَادِهِ وَإِبَائِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَرَّضَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا لِنِقَمِ اللهِ(5/257)
الْمُتَعَاقِبَةِ، وَأَبْقَى لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ جَهَنَّمَ يَلْقَى فِيهَا الْعَذَابَ الأليمَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُتَهَاجِرِينَ الْمُتَشَاحِنِينَ يُعْرِضُ اللهُ عَنْهُمَا، وَإِذَا أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ رَحْمَتَهُ كَانَ الْحُرْمَانُ نَصِيبَهُمَا وَلا يَزَالانِ هَكَذَا حَتَّى يُزِيلا مَا بَيْنَهُمَا مِن الْخِصَامِ وَيَعُودَا إِلى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ مِن الصَّفَاءِ وَالْوِئَامِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَفُوٌ غَفُورٌ. تَفَهَّمُوا يَا إِخْوَانِي جَيِّدًا، وَاقْرَعُوا قُلُوبَكُمْ بِمَا سَمِعْتُمْ مِن الزَّوَاجِرِ وَالْعِظَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَقْرَبَ الْمُتَصَافِيينَ إِلى اللهِ أَسْبَقُهُمَا إِلى الصَّفْحِ وَتَنَاسِي مَا فَاتَ، وَأَعْظَمَهُمَا أَجْرًا مِنْ بَدَأَ بِالسَّعْيِ إِلى إِزَالَةِ الأَضْغَانِ وَالأَحْقَادِ، فَإِنْ اسْتَجَابَ خَصْمُهُ لِلصُّلْحِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنْ أَبَى وَامْتَنَعَ فَقَدْ احْتَمَلَ الإِثْمِ وَالْعِقَابَ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِهَذِهِ النَّصِيحَةِ، وَسَارِعُوا بِالاعْتِذَارِ إِلى رَبِّكُمْ، وَاسْتَجِيبُوا إِلى دَاعِي الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَهَلِّمُوا سِرَاعًا إِلى مُصَافَاةِ مِنْ خَاصَمْتُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَبِذَلِكَ تَصُونُونَ بُيُوتَكُمْ مِن الْخَرَابِ، وَتَحْفَظُونَ أَمْوَالَكُمْ مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ، وَتَرْجُونَ رِضَا رَبَّكُمْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاثِ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَد اشْتَرَكَا فِي الأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بالإِثْمِ وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ مِنْ الْهَجْر» . وَرَوَى الطَّبَرَانِي عَنْ جَابِر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(5/258)
«تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَمِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيَغْفِرُ لَهُ، وَمِنْ تَائِبٍ فَيُتَابُ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ أَهْلُ الضَّغَائِنِ بِضَغَائِنِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا» . وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يُنْفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيَّرَهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ» .
اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجَزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شِعْرًا: ... أَجِدُكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا
وَهَلْ هِيَ إِلا جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ
إِذَا نَالَ مِنْهَا طَالِبٌ مَا يَرُومُهُ
وَسَاعَدَهُ الْمَقْدُورُ فَالْمَرْءُ يَسْعَدُ
أَتَاهُ غَدًا مِنْ خَطْبِهَا كُلُّ فَادِحٍ
وَيَلْقَاهُ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ يُنَكِّدُ
لَعَمْرِي لَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْهَا عَجَائِبًا
وَصَاحَبَنِي فِيهَا مَسُودٌ وَسَيِّدُ
رَأَيْتُ بِهَا أَهْلَ الْمَوَاهِبِ مَرَّةً
(وَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُّرُورُ يُجَدَدُ)
فَمَا رَاعهُمْ إِلا الرَّزَايَا ثَوَابِتٌ
عَلَيْهِمْ وَقَامَتْ فِي أَذَاهُمْ تُحَشِّدُ
وَأَسْقَتْهُمْ كَأْسًا مِنَ الذُّلِ مُتْرَعًا
وَكَانَ لَهُمْ فَوْقَ السِّمَاكَيْنِ مَقْعَدُ ... ?(5/259)
.. وَدَامَتْ لِمَنْ نَاوَاهُمْ بَعْضَ بَرْهَةٍ
عَلَى نَكَدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ
وَقَدْ شَاهَدَتْ عَيْنَاكَ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ
فَمَالي وَوَصْفِي لِلَّذِي أَنْتَ تَشْهَدُ ... ?
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، أَنَّ مِمَّا يَتَأكَّدُ اجْتِنَابُهُ اليمِينُ الْغُمُوسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إليهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَيْعَةٍ، فَهَمَّ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ اليمِين، وَأَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِحَقِّهِ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اقْتَطَع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ» . فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْطِعَ بِهَا مَالَ امْرئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ تَعَالى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» . إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ(5/260)
اليمين الغَمُوسَ لَيْسَ بِالأَمْرِ الهَيِّنِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لأَنَّهَا تَغْمِسُ الحَالِفَ فِي النَّارِ، وَكَيْفَ لا يَكُونَ كَذَلِكَ وَهُوَ يَتَقَدَّمُ بِلا اكْتِرَاثِ وَلا مُبَالاةٍ، إِلَى أَحَدِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى فَيَحْلِفُ بِهَا، مُؤَكِّدًا قَوْلَهُ عِنْدَ السَّامِعِ بِهَذَا الحَلِفِ وَلا يُفَكِّرُ أَنَّ هَذَا القَسَمُ العَظِيمُ إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَيُقْلِعَ إِلَى اللهِ وَيَنْدَمَ عَلَى مَا فَعَلَ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَمَّا ضَرَرَهُ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَحْقِ البَرَكَةِ لَهُ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ، وَإِذَا انْتُزِعَتِ البَرَكَة حَلَّ مَحَلَّهَا الفَشَلُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسَّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى البَزَّارُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اليمين الفَاجِرَةُ تُذْهِبَ المَالَ – أَوْ قَالَ -: تَذْهَبُ بِالمَالِ» وَإِذَا ذَهَبَ المَالُ خَرِبَ البَيْتُ وَأَصْبَحَ صَاحِبُهُ فِي عِدَادِ الفُقَرَاءِ، وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَحَسْبُ الحَالِفِ أَنَّ يَسْمَعَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو بنِ العاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقِ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليمين الغَمُوسُ» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا عَصَى اللهُ بِهِ هُوَ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنَ البَغْي، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللهُ بِهِ أَسْرَعَ ثَوَابًا مِنَ الصِّلَةِ، واليمين الفَاجِرَةُ تَدْعُ الدِّيَارَ بَلاقِعَ» . رَوَاهُ البَيْهَقِي.
ثُمَّ إِنَّ الحَلِفَ بِاللهِ كَذِبًا اسْتِخْفَافًا بِاسمِ اللهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ، وَتَشَبُّهٌ بِحَالِ المُنَافِقِينَ، الذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَمَّا قَالُوا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(5/261)
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بِهَذَا الحَلِفِ، وَبِهَذَا الكَذِبِ الذِي يُخَيَّلُ إليهمْ أَنَّهُ سَبِيلُ لِلنَّجَاةِ عِنْدَ النَّاسِ يُهْلِكُونَ أَنْفَسَهُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ الحَقَّ وَيَكْشِفُهُ لِلنَّاسِ، فَيَهْلِكَ الكَاذِبُ فِي الدُّنْيَا بِكَذِبِهِ، وَيَهْلِكُ فِي الآخِرَةِ يَوْمَ لا يُفِيدُهُ إِنْكَارُهُ شَيْئًا، وَكَفَى بِالحَلِفِ الكَاذِبِ شُؤْمًا وَلُؤْمًا أَنَّهُ فِعْلُ المُنَافِقِينَ، وَأَنَّ فَاعِلُهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ إِنَّمَا يَفْعَلُ فِعْلاً يُشَابِهُ فِيهِ أَهْلَ النِّفَاقِ، أَخْبَثَ الكُفَّارِ، الذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رِجْسٌ وَأَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَانْطَبَقَ عَلَى كَثِِيرٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا العَصْرِ قَوْلُ الشَّاعِر:
... زَمَانُ كُلُّ حِبٍِّ فِيهِ خَبٌّ ... وَطَعْمُ الخِلِّ خَلٌّ لَوْ يُذَاقُ
لَهُمْ سُوقٌ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقُ ... فَمَنْ نَاقْ يَكُونْ لَهُ نِفَاقُ
آخر: ... أَمْسَى النِّفَاقُ دُرُوعًا يُسْتَجَنٌ بِهَا ... عَنِ الأَذَى وَيُقَوّي سَرْدَهَا الحَلِفُ
وَيَعْظُمُ الإِثْمُ إِذَا كَانَ الحَلِفُ الكَاذِبُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ اقْتِطَاعُ مَالِ عَبْدٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» وَمَنْ يُطِيقُ أَنْ يَلْقَى خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ، الذِي السَّمَاوَات وَالأَرْضُ قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالآية التي قَرَأَهَا المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْرَ الحَدِيثِ مِصْدَاقًا لِمَا أَخْبَرَ تُفِيدَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَظِيمٌ، فَإِنَّهَا تُخْبِرُ عَنِ الذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلَيلاً، بِأَنَّهُ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَمَعْرُوفٌ أَنَّ الذِي لا نَصِيبَ لَهُ فِي الآخِرَةِ الكَافِرُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَإِلا فَالذِي لا عَمَلَ لَهُ إِلا الإِيمَانِ والعملُ الصالحُ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ:(5/262)
إِنَّهُ لا خَلاقَ فِي الآخِرَةِ، وَمَعَ أَنَّهُ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ فَلا يُكَلِّمَهُ الله وَلا يَنْظُرُ إليه يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ فَلْيَتَأَمَّلِ العَاقِلُ اللَّبِيبُ مَا فِي هَذِهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِهِ.
وَلَقَدْ بَلَغَ تَهَاوُنُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ إِلَى مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الجُلُودُ، حَتَّى فِي حَدِيثِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَفِي مَجَالِسِهِمْ الخَاصَّةِ، وَفِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مُعَامَلاتِهِمْ، وَفِي أَوْعَادِهِمْ وَيِأْتِي بِالقَسَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ (وَاللهِ العَظِيمِ) يُؤَيِّدُونَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ مَوَاعِيدٍ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَّهَمُونَ فِي إِخْلافِ الوْعْدِ، كَمَا قِيل:
وَفِي اليمين عَلَى مَا أَنْتَ فَاعِلُهُ ... مَا دَلَّ أَنَّكَ فِي المِيعَادِ مُتَّهَمُ
وَاسْتَمِعْ لَهُمْ وَخُصُوصًا عِنْدَ البَيعِ وَالشِّرَاءِ، لِيَبِيعُوا مَا مَعَهُمْ بِسُرْعَةٍ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لِيَكْثُرَ رِبْحُهُمُ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْهُم، وَلَوْ حَلَفُوا أَمَامَهُ فَقَدْ أَصْبَحَ الحَلِفُ عِنْدَهُمْ عَادَةً، وَلِهَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا حَلَفُوا لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعُهْمُ يَحْلِفُونَ، وَلْيَبْشِرُوا الحَالِفِينَ عَلَى سِلَعِهِم كَذِبًا وَتَرْوِيجًا أَنَّ رِبْحَهُمْ مَهْمَا كَثُرَ مَصِيرُهُ لِلزَّوَالِ، فَإِنَّهُ لا بَرَكَةَ فِيهِ، وَكَيْفَ يُبَارِكُ فِي رِبْحٍ لَمْ يَجِئْ إِلا مِنْ غِشٍّ وَتَدْلِيسٍ وَكَذِبٍ وَمَعْصِيَةٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ» فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَ(5/263)
مِرَاتٍ فقَالَ أَبُو ذَرٍّ. خَابُوا وَخَسِرُوا يَا رَسُولَ مَنْ هُمْ؟ قَالَ «الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» . وَلا يَجُوزُ الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهُ لا بِكَعْبَةٍ وَلا بِنَبِي وَلا مَلَكٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أوْ لَيَصْمُتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ولما ورد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: وَالْكَعْبَةِ. فَقَالَ لا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهم، ولا يَجُوزُ الحَلِفُ بِالأَمَانَةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ» . وَرِجَالُهُ ثِقَات.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكركَ وشكرِك وَوَفِّقْنَا لامْتَثِالِ أَمْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
تَدَبَّرْ كِتَابَ اللهِ يَنْفَعْكَ وَعْظُهُ ... ???? ... فَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَبْلَغُ وَاعِظِ ... ???? ... وَبِالْعَيْنِ ثُمَّ القَلْبِ لاحِظْهُ وَاعْتَبِرْ ... ???? ... مَعَانِيَهُ فَهُوَ الهُدَى لِلْمُلاحِظِ ... ???? ... وَأَنْتَ إِذَا أَتْقَنْتَ حِفْظَ حُرُوفِهِ ... ???? ... فَكُنْ لِحُدُودِ اللهِ أَقْوَمَ حَافِظِ ... ???? ... وَلا يَنْفَعُ التَّجْوِيدُ لافِظَ حُكْمِهِ ... ???? ... وَإِنْ كَانَ بِالقُرْآنِ أَفْصَحَ لافِظِ ... ???? ... وَيُعْرَفُ أَهْلُوهُ بِإِحْيَاءِ لَيْلِهِمْ ... ???? ... وَصَوْمِ هُجَيْرِي لاهِجِ القَيْضِ قَائِظِ ... ? ... ????(5/264)
.. وَغَضّهِمْ الأَبْصَارَ عَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ ... ???? ... يَجُرُّ بِتَكْرِيرِ العُيُونِ اللَّوَاحِظِ ... ???? ... وَكَضْمِهُمُوا لِلْغَيْظِ عِنْدَ اسْتَعَارِهِ ... ???? ... إِذَا عَزَّ بَيْنَ النَّاسِ كَظْمُ المَغَائِظِ ... ???? ... وَأَخْلاقُهُمْ مَحْمُودَةٌ إِنْ خَبَرْتَهَا ... ???? ... فَلَيْسَتْ بِأَخْلاقٍ فِظَاظٍ غَلائِظِ ... ???? ... تَحَلَّوْ بِآدَابِ الكِتَابِ وَأَحْسَنُوا التَّ ... ???? ... فَكُّرِ فِي أَمْثَاله وَالمَوَاعِظِ ... ? ... ????
... فَفَاضَتْ عَلَى الصَّبْرِ الجَمِيلِ نُفُوسُهُمْ ... سَلامٌ عَلَى تِلْكَ النُّفُوسِ الفَوَائِضِ
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ أَنْ يَعْصِي الرَّجُلُ مَوْلاهُ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَجْبًا لأنَّ المُؤْمِنَ يَتَيَقَّنُ يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَوْلاهُ جَلَّ وَعَلا يَرَاهُ، وَيَعْلَمُ سَرَّهُ وَنَجْوَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِنْسَانَ يَسْتَحِيي أَنْ يَفْعَلْ مَا يُغْضِبُ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، وَمَعَ أَنَّهُ لا يَمْلِكُ لَهُ ضَرًا وَلا نَفْعًا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلا فِي دَارِ القَرَارِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَاله مَعَ هَذَا المَخْلُوقِ فَعَجِيبٌ جِدًا أَنْ لا يَكُونَ أَشَدَّ احْتِرَامًا وَحَيَاءً مَعَ فَاطِرِ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْجَدَ الجَمِيعَ مِنَ العَدَمِ وَهُوَ الذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ الحَيَاةَ وَهُوَ الذِي أَسْبَغَ عَلَيْكَ النِّعَمَ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَأَدَامَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَوَالاهُ، وَلَوْ شَاءَ لَسَلَبَكَ كُلَّ نِعْمَةٍ، وَأَحَّلَ بِكَ كُلَّ نِقْمَةٍ، وَجَعَلَكَ فِي هَذَا الوُجُودِ عِبْرَةً لأولي الأَبْصَارِ، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يُمِيتُكَ، وَيُعَامِلُكَ فِي قَبْرِكَ(5/265)
بِمَا يُنَاسِبُ مَالَكَ مِنْ أَعْمَالِ، وَهُوَ الذِي يَبْعَثُكَ بَعْدَ مَوْتِكَ، وَيَسُوقُكَ إِلَى ذَلِكَ المَوْقِف الذِي هَوْلَهُ يُشِيبُ الأَطْفَالُ، وَهُوَ الذِي يُحَاسِبُكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ فِي حَيِاتِكَ الأُولِى مِنَ الأَفْعَالِ، وَهُوَ الذِي يَأْمُرُ بِكَ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، نَعَمْ إِنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ أَنْ يُجَاهِرَ المُؤْمِنُ رَبَّهُ بِالمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، إِنَّ البُرْهَان الذِي لا مَغْمَزَ فِيهِ عَلَى أَنَّكِ تَسْتَحِيي مِنْ رَبِّكَ أَيُّهَا المُؤْمِنُ، أَنْ تَكُونَ بَعِيدًا كُلَّ البُعْدِ دَائِمًا عَنْ مَعَاصِي اللهِ، فَتَحْبِسْ لِسَانَكَ عَنِ القَذْفِ وَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالغَيْبَةِ، وَالخُلْفِ فِي الوَعْدِ، وَعَنِ المِرَاءِ وَالجِدَالِ وَالاسْتِهْزَاءِ، وَالسُّخْرِيَّةِ بِالنَّاسِ، وَاللَّعْنِ وَالفُحْشِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا أَوْ مَكْرُوهٍ، لأنَّ اللِّسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِتَلاوَةِ كِتَابِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَلِتُرْشِدَ بِهِ خَلْقَ اللهِ، وَتُظْهِرَ بِهِ مَا فِي ضَمِيرَكَ مِنْ حَاجَاتِِِِِِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَتُدَافِعُ بِهِ عَنْ دِينِكَ وَنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ، فَإِذَا اسْتَعْمَلْتَهُ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ كَانَ وَبَالاً عَلَيْكَ، وَتَحْبِسُ عَيْنَكَ، لأنَّهَا إِنَّمَا خُلِقَتْ لَكَ لِتَهْتَدِي فِي الظُّلُمَاتِ، وَتَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى قَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَتَنْظُرُ بِهَا بِعَيْنِ الاعْتَبارِ إِلَى عَجِائِبِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَتَعْتَبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الآيَاتِ البَاهِرَاتِ؛ فَاحْفَظْهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، مِنْ نَظَرِ إِلَى غَيْرِ مُحْرِمٍ مِنَ النِّسَاءِ، أَوْ إِلَى مُسْلِمٍ بِعَيْنِ الاحْتَقَارِ وَالازْدِرَاءِ، أَوْ إِلَى تِلْفِزْيُونٍ أَوْ إِلَى سِينَمَاءِ، أَوْ إِلِى صُورَةٍ مَليحَةٍ بِشَهْوَةٍ، أَوْ تَطّلِعَ بِهَا عَلَى عَيْبِ مُسْلِم، أَوْ إِلَى بَيْتِ جَار أَوْ غَيْرِ جَارِ مِمَّنْ لا يَرْضَى بِذَلِكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الأُذُنَ فَاحْفَظْهَا عَنْ أَنْ تُصْغِي بِهَا إِلَى اسْتِمَاعِ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ، أَوْ إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ إِلَى غِيبَةٍ أَوْ فُحْشٍ، أَوْ قَذْفَ مُسْلِمٍ أَوْ(5/266)
حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لاسْتِمَاعِكَ كَارِهُونَ، أَوْ إِلَى الخَوْضِ بِالبَاطِلِ، أَوْ ذِكْرِ مَسَاوِئ النَّاسِ، لأَنَّهَا خُلِقَتْ لَكَ لِتَسْمَعَ بِهَا كَلامَ اللهَ وَسُنَّةِ رَسُولَهِ، وَمَا يَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ وَلِتَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الاسِتَفادَةِ مِنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، المُوَصِلَّةِ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، الدَّائِمِ فِي جِوَارِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَإِذَا أَصْغَيْتَ بِهَا إَلَى شَيْءٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ أَوْ المَكْرُوهَاتِ، صَارَ مَا كَانَ عَلَيْكَ، وَانْقَلَبَ مَا كَانَ سَبَبَ فَوْزِكَ سَبَبَ هَلاكِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الخُسْرَانِ، وَلا تَظُنُّ أَنَّ الإِثْمَ يَخْتَصُّ بِهِ القَائِلُ دُونَ المُسْتَمِعِ إَلا إِنْ أَنْكَرِ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِقَلْبِهِ إِنْ خَافَ، وَإِنْ قَدِرَ عَلَى القِيَامِ وَالابْتِعَادَ عَنْهُمْ، أَوْ قَدِرَ عَلَى قَطْعِ الكَلامِ بِكَلامٍ آخرَ فَلَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ آثِمٌ، وَكَذَلِكَ يَكُفُّ البَطْنَ وَالفَرْجَ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَاليدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَحَاسَّةَ السَّمْعِ وَالبَصَرِ.
شٍعْرًا: ... أَحْبَابَنَا نُوَبُ الزَّمانِ كَثِيرَةُ ... وَأَمَرُّ مِنْهَا رِفْعَةُ السُّفَهَاءِ
هَلْ يَسْتَفِيقُ النَّاسُ مِنْ سَكَرَاتِهِمْ ... وَنَرَى النُّذُولَ بِذِلَّةٍ وَبِلاءِ
آخر: ... وَقَائِلَةٍ شِبْتُمْ فَقُلْتُ لَهَا شِبْنَا
وَفِي هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أُنْشِبْنَا
وَيَا لَيْتَنَا لَمَّا تَقَضَّى شَبَابُنَا
خَلَصْنَا وَأَخْلَصْنَا وَلَكِنَّنَا شِبْنَا
فَيَا عَجَبًا مِنَّا عَلَى اللهِ نَجْتَرِي
وَتَهْوي سَوَافِي الرِّيحِ أَرْوَاحَنَا جُبْنَا
وَكَيْفَ أَضْعَنَا بَاقِيًا لِمُعَجَّلٍ
سَيَفَنَى لَقَدْ نِلْنَا بِصَفْقَتِنَا غِبْنَا
وَكَمْ صَرَفَتْنَا بَيْنَ مَلْهَى وَمَلْعَبٍ
فَمَا إِنْ نَكَرْنَا قُبْحَ ذَاكَ وَمَا عِبْنَا ... ?(5/267)
ج
... وَنَادِي سِفَاهٍ قَدْ حَضَرْنَا وَإِنَّمَا
عَنِ الرُّشْدِ وَالتَّوْفِيقِ يَوْمِئِذٍ غِبْنَا
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا يَكُونُ جَوَابُنَا
إِذا نَحْنُ فِي وَفْدِ القُبُورِ غَدًا أُبْنَا
أَيَنْفَعُ إِنْكَارٌ وَذُو العَرْشِ عَالِمٌ
بِمُودَعَةٍ صَدْرًا وَمُلْزَمَةٍ ضِبْنَا
أَلا لَيْسَ إَلا عَفْوُهُ عَنْ ذُنُوبِنَا
فَإِن يَخِبِ التَّقْدِيرُ فِيهِ فَقَدْ خِبْنَا ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ المُفْلِحِينَ الذِينَ نَوَّرْتَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُمْ لِخْدْمَتِكِ، وَحَرَسْتَهُمْ مِنْ عَدُوِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ في القذف
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ القَذْفَ - هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا - مُحَرَّمٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وِالإِجْمَاعِ، أَمَّا الكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» وَعَدَّ مِنْهَا: «قَذْفَ المُحْصَنَاتِ» .(5/268)
الحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمَّا عَظَّمَ جَلَّ وَعَلا أَمْرَ الزِّانِي بِوُجُوبِ جَلْدِهِ، وَكَذَا رَجْمِهِ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَأَنَّهُ لا تَجُوزُ مُقَارَنَتَهُ وَلا مُخَالَطَتَهُ عَلَى وَجْهٍ لا يَسْلَمُ فِيهِ مِنَ الشَّرِ، بَيَّنَ تَعَالَى تَعْظِيمَ الإِقْدَامِ عَلَى رَمْيِ الأَعْرَاضِ المُحَصَّنَةِ العَفِيفَةِ بِالزِّنَا، وَشَدَّدَ فِي عُقُوبَتِهِ، فَأَوْجَبَ عَلَى القَاذِفِ إِذَا لَمْ يُقِمْ البَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ ثَلاثَة أَحْكَامٍ.
(أَحَدُهَا) : أَنْ يُجْلَدْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. (الثَّانِي) : أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، فَيَكُونُ سَاقِطَ الاعْتِبَارِ فِي النَّاسِ، مُلْغَى القَوْلُ، لا تُسْمَعُ لَهُ كَلِمَةُ، وَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ حُدَّ لِلْقَذْفِ حَتَّى يَتُوبَ. (الثَّالِثُ) : أَنَّهُ يَكُونُ فَاسِقًا، لَيْسَ بِعَدْلٍ عِنْدَ اللهِ وَلا عِنْدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَدُ إِلَى امْرَأَةٍ مُتَمَتِّعَةً بِالحَصَانَةِ وَالعِفَّةِ وَالنَّزَاهَةِ، بَعِيدَةً عَنِ الرِّيبَةِ، رُبَّمَا أَنَّهَا لا تَخْطُرُ لَهَا بِبَالٍ، وَلا تُحَدِّثَ بِهَا نَفْسَهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ ذَاتَ دِينٍ، غَافِلَةً عَنْهُ، مُقَضِّيَةً وَقْتَهَا فِي إِصْلاحِ شَأْنِهَا، وَتَدْبِيرِ بَيْتِهَا، وَتَرْبِيَةِ أَوْلادِهَا، وَتَطْهِيرِ نَفْسِهَا، فَيَرْمِيهَا بِالزِّنَا الذِي يَثْلِمُ بِهِ عِرْضَهَا، وَيَجْرَحُهُ، وَيُشِيعُ الفَاحِشَةَ عَلَيْهَا، وَيُشَوِّهُ بِهِ سُمْعَتِهَا وَتَسُوءُ بِهِ حَالُهَا، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ سَيِّءِ الآثَامِ مَا يُجْلِبُ الهُمُومِ واَلغُمُومِ وَالأَنْكَادِ وَالأَحْزَانِ، وَمَاذَا تَكُونُ نَظْرَةُ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى المَقْذْوفِ وَأُسْرَتِهِ، وَمَاذَا يَكُونُ غَضَبُهُمْ عَلَى القَاذِفِ وَمَنْ سَاعَدَهُ وَنَشَرَ مَعَهُ الفَاحِشَةَ. نَسْأَلُ اللهُ العَافِيَةَ.
وَقَالَ سَيَّدُ قُطْب عَلَى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: إِنَّ تَرْكَ الأَلْسِنَةِ تُلْقِي التُّهَمِ عَلَى المُحْصَنَاتِ - وَهُنَّ العَفَيفَاتِ الحَرِائِرُ ثَيِّبَاتٍ أَوْ أَبْكَارًا - بِدُونِ دَلِيل قَاطِع يَتْرُكُ المَجَالَ فَسِيحًا لِكُلِّ مَنْ شَاءِ أَنْ يَقْذِفَ بَرِيئَةً أَوْ بَرِيئًا بِتِلْكَ التُّهْمَةِ النَّكْرَاءِ، ثُمَّ يَمْضِي آمِنًا فَتُصْبِحُ الجَمَاعَةُ وَتُمْسِي وَإِذَا أَعْرَاضُهَا(5/269)
مُجَرَّحَةً، وَسُمْعَتُهَا مُلَوَّثَةٌ، وَإِذَا كُلُّ فَرْدٍ فِيهَا مُتَّهَمٌ أَوْ مُهَدَّدٌ بِالاتِهَامِ، وَإِذَا كُلُّ زَوْجٍ فِيهَا شَاكٌّ فِي زَوْجِهِ، وَكُلُّ رَجُلٍ فِيهَا شَكَّ فِي أَصْلِهِ، وَكُلُّ بِيْتٍ فِيهَا مُهَدَّدٌ بِالانْهِيَارِ. وِهِيِ حَالَةٌ مِنَ الشَّكِ وَالقَلَقِ وَالرِّيبَةِ لا تُطَاقُ، ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اطِّرَادِ سَمَاعِ التُّهَمِ يُوحِي إِلَى النُّفُوسِ المُتَحَرِّجَةِ مِنْ ارْتِكَابِ الفِعْلَةِ أَنَّ جَوَّ الجَمَاعَةِ كُلُّهُ مُلَوَّثٌ، وَأَنَّ الفِعْلةَ فِيهَا شَائِعَةٌ، فَيُقْدِمُ عَلَيْهَا مَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهَا، وَتَهُونُ فِي حِسِّهِ بَشَاعَتُهَا بِكَثْرَةِ تَرْدَادِهَا، وَشُعُورِهِ بِأَنَّ كَثِيرِينَ غَيْرُهُ يَأْتُوونَهَا، وَمَنْ ثَمَّ لا تُجْدِي عُقُوبَةُ الزِّنَا فِي مَنْعِ وُقُوعِهِ، وَالجَمَاعَةُ تُمْسِي وَتُصْبِحُ وَهِي تَتَنَفَّسُ فِي ذَلِكَ الجَوِّ المُلَوَّثِ المُوحِي بِارْتِكَابِ الفَحْشَاءِ. لِهَذِا وَصِيَانَةً لِلأَعْرَاضِ مِنَ التَّهَجُّمِ وَحِمَايَةً لأَصْحَابِهَا مِنَ الآلامِ الفَظِيعَةِ التِي تُصَبُّ عَلَيْهِمْ شَدَّدَ القُرْآنُ الكَرِيمُ فِي عُقُوبَةِ القَذْفِ، فَجَعَلَهَا قَرِيبَةً مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا.. ثَمَانِينَ جَلْدَةً.. مَعَ إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ، وَالوَصْمِ بِالفِسْقِ.. وَالعُقُوبَةُ الأُولَى: جَسَدِيَّةٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَدَبِيَّةٌ فِي وَسَطِ الجَمَاعَةِ، وَيَكْفِي أَنْ يُهْدَرَ قَوْلُ القَاذِفِ فَلا يُؤْخَذُ لَهُ بِشَهَادَةٍ، وَأَنْ يَسْقُطُ اعْتَبَارُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ مُتَّهَمًا لا يُوثَقُ لَهُ بِكَلامٍ.
وَالثَّالِثَةُ: دِينِّيةٌ فَهُوَ مُنْحَرِفٌ عَنِ الإِيمَانِ، خَارِجٌ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم.. ذَلِكَ إِلا أَنْ يَأْتِي القَاذِفُ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ بِرُؤْيَةِ الفِعْلَ، أَوْ بِثَلاثَةٍ مَعَهُ إِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ إِذًا صَحِيحًا، وَيُوقَعُ حَدَّ الزِّنَا عَلَى صَاحِبِ الفِعْلَةِ. وَالجَمَاعَةُ المُسْلِمَةِ لا تَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ عَنْ تُهْمَةٍ غَيْرِ مُحًقَّقِةٍ كَمَا تَخْسَرُ بِشُيُوعِ الإِتِّهَامِ وَالتَّرَخُّصِ فِيهِ، وَعَدَمِ التَّحَرُّجِ مِنْ الإِذَاعَةِ بِهِ، وَتَحْرِيضِ الكَثِيرِينِ مِنَ المُتَحَرِجِّينَ عَلَى ارْتِكَابِ الفِعْلَةِ(5/270)
التِي كَانُوا يَسْتَقْذِرُونَهَا، وَيَظُنُّونَهَا مَمْنُوعَةً فِي الجَمَاعَةِ أَوْ نَادِرَةٌ. ذَلِكَ فَوْقَ الآلامِ الفَظِيعَةِ التِي تُصِيبُ الحَرَائِرَ الشَّرِيفَاتِ وَالأَحْرَارِ الشُّرَفَاءِ، وَفَوْقَ الآثَارِ التِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي حَيَاةِ النَّاسِ وَطُمَأْنِينَةِ البُيُوتِ. انْتَهَى.
اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا بِرَحْمَتِكِ الوَاسِعَةِ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ: سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ لا يُؤَاخِذَ مُذْنِبًا بِذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ، أَوْ جَرِيمَةً اجْتَرَمَهَا، أَوْ جَرِيرَةً ارْتَكَبَهَا إِلا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتّقُوهُ مِنْ مَحَارِمِهِ، وَيَجْتَنِبُوهُ مِنَ المُوبِقَاتِ المُؤَدِّيَةِ بِهِمْ إِلَى هُوَّةِ الهَلاكِ وَالدَّمَارِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلا إِلَى هَذِهِ الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةَِ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيّ الأُمِيَ {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الكَرِيم، {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} فِيهِ هُدَىً وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إليه النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، فَاسْتَمْسَكَ المُسْلَمُونَ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ بِهَدْيِهِ، وِتَخَلَّقُوا بِآدَابِهِ، فَكَانُوا فِي ذَلِكَ الحِينِ أَهْلَ الحَوْلِ وَالطَّوْلِ وَالقُوَّةِ وَالمَنَعَةِ، تَعْنُوا لَهُمْ الوُجُوهُ، وَتَخْضَعُ لَهُمْ الرِّقَابُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ مُنَازِعٌ إَلا ابْتَزُّوا مُلْكَهُ، وَاسْتَبَاحُوا مَكَانَ العِزَّةِ مِنْهُ، وَأَخَذُوا بِطَرْفِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ، وَكَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، كَانُوا فِي تِلْكَ الأَزْمَانِ يَعْمَلُونَ بِطَاعَةِ اللهِ وَيَتَّقُونَهُ، وَيُحْسِنُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَإِلَى عِبَادِهِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مَعَاصِيهِ، وِعَلَى أَقْدَارِهِ، فَكَانَ اللهُ مَعهم بِعَوْنِهِ(5/271)
وَتَوْفِيقِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَسْدِيدِهِ، يِا عِبَادَ اللهِ كَانَ كُبَرَاءُ النَّاس وَسَادَتُهم في الصَّدْرِ الأَوَّلِ أَشَّدُ النَّاسِ ظُهُورًا بِالتَّمَسُّكِ بِالِّدينِ تَقْتَدِي بِهِمْ العَامَّةُ فِي تَوْحِيدِهم وَعِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلاتِهِمْ، فَانْعَكَسَتْ عَلَيْنَا الآنَ القَضِيَّةُ، وَصَارَ العَامَّةِ أَشَدُّ تَمَسُّكًا بِالدِّينِ، وَأَرْسَى عَقِيدَةً مِنْ أُولَئِكَ، وَأَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُثَقَّفُونَ، يَحْمِلُونَ المُؤَهِّلاتِ المَعْرُوفَةِ أزهَدَ النَّاسُ فِي الدِّينِ، وَأَبْعَدَهم عَنْ تَعَاليمِهِ، نَبَذَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَمَا تُنْبَذُ النَّوَاةُ، لا لأنهُم وَقَفُوا عَلَى عَيْبٍ فِي الدِّينِ، أَوْ هَفْوَةٍ فِي أُصُولِهِ، وَلَكِنَّهُمْ مُقَِّدُونَ فِي هَذَا الضَّلالِ لِقَوْمٍ عَرَفُوا {ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} وَرَأَوْا تَكَاليفَ الدِّينِ وَتَعَاليمَهُ لا تَتَّفِقُ مَعَ شَهَوَاتِهِمْ وَمَلاذِهِمْ، فَاتَّخَذُوا الخُرُوجَ عَنْ تَكَاليفِهِ لِلْحُصُولِ عَلَى مَلاذِ الحَيِاةِ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
شِعْرًا: ... يَقُولُونُ فِي الإِسْلامِ ظُلْمًا بِأَنَّهُ ... يَصُدّ ذَوِيهِ عِنْ طَرِيقِ التَّقَدُمِ
وَلَوْ كَانَ ذَا حَقًّا فَكََيْفَ تَقَدَّمْتْ ... أَوَائِلُهُ فِي عَهْدِهَا المُتَقَدِّمِ
وَإِنْ كَانَ ذَنْبُ المُسْلِمِ اليوم جَهْلُهُ ... فَمَاذَا عَلَى الإِسْلامِ مِنْ جَهْلِ مُسْلِمِ
هَلْ العِلْمِ فِي الإِسلامِ إلاّ فَرِيضَة ... وَهَلْ أُمَّةٌ سَادَتَ بِغَيْرِ التَّعَلُّمِ
لَقَدْ أَيْقَظَ الإِسْلامْ لِلْمَجْدِ وَالعُلا ... بَصَائِرَ أَقْوَامِ عَنِ المََجْدِ نُوَّمِ
فَأشْرَقَ نُورُ العِلْمِ مِنْ حُجُرَاتِهِ ... عَلَى وَجِهِ عَصْرٍ بِالجَهَالَةِ مُظْلِمِ
وَدَكَّ خُصُونَ الجَاهِلِيِّةِ بِالهُدَى ... وَقَوِّضَ أَطْنَابَ الضَّلالِ المُخَيَّمِ
وَأَنْشَطَ بِالعِلْمِ العَزَائِمِ وَابْتَنَى ... لأَهَلْيَهِ مَجْداً لَيْسَ بَالمُتَهَدِّمِ
وَأَطْلَقَ أَذْهَانَ الوَرَى مِنْ قِيُودِهَا ... فَطَارَتْ بِأَفْكَارٍ عَلَى المَجْدِ حُوَّمِ
وَفَكّ أُسَارَ القَوْمِ حَتَّى تَحَفَّزُو ... نُهُوضًا إِلَى العَلْيَاءِ مِنْ كُلِّ مَجْثِمِ
فَخَلُّوا طَرِيقًا لِلْبَدَاوَةِ مَجْهَلا ... وَسَارُوا بِنَهْجٍ لِلْحَضَارَةِ مُعْلمِ(5/272)
فدَوَّت بمُسْتَنّ العُلَى نَهَضَاتُهُمْ ... كَزْعَزَعِ رِيحٍ أَوْ كَتَيَّارِ غَيْلَمِ
وَعَمَّا قَلِيلٍ طَبَّقَ الأَرْضَ حُكْمُهُ ... بِأَسْرَعَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلَى الفَمِ
وَقَدْ حَاكَتْ الأَفْكَارُ عِنْد اصْطِدَامِهَا ... تَلألُؤَ بَرْقِ العَارِضَ المُتَهَزِّمِ
وَلاحَتْ تَبَاشِيرُ الحَقَائِقِ فَانْجَلَتْ ... عَنِ النَّاسِ في الدُّنْيَا شُكُوكَ التَّوَهُمِ
فَلَيْسَ لمُثْرٍ نَقْصُهُ حَقّ مُعْدِمٍ ... وَلا عَرَبِيٍ بَخْسُهُ فَضْلَ أَعَجْمِ
وَلا فَخْرَ لِلإِنْسَانِ إِلا بِدِينِهِ ... وَلا فَضْلَ إِلا بِالتُّقَى وَالتَّكَرُّمِ
آخر: ... هُوَ المَوْتُ فَاصْنَعْ كُلَّ مَا أَنْتَ صَانِعُ
وَأَنْتَ لِكَأْسِ المَوْتِ لا بُدَّ جَارِعُ
أَلا أَيُّهَا المَرْءُ المُخَادِعُ نَفْسَهُ
رُوَيْدًا أَتْدْرِي مَنْ أَرَاكَ تُخَادِعُ
وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ
سَتَتْرُكُهَا فَانْظُرْ لِمَنْ أَنْتَ جَامِعُ
فَكَمْ قَدْ رَأَيْتَ الجَامِعِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ
لَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ التُّرَابِ مَضَاجِعُ
لَوْ أَنَّ ذَوِي الأَبْصَارِ يَرْعَوْنَ كُلَمَّا
يَرَوْنَ لَمَا جَفَّتْ لِعَينٍ مَدَامِعُ
طَغَى النَّاس مِنْ بَعْدِ النَّبِي مُحَمَّدٍ
فَقَدْ دَرَسْتَ بَعَدْ النَّبِي الشَّرَائِعُ
وَصَارَتْ بُطُونِ المُرْمِلاتِ خَمِيصَةً
وَأَيْتَامُهَا مِنْهُمْ طَرِيدٌ وَجَائِعٌ
وَإِنَّ بُطُونِ المُكْثِرِينَ كَأَنَّمَا
يُنَقْنِقُ فِي أَجْوَافِهِنَّ الضَّفَادِعُ ... ?(5/273)
ج
... فَمَا يَعْرِفُ العَطْشَانَ مَنْ طَالَ رِيُّهُ
وَلا يَعْرِفُ الشَّبْعَانُ مَنْ هُوَ جَائِعُ
وَتَصْرِيفُ هَذَا الخَلْقِ للهِ وَحْدَهُ
وَكُلٌّ إليه لا مَحَالَةَ رَاجِعُ
وَللهِ فِي الدُّنْيَا أَعَاجِيبُ جَمَّةٌ
تَدُلُّ عَلَى تَدْبِيرِهِ وَبَدَائِعُ
وَللهِ أَسْرَارُ الأُمُورِ وَإِنْ جَرَتْ
بَهَا ظَاهِرًا بَيْنَ العِبَادَ المَنَافِعُ
وَللهِ أَحْكَامُ القَضَاءِ بِعِلْمِهِ
أَلا فَهُوَ مُعْطٍ مَا يَشَاءُ وَمَانِعُ
إِذَا ظَنَّ مَنْ تَرْجُو عَلَيْكَ بِنَفْعِهِ
فَدَعْهُ فَإِنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضَ وَاسِعُ
وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمُّهُ
سَبَتْهُ المُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ المَطَامِعُ
وَمَنْ عَقَل اسْتَحْيَى وَأَكْرَمَ نَفْسَهُ
وَمَنْ قَنِعَ اسْتَغْنَى فَهْلَ أَنْتَ قَانِعُ
لِكُلِّ امْرِءٍ رَأْيَانِ رَأْيٌ يَكُفُّهُ
عَنِ الشَّرِ أَحْيَانًا وَرَأْيٌ يُنَازِعُ ... ?
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ، وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ.(5/274)
اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وُجُوهَنَا عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وُجُوهَنَا عَنِ المَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَى وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فَرُدَّهُ إِلَى الحَقِّ حَتَّى
لا يَظِلُّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ وِلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكِ خَوَلاً لِغَيْرِكِ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) وَصَرِيحُ القَذْفِ أَنْ يَقُولَ: يَا زَانِي، أَوْ يَقُولُ لَهُ: يَا لُوطِيّ، أَوْ يَا عَاهِرُ، أَوْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ زَنَيْتَ، أَوْ زَنَى فَرْجُكَ، أَوْ يَا مَنْيُوكُ، أَوْ يَا وَلَدُ الزَّانِي، أَوْ يَا وَلَدَ الزَّانِيَةِ، فَفِي الأَوَّلِ قَذْفٌ لَهُ، وَفِي الأَخِيرَتَيْن قَذْفٌ لأَبِيهِ وأُمِّهِ، أَوْ يَقُولُ لابنتِهَا: يَا ابْنَةَ الزَّانِيَةِ وَكِنَايتُه أي القَذْفُ أَنْ يَقُولَ: يَا قَحْبَةُ، أَوْ يَا فَاجِرَةُ، أَوْ يِا خَبِيثَةُ فَفِي الصَّرِيحِ - إِذَا اجْتَمَعْتْ الشُّرْوطُ - يُحَدُّ ثَمَانِين وَفِي الكِنَايَةِ إِذَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ.
وَالشُّرُوطُ المُعْتَبَرَةُ لإِقَامَةِ الحَدِّ (أَحَدُهُمَا) مُطَالَبَةُ المَقْذُوفِ لِلْقَاذِفِ بِحَقِّهِ وَاسْتِدَامَةِ الطَّلَبِ إِلَى إِقَامَةِ الحَدِّ، بِأَنْ لا يَعْفُو، (وَالثَّانِي) أَنْ لا يَأْتِي بِبِيِّنَةٍ عَلَى مَا قَذَفَهُ بِهِ لِمَفْهُومِ قَوْلهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وَالشَّّّّّّّرْطِ (الثَّالِثُ) أَنْ لا يُصَدِّقَهُ المَقْذُوف، فَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الحَدُّ لأنَّ تَصْدِيقَهُ لَهُ أَبَلَغُ مِنْ إِقَامَةِ البَيِّنَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ لا يُلاعِنَ القَاذِفُ المَقْذُوفَ إِنْ كَانَ القَاذِفُ زَوْجًا، فَإِنْ لاعَنْ سَقَطْ عَنْهُ الحَدُّ وَيُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ، يَا مُنَافِقُ، يَا سَارِقُ، يَا فَاسِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا حِمَارُ، يا تَيْسُ، يَا رَافِضِي، يَا عَدُوَّ اللهِ، يَا جَائِرُ، يَا شَارِبُ الخَمْرِ، يَا كَذَّابُ أَوْ كَاذِبٌ، أَوْ يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا خَائِنُ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا قَوَّادُ، أَوْ دَيُّوثُ. وَالدَّيُّوثُ هُوَ الذِي يُقِرُّ الفَاحِشَةَ عَلَى أَهْلِهِ، وَالقَوَّادُ هُوَ السِّمْسَارُ فِي الزِّنَا وَبِاللُّغَةِ الشَّعْبِيَّةِ الجَرَّارُ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَاقِعُونُ فِي القَذْفِ الذِي فِي الحَقِيقَةِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتُهُ دُنْيًا وَأُخْرَى. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكِ أَنَّ النَّاسَ لا يُقِيمُونَ لِهَذَا القَوْل وَزْنًا فَلِهَذَا لا يُسْمَعُ لِهَذَا الحَدِّ ذِكْرٌ وَلا لِلْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى كَرَامَتِهِ، وَيُطَالِِبَ بِحَقِّهِ، لاسِيَّمَا وَفِي المطَالَبَةِ فِي مِثْلِ حَدِّ(5/275)
القَذْفِ ردْعٌ لِهَؤُلاءِ المُطْلِقِينَ لأَلْسِنَتِهِم العِنَانُ فِي الفُحْشِ وَالسَّبِّ وَنَشْرِ هَذِهِ الأَخْلاقِ السَّيِّئَةِ التِي تَضُرُّهُم وَتَضُرُّ غَيْرَهُم فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالْكَلَمَةِ مَا يَتَبَيَّنَ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّار أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْربِ» . وَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بنُ جَبَلُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهُهُم إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . وفي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليوم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَالَ عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ: مَا النَّجَاةُ يَا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلِيَسَعُكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكِ» . «وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ إِلَى اللهِ القَلْبُ القَاسِي» . إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلامِ شُرُوطًا لا يَسْلَمُ المُتكلّمُ مِنْ الزَّلَلِ إِلا إِذَا عَمِلَ بِهَا بِإِذْنِ اللهِ، وَلا يَعْرَى مِنَ النَّقْصِ إِلا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيهَا بِإِذْنِ اللهِ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ.
الشَّرْطٌ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الكَلامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إليه أَمَّا الذِي لا دِاعِيَ لَهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ فَتَرْكُهُ أَوْلَى.
وَالشَّرْطُ (الثَّانِي) : أَنْ يَأْتِي بِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إِصَابَةَ فُرْصَتِهِ، بِأَنْ يَتَرَقَّبَهَا وَيَتَحَرَّاهَا.
وَالشَّرْطُ (الثَّالِثُ) : أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ.
وَالشَّرْطُ (الرَّابِعُ) : أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الذِي يَتَكَلَّمِ بِهِ، فَأَمَّا الذِي لا دَاعِيَ لَهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرِرٍ هَذَيَانٌ، وَمَا لا سَبَبَ لَهُ هَجْرٌ، وَمَنْ سَامَحَ نَفْسَهُ فِي الكَلامِ إِذَا عَرَضَ لَهُ وَهَبَّ فِي خَاطِرِهِ، وَلَمْ يُرَاعِ صِحَّةَ دَوَاعِيهِ، وَإِصَابِةِ مَعَانِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ مَرْذُولاً، وَرَأْيُهُ مَعْلُولاً، كَمَا حُكِيَ أَنَّ(5/276)
شَابًا كَانَ يُجَالِسُ الأَحْنَفَ وَيُطِيلُ الصَّمْتَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الأَحْنَفُ، فَخَلَتِ الحَلَقَةُ يَوْمًا مِنَ المُتَكلمِين، فَقَالَ الأَحْنَفُ: تَكَلَّمْ يَا ابْنَ أَخِي، فَقَالَ: يَا عَمِّ لَوْ أَنَّ رَجُلاً سَقَطَ مِنْ شَرفِ هَذَا المَسْجِدِ يَضُرُّهُ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَيْتَنَا تَرَكْنَاكَ مَسْتُورًا.
ثُمَّ تَمَثَّلَ الأَحْنَفُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
... وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبًا ... ???? ... زَيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ ... ???? ... لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفُ فُؤَادُهُ ... ???? ... فَلَمْ يَبْقَ إِلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ ... ? ... ???? فَلِسَانُ العَاقِلُ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الكَلامَ رَجَعَ إِلَى قَلْبِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينًا أَوْ دُنْيَا تَكَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَالقَذْفِ وَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ أَمْسَكَ فَلا يُخْرِجُهُ، وَقَلْبُ الجَاهِل مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ، يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا عَرَضَ لَهُ، فَالعَاقِلُ يَتَفَكَّرُ وَيَزنُ كَلامَهُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَرَى أَنَّ فِيهِ لَهُ مَصْلَحَةً، وَلا مَضَرَّةَ فَيهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ البُلَغَاءِ: احْبِسْ لِسَانَكَ قَبْلَ أَنْ يَحْبِسَكَ أَوْ يُتْلِفَ نَفْسَكَ. وَقَالَ النَّبيّ ? لِمُعَاذ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» وَقَالَ بَعْضُهُم: مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَتْ آثَامُهُ. فَعَلَيْكَ بِطَرِيقِ السَّلفِ الذِينَ عَمَّرُوا أَوْقَاتَهُمِ بِتَقْوَى اللهِ.
... قُلوُبٌ بِتَقْوَى اللهِ وَالذكر تَعْمُر ... وَأَوْجُهُهُمْ بِالقُرب والبِشْرِ تَزْهُرُ
يُنَاجُونَ مَوْلاهُمْ بِفَرْطِ تَضَرُّعٍ ... وَأَدْمُعُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَقْطُرُ
آخر: ... صَلَّى الإِلَهُ عَلَى قَوْمٍ شَهدتهُم
كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا أَوْ ذُكِّرُوا شَهِقُوا ... ?(5/277)
.. كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا نَارَ الْجَحِيمَ بَكَوْا
وَإِنْ تَلا بَعْضُهُمْ تَخْوِيفَهَا صَعِقُوا
مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مِن الشَّيطَانِ يَأْخُذُهُمْ
عِنْدَ التِّلاوَةِ إِلا الْخَوْفُ وَالشَّفَقُ
صَرْعَى مِن الْحُزْنِ قَدْ سَجَّوْا ثَيَابَهُمُ
بَقِيَّةُ الرُّوحِ فِي أَوْدَاجِهِمْ رَمَقُ
حَتَّى تَخَالَهُمُ لَوْ كُنْتَ شَاهِدَهُمْ
مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالاشْفَاقِ قَدْ زَهَقُوا
صَانُوا الْعُيُونَ عَنْ الْعَوْرَاتِ جُهْدَهُمُ
وَفِي لُحُومِ الْوَرَى وَالْكِذْبِ مَا نَطَقُوا ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الْجِبَال الرَّاسِيَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاعْصِمْنَا مِنْ الذُّنُوبِ الْمُوبِقَاتِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَتَلَقَّاهُم الْمَلائِكَةُ بِالْبَشَارَاتِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَسَلَّمَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ لَقَدْ ضَاعَتْ أَعْمَارَنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالْمَدَاهَنَةِ، وَالانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا، إِلى أَنْ اسْتَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ مُضَافًا إِلى النَّهَارِ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نُخْلقَ ْإِلا لِهَذِهِ الأَعْمَالِ، أَفَلا نَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَحْفَظُ أَلْسِنَتِنَا عَنْ نَهْشِ أَعْرَاضِ الْغَوَافِلِ، وَالطَّعْنِ فِي الأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ، وَنَصْرِفَ جَلَّ الأَوْقَاتِ إِلى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، الَّتِي هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رَبَّنَا ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدّا، وَنَذْكُرَ(5/278)
مَوْلانَا الذِي فَضْلُهُ عَلَيْنَا مِدْرَارٌ، فَإِنَّ الذِّكْرَ عَاقِبَتُهُ الْجَنَّةُ دَارُ الْكَرَامَةِ وَالْقَرَارِ، مَعَ رِضَى رَبَّنَا الذِي دُونَهُ كُلُّ ثَوَابٍ، تَاللهِ لَوْ عَرَفْتُمْ قِيمَةِ النَّصِيحَةِ لَبَادَرْتُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهَا كُلَّ الْبَدَارِ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ تَذْكُرُ اللهَ أَفْضَلَ مِمَّنْ يُفَرِّقُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرَ الأَمْوَالِ، وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُجَاهِدَ الْعَدُوّ فَيَضْرِبَ عُنُقَكَ أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَكُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ الأَبْرَارِ، كَيْفَ لا وَالذِّكْرُ خَيْرُ الأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَأَرْفَعَهَا لِلدَّرَجَاتِ عِنْدَ مَوْلانَا الْوَهَّابُ حَسْبُ الذَّاكِرِ: أَنْ تَحُفَّهُ الْمَلائِكَةُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحَمَاتُ، وَمَنْ فِي الْوُجُودِ مِثْلُ الذَّاكِرُ، وَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِهِ للهِ يَذْكُرُهُ بَارِئُ الْكَائِنَاتِ، وَمَنْ مِثْلُهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ بِالذِّكْرِ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ، يَحْفَظَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسَهِ الْفَاتِنَاتِ، وَمَنْزِلَةُ الذَّاكِرِ بَيْنَ الْغَافِلِينَ كَمَنْزِلَةِ الْحَيِّ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ، وَذِكْر اللهِ يُنِيرُ الْقَلْبَ، وَيُوقِظَهُ وَيُحْيِيهِ، وَيُزِيلُ رَانَهُ وَيَهْدِيهِ إِلى الْحَقِّ.
شِعْرًا: ... وَإِنَّ أَحْسَنَ قَوْلٍ أَنْتَ سَامِعُهُ ... قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الذِي خَلَقَا
آخر: ... لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ فَطِنٌ ... يُرْضِي الإِلهَ بِإتْقَانِ الْعِبَادَاتِ
آخر: ... لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ فَطِنٌ ... يُرْضِي الإِلهَ بِإتْقَانِ الْعِبَادَاتِ
آخر: ... رَجَاءُ إِلهِ الْخَلْقِ عِنْدِي ذَخِيرَةٌ ... وَلِشِدَّةِ الْعُظْمَى تُعَدُّ الذَّاخَائِرُ
عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
وَصَلَّى عَلَى خَيْرِ الأَنَامِ مُحَمَّدٍ ... وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ مَا دُمْتَ تَقْدِرُ
شِعْرًا: ... والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كَمَا ... تَحْيَا الْبِلادَ إِذَا مَا جَاءَهَا الْمَطَرُ
وَقَالَ الآخر:
وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْتَ فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتَها ذِكْرُ الإِلَهِ بِمَسْجِدِ
آخر:
(أَحِنُّ اشْتِيَاقًا لِلْمَسَاجِدِ لا إِلى) ... قُصُورٍ وَفُرْشٍ بِالطِّرَازِ مُوَشَّحُ(5/279)
وَأَمْنَحُ وُدِّي لِلْمَسَاكِينِ صَافِيًا
أُجَالِسُهُمْ وَالْهَجْرَ لِلْغَيْرِ أَمْنَحُ
فَفِي ذُلِّ نَفْسِي عِزُّهَا وَبِمَوْتِهَا
حَيَاةٌ لأَجَلِ الْغَالِي بِالدُّونِ أَسْمِحُ
(لَنَا بِاعْتِزَالٍ لَذَّ فِي جَانِبَ الْهَوَى
مُجَاوَرَةُ الأَسْفَارِ لِلصَّدْرِ تَشْرَحُ)
(فَإِنْ شِئْتَ تَفْسِيرًا مُرَادَ مُحَقِّقٍ
وَإِنْ شِئْتَ تَوْحِيدًا بِهِ الْمَرْءُ يُفْلِحُ)
(وَإِنْ رَمُتَ كُتبًا لِلْحَدِيثِ وَشَرْحِهِ
وَجَدَتَ وَلَمْ يَعْدُوكَ أُنْسٌ وَمَرْبَحُ)
(وَإِنْ رُمْتَ آدَابًا وَتَارِيخَ مَنْ مَضَى
وَجَدْتَ وَفَاتَ الْوَقْتُ وَالْفِكْرُ يَسْرَحُ
(وَإِنْ رُمْتَ كُتبَ الْفِقْهِ أَوْ كُتبَ أَصْلِهِ
تَنَاوَلْتَ أَحْكَامًا بِهَا الْقَلْبُ يَفْرَحُ)
وَتَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى
جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ يَنِمُ وَيَجْرَحُ ... ?
اللَّهُمَّ أَيْقظَ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ فِيهَا مَحَبَّتكَ ثُبُوتَ الِجبَالِ الرَّاسِياتِ وَوَفّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَجَنِّبْنَا جَمِيعَ الْمُوبِقَاتِ وَلا تُزِغْ قُلُوبِنَاَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ اللَّهُمَّ صلى عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ اعْطِنَا مِنْ الْخَيْرِ فَوْقَ مَا نَرْجُو وَاصْرِفْ عَنَّا مِنْ السُّوءِ فَوْقَ مَا نَحْذَر. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجَائِكَ وَاقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ(5/280)
تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فَاسْتُرْهَا وَتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وَلِيًّا وَكَفَى بِكَ نَصِيرًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيَارِ، وَاغْفِرْ لَنَا.
(فَصْلٌ) : عِبَادَ اللهِ لَقَدْ أَخْبَرَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلا أَنَّ حَيَاةً أُخْرَى نُجَازَى فِيهَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالٍ، وَلا شَكَّ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى أَخْبَرَ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَأَخْبَرَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلامَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى إقْتِرَابِهَا، يَزْدَادُ بِهَا إِيمَانًا ذُو الْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَهَذِهِ الْعَلامَاتُ تَنْقَسِمُ إِلى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ ظَهَرَ وَانْقَضَى، وَهِيَ الأَمَارَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَقِسْمٌ ظَهَرَ وَلَمْ يَنْقَضِ، بَلْ لا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْغَايَةَ ظَهَرَ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهِيَ الأَمَارَاتُ الْقَرِيبَةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي تَعْقِبُهَا السَّاعَةُ، فَإِنَّهَا تَتَابَعُ كَنِظَامِ خَرَزَاتٍ انْقَطَعَ سِلْكُهَا.
فَالأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ وَمَضَتْ، مِنْهَا: بِعَثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْتُهُ، وَفَتْحُ الْمَقْدِسِ، وَقتْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمِنْهَا وَقْعَةُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةِ حَتَّى تَقْتَتِلُ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَاهَا وَاحِدَةٌ» . وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . وَمِنْهَا: مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ الأَذِيَّةِ، كَقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَرَمْي الْكَعْبَةِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَنَارُ الْحِجَازِ الَّتِي أَضَاءَتْ لَهَا أَعْنَاقُ الإِبِلِ بِبُصْرَى، وَمِنْهَا خُرُوجُ كَذَّابِيْنَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيّ، وَمِنْهَا كُثْرَةُ الْمَالِ، وَكَثْرَةُ الزَّلازِلْ.
الثَّانِيَةُ: الْعَلامَاتُ الْمُتَوَسِّطَةِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةِ حَتَّى يَكُونُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بن لُكَع» . وَاللكَعُ الْعَبْدُ(5/281)
الأَحْمَقُ وَاللئِيمُ، وَالْمَعْنَى: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ اللئَامُ وَالْحَمْقَى وَنَحْوَهُمْ رُؤَسَاءُ النَّاسِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَسٍ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عُبَّادٌ وَجُهَّالٌ وَقُرَّاءٌ فَسَقَةٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «فُسَّاقٌ» . رَوَاهُ أَبُو نَعِيمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يُرَى الْهِلالُ سَاعَةَ يَطْلُعُ، فَيُقَالُ: لِلَيْلَتَيْنِ لِكِبَرِهِ، رَوَى مَعْنَاهُ الطَّبَرَانِي عَنْ ابن مَسْعُودٍ، وَفِي لَفْظٍ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ انْتِفَاخُ الأَهِلَّةِ» . أَي: عِظَمُهَا.
وَمِنْهَا انْحِسَارُ الْفُرَاتِ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن الْحَارِثِ بن نَوْفَلَ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا مَعَ أُبِّيِ بِنْ كَُعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: لا يَزَالُ النَّاسُ مُخْتَلِفَةٌ أَعْنَاقُهُمْ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ جَبَلِ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا سَمِعَ بِهِ النَّاسُ سَارُوا إليه، فَيَقُولُ مَنْ عِنْدَهُ: لَئِنْ تَرَكَنَا النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْهُ لَيُذْهَبَنَّ بِهِ كُلَّهُ» . قَالَ: «فَيَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مَائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْهَا مَا فِي حَدِيثِ ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيّ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ السَّلامُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي، وَعَنْ حُذَيْفَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ مُشَارَكَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّسْلِيمُ لِلْمَعْرِفَةِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو نَعِيمٍ، وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ(5/282)
وَسَلَّمَ: «إِنَّّّّّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلَ عَلَى الرَّجُلِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلا لِلْمَعْرِفَةِ» . رَوَاهُ أَحَمْدَ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الخَاصَّةِ، وَفُشُوِّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعْينُ المَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَشِهَادَةُ الزُّورِ، وَظُهُورِ القَلْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَمِنْهَا مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ الصَّدَقَةَ كُتِمَتْ وَغُلَّتْ، وَاسْتُؤْجِرَ عَلَى الغَزْوِ، وَأخْرِبَ العَامِرُ، وَعُمِرَ الخَرَابُ، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَمَرَّسُ بِأَمَانَتِهِ فَإِنَّكَ وَالسَّاعَةُ هَاتَيْنِ» . رَوَاهُ الطَبَرَانِي.
وَعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكتنى المَسَاجِدَ، وَيُعْمَرَ خَرَابٌ، وَيُخَرَّبَ عُمْرَانٌ» . الحَدِيثُ رَوَاهُ الطَبَرَانِي، وَعَنْ عَلِيّ بنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ الجِوَارِ، وَأَنْ تَجْلِبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَالتَّعْلِيمَ لِغَيْرِ اللهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ، وَالحَاكِمُ.
وَمِنْهَا تَقْلِيدُ الأَجَانِبِ، وَقَدْ وَقَعَ، حَتَّى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ تَرَكُوا الدِّينَ، وَلاسِيَّمَا بَعْضُ المُتَدَيِّنِينَ، وَرَأَوْا التَّقَدُّمَ فِي تَقْلِيدِ الكَفَرَةِ، وَرَبَائِبَ الكَفَرَةِ وَمِنْهَا لَعْنُ آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَقَدْ حَصَلَ، وَمِنْهَا اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ طُرُقًا، وَمِنْهَا مَا قَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَهُوَ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً، إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ تُرِكَتْ السُّنَّةُ» قَالُوا: وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: «إِذَا ذَهَبَتْ عُلَمَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُم، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُم، وَالتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهِ لِغيْرِ الدِّينِ» .(5/283)
قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليوم يَتَعَلَّمُونَ لأجْلِ الحُصُولَ عَلَى شَهَادَةَ المَاجِسْتِير أَو الدكتوراه أو البكاريُوس أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لا لأجْلِ إِزَالَةِ الجهل عن نفسِهِ وَنَفْع المسلمين بِتَعْلِيمهم بل لأجلِ الدُّنْيَا فَهْوَ تَعَلُّمٌ لِغَيْرِ الدِّينَ نسأل الله العافية وهؤلاء يَنْطَبِقُ عليهم قول الشاعر:
... هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا تَعْدُ شَهَادَتُهُمْ ... جَوَازَ سَفْرٍ إِلَى نَيْلِ الوُرَيْقَاتِ
فَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ فَقَرَةٍ مِنْ فَقَرَاتِهِ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي العَصْرِ الحَاضِرِ عَصْرُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ وَالفِتَنِ وَالشُّرُورِ، وَالسُّفُورِ والتلفزيون والفِيديُواتِ وَالمذَايِيعِ وَالكُراتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَلْهَى وَأَشْغَلَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ.
شِعْرًا: ... يَا مَنْ بِدُنيَاهُ اِشتَغَلْ
قَدْ غَرَّهُ طُولُ الأَمَلْ
المَوْتُ يَأْتِي بَغتَةً
وَالصَّدْرُ صُنْدُوقُ العَمَلْ ... ?
قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} .
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن سُلَيْمَانَ مَوْقُوفًا، وَالحَسَنُ بنُ سُفْيَانَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مَرْفُوعًا: «إِذَا ظَهَرَ القَوْلُ، وَخُزِنَ العَمَلُ، وَائْتلَفَتْ الأَلْسُنُ، وَاخْتَلَفَتْ القُلُوبُ، وَقَطَعَ كُلُّ ذِي رَحِم رَحِمَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَعَنَهُمْ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» . وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ مَاجَة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ(5/284)
مَرْفُوعًا: «إِذَا كَانَتْ الفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُم، وَالمُلْكُ في صِغَارِكُمْ، وَالعِلْمُ في مُرَادِكُمْ، وَالمُدَاهَنَةَ فِي خِيَارِكُمْ» ، يَعْنِي فَتَقْرُبُ إِقَامَةُ السَّاعِةِ.
وَمِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ البُخَارِي وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلا أُحَدِّثَكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحدثكم به أحد غيري؟ سمعت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أنَ ْيُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَكْثُرُ الجَهْلُ، وَيَكْثُر الزِّنَا، وَيَكْثُرُ شُرْبُ الخَمْرِ، وَيَقِلُّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ» وَمِنْ أَمَارَاتِهَا تَضْيِيعُ الأَمَانَةِ، وَإِضَاعَتُهَا تَوْسِيدُ الأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَمِنْهَا فُشُوِّ الرِّبَا وَقَدْ عَمَّ.
وَقَالَ أَحَدُ العلماء رحمه الله تعالى في معرض كلام له:
وَإِنْ تَشَوَّفْتُمْ إِلَى سَمِاع الأَعْذَار، وَتَشَوَّقْتُمْ إِلَى جِمَاع الأَمْرِ الذِي هُوَ سَبَبٌ لِقَوْلِي حَذَارِ حَذَارِ، فَأَلْقُوا السَّمْعَ لِمَا أَقُولُ وَتَدَبَّرُوا مَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ الشَّوَاهِد وَالنُّقُول، أليس هَذَا زَمَانُ الصَّبْر، الصَّابِرُ فِيهِ كَقَارِضٍ عَلَى الجَمْرِ، رَأَيْنَا فِيهِ مَا أَنْذَرَ بِهِ الرسول ? وَصَحَّت به الأَحَادِيثُ وَالنُّقُولُ لِكُلِّ سَؤُول، آياتٍ وَعَلاماتٍ مَا كَانَتْ تَقَعُ فِيمَا مَضَى مِنَامَاتٍ، وَيَوَدُّ كُلٌّ أَنَّهُ عَنْدَ المُنَى مَاتَ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِي ? بِأَنْ يَلْزَمَ العَالِمُ عِنْدَهَا خَاصَّةَ نَفْسِهِ وَيَدَعِ العَوَامْ، مِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ المُطَاعُ وَدُنْيًا مُؤْثَرَةْ، وَهَوَى لَهُ ذُو اتِّبََاع، وَإِعْجَابُ كُلُّ ذِي رَأْي بِرَأْيِهِ وَذَلِكَ عَيْنِ الابتداع، قَدْ مَرَجَتِ الأَمَانَاتُ وَالعُهُود، وَكَثُرَ القَائِلُونَ بِالزُّورِ وَالشُّهُود، وَجَمَّ الاخْتِلافُ، وَقَلَّ الائْتِلافُ، وَكُذِّبِ الصَّادِقُ، وَصَدَقَ الكَاذِبُ، وَخُوِّنَ الأَمِينُ، وَائْتُمِنَ الخَائِنُ، وَنَطَقَ الرُّوَيْبِضَةَ، وتكلم الرجُل التافِهُ في أَمْرِ العَامَّةْ، وَتَعَلَّمَ المُتَعَلَّمُ لِغَيْرِ العَمَل، وَكَانَ التَّفَقُهُ لِلدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الآخِرَةِ أَمَل، وَأُهِينَ الكَبِيرُ، وَقَدِّمَ الصَّغِير، وَرُفِعَتِ الأَشْرَارُ،(5/285)
وَوُضِعَتِ الأَخْيَار فلا يُتْبَعُ العليم، ولا يُسْتَحَى مِنَ الحليم، واتُّخِذَتِ البدعة سُنَّة فلا يُغَيِّرها مَنْ مَرَّ، وَصَارَ الموت إلى العلماء أَحَبُّ مِنَ الذَّهَبِ الأَحْمَر، وَاسْتَعْلَى الجُهَالُ عَلَى العُلماء، وقَهَرَ السُّفَهَاءُ الحُلماءُ، وَوُلِيَ الدِّينُ غَيْرَ أَهْلِهِ، وَظَهَرَ الفُحْشُ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ عَلِى قَدْرِ جَهْلِهِ. انْتَهِى.
... الله أكْبَرَ فِي الدِّفَاعِ سَأَبْتَدِي ... وَهُوَ المُعِينُ عَلَى نَجَاحِ المَقْصَدِ
وَهُوَ الذِي نَصَرَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... وَسَيَنْصُرُ المُتَّبِعِينَ لأَحْمَدَ
وَبِهِ أَصُولُ عَلَى جَمِيعِ خُصُومِنَا ... وَأَعُدُّهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يَعْتَدِي
سَأَسُلُّ سَهْمًا فِي كِنَانِةِ وَحْيِهِ ... وَبِهِ أَشُدُّ عَلَى كَتائبِ حُسَّدِي
وَبِهِ سَأَجْدَعُ أَنْفَ كُلِّ مُكَابِرٍ ... وَبِهِ سَأَرْصُدُ لِلْكَفُورِ المُلْحِدِ
وَسَأَسْتَجِيرُ بِذِي الجَلالِ وَذِي العُلا ... فَلَنْ أُضَامَ إِذَا اسْتَجَرْتُ بِسَيِّدِي
وَسَأَسْتمِدُّ العَوْنَ مِنْهُ عَلَى الذِي ... لَمَزَ الأَحِبَّةَ بِالكَلامِ المُفْسِدِ
حَتَّى أُشّتِّتَ شَمْلَهُمْ بِأَدِلَّةٍ ... مِثْلَ الصَّوَاعِقِ فِي السَّحِابِ الأَسْوَدِ
وَبِنُورِ وَحْي الله أَكْشِفُ جَهْلَهُمْ ... حَتَّى يُبَيِّنَ عَلَى رُؤُوسِ المَشْهَدِ
لا تَلْمِزُونَا يَا خَفَافِيشَ الدُّجَا ... بِتَطَرُّفٍ وَتَسَرُّعٍ وَتَشَدُّدِ
لا تَقْذِفُونَا بِالشُّذُوذِ فَإِنَّنَا ... سِرْنَا عَلَى نَهْجِِ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَلِكُلِّ قَوْل نَسْتَدِلُّ بِآيَةٍ ... أَوْ بِالحَدِيثِ المُسْتَقِيمِ المُسْنَدِ
وَالنَّسْخَ نَعْرِفُ وَالعُمُومَ وَأَنَّنَا ... مُتَفَطِّنُونَ لِمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدِ
وَنُصُوصُ وَحْي اللهِ نُتْقِنُ فَهْمَهَا ... لا تَحْسِبُونَ الفَهْمَ كَالرأْي الرَّدِي
وَإِذَا تَعَارَضَتِ النُّصُوصُ فَإِنَّنَا ... بِأُصُولِ سَادَتِنَا الأئمةِ نَهْتَدِي
وَنُحَارِبُ التَّقْلِيدَ طُولَ زَمَانِنَا ... مَعُ حُبِّنَا لِلْعَالِمِ المُتَجَرَّدِ
وَكَذَا الأَئِمَّةُ حُبُّهُم مُتَمَكَّنٌ ... مِنْ كُلِّ نَفْسٍ يَا بَرِيَّةُ فَاشْهَدِي
وَتَرِقُّ أَنْفُسُنَا لِرُؤْيَةِ مَنْ غَدَا ... فِي رِبْقَةِ التَّقْلِيدِ شِبْهَ مُقَيَّدِ(5/286)
ج
إِنَّا نَرِى التَّقْلِيدَ دَاءً قَاتِلاً ... حَجَبَ العُقُولَ عَنِ الطَّرِيقِ الأَرْشَدِ
جَعَلَ الطَّرِيقَ عَلَى المُقَلِّدَ حَالِكًا ... فَتَرَى المُقَلَّدَ تِائِهًا لا يَهْتَدِي
فَلِذَا بَدَأْنَا فِي اجْتِثَاثِ جُذُورِهِ ... مِنْ كُلِّ قَلْبٍ خَائِفٍ مُتَرَدِّدِ
وَلَسَوْفَ نَدْمُلُ دَاءَهُ وَجِرَاحَهُ ... بِمَرِاهِمِ الوَحْيِ الشَّرِيفِ المُرْشِدِ
نَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ طُولَ حَيَاتِنَا ... فِي كُلِّ حِينٍ فِي الخَفَا وَالمَشْهَدِ
وَنُحَارِبُ الشِّرْكِ الخَبِيثَ وَأَهْلَهُ ... حَرْبًا ضَرُوسًا بِاللَّسِانِ وَبِاليدِ
وَكَذَلِكَ البِدَعُ الخَبِيثَةُ كُلَّهَا ... نَقْضِي عَلَيْهَا دونَ بَابِ المَسْجِدِ
هَذِي طَرِيقَتُنَا وَهَذَا نَهْجُنَا ... فَعَلامَ أَنْتُمْ دُونَنَا بِالمَرْصَدِ
لِمَا تَطْعَنُونَا وَتَلْمِزُونَا كَأَنَّنَا ... جِئْنَا بِرَأْيٍ لِلْعَقِيدَةِ مُفْسِدِ
أَلِمَذْهَبٍ وَلِعَادَةٍ وَحُكُومَةٍ ... تَتَهَرَّبُونُ مِنَ الحَدِيثِ المُسْنَدِ
هَذَا الحَدِيثُ تَلألأتْ أَنْوَارُهُ ... رَغْمَ الجَهُولِ وَرَغْمَ كُلِّ مُقَلِّدِ
إِنْ كُنْتُمْ تَتَضَرَّرُونَ بِنُورِهِ ... فَالشَّمْسُ تَطْلَعُ رَغْمَ أَنْفِ الأَرْمَدِ
بِاللهِ قُولُوا مَا الذِي أَنْكَرْتُمُوا ... عَلَى البَرِيَّةَ لِلْحَقِيقَةِ تَهْتَدِي
هَدَّدْتُمونَا بِالمَذَاهِبِ بِعْدَ مَا ... وَضَحَ الدَّلِيلُ فَبِئْسَ مِِنْ مُتَهَدِّدِ
وَيَهْتُمُونَا بِالقَبَائِحِ كُلِّهَا ... وَعَرَضْتُمُونَا بِالقَنَاعِ الأَسْوَدِ
وَرَفَعْتَمُونَا لِلْوُلاةِ تَشَفِّيًا ... وَفَرَحْتُمُوا بِتَهَدُّدٍ وَتَوَعُّدِ
لاكِنَّنَا لُذْنَا بِبَابِ إِلَهِنَا ... فَأَرَاحَنَا مِنْ كُلِّ خِصْمٍ مُعَْتَدِ
وَجَلا الحقيقةَ لِلْمَلأ فَخَسَأْتُمُوا ... وَالسُّوءُ يَظْهَرُ مِنْ خَبِيثِ المَقْصَدِ
يَا مَعْشَرِ الإِخْوَانِ سِيرُوا ... وَأَبْشِرُوا وَثِقُوا بِنَصْرِ الوَاحِدِ المُتَفَرِّدِ
وَلِتُعْلِنُوهَا لِلْبَرِيَّةِ كُلِّهَا ... إِنَّا بِغَيْرِ مُحَمَّدٍ لا نَقْتَدِي
لا نَطْلُبُ الدُّنْيَا وَلا نَسْعَى لَهَا ... اللهُ مَقْصَدُنَا وَنِعمَ المَقْصَدِ
لَيْسَ المَنَاصِبُ هَمَّنَا وَمُرَادُنَا ... كَلا وَلا ثَوْبِ الخَدِيعَةِ نَرْتَدِي
إِنَّا لنَسعْى فِي صَلاحِ نُفُوسِنَا ... بِعلاجِ أَنْفُسِنَا المَرِيضَةِ نَبْتَدِي(5/287)
وَنُحِبُّ أَنْ نَهْدِي البَرِيَّةِ كُلِّهَا ... نَدَعُ الْقَرِيب قَبِيلَ نُصْحِ الأَبْعَدِ
وَبِوَاجِبِ المعروفِ نأْمر قَوْمَنَا ... وَنَقُومُ صَفَّا في الطَّرِيقِ المُفْسِدِ
لَو تُبْصِرُ الإِخْوانَ في حَلَقَاتِنَا ... مِنْ عَالِمٍ أَوْ طالب مسترشدِ
لَرَأَيْتَ عِلْمًا وَإِتِّبَاعًا صَادِقًا ... لِلسُّنَّةِ الغَرَّاءِ دُونَ تَرَدُّدِي
أَنْعِمْ بطلاب الحديثِ وأَهْلِهِ ... وَأجِلُّهُم عن كل قَوْلِ مُفْسِدِ
هُمْ زِينةُ الدُّنْيَا مَصَابِيحُ الهُدَى ... طُلَعُوا عَلَى الدُّنْيَا طُلُوع الغَرْقَدِ
وَرِثُوا النَّبِيِّ فَأَحْسَنُوا فِي إِرْثِهِ ... وَحَمَوْهُ مِنْ كَيْدِ الخَبِيثِ المُعْتَدِي
سَعِدُوا بِهَدْي مُحَمَّدٍ وَكَلامِهِ ... وَسِوَاهُمُ بِكَلامِهِ لَمْ يَسْعُدِ
وَالدِّينُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُوله ... وَهُمْ لِدِينِ اللهِ أَفْضَلُ مُرْشِدِ
وَالفِقْهُ فَهْمُ النَّصِ فَهْمًا وَاضِحًا ... مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَتَأْوِيلٍ رَدِيْ
لا تَحْسَبَنَّ الفَقْه مَتْنًا خَالِيًا ... مِنْ كُلِّ قَولٍ لِلْمُشَرِّعِ مُسْنَدِ
فَعَلَيْكَ بِالوَحْيَيْنِ لا تَعْدُوهُمَا ... وَاسْلُكْ طَرِيقهُمَا بِفهْمِ جَيِّدِ
فَإِذَا تَعَذَّرَ فَهْمُ نَصٍّ غَامِضٍ ... فَاسْتَفْتِ أَهْلَ الذِّكْرِ كَالمُسْتَرْشِدِ
بِالبَيَّنَاتِ وَالزَّبُورِ فَإِنَّهُ ... مِنْ أَمْرِ رَبَّكَ فِي الكِتابِ فَجَوِّدِ
وَاعلم بأنَّ مَن اقْتَدَى بِمُحَمَّدٍ ... سَيَنَاله كَيْدُ الغُوَاةِ الحُسَّدِ
وَيَذوق أَنْواعَ العَدَاوةِ وَالأَذَى ... مِنْ جَاهِلٍ وَمُكَابِرٍ وَمُقَلَّدِ
فَاصْبِرْ عَلَيْهِ وَكُنْ بِرَبَّكَ وَاثِقًا ... هَذَا الطَّرِيقُ إِلَى الهُدَى وَالسُّؤْدَدِ
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ انْتَبِهُوا وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، فَإِنَّ أَعْمَارَكُم سَرِيعَةُ الانْصِرَامِ، وَالأَيَّام وَاللَّيالِي تَمُرُّ بِكم مَرَّ السَّحَابِ، وَالدُّنْيَا إِذَا تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ رَآهَا كَالسَّرَابِ، وَصَدَقَ القَائِلُ فِي وَصْفِهَا حَيْثُ قَالَ:
شِعْرًا: ... حَيَاةٌ وَمَوْتٌ وَانْتِظَارُ قِيَامَةٍ ... ثَلاثُ أَفَادَتْنَا أُلُوفَ مَعَانِ
فَلا تَمهْرَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا ... تُفَارِقُ أَهْلِيْهَا فِرَاقَ لِعَانِ(5/288)
وَلا تَطْلُبَاهَا مِنْ سَنَانٍ وَصَارِمِ ... بِيَوْمِ ضِرَابٍ أَوْ بِيَوْمِ طِعَانِ
فَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ تَخْلَصَا مِنْ أَذَاتِهَا ... مُحِطًا بِهَا الأَثْقَال وَاتبعانِ
وقال آخر:
أَلا كُلُّ حَيِّ هَالِكٍ وَابْنُ هَالِكٍ
وَذُو نَسَبٍ فِي الهَالِكِينَ عَرِيقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ
لَهُ عَنْ عَدُّوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ ... ?
آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلْءِ فِيهَا ... حَذَارِ حَذَارِ مِنْ فَتْكِي وَبَطْشِي
فَلا يَغْرُوكُمَا مِنِّي إِبْتِسَامٌ ... فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالفعْلُ مُبْكِي
آخر: ... أَقُولُ وَيَقْضِي اللَهُ مَا هُوَ قَاضِي ... وَإِنّي بِمَا يَقْضِي الإِلَهُ لَرَاضِي
أَرَى الخَلْقَ يَمْضِي وَاحِدٌا بَعدَ واحِدٍ ... فَيا لَيتَني أَدْرِي لِمَا أَنا مَاضِي
كَأَن لَم أَكُن حَيًّا إِذا حُثَّ غَاسِلي ... وَأَسْرَعَ لَفَّيْ ثِيابِ بَياضِي
أَعْوَامٌ سَرِيعَةُ المُرُورِ، وَشُهُورٌ تَقْتَفِي إِثْرَ شُهُورٍ وَعِبَرٌ بَيْنَ ذَلِكَ تَتْرَى، فَعَلامَ الغُرُورُ، فَلا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا فَقَدْ نَهَاكُمْ اللهُ عَنِ الاغْتِرَارِ بِهَا وَضُرِبَتْ لَكُمْ بِأَخْذِ أَمْثَالِكُم الأَمْثَالُ، أَرَتْكُمْ عِيَانًا كَيْفَ تَقَلَّبَتْ بِأَهْلِهَا الأَحْوَالُ، وَخَدَعَتْهُمْ الآمَالُ، حَتَّى انْتَهَتْ لَهُمْ الآجَالُ، قَبْلَ أَنْ يَحْصُلُوا عَلَى مَا سَيَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ، فَاسْتَيْقِظُوا مِنْ نَوْمِكُمْ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُم عَلَى مَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي الثِّقالِ، فَأَيُّ نَفْسٍ مِنَّا لَمْ تَحْمِلْ ظُلْمًا، وَأَيُّ جَارِحَةًَ مِنْ جَوَارِحِنَا لَمْ تَقْتَرِفُ إِثْمًا، وَأَيُّ عَمَل مِنْ أَعْمَالِنَا يَلِيقُ بِذَلِكَ المَقَامُ، وَأَيُّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِنَا تَمَحَّضَ لِلطَّاعَةِ وَخَلا مِنَ الآثَامِ، لَقَدْ جَنَيْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا بِالذُّنُوبِ جِنَايَة عَظِيمَةً،(5/289)
فَلَيِّنُوا قُلُوبِكُمْ بِذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَاتِ، لَعَلَّهَا تَلِينُ، وَعِظُوهَا بِذِكْرِ القَبْرِ وَفِتْنَتِهِ فَإِنَّهُمَا لَحَقُّ اليقِين، وَذَكِّرُوهَا {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
شِعْرًا: ... وَفِي دُونِ مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتِهَا
إِلَى دَفْعِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ ج
فَجُدَّ وَلا تَغْفَلُ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا
فَعَمَّا قَلِيلِ يَتْرُكُ الدَّارَ عَامِرُ
وَشَمِّرْ وَلا تَفْتُرْ فَعُمْرُكَ زَائِلٌ
وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ
وَلا تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَعِيمَهَا
وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا غِبَّهُ لَكَ ضَائِرُ
أَمَا قَدْ نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ
تَعَاوَرَنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا
وَكَمْ قَدْ نَرَى يَبْقَى لَهَا المُتَعَاوِرُ
فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ
وَلا هُوَ عَنْ تَطْلابِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ ... ?
اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن سَنَةِ الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنَ التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِنَ العَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنَ الآيَاتِ مُنْتَفِعِينَ، وَإِلَى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعِينَ، وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ(5/290)
خَاضِعِينَ وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ المُتَوَسِّطَةِ مَا أَخْبَرِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفِتَنِ التِي تَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَى القَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا القَبْرِ، وَلَيَْس بِهِ الدِّيْنُ إِلا البَلاءُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شِعْرًا: ... يَبكِي رِجَالٌ عَلَى الحَيَاةِ وَقَدْ ... اشْتَقْتُ يَا قَوْمِي إِلَى قُرْبِِ الأَجَلْ
مِن قَبلِ أَنْ تَعْرُضْ لِقَلْبِي فَتْنَةٌ ... فَتَصْرِفُهُ عَنْ طَاعَةِ المَوْلَى الأجَلْ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَّنَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَدْرِي القَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلا المَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ» ، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هُجَيْرَا إِلا: يَا عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ جَاءَتْ السَّاعَةُ، قَالَ: فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتَّى لا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّامِ، فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لأَهْلِ الإِسْلامِ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الإِسْلامِ. قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لا تَرْجِعُ إِلا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لا تَرْجِعُ إِلا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لا تَرْجِعُ إِلا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يمسوا،(5/291)
فَيَفِيءُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ كُلُّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، فَإِذَا كَانَ اليوم الرَّابِعِ نَهَدَ إليهمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الإِسْلامِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَيَقْتَتِلُونَ مَقْتَلَةً، إِمَّا قَالَ: لا يُرَى مِثْلُهَا، وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو الأَبِ كَانُوا مِائَةً، فَلا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ، أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمْ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شِعْرًا:
نَنْسَى المَنَايَا عَلَى أَنَّا لَهَا غَرَضُ
فَكَمْ أُنَاسٍ رَأَيْنَاهُمْ قَدِ اِنْقَرَضُوا
إِنَّا لَنَرْجُو أُمُورًا نَسْتَعِدُّ لَهَا
وَالمَوْتُ دُونَ الَّذِي نَرْجُوهُ مُعْتَرِضُ
لِلَّهِ دُرُّ بَنِي الدُّنْيَا لَقَدْ غُبِنُوا
لِمَا اطْمَأَنُّوا بِهِ مِنْ جَهْلِهِمْ وَرَضُوا
مَا أَربَحَ اللَهُ فِي الدُّنْيَا تِجَارَةَ إِنْـ
سَانٍ يَرَى أَنَّهَا مِنْ نَفْسِهِ عِوَضُ
لَبِئْسَتِ الدَّارُ دَارًا لا نَرَى أَحَدًا
مِنْ أَهْلِهَا نَاصِحًا لَمْ يَعْدُهُ غَرَضُ ... ?(5/292)
.. مَا بَالُ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ لا
يَنْكَفُ عَنْ عَرَضِ الدُّنْيَا وَيَنْقَبِضُ
تَصِحُّ أَقْوَالُ أَقْوَامٍ بِوَصْفِهِمُ
وَفِي القُلُوبِ إِذَا كَشَّفتْهَا مَرَضُ
وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ
وَكُلُّهُمْ عَنْ جَدِيدِ الأَرْضِ مُنْقَرِضُ
وَالحَادِثَاتُ بِهَا الأَقْدَارُ جَارِيَةٌ
وَالمَرْءُ مُرْتَفِعٌ فِيهَا وَمُنْخَفِضُ
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَقَدْ جَدَّ الرَّحِيلُ بِنَا
حَتَّى مَتَى نَحْنُ فِي الغِرَّاتِ نَرْتَكِضُ
نَفْسُ الحَكِيمِ إِلَى الْخَيْرَاتِ سَاكِنَةٌ
وَقَلبُهُ مِنْ دَوَاعِي الشَرِّ مُنْقَبِضُ
اصْبِرْ عَلَى الحَقِّ تَسْتَعذِبْ مَغَبَّتَهُ
وَالصَّبْرُ لِلْحَقِّ أَحْيَانًا لَهُ مَضَضُ
وَما اِستَرَبْتَ فَكُنْ وَقَّافَةً حَذِرًا
قَدْ يُبرَمُ الأَمْرُ أَحْيَانًا فَيَنْتَقِضُ ... ?
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ اتَّقُوا اللهِ وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ عَنْكُمُ البَابَ، وَابْتَدِرُوا الأَوْبَةَ قَبْلَ أَنْ يُرْخَى دُونَكُمْ حِجَابُهَا، وَانْتَهِزُوا فُرَصَ الحَيَاةِ فَقَدْ اقْتَرَبْتْ السَّاعَةُ وَتَضَاعَفَ اقْتِرَابُهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} فَيَا عِبَادَ اللهِ تَذَكَّرُوا مَوَاقِفَ الخَلائِقِ بَيْنَ يَدَي العَزِيزِ الجَبَّارِ فِي يَوْمِ يُحَرَّرُ فِيهِ الحِسَابُ، وَأَعِدُّوا لِلْحِسَابِ صَوَابَ الجَوَابِ، فَلا بُدَّ أَنْ يُطْلَبُ مِنْكُمْ عَلَى كُلُّ مَسْأَلٍة جَوَابُهَا،(5/293)
وَاجْتَنِبُوا التَّسْوِيفَ فَإِنَّ سُيُوفَ المَنِّيَةِ قَاطِعَة، يَا مَعْشَرِ المُسَوِّفِينَ أَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الدُّنْيَا مُخَلَّدُون، وأنتمُ مَعَ العَاصِينَ قَاعِدُونَ، كَمْ مَرَّتْ بِكُمْ مَوَاسِمُ الطَّاعَاتِ، وَأَنْتُمْ عَنِ اسْتِغْلالِهَا بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ رَاقِدُونَ، فَمَا بَالُكَ أَيُّهَا الغَافِلُ تُسَارِعُ فِي مُتَابَعَةِ هَوَاكَ، مَعَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ مُتَكَاسِل، وَتُتْلَى عَلَيْكَ آيَاتُ مَوْلاكَ وَأَنْتَ عَنْهَا مُعْرِضٌ إِعْرَاضَ الجَاهِلَ تَسْمَعُ المَلاهِي فَتَمِيلُ إليها بِقَلْبِكَ وَتُبْصِرُ المَنَاهِي مِنْ تِلفزيُون وَفِديو وَسِينمَاء وَسَافِرَاتٍ وَصُور فَلا تَتَحَرَّكُ وَلا تَتَمَعَّرَ، هَلْ أَنْتَ مُكَذّبٌ بِالتَّحْرِيم، أَوْ مُتَشَّكِكٌ فِي البَعْثِ وَعَذَاب القَبْرِ وَالحِسَابَ وَالصِّرَاطِ وَالمِيزَانِ، فَيَا مُؤْمِنًا بِيَوْمِ الحِسَابِ تَهَيأ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَيَا مُذْعِنًا بِحُقُوقِ الرَّبِ اسْتَعِدَّ لِلْمُطَالَبَةُ وَيَا طَوَيلَ الأَمَلِ كَمْ آمَالٍ أَصْبَحَتْ خَائِبَة، فَكَأنَّكَ بِالمَوْتِ وَقَدْ نَزَلَ بِسَاحَتِكَ وَنَزَلْتَ فِي القَبْرِ مَعَ عَمَلِكَ وَحُشِرْتَ وَعُرِضْتَ عَلَى عَالم سَرِِيرَتِكَ وَعَلانِيَّتِكَ وَكَأَنَّكَ بِالحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالحِسَابِ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَل، وَكَأَنَّكَ بِالأَهْوَالِ وَالمَخَاوُفِ وَقَدْ أَحَاطَتْ وَاشْتَدَّ الخَوْفُ وَالوَجَلُ وَكَأَنَّكَ بِالجَحِيمِ وَقَدْ سُعِّرَتْ وَقَدْ أُزْلِفَتْ، فَالبِدَارَ قَبْلِ انْقِضَاءَ الأَعْمَارِ.
شِعْرًا: ... يَا وَيْحَ مَنْ أَنْذَرَهُ شَيْبُهُ ... وَهُوَ عَلَى غَيّ الصِّبَا مُنْكَمِشْ
يَعْشُوا إِلَى نَارِ الهَوَى بَعْدَمَا ... أَصْبَحَ مِنْ ضُعْفَ القُوَى يَرْتَعِشْ
لَمْ يَهَبِ الشَّيْبَ الذِي مَا رَأَى ... نُجُومَهُ ذُو اللُّبِ إِلا ارْتَعَشْ
فَذَاكَ إِنْ مَاتَ فَسُحْقًا لَهُ ... وَإِنْ يَعِشْ عُدَّ كَمَنْ لَمْ يَعِشْ
فَهَاكَ كَأْسُ النُّصْحِ فَاشْرَبْ وَجُدْ ... بِفَضْلِهِ الكَأْسِ عَلَى مَنْ عَطِشْ
آخر: ... تَجرّدْ مِنَ الدّنيا فإنّك إنّما ... خَرجْتَ إلى الدُّنيا وأنتَ مُجَرَّدُ
وَتُبْ مِنْ ذُنُوبٍ مُوبِقَاتٍ جَنَيْتَهَا ... فَمَا أَنْتَ فِي دُنْيَاكَ هَذِي مُخَلَّدُ
آخر: ... وَمِنْ عَجَبِ الدُّنْيَا كُوني وَصَبْوَتِي ... إليها عَلَى سِنِّي كَأَنّي وَلِيدُهَا
أُجَارِي اللَّيَالِي لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ ... مُشِيحًا كَأَنِّي تِرْبُهَا وَطَرِيدُهَا
اللَّهُمَّ اهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَوَفِّقْنَا لِلْفِقْهِ فِي دِينِكَ القَوِيمِ،(5/294)
واجعلنا مِنَ العَامِلِينَ بِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً الدَّاعِينَ إليه، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة: عِبَادَ اللهِ مَا نَدمَ مَنْ أَطَاعَ اللهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَلا عَادَتْ الطَّاعَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا إِلا بِالخَيْرِ وَالبَرَكَةِ فِي كُلِّ آنٍ، وَالعُصَاةُ فِي كُلِّ زَمَنٍ هُمْ المَمْقُتُونَ مَهْمَا ابْتَسَمْتْ لَهُمْ الدُّنْيَا وَقَضُوا فِيهَا بَعْضَ مَآرِبِهِمْ، وَمَهْمَا هَامُوا بِحُبِّهَا وَأَحْكَمُوا أَسَالِيبَ جَمْعِهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لا تَبْتَسِمُ لِفَاسِقٍ إِلا لِتَسْحَقَهُ، وَلا تَفْتَحُ ذِرَاعَيْهَا لِمُقْبِلٍ عَلَيْهَا إِلا لِتُحْرِقَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} فَمَاذَا غَرَّكَ فِيهَا أَيُّهَا المِسْكِينُ، إِنْ كَانَ الذِي غَرَّكَ فِيهَا كَثْرَةُ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَا نَابَ مَنَابَهُمَا مِنْ أَوْرَاقٍ، فَإِنَّ الجَنَّةَ حَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَتُرَابُها الزَّعْفَرَانُ، وَبِنَاؤُهَا الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَالدُّرُ وَاليَاقُوتُ، وَإِنْ كَانَ الذِي غَرَّكَ مِنْهَا فَوَاكِهُهَا وَمَطْعُومَاتِهَا وَمَا حَوْتَ مِنْ مَتَاعٍ، فَإِنَّ فِي الجَنَّةِ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَإِنْ كَانَ الذِي غَرَّكَ جَمَالُ نِسَائِهَا، فَإِنَّ فِي الجَنَّةِ: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} لَوْ ظَهَرَ بَنَانُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الدُّنْيَا لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ المِرْآةِ، وَتُسَرُّ بِمُشَاهَدَتِهَا سُرُورًا لا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إِلا اللهُ، لا تَنْظُرُ إِلا إليها وَلا تَنْظُرُ إِلا إليك، لا تَتَكَلَّمْ إِلا بِمَا يَسُرُّكَ، تَأْمُرُهَا فَتَخْضَعُ، وَتُحَدِثُّهَا فَتَسْمَعُ، إِذَا تَكَلَّمَتْ أَطْرَبَتْ، لا تَفْتَخِرُ عَلَيْكَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، وَلا تَمُنُّ بِجَمِيلِ صُنْعِهَا، لا تَنْفُرُ مِنْكَ وَلا تَغْضَبُ، وَلا تَلْهُو عَنْكَ وَلا تَصْخَبُ، الجَمَالُ كِسَاؤُهَا، وَالكَمالُ رِدَاؤُهَا، وَالوُدُّ وَالوَفَاءُ مِنْ طَبْعِهَا، لا يَعْلُو صَوْتُهَا عَلَى صَوْتِكَ، وَلا تَجْتَهِدُ إِلا فِي مَرْضَاتِكَ، هَادِئَةً، سَاكِنَةً رَاضِيَةً. تِلْكَ وَأْمَثالُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ المَعْلُومِينَ، مِن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(5/295)
إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيُّهَا المسلمون، لَقَدْ فَازَ وَالله مِنِ اجْتَهَدَ فِيمَا يُنَجِّيهِ، وَخَابَ مَنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا يُخْزِيهِ، وَأَنْتُم الآنَ في فُسْحَةٍ مِنْ أَجَلِكُمْ، وَصِحَّةٍ مِنْ أَبْدَانِكُمْ، وَاكْتِمَالٍ مِنْ عُقُولِكُمْ، وَآخِرُ الأَجَلِ غَائِبٌ عَنْكُمْ، وَلا تَدْرُونَ كَيْفَ حَالُكُم بَعْدَ يَوْمِكم فَسَارِعُوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْقِدَ البَدَنُ صِحَّتَهُ، وَيَقُولُ الحَقُّ كَلِمَتَهُ، فَيَنْقَضِي الأَجَلُ، وَيُخْتَمُ عَلَى العَمَلِ، فَلا يُنْقَصُ فِيهِ وَلا يُزَادُ، وَلا يُعَدَّلُ فِيهِ شَيْءٍ إِلَى المَعَادِ، تَقُولُ: لَيْتَنِي أَطَعْتُ، وَمَا هِي بِنَافِعَةٍ، وَلَيْتَنِي مَا عَصَيْتُ، وَلَيْسَتْ بِدَافِعَةٍ، إِذًا فَأَضْيَعُ النَّاسِ وَأَخْسَرُهم صَفْقَةً مَنْ سَوَّفَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، وَأَشَدُّهُمْ خُسْرَانًا مَنْ لَمْ يُبَادِرْ فِي التَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} وَفِي الحَدِيثِ: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ.
إِلَى اللهِ تُبْ قَبْلَ انْقِضَا زَمَنِ العُمْرِ ... ???? ... أُخَيَّ وَلا تَأْمَنْ مُسَاوَرَةَ الدَّهْرِ ... ???? ... لَقْدَ حَدَّثْتَكَ الحَادِثَاتِ نُزُولَهَا ... ???? ... وَنَادَتْكَ إَلا أَنَّ سَمْعَكَ ذُو وَقْرِ ج ... ???? ... تَنُوحُ وَتَبْكِي لِلأَحِبَّةِ أَنْ مَضُوا ... ???? ... وَنَفَسَكَ لا تَبْكِي وَأَنْتَ عَلَى الأَثْرِ جج ... ? ... ????
آخر: ... وَمَا حَالاتُنَا إِلا ثَلاثُ ... شَبَابٌ ثُمَّ شَيْبٌ ثُمَّ مَوْتُ
وَآخِرُ مَا يُسَمَّى المَرْءُ شَيْخًا ... وَيَتْلُوهُ مِنْ الأَسْمَاءِ مَيْتُ
آخر: ... إِنِّي أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... وَالحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ
غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي ... لَيْلاً فَفَارَقَنِي السُّكُونْ(5/296)
ججج
قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ ... فِي القَبْرِ كَيْفَ تَرَى تَكُونُ
آخر: ... فَبَادِرْ إِلَى الخَيْرَاتِ قَبْلَ فَوَاتِهَا ... وَخَالِفْ مُرَادَ النَّفْسِ قَبْلَ مَمَاتِهَا
سَتَبْكِي نُفُوسٌ فِي القِيَامَةِ حَسْرَةً ... عَلَى فَوْتِ أَوْقَاتٍ زَمَانَ حَيَاتِهَا
فَلا تَغْتَرِرْ بِالعِزِّ وَالمَالَ وَالمُنَى ... فَكَمْ قَدْ بُليْنَا بِانْقَلابِ صِفَاتِهَا
آخر: ... إِذَا مَرِضْنَا نَوَيْنَا كُلَّ صَالِحَةٍ
وَإِنْ شُفِينَا فَمِنَّا الزَّيْغُ وَالزَّلَلُ
نُرْضِي الإلَهَ إِذَا خِفْنَا وَنُسْخِطُهُ
إِذَا أَمِنَّا فَمَا يَزْكُوا لَنَا عَمَلُ ... ?
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسَبِيلِ الطَّاعَةِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى إِتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلا تَجْعَلَنَا مِمَّنْ عَرَفَ الحَقَّ وَأَضَاعَهُ، وَاخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ مِنْكَ يَا كَرِيمُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في الفتن وما يقع في آخرالزمان
عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قاَلَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكم أَن يَعْلَم أَصَابَتْهُ الفِتْنَة أَمْ لا؟ فَلْيَنْظُرْ فَإْنِ كَانَ رَأَى حَلالاً كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا فَقَدْ أَصَابَتْهُ الفِتْنَةُ، وَإِنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا يَرَاهُ حَلالاً فَقَدْ أَصَابَتْهُ. رَوَاهُ الحَاكِمُ.
وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا، مُحْمَرًا وَجْهُهُ، يَقُولُ: «لا إِلَهَ إِلا الله، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليوم مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوَجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بأصْبُعِهِ الإِبْهَامَ وَالتِّي تَلِيهَا، قَالَتْ: فَقُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ(5/297)
أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذيّ، وَابْنُ مَاجِة.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُم بِعَرضٍ مِنَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بنِ عَمْرُو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ يُفَارِقُ فِيهَا الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، تَطِيرُ الفِتْنَةُ فِي قُلُوبِ رِجَالٍ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، حَتَّى يُعَيَّرَ الرَّجُلُ فِيهَا بِصَلاتِهِ، كَمَا تُعَيَّرُ الزَّانِيَةُ بِزِنَاهَا» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي.
قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبَوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ مَا ذُكِرَ فَفَارَقَ رِجَالٌ آبِاءهُم بِسَبِبِ فِتْنَةِ التلفزيون، وَبِسَبَبِ فِتْنَةِ الكُرَةِ، فَارَقَ رِجَالٌ آبَاءهمُ وَإِخْوانهُم وَزَوْجَاتِهِمْ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْهَا، وَوَقَعَ فِي زَمَانِنَا أَيْضًا أُنَاسٌ يَتَهَكَمُونَ وَيَسْخَرُونَ بِالمُصَلِّينَ، وَمَنْ عَلَيْهَا سِيِّمَا الصَّالِحِينَ مِنْ إِعْفَاءِ لِحْيَةٍ، وَاقْتِنَاءِ كُتُبِ السَّلَفِ، وَكَثرةِ تَلاوَةٍ لِكَلامِ اللهِ، وَالبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَيَرْمُونَهُم بِأَنَّهُم رَجْعِيُّونَ وَمُتَأَخِّرُونَ وَمُنْحَطُّونَ، وَضِدَّهُمْ مِمَّنْ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةِ، حَالِقي اللِّحَى، شُرَّابِ الدُّخَانِ، أَهْلِ الخَنَافِسِ وَالتَّوَالِيتَ، يُسَمُّونَهُم المُتَمَدِّنِينَ المُثَقَّفِينَ، وَهَذَا انْعِكَاسٌ نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الإِسْلام {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} .(5/298)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أَعْرَابِيٌّ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ فِي غَنَمٍ لَهُ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَخَذَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، فَأَدْرَكَهُ الأَعْرَابِيُّ فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ وَهَجْهَجَهُ فَعَانَدَهُ الذِّئْبُ يَمْشِي، ثُمَّ أَقْعَى مُسْتَثْفِرًا بِذَنَبِهِ يُخَاطِبُهُ، فَقَالَ: أَخَذْتَ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ، قَالَ: وَاعَجَبًا مِنْ ذِئْبٍ مُقْعٍ مُسْتَثْفِرٍ بِذَنَبِهِ يُخَاطِبُنِي، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَتْرُكُ أَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّخْلَتَيْنِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ، يُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْ نَبَإِ مَا قَدْ سَبَقَ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: فَنَعَقَ الأَعْرَابِيُّ بِغَنَمِهِ، حَتَّى أَلْجَأَهَا إِلَى بَعْضِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيْنَ الأَعْرَابِيُّ صَاحِبُ الْغَنَمِ» فَقَامَ الأَعْرَابِيُّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدِّثْ النَّاسَ بِمَا سَمِعْتَ، وَبمَا رَأَيْتَ» فَحَدَّثَ الأَعْرَابِيُّ النَّاسَ بِمَا رَأَى مِنْ الذِّئْبِ، ومَا سَمِعَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «صَدَقَ آيَاتٌ تَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ أَحَدُكُمْ مِنْ أَهْلِهِ فَتُخْبِرَهُ نَعْلُهُ أَوْ سَبوطُهُ أَوْ عَصَاهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَعَنْ سَهْل بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ أَوْ لا تُدْرِكُوا زَمَانًا لا يُتْبَعُ فِيهِ العَلِِيم، وَلا يُسْتَحْيَ فِيهِ مِنَ الحَلِيمِ، قُلُوبُهُم قُلُوبُ الأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ العَرَبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا(5/299)
نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَهُ مِنْ هَوَاهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ.
وعن عبدِ اللهِ بن عَمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا قُعُودًا عَنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرَهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الأَحْلاسِ قَالَ: «هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ» ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ: «دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمِيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسِ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي المُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرْكٍ عَلَى ضَلْعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاء: «لا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلا لَطِمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، حَتَّى يَصِيرُ النَّاسُ عَلَى فِسْطَاطَيْنِ، فَسْطَاطِ إِيمَانٍ لا نِفَاقَ فِيهِ، وَفِسْطَاطَ نِفَاقَ لا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالحَاكِمُ.
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَة عَظِيمَةٌ، وَدَعْوَاهُمَا وَاِحدَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ.(5/300)
وعن حَبَّةَ العُرَنِي قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ أَبِي مسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ عَلَى حُذَيْفَةَ بنِ اليمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَسْأَلُهُ عَنِ الفِتَنِ فَقَالَ: دُورُوا مَعَ كِتَابَ اللهِ حَيْثُ ما دَارَ، وَانْظُرُوا الفِئَة التِي فِيهَا ابْنُ سُمَيَّةِ فَاتبعُوهَا، فَإِنَّهُ يَدُورُ مَعَ كِتَابَ اللهِ حَيْثُ مَا دَارَ، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: وَمَنْ ابْنُ سُمَيَّة؟ قَالَ: عَمَّارُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، تَشْرَبُ شَرْبَةَ ضِيَاحٍ تَكنْ آخِرَ رِزْقَكَ مِنَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقِّ» . رَوَاهُ الطَّبَرِانِي، وَالبَيْهَقِي.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرْ يَا عَمَّارُ، تَقْتُلَكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
قُلْتث: وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ، وَمَزِيَّةً لَعَلِيّ وَلِعَمَّارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مَعَ الحَقَّ. وَعَنْ إِسْرَائِيلَ بنَ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنْ - يَعْنِي البَصْرِيّ - يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ واللهِ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: إِنِّي لأَرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة - وَكَانَ وَاللهِ خَيْرَ الرَّجَلُيْنِ -: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، وَهَؤُلاءِ هَؤُلاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِي بِنَسَائِهِم، مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إليه رَجُلَيْنِ مَنْ قُرَيْش مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ سُمْرَة، وَعَبْدِ اللهِ بن عَامِر بنِ كُريز، فقالَ: اذْهَبَا إَلَى هَذَا الرَّجُل(5/301)
فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولا لَهُ، وَاطْلُبَا إليه، فَأَتَيَاهُ فَدَخَلا عَلَيْهَ فَتَكَلَّمَا وَقَالا لَهُ، وَطَلَبَا إليه، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بنُ عَلِيّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّة قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبَ إليك وَيَسْأَلُكَ، قَالَ: فَمَنْ لَي بِهَذَا؟ قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهَ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلا قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الحَسَنُ - أَيْ البَصْرِيّ -: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بنُ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى جَنْبِهَ، وَهُوِ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بِيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ المُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ. وَفِي هَذَا الخَبَرِ أَيْضًا مُعْجزَةٌ حَيْثُ وَقَعَ مِصْدَاقُهُ بِمَا كَانَ مِنْ إِصْلاحِ الحَسَنِ بَيْنَ أَهْلِ العِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ.
شِعْرًا: ... نَهَارُكَ فِي بَحْرِ السَّفَاهَةِ تَسْبَحُ
وَلَيْلُكَ عَن ْنَوْمِ الرَّفَاهَةِ يُصْبِحُ
وَفِي لَفْظِكَ الدَّعْوَى وَلَيْسَ إِزَاؤُهَا
مِنَ العَمَلِ الزَّاكِي دَلِيلٌ مُصَحَّحُ
إِذَا لَمْ تُوَافِقْ قَوْلةً مِنْكَ فِعْلَةٌ
فَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِكَ تَفْضَحُ
تَنَحَّ عَنِ الغَايَاتِ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا
طَرِيقُ الهُوِينَا فِي سُلُوكِكَ أَوْضَحُ ... ?(5/302)
.. إِذَا كُنْتَ فِي سِنِّ النَّهْي غَيْرَ صَالِحٍ
فَفِي أَيّ سِنِّ بَعْدَ ذَلِكَ تَصْلَحُ ... ?
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَة، وَارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَحُسْنَ الإِنَابَةِ، وَيَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا العُسْرَى، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
خطبة في ذَمِّ الفِتن لأَحَدِ العُلماء رحمةُ الله عليه
الحمد الله الذي ألبس من شاء من عباده ملابس الهداية والتوفيق وألزمهم كلمة التقوى فصارت الطاعة لهم خير أنيس ورفيق. وألهمهم شغل أوقاتهم بالخير فصرفوا كل وقت لما هو به خليق. أحمده سبحانه وتعالى حمدًا تفرج به الكروب ويتسع به المضيق، وأشكره شكر عبد إذا سمع المواعظ يفيق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد لاذ بجنابه فنجاه من كل كرب وضيق، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أفضل الخلق ذا النسب العريق اللَّهُمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير عشيرة ورفيق.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الفتنة نار شديد حزامها جائرة أحكامها، مسمومة سهامها، ممقوتة أيامها، داعية إلى الشرك أعلامها، تغير النعم وتعجل النقم وتقطع التواصل وَتُصَيِّرُ أَهْلَهَا إِلَى التَّبَاغُضِ وَالتدابرَ أو التَّخَاذُلِ يُطْلِعُ الشَّيْطَانُ فِيهَا رأسه، وَيَبَثُّ بها في القلوب وسْوَاسَه فَيَجْعَلُ الآراءَ حَائِرَةْ وَالأحكامَ جَائِرَة(5/303)
وَالأهواءَ مُخْتلفةْ وَالأحقادَ مُكْتَنِفَةْ وَجَمَرَاتِ الفُؤَادِ مُوَقَّدَةْ وَطُرُقَاتِ الرَّشَاِد مُؤْصَدَةُ حتى يكون القريب بعيدًا وذُو الأهل والعشيرة وحيدًا.
وهل هي إلا نار وقودها الغضب ومذكيها الهوى وطاعة الشيطان والصخب وقادحها الجهل واللعب ومؤججها العناد والكذب وموقدها الأديان والأنفس والأموال ومآل أهلها أشر مآل تصير الديار بلا وقع وتعجز خروقها الراقع موقظها ملعون وقاتلها ومقتولها إلى النار والهون تطمع العدو في أهلها وتقطع المودة من أصلها تقطع سبل الولد والمال وتصير أهلها إلى سوء حال ليلهم سهر ونهارهم كدر.
فالله عباد الله أن يوري الشيطان بينكم زنادها أو يورد قلوبكم أقبح ميرادها فيظفر منكم بخبث السرائر ويطحنكم بدواهي الجوائر، ثم تبوءوا في الدنيا بعارها وشارها وفي الآخرة بخسارتها ونارها، ولا تلتذوا في العاجلة بشرب عقارها فتندموا في الآخرة غب إخمارها واحذروا أن تَسْلُكُوا من الفتن سبلها وألزموا كلمة التقوى.
وكونوا أحق بها وأهلها وذروا نخوة الحمية ودعوة الجاهلية فقد جعلكم الله بالإسلام إخوانًا وأمركم أن تكونوا على البر والتقوى أعوانًا ولا تكونوا كالذين أرجأوا العمل بسوف وحتى بأسهم بَيْنَهُمْ شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى فقد سمعتم ما وصف الله به نبيه المختار وأصحابه الخيرة الأبرار حين ضرب لهم في كتابه مثلاً وأمركم باتباعه قولاً وعملاً فقال جل جلاله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} .. إلخ الآية.
وقال ?: «إن من الناس أناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس أناسًا مغاليق للخير مفاتيح للشر، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير وويل لمن كان مغلاقًا للخير مفتاحًا للشر» . وقال ?: «الفتنة راقدة لعن الله موقظها» ، وقال ?:(5/304)
«إذا التقى المسلمون بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» .
وقال ?: «يأتي المقتول يوم القيامة تشخب أوداجه دمًا متعلقًا بالقاتل يقول: يا رب سل عبدك هذا فيم قتلني» .
وقال ? في حديث أبي موسى الأشعري: «يكون في آخر الزمن فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا وَيُمْسِي كافرًا، وَيُمْسِي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا» .
إن الفتنة أشد من القتل فهي داء ممزوج بالمرارة شاربها وسفينة غارقة في الهلاك راكبها ونار محرقة بلهيبها موقدها ما تحملها قوم إلا ندموا عليها ولا أضرم نارها أحد إلا وقع فيها وهل يضرمها إلا كل سفيه جاهل ولا يصطليها إلا كل حليم عاقل.
فتأكل بلهبها أموالهم وتسلم إلى المقابر أبطالهم يهرع إلى أهلها من كل دار شيطانها ويصبح لهم في كل رأس أجواؤها فحينئذٍ تكون الغلبة للشياطين وتكون الظلمة عليهم سلاطين فيؤمِّرون سفهاءهم فيضلون ويخالفون رأي عقالهم فيهلكون أو يَضْمَحِلًُّون.
جعلني الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جسنه وأعد عدة تصلح لرمسه واستدرك في يومه ما ضيعه في أمسه إن أحلى ما وعظ به الواعظون وتلذذ لخطابه المستمعون كلام من نحن لعفوه وكرمه مؤملون والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون: {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآيات بارك الله لي ولكم.
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَتَوَّفَنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا وَقَدْ قَبِلْتَ اليسِيرَ مِنَّا وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ ولا هُمُ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/305)
موعظة
عِبَادَ اللهَ لَقْدَ أَصْبَحَ النَّاسُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا أَهَمُّ عِنْدَهُمْ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعُونَ، فِي لَيْلِهْمْ وَنَهَارِهم مَشْغُولِينَ شُغْلَ العَاشِقِينَ المُسْتَغْرِقِينَ كَأَنَّهُمْ مَا خُلِقُوا إِلا لَهَا، وَأَمَّا الدِّينُ فَلا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِم وَإِنْ خَطَرَ فَطيفٌ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، أَثَّرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي هَذَا الإِنْهِمَاكِ العَظِيمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ بَلَغَ فِي تَهْوِينِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ الغَايَةَ وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ تَرَى الشَّخْصَ يَرْتَدُّ عَنِ الدِّينِ فَلا يُسْأَلُ وَلا يُنَاقَشُ، وَلِذَلِكَ نْزِعَتْ البَرَكَةُ مِنْ أَعْمَارِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَوْلادِنَا، وَأَصْبَحْنَا وَقَدْ ضَرَبَ الذُّلُّ عَلَيْنَا سُرَادِقَةُ وَنَحْنُ كَأَنَّا لَسْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ، أَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَعْمَارِنَا فَلأنَّ أَحَدُنَا يَمُرُّ عَلَيْهِ الشَّهْرُ وَالعَامُ لا تَرَى لِحَيَاتِهِ مِنْ َأثرَ فِي الإِصْلاحِ وَتَوْجِيهِ المُنْحَرِفِينَ، وَالقِيَامِ التَّامِ المُثْمِر بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفَ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وَالسَّعْيِ فِي إِزَالَةِ مَا يَمَسُّ الدِّينَ مِمَّا حَلَّ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ مِنْ المُنْكَرَاتِ وَالمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ، وَلَوْ سَأَلْتَ أَحَدُنَا هَلْ لَكَ مِنْ حَيَاتِكَ أَثٌر نَافِعٌ لَتَلَجْلَجَ فِي الكَلامِ يَنْظُرُ وَرَاءَهُ فَلا يَرَى أَثَرًا، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الأَيَّامَ مَرَّتْ سُدَى تَتْلُوهَا الأَيَّامُ هَذَا مِنْ عَدَمْ البَرَكَةِ فِي أَعْمَارِنَا، وَأَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَعْمَالِنَا فلأَنَّ أَحدُنَا مَا دَامَ مُسْتَيْقِظًا يَتَحَرَّكُ وَلا تَنْقَطِعُ أَقْواله وَلا أَفْعَاله وَلَكِنَّهَا تَدُور بَيْنَ حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، أَوْ عَبَثٍ لا يَلِيقُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الرِّجَالِ، فَتَجِدُ الكَذِبَ وَالنَّمِيمَةَ وَالقَذْفَ وَالغِيبَةَ وَالتَّمَلُّقِ وَالنِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ وَتَعْظِيمَ العُصَاةِ المُجَاهِرينَ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَمْوَالِنَا فلأَنَّ أَحَدَنَا يَكُونُ عِنْدَهُ المَالُ الكَثِيرُ فَتَرَاهُ يُبَعْثِرَهُ فِي سَبِيلِ شَهَوَاتِهِ وَمَلَذَّاتِهِ الفَاجِرَةِ أَوْ يَكْنِزَهُ وَلا يُخْرِجُ(5/306)
مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإْنْ عَرَضْتَ عَلَيْهِ مَشْرُوعًا دِينِيًا فَرَّ مِنْكَ مَذْعُورًا فَأَيُّ بَرَكَةٍ تَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا المَالُ، وَأَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَوْلادِنَا فلأَنَّهُمْ فِي صِغَرِهِمْ يَكُونُونَ شَيَاطِينَ يُتْعِبُونَ فِي التَّرْبِيَةِ آبَاءَهُم وَأُمَّهَاتِهِم، فَإِذَا شَبُّوا شُغِلُوا بِشَهَوَاتِهِمْ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهمْ لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ صُنُوفِ البِرِّ وَأَكْثَرُهُمْ يَكُونُ طُولَ حَيَاتِهِ حَرْبًا عَلَى وَالِدَيْهِ يُرِيهُمَا أَنْواعَ الإِهَانَاتِ وَالأَذَايَا وَأَيُّ بَرَكة فِي أَوْلادٍ هَذَا حَالهُم مَعَ وَالدَيْهِم، وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ نَزْعَ البَرَكَةُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَنَا عَلَى إِقْبَالِنَا عَلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِنَا عَنِ الدِّينِ فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
شِعْرًا: ... زَمَانُ كُلُّ حِبّ فيه خَبُ ... وَطَعْمُ الخلّ خَلُ لَوْ يُذَاقُ
لَهُمْ سُوقٌ بَضَاعَتهُ النِّفَاقُ ... فَمَنْ نَاقَ يَكُونُ لَهُ نَفَاقُ
آخر: ... خَمْسُونَ عَامًا تَوَلَّتْ فِي تَصَرُّفِهَا ... عُسْرٌ وَيُسْرٌ عَلَى الحَالين أَشْهَدُهُ
لَمْ أَبْكِ مَنْ زَمْنٍ صَعْبٍ فُجِعْتُ بِهِ ... إِلا بَكَيْتُ عَلَيْهِ حِينَ أَفْقِدُهُ
وَمَا جَزِعَتْ عَلَى مَيْتٍ فُجِعْتُ بِهِ ... إَلا ظَلَلْتُ لِسَتْرِ القَبْرِ أُحْسُدُهُ
وَمَا ذَمَمْتُ زَمَانًا فِي تَقَلُّبِهِ ... إِلا وَفِي زَمَنِي قَدْ صِرْتُ أَحْمَدُهُ
آخر: ... أَحُنُّ إِلَى وَقْتٍ مَضَى بِغَضَارة ... إِذِ العَيْش رَطبٌ وَالزمانُ مُوَاتي
وَأَبْكِي زَمَانًا صَالِحًا قَدْ فَقدتُهُ ... يُقَطِّعُ قَلْبِي ذِكْرُهُ حَسَرِاتِ
آخر: ... هَذَا الزَّمَانُ الذِي كُنَّا نُحَاذِرُهُ
فِي قَوْلِ كَعْبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ
وَقْتٌ بِهِ الحَقُّ مَرْدُودٌ بِأَجْمَعِهِ
وَالظُّلْمُ وَالبَغْيُ فِيهِ غَيْرُ مَرْدُودِ
إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلَ لَهُ غِيَرٌ =
لَمْ يُبْكَ مَيْتٌ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمْولُودِ ... ?(5/307)
ج
... زَعَمُوا لُبَيْدًا قَالَ فِي عَصْرٍ لَهُ
وَبَقِيْتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
وَأَرَاهُ أَعْدَى خَلْفُه مِنْ خَلْفِهِ
جَرَبًا وَأَعْيَا الدَّاءُ كُلَّ مُجَرِّبِ
وَتَضَاعَفَ الْجَربُ الَّذِي عَدْوَاهُ لا
تَنْفَكُّ عَنْ مَاضٍ وَلا مُتَعَقِّبِ
وَتَضَاعَفَ الدَّاءُ العُضَالُ فَخَلْفَنَا
بَلَغَ الجُذَامَ وَعَصْرُنَا عَصْرٌ وَبِي ... ?
اللَّهُمَّ أَشْرِبْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبَنَا وَوَفَّقْهَا لِلتَّفَكُّرِ فِي عَظِيم نِعَمِكَ عَلَيْنَا لِتَقْوَى وَتَزْدَادَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَحْبَابكَ وَبُغْضَ أَعَدَائِكَ. اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَلا تُزْغْهَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ مُحَمَّدٍ بنِ سَعِيدٍ - يَعْنِي ابْنُ رُمَّانَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِيَزِيد بنِ مُعَاوِيَةَ: قَدْ وَطَّأْتَ لَكَ البِلادَ، وَفَرشْتُ لَكَ النَّاسَ وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكُم إِلا أَهْلَ الحِجَازِ فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُمْ رَيْبٌ فَوَجِّهْ إليهمْ مُسْلِمُ بنُ عُقْبَةَ المَرِّيّ، فَإِنِّي قَدْ جَرَّبتَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مَثَلاً لِطَاعَتِهِ وَنَصِيحَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَ يَزِيدُ خِلافُ ابْنِ الزُّبَيْر وَدُعَاؤهُ إِلَى نَفْسِهِ دَعَا مُسْلِمَ بنِ عُقْبَةَ المَرِّيّ - وَقَدْ أَصَابَهُ الفَالِجُ - وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَهِدَ إليَّ فِي مَرَضِهِ: إِنْ رَابَنِي مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ رَائِبٌ أَنْ أُوَجِّهَكَ إليهمْ، وَقَدْ رَابِنِي فَقَالَ: إِنِّي كَمَا ظَنَّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ اعْقِدْ لِي، وَعَبِّ الجُيُوشَ، قَال: فَوَرَدَ المَدِينَةَ فَأَبَاحَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ،(5/308)
أَنَّهُمْ أَعْبَدٌ لَهُ قِنٌّ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَعْصِيَتِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ إِلا رَجُلاً وَاحِدًا مِنْ قُرَيْشٍ أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ يَزِيدَ عَلَى أَنَّكَ عَبْدٌ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَعْصِيَتِهِ قَالَ: لا بَل فِي طَاعَةِ اللهِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَتَلَهُ، فَأَقْسَمَتْ أُمَّهُ قَسَمًا لَئِنْ أَمْكَنَهَا اللهُ مِنْ مُسْلِمٍ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَنْ تُحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَلَمَّا خَرَجَ مُسْلِمُ بنُ عُقْبَة مِنَ المَدِينَةِ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ فَمَاتَ، فَخَرَجَتْ أُمَّ القُرَشِيّ بِأعْبُدٍ لَهَا إِلَى قَبْرِ مُسْلِم بن عُقْبَة، فَأَمَرَتْ أَنْ يُنْبَشَ مِنْ عِنْدَ رَأْسِهِ فَلَمَّا وَصَلُوا إليه إِذَا ثُعْبَانٌ قَدِ الْتَوَى عَلَى عُنُقِهِ قَابِضًا بِأَرْنَبَةِ أَنْفِهِ يَمُصُّهَا، قَالَ: فَكَاعَ القَوْمُ عَنْهُ. وَقَالُوا: يَا مَوْلاتِنَا انْصَرِفِي فَقَدْ كَفِاكِ اللهِ شَرُّهُ وَأَخْبَرُوهَا، قَالَتْ: لا أَوْ أَوْفِي للهِ بِمَا وَعَدْتُهُ، ثُمَّ قَالَتْ: انْبِشُوا مِنْ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، فَنَبَشُوا فَإِذَا الثُّعْبَانُ لاوِيًا ذَنَبُه بِرَجْلَيْهِ، قَالَ: فَتَنَحَّتْ فَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ إِنَّمَا غَضِبْتُ عَلَى مُسْلِم بنِ عُقْبَةَ اليوم لَكَ فَخَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمَّ تَنَاوْلَتْ عُودًا فَمَضَتْ إِلَى ذَنَبِ الثُّعْبَانِ فَانْسَلَّ مِنْ مُؤَخِّرِ رَأْسِهِ فَخَرَجَ مِنَ القَبْرِ ثُمَّ أمرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ مِنَ القَبْرِ فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ فِي ثَقِيفَ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ النَّوَوِي: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِالكَذَّابِ هُنَا: المُخْتَارُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ. وَبِالمُبِيرُ: الحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ.
وَعَنْ أَبِي نَوْفَلَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَلَى عقَبةِ المَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْش تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ(5/309)
كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لأُمَّةُ خَيْرٍ، ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَبَلَغ الحَجَّاجُ مَوْقِفُ عَبْدِ اللهِ وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلَ إليه، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ اليهود، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولُ لَتَأتِيَنِّي أَوْلا لأَبْعَثَنَّ إليك مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبْتَ، وَقَالَتْ: وَاللهِ لا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثُ إلى مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ: فَقَالَ: أَرُونِي سَبْتِي فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. أَنَا وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِ، وَأَمَّا الآخِرُ فَنِطَاقُ المَرْأَةِ التِي لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا: «أَنَّ فِي ثَقِيفَ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» ، فَأَمَّا الكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا المُبِيرُ فَلا إِخَالُكَ إِلا إِيَّاهُ، قَالَ فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي قَالَ: لَمَّا ظَفَرَ الحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ وَمَثَّلَ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أُمِّ عَبْدِ اللهِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ وَقَدْ قَتَلتَ ابْنِي؟ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي حَرَمِ اللهِ، فَقَتَلْتُهُ مُلْحِدًا عَاصِيًا حَتَّى أَذَاقَهُ اللهُ عَذَابًا أليمًا، وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّ المُسْلِمِينَ، وَاللهِ لَقَدْ قَتَلْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا بَرًّا بِوَالِدَيْهِ، حَافِظًا لِهَذَا الدِّينِ، وَلَئِنْ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ لَقْدَ أَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، وَلَقَدْ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الآخِرُ مِنْهُمَا أَشَرُّ مِنَ الأَوّلِ، وَهُوَ المُبِيرُ» ، وَمَا(5/310)
هُوَ إِلا أَنْتَ يَا حَجَّاجُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالحَاكِمُ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقِيلََ: إِنَّ الحَجَّاجَ قَالَ لَهَا: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْتِ أَنَا المُبِيرُ.
وَعَنِ الحَسَن قَالَ: قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لأَهْلِ الكُوفَةِ: اللَّهُمَّ كَمَا أئِتَمْنُتُهم فَخَانُونِي، وَنَصَحْتُ لَهُمْ فَغَشُّونِي، فَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ فَتَى ثَقِيف الذَّيَّالِ المَيَّالُ يَأْكُلُ خُضْرَتَهَا، وَيَلْبِسُ فَرْوَتَهَا وَيَحْكُمَ فِيهِم بِحُكْمِ الجََاهِلَيَّةِ. قَالَ الحَسَنُ: وَمَا خَلَقَ اللهُ الحَجَّاجَ يَوْمَئِذٍ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَاقِ، وَالبَيْهَقِي فِي الدَّلائِلِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. قَالَ البَيْهَقِيّ: وَلا يَقُولُ عَلِي ذَلِكَ إلا تَوْفِيقًا.
وَعَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانَ قَالَ: أَحْصُوا مَا قَتِلِ الحَجَّاجُ صَبْرًا، فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ الأَصْمَعِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم عَنْ عُبَادَةَ بنِ كَثِيرٍ عَنْ قَحْدَمٍ قَالَ: أَطْلَقَ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ المَلِك فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاحِدَا وَثَمَانِينَ أَلِفًا، مِنْهُم ثَلاثُونَ أَلْفَ امْرَأةٍ، وَعُرضَتْ السُّجُونُ بَعْدَ الحَجَّاج فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلاثَةً وَثَلاثِينَ أَلْفًا لَمْ يَجبْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم قَطْعٌ وَلا صَلْبٌ. وَقَالَ الرَّيَاشِي: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ الأَزْرَقُ عَنِ السَّرِيّ بنِ يَحْيَى قَالَ: مَرَّ الحَجَّاجُ فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ فَسَمِعَ اسْتِغَاثَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: أَهْلُ السُّجُونَ يَقُولُونَ: قَتَلَنَا الحَرُّ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلا أَقَلَّ مِنْ جُمْعَةٍ حتَىَّ قَصَمَهُ اللهُ قَاِصُم كُلِّ جَبَّارٍ.(5/311)
وَعَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ الأُمَمَ تَخَابَثَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَخْرَجَتْ كُلُّ أُمَّةٍ خَبِيثَهَا ثُمَّ أَخْرَجْنَا الحَجَّاجَ لَغَلْبَنَاهُمْ. رَوَاهُ أَبُو نَعِيمٍ فِي الحِلْيَةِ.
وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ شَرْحُ الدُّرَّةِ البَهِيَّةِ: وَقَدْ أُحْصِيَ الذِينَ قَتَلَهم الحَجَّاجُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَبَلَغُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا (120000) .
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاح قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا بِالقِسْطِ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلُ مَنْ يَثْلِمُهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّة يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالبَزَّارُ.
وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وُلِدَ لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيّ ? غُلامٌ فَسَمَّوْهُ الوَلِيدُ، فَقَالَ النبي ?: «سَمَّيْتُموهُ بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُم، ليَكُونُنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الوَلِيدُ لَهُوَ أَشَرَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ الهَيْثَمِيّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: رِجَاله ثِقَاتٌ.
شِعْرًا: ... خَفِ اللهِ فِي ظُلْمِ الوَرَى وَاحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يَوْمَ غَضَّ الظَّالِمِينَ عَلَى الْيَدِ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ عَنْ ذَاكَ غَافِلاً ... وَلَكِنَّهُ يُمْلَي لِمَنْ شَا إِلَى الغَدِ
فَلا تَغْتَرِرْ بِالحِلْمِ عَنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ ... سَيَأخُذُهُ أَخْذًا وَبِيلاً وَعَنْ يَدِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدًا، ولا تُشْمِتْ بِنَا أَحَدَا. اللَّهُمَّ رَغَبْنَا فِيمَا يَبْقَى، وزهدنا فيما يَفَنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه. اللَّهُمَّ إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا(5/312)
من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللَّهُمَّ يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا مَنْ تَعْنُوا له الوجُوه وتخشع له الأصوات وفقنا لصالح الأعمال واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
موعظة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَقْدُرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ المَعْرِفَةُ التِي لا تَلِيقُ بِجَلاله وَعَظَمَتِهِ، وَلَوْ عَرَفُوهُ هَذِهِ المَعْرِفَةَ وَقَدَّرُوهُ مَا صَدَّقَ العَقْلُ أَنْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الحَالِ، إِنَّ العَارِفَ بِاللهِ تَعَالَى يَخْشَاهُ، فَتَعْقِلُهُ هَذِهَ الخَشْيَةُ عَمَّا لا يَنْبَغِي مِنَ الأَفْعَالِ كَيْفَ لا وَهَذَا القُرَآنُ يَقُولُ اللهُ فِيهِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} العَارِفُ بِاللهِ تَعَالَى لا يَجْرُؤُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ المُنْكَرَاتِ لأَنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْمَعُ السِّرَّ واَلنَّجْوَى، وَلا يَجْرُؤ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ فِي عَمَلٍ لَيْسَ بِحَلالٍ، لأَنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرَاهُ مَهْمَا اخْتَفَى وَاجْتَهَدَ فِي الاخْتِفَاءِ وَكَذَلِكَ لا يُقْدِمُ وَيَعْزِمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ لأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِوَعِيدِ اللهِ عَلَى مَنِ اجْتَرَأَ وَانْتَهَكَ المَحْظُورَاتِ، العَارِفُ بِاللهِ حَقّ المَعْرِفَةَ لا يَنْطَوِي عَلَى رَذِيلَةٍ كَالكِبْرِ وَالعُجْبِ وَالحِقْدِ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الرَّذَائِلِ المَمْقُوتَاتِ لأَنَّهُ لا يُؤْمِنُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ لا يَخْفَى عَلَى مَنْ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، فَلا يَسْتَرِيحُ حَتَّى يَكُونَ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ مُطَهَّرًا عَنِ الفَوَاحِشِ، وَكَذَلِكَ لا يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا وَيَبْتَعِدُ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الرِّيَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ لا تَسْمَعُ مِنْ فَمِهِ عِنْدَ نُزُولِ البَلا إِلا الحَسَنَ الجَمِيلَ فَلا يَغْضَبُ لِمَوْتِ عَزِيزٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ، أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ غَضَبَهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الحَكِيمِ العَلِيمِ اللَّطِيفِ(5/313)
الخَبِيرِ، وَلا يَصْدُرُ مِنَ العَارِفِ بِاللهِ حَسَدٌ لِخَلْقِ اللهِ عَلَى مَا أَوْلاهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ قَسَّمَ النِّعَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ وَلَيْسَ لِقِسْمَتِهِ رَادُّ، وَكَذَلِكَ العَارِفُ لا يَيْأَسْ مِنْ زَوَالِ شِدَّةٍ مَهْمَا تَعَقَّدَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ، وَلا يَيْأَسُ مِنْ حُصُولِ خَيْرٍ مَهْمَا سَمَا وَابْتَعَدَ، لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ الأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللهِ الذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، العَارِفُ بِاللهِ لا يُقَنِّطَ المُؤْمِنُ العَاصِي مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلا يُؤَمِّنُ المُحْسِنَ، لَكِنَّهُ يَرْجُو لِلْمُحْسِنِ وَيَخَافُ عَلَى المُسِيءِ، العَارِفُ بِاللهِ لا يَغُشُّ مُؤْمِنًا، وَلا يُسِيءُ إِلَى الجَارِ العَارِفُ بِالله يُمُيِّزُ بَيْنَ الأَصْدِقَاءِ المُخْلِصِينَ مِنَ المُبَهْرِجِينَ المُزَيَّفِينَ لكثرة تَفرُسه فيهم قال بَعْضُهُمْ:
أَلْمْ تَعْلَمْ بِأَنِّي صَيْرَفِيٌّ ... أَحُكُ الأَصِدْقَاءَ عَلَى مَحَكِّ
فَمِنْهُمْ بَهْرَجُ لا خَيْرَ فِيهِ ... وَمِنْهُمْ مَنْ أُجَوِّزُهُ بِشَكّ
وَمِنْهُم خَالِصُ الذَّهَبِ المُصَفَّى ... بِتَزْكِيَتِي وَمِثْلِي مَنْ يُزَكِي
اللَّهُمَّ أعِذْنَا بِمَعافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِرَضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ واحْفَظ جَوارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَة أمْرك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةَ الوَدَاعَ، ثُمَّ أَخَذَ بِحَلَقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ» ؟ فَقَامَ إليه سَلْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْبِرْنَا فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِضَاعَةُ الصَّلاةِ، وَالمَيْلُ مَعَ الهَوَى، وَتَعْظِيمُ رَبِّ المَالِ» ، فَقَالَ سَلْمَانُ: وَيَكُونَ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ تَكُونُ الزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَالفَيْءُ مَغْنَمًا، وَيُصَدَّقُ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ الخَائِنُ، وَيَخُونُ الأَمِينُ، وَيَتَكَلَّمُ الرُّوَيْبِضَةُ» ، قَالُوا:(5/314)
وَمَا الرَّويبِضَةُ؟ قَالَ: «يَتَكَلَّمُ فِي النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمَ، وَيُنْكِرُ الْحَقَّ تِسْعَةً أَعْشَارِهِمْ، وَيَذْهَبُ الإِسْلامُ فَلا يَبْقَى إِلا اسْمُهُ، وَيَذْهَبُ الْقُرْآنُ فَلا يَبْقَى إلا رَسْمُهْ، وَتُحَلَّى الْمَصَاحِفُ بِالذَّهَبِ، وَتَتَسَمَّنُ ذُكُورُ أُمَّتِي، وَتُكُونُ الْمشُورَةُ لِلإِمَاءِ، وَيَخْطُبُ عَلَى الْمَنَابِر الصِّبْيَانُ، وَتَكُونُ الْمُخَاطَبَةُ لِلنِّسَاءِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ وَالْبِيعُ، وَتُطَوَّرُ الْمَنابِرُ، وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ مَعَ قُلُوبٍ مُتَبَاغِضَةٍ، وَأَلْسُنٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ جَمَّةٍ» . قَالَ سَلْمَانُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ أَذَلَّ مِنْ الأمَةِ، يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ مِمَّا يَرَى مِنْ الْمُنْكَرِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، وَيَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَيُغَارُ عَلَى الْغُلْمَانِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَكُونُ أَمَرَاءُ فَسَقَةٌ، وَوُزَرَاءُ فَجَرَةٌ، وَأُمَنَاءُ خَوَنَةٌ يُضِيعُونَ الصَّلاةَ، وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُمْ فَصَلُّوا صَلاتِكُمْ لِوَقْتِهَا عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَجِيءُ سَبْيٌ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَسَبْيٌ مِنْ الْمَغْرِبِ جُثُاؤُهُمْ جُثَاءَ النَّاسِ، وَقُلُوبهُم قُلُوبُ الشَّيَاطِينَ، لا يَرْحَمُونَ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّرُونَ كَبِيرًا، عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَحُجُّ النَّاسُ إِلى هَذَا الْبَيْتِ الْحَرَامِ، تَحُجُّ مُلُوكُهُمْ لَهْوًا وَتَنَزُّهًا، وَأَغْنِيَاؤُهُمْ لِلتِّجَارَةِ، وَمَسَاكِينُهم لِلْمَسْأَلَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ رِيَاءً وَسُمْعَةً» . قَالَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَفْشُو الْكَذِبُ، وَيَظْهَرُ الْكَوْكَبُ لَهُ الذَّنْبُ، وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ، وَتَتَقَارَبُ الأَسْوَاقُ» . قَالَ: وَمَا تَقَارُبُهَا؟ قَالَ: «كَسَادُهَا، وَقِلَّةُ أَرْبَاحِهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا فِيهَا حَيَّاتٌ صُفْرٌ فَتَلْتَقِطُ رُؤَسَاءَ الْعُلَمَاءِ لَمَّا رَؤا الْمُنْكَرِ فَلَمْ يُغَيُّرُوهُ» . قَالَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ» . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.(5/315)
وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّ عَشِيَّةِ خَمِيسِ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُمَاتُ فِيهِ الصَّلاةُ، وَيُشْرَفُ فِيهِ الْبُنْيَانُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْحَلَفُ وَالتَّلاعُنُ، وَيَفْشُوا فِيهِ الرُّشَا وَالزِّنَا، وَتُبَاعُ الآخِرَةُ بِالدُّنْيَا، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَالنَّجَا النَّجَا. قِيلَ: وَكَيْفَ النَّجَا؟ قَالَ: كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلاسِ بَيْتِكَ، وَكُفَّ لِسَانَكَ وَيَدَكَ. رَوَاهُ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ الْجِوَارِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَأَنْ يُعَطَّلَ السَّيْفُ مِنْ الْجِهَادِ، وَأَنْ تُخْتَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ» . رَوَاهُ ابنُ مَردَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيِّ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الصَّلاةُ فيهِ طَويلَةٌ، والْخُطْبَةُ فِيهِ قَصِيرَةُ، وَعُلمَاؤُه كَثيرٌ، وَخُطَبَاؤُه قَليلٌ، وَسَيَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ الصَّلاةُ فيهِ قصيرةٌ والْخُطبةُ فيهِ طويلةٌ، خُطَبَاؤُهُ كَثِيرٌ، وَعُلَمَاؤُهُ قَلِيلٌ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ، صَلاةُ الْعَشِيّ إِلى شَرْقِ الْمَوْتَى، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّ الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا وَلِيَجْعَلْهَا مَعَهُمْ تَطَوُّعًا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي قَالَ الْهَيْثَمِيّ: وَرِجَاله رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَرَوَى الإِمَامُ مَالِكْ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالِ لإِنْسانٍ: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قَُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطَى، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةُ، وَيُقَصِّرُونَ الْخُطْبَةَ، يُبْدُونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ.
وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتَضْيَّعُ حُدُودُه كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطَى يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِّرُونَ الصَّلاةَ، يُبْدُونَ فِيهِ أَهْوَاءهُم، قَبْلَ أَعْمَالِهِم.(5/316)
قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أُمُورٌ وَقَعَتْ فِي زَمَنِِنَا، مِنْهَا قِلَّةُ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْكَلِمَةِ، أَمَّا الْمُتَسمُونَ فَمَوْجُودُونَ بدُونِ مَعْنَى، وَمِنْهَا مَا وُجِدَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُجِيدِينَ لِلْقرَاءَةِ، الْمُضِيِّعِينَ لِلْعَمَلِ، تَسْمَعُهُ مِنْهُمْ غَضًّا طَرِيًّا بِتَجْوِيدٍ وَفَصَاحَةٍ، وَمِنْهَا إِطَالَةُ الْخُطْبَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ زَمَنِنَا وَتَقْصِيرِ الصَّلاةِ، وَهَذا خِلافُ السُّنَّةِ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَقِلَّةُ إِعْطَائِهِمْ، فَهَؤُلاءِ طَرِيقَتُهُمْ ضِدُّ طَرِيقَةِ السَّلَفِ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الانْتِكَاسِ، وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَوَافَقَ عِلْمَه عَمَلُه، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهمْ، يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُم، وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهم عَلانِيَّتَهُمْ يَجْلِسُونَ حِلَقًا فَيُبَاهِي بَعْضُهُم بَعْضًا، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لِيَغْضَب عَلَى جَلِيسِه أَنْ يَجْلِسَ إِلى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ أُولَئِكَ لا تَصْعَدُ أَعْمَالَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إِلى اللهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِي.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا الأَثَرُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ لأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ غَيْبِيّ فَلا يُقَالُ إِلا عَنْ تَوْقِيفٍ.
وَعَنْ أبِي الزَّاهِرِيَّةِ - وَاسْمُهُ حُدَيْرُ بنُ كُرَيْبٍ - يَرْفَعُ الْحَدِيثَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى قَالَ: أَبُثُّ الْعِلْمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حَتَّى يَعْلَمَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ، أَخَذْتُهُم بِحَقي عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيّ وَأَبُو نَعِيمٍ فِي الْحِلْيَةِ قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَة وَقَعَتْ طِبْقَ مَا ذكر.
وَعَنْ عَمْرو بن تَغْلِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكْثُرَ التُّجَّارُ، وَيَظْهَرَ(5/317)
الْقَلَمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَدِهِ.
شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْءَ يُودِي شَبَابُهُ
وَأَنَّ الْمَنَايَا لِلرِّجَالِ تُشَعِّبُ
فَمِنْ ذَائِقٍ كَأْسًا مِن الْمَوْتِ مُرَّةً
وَآخَرُ أُخْرَى مِثْلَهَا يَتَرَقَّبُ
لَهَا مِنْهُمُ زَادٌ حَثِيثٌ وَسَائِقٌ
وَكُلٌّ بِكَأْسِ الْمَوْتِ يَوْمًا سَيَشْرَبُ
وَمَا وَارِثٌ إِلا سَيُورَثُ مَاله
وَلا سَالِبٌ إِلا قَرِيبًا سَيُسْلَبُ
وَلا آلِفٌ إِلا سَيَتْبَعُ إِلْفَهُ
وَلا نِعْمَةٌ إِلا تَبِيدُو وَتَذْهَبُ
وَمَا مِنْ مُعَانٍ فِي الْمَصَائِب جَمَّةٌ
يُعَاوِرُهَا الْعَصْرَانِ إِلا سَيَعْطَبُ
أَرَى النَّاسَ أَصْنَافًا أَقَامُوا بِغُرْبَةٍ
تُقَلِبُهُمْ أَيَامُهَا وَتَقَلَّبُ
بَدَارِ غُرُورٍ حُلْوَةٍ يَعْمُرونَهَا
وَقَدْ عَايَنُوا فِيهَا زَوَالاً وَجَرَّبُوا
يَذُمُونَ دُنْيًا لا يَرِيحُونَ دَرَّهَا
فَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيَا تُذَمُ وَتُحْلَبُ ... ?
... تَسُرهُمُ طَوْرًا وَطَورًا تُذِيقُهُمْ ... مَضِيضَ مَكَا وَحَرَّهَا يَتَلَهَّبُ
اللَّهُمَّ اعْتِقْنَا مِنْ رِِقِّ الذُّنُوبْ وَخَلِّصْنَا مِنْ شَرِّ النُّفُوس، وَأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ، وَطَهِّرْنَا مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَطَايَا وَأَجِرْنَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم.(5/318)
اللَّهُمَّ رَضِّنَا بِقَضَائِكَ وَأَعِنَّا عَلَى الدُّنْيَا بِالْعِفَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ وَعَلَى الدِّينِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَطَهِّرْ أَلْسِنَتَنَا مِنْ الْكِذْبِ وَقُلُوبَنَا مِنْ النِّفَاقِ وَأَعْمَالِنَا مِنْ الرِّيَاءِ وَاحْفَظْ أَبْصَارَنَا مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيَنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ أَنْفُسِنَا وَالشَّيْطَانِ وَالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مَوْعِظَةٌ
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ، وَقَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} عِبَادَ اللهِ يَعِيشُ ابن آدَمَ مَا قَدّرَ اللهُ لَهُ أَنْ يَعِيشَ وَيَمْشِي الإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ وَيَتَقَلَّبُ فِيهَا وَيَرَى حُلْوَهَا وَمُرَّهَا وَسُرُورَهَا وَأَحْزَانِهَا، وَيَأْخُذُ فِيهَا حَظَّهُ مِنْ الشَّقَاءِ وَحَظَّهُ مِنْ السَّعَادَةِ، بِمِقْدَارِ مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ هَذَا نِهَايَةٌ وَلِكُلِّ ذَلِكَ غَايَةٌ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} فَسِبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيّ، وَالْخُلُودُ فِي دَارِ الْفَنَاءِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، أَيُّهَا الْمُسْلِمُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ.
شِعْرًا: قال بعضهم في ابن له مَات:
آخر: ... وَهَوَّنَ مَا أَلْقَى مِنَ الْوَجْدَّ أَنَّنِي ... أُجَاوِرُهُ فِي دَارِهِ اليوم أَوْ غَدِ
لَعَمرْكُ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةِ ... إِذَا زَال عَنْ عَيْنِ الْبَصِيرِ غِطَاؤُهَا
آخر: ... كَمْ رَأَيْنَا مِنْ أُنُاسٍ هَلَكُوا ... وَبَكَى أَحْبَابُهُمْ ثُمَّ بُكُوا(5/319)
تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ... وَدُّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا
كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ سُوَقَةْ ... وَرَأَيْنَا سُوَقَةً قَدْ مَلَكُوا
آخر: ... وَكُلُّ أُمٍّ وَإِنْ سُرَّتْ بِمَا وَلَدَتْ ... يَوْمًا سَتُشْكَلُ مَا رَبَّتْ مِنَ الْوَلَدِ
آخر: ... وَكَيْفَ بَقَاءَ النَّاسِ فِيهَا وَإِنَّمَا ... يُنَالَ بِأَسْبَابِ الْفَنَاءِ بَقَاؤُهَا
آخر: ... حَسْبُ الْخَلِيلَيْنِ نَأَيُ الأَرْضِ بَيْنَهُمَا ... هَذَا عَلَيْهَا وَهَذَا تَحْتَهَا بَالِي
سَلام عَلَى دَار الْغُرُورِ فَإِنَّهَا ... مُنَغَّصَةٌ لِذَاتُهَا بِالْفَجَائِعِ
فَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُحِبينَ سَاعَةً ... فَعَمَّا قَلِيلٍ أَرْدَفَتْ بِالْمَوَانِعِ
آخر: ... عَلَى مِثْلِ هَذَا كُلُّ جَمْعٍ مَاله ... وِصَالٌ وَتَفْرِيقٌ يَسُرُّ وَيُؤْلِمُ
وَإِنْ مُنَعَ الْغُيَّابُ أَنْ يَقْدَمُوا لَنَا ... فَإِنَّا عَلَى غُيَّابِنَا سَوْفَ نَقْدَمُ
فَالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ، هَذِهِ الدُّنْيَا جَسْرٌ، هَذِهِ الدُّنْيَا مَمَرٌ وَمَعْبَرٌ وَطَرِيقٌ إِلى الآخِرَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَ وَيَتَعَثرُ فِيهَا وَلا يَهْتَدِي، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُوَفِّقُهُ اللهُ فَيَسْلُكُهَا مُسْتَقِيمًا لا يَلْوي عَلَى شَيْءٍ إِلا عَلَى زَادِ الآخِرَةِ، وَأَمَلٍ يَهْدِفُ إليه، فِي تِلْكَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، ذَلِكَ الْهَدَفُ هُوَ رِضَى رَبِّ الْعِزَّةِ وَالْجَلالِ، الذِي فِيهِ كُلُّ نَعِيمٍ الذِي فِيهِ الْهُدُوءِ وَالاطْمَئُنَانُ وَالذِي فِيهِ الْفَوْزَ وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، تِلْكَ حَال مَنْ اتَّعَظَ وَاعْتَبَرَ فَنَفَعْتُه الْعِبْرَةُ وَلَمِسَ الْمَوعِظَةُ مِنْ دُرُوسٍ الْحَيَاةِ وَأَحْدَاثها فَاهْتَدَى، وَزَادَهُ اللهُ هُدى، تِلْكَ حَالٌ مَنْ اعْتَبَرُوا فنَفَعْتُهُم الْعِبْرَة، وَجَعَلُوا التَّقْوَى إِلى اللهِ أَمَامَهُمْ لا يَحِيدُونَ عَنْهَا، يَخَافُون رَبَّهُمْ وَيَخْشَوْنَ سُوء الْحِسَابِ {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُ لَقَدْ خَرَجْت مِنْ ظُلمَاتٍ، وَسَتَنْتَهِي إِلى ظُلُمَاتٍ خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَاتِ الأَرْحَامِ، وَتَنْتَظِرُكَ ظُلُمَاتُ الْقُبُورِ، خَرَجَتْ مِنْ(5/320)
أَحْشَاءِ أُمِّكَ، وَاسْتَقْبَلَكَ أَحْشَاءٌ أُخْرَى أَقْوَى وَأَعْظَمُ، قَالَ تَعَالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} دَفَعكَ جَوْفٌ يَحِنُّ عَلَيْكَ إِلى جَوْفِ الأَرْضِ، وَبَيْنَ الْجَوْفَيْنِ أُمُورٌ وَأُمُورٌ فَفِي الدُّنْيَا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاءُ إِنَّكَ تَخْرُجُ مِنْ شِدَّةٍ إِلى رَخَاءٍ، وَمِنْ رَخَاءٍ إِلى بَلاءٍ، وَتُصَادِفُكَ عَقَبَاتٌ فِي طَرِيقِكَ بَعْدَ عَقَبَاتٍ، وَتَتَغَيَّرُ أَحْوَالُكَ مِنْ حَالاتٍ إِلى حَالاتٍ، فَمِنْ ذُلٍّ إِلى عِزٍّ، وَمِنْ عِزٍّ إِلى ذُلٍّ، وَمِنْ غِنًى إِلَى فَقْرٍ، وَمِنْ فَقْرٍ إِلى يُسْرٍ، وَمِنْ صِحَّةٍ إِلى مَرَضٍ، وَمِنْ مَرَضٍ إِلى عَافِيَةٍ، وَمِنْ رَاحَةً إِلى تَعَبٍ. هَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا وَهَذِهِ هِيَ أَحْوَالُهَا عِزُّهَا لا يَدُومُ، وَرَخَاؤُهَا لا يَبْقَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَحَاسِبْ نَفْسَكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبَ، وَزِنْ أَعْمَالَكَ قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ عَلَيْكَ، وَرَاقِبْ مَوْلاكَ الذِي لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، وَتُبْ إليه تَوْبَةٍ نَصُوحًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} .
تَوَرَّعْ وَتُبْ وَازْهَدْ وَصَلِّ وَصُمْ وَلا ... تَوَرَّعْ وَتُبْ وَازْهَدْ وَصَلِّ وَصُمْ وَلا
وَكُنْ دَائِمًا فِي الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ قَائِمًا ... عَلَى الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ فِي كُلِّ مَوْطِنِ
آخر: ... يَلَذُ بِهَذَا الْعَيْش مَنْ لَيْسَ يَعْقِلُ ... وَيَزْهَدُ فِيهِ الأَلْمَعِيُّ الْمُحَصِّلُ
وَمَا عَجَبٌ نَفْسٌ تَرَى الرَّأْي إِنَّمَا الْ ... عَجِيبَةُ نَفسٌ مُقْتَضَى الرَّأْيِ تَفْعَلُ
إِلى اللهِ أَشْكُو هِمَّةً دُنْيَويَةً ... إِلى اللهِ أَشْكُو هِمَّةً دُنْيَويَةً
آخر: ... وَالْمَرْءُ مِثْلُ هِلالٍ حِينَ تُبْصِرُهُ ... يَبْدُو ضَعِيفًا ضَئِيلاً ثُمَّ يتَّسقُ
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا لَمْ تَمَّ أَعْقَبهُ ... كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ(5/321)
يُنْهْنِهَا مَوْتُ النَّبِيهِ فَتَرْعَوي ... ???? ... وَيَخْدَعُهَا رُوحُ الحَيَاةِ فَتَغْفُلُ ... ???? ... وَفِي كُلِّ جُزْءٍ يَنْقَضِي مِنْ زَمَانِهَا ... ???? ... مِنَ الجِسْمِ جُزْء مِثْلَهُ يَتَمَلمَلُ ... ? ... ????
شِعْرًا: ... أَمَامَكَ أَيُّهَا المَغْرُورُ يَوْمٌ ... تَشِيبُ لِهَوْلِهِ سُودُ النَّوَاصِي
وَأَنْتَ كَمَا عَهِدْتُكَ لا تُبَالِي 1 ... بِغَيْرِ مَظَاهِرِ العَبِثِ الرَّخَاصِ
آخر: ... عِشْ مَا بَدَا لَكَ هَلْ تَرَاكَ تَعِيشُ ... أَتَظُنُّ سَهْمَ الحَادِثَاتِ يَطِيشُ
عِشْ كَيْفَ شِئْتَ لَتَأيْنَّكْ وَقْعَةٌ ... يَوْمًا وَلا لِجَنَاحِِ جِسْمِكَ رِيشُ
آخر: ... إِذَا الشِّيبُ لاحَتْ لَمْحَةٌ مِنْ ثَغَامِهِ ... فَعَصْرُ الصِّبَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ رِسَامِهِ
أَلا كُلُّ إِنْسَانٍ وَإِنْ طَالَ عُمْرُهُ ... إِلَى الحَتَفِ مَأْخُوذٌ بِفَضْلِ زَمَامِهِ
أَلا كُلُّ حَيٍّ لِلْحَمَامِ طَرِيدَةٌ ... وَكُلُّ فَقِيدٍ مِنْ رَمَايَا سِهَامِهِ
تَمُرُّ اللَّيَالِي بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا ... كَطَيْفٍ يَرَاهُ حَالِمٌ فِي مَنَامِهِ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ لِلْطَالِبينَ، وَأَظْهَرَ غِنَاهُ لِلَّرَاغِبِينَ نَسْأَلُكَ أَنْ تَسْلُكَ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الصَّادِقِينَ، وَأَنْ تَلْحِقَنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أَحْي قُلوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذِّبْهَا بِأليمِ عِقَابِكَ، يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، يَا مَنْ جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِالأنْعَامِ وَالأَفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمنا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَارْزُقْنَا مَا رَزَقَتْ أَوْلِيَاءَكَ مِنْ نَعِيمِ قُرْبِكَ وَلَذَّةِ مُنَاجَاتِكَ وَصِدْقِ حُبِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(5/322)
وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ في آخرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدَّنْيَا بِالدِّين يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَر، وَقُلُوبِهم قلُوبُ الذِّئَابَ، يَقُولُ اللهُ: أَبِي تَغْتَرُّوَن أَمْ عَلَيَّ تَجْتَرِئُونَ، فَبِي حَلَفْتُ لأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيم مِنْهُمْ حَيْرَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ، وَالدَّارِمِيّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَتَكُونَنَّ بَعْدِي فَتْرَةٌ فِي أُمَّتِي يُبْتَغَى فِيهَا المَالُ مِنْ غَيْرِ حِلّهِ، وَتُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ وَيُسْتَبْدَلُ فِيهَا الشِّعْرُ بِالقُرْآنِ» . رَوَاهُ الدَّيْلَمِي.
وَعَنْ الحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا أَكَلَ الرِّبَا، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ مُعَاذِ بن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَزَالُ الأُمَّةُ عَلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ تَظْهَرَ فِيهِم ثَلاثٌ: مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُمْ العِلْمَ، وَيَكْثُرَ فِيهِمْ وَلَدُ الحَنْثِ، وَيَظْهَرُ فِيهم الصَّقَّارُونَ» ، قَالُوا: وَمَا الصَّقَّارُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَشْءٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، تَكُونُ تَحِيَّتُهم بَيْنَهُم التَّلاعُنُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِي.
وَعَنْ مُعَاذٍ بِنْ جَبَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إِخْوَانُ العَلانِيَةِ، أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ» ، فَقِيلَ:(5/323)
يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِي، وَأَبُو نُعَيمُ فِي الحِلْيَةِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ يَقْتُلَهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالحَقِّ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ طَارِقِ بِنْ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الخَوَارِجِ فَقَتَلَهُم ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ نَبِيّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالحَقِّ لا يُجَاوِزُ حُلوقَهم يَخْرُجُون مِنَ الحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ إِنَّ مِنْهُم رَجُلاً أَسْوَدَ مُخَدَّجَ الْيَدِ، فِي يَدِهِ شَعْرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ» فَبَكَيْنَا. ثُمَّ قَالَ: اطْلُبُوا، فَطَلَبْنَا فَوَجَدْنَا المُخَدَّجَ، فَخَرَرْنَا سُجُودًا، وَخَرَّ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَنَا سَاجِدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيّ.
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ فَرِغَ مِنَ الحَرُورِيَّةِ: إِنَّ فِيهِمْ رَجُلاً مُخَدَّجَ الْيَدِ، لَيْسَ عَلَى عَضُدِهِ عَظْمٌ، فِي عَضُدِهِ حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيَْها شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ، فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ، قَالَ: وَأَنَا فِيمَنْ يَلْتَمِسُ، فَمَا رَأَيْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَزِعَ قَطٌّ أَشَدَّ مِنْ جَزَعِهِ يَوْمَئِذٍ، قاَلُوا: مَا نَجِدُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا اسْمُ هَذَا المَكَانَ؟ قَالُوا: النَّهْرَوَانِ. قَالَ: كَذَبْتُمْ إِنَّهُ لَفِيهمْ فَالْتَمِسُوهُ. قَالُوا: فَثَّوَّرْنَا القَتْلَى فَلَمْ نَجِدْهُ، فَعُدْنَا إليه، فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَا نَجِدُهُ، قَالَ: مَا اسْمُ هَذَا المَكَان؟ قُلْنَا: النَّهْرَوَان. قَالَ:(5/324)
صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَكَذَبْتُمْ، إِنَّهُ لَفِيهمْ فَالْتَمِسُوهُ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ فِي سَاقِيَةٍ، فَجِئْنَا بِهِ فَنَظْرَتُ إِلَى عَضُدِهِ لَيْسَ فِيهَا عَظمٌ، وَعَليْها كَحَلَمَةِِ ثَدْي المَرْأَةِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ. رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بن ِالإِمَامِ أَحْمَدُ في كِتَابِ السُّنَّةِ.
وَعَنْ أَنْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَاليوم وَيَكُونُ اليوم كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» . وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَزْدَادُ الأمْرُ إِلا شِدَّةً، وَلا الدُّنْيَا إِلا إِدْبَارًا، وَلا النَّاسُ إِلا شُحًا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَلا المَهِْدي إِلا عِيسَى بنُ مَرْيَمَ» . رَوَى الحَدِيثَيْنِ ابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ سَالِمْ بنِ أَبِي الجَعْدِ عَنْ زِيَادِ بنِ لُبَيْدٍ قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ العِلْمِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ العِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ القُرْآنَ، وَنُقْرِؤُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِؤُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُم إِلَى يِوْمِ القَيِامَةِ؟ قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ هَذِهِ اليهود وَالنَّصَارَى يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ لا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا» ؟ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ سَلامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ(5/325)
السَّاعَةِ أَنْ يَتَدَافَعَ أَهْلُ المَسْجِدِ فَلا يَجِدُونَ إِمَامًا يُصلى بِهِمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّّّبُوَّةِ وَصِدْقِ الرِّسَالَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ فِيهم أَذَلَّ مِنَ الأَمَةِ، يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي المَاءِ مِمَّا يَرَى مِنَ المُنْكَرِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوِيه. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : وَعَنْ جَابِرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَخْفِي المُؤْمِنُ فِيهِم كَمَا يَسْتَخْفِي المُنَافِقُ فِيكُم» . رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّي. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلِ بِالمَسْجِدِ فَلا يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَأْتِي دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ» ، وَوَصَفَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ: «مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ، قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ» ، قَالَ: «اعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يَأتِيْكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ.
شِعْرًا: ... إِنَّ الجَمَاعَةَ حَبْلُ اللهِ فَاعْتَصِمُوا ... بَهَا إِنَّهَا العُرْوَةُ الوُثْقَى دَانَا
اللهُ يَدْفَعُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةٌ ... عَنْ دِينَنَا رَحْمَةَ مِنْهُ وَرِضْوَانًا
لَوْلا المُهَيْمِنُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ ... وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لأَقوَانَا
وَعَنِ الضَّحَاكِ أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكْثُرُ فِيهِ الأَحَادِيثُ حَتَّى يَبْقَى المُصْحَفُ عَلَيْهِ الغُبَارُ لا يَلْتَفَتُ إليه. قُلْتُ: وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ وَقَعَتْ فَإِنَّ المُصْحَفَ مَهْجُور، وَالإِقْبَالُ عَلَى المَلاهِي وَالمُنْكَراتِ وَالجَرَائِدِ وَالمَجَلات فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيم وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلِ.(5/326)
فَصْلٌ
وَعَنْ وَابِصَةَ الأَسَدِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَتَى تَكُونُ أَيَّامُ الهَرَجِ؟ قَالَ: حِينَ لا يَأْمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ. قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: اكْفُفْ نَفْسَكَ وَيَدَكَ، وادْخُلْ دَارَكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي المُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الإسلام سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، - أَوء قَالَ - أَحْدَاثٌ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ» . قُلْتُ: هَذَا الحَدِيثُ وَالذِي قَبْلَهُ فِيهِمَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ إليمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَكَثْرَةُ الطَّلاقِ، وَمَوْتُ الفُجْأَةِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيمٌ فِي الحِلْيَةِ، قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ، وَصِدْقِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ كُلَّ فَقْرَةٍ مِنْ فَقَرَاتِهِ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي العَصْرِ الحَاضِرِ، فَتَأَمَّلْهُ بِدِقَّةٍ.
فَإِنَّ الحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ قَدْ كَثُرَ جِدًا، وَكَذِلَكَ الشَّهَادَةُ يَبْذُلُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِدُونِ طَلَب، وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الطَّلاقُ وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِ هَؤُلاءِ، وَأَمَّا مَوْتُ الفَجْأَةُ فَكَثِيرٌ، فَمِنْهُ السَّكْتَةُ القَلْبِيَّةِ، وَالجَلْطَةُ الدَّمَوِيَّةُ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ انْقِلابِ السَّيَارَاتِ وَتَصَادُمِهَا، وَسُقُوطُ الطَّائِرَةِ وَالانْفَجَارَاتِ، فَكُلُّهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَوْتُ الفُجْأَةِ. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَكُلُّ الأَحَادِيثَ التِي تَقَدَّمَتْ وَالتِي تَأْتِي تَأَمَّلْهَا وَطَبِّقْهَا، وَلا حَاجَةِ إِلَى شَرْحِهَا لأَنَّهُ شَيْءٌ وَاضِحٌ وَاقِعٌ، وَلَكِنَّ(5/327)
النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا مُعْرِضُوَن، وَمُنْهَمِكُونَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَالتَّكَاثُرِ فِيهَا، وَالاشْتِغَالُ بِمَا يلهي ويصد عن ذكر الله فَتَأَمَّلْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاِس زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينَهُ إِلا مَنْ هَرَبَ بِدِينِهِ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، وَمِنْ جُحْرٍ إِلَى جُحْرٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُنَلْ المَعِيشَةُ إِلا بِسَخَطِ اللهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ - كَانَ هَلاكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدَيْ أَبَوَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ كَانَ هَلاكُهُ عَلَى يَدَيْ قَرَابَتِهِ أَوْ الجِيرَانِ» ، قَالُوا: كَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «يُعَيِّرُونَهُ بِضِيقِ المَعِيشَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُورْدُ نَفْسَهُ المَوَارِدَ التِي يُهْلِكُ فِيهَا نَفْسَهُ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيّ كَمَا فِي كِتَابِ الزُّهْدَ (ج3، ص444) مِنْ كِتَابِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَعَنْ حُذَيْفَةِ بنِ إليمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ بَيْعُ الحُكْمِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ» . أَخْرَجُهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ. قُلْتَ: هَذَا الحَدِيث وَالذِي قَبْلَهُ فِيهِمَا أَعْلامٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَةِ فَتَأَمَّلْ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ ظُهُورُ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَكِتْمَانِ الحَقّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ. قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ.
شِعْرًا: ... تَخَيَّرْ قَرِينًا مِنْ فِعَالِكَ إِنَّمَا
يَزِينُ الفَتَى فِي القَبْرِ مَا كَانَ يَفْعَلُ
فَإِنْ كُنْتَ مَشْغُولاً بِشَيْءٍ فَلا تَكُنْ
بِغَيْرِ الذِي يَرْضَى بِهِ اللهُ تَشْغَلُ
فَلا بُدَّ بَعْدَ القَبْرِ مِنْ أَنْ تُعِدَّهُ
لِيَوْمٍ يُنَادِي المَرْءُ فِيهِ فَيُسْأَلُ ... ?(5/328)
.. فَلَنْ يَصْحَبِ الإِنْسَانَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ
وَلا قَبْلَهُ إِلا الذِي كَانَ يَعْمَلُ
أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ ضَيْفٌ لأَهْلِهِ
يُقِيمُ قَلِيلاً عِنْدَهُمْ ثُمَّ يَرْحَلُ ... ?
آخر: ... مَا دُمْتَ حَيًا فَطِعْ لله مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ العِبَادَاتِ
وَأَكْثَرُ الذِّكْرَ لِلْمَوْلَى وَكُنْ حَذِرًا ... مَنْ غَفْلَةِ النَّفْسِ عَنْ ذِكْرِ المَنِيَّاتِ
فَالمَوْتُ يَأْتِي بِوَقْتٍ لَسْتَ تَعْلَمُهُ ... فَكُنْ لَهُ مُسْتَعِدًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِي
كَمْ مِنْ صَحِيحٍ غَدَا مِنْ بَيْتِهِ سَحَرًا ... وَبِالمَسَاءِ غَدَا جَارًا لأَمْوَاتِ
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
الأَمَارَةُ الثَّالِثَةُ مِنْهَا خُرُوجِ الدَّجَالِ، وَقَدْ أَنْذَرَتْ بِهِ الأَنْبَيَاءُ قَوْمَهَا، وَحَذَّرَتْ مِنْهُ أُمَمَها، وَنَعَتتْهُ بِالنُّعُوتِ الظَّاهِرَةِ، وَوَصَفَتْهُ بِالأَوْصَافِ البَاهِرَةِ، وَحَذَّرِ مِنْهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْذَرَ، وَنَعَتَهُ لأُمَّتِهِ نُعُوتًا لا تَخْفَى عَلَى ذِي بَصَرٍ، فَعَنْ نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدَّجَالَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرٍ، أَلا وَإِنَّ المَسِيحَ الدَّجَالَ أَعْوَرُ العَيْنِ إليمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بُعِثَ نَبِّيٌّ إِلا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَالَ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ» . وَفِي رِِوَايَةً: «يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.(5/329)
وَعْنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ، أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَابِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَسِيحَ الضَّلالَةِ أَعْوَرَ العَيْنِ، أَجْلَى الجَبْهَةِ، عَرِيضَ النَّحْرِ فِيهِ دَفأ كَأَنَّهُ قَطَن بن العزّى» ، فَقَالَ قطن: هَلْ يَضُرُّنِى شَبَهُهُ؟ قَالَ: «لا، أَنْتَ مُسْلِمٌ وَهُوَ امْرُؤ كَافِرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ الدَّجَالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ لَيْسَ رُؤْيَا مَنَام» ، فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: «أَقْمَرُ هَجَّانًا فَيْلَمَانِيًّا، إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيَ، كَأَنَّ شَعْرَهُ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ مِنْ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالاً، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الدَّجَالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ، يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة، وَأَحْمَدُ، وَالحَاكِمُ.(5/330)
وَعَن ْجَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ فِي خِفَّةٍ مِنَ الدِّينِ، وَإِدْبَارٍ مِنَ العِلْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيِهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِن، كَاتِبٌ وَغَيْرُ كَاتِبِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَة عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُخْبِرُكُم عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا حَدَّثَهُ نَبِيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ مِثْلُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالتِّي يَقُولُ إِنَّهَا الجَنَّةُ هِيَ النَّارُ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الدَّجَّالِ: «إِنَّ مَعَهُ نَارٌ وَمَاءٌ، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ، فَلا تَهْلِكُوا» ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءٌ وَنَارٌ، فَأَمَّا الذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ، وَأَمَّا الذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ» ، فَقَالَ عُتْبَةُ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ، مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِياَنِ، أَحَدُهُمَا رَأْيَ العَيْنِ: مَاءٌ أَبْيَضٌ، وَالآخَرُ: رَأْيَ العَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ فأما إِنْ أَدْرَكْنَ أَحَدًا فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الذِي يَرَاهُ نَارًا، وَلْيُغْمِضْ ثُمَّ لِيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدَا، وَإِنَّ الدَّجَالَ مَمْسُوحُ العَيْنِ، عَلَيْهَا ظَفْرَةٌ غَلِيظَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ فِي طَائِفَةِ(5/331)
النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَى رَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ» ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الغَدَاة فَخَفَّضْتَ فِيهِ ثُمَّ رَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، قَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ قائمة» الحديث. وفيه: قَالَ «فَيَأْتِي القَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ وَيَأْمُرُ الأَرْضَ أن تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ، وَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرَى وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ ما بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ ثُمَّ يَمُرُّ الخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ. فَيَنْطَلِقُ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ» . الحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ أَنَسٍ بِنْ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانِ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِم الطَّيَالِسَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. اللَّهُمَّ اعفُ عنْ تَقْصِيرنَا في طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ، وأَدِمْ لَنَا لُزومَ الطَّريقِ إلى ما يُقْرِّبُنَا إليك وَهَبْ لَنَا نَورًا نَهْتِدِيَ بِهِ إليك، وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأهْلِ مَحَبَّتِكَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلاتِنَا، وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ المتقين، وَأَلْحِقْنَا بِعبَادِك الصالِحينْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(5/332)
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَفَظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوْ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتْبَعُه مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنْ الدَّجَّالِ فِي الجِبَالِ» ، قَالَتْ أُمُّ شُرَيْكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيْنَ العَرَبْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «هُمْ قَلِيلٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا قَدْرُ لُبْثِهِ فِي الأَرْضِ فَعَنْ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا لَبْثُهُ – أَي الدَّجَّالُ – فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمْعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ فَذَلِكَ اليوم الذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاةُ يَومٍ؟ قَالَ: «لا، اقْدُرُوا لَهُ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: «كَالغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَة.
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَاليوم، واليوم كَاضْطِرَامِ السَّعْفَةِ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ البَغَوِي فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.(5/333)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إليهمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُوهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثٌ هم أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ القُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ وَقَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ» . رواه مسلم. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلا عَلَيْهِ ملائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهَا، فَيَنْزِلُ بِالسِّبْخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، يَخْرُجُ إليه كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
اللَّهُمَّ اْكُتبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ والإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا القِيَامَ بِطَاعَتِكَ، وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطَكَ، وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيَّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لَمَا جَاءِ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(5/334)
وَسَلَّمَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
إِنْ أَبْطَأَتْ صِلَةُ الأَرْحَامِ واَبْتَعِدَتْ ... عَنَّا فَأَقْرَبُ شَيْءٍ رَحْمَةُ اللهِ
لا يُرْتَجَى كَشْفُ ضَرَّاء وَنَازِلَةٍ ... فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إِلا مِنَ اللهِ
فَثِقْ بِرَبِّكَ فِي كُلِّ الأُمُورِ وَلا ... تَجْعَل يَقِينَكَ يَوْمًا إِلا بِاللهِ
لَهُ عَلَيْنَا جَزِيلَ الشُّكْرِ مُنْتَشِرًا ... فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَضْلُ مِنَ اللهِ
كَمْ مِنْ لَطَائِفَ أَوْلاهَا العِبَادَ وَكَمْ ... أَشْيَا لا تَنْحَصِي فَضْلاً مِنَ اللهِ
فَاضْرَعْ بِقَلْبٍ كَئِيبٍ مُخْبِتٍ وَجِلٍ ... مُسْتَعْطِفٍ خَائِفٍ مَنْ خَشْيَةِ اللهِ
وَقُلْ إِذَا ضَاقَتْ الحَالاتُ مُبْتَهَلاً ... يَا رَبّ يَا رَبَّ وَاسْأَلْ رَحْمَةَ اللهِ
مَا لِي مَلاذٌ وَلا ذُخْرٌ أَلُوذُ بِهِ ... وَلا عِمَادٌ وَلا رُكْنٌ سِوَى اللهِ
رَبٌ تَفَرَّدَ فِي مُلْكٍ لَهُ وَعَلا ... وَفَضْلُهُ وَاسِعٌ وَالحَمْدُ للهِ
أَرْجُوهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لا يُخَيِّبَ لِي ... ظَنًا فَحَسْبِي مَا أَرْجُوهُ مِنَ اللهِ
فَقُمْ وَحُثَّ التَّمَادِي كَمْ عَسَى وَمَتَى ... كَمْ أَيَّهُا النَّفْسُ إِعْرَاضٌ عَنِ اللهِ
آه عَلَى زَمَنٍ مِنِّي مَضَى فُرُطًا ... سَبَهْلَلاً لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ
أَفْرَحُ لِنَفْسِي وَقَلْبِي كُلَّمَا رَجَعَا ... عَنِ المَعَاصِي بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ
وَرُبَّمَا بَكَيَا خَوْفَ الذُّنُوبِ وَمَا ... قَدْ أَسْلَفَا مِنْ خَطِيئَاتٍ إِلَى اللهِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المُخْتَار سَيِّدنا ... مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى المُرْسَلْ مِنَ اللهِ
(خطبة عظيمة كُلُّهَا أَمْثَالٌ وَحِكَمٌ لِلنَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
فَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَأَوْثَقَ العُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرَ المِلَلِ مِلّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَخَيْرُ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ، وَأَشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْر اللهِ، وَأَحْسَنَ القَصَصَ هَذَا القُرْآنُ، وَخَيْرَ الأُمُورِ عَوَازِمُهَا وَشَرَّ الأُموُرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الهَدْي هُدْىُ الأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفُ المَوْتِ قَتْلُ الشَّهِيدِ، وَأَعْمَى(5/335)
العَمَى الضَّلالَةُ بَعْدَ الهُدَى، وَخَيْرُ العِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الهَدى ما اتُّبِعَ، وَشَرَّ العَمَى عَمَى القَلْبِ، وَإليدِ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ إليدِ السُّفْلَى، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مَمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرَّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُر المَوْتُ، وَشَرَّ النَّدَامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمِنْ النَّاسَ مَنْ لا يَأتِي الصَّلاةَ إلا دُبُرًا، ومِنْهُمْ مَنْ لا يذكُرُ اللهَ إِلا هَجْرًا، وَأَعْظَمُ الخَطَايَا اللِّسَانُ الكَذُوبُ، وَخَيْرُ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى، وَرَأْسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ، وَخَيْرُ مَا وَقَرَ فِي القَلْبِ اليقين، وَالارْتِيَابُ مِنَ الكُفْرِ، وَالنِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالغُلُولُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم، وَالكَنْزُ كَيٌّ مِنَ النَّارِ، وَالشِّعْرُ مِنْ مَزَامِيرِ إِبْلِيسَ، وَالخَمْرُ جِمَاعُ الإِثْمِ، وَالنِّسَاءُ حِبَالَةُ الشَّيْطَانِ، وَالشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ، وَشَرُّ المَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا، وَشَرُّ المَآكِلِ مَالُ إلِيتمِ، وَالسَّعِيدُ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَحَدُكم إِلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُع، وَالأمْرُ بِآخِرِهِ، وَمَلاكُ العَمَل خَوَاتِمُه، وَسِبَابُ المُؤْمِنُ فُسوقٌ، وَقِتُالُ المُؤْمِنُ كُفْرٌ، وَأَكْلُ لَحْمِهِ مَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةُ مَاله كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَمَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللهِ يُكْذِبْهُ، وَمَنْ يَغْفِرْ يَغْفِرْ اللهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ يَكْظِمْ الغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعَوِّضْهُ اللهُ، وَمَنْ يَتْبَعْ السُّمْعَةَ يُسَمِّعُ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضْعِفُ اللهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللهُ يُعَذِّبْهُ اللهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلأُمَّتِي، أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ» . انْتَهَى.
شِعْرًا: ... سَبَقَ القَضَاءُ بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ
وَاللهُ يَا هَذَا لِرِزْقِكَ ضَامِنُ
تَعَنَّى بِمَا تُكْفَى وَتَتْرُكُ مَا بِه
تُعْنَى كَأَنَّكَ لِلْحَوَادِثِ آمِنُ ... ?(5/336)
.. أَوَ مَا تَرَى الدُّنْيَا وَمَصْرَعَ أَهْلِهَا
فَاعْمَلْ لِيَوْمِ فِرَاقِهَا يَا خَائِنُ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا أَبَا لَكَ فِي الذي
أَصْبَحْتَ تَجْمَعُهُ لِغَيْرِكَ خَازِنُ
يَا عَامِرَ الدُّنْيَا أَتَعْمُرُ فِي الذِي
لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعَ المَنِيَّةِ سَاكِنُ
المَوْتُ شَيْءٌ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ
حَقٌّ وَأَنْتَ بِذِكْرِهِ مُتَهَاوِنُ
إِنَّ المَنِيَّةِ لا تُؤامِرُ مِنْ أَتَتْ
فِي نَفْسِهِ يَوْمًا وَلا تَسْتَأْذِنُ ... ?
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ والإِجَابَةِ، وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَة النَّصُوحِ وَالإِنَابَةِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتَ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى المَسِيحُ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَنُزُولهُ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي ليُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسِى، وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ آخِرَ الزَّمَانِ، حَتَّى تَكُونَ المِلَّةُ وَاحِدَةٌ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.(5/337)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً فَيَكْسِرَ الصليبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
وَأَمَّا الإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَتْ الأُمَّةُ عَلَى نُزُولِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ انْعَقَد الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، ثُمَّ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِمَامًا عَادِلاً وَحَكَمًا مُقْسِطًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَبُو يَعْلَى.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (يَمْكُثُ عِيسَى أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفّى وَيُصلى عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ، وَيُدْفَنُ عِنْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيُهِلَّنَّ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ بالحَجِّ أَوْ العُمْرَةِ أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا جَمِيعًا» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابِنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، عَلَيْهِ ثَوْبَان مُمَصِّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَدُقُّ الصليبَ وَيَقْتُلُ(5/338)
الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيدعو الناس إلى الإسلام، ويُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إلاَّ الإِسْلامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، ثُمَّ تَقَعُ الأَماَنَةُ على الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِل، وَالنِّمارُ مَعَ البَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لا تَضُرُّهُمْ» الحَدِيث.
وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثُ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُوحَي إِلَى عِيسَى بنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ قَتْلِهِ لِلدَجَّال: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَاءٌ، وَيَحْصُرونَُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ» .
وَقَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مَنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَةُ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَنُزُولُ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ، وَثَلاثَةُ خُسُوفَاتٍ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ» الحَدِيث، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ وَذَكَرَ فِيهِ: «خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ العَرَبِ» .(5/339)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُحَجَّنَّ هَذَا البَيْتَ وَليُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجٌ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيّ.
وَمِنَ العَلامَاتِ العُظْمَى هَدْمُ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ. أَخْرَجَ البُخَارِيّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ» ، وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا نَحْوَهُ وَزَادَ: «وَيَسْلِبُهَا حُلِيَّهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِمِسْحَاتِهِ أَوْ مِعْوَلِهِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إليه - يَعْنِي ذَا السُّوَيْقَتَيْنِ - أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا» يَعْنِي الكَعْبَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْرُجُ ذُو السَّوَيْقَتَيْنِ عَلَى الكَعْبَةِ» ، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «فَيَهْدِمُهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَرَوَى البَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ البَيْتُ» .
وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى: الدُّخَانُ، قَالَ العُلَمَاءُ: آيَةُ الدُّخَانُ ثَابِتَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ وَزَيْدُ بنُ عَلِيّ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى: هُوَ دُخَانٌ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَدْخُلُ فِي أَسْمَاعِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَيَعْتَرِي المُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَتَكُونُ الأَرْضُ كُلُّهَا كَبَيْتٍ(5/340)
أَوْقِدَ فِيهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ» ؟ قَالُوا: السَّاعَة يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا فِيهَا آيَاتٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا الدُّخَانُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْنُ مَاجَة، وَأَنَّهُ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وِفِي حِدِيثِ حُذَيْفَةَ بنِ إليمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ دُخَانَا يَمْلأ مَا بَيْنَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبِ، يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ شِبْهُ الزّكَامِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ يَخْرُجُ الدُّخَانُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرِيهِ، وَعَيْنَيْهِ وَأُذَنَيْهِ وَدُبُرِهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي.
وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى رَفْعُ القُرْآنِ العَظِيمُ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ مُعْضِلاتِ الأُمُورِ، فَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «يُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ لَيْلاً فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ مَنْهُ آيَةٌ وَلا حَرْفٌ فِي جُوْفٍ إِلا نُسِخَتْ» ، وَعِنْدَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «لا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ القُرْآنُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، لَهُ دَوِيٌّ حَوْلَ العَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا لكَ؟ فَيَقُولُ: مِنْكَ خَرَجْتُ وَإليك أَعُودُ، أُتْلَى فَلا يُعْمَلُ بِي» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَة مِنْ َحَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «يَدْرَسُ الإِسْلامُ حَتَّى لا يَدْرُونَ مَا صِيَامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا نُسُكٌ وَلا صَدَقَةٌ، وَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ فِي لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ» .
فَعَلَيْكَ يَا أَخِي بِالإكثار مِنْ تَلاوَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَع.
شِعْرًا: ... أَعَزُّ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا بَيْتُ ربِّنَا ... وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُهُ
آخر: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنْ يَذْكُر(5/341)
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليوم الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَ العُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللهُ: طُلُوع الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} .
إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلَمٌ فِي صَحِيحِه عَنْ عَبْدُ اللهِ بنِ عَمْرُو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّابَةِ عَلَى النَّاسِ ضُحَى، وَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالأُخْرَى عَلَى أَثَرِهُا قَرِيبًا مِنْهَا» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرِّ الغَفَارِيّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ» ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ العَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا تَجْرِي لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَلِكَ تَحْتَ العَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي(5/342)
ارْتَفِعِي، أصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا» ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «أَتَدْرُونَ مَتَى ذَلِكُمْ؟ حِينَ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} الآيَة.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلَعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا جَمِيعًا، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيّ.
وَعَنْ صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ قِبَلِ مَغْرِبَ الشَّمْسِ بَابًا مَفْتُوحًا عَرْضُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَلا يَزَالُ ذَلِكَ مَفتُوحًا لِلتَّوْبَةِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ نَحْوِهِ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعِينَ، فَذَلِكَ حِينَ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} » فَقَرَأَ الآيةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِي بَعْضُ الآيَاتِ لا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ إِتْيَانِهَا، وَلا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ المُقَصِّرِ أَنْ يُزَادَ خَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَنْفَعُه مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الإيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الخَيْرِ المَوْجُودِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِي بَعْضُ الآيَاتِ وَالحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ الإيمَانُ يَنْفَعُ إِذَا كَانَ بِالْغَيْبِ وَكَانَ اخْتِيَارًا مِنَ العَبْدِ، فَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ الآيَاتِ فَيَصِيرُ الأمْرُ شَهَادَةً، وَلَمْ يَبْقَ لِلإيْمَانِ فَائِدَةٌ لأَنَّهُ يُشْبِهُ الإيمَانَ الضَّرُورَيّ وَلِهَذَا لَمَّا أَدْرَكَ فِرْعَوْنَ الغَرَقُ، وَجَزَمَ بِالهَلاكِ،(5/343)
{قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ هَذَا الإيمَانَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ غَيْرُ ناَفِع {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَمْثَالِ فِرْعَوْنِ مِمَّنْ عَايَنُوا بِأسَ اللهِ وَأَدْرَكُوا الغُرُورَ وَاعْتَرَفُوا بِمَا كَانُوا يُْنِكرُونَ، وَأَقَّرُوا بِوْحَدَانِيَّةِ اللهِ، وَكَفَرُوا بِشُرَكَائِهِم مِنْ دُونِهِ، وَلَكِن الأَوَانَ كَانَ قَدْ فَاتَ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ قَدْ جَرَتْ عَلَى أَنْ لا تُقْبَلَ التَّوْبَةُ بَعْدَ ظُهُورِ بَأْسِ اللهِ فَهِيَ تَوْبَةُ فَزَعٍ وَخَوْفٍ، لا تَوْبَةُ إِيمَانٍ صَحِيحٍ.
شِعْرًا: ... وَلَمَّا دَنَى مِنِّي السِّيَاقُ تَعَطَّفَتْ
عَلَيَّ وَعِنْدِي عَنْ تَعَطُّفِهَا شُغْلُ
أَتَتْ وَحِيَاضُ المَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنِهَا
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لا يَنْفَعُ الوَصْلُ ... ?
وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الكُفَّارِ، إِذَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الحَالَةِ الاضْطِرَارِيَّةِ أَنَّهُ لا يَنْفَعُهُمْ الإيمَانُ، لأَنَّ إِيمَانَهُم صَارَ مُشَاهِدًا كَإِيمَانِ الوَارِدِينَ عَلَى القِيَامَةِ، وَالذِي يَنْفَعُ الإيمَانُ بِالغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فَالشَّأْنُ فِي الإيمَانُ بِالغَيْبِ الذِي لَمْ يُرَ وَلَمْ يُشَاهَدْ وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ لِخَبَرِ اللهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَعَنْ أَبِي العَإليةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، قَالَ: يُؤْمِنُونُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخِرِ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، وَلِقَائِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ، وَبِالبَعْثِ فَهَذَا غَيْبٌ كُلُّهُ. أ. هـ. قَالَ فِي لَوَائِحَ الأَنَوْارَ: فَيَتَخَلَّصُ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ المَذْكُورَةِ وَمَا(5/344)
فِي مَعْنَاهَا مِمَّا هُوَ مُسَطَّرٌ فِي الدُّرِّ المَنْثُورِ لِلسُّيُوطِي: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا لا يَنْفَعُ الإيمَانُ المُحْدَثُ فِي ذَلِكَ اليوم لِمَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُشْرِكًا، وَلا التَّوْبَةِ المُحْدَثَةُ فِيهِ لِمَنْ كَانَ مُخَلِّطًا، وَلا أَعْمَالُ البِرِّ المُحْدَثَةِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْمَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ اليوم، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا فَإِنَّ الإِيمَانَ المُجَرَّدَ عَنِ الأَعْمَالِ السَّابِقَةِ عَلَى ذَلِكَ اليوم يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، لأجْلِ نَجَاتِهِ وَإيمَانِهِ المُتَجَدِّدِ يَوْمَئِذٍ يَنْفَعُهُ أَيْضًا لأَنَّهُ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ عَنْ سَيَّئَاتِهِ، وَأَنَّ الإيمَانَ السَّابِقَ مَعَ التَّخْلِيطِ يَنْفَعُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي كَانَ يَعْمَلُهَا، وَإِنَّمَا المَمْنُوعُ قُبُولُ تَوْبَتِهِ عَنْ تَخْلِيطِهِ، وَقَبُولُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الإيمَانِ وَأَعْمَالِ البَرِّ قَبْلَ ذَلِكَ اليوم، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلّ بِرٍّ مُحْدَثٍ يَكُونُ السَّبَبُ فِي إِحْدَاثِهِ رُؤْيَةَ الآيَةِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلُهُ، لا يَنْفَعُ سَوَاءً كَانَ مِنَ الأُصُولِ أَوْ الفُرُوعِ، وَكُلُّ بِرٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِكَوْنِ صَاحِبِهِ كَانَ عَامِلاً بِهِ قَبْلَ رُؤْيَةَ الآيَةِ يَنْفَعُ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ نَبَّهَ عَلَى مِثْلِهِ الإِمَامُ المُحَقِّقُ العَلامَةُ ابْنُ مُفْلِح فِي الآدَابِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا طَبَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكَفَى النَّاسُ العَمَلُ» : ليْسَ المُرَادُ بِهَذَا الخَبَرِ تَرْكُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الفَرِائِضِ – أَيْ وَكَذَا مِنَ النَّوَافِلِ – قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، فَيَجِبُ الإِتْيَانِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الفَرَائِض قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَنْفَعُهُ مَا يَأتيْ بهِ مِنْ الإيْمَانِ الذِيْ كَانَ َيأتيْ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَفَى النَّاسَ العَمَلُ، أَيْ: عَمَلاً لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَهُ. وَحَكَى ابْنُ الجَوْزِي عَنِ الضَّحَاكِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ بَعْضُ الآيَاتِ وَهُوَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مَعَ إِيمَانِهِ قُبِلَ مِنْهُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَبْلَ الآيَةِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: فَالعَمَلُ الصَّالِحُ الذِي سَبَبَهُ ظُهُورُ الآيِةِ اضْطَرَّتْهُ إليه، وَأَمَّا مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فَظُهُورُ الآيَةِ لا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِ، فَبَقِيَ الحُكْمُ كَمَا قَبْلَ الآيَةِ.(5/345)
اللَّهُمَّ قَوِ إِيمانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وباليوم الآخر وبالقدرِ خيرِه وشرِّهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... كُلٌّ يَزُولُ وَكُلٌّ هَالِكٌ فَان
إِلا الإِلهُ وَمَا للهِ مِنْ ثانِ
قَضَى وَقَدَّرَ تَقْدِيرًا فَأَتْقَنَهُ
سُبْحَانَهُ هُوَ ذُو عِزٍّ وَسُلْطَانِ
فَارْضُوا بِمَا قَدَّرَ الجَبَّارُ وَاحْتَسِبُوا
إِنَّ الرِضَا بِالقَضَا حَقٌّ لِدَيَّانِ
وَبَادِرُوا بِثَنَاءِ اللهِ وَارْتَجِعُوا
عِنْدَ المَصَائِبِ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عَرَضٍ
فَالرَّبُ يَخْلِفُهُ فَضْلاً بِإِحْسَانِ
هَذِي الحَيَاةُ وَرَبِي صَفْوُهَا كَدَرٌ
لا بُدَّ زَائِلَةٌ عَنْ كُلِّ إِنْسَانِ
يَشْقَى اللَّبِيبُ وَيُمْسِي فِيهَا ذَا عَطَبٍ
تَبًا لَهَا دَارُ أَكْدَارٍ وَأَحْزَانِ
إِنَّ المُصَابَ الذِي يَأْتِي بِلا عَمْلِ
يَوْمَ المَعَادِ وَمَنْ يُجْزَى بِحِرْمَانِ
وَمَا أَصَابَ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ ضَرِرٍ
إِلا بِظُلِمِهُمُوا شُؤْمٍ وَعِصْيَانِ ... ?(5/346)
.. نَسْتَغْفِرُ اللهَ قَدْ بَانَتْ جَرَاءَتُنَا
عَلَى إلا إلَهَ وَلَمْ نَسْخَطْ لِشْيَطَانِ
نَحُنُ المُسِيئوُنَ نَحْنُ التَّابِعُونَ هَوَى
نَحْنُ الأُلَى خَلَطُوا ذَنْبًا بِعِصْيَانِ
وَنَحْنُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا أُرِيدَ بِنَا
وَالكُلُّ فِي سَكْرَةٍ وَيْحًا لِسَكْرَانِ
وَلَمْ نُرَاقِبْ إِلَهَ العَرْشِ فِي عَمَلِ
وَذَا وَرَبَّكَ مِنَّا ضُعْفُ إِيمَانِ ... ?
اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفَّقْنَا لِشُكْرَكَ وَذِكْرَكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُبَ وَالاسْتِعْدَادِ لِلقَائِكَ وَاجْعَلْ خَتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدَ وَاغْفِرْ لَنَا.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ وَمَحَبَّةِ كُتُبِكَ وَمَلائِكَتِكَ وَرُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ فِي قُلُوبِنَا ثُُبُوتِ الجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا خُرُوجُ الدَّابَّةِ مِنَ الأَرْضِ، وَخُرُوجُهَا ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وَهَذِهِ الدَّابَّة تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ، وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللهِ، وَتَبْدِيلِهِمْ الدِّينَ الحَقَّ وَتُكَلِّمَهُمْ، وَالدَّلِيلِ مَنَ السُّنَّةِ مَا وَرَدَ عَنْ حُذَيْفَةِ بنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا الدَّابَّةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمُ.(5/347)
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا» فَذَكَرَ: «وَدَابَّةَ الأَرْضِ» . رَوَاهُ ابنُ مَاجَة، وَعَنْ طَلْحَةَ بنِ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ جَاءَ فِيهِ: قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: «لَهَا ثَلاثٌ خَرَجَاتٍ فِي الدَّهْرِ، فَتَخْرُجُ خَرْجَةً مِنْ أَقْصَى البَادِيَةِ، وَلا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا القَرْيَةَ، أَعْنِي مَكَةَ، ثُمَّ تَكْمُنُ زَمَنًا طَوِيلاً، ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجَةً أُخْرَى دُونَ تِلْكَ، فَيَعْلُوا ذِكْرُهَا فِي أَهْلِ البَادِيَةِ، وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا القَرْيَةَ» ، يَعْنِي مَكَة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ المَسَاجِدِ وَأَكْرَمِهَا المَسْجِدِ الحَرَامِ، لَمْ يَرُعْهُم إِلا وَهِي تَرْغُوا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِهَا التُّرَابَ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا شَتَّى وَمَعَا، وَتَثْبُتُ عِصَابَةٌ مِنْ المُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللهَ، فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَتْ وُجُوهَهُم حَتَّى جَعَلَتْهَا كَالْكَوْبِ الدُّرِيّ، وَوَلَّتْ فِي الأَرْضِ لا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ، وَلا يَنْجُو مِنْهَا هَارَبٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَعَوَّذُ مِنْهَا فِي الصَّلاةِ، فَتَأْتِيهُ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلانُ الآنَ تُصلى، فَيُقْبلُ عَلَيْهَا فَتَسِمُه فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ تَنْطَلِقُ، وَيَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي الأَمْوَالِ وَيَصْطَحِبُونَ فِي الأَمْصَارِ، يُعْرَفُ المُؤْمِنُ مِنَ الكَافِرِ، حَتَّى إِنَّ المُؤْمِنَ لِيَقُولَ: يَا كَافِرُ اقْضِنِي حَقِّي، وَحَتَّى إِنَّ الكَافِرَ يَقُولُ: يَا مُؤْمِنُ اقْضِنِي حَقِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانُ، وَعَصَا مُوسَى بنِ عُمْرَانَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَتَجْلُو وَجْهَ المُؤْمِنُ بِالعَصَا، وَتَخْطِمُ أَنْفَ الكَافِر بِالخَاتَمِ، حَتَّى إَنَّ أَهْلَ الخِوَانِ لَيْجَتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا: يَا كَافِرُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة، وَأَحْمَدُ.(5/348)
وَمِن عَلامَاتَ السَّاعَةِ خَرُوجُ النَّارِ التِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ تَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِم، تَبِيتُ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ حَيْثُ قَالُوا، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحَشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاثَةٌ عَلَى بَعِيرِ، وَعَشْرَةٌ عَلَى بَعِير، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» ، وَمِنْهَا: «نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ إليمَنِ تَطْرُدُ النَّاسُ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» . رَوَاهُ السِّتَّةُ إِلا البُخَارِيّ، وَعَنْ أَنْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أََنَّ عَبْدَ اللهِ بنِ سَلامَ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. فَقَالَ: «نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى المَغْرِبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيّ.
تَنْبِيهٌ:
وَرَدَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَجِيءُ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ رِيحٌ بَارِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلا تُبْقِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الإِيمَانِ إلا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ(5/349)
فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلامِ السِّبَاعِ، لا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُونَ مَا تَأْمُرَنَا؟ فَيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ فَيَعْبُدُونَهَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهم، حَسَنٌ عَيْشُهُم، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» . وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ: «فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُ تَحْتَ آبَاطِهِم، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِن وَكُلَّ مُسْلِم، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الحُمُرِ» - أَيْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الحُمُرِ جَمْعُ حِمَار -: «فَعَلَيْهِم تَقُومُ السَّاعَةُ» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الحَاكِمْ: «أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ إليمَنِ ألينُ مِنَ الحرير فَلا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا قَبَضَتْهُ» .
وَقَالَ السَّفَارِينِي نَاظِمًا لِلْعَلامَاتِ العِظَامِ، وَالأَشْرَاطِ الجِسَامِ التِي تَعْقِبُهَا السَّاعَةُ:
... وَمَا أَتَى بِالنَّصِ مِنْ أَشْرَاطَ
فَكُلُّهُ حَقٌّ بِلا شِطَاط
مِنْهَا الإِمَامُ الخَاتِمُ الفَصِيحُ
مُحَمَّدُ المَهْدِيُّ وَالمَسِيحُ
وَأَنَّهُ يَقْتُلُ لِلْدَّجَّالِ
بِبَابِ لِدُّخَلِّ عَنْ جِدَالِ
وَأَمْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَثْبتِ
فَإِنَّهُ حَقٌّ كَهَدْمِ الكَعْبَةِ ... ?(5/350)
.. وَأَنَّ مِنْهَا آيَةُ الدُّخَانِ
وَأَنَّهُ يُذْهَبُ بِالقُرْآنِ
طُلُوعُ شَمْسِ الأُفْقِ مِنْ دَبُورِ
كَذَاتِ أَجْيَادٍ عَلَى المَشْهُورِ
وَآخِرُ الآيَاتِ حَشْرُ النَّارِ
كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الأَخْبَارِ
فَكُلُّهَا صَحَّتْ بِهَا الأَخْبَارُ
وَسَطَّرَتْ آثَارَهَا الأَخْيَارُ ... ?
وَقَالَ القَحْطَانِي:
... أَيقِن بِأَشرَاطِ القِيَامَةِ كُلَِّهَا
واسْمَعُ هُدِيتَ نَصيحتى وَبَيَانِي
كَالشَّمْسِ تَطلُعُ مِنْ مَكانِ غُرُوبِهَا
وَخُرُوجِ دَجَّالٍ وَهَوْلِ دُخَانِ
وَخُرُوجِ يَأْجُوجٍ وَمأَجُوجٍ مَعًا
مِنْ كُلِّ صَقْعٍ شَاسِعٍ وَمَكَانِ
(وَنُزُولِ عِيسَى قَاتِلاً دَجَّالَهُمْ
يَقْضِي بِحُكْمِ العَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ... ?
اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا واسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِر واسترْ عَلَيْنَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِر ولا تُخلِنَا في مَوْقَفِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرانِكَ وَلا تَتْرُكْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإحْسَانِكَ، وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/351)
(فَصْلٌ)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ المُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَيَعْرِفُوهُ وَيَخْشَوْهُ وَيَخَافُوهُ، وَنَصَبَ لَهُمْ الأَدِلّةَ الدَّالَةَ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ لِيَهَابُوهُ، وَيَخَافُوهُ خَوْفَ إِجْلالٍ، وَوَصَفَ لَهُمْ شِدَّةَ عَذَابِهِ، وَدَارَ عِقَابِهِ التِي أَعَدَّهَا لِمَنْ عَصَاهُ لِيَتَّقُوهُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا لأَعْدَائِهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُومِ واَلحَمِيمِ وَالسَّلاسِلِ وَالغَسَّاقِ وَالغِسْلِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ وَالفَضَائِع وَالعَظَائِم، وَدَعَا عِبَادَهُ بِذَلِكَ إِلَى خَشْيَتِهِ وَتَقْوَاهُ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ مَا يَأْمُر بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَاجْتِنَابِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُه وَيَأْبَاهُ، وَأَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا بِأَنَّ الخَلْقَ وَارِدُوهَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} فَأَنْتَ مِنَ الوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنَ النَّجَاةِ عَلَى شَكٍّ، فَيَا أَيُّهَا الغَافِلُ السَّاهِي عَنْ نَفْسِهِ، المَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الاشْتِغَالِ بِعَمَائِرِهِ وَأَرَاضِيهِ وَسَيَّارَاتِهِ، وَشَرِكَاتِهِ وَمُقَاوَلاتِهِ وَزَوْجَاتِهِ وَأَوْلادِهِ، وَكُلِّ مَا يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَالالْتِفَاتِ إِلَى دَارِ القَرَارِ، دَعْ التَّفَكُّرَ وَقَتْلَ الوَقْتِ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ، وَجَادٌّ فِي السَّيْرِ عَنْهُ، وَاصْرِفْ فِكْرَكَ فِيمَا أَمَامَكْ فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ المَوْرِدِ لَعَلَّكَ تَسْتَعِدّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الخَلْقِ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} تَفَكَّرْ فِي ازْدِحَامِ الخَلائِقِ وَقَدْ صَهَرَتْهُم الشَّمْسُ، إِلا مَنْ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالغَمُّ مِنَ الوَهَجِ، وَتَدَافَعَتْ الخَلائِقُ لِشِدَّةِ(5/352)
الزِّحَامِ، وَاخْتِلافِ الأقْدَامِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شِدَّةُ الخَجَلِ وَالحَيَاءِ، وَالخَوْفِ مِنَ الفَضَائِحِ وَالاخْتِزَاءِ عِنْدَ العَرْضِ عَلَى الجَبَّارِ، وَقُرْبُ الشَّمْسُ مِنَ الخَلْقِ فَيَبْلُغُ عَرَقُهم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ:
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا» .
شِعْرًا: ... يَضْحَكُ المَرْءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ ... وَيَرْومُ البَقَاءِ وَالمَوْتُ رَامَهْ
وَيَمْشِي الحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ ... وَيُخْلَى حَدِيثُ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَلأمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ ... وَنَفَى فِي الضَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ
صَاحِ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصرْهْ ... فَمُحَالٌ بِأَنْ تُطِيقُ تَمَامَهْ
عَجَزَ الوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا ... لَمْ نَجِي مِنْ بِحَارِهِ بِكُضَامَهْ
فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا ... وَدَعْ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ
آخر: ... وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ... بِمَوْقِف عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نَشُورَ وَأَنَّنَا ... سُدَى مَا لَنَا بَعْدَ المَمَاتِ مَصَادِرُ
أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ... وَتَشْغَلُنَا اللذَّاتِ عَمَّا نُحَاذِرُ
فَصْلٌ: وَتَأَمَّلْ صِفَةَ يَوْمِ القِيَامَةِ وَدَوَاهِيهِ، لَعَلَّكَ أَنْ تَسْتِعِدَّ لَهُ قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ البَدَنَ، وَيُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَتَنْدَم حِينَ لا يَنْفَعُكَ النَّدَمُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اليوم الرَّهِيبُ تَنْفَطِرُ السَّماَءُ وَالكَوَاكِبُ تَنْتَثِرُ، وَالبِحَارُ تُفَجَّرُ وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ، وَالشَّمْسُ تُكَوَّرُ وَالجِبَالُ تُسَيَّرُ، وَالعِشَارُ(5/353)
تُعَطَّلُ، وَالوُحُوشُ تُحْشَرُ، وَالنُّفُوسُ تُزَوَّجُ، وَالجَحِيمُ تُسَعَّرُ وَالجَنَّةْ تُقَرَّبُ، وَالأَرْضُ تُمَدُّ يَوْمَ تَرَى الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ، وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يَوْمَ تُحْمَلُ {الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} ، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، يَوْمَ تُرَجُّ الأَرْضُ رَجَّا، وَتُبَسُّ الجِبَالُ بِسَّا، يَوْمَ {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يَوْمَ يَنْسِفُ اللهُ الجِبَالَ {نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} يَوْمَ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يَوْمَ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ فَتَكُونُ {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، {َيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .
شِعْرًا:
وَبَعدَ دُخُولِ القَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ ... وَهَوْلٌ تُشِيبُ المُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ
إِذَا الأَرْضُ خَفَّتْ بَعْدَ ثَقْلِ جِبَالِهَا ... وَخَلَّى سَبِيلَ البَحْرِ يَا نَفْسُ سِاحِلُهْ
فلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ ... مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالوِزْرِ حَاِمِلُهْ
إِذَا الجَسَدُ المَعْمُورُ زَايلَ رُوحَهُ ... خَوَى وجَمَالُ البَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ(5/354)
وَقَدْ كَانِ فِيهِ الرُّوحُ حَيًّا يَزِينُهُ ... وَمَا الغِمْدُ لَولا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهُ
يُزَايلُُنِي مَالِي إَذِا النَّفْسُ حَشْرَجَت ... وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أُزَايِلُهْ
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ، وَقَالَ: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} ، وَقَالَ: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} الآيَة. {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {يَوْمَ تَبْلُوا كُل نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} ، يَوْمَ تَعْلَمُ فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ وَتَشْهَدُ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَوْمَ تَخْرُسُ فِيهِ الأَلْسُنُ، وِتَنْطِقُ فِيهِ الجَوَارِحُ، يَوْمٌ شَيَّبَ ذِكْرُهُ سَيَّدَ المُرْسَلِينَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإَذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيَ وَحَسَّنَهُ.
شِعْرًا: ... لأَمْرِ مَا تَصَّدُعَتِ القُلُوبُ ... وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ
وَبَاتَتْ فِي الجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ... لَهَا مِنْ خَارِج أَثَرٌ عَجِيبُ
وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ ... وَلا أَعْيَا بِمَنطِقِهِ الأَرِيبُ
ذَرَاهُ لائِمَاُه فَلا تُلُومَا ... فَرُبَّتَ لائِمٍ فِيهِ يَحُوبُ
رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ ... مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الهُبُوبُ
وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا ... وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ... بِهِ الولْدَانُ مِنْ رَوْعٍ تَشِيبُ
وَهَذَا المَوْتُ يُدْنِيهِ إليه ... كَمَا يُدْنِي إِلَى الهَرَمِ المَشِيبُ
مَقَامٌ تٌسْتَلَذُّ بِهِ المَنَايَا ... وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيبُ
وَمَاذَا الوَصْفُ بِالِغُهُ وَلَكِنْ ... هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ(5/355)
اللَّهُمَّ اقْبَلْ تَوْبَتَنَا وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا وَاهْدِ قُلُوبَنَا وَسَدّدْ أَلْسِنَتَنَا وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قُلُوبِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قَالَ المُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونُ الشِّرْكَ وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ خَتْمًا لا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى الكَلامِ، وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلهُمْ عَلَيْهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، بَعْدَ إِقْدَارِ اللهِ تَعَالَى لَهَا عَلَى الكَلامِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنِّسَائِيّ، وَالبَزَّارُ وَغَيْرُهُم عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآيَة. قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحَكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَمَّ أَضْحَكْ» ؟ قُلْنَا: لا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لا أُجِيزُ عَلَيَّ إِلا شَاهِدًا مِنِّي، فَيَقُولُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} وَبِالكَرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقُالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَاله، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَلامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلْقَى العَبْدَ رَبَّهُ، فَيَقُولُ اللهُ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الإِبلَ، وَأَذَرُكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ.(5/356)
فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا، فَيُقَالُ: إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثُ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَرَسُولِكَ، وَصليتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنَي بَخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: أَلا نَبْعَثُ شِاهِدًا عَلَيْكَ؟ فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، مَنْ الذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَفَمُهُ وَعِظَامُه بِعَمَلِهِ مَا كَانَ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ المُنَافِقُ وَذَلِكَ الذِي يُسْخَطُ عَلَيْهِ» .
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ:
وَتحَدِّثُ الأَرْضَ التِي كُنَّا بِهَا
أَخْبَارَهَا فِي الحَشْرِ لِلرَّحْمَانِ
وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِي عَدْلٌ بِالذَي
مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلانِ
وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا
مِنْ غَيْرِ أَوْدِيَةٍ وَلا كُثْبَانِ
وَتَقِيءُ يَوْمَ العَرْضِ مِنْ أَكَبْادِهَا
كَالأَصْطِوَانِ نَفَائِسُ الأَثْمَانِ
كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِهِ
مَا لامْرِئٍ بِالأَخْذِ مِنْهُ يَدَانِ
وَكَذَا الجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا
فَتَعُودُ مِثْلُ الرَّمْلِ ذِي الكُثْبَانِ
وَتَكُونُ كَالعِهْنِ الذِي أَلْوَانُهُ
وَصِبَاغُه مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ ... ?(5/357)
.. وَتُبَسُّ بَسًا مِثْلَ ذَاكَ فَتَنْثَنِي
مِثْلَ الهَبَاءِ لِنَاظِرِ الإِنْسَانِ
وَكَذَا البِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ
قَدْ فُجِّرَتْ تَفْجِيرِ ذِي السُّلْطَانِ
وَكَذَالَكِ القَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا
لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ
هَذِي مُكَوَّرةٌ وَهَذَا خَاسِفٌ
وَكِلاهُمَا فِي النَّارِ مَطْرُوحَانِ
وَكَوَاكِبُ الأَفْلاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا
كَلآلِئٍ نُثِرَتْ عَلَى مِيدَانِ
وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شِقًا ظَاهِرًا
وَتَمُورُ أَيْضًا أَيَمَا مَوَرَانِ ... ?
وَتَصِيرُ بَعْدَ الانْشِقَاقِ كَمِثل هَذَا المُهْلِ أَوْ تَكُ وَرْدَة كَدِهَانِ.
وَقاَلَ القَحْطَانِي رَحِمَهُ اللهُ:
... يَوْمُ القِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ
لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ
يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ
وَتَشِيبُ فِيهِ مَفَارِقُ الوِلْدَانِ
يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرَيرٌ شَرُّهُ
فِي الخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأنِ
يَوْمٌ يَجِيءُ المُتَّقُونَ لِرَبِّهِم
وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ العِقْيانِ ... ?(5/358)
.. وَيَجِيءُ فِيهِ المُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى
يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ العَطْشَانِ ... ?
مَوْعِظَةٌ
فَيَا أَيُّهَا المُهْمِلُونَ الغَافِلُونَ تَيَقَّظُوا فَإليكُم يُوَجَّهُ الخِطَابُ وَيَا أَيُّهَا النَائِمُونَ انْتَبِهُوا قَبْلَ أَنْ تُنَاخَ لِلرَّحِيلِ الركابْ، قَبْلَ هُجُومِ هَادِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقَ الجَمَاعَاتِ وَمُذِلِّ الرِّقَابِ وَمُشَتِّتِ الأَحْبَابِ فَيَا لَهُ مِنْ زَائِر لا يَعُوقُهُ عَائِق وَلا يُضْرَبُ دُونَهُ حِجَاب، وَيَا لَهُ مِنْ نَازِلٍ لا يَسْتَأْذِنُ عَلَى المُلُوكِ وَلا يلِحُ مِنَ الأَبْوَابِ، وَلا يَرْحَمُ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّر كَبِيرًا وَلا يَخَافُ عَظِيمًا وَلا يَهَابُ ألا وَأنَّ بَعْدُهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ السُّؤَالِ وَالجَوَابِ، وَوَرَاءهِ هَوْلُ البَعْثِ وَالحَشْرِ وَأَحْواله الصِّعَابِ مِنْ طُولِ المَقَامِ وَالازْدِحَامِ فِي الأَجْسَامِ وَالمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالحِسَابِ.
نظم في البعث بعد الموت والجزاء
... وَإِنَّ نَفْخَةَ إِسْرَافِيلَ ثَانِية ... فِي الصُّوَرِ حَقًا فَيَحْيَى كَلُّ مَنْ قُبِرا
كَمَا بَدَا خَلْقَهُم رَبِّي يُعِيدُهُمُ ... سُبْحَانَ مَنْ أَنْشَأَ الأَرْوَاحَ وَالصُّوَرا
حَتَّى إِذَا مَا دَعَا لِلْجَمْعِ صَارِخُهُ ... وَكُلُّ مَيْتٍ مِنْ الأَمْوَاتِ قَدْ نُشِرَا
قَالَ الإِلَهُ قِفُوهُم لِلسُؤَال لِكَيْ ... يَقْتَصُّ مَظْلُومُهُم مِمَّنْ لَهُ قَهَرَا
فَيُوقَفُونَ أُلُوفًا مِنْ سِنِينِهِم ... وَالشَّمْسُ دَانيةَ وَالرَّشحُ قَدْ كَثُرَا
وَجَاءَ رَبُّك وَالأملاكُ قَاطِبةٌ ... لَهُمْ صُفُوفٌ أَحَاطَتْ بِالوَرَى رُمَرَا
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِالنَّارِ تَسْحَبُهَا ... خُزَّانُهَا فَأَهَللتْ كُلَّ مَنْ نَظَرَا
لَهَا زَفِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ تَغَيُّظِهَا ... عَلَى العُصَاةِ وَتَرْمِي نَحْوَهُم شَرَرَا
وَيُرْسِلُ اللهُ صُحْفَ الخَلْقِ حَاوِيَةً ... أَعْمَالُهم كُلُّ شَيْءٍ جَلَّ أَوْ صَغُرَا
فَمَنْ تَلقْتُه بِإليمْنَى صَحِيفَتُهُ ... فَهُوَ السَّعِيدُ الذِي بِالفَوْزِ ظَفِرَا
وَمَنْ يَكُنْ بِاليدِ اليسْرَى تَنَاوَلَهَا ... دَعَا ثُبُورًا وَللنِّيرَانِ قَدْ حُشِرَا(5/359)
وَوَزْنُ أَعْمَالِهِم حَقًّا فَإِنْ ثَقُلَتْ ... بِالخَيْرِ فَازَ وَإِنْ خَفّتَت فَقَدْ حُشِرَا
وَإِنْ بالمثل تُجْزَى السَّيِئَات كَمَا ... يَكُونُ فِي الحَسَنَاتِ الضِّعْفِ قَدْ وَفَرَا
وَكُلُّ ذَنْبٍ سِوَى الإِشْرَاكِ يَغْفِرُهُ ... رَبِّي لِمْنَ شَاءَ وَلَيْسَ الشِّرْكُ مُغْتَفَرَا
وَجَنَّةُ الخُلْدِ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا ... مُخَلَّدَ لَيْسَ يَخْضَى المَوْتَ وَالكِبَرَا
أَعَدَّهَا اللهُ دَارًا لِلْخُلُودِ لِمَنْ ... يَخْشَى الإِلَهَ وَللنَّعْمَاءَ قَدْ شَكَرَا
وَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ الإِلَهِ بِهَا ... كَمَا يَرَى النَّاسُ شَمْسَ الظُّهْرِ وَالقَمَرَا
كَذَلِكَ النَّارُ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا ... أَعَدَّهَا اللهُ مَوْلانَا لِمَنْ كَفَرَا
وَلا يُخَلَّدُ فِيهَا مَنْ يُوَحِّدُهُ ... وَلَوْ بِسَفْكِ دَمِ المَعْصُومِ قَدْ فَجَرَا
وَكَمْ يُنَجِّي إِلَهِي بِالشَّفَاعَةِ مِنْ ... خَيْرِ البَرِيَّةِ مِنْ عَاص بَهَا سُجِرَا
اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمُخَالَفةِ والعصيانِ وألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كرِيمُ يَا مَنَّان، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي المِيزَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَيزَانٌ حَقِيقِيّ لَهُ كفَّتَانِ وَلِسَانٌ، تُوزُنُ بِهِ أَعْمَالُ العِبَادِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {َمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى(5/360)
الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» . الأَكثرُ عَلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الأُمَمِ وَلِجَمِيعَ الأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارَ تَعَدُّدِ الأَعْمَالِ المَوْزُونَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الأَشْخَاصِ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِل إليهمْ إِلا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: لأَنَّ المِيزَانَ يَحْتَوِي عَلَى لِسَانٍ وَكَفَّتَيْنِ وَشَاهِينَ، وَلا يَتِمُّ الوَزْنُ إِلا بِاجْتِمَاعِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُرِيَهُ المِيزَانَ، فَأَرَاهُ كُلَّ كِفَّةٍ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَغُشِي عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلأ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدَ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلأتُها بِتَمْرَةٍ.
وَأَخْرَجَ البَزَّارُ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي البَعْثِ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ المِيزَانَ، وَيُوكُلُ بِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: سَعُدَ فُلانُ بنُ فُلانٍ سَعَادَةً لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: أَلا شَقِيَ فُلانٌ شَقَاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا» ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكِ» ؟ قُلْتُ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُم يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا فِي ثَلاثِ مَوَاطِنَ فَلا يَذْكُرُ أَحَدًا أحَدًا: عِنْدَ المِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَقَعُ كِتَابَهُ فِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَاله أَمْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَعِنْد الصِّرَاطِ إَذَا وَضَعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ حَتَّى يَجُوزَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَلا تَغْفَلْ عَنِ المِيزَانِ بِلْ فَكِّرْ فِيهِ وَخَطَرِهِ، وَأَنَّ الأَعْيُنَ شَاخِصَةٌ إِلَى لِسَانِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا يَنْجُو مِنْ خَطَرِهِ إِلا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا،(5/361)
وَوَزْنَ أَعْمَاله فِيهَا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَتَتَبَّعَ أَقْواله وَخَطَرَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يِجِبُ الإِيمَانُ بِهِ كَالمِيزَانِ الصُّحُفِ، وَهِيَ صُحُفُ الأَعْمَال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} فَيُجْمَعُ لَهُ عَمَلُهُ كُلُّهُ فِي كِتَابٍ يُعْطَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ البَعْثِ وَالحِسَابِ، يَلْقَاُه مَفْتُوحًا غَيْرَ مَطْوِيّ يَقْرَؤُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، وَقَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، وَقَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} .
فَلَيْسَ بِمُهْمَلٍ بَلْ لَهُ مَلائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، وَيَحْفَظُونَهُ مِنَ الأَسْوَاءِ وَالحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلائِكَة آخَرُونَ لِحِفْظِ الأَعْمَالِ مَنْ خَيْرٍ أَوْ شَرِّ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ اليمين وَالشَّمِالِ يَكْتُبَانِ الأَعْمَالَ، صَاحِبُ اليمين يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخِرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، وَاحِدٌ مِنْ وَرَائِهِ، وَآخَرُ مِنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَمْلاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلاً، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونِ فِي(5/362)
صَلاةِ الصُّبْحِ، وَصَلاةِ العَصْرِ، فَيَصْعَدُ إليه الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُم وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُم يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «إِنَّ مَعَكُم مَنْ لا يُفُارقُكُم إِلا عِنْدَ الخَلاءِ وَعِنْدَ الجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ» .
شِعْرًا: ... إِنْ سَرَّكَ الشَّرَفُ العَظِيمُ مَعَ الغِنَى
وَيَكُونُ يَوْمَ أَشَدِّ خَوْفٍ وَابِلا
يَوْمَ الحِسَابِ إَذَا النُّفُوسِ تَثَاقَلَتْ
فِي الوَزْنِ إِذْ غَبَطَ الأَخَفُّ الأَثْقَلا
فَاعْمَلْ لِمَا بَعْدَ المَمَاتِ وَلا تَكُنْ
عَنْ حَظِّ نَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ غَافَلا ... ?
اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ واليقين وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ وَأَنَّكَ غَيْرَ مَتْرُوكٍ سُدَى، فَالوَاجِبُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ عَاقِلاً تُرِيدُ نَجَاةَ نَفْسِكَ أَنْ لا تَغْفَلَ وَلا سَاعَةً، وَأَنْ تَكُونَ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ، وَتَفَكَّرْ فِيمَا أَمَامَكْ مِنْ العَقَبَاتِ وَالأَهْوَالِ المُزْعِجَاتِ، وَاذْكُرْ(5/363)
تَطَايُرَ الصُّحُفِ إِلَى الأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيَاتِ وَقَالَ عَزَّ مِنْ قائِل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْتَى بِالعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَوْ الأَمَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ: هَذَا فُلانُ بنُ فَلانٍ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَليَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرَحُ المَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الحَقُّ عَلَى أَبِيهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} فَيَغْفِرُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَشَاءُ، وَلا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شِيْئًا فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ، فَيَقُولُ: ائْتُوا إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُم، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ فَنِيْتْ الدُّنْيَا، مِنْ أَيْنَ أُوتِيهُمْ حُقُوقَهُمْ؟ فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ أَعْمَاله الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا للهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَ المَلِكَ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُه وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيَّئَاتِهِم فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ.
وَعَنْ أَنْسٍ أَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهِ لا(5/364)
يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةً» .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وَالحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً} ، يَعْنِي: الجَنَّةَ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسْكِنَنَا وَإِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ الجَنَّةَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرُو بنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ لَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ. فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ تعالى: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليوم فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ؟ فَقَالَ: فإِنَّكَ لا تُظْلَمُ فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، ولا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ.
وَخُصّ مِمَّنْ يُحَاسَبُ وَتُوزَنُ أَعْمَالُهْم طَائِفَتَانِ، فَمِنِ الكُفَّارِ مِنْ لَيْسَ لَهُمْ حَسَنَةٌ، فَهُؤلاءِ يَقَعُونَ فِي النَّارِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلا مِيزَانٍ، وَمِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ لا سَيِّئَةَ لَهُ وَلَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ الإِيمَانِ، فَهَذَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْبِ حِسَابٍ، كَمَا فِي قِصَّةِ السَّبْعِينَ أَلْفًا، وَمَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهم، وَهُمْ الذِينَ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ كَلَمْحِ(5/365)
البَصَرِ، وَكَالبَرْقِ الخَاطِفِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأْجَاوِدْ الخَيْلِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالكُفَّارِ يُحَاسَبُونَ، وَتُعْرَضُ أَعْمَالُهم عَلَى المَوَازِينِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} : إِنَّهُ يَحْشُرُ الخَلائِقَ كُلَّهُم يَوْمَ القِيَامَةِ، البَهَائِمِ وَالدَّوَابِ وَالطَّيْرِ وَكُلِّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللهَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ القَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فلذلِكَ {يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} فَتَفَكَّرْ فِي صَحِيفَتِكَ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ خَشْيَةَ أَنْ تَخْرُجَ مَمْلُوَءةً بِالسَّيِّئَاتِ. وَاللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
... عَلامَةُ صِحَّةٍ لِلْقَلْبِ ذِكرٌ
لِذِي العَرْشِ المُقَدَّسِ ذِي الجَلالِ
وَخِدْمَةُ رَبِّنَا فِي كُلِّ حَالِ
بِلا عَجْزٍ هُنَالِكَ أَوْ كَلالِ
وَلا يَأْنَسْ بِغَيْرِ اللهِ طُرًا
سِوَى مَنْ قَدْ يَدُلُّ إِلَى المَعَالي
وَيَذْكُرُ رَبَّهُ سِرًا وَجَهْرًا
وَيُدْمِنُ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ حَالِ
وَفِيهَا وَهُوَ ثَانِيها إِذَا مَا
يَفُوتُ الوِرْدُ يَوْمًا لاشْتِغَالِ
فَيَأْلَمُ لِلْفَوَاتِ أَشَّدَ مِمَّا
يَفُوتُ عَلَى الحَرِيصِ مِنَ الفِضَالِ ... ?(5/366)
.. وَمِنْهَا شُحُّهُ بِالوَقْتِ يَمْضِي
ضَيَاعًا كَالشَّحِيحِ بِبَذْلِ مَالِ
وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ اهْتِمَامٌ
بِهَمٍ وَاحِدٍ غَيْرَ انْتِحَالِ
فَيَصْرَفُ هَمَّهُ للهِ صِرْفًا
وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ مِنَ المَوَالِ
وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ إِذَا مَا
دَنَا وَقْتُ الصَّلاةِ لِذِي الجَلالِ
وَأَحْرَمَ دَاخِلاً فِيهَا بِقَلْبٍ
مُنِيبٍ خَاضِعٍ فِي كُلِّ حَالِ
تَنَاءَى هَمُّهُ وَالغَمُّ عَنْهُ
بِدُنْيَا تَضْمَحِلُّ إِلَى زَوَالِ
وَوَافَى رَاحَةٌ وَسُرُورَ قَلْبٍ
وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَنَعِيمَ بَالِ
وَيَشْتَدُّ الخُرُوجُ عَلَيْهِ فِيهَا
فَيَرْغَبُ جَاهِدًا فِي الابْتِهَالِ
وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ اهْتِمَامٌ
بِتَصْحِيحِ المَقَالَةِ وَالفِعَالِ
وَأَعْمَالٍ وَنِيَّاتٍ وَقَصْدٍ
عَلَى الإِخْلاصِ يَحرصُ بِالكَمَالِ
أَشَدَّ تَحَرُّصًا وَأَشَدَّ هَمًا
مِنَ الأَعْمَالِ تَمَّتْ لا يُبالي ... ?(5/367)
.. بِتَفْرِيطِ المُقَصِّرِ ثُمَّ فِيهَا
وَإِفْرَاطٍ وَتَشْدِيدِ لِغَالي
وَتَصْحِيحِ النَّصِيحَةِ غَيْرَ غِشٍّ
يُمَازِجُ صَفْوَهَا يَوْمًا بِحَالِ
وَيَحْرِصُ فِي إتِّبَاعُ النَّصُ جَهْدًا
مَعَ الإِحْسَانِ فِي كُلَّ الفِعَالِ
وَلا يُصْغِي لِغَيْرِ النَّصِ طُرًا
وَلا يَعْبَأَ بِآرَاءِ الرِّجَالِ
فَسِتُّ مَشَاهِدٍ لِلْقَلْبِ فِيهَا
عَلامَاتٌ عَنِ الدَّاءِ العُضَالِ
وَيَشْهَدُ مِنْهُ لِلرَّحْمَنِ يَوْمًا
بِمَا أَسْدَى عَلَيْهِ مِنَ الفِضَالِ
وَيَشْهَدُ مِنْهُ تَقْصِيرًا وَعَجْزًا
بِحَقِّ اللهِ فِي كُلِّ الخِلالِ
فَقَلْبٌ لَيْسَ يَشْهَدُهَا سَقِيمٌ
وَمَنْكُوسٌ لِفِعْلِ الخَيْرِ قَالي
فَإِنْ رُمْتَ النَّجَاةَ غَدًا وَتَرْجُوا
نَعِيمًا لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ
نَعِيمٌ لا يُبِيدُ وَلَيْسَ يَفْنَى
بِدَارِ الخُلْدِ فِي غُرَفٍ عَوَالِ
فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا
فَإِنَّ اللهَ جَلَّ عَنِ المِثَالِ ... ?(5/368)
.. عَلا بِالذَّاتِ فَوْقَ العَرْشِ حَقًّا
بِلا كَيْفٍ وَلا تَأْوِيلِ غَالِ
عُلُوُّ القَدْرِ وَالقَهْرِ اللَّذَانِ
هُمَا للهِ مِنْ صِفَةِ الكَمَالِ
بِهَذَا جَاءَنَا فِي كُلِّ نَصٍّ
عَنِ المَعْصُومِ فِي صَحْبٍ وَآلِ
وَيَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلِّ لَيْلٍ
إِلَى أَدْنَى السَّمَاوَاتِ العَوَالي
لِثُلْثِ اللَّيْلِ يَنْزِلُ حَِينَ يَبْقَى
بِلا كَيْفٍ عَلَى مَرِّ اللَّيَالي
يُنَادِي خَلْقَهُ هَلْ مِنْ مُنِيبٍ
وَهَلْ مِنْ تَائِبٍ فِي كُلِّ حَالِ
وَهَلْ مِنْ سَائِلٍ يَدْعُو بِقَلْبٍ
فَيُعْطَى سُؤْلَهُ عِنْدَ السُّؤَالِ
وَهَلْ مُسْتَغْفِرٍ مِمَّا جَنَاهُ
مِنَ الأَعْمَالِ أَوْ سُوءِ المَقَالِ
وَيَشْهَدُ أَنَّمَا القُرْآنُ حَقًّا
كَلامُ اللهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِلالِ
وَلا تَمْوِيهِ مُبْتَدِعٍ جَهُولٍ
بَخَلْقِ القَوْلِ عَنْ أَهْلِ الضَّلالِ
وَآيَاتُ الصِّفَاتِ تُمَرُّ مَرًا
كَمَا جَاءَتْ عَلَى وَجْهِ الكَمَالَ ... ?(5/369)
.. إَلَهٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ عَظِيمٌ
عَلِيمٌ عَادِلٌ حَكَمُ الفِعَالِ
رَحِيمٌ بِالعِبَادِ إِذَا أَنَابُوا
وَتَابُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الضَّلالِ
شَدِيدُ الانْتِقَامِ لِمَنْ عَصَاهُ
وَيُصليهِ الجَحِيمَ وَلا يُبَالي
فَبَادِرْ بِالذِي يَرْضَاهُ تَحْظَى
بِخَيْرٍ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَآلِ
وَلازِمْ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ وْقْتٍ
وَلا تَرْكَنْ إِلَى قِيلٍ وَقَالِ
وَأَهْلِ العِلْمِ نَافِسْهُمْ وَسِائِلْ
وَلا يَذْهَبْ زَمَانُكَ فِي اغْتِفَالِ
وَأَحْسَنَ وَانْبَسِطْ وَارْفُقْ وَنَافِسْ
لأَهْلِ الخَيْرِ فِي رُتَبَ المَعَالي
فَحُسْنُ البِشْرِ مَنْدُوبٌ إليه
وَيَكْسُوا أَهْلَهُ ثَوْبَ الجَمَالِ
وَأَحْبِبْ فِي الإِلَهِ وَعَادِ فِيهِ
وَأَبْغِضْ جَاهِدًا مِنْهُ وَوَالِ
وَأَهْلَ الشِّرْكِ بَايِنْهُم وَفَارِقْ
وَلا تَرْكَنْ إِلَى أَهْلِ الضَّلالِ
وَتَشْهَدُ قَاطِعًا مِنْ غَيْرِ شكٍّ
بِأَنَّّّّّ اللهَ جَلَّ عَنِ المِثَالِ ... ?(5/370)
.. وَرُؤْيَا المُؤْمِنِينَ لَهُ تَعَالَى
عِيَانًا فِي القِيَامَةِ ذِي الجَلالِ
يَرَى كَالبَدْرِ أَوْ كَالشَّمْسِ صَحوًا
بِلا غَيْمٍ وَلا وَهْمٍ خِيَالِ
وَمِيزَانُ الحِسَابِ كَذَاكَ حَقًّا
مَعَ الحَوْضِ المُطَهَّرِ كَالزِلالِ
وَمِعْرَاجُ الرَّسُولِ إليه حَقًّا
بِنَصِّ وَارِدِ لِلشَّكِ جَالي
كَذَاكَ الجَسْرُ يُنْصَبُ لِلبرَايَا
عَلَى مَتْنِ السَّعِيرِ بِلا مُحَالِ
فَنَاجٍ سَالِمٍ مِنْ كُلِّ شَرٍّ
وَهَا هُوَ هَالِكٍ لِلنَّارِ صَالي
وَتُؤْمِنُ بِالقَضَا خَيْرًا وَشَرًّا
وَبِالمَقْدُورِ فِي كُلِّ الفِعَالِ
وَأَنَّ النَّارَ حَقٌ قَدْ أَعِدَتْ
لأَعْدَاءِ الرُّسُولِ ذَوِي الضَّلالِ
بِحِكْمَةِ رَبِّنَا عَدْلاً وَعِلْمًا
بِأَحْوَال الخَلائِقِ فِي المَالِ
وَأَنَّ الجَنَّةَ الفِرْدَوْسَ حَقٌّ
أُعِدَّتْ لِلْهُدَاةِ أُوُلِي المَعَالِ
بِفَضْلٍ مِنْهُ إِحْسَانًا وَجُودًا
بِلا شَكٍّ هُنَالِكَ لِلسُّؤَالِ(5/371)
.. وَكُلٌّ فِي المَقَابِرِ سَوْفَ يُلْقَى
وَتَكْرِيمًا لَهُمْ بَعْدَ الوِصَالِ
نَكِيرًا مُنْكَرًا حَقًّا بِهَذَا
أَتَانَا النَّقْلُ عَنْ صَحْبٍٍ وَآلِ
وَأَعْمَالاً تُقَارِنُهُ فَإِمَّا
بِخَيْرٍ قَارَنْتَ أَوْ سُوءِ حَالِ ... ?
(مَوْعِظَةٌ)
اسْتَلِبْ زَمَانِكَ يَا مَسْلُوبْ! وَغَالِبِ الهَوَى يَا مَغْلُوبْ! وَحَاسِبْ نَفْسَكَ فَالعُمْرُ مَحْسُوبْ، وَامْحِ قَبِيحَكَ فَالقَبِيحُ مَكْتُوبْ، وَاعَجِبًا لِنَائِمٍ وَهُوَ مَطْلُوبْ، وَلِضَاحِكٍ وَعَلَيْهِ ذُنُوبْ.
... أَلا ذَكِّرَانِي قَبْلَ أنْ يَأْتِي المَوْتُ ... وَيُبْنَى لِجُثْمَانِي بِدَارِ البَلَى بَيْتُ
وَعَرَّفَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلامَتِي ... وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْتُ
وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُو إِلَى البِلا ... فَقُلْتُ: أَرَانِي قَدْ قَرُبَتُ فَأَدْنِيتُ
أَيْنَ الدُّموعُ السَّوَاجِمْ؟ قَبْلَ المَنَايَا الهَوَاجِمْ، أَيْنَ القَلَقُ الدَّائِم؟ لِلذُّنُوبِ القَدَايم، أَتَرَى أَثَّرتِ المَلاوِمْ؟ فِي هَذِهِ الأَقَاوِمْ، أَيُّهَا الْقَاعِدُ وَالْمَوْتُ قَائِمٌ أَنَائِمٌ أَنْتَ عَنْ حَدِيثِنَا أَمْ مُتَنَاوِمْ؟ لا بُدَّ وَالله مِنْ ضَرْبَةِ لازِمْ تَقْرُعُ لَهَا نَادِمْ، لا بُدَّ مِنْ مَوْجِ هَوْلٍ مُتَلاطِمْ، يُنَادِي فِيهِ نُوحُ الأَسَى لا عَاصِمْ، لا بُدَّ مِنْ سَقَمِ السَّالِمْ يَنْسَى فِيهِ يَا أَمَّ سَالِمْ.
يَا مَنْ سَيَنْأى عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ اليقين فَوَجِّهُوهْ
وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِه ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهُ
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهَمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(5/372)
(فَصْلٌ)
وَمِمَّا يَنْبَغِِي إِيرَادُه في هَذَا المَقَامِ بَعْضُ المَعَاصِي التِي قَدْ تَلَبَّس بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيَبْتَعِدَ عَنْهَا، وَعَنْ مَنْ يُقَارِفُهَا، وَيَنْصَحُ عَنْهَا، وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا أَمْرَاضٌ فَتَّاكَةٌ أَعْظَمُ وَأَخْطَرُ مِنْ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ، لأَنَّهَا تُذْهِبُ الحَسَنَاتِ، وَرُبَّمَا أَدَّتْ بِالإِنْسَانِ إِلَى الهَلاكِ الأَبَدَيّ، وَالعَذَابُ السَّرْمَدِيّ، مِنْ ذَلِكَ: أَكْلُ الحَرَامِ، أَوْ رِيَاءَ، أَوْ رِبَا، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى مَنْعِ زَكَاةٍ، أَوْ عَدَمُ تَنَزُّهٍ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ تَرْكُ حُضُورِ جُمْعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، أَوْ غِيبَةٌ، أَوْ نَمِيمَةٌ، أَوْ حَسَدٌ، أَوْ مَنْعِ حُقُوقٍ وَاجِبَاتٍ، أَوْ كَذِبٌ عَلَى اللهِ، أَوْ أَذِّيَةُ جَارٍ، أَوْ قَرِيبٍ، أَوْ كَثْرَةُ أَيْمَانٍ لِتَرْوِيجِ سِلعٍ، أَوْ غِشٌّ فِي بَيْعٍِ أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ تَدْلِيسٌ، أَوْ اقْتِطَاعُ شَيْءٍ مِنْ أَرَاضِي المُسْلِمِينَ، أَوْ اسْتِعْمَالِ آلاتِ اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ، كَالعُودِ وَالبَكمِ وَالتِّلِفِزْيُونِ وَالمِذْيَاعِ وَالفيديو، أَوْ تَغِييرُ مَنَارِ الأَرْضِ، أَوْ لُبْسُ الرِّجَالِ لِلْحَرِيرِ، أَوْ الذَّهَبِ، أَوْ تَشَبُّهٍ بِنَسَاءٍ، أَوْ نَظَرٌ إِلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ إِعَانَةُ ظَالِمٍ، أَوْ تَرُك نَصْرِ مَظْلُومٍ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ، أَوْ شِهَادَةٌ بِزُورٍ، أَوْ نَجْشٌ لإِيذَاءِ مُؤْمِنْ، أَوْ تَرْكِ الْوَلاءِ وَالْبَرَاءِ بِمُجَالَسَةِ الْعُصَاةِ، وَمُوَاكلتُهم، وَتَرْكُ هَجْرِهِم، أَوْ تَدْلِيسٌ، أَوْ غِشٌ أَوْ مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي، كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ، وَشُرْبِ الدُّخَانِ، وَتَشَبُهٍ بَأَعْدَاءِ الإِسْلامِ، بِجَعْلِ خَنَافِسَ وَتَوَإليتٍ، وَكَخُلْوَةٍ بِامْرَأَةٍ لا تُحِلُّ لَهُ، أَوْ يُرْكِبُهَا مَعَهُ، وَلا مَحْرَمَ مَعَهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، أَوْ تَصْوِيرُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ أَوْ شِرَائِهَا، أَوْ الرِّضَى بِهَا وَعَدَمُ إتْلافِهَا، أَوْ مَيْلٌ مَعَ بَعْضِ مَنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ، أَوْ تَنْشِيزُ زَوْجَةٍ عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، بَأَنْ يُنَشِّزَ الزَّوْجَ عَنْهَا، أَوْ إضْرَارٌ لِتَفْتَدِي مِنْهُ، أَوْ جَعْلُ يَدٍ عَلَى قَرِيبَةً لَهُ وَمَنْعِهَا مِنْ الزَّوَاجِ إِلا لَهُ أَوْ لِمَنْ يُرِيدُهَا لَهُ، أَوْ مُسَاعَدَةٌ لِصَاحِبِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ يُؤْوِي مُحْدِثًا، أَوْ عُقُوقٌ لِوَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، أَوْ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، أَوْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ(5/373)
زِنَى أَوْ لِوَاطٍ، أَوْ إِتْيَانُ مَنْ حَاضَتْ، أَوْ إِتْيَانُهَا فِي الدُّبُرِ، أَوْ إِتْيَانُ بَهِيمَةٍ، أَوْ دِيَاثَةٌ، أَوْ كَتْمُ شَهَادَةٍ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَكْذِيبٌ بِالمَلائِكَةِ، أَوْ بِالجِنِّ، أَوْ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللهِ، أَوْ قَذْفُ مُحْصَنٍ، أَوْ شُرْبُ مُسْكِر، أَوْ سُجُودٌ لِغَيْرِ اللهِ، أَوْ أَنْ تُلْحَقَ المَرْأَةُ أَوْلادًا بِزَوْجِهَا، وَكَذَا الزَّانِي إِذَا أَدْخَلَ أَوْلادًا عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَخْذُ مَكْسٍ أَوْ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ وَشْمٌ، أَوْ نَمْصٌ، أَوْ مَحَبَّةُ قِيَامٍ لَهُ، أَوْ مُخَاصَمَةٌ بِبَاطِلٍ، أَوْ جُورٍ فِي وَصِيَّةٍ، أَوْ اتِّخَاذُ مَسَاجِدَ عَلَى القُبُورِ أَوْ إِسْرَاجُهَا، أَوْ سَرِقَةٌ، أَوْ جَحْدُ عَارِيَّةً، أَوْ كَذِبُ عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ غَصْبٌ مَالِ مُسْلِمٍ، أَوْ أَكْلُ مَالِ يَتِيمٍ، أَوْ فِطْرٌ فِي رَمَضَانَ، أَوْ خِيَانَةٌ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ، أَوْ تَقْدِيمُ الصَّلاةِ عَلَى وَقْتِهَا، أَوْ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ ضَرْبُ مُسْلِمٍ بِلا حَقٍّ، أَوْ تَرْوِيعُهُ، أَوْ سَبٌّ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَوْ رِشْوَةٌ فِي الحُكْمِ، أَوْ قِيَادَةٌ، أَوْ نِسْيَانٌ لِلْقُرْآنِ، أَوْ تَحْرِيقُ حَيَوانٍ بِالنَّارِ، أَوْ تَرْكُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَوْ أَمْنٌ مِنْ مِكْرِ اللهِ، أَوْ وَقِيعَةٌ فِي أَهْلِ العِلْمِ وَالقُرْآنِ، أَوْ سِحْر، أَوْ بَهْتُ مُسْلِم، أَوْ تَهَاوُنُ القَادِرِ بِالحَجِّ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، أَوْ تَكْذِيبٍ بِالقَدَرِ، أَوْ هَجْرُ مُسْلِمٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا لِعُذْرٍ فِي المَهْجُورِ كَتَظَاهُرِهِ بِالفِسْقِ، أَوْ يَكُونَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ بَيْعُ حُرٍّ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ، أَوْ مَنْعِ أَجِيرٍ أُجْرَتَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ العَمَلِ مِنْهُ، أَوْإِتْيَانُ كَاهِنٍ، أَوْ اتِّخَاذ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا، أَوْ لَعْنُ مُسْلِم، أَوْ التَّسَبُّبُ فِي لَعْنِ الوَالِدَيْنِ، أَوْ يَقُولُ فِي يَمِينِهِ: وَإِلا كُنْتُ يَهُودِيًا أَوْ نَصْرَانِيًا، أَوْ كَافِرًا وَنَحْوَ هَذَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ، أَوْ يَتَتَبَّعُ عَوْرَاتِ المُسْلِمِينَ، أَوْ يُنَابِزَ بِالأَلْقَابِ المَكْرُوهَةِ عِنْدَ مَنْ لُقِّبَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَنْتَسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يَطْعَن فِي الأَنْسَابِ الثَّابِتَةِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، أَوْ نِيَاحَةٍ عَلَى مَيِّتٍ، أَوْ امْتِنَاعِ المَرْأَةِ مِنْ فِرَاشِ زَوْجِهَا بِلا(5/374)
عُذْرٍ، أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ، أَوْ يَا عَدُوَّ اللهِ، أَوْ يَسُبُّ الدَّهْرَ، أَوْ يَعْصِرُ العِنَبَ لِلْخَمْرِ، أَوْ يَزْرَعُ الدُّخَانَ، أَوْ يَبِيعُه أَوْ يُوَرِّدُهُ، أَوْ يَحْلِقُ لِحَى المُسْلِمِينَ، أَوْ يُسَاعِدُهُم عَلَى التَّشَبُّهِ بِأَعْدَاءِ اللهِ بِتَصليحِ خَنَافِسِهِم وَجُعْلانِهِم وَتَوَإلياتِهم، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَامِرُ، أَوْ يَشْهَدُ بِالرِّبَا أَوْ يُوَكِّلُهُ أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَمْنَعُ ابْنَ السَّبِيلِ عَنْ فَضْلٍ مَا، أَوْ يَمُنُّ بِالعَطَاءِ، أَوْ يُسْبِلُ وَيَجُرُّ ثِيَابَهُ خُيَلاءً، أَوْ يَجُورُ في الحُكْمِ، أَوْ يُحْدِثُ فِي الدِّينِ، أَوْ يُؤْوِي مُحْدِثًا، أَوْ يَتَكَبَّرُ، أَوْ يَخْتَالُ فِي مَشْيَتِهِ، أَوْ يَعْتَادُ الكَذِبَ، أَوْ يَكْذِبُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَسْتَمِعُ لِمَنْ يَكْرَهُونَ سَمَاعَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ، أَوْ يَغُلُّ مِنَ الغَنِيمَةِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، أَوْ يَقْتُلُ ذِمِيًّا، أَوْ يَأْكُلُ الحَرَامَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ سُخْرِيَةٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِمُسْلِمٍ، أَوْ تَعَلُّمُ العِلْمَ لِغَيْرِ وَجَهِ اللهِ، أَوْ يُفَسِّرُ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ، أَوْ يَكْتُمُ عِلْمًا شَرْعِيًا مَعَ تَعَيُّنِ الجَوَابِ عَلَيْهِ، أَوْ مِرَاءٌ فِي القُرْآنِ، أَوْ مُرُورٌ بَيْنَ يَدَيْ مُصَلِّ، أَوْ يَسْتَدِينَ وَلا يُرِيدُ الوَفَاءَ، أَوْ يُحَلِّلَ المَرْأَةَ لِغَيْرِهِ، أَوْ تُحَلَّلَ لَهُ، أَوْ إِفْشَاءُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ السِّرِّ الذِي بَيْنَهُمَا، أَوْ يَجْعَلُ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ كُفَارًا لِخَدَّامِينَ وَمُرَبِّينَ وَسَوَّاقِينَ وَطَبَّاخِينَ وَخَيَّاطِينَ رِجَالاً وَنِسَاءً أَوْ يَتَسَّبَبْ لإِتْيَانِهم لِبَلادِ المُسْلِمِين.
وذُقْتُ مَرَارَتَ الأَشَيَاطُرًا ... فَمَا طَعْمٌ أَمَرَّ مِنَ المَعَاصِي
وَنَحُْ هَذِهِ المَعَاصِي، وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ صَحِيفَةِ الإِنْسَانِ مَعْصِيَة يَظُنُّهَا سَهْلَةٌ وَهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» وَرُبَّمَا عَمَلَ أَعْمَالاً ظَنَّهَا حَسَنَاتٍ فَتَبْدُوا يَوْمَ القِيَامَةِ سِيِّئَاتٍ بِسَبَبِ رِيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَمَا أَدْرِي وَإِنْ أَمَّلْتُ عُمْرًا ... لَعَلِّي حَينَ أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي
وَلِلدُّنْيَا وَسَاكِنهَا سُيُولٌ ... وَأَنْتَ عَلَى مَدَارِجِهنَّ مُرْسِيْ(5/375)
كَأَنَّكَ لا تَرَى بِالخَلْقِ نَقْصًا ... وَأَنْتَ تَرَاهُ كُلَّ شُرُوقِ شَمْسِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ ... واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
(فَصْلٌ)
ثُمَّ تَفَكَّرْ - بَعْدَ تَفَكُّرِ فِيمَا سَبِقَ - فِي الصِّرَاطِ الذِي هُوَ الجِسْرُ المَنْصُوبِ عَلَى متْنِ جَهَنَّمَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، خَرَجَ البَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ زِيَادٍ النُمَيْرِيّ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّرَاطُ كَحَدِّ الشَّفْرَةِ، أَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ يُنْجُّونَ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جِبْرَيلَ لآخِذٌ بِحُجْزَتِي، وَإِنِّي لأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سلِّمْ، فَالزَّالُّونَ وَالزَّالاتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ» ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيّ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلاً قَالَ فِيهِ: «ثُمَّ يُضْرَبُ الجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سلِّمْ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الجِسْرُ؟ قَالَ: «دَحْضُ مَزَلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفٌ وَكَلاليبٌ، وَحَسَكَةٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ المُؤْمِنُ كَطَرْفِ العَيْنِ، وَكَالبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ» . خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
خَطَبَ أَحَدُ العُلَمَاءِ خُطْبَةً بِلِيغَةً فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّكْمْ مَيَّتُون وَمَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
وَتُوقَفُونَ عَلَى أعمالكم وَتُجْزَوْنَ بها فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها بِالبَلاءِ وَالمَصَائِبِ مَحْفُوفَة، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال.
شِعْرًا:
مَا أَفْضَحَ المَوْتَ لِلدُّنْيَا وَزِينتِهَا ... جِدًّا وَمَا أَفْضَحَ الدُّنْيَا لأَهْلِيهَا
لا تَرْجِعَنَّ عَلَى الدُّنْيَا بِلائِمَةٍ ... فَعُذْرُهَا لَكَ بَادٍ فِي مَسَاوِيهَا(5/376)
لَمْ تُبْقَ في غَيْبِهَا شَيْئًا لِصَاحِبَهَا ... إِلا وَقَدْ بَيَّنَتْهُ في مَعَانِيهَا
تُفْنِي البَنِينَ وَتُفْنِي الأَهْلَ دَائِبَةً ... وَنَسْتَنِيمُ إليها لا نُعَادِيهَا
فَمَا يَزِيدُكُمْ قَتْلُ الذِي قَتَلَتْ ... وَلا العَدَاوَةُ إِلا رَغْبَةً فِيهَا
لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ وَسُرُورٍ وَنَعِيمٍ وَخَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي بَلاءٍ وَغُرُور، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وَالرَّخَاءُ فِيهَا لا يَدُوم وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَعْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَة تَرْمِيهَا بِسِهَامِهَا وَتَقْصِمُهُمْ بِحِمَامِهَا، وَكُلٌّ حَتْفُهُ فِيهَا مَقْدُور وَحَظُّهُ فِيهَا مَوْفُور.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكَمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيل مَنْ قَدْ أَمْضَى مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَل مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ مِنْكُمْ بَطْشًا وَأَعْمَرِ دِيَارًا وَأَبْعَدَ آثَارًا فَأَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً خَامِدَةً مِنْ بَعْدِ طُولِ تَقَلُّبِهَا وَأَصْبَحَتْ أَجْسَادُهُم بَإلية وَدَيَارُهُم عَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَة وآثارهم عافية.
وَاسْتَبْدَلُوا القُصُورَ المُشَيَّدَةِ وَالسُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ المُمَهَّدَةِ بِالتُّرَابِ وَالصُّخُورِ وَالأَحْجَارِ المُسَنَّدَةِ فِي القُبور اللاطِئَة المُلَحَّدَةِ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرَب وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِب بَيْنَ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مُوحِشِينِ.
لا يَسْتَأْنِسُونَ بِالعُمْرَانِ وَلا يَتَوَاصُلُونَ تَوَاصُل الجِيران على ما بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ المَكَانِ وَالجَوِارِ وَدُنُوِّ الدارِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَاصُلٍ وَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الجنَاَدِلُ وَالثَّرى وَأَصْبَحُوا بَعْدَ الحَيَاةِ أَمْوَاتًا وَبَعْدَ نَضَارَةِ العَيْشِ رُفَاتًا.
فَجَعَ بِهِمُ الأَحْبَابِ وَسَكَنُوا تَحْتَ التُّرَابِ ظَعَنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَاب فَكَأَّنْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إليه مِنَ البَلاءِ وَالوِحْدَة فِي دَارِ المَثْوَى وَارْتُهِنْتُمْ فِي ذَلِكَ المَضْجَعِ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ المُسْتَوْدَع.
فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا عَايَنْتُمُ الأُموُرَ بُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَوُقِّفْتُمْ لِلتَّحْصِيلِ بَيْنَ يَدَيْ المَلِك الجَلِيلِ فَطَارَتْ القُلُوبُ لإِشْفَاقِهَا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ وَهُتِكَتِ الحُجُبُ وَالأَسْتَار وَظَهَرتْ مِنْكُم العُيُوبُ وَالأَسْرَار.(5/377)
هُنَالِكَ تُجْزَى كل نَفْس بِمَا كَسَبتْ قَالَ اللهُ جَلَّ جَلاله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآيَة.
قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاء:
تَبًا لِطَالِبِ دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا ... كَأَنَّمَا هِيَ فِي تَعْرِيفِهَا حُلُمُ
صَفَاؤُهَا كَدَرٌ سُرُورُهَا ضَرَرٌ ... أَمَانُهَا غَرَرٌ أَنْوَارُهَا ظُلَمُ
شَبَابُهَا هَرَمٌ رَاحَاتُهَا سَقَمٌ ... لَذَّاتِها نَدَمٌ وُجْدَانُهَا عَدَمُ
لا يَسْتَفِيقُ مِنَ الأَنْكَادِ صَاحِبُهَا ... لَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَا قَدْ ضُمِّنَتْ أَرَمُ
فَخَلِّ عَنْهَا وَلا تَرْكَنْ لِزَهْرَتِهَا ... فَإِنَّهَا نِعَمٌ فِي طَيِّهَا نَقِمُ
وَاعْمَلْ لِدَارِ نعَِيمٍ لا نَفَادَ لَهَا ... وَلا يُخَافُ بِهَا مَوْتٌ وَلا هَرَمُ
آخر: ... يَا آمِنَ السَّاحَةِ لا يُذْعَرُ ... بَيْنَ يَدَيْكَ الفَزَعُ الأَكْبَرُ
وَإِنَّمَا أَنْتَ كَمَحْبُوسَةٍ ... حُمَّ رَداَهَا وَهِيَ لا تَشْعُرُ
وَالمَرْءُ مَنْصُوبٌ لَهُ حَتْفُهُ ... لَوْ أَنَّهُ مِنْ عَمَهٍ يُبْصِرُ
وَهَذِهِ النَّفْسُ لَهَا حَاجَةٌ ... وَالعُمْرُ عَنْ تَحْصِيلِهَا يَقْصُرُ
وَكُلَّمَا تُزْجَرُ عَنْ مَطْلَبٍ ... كَانَتْ بِهِ أَكْلَفَ إِذْ تُزْجَرُ
وَإِنَّمَا تَقْصُرُ مَغْلُوبَةً ... كَالمَاءِ عَنْ عُنْصُرِهِ يَقْصُرُ
وَرُبَّمَا أَلْقَتْ مَعَاذِيرَهَا ... لَوْ أَنَّهَا وَيْحَهَا تُعْذَرُ
وَنَاظِرُ المَوْتِ لَهَا نَاظِرٌ ... لَوْ أَنَّهَا تَنْظُرْ إِذْ يُنْظَرُ
وَزَائِرُ المَوْتِ لَهُ طَلْعَةٌ ... يُبْصِرُهَا الأَكْمَهُ وَالمُبْصِرُ
وَرَوْعَةُ المَوْتِ لَهَا سَكْرَةٌ ... مَا مِثْلُهَا مِنْ رَوْعَةٍ تُسْكِرُ
وَبَيْنَ أَطْبَاق الثَّرى مَنْزلٌ ... يَنْزِلُهُ الأَعْظَمُ وَالأَحْقَرُ
يَتْرُك ذُو الفَخْرِ بِهِ فَخُرَهُ ... وَصَاحِبُ الكِبْرِ بِهِ يِصْغُرُ(5/378)
.. قَدْ مَلأتْ أَرْجَاءَهُ رَوْعَةٌ ... نَكِيرُهَا المَعْرُوفُ وَالمُنْكَرُ
وَبَعْدُ مَا بَعْدُ وَأَعْظِمْ بِهِ ... مِنْ مَشْهَدٍ مَا قَدْرُهُ يُقْدَرُ
يُرْجَفُ مِنْهُ الوَرَى رَجْفَةً ... يَنْهَدُّ مِنْهَا المَلأ الأَكْبَرُ
وَلَيْسَ هَذَا الوَصْفُ مُسْتَوْفِيًا ... كُلَّ الذِي مِنْ وَصْفِهِ يُذْكَرُ
وَإِنَّمَا ذَا قَطْرَةُ أَرْسَلَتْ ... مِنْ أَبْحُرٍ تَتْبَعُهَا أَبْحُرُ
وَقَدْ أَتَاكَ الثَّبْتُ عَنْهُ بِمَا ... أَخْبَرَكَ الصَّادِقُ إِذْ يُخْبِرُ
فَاعْمَلْ لَهُ وَيْكَ وِإِلا فَلا ... عُذْرَ وَمَا مِثْلُكَ مَنْ يُعْذَرُ
اللَّهُمَّ في سِلْكِ الْفَائِزِنَ بِرِضْوانِكَ، واجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وعافنا يا مَوْلانا في الدُّنْيَا والآخِرةِ مِن جَمِيعِ الْبَلايَا وأجْزِلْ لِنَا مِنْ مَوَاهِب فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتَّعْنَا بالنَّظَر إلى وَجْهِكَ الْكَريمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ
قَالَ أَحَدُ العُلَمَاءِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَوْعِظَةٌ وَعَظَهَا أَلا أَنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل، وَغَنِّيها فَقِير، شَابُّهَا يَهْرَمْ، وَحَيُّهَا يَمُوت، وَلا يَغُرُّكمْ إِقْبَالُهَا مَعَ مَعْرِفَتِكُم بِسُرْعَةِ إِدْبَارِهَا وَالمَغْرُورُ مِنِ اغْتَرَّ بِهَا.
أَيْنَ سُكَّانُهَا الذِينَ بَنُوا مَرَابِعَهَا وَشَقَّقُوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارِهَا وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَغَرَّتْهُمْ بِصُحْبَتِهم وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ فَرَكِبُوا المَعَاصِي إِنَّهُمْ كَانُوا وَاللهِ بِالدُّنْيَا مَغْبُوطِينَ بِالمَالِ عَلَى كثرة المَنْعِ عَلَيْهِ مَحْسُودِينَ عَلَى جَمْعِهِ.
مَا صَنَعَ التُّرَابُ بِأَبْدَانِهِمْ وَالرَّمْلُ بِأَجْسَامِهِم وَالدِّيدَانُ بِأَوْصَالِهِم وَلُحُومِهِم وِعِظَامِهِم وَإِذَا مَرَرْتَ فَنَادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ دَاعِيًا.
وَمُرَّ بِعَسْكَرِهِم وِانْظُرْ إِلَى تَقَارُبِ مَنَازِلِهِمْ وَسَلْ غَنِيَّهُمْ مَا بَقَى مِنْ غِنَاهُ وَسَلْ فَقِيرِهُمْ مَا بَقَى مِنْ فَقْرِهِ، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الأَلْسُنِ الَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَكَلَّمُونَ(5/379)
وعن الأعين التي كَانُوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة.
والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان.
محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانْتِ الأعضاء، ومزقت الأشلاء قَدْ حيل بينهم وبين الْعَمَل وفارقوا الأحبة.
فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بإلية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، وقَدْ سألت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديدًا، ودبت دواب الأَرْض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم.
ثُمَّ لم يلبثوا إِلا يسيرًا حتى عادت العظام رميمًا قَدْ فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قَدْ تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم.
فمِنْهُمْ والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذاته، فيا ساكن القبر ما الَّذِي غرك في الدُّنْيَا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسلةً وحاملةً يا مدليه في قبره وراحل عَنْهُ، ليت شعري كبف نمت على خشونة الثرى، وبأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكى صرت في محله الموت، ليت شعري ما الَّذِي يلقاني به ملك الموت عَنْدَ خروج روحي من الدُّنْيَا.
شِعْرًا:
انْتَبِهْ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ أَغْفَلَكْ ... وَاخْشَ رَبًّا بِالْعَطَايَا جَمَّلَكْ
تَابِعِ الْمُخْتَارَ وَاسْلُكْ نَهْجَهُ ... فَهُوَ نُورٌ مَنْ مَشَى فِيهِ سَلَكْ
ثِقْ بِمَوْلاكَ وَكُنْ عَبْدًا لَهُ ... إِنَّ عَبْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا مَلِكْ
جَدِّدِ التَّوْبَ عَلَى مَا قَدْ مَضَى ... مِنْ زَمَانٍ بِالْمَعَاصِي أَشْغَلَكْ(5/380)
حَاسِبْ النَّفْسَ وَعَلِّمْهَا الرِّضَى ... بِالْقَضَا وَاعْصِ هَوَاها تَرْضَ لَكْ
خُذْ مِنَ التَّقْوَى لِبَاسًا طَاهِرًا ... فَالتُّقَى خَيْرُ لِبَاسٍ يَمْتَلَكْ
دَاوِم الذِّكْرِ لِخَلاقِ الْوَرَى ... وَاتْرُكِ الأَمْرِ لِمَنْ أَجْرَى الْفَلَكْ
ذُلَّ وَاخْضَعْ وَاسْتَقِمْ وَاعْبُدْ لَهُ ... مُخْلِصًا يَفْتَحُ بَابَ الْخَيْرِ لَكْ
رَوِّحِ الْقَلْبَ لَهُ وَاعْكِفْ عَلَى ... بَابِهِ فَهُوَ الَّذِي قَدْ فَضَّلَكْ
زَيِّن الْبَاطِنَ بِالتَّقْوَى تَفُزْ ... حَسِّنِ الظَّاهِرَ تُعْطَى أَمَلَكْ
سَلِّمَ الأَمْرَ لَهُ تَسْلَمْ فَكَمْ ... مِن فَتَى إِذْ سَلَّمَ الأَمْرَ سَلَكْ
شُقَّ حُجْبَ الْكَوْنِ لِلْمَعْبُودِ لا ... تَلْتَفِتْ إِلا إليه يَقْبَلَكْ
صُنْ عَنْ الدُّنْيَا لِسَانًا وَيَدًا ... وَفُؤَادًا وَلَهُ اخْلِصْ عَمَلَكْ
ضُمَّ أَحْشَاكَ عَلَى تَوْحِيدِهِ ... فَهُوَ نُورٌ يُذْهِبُ الدَّاجِي الْحَلِكْ
طِبْ لَهُ وَاقْنَعْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ ... فَهُوَ كَافٍ فَضْلَهُ قَدْ شَمَلَكْ
ظَنَّ خَيْرًا تَلْقَ مَا قَدْ تَرْتَجِي ... مِنْ جَمِيعِ الْخَيْرِ حَتَّى يَقْبَلَكْ
عُدْ إليه كُلَّمَا حَلَّ الْبَلا ... عَلَّ تَسْلَمْ مِنْ رَجِيمٍ سَوَّلَكْ
خُضْ بِحَارَ الْعُذْرِ فِي جَنْحِ الدُّجَى ... لِكَرِيمٍ بِالْعَطَايَا خَوَّلَكْ
فَاتْرُكِ التَّدْبِيرَ وَالْعِلْمَ لَهُ ... اسْأَلِ الْمَوْلَى يُصَفِّي مَنْهَلَكْ
قُلْ بِذُلِّ: يَا رَحِيمُ الرُّحَمَا ... يَا مُنْجِي بِالْعَطَايَا مَنْ هَلَكْ
كُنْ مُجِيرًا وَنَصِيرًا وَحِمَىً ... لِعُبَيْدٍ مُذْنِبٍ قَدْ سَأَلَكْ
لُذْتَ بِالْبَابِ فَحَاشَا أَنْ أُرَى ... تَعِبًا وَالأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ لَكْ
مَرَّ عَيْشِي وَالْخَطَا أَبْعَدَنِي ... وَاعْتِقَادِي الصَّفْحُ عَمَّا كَانَ لَكْ
نَجِّنَا مِنْ كُلِّ كَرْبٍ وَبَلا ... يَوْمَ يَلْقَى الْعَبْدُ مَكْتُوبَ الْمَلَكْ
هَبْ لَنَا السِّتْرَ وَلا تَفْضَحْ لَنَا ... يَا إِلَهِي وَاعْفُ عَمَّنْ سَاءَ لَكْ
يَا مُحِبَّ الْعَفْوِ يَسِّرْ أَمْرَنَا ... وَاقْضِ عَنَّا مَا لِمَخْلُوقٍ وَلَكْ(5/381)
.. وَتَحَنَّنْ بِالْعَطَايَا كَرَمًا ... أَنْتَ مَوْلانَا وَأَوْلَى مَنْ مَلَكْ
انتهى.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
اللَّهُمَّ أَنَا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانَا وأهلنا وأموالنا ونسألك أن تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : ذكر الترمذي من حديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «يجَاءَ بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيوقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: الله له: أعطيتك وخولتك وأنعمت عَلَيْكَ فماذا صنعت؟ فَيَقُولُ: جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كَانَ فارجعني آتيك به، فَيَقُولُ له: أرني ما قدمت، فَيَقُولُ: يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كَانَ فارجعني آتك به، فإذا عبد لم يقدم خيرًا فيمضى به إلى النار» .
فتفكر يا مسكين في نفسك ما دمت في قيد الحياة وأَنْتَ تحكم في مالك ولا لك معارض وتتصرف فيه كيف شئت واجعل يوم تبلى السرائر نصب عينيك بين ما أَنْتَ في هَذَا اليوم العَظِيم الَّذِي قَدْ امتلئت فيه القُلُوب من الخوف والقلق والرعب والذعر والانزعاج وقَدْ بلغت القُلُوب الحناجر.
قال تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} فبينما النَّاس في هذه الحال التي حدثت عَنْهَا إذا جيء بجنهم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمان سبعون ألف ملك يجرونها حتى تَكُون بمرأى من الخلق ومسمَعَ يرون لهيبها ويسمعون زفيرها فبينما أَنْتَ في تلك الحال إذا أخذ بضبعك وقبض على عضديك وجيء بك تتخطى الرقاب وتخترق الصفوف(5/382)
والخلائق ينظرون إليك حتى إذا وقفت بين يدي الله تَعَالَى فسئلت عن القليل والكثير والدقيق والجليل والقطمير والنقير ولا تجد أحدًا يجاوب عَنْكَ بلفظة ولا يعينك بكلمة ولا يرد عَنْكَ جوابًا في مسألة.
وأَنْتَ شاهدت من عظم الأَمْر وجلالة القدر وهيبة الحظرة ما أذهب بيانك وأخرس لسانك وأذهل جنانك.
ونظرت يمينًا وشمالاً وبين يديك فلم تر إِلا النار وعملك الَّذِي كنت تعمل وكلمك رب العزة جل جلاله بغير حجاب يحجبك ولا ترجمان يترجم لك.
وكيف تَكُون حيرتك ودهشتك إذا قيل: عاملت فلانَا يوم كَذَا وَكَذَا في كَذَا وَكَذَا وغبنته في كَذَا وَكَذَا وغششته في السلعة الفلانية.
وتركت نصيحته في كَذَا وَكَذَا وبعته السلعة المعيوبة ولم تبين له العيب أو غصبت فلانَا أو ظلمت فلانَا أو قتلت فلانَا أو أعنت فلانَا أو أعنت على قتله أو نحو ذَلِكَ.
وقيل: ما حجتك أقم بينة ائت ببرهان فأردت الكلام فلم تبين وجئت بعذر فلم يستبن هيهات أنى لك الكلام ولم تنقحه وأنى لك بالعذر في الدُّنْيَا لم تصححه قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} .
وَقَالَ تبارك وتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} الآيتين.
فَانْظُرْ في هَذَا الموقف عَنْدَ السؤال بأي بدن تقف بين يدي الله وبأي لسان تجيبه فأعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا فما شئت من قلب يخلع ومن كبد تصدع ومن لسان يتلجج ومن أحشاء تتموج ومن نفس تريد أن تخَرَجَ.(5/383)
شِعْرًا: ... سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ أَيَّةُ لَيْلَةٍ ... مَخَضَتْ صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ
لَوْ أَنَّ عَيْنًا أَوْهَمَتْهَا نَفْسُهَا ... يَوْمَ الْحِسَابِ تَمَثُّلاً لَم تَطْرُفِ
وانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي ألهتك عن ما خلقت له انظر كيف ذهبت عَنْكَ مسراتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد انْفَذْتَهَا كيف ذهب عَنْكَ الفرح بها وبقيت التبعة.
وانظر هل يقبل منك فدا في ذَلِكَ الموقف الرهيب وما الَّذِي يخلصك من ذَلِكَ السؤال قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} .
وفي بعض الأخبار يتمنى رِجَال أن يبعث بِهُمْ إلى النار ولا تعرض قبائحهم على الله تَعَالَى ولا تكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق، فما ظنك بهَذَا المقام وبهَذَا السؤال وبهَذَا النكال والوبال.
وما ظنك بنفسك وقَدْ جيء بجهنم على الوصف الَّذِي تقدم وقَدْ دنت من الخلائق، وشهقت وزفرت، وثارت وفارت.
ونهض خزانها والموكلون بها، والمعدون لتعذيب أهلها متسارعين إلى أخذ من أمروا بأخذه، ساحبين له على بطنه وحرِّوََجْهِهِ سامعين مطيعين لله {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
فتصور حالك وكيف وقَدْ امتلأت القُلُوب خوفًأ ورعبًا وذعرًا وفزعًا، وارتعدت الفرائص، وبلغت القُلُوب الحناجر، واصطفت الأحشا، وتقطعت الأمعاء، وطلبوا الفرار وطاروا لو يحصل لَهُمْ مطار.
وجئت الأمم على الركب وأيقن المذنوبون بالهلاك والعطب وسوؤ المنقلب، ونادى الأنبياء والصديقون والأَوْلِيَاء: نفسي نفسي.
كُلّ نفس قَدْ أفردت لشأنها وتركت لما بها قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:(5/384)
{يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ,قال تبارك وتَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وظن كُلّ إنسان أنه هُوَ المأخوذ وأنه هُوَ المقصود والمطلوب، وذهلت العقول وطاشت الألباب، وتحيرت الأذهان، وفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
واشتغل بشأنه الَّذِي يهمه ويعنيه، وسئل عن جَمِيع أمره سره وجهره، دقيقه وجليله كثيره وقليله، وسئل عن أعضائه عضوًا عضوًا وجارحة، وعن شكره عَلَيْهَا، وعن أداء حق الله فيها.
وظهرت القبائح وكثرت الفضائح، وبدت المخازي واشتهرت المساوي، وتركك الأَهْل والأقربون، ولم ينفعك مال ولا بنون، وأقبلت تجادل عن نفسك وتخاصم عَنْهَا وتطلب المعاذير لها قال الله جَلَّ وَعَلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} .
وقَدْ أسلمت وأفردت واشتغل كُلّ إنسان عَنْكَ بنفسه قال الله جَلَّ وَعَلا: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وَقَالَ عز من قائل: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} الآيَة.
وأنشدوا:
خَلِيلِي مَا أَقْضِي وَمَا أَنَا قَائِلٌ ... إِذَا جِئْتُ عَنْ نَفْسِي بِنَفْسِي أُجَادِلُ
وَقَدْ وَضَعَ الرَّحْمَنُ فِي الْخَلْقِ عَدْلَهُ ... وَسِيقَ جَمِيعُ النَّاسِ واليوم بَاسِلُ
وَجِيءَ بِجُرْم النَّارِ خَاضِعَة لَهُ ... وَثُلَّثْ عُرُوشٌ عِنْدَهَا وَمَجَادِلُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي ذَلِكَ اليوم هَلْ أَنَا ... أَأَغْفَر أَمْ أُجْزَى بِمَا أَنَا فَاعِلُ
فَإِنْ أَكُ مُجْزِيًا فَعَدْلٌ وَحُجَّةٌ ... وَإِنْ يَكُ غُفْرَانٌ فَفَضْلَ وَنَائِلُ
آخر: ... أَلَمْ تَسْمَعْ عَن النَّبَأَ الْعَظِيمِ ... وَعَنْ خَطْبِ خُلِّقَتَ لَهُ جَسِيم(5/385)
وَزِلْزَالٍ يَهُدُّ الأَرْضَ هَدًّا ... وَيَرْمِي فِي الْحَضِيضَةٍ بِالنُّجُومِ
وَأَهْوَالٍ كَأَطْوَادٍ رَوَاسِي ... تَلاطَمُ فِي ظُلُوعِ كَالْهَشِيمِ
فَمِنْ رَاسٍ يَشِيبُ وَمِنْ فُؤَادٍ ... يَذُوبُ وَمِن هُمُومٍ فِي هُمُومِ
وَسَكْرَانٍ وَلَمْ يَشْرَبْ لِسُكْرٍ ... وَهَيْمَانٍ وَلَمْ يَعْلقْ بِرِيمِ
وَمُرْضِعَةٍ قَدْ أَذْهَلَهَا أَسَاهَا ... فَمَا تَدْرِي الرَّضِيعَ مِن الْفَطِيمِ
وَمُؤْتَمَةٍ تَوَلَّتْ عَنْ بَنِيهَا ... وَأَلْقَتْ بِإليتِيمَةِ وَاليتِيمِ
وَحُبْلَى أَسْقَطَتْ ذُعْرًا وَخَوْفًا ... فَيَاللهِ لِلْيَوْمِ الْعَقِيمِ
وَهَذَا مَشْهَدٌ لا بُدَّ مِنْهُ ... وَجَمْعٌ لِلْحَدِيثِ وَلِلْقَدِيمِ
وَمَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ وَالنَّجَاشِي ... وَتُبَّعُ وَالْقُرُومُ بَنُوا الْقُرُومِ
بِذَاكَ اليوم إِلا فِي مَقَامٍ ... أَذَلَّ مِن التُّرَابِ لِذِي السَّلِيمِ
وَمَا لِلْمَرْءِ إِلا مَا سَعَاهُ ... لِدَارِ الْبُوْسِ أَوْ دَارِ النَّعِيمِ
وَأَنْتَ كَمَا عَلِّمْتَ وَرَبَّ أَمْرٍ ... يَكُونُ أَذَاهُ أَوْقَعُ بِالْعَلِيمِ
فَدَعْ عَيْنَيْكَ تَسْبَحْ فِي مَعِينٍ ... وَقَلْبَكَ ذَرْهُ يَقْلُبُ فِي جَحِيمِ
وَشُقَّ جُيُوبَ صَبْرِكَ شَقَّ ثُكْلَى ... تَعَلَّقَتِ ابْنَهَا رَجُلاً سَهُومِ
وَمَاذَا الأَمْرُ ذَلِكُمُ وَلَكِنْ ... تُشَبَّهُ بِالْبِحَارِ يَدُ الْكَرِيمِ
اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
خطبة في أشراط الساعة لأحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
الحمد لله الَّذِي جعل الليل والنَّهَارَ خلقة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً(5/386)
الَّذِي اعترفت بوحدانيته جَمِيع مخلوقاته فارجع البصر إلى السماء هل تَرَى من فطور أحمده سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حمد عبد معترف بصدق اليقين وأشكره شكرًا دائمًا في كُلّ حين.
وأشهد أن لا إله وحده لا شريكه له الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين اللَّهُمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وصلاة وسلامًا يمتدان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى فإن تقواه من النار حصن حصين وتنزهوا عن حب الدُّنْيَا كي تفوزوا مَعَ الزاهدين عباد الله انتبهوا من رقادكم فإن الأجل إلى القبور يسير ولم يبق من دنياكم إِلا إليسير اقتربت الساعة فالدُّنْيَا على شرف هار وظهرت علامتها ظهور الشمس في رابعة النَّهَارَ.
ألا إن الدُّنْيَا قَدْ أدبرت وولت حذاء ولم يبق منها إِلا كصبابة عيش يتصابها أهلها وإن الآخِرَة قَدْ أقبلت فكونوا من أبناء الآخِرَة ولا تكونوا من أبناء الدُّنْيَا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل، أما ترون الأمانة قَدْ ضيعت والزمان تغير بظهور الفواحش في كُلّ مكَانَ وتتابع الفتن ودخولها من كُلّ باب ووقوف الأعراب على أفواه الشعاب وتطاول الحفاة العراة في البنيان.
وفشو الحسد والظلم والجور وقتل النفس بغير حق ونزع الإِيمَان والرحمة من القُلُوب وجور الحكام وفتك الأعراض وموت الْعُلَمَاء العاملين واحدًا بعد واحد كأنهم للمنية أغراض.
وفشو الزنا والربا وهما سبب الفقر والأمراض وساد القبيلة منافقوها وعلا فجارها صالحيها وصار زعيم القوم أرذلهم وارتفعت الأصوات في المساجد وأكرم الرجل مخافة شره فصار العاصي عَنْدَ النَّاس قريبًا والمطيع بين أظهرهم غريبًا.(5/387)
ألا هل معين على غربة الإسلام ألا هل معين على غربة الإسلام فقَدْ بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فعَنْدَ ظهور هذه العظائم يؤخذ بالجرائم أما كَانَ المغنم دولاً والأمانة مغنمًا والزَّكَاة مغرمًا أما تعلم العلم لغير الدين أما أطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه.
أما شربت المسكرات ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ألا فإن المصطفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام قال: «إذا ظهرت هذه فارتقبوا عَنْدَ ذَلِكَ ريحًا حمرًا ومسخًا وخسفًا» . وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة مرفوعًا: «لن أن تَقُوم الساعة حتى تروا عشر آيات فذكر الدخان وخروج يأجوج ومأجوج وتخريب الكعبة ورفع القرآن من صدور حامليه وخروج الدابة ومحمدًا المهدي وطلوع الشمس من مغربها.
فإذا طلعت ورآها النَّاس آمنوا أجمعون فذَلِكَ حين لا ينفع نفسًا إيمانه لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا وآخر الآيات نار تخَرَجَ من إليمن تطرد النَّاس إلى محشرهم تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معه حيث قَالُوا» .
فانتبهوا لهذه الأهوال بما يؤمنكم بالتوبة النصوح والزموا باب مولاكم واقرعوه فإنه مفتوح {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
أجارني الله وإياكم من عذاب النار وأصلح لي ولكم الْعَمَل لدار القرار.
إن أحسن المواعظ للمتدبرين كلام الله الملك الحق المبين والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المؤمنون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العَظِيم. ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر(5/388)
الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كُلّ ذنب فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم.
(فَصْلٌ)
وخَرجَ مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة كلاهما عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر حديث الشفاعة، وفيه قال: «فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ وَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ معه الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ» ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْء كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدِّ الرِّجَال تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَحَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا» . قَالَ: «وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ» . وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا.
وروى أبو الزعراء عن ابن مسعود قال: (يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر النَّاس عَلَى قَدْرِ أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثُمَّ كمر الريح، ثُمَّ كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه، فَيَقُولُ: يا رب لم بطأت بي؟ فَيَقُولُ: إني لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك) ، وَذَلِكَ أن الإِيمَان والْعَمَل الصالح في الدُّنْيَا هو(5/389)
الصراط المستقيم في الدُّنْيَا الَّذِي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عَلَيْهِ وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هَذَا الصراط المستقيم في الدُّنْيَا، ولم ينحرف عَنْهُ يمنةً ولا يسرةً استقام سيره على الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على الصراط المستقيم في الدُّنْيَا بل انحرف عَنْهُ إمّا إلى فتنة الشبهات، أو إلى فتنة الشهوات كَانَ اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم، بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له عن هَذَا الصراط المستقيم.
شِعْرًا:
أَمَامِي مَوْقِفٌ قُدَّامُ رَبِّي
يُسَائِلْنِي وَيَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ
وَحَسْبِي أَن أَمُرَّ عَلَى صِرَاطٍ
كَحَدِّ السَّيْفِ أَسْفَلُهُ لَظَاءُ ... ?
ففكر في أهوال الصراط وعظائمه، وما يحل بالإِنْسَان من الذعر والخوف عَنْدَ رؤيته، ووقوع بصرك على جهنم من تحته، وسماعك شهيقها وتغيظها على الكفرة، وقَدْ اضطرت إلى أن تمشي على الصراط الَّذِي مرت صفته وصفة المُرُور عَلَيْهِ مَعَ ضعف حالك، وكونك حافيًا عاريًا، وثقل الظهر بالأوزار المانعة عن المشي في الأَرْض المستوية فضلاً عن المشي على حد الصراط، فتصور وضعك رجلك عَلَيْهِ وإحساسك بحدته وأَنْتَ مضطر إلى أن ترفع رجلاً وتضع الأخرى، وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون، وآخرون يزلون، وآخرون يخطفون بالخطاطيف وبالكلاليب، والعويل والبُكَاء تسمَعَ له تتابعًا وَدَوِيًّا، وتنظر الَّذِينَ ينتكسون على رؤوسهم، وآخرون على(5/390)
وجوههم، فتعلوا الأرجل، فيا له من منظر فظيع، ومرتقًى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكَانَ ما أهوله، وموقف ما أشقه، وكأني بك مملوء من الرعب والذعر، تلفت يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق، وتجيل فيهم بصرك، وهم يتهافتون قدامك في جهنم، والزعقات بالويل والثبور قَدْ ارتفعت من قعر جهنم، لكثرة من يزل عن الصراط، والنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رب سلم سَلم» . فتصور لو زلت قدمك فهل ينفعك ندمك، وتحسرك في ذَلِكَ الوَقْت كلا {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .
اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
رحلة ومصير:
... يَا مَنْ يُتَابِعُ سَيَّدَ الثَّقَلانِ
كُنْ لِلْمُهَيْمِنِ صَادِقَ الإِيمَانِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُكَ الَّذِي
سَوَّاكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِنْسَانِ
خَلَقَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ
تَدْعُوهُ بِالإِخْلاصِ وَالإذْعَانِ
قَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفًا
لِعِبَادِهِ كَيْ يُخْلِصَ الثَّقَلانِ
وَأَبَانَ لِلإِنْسَانِ كُلَّ طَرِيقَةٍ
كَيْ لا يَكُونَ لَهُ اعْتِذَارٌ ثَانِي ... ?(5/391)
.. ثُمَّ اقْتَضَى أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَّهَا
تَتَمَيَّزُ التَّقْوَى عَنِ الْعِصْيَانِ
وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرَتِكَ الَّتِي
لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيقِ وَالإيمَانِ
وَبُلِيتَ بِالتَّكْلِيفِ أَنْتَ مُخَيَّرٌ
وَأَمَامَكَ النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ
فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ
مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَنِ الدَّيَّانِ
ثُمَّ انْقَضَى الْعُمْرُ الَّذِي تَهْنَا بِهِ
وَبَدَأْتَ فِي ضَعْفٍ وَفِي نُقْصَانِ
وَدَنَا الْفِرَاقُ وَلاتَ حِينَ تَهَرُّبٌ
أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن الْقَضَاءِ الدَّانِي
وَالْتَفَّ صَحْبُكَ يَرْقُبُونَ بِحَسْرَةٍ
مَاذَا تَكُونُ عَوَاقِبُ الْحَدَثَانِ
وَاسْتَلَّ رُوحَكَ وَالْقُلُوبُ تَقَطَّعَتْ
حَزَنًا وَأَلْقَتْ دَمْعَهَا الْعَيْنَانِ
فَاجْتَاحَ أَهْلَ الدَّارِ حُزْنٌ بَالِغٌ
وَاجْتَاحَ مَنْ حَضَرُوا مِنَ الْجِيرَانِ
فَالْبِنْتُ عَبْرَى لِلْفِرَاقِ كَئِيبَةً
وَالدَّمْعُ يَمْلأ سَاحَةَ الأَجْفَانِ
وَالزَّوْجَ ثَكْلَى وَالصِّغَارُ تَجَمَّعُوا
يَتَطَّلَعُونَ تَطَلُّعَ الْحَيْرَانِ ... ?(5/392)
.. وَالابْنُ يَدْأَبُ فِي جِهَازِكَ كَاتِمًا
شَيْئًا مِنَ الأَحْزَانِ وَالأَشْجَانِ
وَسَرَى الْحَدِيث وَقَدْ تَسَائَلَ بَعْضُهُمْ
أَوْ مَا سَمِعْتُمْ عَنْ وَفَاةِ فُلانِ
قَالُوا سَمِعْنَا وَالْوَفَاةُ سَبِيلُنَا
غَيْرَ الْمُهَيْمِنِ كُلُّ شَيْءٍ فَانِي
وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا
مِنْ كُلِّ صَوْبٍ لِلْحُطَامِ الْفَانِي
وَأَتَى الْمُغَسِّلُ وَالْمُكَفِّنُ قَدْ أَتَى
لِيُجَلِّلُوكَ بِحُلِّةِ الأَكْفَانِ
وَيُجَرِّدُوكَ مِنَ الثِّيَابِ وَيَنْزَعُوا
عَنْكَ الْحَرِيرَ وَحُلَّةَ الْكَتَّانِ
وَتَعُودُ فَرْدًا لَسْتَ حَامِلَ حَاجَةٍ
مِن هَذِهِ الدُّنْيَا سِوَى الأَكْفَانِ
وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا
فَأَتُوا بِنَعْشٍ وَاهِنَ الْعِيدَانِ
صَلُّوا عَلَيْكَ وَأَرْكَبُوكَ بِمَرْكَبٍ
فَوْقَ الظُّهُورِ يُحَفُّ بِالأَحْزَانِ
حَتَّى إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي لَكَ جَهَّزُوا
وَضَعُوكَ عِنْدَ شَفِيرِهِ بِحَنَانِ
وَدَنَا الأَقَارِبُ يَرْفَعُونَكَ بَيْنَهُمْ
لِلْحَدِّ كَيْ تُمْسِي مَعَ الدِّيدَانِ ... ?(5/393)
.. وَسَكَنْتَ لَحْدًا قَدْ يَضِيقُ لِضَيْقِهِ
صَدْرَ الْحَلِيمِ وَصَابِرُ الْحَيَوَانِ
وَسَمِعْتَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
وَضَعُوكَ فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الثَّانِي
فِيهِ الظَّلامُ كَذَا السُّكُونُ مُخَيَّمٌ
وَالرُّوحُ رَدَّ وَجَاءَكَ الْمَلَكَانِ
وَهُنَا الْحَقِيقَةُ وَالْمُحَقِّقُ قَدْ أَتَى
هَذَا مَقَامُ النَّصْرِ وَالْخُذْلانِ
إِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا لِرَبِّكَ مُخْلِصًا
تَدْعُوهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ
فَتَظَلُّ تَرْفُلُ فِي النَّعِيمِ مُرَفَهًا
بِفَسِيحِ قَبْرٍ طَاهِرِ الأَرْكَانِ
وَلَكَ الرَّفِيقُ عَنِ الْفِرَاقَ مُسَلِّيًا
يُغْنِي عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَخْدَانِ
فُتِحَتْ عَلَيْكَ مِنَ الْجِنَانِ نَوَافِذٌ
تَأْتِيكَ بِالأَنْوَارِ وَالرَّيْحَانِ
وَتَظَلُّ مُنْشَرِحَ الْفُؤَادِ مُنْعَمًا
حَتَّى يَقُومَ إِلَى الْقَضَا الثَّقَلانِ
تَأْتِي الْحِسَابَ وَقَدْ فَتَحَتَ صَحِيفَةً
بِالنُّورِ قَدْ كُتِبَتْ وَبِالرِّضْوَانِ
وَتَرَى الْخَلائِقَ خَائِفِينَ لِذَنْبِهِمْ
وَتَسِيرُ أَنْتَ بِعِزَّةٍ وَأَمَانِ ... ?(5/394)
.. وَيُظِلُّكَ اللهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ
وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ إِلَى الآذَانِ
وَتَرَى الصِّرَاطَ وَلَيْسَ فِي صُعُوبَةٌ
كَالْبَرَقِ تَعْبُرُ فِيهِ نَحْوَ جِنَانِ
فتَرَى الْجِنَانَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا
وَتَرَى الْقُصُورَ رَفِيعَةَ الْبُنْيَانِ
طِبْ فِي رَغِيدِ الْعَيْشِ دُونَ مَشَقَّةٍ
تَكْفِي مَشَقَّةٌ سَالِفِ الأَزْمَانِ
وَالبَسْ ثِيَابَ الْخُلْدِ وَاشْرَبْ وَاغْتَسِلْ
وَابْعِدْ عَنِ الأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ
سِرْ وَانْظُرْ الأَنْهَارَ وَاشْرَبْ مَاءَهَا
مِنْ فَوْقِهَا الأَثْمَارُ فِي الأَفْنَانِ
وَالشَّهْدُ جَارٍ فِي الْعُيُونِ مُطَهَرٌ
مَعَ خَمْرَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالأَلْبَانِ
وَالزَّوْجُ حُورٌ فِي الْبُيُوتِ كَوَاعِبٌ
بِيضُ الْوُجُوهِ خَوَامِصُ الأَبْدَانِ ... ?
... أَبْكَار شِبْهِ الدَّارِ فِي أَصْدَافِهِ ... وَاللُّؤلُو الْمَكْنُونِ وَالْمُرْجَانِ
وَهُنَا مَقَرٌّ لا تَحُولَ بَعْدَهُ ... فِيهِ السُّرُورِ بِرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ
أَمَّا إِذَا مَا كُنْتَ فِيهَا مُجْرِمًا ... مُتَتَبِّعًا لِطَرَائِقِ الشَّيْطَانِ
ثَكِلْتَكَ أُمُّكَ كَيْفَ تَحْتَمِلُ الأَذَى ... أَمْ كَيْفَ تَصْبِرُ فِي لَظَى النِّيَرانِ
فَإِذَا تَفَرَّقَ عَنْكَ صَحْبُكَ وَانْثَنَى ... حُمَّالُ نَعْشِكَ جَاءَكَ الْمَلَكَانِ
جَاءآلآ مَرْهُوبِينَ منِ ْعيَنْيِهِمَا ... تُرْمَى بِأَشْوَاظٍ مِنَ النِّيرَانِ(5/395)
سَألاكَ عَنْ رَبٍّ قَدِيرٍ خَالِقٍ ... وَعَنِ الَّذِي قَدْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ
فَتَقُولُ لا أَدْرِي وَكُنْتُ مُصَدِّقًا ... أَقْوَالُ شِبْهِ مَقَالَةِ الثَّقَلانِ
فَيُوبِّخَانِكَ بِالْكَلامِ بِشَدَّةِ ... وَسَيَضْرِبَانِكَ ضَرْبَةَ السَّجَانِ
فَتَصِيح صَيْحَةَ آسَفٍ مُتَوَجِّعٍ ... وَيَجِي الشُّجَاعُ وَذَاكَ هَوْلٌ ثَانِي
وَيَجِي الرَّفِيقُ فَيَا قَبَاحَةَ وَجْهِهِ ... فَكَأَنَّهُ مُتَمَرِّدٌ مِنْ جَانِ
وَتَقُولُ يَا وَيْلا أَمَالِي رَجْعَةٌ ... حَتَّى أحلَّ بِسَاحَةِ الإِيمَانِ
لَوْ عُدْتَ لِلدُّنْيَا لَعُدْتَ لِمَا مَضَى ... فِي جَانِبِ التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ
اللَّهُمَّ يا جامَعَ النَّاس ليوم لا ريب فيه اجمَعَ بيننا وبين الصدق والنِّيْة الصَّالِحَة والإِخْلاص والخشوع والْمُرَاقَبَة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الَّذِي لا حجاب به في الدُّنْيَا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عَلَيْهِ في الدُّنْيَا والآخِرَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
نصيحة لهارون الرشيد
قام مُحَمَّد بن أوس الهلالي لهارون الرشيد واعترضه عِنْد الحجر فَقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِين استمَعَ كلامي فإنك إن سمعته حقًا قبلته وإن سمعته باطلاً فلا تعبأ به فوقف الرشيد.
فَقَالَ أوس: يا من غذي في نعيم وتردد في ملك سليم إن خفت الْعَذَاب الأليم وأحببت البقاء في سرور فلا تسمعن ممن أَنْتَ بينهما ولا تغترن بشَيْء من قولهما فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يخلو بك دونهما والموت يصل إليك على الطوع(5/396)
والكره منهما فلا تصدقان بالذليل ولا تتكثرن بالقليل ولا تعتصم بغير دافع ولا تطمئن إلى غير مانع لا يمنع ولا يدفع عَنْكَ.
فإنك بعين الله وبحضرة بيته الَّذِي جعله مثابةً للناس الزائرين ومنحجرًا للفاجر فانتفض الرشيد وجلس وخلا يديه عنهما وأومأ أن خذوا الرجل فأخذ حتى قضى طوافه وصلى وَرَجَعَ إلى المنزل الَّذِي نزل به ودعا بالرجل فأدخل عَلَيْهِ شيخ جليل.
فَقَالَ: من قبيلتك؟ قال: بنو هلال. قال: قبيلة مشهورة فما حَمَلَكَ أن كلمتني بالَّذِي كلمتني.
قال: إشفاقًا عَلَيْكَ إذا أنضيت الركاب وأتعب الرِّجَال وأنفقت الأموال في أمور الله عَزَّ وَجَلَّ أعلم بها حتى إذا صرت إلى غاية الطالب وموضع ترجو فيه الرحمة اعتمدت على ظالمين طاغيين قَدْ جبلا على الغشم ونشأ على الظلم وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} .
فنكس الرشيد رأسه وأقبل ينكت في الأَرْض وعَيْنَاهُ تذرفان ثُمَّ رفع رأسه فَقَالَ: من أين مطعمك وشربك؟ قال: من عِنْد من يرزقك. قال: من ذاك؟ قال: من عِنْد من خلق الحب والنوى وأخَرَجَ الحب من الثرى من طعام سهرت فيه العيون وتعبت في حصاده الأجساد وحرسته الملائكة حتى أتاني به القدر بلا رنق ولا كدر.
قال: ألك عيال؟ قال: نعم. قال: ومن هنَّ؟ قال: زوجة. قال: أتختلف إلى تجارة أو تحترف في صناعة؟ قال: قَدْ كفان الله مؤنةً ذَلِكَ بالعافية. قال: أفلا أجري عَلَيْكَ رزقًا تستعين به على بعض أمورك وتستغني به عن الطلب من غيرك؟ قال: إني بِاللهِ أغنى مني بما بذلت لي من ذَلِكَ.
قال: ألك حَاجَة؟ قال: نعم، أطع الله عَزَّ وَجَلَّ فيما تعلم من سرك فإنك تصل إلى كُلّ محبوب وتنال به كُلّ مطلوب ولست تبلغ شَيْئًا من نكاية عَدُوّكَ(5/397)
إِلا من طَاعَتكَ لربك فإنك إن أطعته جعل ناصية عَدُوّكَ بيدك فلا تشاء أمرًا إِلا بلغته ولا مكروهًا إِلا نلته.
قال: ألك حَاجَة غيرها؟ قال: أتؤمنني من الموت؟ قال: لا أقدر على ذَلِكَ، قال: فتجيرني من النار؟ قال: لَيْسَتْ في يدي، قال: فتدخلني الْجَنَّة؟ قال: لست أملك، قال: أفتحي لي ميتًا حتى أساله عما عاين ورأى، قال: ذاك في قدرة غيري. قال: ما أَنْتَ إِلا كسائر من تَرَى من رعيتك غير أن الله عَزَّ وَجَلَّ فضلك عَلَيْهمْ بما أعطاك من هَذَا الحطام الزائل واستخلفك في الأَرْض لينظر كيف تعمل.
ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ الرشيد: الحمد لله الَّذِي جعل في رعية أَنَا عَلَيْهَا مثله ولا تزال هذه الأمة بخَيْر ما لم يعدموا هَذَا ونظراءه وأشباهه.
قُلْتُ: هَذَا من رقم (1) في العفاف والزهد. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
شِعْرًا: ... اعْمَلْ بَعَلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ ... لا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ
وَالْعِلْمُ زينٌ وَتَقْوَى اللهِ زِينَتُهُ ... وَالْمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ
وَحُجَّةُ اللهِ يَا ذَا الْعِلْم بَالِغَةٌ ... لا الْمَكْرُ يُنْفَعُ فِيهَا لا وَلا الْحِيَلُ
تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَاعْمَلْ مَا اسْتَطَعْتَ بِهِ ... لا يُلْهِيَنَّكَ عَنْهُ اللَّهْوُ وَالْجَدَلُ
وَعَلِّمِ النَّاسَ وَاقْصُدْ نَفْعَهُمْ أَبَدَا ... إِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ يَعْتَادَكَ الْمَلَلُ
وَعِضْ أَخَاكَ بِرِفْقٍ عِنْدَ زَلَّتِهِ ... فَالْعِلْمُ يَعْطِفُ مَنْ يَعْتَادُهُ الزَّلَلُ
وَإِنْ تَكُنْ بَيْنَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ ... فَأَمُرْ عَلَيْهمْ بِمَعْرُوف إِذَا جَهَلُوا
فَإِنْ عَصَوْكَ فَرَاجِعْهُمْ بِلا ضَجَر ... وَاصْبِرْ وَصَابِرْ وَلا يَحْزُنْكَ مَا فَعَلُوا
فَكُلُّ شَاةٍ بِرِجْلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ ... عَلَيْكَ نَفْسَكَ إِنْ جَارُوا وَإِنْ عَدَلُوا
اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا،(5/398)
وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كُلّ سوء يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إِلا أَنْتَ إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أرأف الرائفين وأكرم الأكرمين، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
(من رسالة الإمام مالك لهارون الرشيد)
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشدًا، ولم أدخرك فيه نصحًا، تحميدًا لله، وأدبًا عن رسول الله - ? - فتدبره بعقلك، وردد فيه بصرك، وأرعه سمعك، ثُمَّ اعقله بقلبك، وأحضره فهمك، ولا تغيبن عَنْهُ ذهنك.
فإن فيه الفضل في الدُّنْيَا، وحسن ثواب الله تَعَالَى في الآخِرَة، اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه، وما هُوَ نازل به منك، وما أَنْتَ(5/399)
موقوف عَلَيْهِ بعد الموت من العرض على الله سُبْحَانَهُ، ثُمَّ الحساب ثُمَّ الخلود بعد الحساب.
وأعد الله عَزَّ وَجَلَّ ما يسهل به عَلَيْكَ أهوال تلك المشاهد وكربها فإنك لو رَأَيْت أَهْل سخط الله تَعَالَى وما صاروا إليه من ألوان الْعَذَاب وشدة نقمته عَلَيْهمْ، وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مَعَ كلوح وجوههم وطول غمهم، وتقلبهم في دركاتها على وجوههم لا يسمعون ولا يبصرون، ويدعون بالويل والثبور
وأعظم من ذَلِكَ حَسْرَة إعراض الله تَعَالَى عنهم، وانقطاع رجائهم وإجابته إياهم بعد طول الغم بقوله: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
لم يتعاظمك شَيْء من الدُّنْيَا إن أردت النجاة من ذَلِكَ ولا أمتلك من هوله، ولو قدمت في طلب النجاة منه جَمِيع ما ملك أَهْل الدُّنْيَا - كَانَ في معاينتك ذَلِكَ صغيرًا.
ولو رَأَيْت أَهْل طاعة الله تَعَالَى وما صاروا إليه من كرم الله عَزَّ وَجَلَّ ومنزلتهم مَعَ قربهم من الله عَزَّ وَجَلَّ ونضرة وجوههم، ونور ألوانهم، وسرورهم بالنَّعِيم الْمُقِيم، والنظر إليه والمكانة منه.
لتقلل في عينك عَظِيم ما طلبت به صغير ما عِنْد الله، ولصغر في عينك جسيم ما طلبت به صغير ذَلِكَ من الدُّنْيَا.
فاحذر على نفسك حذرًا غير تغرير، وبادره بنفسك قبل أن تسبق إليها، وما تخاف الحَسْرَة منه عِنْد نزول الموت، وخاصم نفسك على مهل وأَنْتَ تقدر بإذن الله على جر المنفعة إليها، وصرف الحجة عَنْهَا قبل أن يتولى الله حسابها.(5/400)
ثُمَّ لا تقدر على صرف المكروه عَنْهَا واجعل من نفسك لنفسك نصيبًا بالليل والنَّهَارَ، وصل من النَّهَارَ اثنتي عشرة ركعة، واقَرَأَ فيهن ما أحببت، إن شئت صلهن جميعًا، وإن شئت متفرقات، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من صلى من النَّهَارَ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتًا في الْجَنَّة» .
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك وبملائكتك وكتبك ورسلك واليوم الآخِر والقدر خيره وشره، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وصل من الليل ثمان ركعات بجزء من القرآن، وأعط كُلّ ركعة حقها، والَّذِي ينبغي فيها من تمام الركوع والسجود، وصلهن مثنى مثنَى، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: أنه كَانَ يصلي من الليل ثمان ركعات، والوتر ثلاث ركعات سِوَى ذَلِكَ يسلم من كُلّ اثنتين.
وصم ثلاثة أيام من كُلّ شهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? أنه قال: «ذَلِكَ صيام الدهر» .
وأعط زكاة مالك طيبة بها نفسك حين يحول عَلَيْهِ الحول ولا تؤخرها بعد حلها، وضعها فيمن أمر الله تَعَالَى، ولا تضعها إِلا في أَهْل ملتك من المسلمين، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله تَعَالَى لم يرض من الصدقة بحكم نبي ولا غيره حتى حدها هُوَ على ثمانية أجزاء. قال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .(5/401)
واحجج حجة الإسلام من أطيب مالك، وأزكاه عندك، فإن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا طيبًا، وبلغني أن قوله تَعَالَى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثُمَّ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثُمَّ عَلَيْهِ} غفر له.
مر بطاعة الله وأحبب عَلَيْهَا، وانه عن معاصي الله تَعَالَى، وأبغض عَلَيْهَا، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «مروا بالمعروف، وانهوا عن الْمُنْكَر، فإنما هلك من كَانَ قبلكم بتركهم نهيهم عن المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار» .
فمروا بالمعروف وانهوا عن الْمُنْكَر من قبل أن ينزل بكم الَّذِي نزل بِهُمْ، فإن الأَمْر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر لا يقدم أجلاً، ولا يقطع رزقًا.
أحسن إلى من خولك الله تَعَالَى، واشكر تفضيله إياك عَلَيْهمْ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يصلى فانصرف، وَقَالَ: «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إِلا عَلَيْهِ جبهة ملك ساجد، فمن كَانَ له خول فليحسن إليه، ومن كره فليستبدل، ولا تعذبوا خلق الله» .
الزم الأَدَب من وليت أمره وأدبه، ومن يجب عَلَيْكَ النظر في أمره، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال للفضل بن العباس: «لا ترفع عصاك على أهلك، وأخفهم في الله» .
لا تستلم إلى النَّاس واستجرهم في طاعة الله، لا تغمص النَّاس واخفض لَهُمْ جناحك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:(5/402)
«ألا أحدثكم بوصية نوح ابنه. قال: آمرك باثنين، وأنهاك عن اثنين: أمرك بقول لا إله إِلا الله، فإنها لو كانَتْ في كفة والسماوات والأَرْض في كفة وزنتها، ولو وضعتها على حلقة قصمتها.
وقل: سبحان الله وبحمده فإنها عبادة الخلق، وبها تقطع أرزاقهم، فإنهما يكثران لمن قالها الولوج على الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنهاك عن الشرك والكبر، فإن الله محتجب عنهما فَقَالَ له بعض أصحابه: أمن الكبر أن يكون لي الدابة النجيبة؟ قال: لا. قال: أمن الكبر أن يكون لي الثوب الحسن؟ قال: لا. قال: أفمن الكبر أن يكون لي الطعام أجمَعَ عَلَيْهِ النَّاس؟ قال: لا.
إنما الكبر أن تسفه الحق، وتغمص الخلق، وَإِيَّاكَ والكبر والزهو، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يحبهما، وبلغني عن بعض الْعُلَمَاء أنه قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم النَّاس بتكبرهم على الله عَزَّ وَجَلَّ» .
وَسَلْ الْعِيَاذَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْهَوَى ... فَهُمَا لِكُلِّ الشَّرِ جَامِعَتَانِ
وَهُمَا يَصُدَّانِ الْفَتَى عَنْ كُلِّ طُرْ ... قِ الْخَيْرِ إِذْ فِي قَلْبِهِ يَلْجَانِ
فَتَرَاهُ يَمْنَعُهُ هَوَاهُ تَارَةً ... وَالْكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ
وَالله مَا فِي النَّارَ إِلا تَابِعٌ ... هَاذَيْنِ فَاسْئَلْ سَاكِنِ النِّيرَانِ
آخر: ... قُلْ لِلْوَضِيعِ إِذَا تَكَبَّرَ لا تُبَلْ ... تِهْ كُلَّ تِيْهِكَ بالْوِلاية والْعَمَلْ
مَا ازْدَدْتَ حِينَ وَلَيْتَ إِلا خِسَّةً ... كَالْكَلْبِ أَنْجَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اغْتَسَلْ
اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض، عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم(5/403)
الرجف والزلزال، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
لا تأمن على شَيْء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلغني عن عُمَر بن الْخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: شاور في أمرك الَّذِينَ يخافون الله، احذر بطانة السُّوء، وأَهْل الرَّدَى على نفسك.
فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما من نبي ولا خليفة إِلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن الْمُنْكَر، وبطانة لا تألوه خبالاً، وَهُوَ مَعَ الَّذِي استولت عَلَيْهِ، ومن وقي بطانة السُّوء فقَدْ وُقِيَ» .
واستنبطن أَهْل التقوى من النَّاس، وأكرم ضيفك فإنه يحق عَلَيْكَ إكرامه، وارع حق جارك ببذل المعروف، وكف الأَذَى عَنْهُ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليكرم ضيفه» .
وتكلم بخَيْر أو اسكت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليقل خيرًا أو ليمسك» .
واتق فصول المنطق، فإنه بلغني عن ابن مسعود أنه قال: أنذركم فضول المنطق، وأكرم من وادك وكافئه بمودته، وَإِيَّاكَ والْغَضَب في غير الله، لا تأمر بخَيْر إِلا بدأت بفعله، ولا تنه عن سوء إِلا بدأت بتركه، دع من الأَمْر ما لا يعنيك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
صل من قطعك، واعف عمن ظلمك، واعط من حرمك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إنها أفضل أَخْلاق الدُّنْيَا والآخِرَة» .(5/404)
اتق كثرة الضحك، فإنه يدعو إلى السفه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: أن ضحكه كَانَ تبسمًا.
لا تمزح فتدم نفسك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إني لأمزح ولا أَقُول إِلا حقًا» .
لا تخالف إلى ما نهيت عَنْهُ، وإذا نطقت فأوجز، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «وهل يكب النَّاس في نار جهنم إِلا هَذَا» يعني: لِسَانه.
لا تصغر خدك للناس، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن أَهْل الْجَنَّة كُلّ هين لين سهل طلق» .
اترك من عمال السِّرّ ما لا يحسن بك أن تعمله في العلانية: اتق كُلّ شَيْء تخاف فيه تهمة في دينك ودنياك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فلا يقف مواقف التهم» .
أقلل طلب الحوائج من النَّاس، فإن في ذَلِكَ غضاضة، وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال لرجل: «لا تسأل النَّاس، وليكن مجلسك بيتك أو مسجدك» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «المساجد بيوت المتقين» .
لا تكثر الشخوص من بيتك إِلا في أمر لا بد منه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ستة مجالس المسلم ضامن على الله ما كَانَ في شَيْء منهن: في سبيل الله، أو في بيت الله، أو في عيادة مريض، أو شهود جنازة، أو جمعة، أو عِنْد إمام مقسط يعزره ويوقره» .(5/405)
أحسن خلقك مَعَ أهلك، ومن اعتز بك، فإن ذَلِكَ رضًا لربك، ومحبة في أهلك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك.
فإنه بلغني عن بعض الْعُلَمَاء من الصحابة أنه قال ذَلِكَ.
أحسن البشر إلى عامة النَّاس، واتق شتمهم وغيبتهم فإن الله تَعَالَى قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تشتم النَّاس» وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآله وَسَلَمَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
اتق أَهْل الفحش، ومُجَالَسَة أَهْل الرَّدى، ومحادثة الضعفة (أي ضعفاء العقول) من النَّاس، فإنه بلغني عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: اعتبر النَّاس بأخدانهم فإنما يخادن الرجل الرجل مثله.
أكرم اليتيم، وارحمه، واعطف عَلَيْهِ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كفل يتيمًا له أو لغيره كنت أَنَا وَهُوَ في الْجَنَّة كهاتين» ، وأشار بأصبعيه فضمهما.
أعرف لابن السبيل حقه، واحفظ وصية الله تَعَالَى فيه فإنه بلغني أن أول من ضاف الضيف إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام.
أعن المظلوم، وانصره ما استطعت، وخذ على يد الظَالِم، وادفعه عن ظلمه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من مشي مَعَ مظلوم حتى يثَبِّتْ له حقه، ثَبِّتْ الله قدمه يوم تزول الأقدام» .
اتق إتباع الهوى في ترك الحق، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إني أخاف عليكم اثنتين: إتباع الهوى، وطول الأمل» . فإن إتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخِرَة.(5/406)
انصف النَّاس من نفسك ولا تستطل عَلَيْهمْ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «أشرف الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كُلّ حال، ومواساة الأخ من الْمَال، وإنصاف النَّاس من نفسك» .
اغضض بصرك عن محارم الله، فإنه بلغني عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك النظرة الأولى، ولَيْسَتْ لك الأخرى.
اتق المطعم الوبيّ، والمشرب الوبيّ، والملبس الوبيّ، فإن ذَلِكَ تذهب أنفته، وتبقى عاقبته، وإن الله سُبْحَانَهُ أدب رسله، فَقَالَ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} .
وَقَالَ النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «من أكل بأخيه المسلم أكلة أطعمه الله مكانها أكلة من نار، ومن سمعَ بأخيه المسلم سمعَ الله به يوم القيامة، ومن لبس بأخيه المسلم ثوبًا ألبسه الله مكانه ثوبًا من نار» .
اقبل عذر من اعتذر إليك، وارجع عما كرهت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يعذره كَانَ عَلَيْهِ مثل وزر صَاحِب مكس» .
لتكن يدك العليا على كُلّ من خالطت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «اليد العليا خَيْر من اليد السفلى» .
اصحب الأخيار فَإِنَّهُمْ يعينونك على أمر الله عَزَّ وَجَلَّ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما تحاب رجلان في الله إِلا كَانَ أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه» .
صل رحمك وإن قطعك، ولا تكافئه بمثل ما أتى إليك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أن رجلاً قال له: إن لي أقرباء، أعفوا ويظلموني، وأصل ويقطعوني، وأحسن ويسيئوني، أفأكافئهم؟ فَقَالَ ?: «إذن(5/407)
تتركوا جميعًا، ولكن إذا أساءوا فأحسن، فإنه لن يزال لك عَلَيْهمْ من الله ظهير» . اللَّهُمَّ يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا ما ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين، واغفر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ارحم المسكين المضطر، والغريب المحتاج، وأعنه على ما استطعت من أمره، فإنه بلغني عن ابن عباس: أنه قال: (كُلّ معروف صدقة) .
ارحم السائل واردده من بابك بفضل معروفك بالبذل منك، أو قول معروف تقوله له، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «رد عَنْكَ مذمة السائل بمثل رأس الطير من الطعام» .
لا تزهد في المعروف عِنْد من تعرفه وعِنْد من لا تعرفه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تزهد في المعروف ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقي» .
أرد بكل ما يكون منك من خَيْر إلى أحد الله، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ} ... الآيَة قال: المنافق الَّذِي إن صلّى رآءى، وإن فاتته لم يبلغ إليها {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قال: الماعون: الزَّكَاة التي فرضها الله عَزَّ وَجَلَّ.
إياك والرياء، فإنه بلغني أنه لا يصعد عمل المرائي إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولا يزكيه عنده. إن استطعت أن تعمل بعمل ما عملت فيما بينك(5/408)
وبين الله فافعل، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «نضر الله امرءًا سمَعَ مقالتي فوعاها حتى يبلغها غيره، فرب غائب أحفظ من شاهد ورب حامل فقه غير فقيه» .
لا يغفل قلب امرئٍ مسلم عن ثلاث خصال: إخلاص الْعَمَل لله، والنَّصِيحَة للإمام العادل، والنَّصِيحَة لعامة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم.
إياك وسوء الخلق، فإنه يدعوا إلى معاصي الله تَعَالَى، وقَدْ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «خياركم أحسنكم أخلاقًا» .
اخضع لله إذا خلوت بعملك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: (أن ملكًا أتاه فَقَالَ: إن ربك يقرئك السَّلام وَيَقُولُ: إن شئت أجعلك ملكًا نبيًا أو عبدًا نبيًا فأشار إليه جبريل عَلَيْهِ السَّلام أن تواضع، فما أكل متكئًا حتى مَاتَ) .
لا تظلم النَّاس فيديلهم الله عَلَيْكَ، فإنه بلغني عن بعض الْعُلَمَاء من الصحابة أنه قال: ما ظلمت أحدًا أشد عليَّ ظلمًا من أحد لا يتعسن عليّ إِلا بِاللهِ تَعَالَى.
احذر البغي فإنه عاجل العقوبة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن أعجل الْخَيْر ثوابًا صلة الرحم، وإن أعجل الشر عقوبة اليمين الغموس تترك الديار بلاقع» .
لا تحلف بغير الله في شَيْء، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تحلفوا بآبائكم، ليحلف حالف بِاللهِ أو ليسكت» . ولا تحلف بِاللهِ في كُلّ شَيْء فإنه بلغني أن ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} .
اللَّهُمَّ أعمر قلوبنا وألسنتنا بِذِكْرِكَ وشكرك ووفقنا للامتثال لأَمْرِكَ، وأمنا من سطوتك ومكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ أوليائك المتقين وحزبك(5/409)
المفلحين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
ارحم النَّاس يرَحِمَكَ اللهُ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من لا يرحم النَّاس لا يرَحِمَهُ اللهُ» .
أحبب طاعة الله يحبك الله، ويحببك إلى خلقه، قال الله عَزَّ وَجَلَّ لنبيه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «إن الله جعل قرة عيني في السجود» . وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء: ما أسر عبد قط سريرة خَيْر إِلا ألبسه الله رداءها، ولا أسر سريرة شر قط إِلا ألبسه الله رداءها.
وليكن عَلَيْكَ السكينة والوقار في منطقك ومجلسك ومركبك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إذا ركبتهم هذه الدواب العجم فأعطوها من حظها من الأَرْض» .
عَلَيْكَ بالحلم والإغضاء عما كرهت، ولا تتبع ذَلِكَ من أحد بلغك عَنْهُ أذى ولا تكافئه فإن في ذَلِكَ الفضل في الدُّنْيَا والآخِرَة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف» .
ادفع السيئة بالتي هي أحسن، بلغني عن النبي - ? - أنه قال: «أيها السلمي اتق العقوبة وقطيعة الرحم، فإن في ذَلِكَ شَيْنًا في الدُّنْيَا وتباعد في الآخِرَة» .
وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «اشتكت الرحم إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ممن يقطعها، فرد الله عَلَيْهَا: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك» .(5/410)
إذا غضبت من شَيْء من أمر الله فاذكر ثواب الله على كظم الغيظ، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} الآيَة.
وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما امتلأ رجل غيظًا فكظمه لله إِلا ملأه الله رضوانَا يوم القيامة» .
إذا وعدت موعدًا في طاعة الله فلا تخلفه، وإذا قُلْتُ قولاً فيه رضا الله فأوف به ودم عَلَيْهِ، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من تكفل بستٍّ أتكفل له بالْجَنَّة: إذا حدث لم يكذب، وإذا وعد لم يخلف، وإذا ائتمن لم يخن، وغض بصره، وحفظ فرجه، وكف يده» .
إذا حلفت على يمين ليست من طاعة الله فلا تهمن بها وكفرها، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا نذر في معصية الله وكفارتها كفارة يمين، والنذر يمين، وإذا حلفت على يمين ثُمَّ رَأَيْت غيرها خيرًا منها فأت الَّذِي هُوَ خَيْر وكفر عن يمينك» فإنه بلغني عن النَّبِيّ ? أنه قال ذَلِكَ.
إياك والتزيد في القول، وأن تَقُول قولاً وأَنْتَ تعلم أنه لم يكن، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: الإمام الكذَّاب، والعائل المزهو، والشَّيْخ الزاني» .
بر والديك وخصهما منك بالدُّعَاء في كُلّ صلاة، وأكثر لهما الاستغفار، وابدأ بنفسك قبلهما، فإن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلام - قال: (رب اغفر لي ولوالديَّ) فبدأ بنفسه قبل والديه. وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من سره أن ينسأ له في عمره، ويزَادَ في رزقه، فليتق الله ربه وليصل رحمه» .
اشكر النَّاس ما أتوا إليك من خيرهم، وكافئهم إن قدرت عَلَيْهِ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من لم يشكر النَّاس لم يشكر الله» والله(5/411)
اللَّهُمَّ قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
إذا ركبت الدابة فوضعت رجلك في الركاب فقل: بسم الله، وإذا استويت راكبًا فقل: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} الآيَة. فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ كُلَّما ركب دابة. قُلْتُ: (ومثلها السيارة، والطائرة، والقطار، والسَّفِينَة ونحوها) .
إذا أكلت أو شربت فاذكر اسم الله، فإن نسيت في أول حالك فاذكره إذا ذكرت، بلغني عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: تذكر اسم الله حين تذكر، فإنه يحول بين الخبيث وبين أن يأكل معك ويتقيأ ما أكل، فإذا فرغت فقل: الحمد لله الَّذِي أطعمنا وسقانَا وجعلنا مسلمين، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذا أكل وشرب.
وإذا أكلت ومعك آخر فكل مِمَّا يليك بيمينك، ولا تأكل من فوق الطعام ولا من بين يدي أحد، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال لرجل يفعله: «اذكر اسم الله، وكل مِمَّا يليك وكل بيمينك ولا تأكل بشمالك، ولا تشرب بشمالك» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إنها أكلة الشيطان» .
لا تسافر ما استطعت إِلا في يوم الخميس، فإنه بلغني عن النَّبِيّ(5/412)
- ? - أنه كَانَ يستحب أن يسافر يوم الخميس لا يسافر إِلا فيه.
إذا أصابك كرب فقل: يا حي يا قيوم بِرَحْمَتِكَ أستغيث، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عِنْد الكرب.
احترس ممن يقرب إليك بالنميمة، ويبلغ الكلام عن النَّاس، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه، ملعون من غير تخوم الأَرْض، ملعون كُلّ صقار» . وَهُوَ: النمام.
لا تجر ثيابك فإن الله لا يحب ذَلِكَ، وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من جر ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» .
أطع الله في معصية النَّاس، ولا تطع النَّاس في معصية الله، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
إذا أصابك حزن أو سقم أو زلة أو لأواء - يعني الجوع - فقل: الله رَبِّي لا أشرك به شَيْئًا. ثلاث مرات، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يأمر بذَلِكَ من أصابه شَيْء من ذَلِكَ.
اصبر على ما أصابك من فجائع الدُّنْيَا وأحزانها لقول الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} . والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
لا تمارين أحدًا وإن كنت محقًا، بلغني أن قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أنه المراء.
إذا هممت بأمر من أمور الدُّنْيَا ففكر في عاقبته، بلغني عن النَّبِيّ(5/413)
- ? - أنه قال: «إذا هممت بأمر من أمور الدُّنْيَا ففكر في عاقبته، فإن كَانَ رشدًا فأمضه، وإن كَانَ غيًا فانته منه» .
وَإِيَّاكَ والتجريد خَاليا، فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا أحب أن يلي لي شَيْئًا من لا يستحي من الله في الخلاء» . وَإِيَّاكَ أن تدخل الحمام والماء إِلا بإزار، ولا يدخل معك أحد الحمام إِلا بإزار وأَنْتَ تقدر على ذَلِكَ.
فإن لم تقدر فغض طرفك عن كُلّ أحد مكشوفًا، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا يحل لامرئٍ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر أن يدخل الحمام إِلا بإزار» . وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أفش السَّلام وإن استطعت أن لا يسبقك أحد إليه فافعل تعط بذَلِكَ فضلاً عن النَّاس، وبلغني عن ابن مسعود أنه قال: السَّلام اسم من أسماء الله، وضعه فيكم فأفشوه فيكم، فإن الرجل إذا سلم كتب له عشر حسنات.
أدب ولدك ومن وليت أمره على خلقك وأدبك حتى يتأدبوا على ما أَنْتَ عَلَيْهِ فيكونوا لك عونًا على طاعة الله. بلغني عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: كُلّ مؤدب يحب أن يؤخذ بأدبه، وإن أدب الله هُوَ القرآن.
وإذا استشارك أحد فإن شئت تكلمت، وإن شئت سكتَّ، واجتهد(5/414)
رأيك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «المستشار بالخيار إن شَاءَ تكلم، وإن شَاءَ سكت» .
لا تفش على أحدٍ سرًا أفشاه إليك فإنما هِيَ أمانة استودعكها وائتمنك عَلَيْهَا، إِلا أن يكون إفشاؤه خيرًا له في دنياه وآخرته فأفشها عَلَيْهِ وانصحه فيها، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من حق المسلم على المسلم إذا استنصحه أن ينصحه» .
إذا تعلمت علمًا من طاعة الله فلير عَلَيْكَ أثره، ولير فيك سمته، وتعلم للذي تعمله، وتعلم له السكينة والحلم والوقار. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «الْعُلَمَاء ورثة الأنبياء» .
رد جواب الكِتَاب إلى كُلّ أحد كتب إليك، فإنما هُوَ كرد السَّلام قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
وَقَالَ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
أرى رجع اْلكِتَاب عليَّ حقًا كما أرى رجع السَّلام.
الزم الحياء فإنه خلق الإسلام، وفيه قال ?: «لكل شَيْء خلق، وخلق الإسلام: الحياء» .
إذا سافرت فقل: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأَهْل والْمَال، والحور بعد الكور» . بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذا سافر.
إياك وظلم الضعيف، ومن لا يستعين عَلَيْكَ إِلا بِاللهِ، لقول النَّبِيّ - ? -: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة(5/415)
المظلوم فإنها تصعد فوق الغمام، فَيَقُولُ الله لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» .
إذا ودعت مسافرًا فقل: «زودك الله التقوى، وغفر لك ذنبك، ويسر لك الْخَيْر حيثما كنت، استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك» . لأن النَّبِيّ ? كَانَ يأمر أصحابه بها.
إذا حضرت السُّلْطَان فاشفع بخَيْر، وَإِيَّاكَ والكلام عنده إِلا بما يرضي الله، لقول النَّبِيّ - ? -: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، يكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة» .
أرد ما أردت به الله ما استطعت، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «صدقة السِّرّ تطفئ غضب الرب» .
اتق كثرة التزكية لنفسك، أو ترضى بها من أحد يقولها لك في وجهك، بلغني أن رجلاً امتدح رجلاً عِنْد النَّبِيّ - ? - فَقَالَ: «ويحك قطعت عنقه، ولو سمعها ما أفلح أبدًا» .
إياك ومدح النَّاس والثناء عَلَيْهمْ في وجوههم، لقول النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام -: «احثوا التُّرَاب في وجوه المداحين» .
طهر ثيابك ونقها من معاصي الله تَعَالَى، فإنه بلغني أن قوله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، يأمره أن لا يلبسها على عذرة.
واكره لك أحد ما تكرهه لنفسك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه بايع جريرًا البجلي على الإسلام والنَّصِيحَة لكل مسلم.(5/416)
إياك والحسد والشره فهما خلقان مرديان لصاحبهما في الدُّنْيَا والآخِرَة، وَقَالَ ? فيهما: «لا حسد إِلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على إنفاقه في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» .
شِعْرًا: ... كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِمَاتَتُهَا ... إِلا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ
فَإِنَّ الْقَلْبَ مِنْهَا عُقْدَةٌ عُقِدَتْ ... وَلَيْسَ يَفْتَحُهَا رَاقٍ إِلَى الأَبَدِ
إِلا الإِلَهُ فَإِنْ يَرْحَمْ تُحَلُّ بِهِ ... فَالْجَأْ إِلَى اللهِ لا تَرْكَنْ إِلَى أَحَدِ
اقتد في أمورك برأي ذي الإنصاف من أَهْل التقوى. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «خياركم شبانكم المتشبهون بشيوخكم، وشراركم شيوخكم المتشبهون بشبانكم» .
لا تحتقر أحدًا، ولا تجالس مأفونًا، فإن الوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء.
عَلَيْكَ بمعالي الأَخْلاق وكريمها، واتق رذائلها وما سفف منها، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله يحب معالي الأَخْلاق ويكره سفسافها» .
إذا رَأَيْت من فضلت عَلَيْهِ في دينك ودنياك فأكثر حمد الله عَلَيْهِ، فإن ذَلِكَ من الشكر، بلغني عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام - أنه قال: «ما أنعم الله على عبد بنعمة فَقَالَ: الحمد لله إِلا كَانَ ذَلِكَ أعظم من تلك النعمة وإن عظمت» .
لا تركب المثرة الحمراء، ولا تلبس المعصفر، فقَدْ نهِيَ رسول الله - ? - عن ذَلِكَ. إذا غضبت وأَنْتَ قائم فاقعد، وإن كنت قاعدًا فاضطجع، لقول النَّبِيّ - ? -: «إذا غضب أحدكم وَهُوَ قائم فليجلس فإن ذهب عَنْهُ الْغَضَب وإِلا فليضطجع» . لا تتطيرن من شَيْء تراه أو تسمعه.(5/417)
وإذا كَانَ من ذَلِكَ شَيْء فقل: اللَّهُمَّ لا يأتي بالْخَيْر إِلا أَنْتَ ولا يدفع السُّوء إِلا أَنْتَ، ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. فقَدْ علمت أن النَّبِيّ - ? - كَانَ يأمر بذَلِكَ لمن رأى من ذَلِكَ شَيْئًا.
لا تتوضأ بشَيْء مِمَّا تأكل من الطعام (إِلا من لحم الجزور) ولا تدلك به في الحمام، فإن ذَلِكَ من الجفاء.
لا تتخلقن بالخلوق إِلا أن يكون في أثر النورة ليذهب ريحها، فقَدْ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «بينما رجل في بردتين له متخلق يتبختر فيهما إذ ساخت به الأَرْض فهو يتجلجل فيه إلى يوم القيامة» .
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: لا تحلف بالطلاق ولا بالعتاق، فإنها من أيمان الفساق. بلغني عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: أربع جائزة إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر. وأربعة يمسون والله عَلَيْهمْ ساخط، ويبيحون والله عَلَيْهمْ غَضْبَان: المتشبهون من الرِّجَال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرِّجَال، ومن أتى بهيمة، أو عمل عمل قوم لوط.
لا تتطيبن بشَيْء من الطيب يظهر لونه، فإن النَّبِيّ - ? - قال: «طيب الرِّجَال ما بطن لونه وظهر ريحه، وطيب النساء ما ظهر لونه وبطن ريحه» .
الزم الرأي الحسن، والهدي الحسن، والاقتصاد بلغني عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: الرأي الحسن جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة.(5/418)
إن استطعت أن لا تدع العمامة والبرد في العيدين والْجُمُعَة فافعل. لما علمت من أمر النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام - أنه كَانَ يلبس العمامة والبرد في العيدين والْجُمُعَة.
إذا صافحت أحدًا فلا تنزعن يدك من يده، حتى يكون هُوَ الَّذِي ينزع يده عن يدك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه لم يصافح أحدًا فنزع يده حتى يكون هُوَ الَّذِي ينزع يده.
إذا أقبل عَلَيْكَ رجل بوجهه يحدثك فلا تصرف وجهك عَنْهُ حتى يكون هُوَ الَّذِي يصرف وجهه عَنْكَ، وإذا جلست إلى جنب رجل أو جلس إلى جنبك رجل فلا تقومن من بين يديه، ولا تجاوزن ركبتك ركبتيه، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه لم تتجاوز ركبته ركبة جلَيْسَ له.
وإذا أحسست من أمير ظلامة أو تغطرسًا فقل: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أعز من خلقه جميعًا، الله أكبر مِمَّا أخاف وأحذر، وأعوذ بِاللهِ الممسك السماء أن تقع على الأَرْض إِلا بإذنه من شر فلان، اللَّهُمَّ كن لي جارًا من فلان وجنوده، أن يفرط عليَّ أحد مِنْهُمْ أو أن يطغى، جل جلالك وعز جارك، ولا إله غيرك) تَقُول ذَلِكَ ثلاث مرات.
بلغني عن ابن عباس أنه قال ذَلِكَ وأمرنا به.
وإذا كتبت إلى أحد من غير أَهْل الإسلام فلا تكتبن سلام الله عَلَيْكَ، ولكن اكتب: السَّلام على من اتبع الهدى، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كتب ذَلِكَ إلى مسيلمة.
إذا عطست في الخلاء فاذكر اسم الله خفيًا. لا تدهن في مدهن(5/419)
ذهب ولا فضة، ولا تستجمر في مجامر الذهب والفضة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه نَهِيَ عن الشرب في إناء الذهب والفضة.
لا تنم على الحرير والديباج فإنه لبسة النساء، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه نَهِيَ عن لبس الحرير والديباج إِلا للنساء.
إذا رَأَيْت أمرًا في أهلك وخاصتك مِمَّا ينبغي تغييره فلا تحابين مِنْهُمْ أحدًا، وقم فيه بالَّذِي يحق عَلَيْكَ، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «انصر أخاك ظالمًا ومظلومًا» .
إذا هممت بأمر من طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - فلا تحبسه إن استطعت فواقًا حتى تمضيه، فإنك لا تأمن الأحداث، وإذا هممت بأمر غير ذَلِكَ فإن استطعت أن لا تمضيه فواقًا فافعل لعل الله تَعَالَى يحدث لك تركه.
لا تستحي إذا دعيت لأمر لَيْسَ بحق أن تَقُول: لا، فإن الله تعالى يَقُولُ: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}
إذا سمعت المؤذن يؤذن فقل كما يَقُولُ إِلا أنك تَقُول إذا قال: حي على الصَّلاة، حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. بلغني ذَلِكَ عن النَّبِيّ - ? -.
لا تخلون بامرأة لَيْسَتْ لك بمحرم، بلغني عن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: ما خلا رجل بامرأة لَيْسَتْ له بمحرم إِلا كَانَ ثالثهما الشيطان.
شِعْرًا: ... لا تَخْلُ بامْرَأَةٍ لَدَيْكَ بِرِيبَةٍ ... لَوْ كُنْتَ فِي النُّسَّاكِ مِثْلَ بَنَانِ
إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلََى النِّسَا ... مِثْلُ الْكِلابِ تَطُوفُ باللُّحْمَانِ
إِنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا ... أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ(5/420)
إذا قال الإمام: آمين، فقل: آمين، فإنه ينبغي إذا فرغ من أم القرآن أن يَقُولُ: آمين، ويقوله من خلفه. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن لتأمين الإمام، فمن وافق منكم تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . أ. هـ. ما اخترناه وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
(فَصْلٌ)
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول عن واحد لا ثاني له.
وعن دين لا يقبل الله غيره.
وعن مفتاح الصلاة وبم تختم.
وعن غراس الْجَنَّة وعن صلاة كُلّ شَيْء.
وعن أربعة فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرِّجَال ولا أرحام النساء.
وعن رجل لا أب له.
وعن رجل لا أم له ولا أب.
وعن حيوان جرى بصاحبه.
وعن بقعة من الأَرْض طلعت عَلَيْهَا الشمس مرة واحدة ولم تطلع عَلَيْهَا قبل ذَلِكَ ولا بعده.
وعن ظاعن ظعن مرة ولم يظعن قبلها ولا بعدها.
وعن شجرة نبتت على إنسان.
وعن شَيْء يتنفس ولا روح له.
وعن الحكمة في المحو الَّذِي في القمر.
وعن ميت مَاتَ ألف شهر ومائتي شهر.
وعن جبل ارتفع ثُمَّ رجع.
وعن إثنان لا ثالث لهما.(5/421)
وخمسة لا سادس لها.
وستة لَيْسَ لها سابع.
وسبعة لَيْسَ لها ثامن.
وثمانية لا تاسع لها.
وتسعة لا عاشر لها.
وعشرة لَيْسَ لَهُمْ حادي عشر.
وثلاثة عشر لا رابع عشر لَهُمْ.
وعن أحب كلمة إِلَى اللهِ.
وما الموضع الَّذِي لَيْسَ له قبلة.
وعن شَيْء حل بعضه وحرم بعضه.
وعن نبي نهى الله النَّبِيّ ? أن يعمل عمله.
وعن من بعثه الله ولَيْسَ من بني آدم ولا من الجن ولا من الملائكة.
وعن نفس ماتت وضربت ببعضها ميت فحيا بإذن الله.
وعن كافر لم تأكل الأَرْض لحمه.
وعن نفس خرجت من نفس ولا نسبة بينهما.
وعن اثنين تكُلَّما في الدهر مرة واحدة فقط ثم هما سكوت إلى يوم القيامة.
وعن أنفع كلمة وأرفع وأحسن كلمة وأزكى كلمة.
وعن جماعة شهدوا الحق وهم كاذبون.
وعن جماعة شهدوا الحق فأدخلوا النار ومن شهدوا عليه.
وعن شَيْء على الأَرْض من الْجَنَّة.
وعن صيدين صادهما رجل فحل أحدهما له وحرم عَلَيْهِ الآخِر.
وعن امرأة أوحى الله إليها(5/422)
وعن خمسة مشوا على وجه الأَرْض ولم يولدوا.
وعن أم لم تولد.
وعن ماء لم يذكر أنه نبع من الأَرْض ولم يذكر أنه نزل من السماء.
ج: الجواب الواحد لا ثاني له: فالله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأما الدين الَّذِي لا يقبل الله غيره: فدين الإسلام الله تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} .
وأما مفتاح الصَّلاة فالتكبير وتختم بالتسليم.
وأما غراس الْجَنَّة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إِلا الله والله أكبر.
وأما صلاة كُلّ شَيْء: سبحان الله وبحمده.
وأما الَّذِي فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرِّجَال ولا أرحام النساء: فهم آدم وحواء وناقة صالح عَلَيْهِ السَّلام وعصا مُوَسى لما قلبها الله حية والكبش الَّذِي فدى به إبراهيم ابنه قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} .
وأما الموضع الَّذِي لَيْسَ له قبلة: فظهر بيت الله (أي سطح الكعبة) .
وأما الرجل الَّذِي لا أب له: فعيسى عَلَيْهِ وعلى نبينا السَّلام.
وأما الرجل الَّذِي لا أم له ولا أب: فآدم عَلَيْهِ السَّلام.
وأما الْحَيَوَان الَّذِي جرى بصاحبه: فالحوت الَّذِي سار بيونس في البحر.
وأما البقعة التي طلعت عَلَيْهَا الشمس مرة واحدة: فأرض البحر الَّذِي فلقه الله لمُوَسى ومن معه من بني إسرائيل.
وأما الاثنان اللذان لَيْسَ لهما ثالث: فالليل والنَّهَارَ.
وأما الثالث التي لَيْسَ لها رابع فالطلاق الثالث.
وأما الخمسة التي لا سادس لها: فالصلوات الخمس المفروضة.
وأما الستة اللذين لا سابع لَهُمْ: فالأيام التي خلق الله فيه السماوات والأَرْض.(5/423)
وأما السبعة التي لا ثامن لها: فأيام الأسبوع.
وأما الثمانية الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تاسع: فحملة العرش يوم القيامة. قال الله جل وعلا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .
وأما التسعة اللذين لا عاشر لَهُمْ: فالتسعة الرهط الَّذِينَ ذكرهم الله في سورة النمل. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} .
وأما العشرة التي لَيْسَ لها حادي عشرة: فقوله تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} .
وأما الإحد عشر: فإخوة يوسف.
وأما الإثنا عشر: فشهور السنة.
وأما الثلاثة عشر: فإخوة يوسف وأبوه وأمه.
وأما أحب كلمة إِلَى اللهِ: فكلمة الإِخْلاص: (لا إله إِلا الله) .
وأما الشَيْء الَّذِي أحل بعضه وحرم بعضه: فهو نهر طالوت قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} .
وأما الَّذِي بعثه الله ولَيْسَ من الإنس ولا من الملائكة ولا من الجن فهو الغراب قال الله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} .
وأما النفس التي ماتت وضرب ببعضها ميتًا آخر فحيا بإذن الله فهي بقرة بني إسرائيل قال الله جَلَّ وَعَلا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى} .
وأما الشجرة التي نبتت على إنسان: فالتي أنبتها الله على يونس ابن متى قال تَعَالَى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} .
وأما النفس التي دخلت في نفس أخرى وخرجت ولَيْسَ بينهما مناسبة(5/424)
فهو يونس بن متى عَلَيْهِ السَّلام دخل في بطن الحوت وخَرَجَ قال تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} .
وأما الكنز من كنوز الْجَنَّة فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ كما في الْحَدِيث.
وأما الماء الَّذِي لم يذكر أنه نبع من الأَرْض ولم يذكر أنه نزل من السماء فالماء الَّذِي نبع بين أصابع النَّبِيّ ?.
وأما الحكمة التي في محو آية الليل القمر فالله أعلم بأنه لأجل تمييز الليل من النَّهَارَ ولمنافع أخرى تتعلق بالنَّبَات والزروع والأشجار والثمار.
وأما النَّبِيّ الَّذِي نهى الله النَّبِيّ ? أن يعمل مثل عمل عمله فهو يونس قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} .
وأما الشهود الَّذِي شهدوا الحق وهم كاذبون: فهم المنافقون، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .
وأما الشهود الَّذِي شهدوا بالحق وأدخلوا النار ومن شهدوا عَلَيْهِ: فالجوارح، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيات.
وأما الجبل الَّذِي ارتفع وعاد فجبل الطور أعاده الله قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .
وأما الكافر الَّذِي لم تأكل الأَرْض لحمه فقارون.(5/425)
وأما الَّذِي في الأَرْض وَهُوَ من الْجَنَّة: فالحجر الأسود.
وأما الصيدان اللذان صادهما رجل فأحل له أحدهما وحرم عَلَيْهِ الآخِر: فمحرم صاد صيدين من البر واحد ومن البحر واحد فالَّذِي من البر حرامٌ والَّذِي من البحر حلال.
وأما الَّذِي مَاتَ ألف شهر ومائتي شهر ثُمَّ أحياه الله: فالعزيز عَلَيْهِ السَّلام، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} .
وأما المرأة التي أوحى الله إليها: فأم مُوَسى، قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} .
وأما الأم التي لم تولد: فحواء عَلَيْهِ السَّلام.
وأما الأم التي لم تلد: فمَكَّة المكرمة أم القرى قال الله جَلَّ وَعَلا: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} أ. هـ. انتهى.
فَصْلٌ: سئل الشَّافِعِي عن رجلين خطبا امرأةً فحلت لإحداهما ولم تحل للآخر. فَقَالَ: إن الَّذِي لم تحل له أربع زوجات فحرمت عَلَيْهِ الخامسة.
س: فَقَالَ ما تَقُول في رجلين شربا خمرًا فوجب على أحدهما الحد ولم يجب على الآخِر وكانَا مسلمين؟ فَقَالَ: إن أحدهما حرًا بالغًا فوجب عَلَيْهِ الحد والآخِر صغير لم يبلغ.
س: قال: فما تَقُول في خمسة زنوا بامرأة فوجب على أحدهم القتل وعلى الآخِر الرجم، وعلى الثالث الحد، وعلى الرابع نصف الحد، ولم يجب على الخامس حد؟
فَقَالَ: أما الأول: فمشرك زنى بمسلمة فوجب عَلَيْهِ القتل، وأما الثاني: فمسلم محصن زنى فوجب عَلَيْهِ الرجم، وأما الَّذِي وجب عَلَيْهِ الحد: فمسلم بكر زنى(5/426)
وأما الرابع: فمملوك زنى فوجب عَلَيْهِ نصف الحد، وأما الَّذِي لم يجب عَلَيْهِ شَيْء: فالصبي، والمجنون.
س: قال: فما تَقُول في رجل أخذ كأسًا من ماء فشرب بعضه وحرم عَلَيْهِ الباقي؟ قال: هَذَا لما شرب بعضه وقع على الباقي نجاسة فحرم عَلَيْهِ.
س: قال: فما تَقُول في رجل دفع إلى امرأته كيسًا مختومًا وَقَالَ لها: أَنْتَ طالق إن لم تفرغيه، ولا تفتحيه، ولا تفتقيه، ففرغته على ذَلِكَ الحكم ولم يلحقها طلاق؟
فَقَالَ: إن الكيس مملوءًا سكرًا أو ملحًا فوضعته في الماء فذاب وتفرغ.
س: قال: فما تَقُول في جماعة صلحاء سجدوا لغير الله تَعَالَى وهم في فعلهم مطيعون؟ قال: الملائكة سجدوا لآدم.
س: قال: فما تَقُول في رجل لقي جارية فقبلها وَقَالَ: فديت من أبي جدها، وأخي عمها، وأنَا زوج أمها فما تكون منه؟ قال: هِيَ ابنته.
س: قال: فما تَقُول في امرأة لقيت غلامًا فقبلته قَالَتْ: فديت من أمي وَلَدَتْ أمَّهُ، وأخو زوجي عمه، وأبو ابن حماتي، وأنَا امرأة أبيه؟ قال: هِيَ أُمُّهُ.
س: وَقَالَ: ما تَقُول في رجل تزوج امرأة وزوج ابنه أمها فجاءت الأم والبنت بولدين، فما يكون الولد من ذَلِكَ وَذَلِكَ؟ فَقَالَ: ابن الأم خال لابن البنت، وابن البنت عم لابن الأم.
س: وَقَالَ: ما تَقُول في رجل مَاتَ وخلف ستمائة درهم وله من الورثة أخت فأصابها درهم واحد؟(5/427)
فَقَالَ: هَذَا شخص مَاتَ وخلف ستمائة درهم، وترك بنتين أصابهما الثلثان أربعمائة درهم وخلف والدته أصابها السدس مائة درهم، وخلف زوجة أصابها الثمن، وَهُوَ خمس وسبعون درهمًا، وله اثنا عشر أخًا لكل واحد منهما درهمان، ففضل للأخت درهم.
وَقَالَ آخر ملغزًا:
تَزَوَّجَ شَخْصٌ أَمْ شَخْصٍ وَأُخْتَهُ ... كَذَا أُخْتَهُ الأُخْرَى وَلَيْسَ بِبَاطِلِ
وَشَخْصٌ أَتَى أَيْضًا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ ... وَقَالُوا لَهُ أَجْرٌ لَدَى كُلِّ فَاضِلِ
وَقَالَ آخر:
أَلا فَاسْأَلُوا مَنْ كَانَ بِالْعِلْمِ بَارِعًا ... وَفِي الْفِقْهِ أَفْنَى عُمْرَهُ بِابْتِذَالِهِ
عَنِ الْمَرْءِ يُوصِي قَاصِدًا وَجْهَ رَبِّهِ ... لِزَيْدٍ كَمَا سَمَّاهُ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ
فَإِنْ يَكُنْ الْمُوصَى لَهُ مُتَمَوِّلاً ... دَفَعْنَا لَهُ الْمُوصَى لَهُ بِكَمَالِهِ
وَإِنْ كَانَ ذَا فَقْرٍ وَقَلٍّ وَفَاقَةٍ ... حَرَمْنَاهُ ذَاكَ الْمَالَ فَارْثَ لِحَالِهِ
أَيُحْرَمُ ذُو فَقْرٍ وَيُعْطَاهُ ذُو الْغِنَى ... وَلا تَسْتَنِدْ إِلا لِعِزِّ جَلالِهِ
فَلا تَعْتَمِدْ إِلا عَلَى اللهِ وَحْدَهُ ... وَلا تَسْتَنِدْ إِلا لِعِزِّ جَلالِهِ
اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا. يا رب العالمين اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: ذكر أنه لما دخل هارون الرشيد الحرم الشريف ابتدأ بالطواف ومنع النَّاس من الطواف.(5/428)
فسبقه أعرابي وجعل يطوف معه فشق ذَلِكَ على هارون والتفت إلى حاجبه كالْمُنْكَر عَلَيْهِ.
فَقَالَ الحاجب: أخل المطاف لأمير الْمُؤْمِنِين فَقَالَ الأعرابي: إن الله ساوى بين الأنام في هَذَا المقام والبيت الحرام.
فَقَالَ تَعَالَى: {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَلَمَّا سمَعَ الرشيد ذَلِكَ من الأعرابي أمر حاجبه بالكف عَنْهُ ثُمَّ جَاءَ الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه.
فسبقه الأعرابي فاستلمه ثُمَّ أتى إلى المقام ليصلى فيه فسبقه الأعرابي فصلى فيه.
فَلَمَّا فرغ الرشيد من صلاته قال للحاجب: ائتني بالأعرابي فأتى الحاجب الأعرابي وَقَالَ له: أجب أمير الْمُؤْمِنِين.
فَقَالَ: ما لي إليه حَاجَة إن كانَتْ له حَاجَة فهو أحق بالقيام إليها فانصرف الحاجب مغضبًا فأبلغ الرشيد ما قاله الأعرابي.
فَقَالَ الرشيد: صدق نَحْنُ أحق بالقيام والسعي إليه ثُمَّ نهض إليه حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عَلَيْهِ فرد السَّلام.
فَقَالَ له الرشيد: يا أخا الْعَرَب أأجلس هنا بأمرك، فَقَالَ الأعرابي: لَيْسَتْ البيت بيتي، ولا الحرم حرمي، البيت بيت الله، والحرم حرم الله ونَحْنُ فيه سواء إن شئت تجلس وإن شئت تنصرف.
فعظم جواب الأعرابي على الرشيد حيث سمَعَ كلامًا لم يخطر على باله أن أحدًا يواجهه به فجلس إلى جنبه.
وَقَالَ له: يا أعرابي أريد أن أسألك عن فرضك فإن قمت به فأَنْتَ بغيره(5/429)
أقوم وإن عجزت عَنْهُ فأَنْتَ عن غير أعجز.
فَقَالَ الأعرابي: سؤالك هَذَا سؤال متعلم أو سؤال متعنت، فعجب الرشيد من سرعة جوابه، وَقَالَ: بل سؤال متعلم.
فَقَالَ الأعرابي: قم واجلس مقام السائل من المسئول. قال: فقام الرشيد وجثى على ركبتيه بين يدي الأعرابي.
فقال: قد جلست. قال: سل عما بدا لك فقال: أخبر عن فرض الله عليك.
فَقَالَ له: تسألني عن أي فرض؟ أعن فرض واحد؟ أم عن خمسة فروض؟ أم عن ستة عشر فرضًا؟ أم عن أربعة وثلاثين فرضًا؟
أم عن أربعة وتسعين فرضً؟ أم عن واحد من أربعين؟ أم عن واحدة في العمر؟ أم عن خمسة من مائتين؟ فضحك.
ثُمَّ قال: سألتك عن فرض فأتيتني بحساب الدهر.
فَقَالَ: يا هارون لولا إن الدين حساب لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة قال الله جَلَّ وَعَلا: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .
قال: فبدا الْغَضَب في وجه هارون حيث كلمه باسمه ولم يقل يا أمير الْمُؤْمِنِين، ثُمَّ قال له: فسر لي ما قُلْتُ.
فَقَالَ الحاجب: لما رأى غضب الرشيد: أعف عَنْهُ يا أمير الْمُؤْمِنِين، وهبه لله في هَذَا المقام الشريف.
فضحك الأعرابي من قولهما فَقَالَ له الرشيد: مم تضحك؟ قال: عجبًا منكما فإن أحدكما كما يستوهب أجلاً في عقله أنه قَدْ حظر، والآخِر يستعجل أجلاً لم يحظر.(5/430)
فَلَمَّا سمَعَ الرشيد ذَلِكَ هانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قال له: سألتك بِاللهِ أن تفسر ما قُلْتُ فقَدْ تشوَقْت إلى شرحه.
فَقَالَ الأعرابي: أما سؤالك عما فرض الله عليّ فقَدْ فرض علي فروضًا كثيرة.
فأما الفرض الواحد فهو: دين الإسلام.
وأما الخمسة الفروض فهي: الصلوات الخمس.
وأما السبعة عشر فهي: عدد ركعات الفرض الخمس: الصبح اثنتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع.
وأما الأربع والثلاثين فهي: سجدات الصلوات الخمس.
وأما الأربع والتسعين فهي: التكبيرات في الصلوات الخمس
وأما الواحدة من أربعين: فهي الزَّكَاة: ربع العشر دينار من أربعين دينارًا، وشاة من أربعين شاة.
وأما الواحدة في العمر: فهي حجة الإسلام.
وأما الخمسة من المأتين: فهي زكاة الفضة. وتسمى: الورق.
فَسُرَّ الرشيد من تفسير هذه المسائل ومن ذكاء الأعرابي وفطنته وإجابته.
ثُمَّ أمر له بعشرة الآف درهم، فَقَالَ: لا حَاجَة لي بها ردها إلى أصحابها، فَقَالَ له: أتريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك.
قال: الَّذِي أجرى عَلَيْكَ يجري علي.
قال: فإن كَانَ عَلَيْكَ دين قضيناه فلم يقبل منه شَيْئًا لله دره على هذه العفة هَذَا من رقم (1) في الزهد والورع ياليت هَذَا الطراز يوجد.(5/431)
ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
هَبِ الدُّنْيَا تُوَاتِينَا سِنِينَا ... فَتَكْدُرُ تَارَّةً وَتَلِينُ حِينَا
فَمَا أَرْضَى بِشَيْءٍ لَيْسَ يَبْقَى ... وَأَتْرُكُهُ غَدًا لِلْوَارِثِينَا
كَأَنِّي بِالتُّرَابِ عَلَيَّ يُحْثَى ... وَبِالإِخْوَانِ حَوْلِي نَائِحِينَا
وَيَوْمَ تَزْفُر النِّيرَانُ فِيهِ ... وَتُقْسِمُ جَهْرَةً لِلسَّامِعِينَا
وَعِزَّةِ خَالِقِي وَجَلالِ رَبِّي ... لانْتَقَمْنَ مِنَ الْعُصَاةِ أَجْمَعِينَا
لغز في الأَرْض
وَأُمٌّ أَوْلادُهَا فَوْقَ ظَهْرِهَا ... وَفِي بَطْنِهَا أَعْجِبْ بذَلِكَ مِنْ أَمْرِ
أَحَلُّو بِإِجْمَاعِ الأَئِمَّةِ وَطْأَهَا ... وَمَا مِنْ جَمَاعِ قَدْ أَتُوهُ وَلا نُكْرِ
إِذَا حَمَلَتْ مِنْهُمْ بِشَخْصٍ فَلا يُرَى ... لَهُ صُورَةٌ حَتَّى الْقِيَامَةِ وَالْحَشْرِ
في ميزان
وَقَاضِي قُضَاةٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ سَاكِتًا ... وَبِالْحَقِّ يَقْضِي لا يَبُوحُ فَيَنْطِقُ
قَضَى بِلِسَانٍ لا يَمِيلُ وَإِنْ يَمِلْ ... عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ مُصَدَّقُ
وفي سمَكَّة
وَذَاتُ جَنَاحٍ لا تَطِيرُ وَلا تَمْشِي ... تُصَادُ وَلَيْسَتْ فِي الطُّيُورِ وَلا الْوَحْشِ
عَلَيْهَا قَمِيصٌ مِن لُجَيْنٍ مُدَبَّجَ ... يُحَاكِي فُصُوصَ الْجَوْشَنِ الْمُحْكَم النَّقْشِ
تَسِيرُ وَلا يَدْنُو مِن الأَرْض جِسْمُهَا ... وَتَسْبِقُ إِنْ شَاءَتْ أَخَا الأَيْدِ وَالْبَطْشِ
وفي الْقَلْب
أَيَا عُلْمَاءَ النَّاسِ هَلْ تُخْبِرُونَنِي ... عَنِ الرَّائِحِ الْغَادِي الْمُقِيمِ الْمُسَافِرِ
يَجُوبُ نَوَاحِي الأَرْضِ فِي عُشْرِ سَاعَةٍ ... وَفِي الْوَكْرِ لَمْ يَبْرَحْ وَلَيْسَ بِطَائِرِ
في آدم
وَذِي حَسَبٍ فِي النَّاسِ لا يُنْكِرونَهُ ... وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّاسِ أُمٌّ وَلا أَبُ(5/432)
وفي آدم وعيسى والقمر
عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ مَا إِنْ لَهُ أَبَوَانِ
وآخر: ... وَيَكْمُلُ فِي خَمْسِ وَعَشْرٍ شَبَابَهُ ... وَيَهْلِكُ فِي سَبْعِ مَعًا وَثَمَانِ
في يونس عَلَيْهِ السَّلام
وَمَا حَيّ بَدَا مِنْ بَطْنِ حَيٍ ... تَمَامًا ذَلِكَ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ
فَعَاشَا لَيْسَ بَيْنَهُمَا وِصَالٌ ... وَلا نُعْمَى وَلا نَسَبٌ قَرِيبُ
في الحجر الأسود
وَأَسْوَدُ لا تَلْقَاهُ إِلا بِسَجْدَةٍ ... وَتَقْبِيلة أَوْ مَسْحَةٍ بِالأَصَابِعَ
تَرَى الْمَلِكَ الْجَبَّارَ يَعْنُو لِوَجْهِهِ ... جَلالاً وَيَلْقَاهُ بِرَهْبَةِ خَاضِعَ
انتهى.
شِعْرًا: ... يَا مَنْ يُعِدُ غَدًا لِتَوْبَتِهْ ... أَعَلَى يَقِينٍ مِنْ بُلُوغِ غَدِ
الْمَرْءُ فِي زَلَلٍ عَلَى أَمَلْ ... وَمَنِّيَةُ الإِنْسَانِ بِالرَّصْدِ
أَيَّامَ عُمُركَ كُلَّهَا عَدَدْ ... وَلَعَلَّ يَوْمَكَ آخِرُ الْعَدَدِ
يا أخي التوبة قبل أن تصل إليك النوبة، الإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة، الإفاقة فيا قرب وَقْت الفاقة، إنما الدُّنْيَا سوق للتجر ومجلس وعظ للزجر وليل صيف قريب الفجر، المكنة مزنة صيف، الفرصة زورة طيف، الصحة رقدة ضيف، والغرة نقدة زيف، الدُّنْيَا معشوقة وكيف، البدار البدار فالوَقْت سيف.
يا غافلاً عن مصيره، يا واقفًا في تقصيره سبقك أَهْل العزائم وأَنْتَ في اليقظة نائم، قف على الْبَاب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أَنَا ظَالِم وناد في الأسحار مذنب وواهم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن مِنْهُمْ وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمَعَ ساجم، قم في الدجا نادبا، وقف على الْبَاب تائبًا، واستدرك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو والهوى جانبًا، وإذا لاح الغرور رأى راهبًا، وطلق الجنيا إن كنت للأخرى طالبًا.(5/433)
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
إخواني رحل الأحباب إلى القبور وسترحلون، وتركوا القصور والأموال، والأوطان وستتركون، وتجرعوا كأس الفراق وستتجرعون.
وقدموا على ما قدموا واستقدمون، وندموا على التفريط في الأعمال وستندمون، وتأسفوا على أيام الإهمال وستتأسفون، وشاهدوا ما لَهُمْ عِنْد قدوم هادم اللذات وستشهدون.
ووقفوا ببصائرهم على الأهوال، وستقفون، وسئلوا عما عملوا وستسألون، ويود أحدهم لو يفتدى بالْمَال وستودون.
فبادروا بالمتاب قبل يوم الحساب وخيبة الظنون، فكأنكم بأيام الشباب وقَدْ أبلتها يد المنون، وقَدْ أظلكم من فجاءة الموت ما كنتم توعدون.
قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} فَكَيْفَ بك يا من صناع عمره فرطا في القيل والقال وعِنْد المذياع والكرة والتلفزيون.
ماذا يكون موقفك إذا نفخ في الصور ما في القبور وحصل ما في الصدور وضاقت الأمور وظهر المستور.
وخَرَجَ الخلائق من القبور ياله من يوم فيه الزلازل والأهوال وفيه تسير الجبال وترادف المزعجات والأهوال، وتنقطع فيه الآمال، ويقل فيه الاحتيال.
فيا خسارة أَهْل الشمال يوم نزل فيه الأقدام وتتبلد فيه الأفهام، ويطول(5/434)
فيه القيام وتتابع فيه الهموم والآلام وتظهر الجرائم والآثار وينقطع فيه الكلام.
ياله من يوم، يوم يقوم النَّاس لرب العالمين يوم الحَسْرَة والندامة يوم الزلزلة والطامة يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة يوم الصاخة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .
شِعْرًا: ... كأْسُ الْمَنِيَّةِ دَائِرٌ مَا بَيْنَنَا ... يَسْقِيكُمُوا وَيَدُورُ لِلنُّدَمَاءِ
فِي الْمَوْتِ أَعْظَمُ عِبْرَةِ لِمُبْصَّرٍ ... أَوْ عِبْرَة مَمْزُوجَةٍ بِدِمَاءِ
فَهُوَ الْمُصِيبَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ آيَةٍ ... مُفْنِي الْوَرَاء وَمِحْنَةُ الْعُقَلاءِ
وَهُوَ الرَّزِيَّةُ وَالْبَلِيَّةُ وَالَّذِي ... يَسْطُو عَلَى الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ
فَاشْدُدْ حَيَازِيمَ الرَّحِيلِ إِلَى الأُولَى ... وَاخْرُجْ مِن الأَدْوَاءِ وَالْحُكَمَاءِ
إِنَّ الْغَنَائِمَ فِي التَّوَكُّلَ وَالرِّضَا ... لَيْسَتْ مَعَ الصَّفْرَاءِ وَالْحَمْرَاءِ
لَوْ أَنَّ عُمْرًا مِن طَبِيبٍ يُشْتَرَى ... عَاشَ الطَّبِيبُ وَلَمْ يَمُتْ بِالدَّاءِ
يَا مَوْتُ أَقْرَبُ مَنْ يَكُون عَلَى الْفَتَى ... تُلْقِيهِ فِي الصَّعْقَاءِ وَالرَّمْضَاءِ
يَا مَوْتُ مَا لَكَ لا تُبَقِّي مَاجِدًا ... يَا هَاذِمَ اللَّذَاتِ وَالسَّرَاءِ
يَا فِتْنَةَ الأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ يَا ... مُسْتَهْلِكَ الشُّرَفَاءِ وَالْخُلَفَاءِ
يَا حَسْرَةَ الظُّرَفَاءِ وَاللُّطَفَاءِ يَا ... مُسْتَأْصَلَ النُّبَلاءِ وَالنُّجَبَاءِ
الْمَوْتُ حَتْمٌ يَوْم بِأَنِّي وَعْدُهُ ... مَا وَعْدُهُ وَعْدًا بِغَيْرِ فَاءِ
كَمْ فَلَّ جَيْشًا كَمْ رَمَى مِنْ أَسْهُمٍ ... كَمْ فَضَّ شَمْلاً كَمْ قَضَى بِعَزَاءِ
كَمْ خَصَّ طِفْلاً كَمْ كَوَى مِنْ وَالِدٍ ... كَمْ هَدَّ رُكْنًا بَعْدَ دَكِّ بِنَاءِ
كَمْ فَضَّ نَفْسًا كَمْ بَرَى مِنْ حَاكِمٍ ... مِنْ بَعْدِ عِزٍّ قَائِمٍ وَحِصَاءِ
لا عِزَّ لِلدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَهْلُهَا ... دَارِ الْفَنَا لَيْسَتْ بِدَارِ بَقَاءِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى ... مِنْ صَفْوَةُ الْفُصَحَاءِ وَالنُّجَبَاءِ
وَالآلِ وَالأَصْحَابِ أَعْلامِ الْهُدَى ... مَا سَارَ رَكْبُ الْحَجِ فِي الْبَطْحَاءِ(5/435)
اللَّهُمَّ ارحم عبادًا غرهم طول إمهالك وأطمعهم دوام إفضالك ومدوا أيديهم إلى كرم نوالك وتيقنوا أن لا غنى لَهُمْ عن سؤالك وَجَدَ عَلَيْنَا وعَلَيْهمْ بِرَحْمَتِكَ الواسعة وَاْغِفرْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
اسمَعَ يا من يسعى لقاعد، ويسهر لراقَدْ، ويحرس لراصد، ويزرع لحاصد، ويبخل لباذل، ويجوع لآكل.
شِعْرًا: ... وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ
كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيسَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ
آخر: ... يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ
كَدُودَةِ الْقَرِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
اسمَعَ يا غَافِل لَيْسَ بمغفول عَنْهُ، عن قليل ينهد ركناك وفي القبر سكناك، قلب قاسي كقُلُوب الكفار حرص كحرص الفار ينقب بالأظفار.
قل لي ما موقفك إذا وقعت الواقعة وقرعت القارعة وأزف لك الرحيل إلى قبرك واجتمَعَ الغسال والغسيل والعائد يغمز عينيه، والْحَبِيب يقلب كفيه.
حتى إذا انقطع نفسك وحثى على جدثك، وانطوى زمانك وخوي جثمانك وأخرجت من منزلك الَّذِي بنيته وتركت مالك الَّذِي جمعته وأبقيته.
أينفعك حينئذٍ حلال أصبته ومنعته، أو حرام غصبته أو نشب حصنته أو ولد حضنته، أو ربع أسسته، أو حطام حرسته، أو أرضًا حوشتها.(5/436)
كلا لا ينفعك إِلا خَيْر لوجه الله أمضيته، أو خصم أرضيته، أو قريب وصلته وأعطيته، أو والدة أو والد بريته.
انتبه يا نائم واستقم يا قائم وأكثر من الزَادَ فإن الطَرِيق بعيد والبحر عميق وخفف الحمل فإن الصراط دقيق وأخلص الْعَمَل فإن الناقَدْ بصير.
وأخر نومك إلى القبر وفرحك إلى الميزان وشهواتك وراحتك إلى الآخِرَة ولذاتك إلى الحور العين.
وتقرب إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلا بحب أَهْل الطاعة وبغض أَهْل المعاصي واهجرهم وتباعد عنهم وَاحْذَر وحَذِّر عنهم واسأل ربك الثبات على الإِيمَان حتى الْمَمَات.
ومن كلام بَعْضهمْ أما تسمعون أيها النَّاس داعي الموت يدعوَكَمْ، وحاديه يحدوَكَمْ أما ترون صرعاه في منازلكم وقتلاه بين أيديكم ففيم التصامم عن الداعي والتشاغل عن الحادي والتعامي عن مصارع القتلى والتغَافِل عن مشاهدة الهلكى، فرحم الله امرأً أيقظ نَفْسهُ في مهلة الحياة قبل أن توقظه روعة الْمَمَات، واستعد لما هُوَ آت قبل الانبتات، وحلول الفوات، وكأن الحكم قَدْ وقع والخطاب قَدْ ارتفع، أعرض من أعرض وسمَعَ من سمَعَ.
شِعْرًا: ... قَطَعْتُ زَمَانِي حِينًا فَحِينَا ... أُدِير مِن اللَّهْوِ فِيهِ فُنُونَا
وَأَهْمَلْتُ نَفْسِي وَمَا أهْمِلَتْ ... وَهَوَّنْتَ مِنْ ذَاكَ مَا لَمْ يَهُونَا
وَرُبَّ سُرُورٍ شَفَى غَلَّةً ... وَوَلَّى فَأعْقَبَ حُزْنًا رَصِينَا
وَكَمْ آكِلُ سَاعَةٍ مَا يُرِيد ... يُكَابِدُ مَا أَوْرَثْتَهُ سِنِينَا
وَمَا كَانَ أَغْنَى الْفَتَى عَنْ نَعِيمٍ ... يَعُودُ عَلَيْهِ عَذَابًا مُهِينَا
وَكَمْ وَعَظَتْنِي عِظَاةُ الزَّمَانِ ... لَوْ أَنِّي أُصِيخ إِلَى الْوَاعِظِينَا
وَكَمْ دَعَانِي دَاعِي الْمَنُونِ ... وَأَسْمَعَ لَوْ كُنْتَ فِي السَّامِعِينَا(5/437)
وَمَاذَا أؤمِّلُ أَوْ أَرْتَجِيه ... وَقَدْ جُزْتُ سَبْعًا عَلَى الأَرْبَعِينَا
فَلَوْ كَانَ عَقْلِي مَعِي حَاضِرًا ... سَمِعْتُ لَعَمْرِي مِنْهُ أَنِينَا
وَلَنْ يَبْرَحَ الْمَرْءُ فِي رَقْدَةٍ ... يَغِطُّ إِلَى أَنْ يُوَافِي الْمَنُونَا
فَتُوقِظُهُ عِنْدَهَا رَوْعَةٌ ... يُقَطِّعُ مِنْهُ هُنَاكَ الْوَاتِينَا
وَإِذْ ذَاكَ يَدْرِي بِمَا كَانَ فِيهِ ... وَتَجْلُو الْحَقَائِقُ مِنْهُ الظُّنُونَا
اللَّهُمَّ أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارَ فَإِنَّهَا ... ???? ... أَمَّارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكُمْ فَسَلِّمُوا ... ???? ... سَلامٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... ???? ... وَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَفَضْلٌ وَأَنْعُمُ ... ???? ... عَلَى الصَّحْبِ وَالإِخْوَانِ وَالْوِلْدِ وَالألى ... ???? ... رَعَاهُمُ بِإِحْسَانٍ فَجَادُوا وَأَنْعَمُوا ... ???? ... وَسَائِرِ من لِلسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ اقْتَفَى ... ???? ... وَمَا زَاغَ عَنْهَا فَهُوَ حَقٌّ مُقَوَّمُ ... ???? ... أُولَئِكَ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ وَحِزْبِهِ ... ???? ... وَلَوْلاهُمُ مَا كَانَ فِي الأَرْضِ مُسْلِمُ ... ? ... ????(5/438)
.. وَلَوْلاهُمُ كَادَتْ تَمِيدُ بِأَهْلِهَا ... ???? ... وَلَكِنْ رَوَاسِيهَا وَأَوْتَادُهَا هُمُ ... ???? ... وَلَوْلاهُمُ كَانَتْ ظَلامًا بِأَهْلِهَا ... ???? ... وَلاكِنَّهُمْ فِيهَا بِدُورٌ وَأَنْجُمُ ... ???? ... أُولَئِكَ أَصْحَابِي فَحَيَّ هَلاً بِهُمْ ... ???? ... وَحَيَّ هَلاً باِلطَّيِّبِينَ وَأَنْعُمُ ... ???? ... لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ سَلامٌ يَخُصُّهُ ... ???? ... يُبَلِّغُهُ الأَدْنَى إليه وَيَنْعَمُ ... ???? ... فَيَا مُحْسِنًا بَلِّغْ سَلامِي وَقُلْ لَهُمْ ... ???? ... مُحِبُّكُمُ يَدْعُو لَكُمْ وَيُسَلِّمُ ... ???? ... وَيَا لائِمِي فِي حُبِّهِمْ وَوَلائِهِمْ ... ???? ... تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَنْ هُوَ أَلْوَمُ ... ???? ... بَأَيِّ دَلِيلٍ أَمْ بِأَيَّةِ حُجَّةٍ ... ???? ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَنْقِمُ ... ???? ... وَمَا الْعَارُ إِلا بُغْضُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ ... ???? ... وَحُبُّ عِدَاهُمْ ذَاكَ عَارٌ وَمَأْثَمُ ... ???? ... أَمَا وَالَّذِي شَقَّ الْقُلُوبَ وَأَوْدَعَ الْـ ... ???? ... مَحَبَّةَ فِيهَا حَيْثُ لا تَتَصَرَّمُ ... ???? ... وَحَمَّلَهَا قَلْبَ الْمُحِبِّ وَإِنَّهُ ... ???? ... لِيَضْعُفُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَيَأْلَمُ ... ???? ... وَذَلَّلَهَا حَتَّى اسْتَكَانَتْ لِصَوْلَةِ الْـ ... ???? ... مَحَبَّةِ لا تَلْوِي وَلا تَتَلَعْثَمُ ... ????(5/439)
.. وَذَلَّلَ فِيهَا أَنْفُسًا دُونَ ذُلِّهَا ... ???? ... حِيَاضُ الْمَنَايَا فَوْقَهَا وَهِيَ حُوَّمُ ... ???? ... لأَنْتُمْ عَلَى قُرْبِ الدِّيَارِ وَبُعْدِهَا ... ???? ... أَحِبَّتُنَا إِنْ غِبْتُمُ أَوْ حَضَرْتُمُ ... ???? ... سَلُوا نَسَمَاتِ الرِّيحِ كَمْ قَدْ تَحَمَلَتْ ... ???? ... مَحَبَّةَ صَبِّ شَوْقِهِ لَيْسَ يُكْتَمُ!! ... ???? ... وَشَاهِدُ هَذَا أَنَّهَا فِي هَبُوبِهَا ... ???? ... تَكَادُ تَبُثُّ الْوِجْدَ لَوْ تَتَكَلَّمُ ... ???? ... وَكُنْتُ إِذَا مَا اشْتَدَّ بِي الشَّوْقُ وَالْجَوَى ... ???? ... وَكَادَتْ عُرَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ تَفَصَّمُ ... ???? ... أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُرْبِهِ ... ???? ... وَأُوْهِمُهَا لَكِنَّهَا تَتَوَهَّمُ ... ???? ... وَأُتْبِعُ طَرْفِي وِجْهَةً أَنْتُمُ بِهَا ... ???? ... فَلِي بِحِمَاهَا مَرْبَعٌ وَمُخَيَّمُ ... ???? ... وَأَذْكُرُ بَيْتًا قَاله بَعْضُ مَنْ خَلا ... ???? ... وَقَدْ ضَلَّ عَنْهُ صَبْرُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ ... ???? ... (أُسْائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِحٍ ... ???? ... وَأُومِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ وَأُسَلِّمُ) ... ???? ... وَكَمْ يَصْبِرِ الْمُشْتَاقُ عَمَّنْ يُحِبُّهُ ... ???? ... وَفِي قَلْبهُ نَارُ الأَسَى تَتَضَرَّمُ ... ???? ... أَمَّا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ ... ???? ... وَلَبُّوا لَهُ عِنْدَ الْمَهَلِّ وَأَحْرَمُوا ... ????(5/440)
.. وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسِ تَوَاضُعًا ... ???? ... لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْلِمُ ... ???? ... يُهِلُّونَ بِالْبِيدَاءِ لَبَّيْكَ رَبَّنَا ... ???? ... لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ ... ???? ... دَعَاهُمْ فَلَبُّوه رِضىً وَمَحَبَّةً ... ???? ... فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ ... ???? ... تَرَاهُمْ عَلَى الإِنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ ... ???? ... وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَمُ ... ???? ... وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ وَالأَهْلَ رَغْبَةً ... ???? ... وَلَمْ يَثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ ... ???? ... يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا ... ???? ... رِجَالاً وَرُكْبَانًا وَلله أَسْلَمُوا ... ???? ... وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي ... ???? ... قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إليه تَضَرَّمُ ... ???? ... كَأَنَّهُمْ لََمْ يَنْصِبُوا قَطُّ قَبْلَهُ ... ???? ... لأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ عِبْرَةٍ مُهَرَاقَةٍ ... ???? ... وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا تَتَقَدَّمُ ... ???? ... وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا ... ???? ... فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ ... ???? ... إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلامُهَا ... ???? ... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ ... ????(5/441)
.. وَلا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَاينُ حُسْنَهُ ... ???? ... إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ ... ???? ... وَلا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ ... ???? ... إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ فَهُوَ الْمُعَظَّمُ ... ???? ... كَسَاهُ مِنَ الإِجْلالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ ... ???? ... عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلاحَةِ مُعْلَمُ ... ???? ... فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ ... ???? ... وَتَخْضَعُ إِجْلالاً لَهُ وَتُعَظِّمُ ... ???? ... وَرَاحُوا إِلَى التَّعْرِيفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً ... ???? ... وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الأَعْظَمُ الَّذِي ... ???? ... كَمَوْقِفِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ ... ???? ... وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلاله ... ???? ... يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلاكَهُ فَهُوَ أَكْرَمُ ... ???? ... يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً ... ???? ... وَإِنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجْوَدُ وَأَرْحَمُ ... ???? ... فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ ... ???? ... وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأَنْعَمُ ... ???? ... فَبُشْرَاكُمْ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي ... ???? ... بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ ... ???? ... وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظُ فِي الْوَرَى ... ???? ... وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهُوَ الأَمُ ... ????(5/442)
.. وَذَاكَ لأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ ... ???? ... فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ ... ???? ... وَمَا عَايَنْتَ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ ... ???? ... وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ ... ???? ... بَنَى مَا بَنَى حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ ... ???? ... تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهُوَ مُحْكَمُ ... ???? ... أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ ... ???? ... فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ ... ???? ... وَكَمْ قَدْرَ مَا يَعْلُوا الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي ... ???? ... إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ!! ... ???? ... وَرَاحُوا إِلَى جَمْعٍ فَبَاتُوا بِمَشْعَرِ الْـ ... ???? ... حَرَامِ وَصَلُّوا الْفَجْرَ ثُمَّ تَقَدَّمُوا ... ???? ... إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى يُرِيدُونَ رَمْيَهَا ... ???? ... لِوَقْتِ صَلاةِ الْعِيدِ ثُمَّ تَيَمَّمُوا ... ???? ... مَنَازِلَهُمْ لِلنَّحْرِ يَبْغُونَ فَضْلَهُ ... ???? ... وَإِحْيَاءَ نُسْكٍ مِنْ أَبِيهِم يُعَظَّمُ ... ???? ... فَلَوْ كَانَ يُرْضِي اللهَ نَحْرُ نُفُوسِهِمْ
لَدَانُوا بِهِ طَوْعًا وَلِلأَمْرِ سَلَّمُوا ... ???? ... كَمَا بَذَلُوا عِنْدَ الْجِهَادِ نُحُورَهُمْ ... ???? ... لأَعْدَائِهِ حَتَّى جَرَى مِنْهُمْ الدَّمُ ... ? ... ????
... وَلَكِنَّهُمْ دَانُوا بِوَضْعِ رُؤُوسِهِمْ ... ????(5/443)
.. وَذَلِكَ ذُلٌّ لِلْعَبِيدِ وَمِيسَمُ ... ???? ... وَلَمَّا تَقَضَّوْا ذَلِكَ التَّفَثَ الَّذِي ... ???? ... عَلَيْهمْ وَأَوْفُوا نَذْرَهُمْ ثُمَّ تَمَّمُوا ... ???? ... دَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ زِيَارَةً ... ???? ... فَيَا مَرْحَبًا بِالزَّائِرِينَ وَأَكْرِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ مَا أَبْهَى زِيَارَتَهُمْ لَهُ!! ... ???? ... وَقَدْ حُصِّلَتْ تِلْكَ الْجَوَائِزُ تُقْسَمُ ... ???? ... وَللهِ إِفْضَالُ هُنَاكَ وَنِعْمَةٌ ... ???? ... وَبِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَجُودٌ وَمَرْحَمُ ... ???? ... وَعَادُوا إِلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ مِنْ مِنَى ... ???? ... وَنَالُوا مُنَاهُمْ عِنْدَهَا وَتَنَعَّمُوا ... ???? ... أَقَامُوا بِهَا يَوْمًا وَيَوْمًا ثَالِثًا ... ???? ... وَأُذِّنَ فِيهِمْ بِالرَّحِيلِ وَأُعْلِمُوا ... ???? ... وَرَاحُوا إِلَى رَمْيِ الْجِمَارِ عَشِيَّةً ... ???? ... شِعَارُهُمْ التَّكْبِيرُ وَاللهُ مَعْهُمُ ... ???? ... فَلَوْ أَبْصَرْتَ عَيْنَاكَ مَوْقِفَهُمْ بِهَا ... ???? ... وَقَدْ بَسَطُوا تِلْكَ الأَكُفَّ لِيُرْحَمُوا ... ???? ... يُنَادُونَهُ يَا رَبُّ يَا رَبُّ إِنَّنَا ... ???? ... عَبِيدُكَ لا نَدْعُو سِوَاكَ وَتَعْلَمُ ... ???? ... وَهَا نَحْنُ نَرْجُو مِنْكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... ???? ... فَأَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْجَزِيلَ وَتُنْعِمُ ... ???? ... وَلَمَّا تَقَضَّوْا مِنْ مِنَى كُلَّ حَاجَةٍ ... ????(5/444)
.. وَسَالَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْبِطَاحُ تَقَدَّمُوا ... ???? ... إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَشِيَّةً ... ???? ... وَطَافُوا بِهَا سَبْعًا وَصَلُّوا وَسَلَّمُوا ... ???? ... وَلَمَّا دَنَا التَّوْدِيعُ مِنْهُمْ وَأَيْقَنُوا ... ???? ... بِأَنَّ التَّدَانِي حَبْلُهُ مُتَصَرِّمُ ... ???? ... وَلَمْ يَبْقَ إِلا وَقْفَةٌ لِمُوَدِّعٍ ... ???? ... فَلِلَّهِ أَجْفَانٌ هُنَالِكَ تَسْجُمُ!! ... ???? ... وَللهِ أَكْبَادٌ هُنَالِكَ أُودِعَ الْـ ... ???? ... غَرَامُ بِهَا!! فَالنَّارُ فِيهَا تَضَرَّمُ ... ???? ... وَللهِ أَنْفَاسٌ يَكَادُ بِحَرِّهَا ... ???? ... يَذُوبُ الْمُحِبُّ الْمُسْتَهَامُ الْمُتَيَّمُ ... ???? ... فَلَمْ تَرَ إِلا بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا ... ???? ... وَآخِرَ يُبْدِي شَجْوَهُ يَتَرَنَّمُ ... ???? ... رَحَلْتُ وَأَشْوَاقِي إليكُمْ مُقِيمَةٌ ... ???? ... وَنَارُ الأَسَى مِنِّي تُشَبُّ وَتُضْرَمُ ... ???? ... أُوَدِّعُكُمْ وَالشَّوْقُ يَثْنِي أَعِنَّتِي ... ???? ... وَقَلْبِي أَمْسَى فِي حِمَاكُمْ مُخَيِّمُ ... ???? ... هُنَالِكَ لا تَثْرِيبَ يَوْمًا عَلَى امْرِئٍ ... ???? ... إِذَا مَا بَدَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يَكْتُمُ ... ???? ... فَيَا سَائِقِينَ الْعَيْسَ بِاللهِ رَبِّكُمْ ... ???? ... قِفُوا لِي عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ وَسَلِّمُوا ... ???? ... وَقُولُوا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ نَحْوَكُمْ ... ????(5/445)
.. قَضَى نَحْبَهُ فِيكُمْ تَعِيشُوا وَتَسْلَمُوا ... ???? ... قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ فِيمَا قَضَى بِهِ ... ???? ... بِأَنَّ الْهَوَى يُعْمِي الْقُلُوبَ وَيُبْكِمُ ... ???? ... وَحُبُّكُمْ أَصْلُ الْهُدَى وَمَدَارُهُ ... ???? ... عَلَيْهِ وَفَوْزٌ لِلْمُحِبِّ وَمَغْنَمُ ... ???? ... وَتَفْنَى عِظَامُ الصَّبِّ بَعْدَ مَمَاتِهِ ... ???? ... وَأَشْوَاقُهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مُحَرَّمُ ... ???? ... فَيَا أَيُّهَا الْقَلْبُ الَّذِي مَلَكَ الْهَوَى ... ???? ... أَزِمَّتَهُ حَتَّى مَتَى ذَا التَّلوُّمُ؟! ... ???? ... وَحَتَّامَ لا تَصْحُوا؟! وَقَدْ قَرُبَ الْمَدَى ... ???? ... وَدُنَّتْ كُؤُوسُ السَّيْرِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ ... ???? ... بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا ... ???? ... وَيَبْدُو لَكَ الأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ تَكْتُمُ ... ???? ... وَيَا مُوقِدًا نَارًا لِغَيْرِكَ ضَوْؤُهَا ... ???? ... وَحَرُّ لَظَاهَا بَيْنَ جَنْبَيْكَ يُضْرَمُ ... ???? ... أَهَذَا جَنَى الْعِلْمِ الَّذِي قَدْ رَضِيتَهُ ... ???? ... لِنَفْسِكَ فِي الدَّارَيْنِ جَاهٌ وَدِرْهَمُ؟! ... ???? ... وَهَذَا هُوَ الرِّبْحُ الَّذِي قَدْ كَسَبْتَهُ؟! ... ???? ... لعَمْرُكَ لا رِبْحٌ وَلا الأَصْلُ يَسْلَمُ!! ... ???? ... بَخِلْتَ بِشَيْءٍ لا يَضُرُّكَ بَذْلُهُ ... ???? ... وَجُدْتَ بِشَيْءٍ مِثْلُهُ لا يَقُومُ ... ???? ... بَخِلْتَ بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ دَنَاءَةً ... ????(5/446)
.. وَجُدْتَ بِدَارِ الْخُلْدِ لَوْ كُنْتَ تَفْهَمُ ... ???? ... وَبِعْتَ نَعِيمًا لا انْقِضَاءَ لَهُ وَلا ... ???? ... نَظِيرَ بِبَخْسٍ عَن قَلِيلٍ سَيُعْدَمُ ... ???? ... فَهَلا عَكَسْتَ الأَمْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا ... ???? ... وَلَكِنْ أَضَعْتَ الْحَزْمَ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ ... ???? ... وَتَهْدِمُ مَا تَبْنِي بِكَفِّكَ جَاهِدًا ... ???? ... فأَنْتَ مَدَى الأَيَّامِ تَبْنِي وَتَهْدِمُ ... ???? ... وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ ... ???? ... وعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدِي وَتُلْحِمُ ... ???? ... وَعِنْدَ خِلافِ الأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا ... ???? ... ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ ... ???? ... تَنَزَّهُ مِنْكَ النَّفْسُ عَنْ سُوءِ فِعْلِهَا ... ???? ... وَتَعْتِبُ أَقْدَارَ الإِلَهِ وَتَظْلِمُ ... ???? ... تَحُلُّ أُمُورًا أَحْكَمَ الشَّرْعُ عَقْدَهَا ... ???? ... وَتَقْصُدُ مَا قَدْ حَلَّهُ الشَّرْعُ تُبْرِم ... ???? ... وَتَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ خِلافَ مَا ... ???? ... أَرَادَ لأَنْ الْقَلْبَ مِنْكَ مُعَجَّمُ ... ???? ... مُطِيعٌ لِدَاعِي الْغَيِّ عَاصٍ لِرُشْدِهِ ... ???? ... إِلَى رَبِّهِ يَوْمًا يُرَدُّ وَيَعْلَمُ ... ???? ... مُضِيعُ لأَمْرِ اللهِ قَدْ غَشَّ نَفْسَهُ ... ???? ... مُهِينٌ لَهَا أَنَّى يُحِبُّ وَيُكْرَمُ ... ???? ... بَطِيءٌ عَنْ الطَّاعَاتِ أَسْرَعُ لِلْخَنَا ... ????(5/447)
.. مِنَ السَّيْلِ فِي مَجْرَاهُ لا يَتَقَسَّمُ ... ???? ... وَتَزْعُمُ مَعَ هَذَا بِأَنَّكَ عَارِفٌ ... ???? ... كَذَبْتَ يَقِينًا بِالَّذِي أَنْتَ تَزْعُمُ ... ???? ... وَمَا أَنْتَ إِلا جَاهِلٌ ثُمَّ ظَالِمٌ ... ???? ... وَأَنَّكَ بَيْنَ الْجَاهِلِينَ مُقَدَّمُ ... ???? ... إِذَا كَانَ هَذَا نُصْحُ عَبْدٍ لِنَفْسِهِ ... ???? ... فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْهُ الْهُدَى يُتَعَلَّمُ؟! ... ???? ... وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ قَدْ قَالَ مَنْ مَضَى ... ???? ... وَأَحْسَنَ فِيمَا قَاله الْمُتَكَلِّمُ ... ???? ... (فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... ???? ... وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ) ... ???? ... وَلَوْ تُبْصِرُ الدُّنْيَا وَرَاءَ سُتُورِهَا ... ???? ... رَأَيْتَ خَيالاً فِي مَنَامٍ سَيُصْرَمُ ... ???? ... كَحُلْمٍ بِطَيْفٍ زَارَ فِي النَّوْمِ وَانْقَضَى الْـ ... ???? ... مَنَامُ وَرَاحَ الطَّيْفُ وَالصَّبُّ مُغْرَمُ ... ???? ... وَظِلٍّ أَرَتْهُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... ???? ... سَيَقْلُصُ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ وَيَفْصِمُ ... ???? ... وَمُزْنَةِ صَيْفٍ طَابَ مِنْهَا مَقِيلُهَا ... ???? ... فَوَلَّتْ سَرِيعًا وَالْحُرُورُ تَضَرَّمُ ... ???? ... وَمَطْعَمِ ضَيْفٍ لَذَّ مِنْهُ مَسَاغُهُ ... ???? ... وَبَعْدَ قَلِيلٍ حَاله تِلْكَ تُعْلَمُ ... ???? ... كَذَا هَذِهِ الدُّنْيَا كَأَحْلامِ نَائِمٍ ... ????(5/448)
.. وَمِنْ بَعْدِهَا دَارُ الْبَقَاءِ سَتَقْدَمُ ... ???? ... فَجُزْهَا مَمَرًّا لا مَقَرًّا وَكُنْ بِهَا ... ???? ... غَرِيبًا تَعْشِ فِيهَا حَمِيدًا وَتَسْلَمُ ... ???? ... أَوْ ابْنَ سَبِيلٍ قَالَ فِي ظِلِّ دَوْحَةٍ ... ???? ... وَرَاحَ وَخَلَّى ظِلَّهَا يَتَقَسَّمُ ... ???? ... أَخَا سَفَرٍ لا يَسْتَقِرُّ قَرَارُهُ ... ???? ... إِلَى أَنْ يَرَى أَوْطَانَهُ وَيُسْلِّمُ ... ???? ... فَيَا عَجَبًا!! كَمْ مَصْرَعٌ وَعَظَتْ بِهِ ... ???? ... بَنِيهَا!! وَلَكِنْ عَنْ مَصَارِعِهَا عَمُوا ... ???? ... سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ الْحُبِّ حَتَّى إِذَا نَشَوْا ... ???? ... سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ السُّمِّ وَالْقَوْمُ نُوَّمُ ... ???? ... وَأَعْجَبُ مَا فِي الْعَبْدِ رُؤْيَةُ هَذِهِ الْـ ... ???? ... عَظَائِمِ وَالْمَغْرُورُ فِيهَا مُتَيَّمُ ... ???? ... وَمَا ذَاكَ إِلا أَنَّ خَمْرَةَ حُبِّهَا ... ???? ... لَتَسْلِبُ عَقْلَ الْمَرْءِ مِنْهُ وَتَصْلِمُ ... ???? ... وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّ أَحْبَابَهَا الأُلَى ... ???? ... تَهِينُ وَلِلأَعْدَا تُرَاعِي وَتُكْرِمُ ... ???? ... وَذَلِكَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ قَدْرَهَا ... ???? ... جَنَاحُ بَعُوضٍ أَوْ أَدَقَّ وَأَلأَمُ ... ???? ... وَحَسْبُكَ مَا قَالَ الرَّسُولُ مُمَثِّلاً ... ???? ... لَهَا وَلِدَارِ الْخُلْدِ وَالْحَقُّ يُفْهَمُ ... ???? ... كَمَا يُدْلِيَ الإِنْسَانُ فِي اليمِّ أَصْبُعًا ... ????(5/449)
.. وَيَنْزِعُهَا مِنْهُ فَمَا ذَاكَ يَغْنَمُ ... ???? ... أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... ???? ... عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا وَأَمْرِي مُبْرَمُ ... ???? ... وَهَلْ أَرِدَن مَاءَ الْحَيَاةِ وَأَرْتَوِي ... ???? ... عَلَى ظَمَأٍ مِنْ حَوْضِهِ وَهُوَ مُفْعَمُ ... ???? ... وَهَلْ تَبْدُونَ أَعْلامُهَا بَعْدَ مَا سَفَتْ ... ???? ... عَلَى رَبْعِهَا تِلْكَ السَّوَافِي فَتُعْلَمُ ... ???? ... وَهَلْ أَفْرِشَنْ خَدِّي ثَرَى عَتَبَاتِهِمْ ... ???? ... خُضُوعًا لَهُمْ كَيْمَا يَرِقُّوا وَيَرْحَمُوا ... ???? ... وَهَلْ أَرْمِينَ نَفْسِي طَرِيحًا بِبَابِهِمْ ... ???? ... وَطَيْرُ مَنَايَا الْحُبِّ فَوْقِي تُحَوِّمُ ... ???? ... فَيَا أَسَفِي تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي ... ???? ... وَذَا الْعُتْبُ بَاقٍ مَا بَقِيتُمْ وَعِشْتُمُ ... ???? ... فَمَا مِنْكُمُ بُدَّ وَلا عَنْكُمُ غِنَى ... ???? ... وَمَا لِي مِنْ صَبْرٍ فَأَسْلُوَ عَنْكُمُ ... ???? ... وَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْضَبْ سِوَاكُمْ فَلا إذًا ... ???? ... إِذَا كُنْتُمُ عَنْ عَبْدِكُمْ قَدْ رَضِيتُمُ ... ???? ... وَعُقْبَى اصْطِبَارِي فِي هَوَاكُمْ حَمِيدَةٌ ... ???? ... وَلَكِنَّهَا عَنْكُمْ عِقَابٌ وَمَأْثَمُ ... ???? ... وَمَا أَنَا بِالشَّاكِي لِمَا تَرْتَضُونَهُ ... ???? ... وَلَكِنَّنِي أَرْضَى بِهِ وَأُسَلَّمُ ... ???? ... وَحَسْبِي انْتِسَابِي مِنْ بَعِيدٍ إليكُمُ ... ????(5/450)
.. أَلا إِنَّهُ حَظٌّ عَظِيمٌ مُفَخَّمُ ... ???? ... إِذَا قِيلَ هَذَا عَبْدُهُمْ وَمُحِبُّهُمْ ... ???? ... تَهَلَّلَ بِشْرًا وَجْهُهُ يَتَبَسَّمُ ... ???? ... وَهَا هُوَ قَدْ أَنْدَى الضَّرَاعَةَ سَائِلاً ... ???? ... لَكُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْقَالِ مُعْلِمُ ... ???? ... أَحِبَّتَهُ عَطْفًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ ... ???? ... لَمُظْمىً وَإِنَّ الْمَوْرِدَ الْعَذْبَ أَنْتُمُ ... ???? ... فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ... ???? ... صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ ... ???? ... أَفِقْ قَدْ دَنَا الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ... ???? ... سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرٍّ نَارٍ تَضَرَّمُ ... ???? ... وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا ... ???? ... هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ ... ???? ... تَمَسَّكَ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله ... ???? ... وَعُضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ ... ???? ... وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... ???? ... فَمُرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ ... ???? ... وَهَيِءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... ???? ... مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ ... ???? ... بِهِ رُسُلِي لَمَّا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ ... ???? ... أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ ... ???? ... وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... ????(5/451)
.. لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ ... ???? ... وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجِسْرُ مِنْ فَوْقِ مَتْنِهَا ... ???? ... فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ ... ???? ... وَيَأْتِي إِلَهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ... ???? ... فَيَفْصُلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ ... ???? ... وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ ... ???? ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ!! ... ???? ... وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ ... ???? ... مَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ ... ???? ... فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... ???? ... وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ ... ???? ... وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيءِ بِمَا جَنَى ... ???? ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتِمُ ... ???? ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي!! كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا ... ???? ... تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ؟! ... ???? ... أَتَأْخُذُ بِاليمْنَى كِتَابِكَ أَمْ تَكُنْ ... ???? ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ ... ???? ... وَتقْرَأُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ... ???? ... فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ ... ???? ... تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُوهُ فَإِنَّهُ ... ???? ... يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ ... ???? ... وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ... ????(5/452)
.. أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مُغْرَمُ ... ???? ... فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ ... ???? ... وَعَدْلُكَ مَقْبُولُ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ ... ???? ... وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... ???? ... فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانَ تَسْعَى وَتَغْنَمُ ... ???? ... وَسِرْ مُسْرِعًا فَالسَّيْلُ خَلْفُكَ مُسْرِعٌ ... ???? ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَمُ!! ... ???? ... (فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيَّ وَادٍ نَزَلْتَهُ ... ???? ... عَلَيْهَا الْقُدُومُ أَوْ عَلَيْكَ سَتَقْدَمُ) ... ???? ... وَمَا ذَاكَ إِلا غَيْرَةٌ أَنْ يَنَالَهَا ... ???? ... سِوَى كُفْؤِهَا وَالرَّبُّ بِالْخَلْقِ أَعْلَمُ ... ???? ... وَإِنْ حُجِبَتْ عَنَّا بِكُلِّ كَرِيهَةٍ ... ???? ... وَحُفَّتْ بِمَا يُؤْذِي النُّفُوسَ وَيُؤْلِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ مَا فِي حَشْوِهَا مِنْ مَسَرَّةٍ ... ???? ... وَأَصْنَافِ لَذَّاتِ بِهَا يُتَنَعَّمُ!! ... ???? ... وَللهِ بَرْدُ الْعَيْشِ بَيْنَ خِيَامِهَا ... ???? ... وَرَوْضَاتِهَا وَالثَّغْرُ فِي الرَّوْضِ يَبْسِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ وَادِيهَا الَّذِي هُوَ مَوْعِدُ الْـ ... ???? ... مَزِيدِ لِوَفْدِ الْحُبِّ لَوْ كُنْتَ مِنْهُمُ ... ???? ... بِذَيَّالِكَ الْوَادِي يَهِيمُ صَبَابَةً ... ???? ... مُحِبٌّ يَرَى أَنَّ الصَّبَابَةَ مَغْنَمُ! ... ???? ... وَللهِ أَفْرَاحُ الْمُحِبِّينَ عِنْدَمَا ... ????(5/453)
.. يُخَاطِبُهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيُسَلِّمُ ... ???? ... وَللهِ أَبْصَارٌ تَرَى اللهَ جَهْرَةً ... ???? ... فَلا الضَّيْمُ يَغْشَاهَا وَلا هِيَ تَسْأَمُ ... ???? ... فَيَا نَظْرَةً أَهْدَتْ إِلَى الْوَجْهِ نَضْرَةً ... ???? ... أَمِنْ بَعْدِهَا يَسْلُو الْمُحِبُّ الْمُتَيَّمُ؟ ... ???? ... وَللهِ كَمْ مِنْ خَيْرَةٍ لَوْ تَبَسَّمَتْ ... ???? ... أَضَاءَ لَهَا نُورٌ مِنْ الْفَجْرِ أَعْظَمُ ... ???? ... فَيَا لَذَّةَ الأَبْصَارِ إِنْ هِيَ أَقْبَلَتْ ... ???? ... وَيَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ حِينَ تَكَلَّمُ ... ???? ... وَيَا خَجْلَةَ الْغُصْنِ الرَّطِيبِ إِذَا انْثَنَتْ ... ???? ... وَيَا خَجْلَةَ الْبَحْرَيْنِ حِينَ تَبَسَّمُ؟؟ ... ???? ... فَإِنْ كُنْتَ ذَا قَلْبٍ عَلِيلٍ بِحُبِّهَا ٌ ... ???? ... فَلَمْ يَبْقَ إِلا وَصْلُهَا لَكَ مَرْهَمُ ... ???? ... وَلاسِيَّمَا فِي لَثْمِهَا عِنْدَ ضَمِّهَا ... ???? ... وَقَدْ صَارَ مِنْهَا تَحْتَ جِيدِكَ مِعْصَمُ ... ???? ... يَرَاهَا إِذَا أَبْدَتْ لَهُ حُسْنَ وَجْهِهَا ... ???? ... يَلَذُّ بِهَا قَبْلَ الْوِصَالِ وَيَنْعَمُ ... ???? ... تَفَكَّهُ مِنْهَا الْعَيْنُ عِنْدَ اجْتِلائِهَا ... ???? ... فَوَاكِهَ شَتَّى طَلْعُهَا لَيْسَ يُعْدِمُ ... ???? ... عَنَاقِدُ مِنْ كَرْمٍ وَتُفَّاحُ جَنَّةٍ ... ???? ... وَرُمَّانُ أَغْصَانٍ بِهَا الْقَلْبُ مُغْرَمُ ... ???? ... وَلِلْوَرْدِ مَا قَدْ أَلْبِسْتَهُ خُدُودُهَا ... ????(5/454)
.. وَلِلْخَمْرِ مَا قَدْ ضَمَّهُ الرِّيقُ وَالْفَمُ ... ???? ... تَقَسَّمَ مِنْهَا الْحُسْنُ فِي جَمْعِ وَاحِدٍ ... ???? ... فَيَا عَجَبًا مِنْ وَاحِدٍ يَتَقَسَّمُ ... ???? ... تُذَكِّرُ بِالرَّحْمَنِ مَنْ هُوَ نَاظِرٌ ... ???? ... فَيَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ لا يَتَلَعْثَمُ ... ???? ... لَهَا فِرَقٌ شَتَّى مِنَ الْحُسْنِ أَجْمَعَتْ ... ???? ... بِجُمْلَتِهَا إِنَّ السُّلُوَّ مُحْرَّمُ ... ???? ... إِذَا قَابَلَتْ جَيْشَ الْهُمُومِ بِوَجْهِهَا ... ???? ... تَوَلَّى عَلَى أَعْقَابِهِ الْجَيْشُ يُهْزَمُ ... ???? ... فَيَا خَاطِبَ الْحَسْنَاءِ إِنْ كُنْتَ رَاغِبًا ... ???? ... فَهَذَا زَمَانُ الْمَهْرِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ ... ???? ... وَلَمَّا جَرَى مَاءَ الشَّبَابِ بِغُصْنِهَا ... ???? ... تَيَقَّنَ حَقًّا أَنَّهُ لَيْسَ يَهْرَمُ ... ???? ... وَكُنْ مُبْغِضًا لِلْخَائِنَاتِ لِحُبِّهَا ... ???? ... لِتُحْظَى بِهَا مِنْ دُونِهِنَّ وَتَنْعَمُ ... ???? ... وَكُنْ أَيَّمَا مِمَّا سِوَاهَا فَإِنَّهَا ... ???? ... لِمِثْلِكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ تَأَيَّمُ ... ???? ... وَصُمْ يَوْمَكَ الأَدْنَى لَعَلَّكَ فِي غَدٍ ... ???? ... تَفُوزُ بِعِيدِ الْفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ ... ???? ... وَأَقْدَمْ وَلا تَقْنَعْ بِعَيْشٍ مُنَغَّصٍ ... ???? ... فَمَا فَازَ بِاللَّذَاتِ مَنْ لَيْسَ يُقْدِمُ ... ???? ... وَإِنْ ضَاقَتْ الدُّنْيَا عَلَيْكَ بِأَسْرِهَا ... ????(5/455)
.. وَلَمْ يَكُ فِيهَا مَنْزِلٌ لَكَ يُعْلَمُ ... ???? ... فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... ???? ... مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخِيَّمُ ... ???? ... وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهْلَ تَرَى ... ???? ... نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ ... ???? ... وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى ... ???? ... وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ ... ???? ... وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي ... ???? ... لَهَا أَضْحَتْ الأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى رَوْضَاتِهَا وَخِيَامِهَا ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى عَيْشٍ بِهَا لَيْسَ يَسْأَمُ ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى السُّوقِ الَّذِي يَلْتَقِي بِهِ الْـ ... ???? ... مُحِبُّونَ ذَاكَ السُّوقُ لِلْقَوْمِ يُعْلَمُ ... ???? ... فَمَا شِئْتَ خُذْ مِنْهُ بِلا ثَمَنٍ لَهُ ... ???? ... فَقَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارُ فِيهِ وَأَسْلَمُوا ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فَإِنَّهُ ... ???? ... لِمَوْعِدُ أَهْلِ الْحُبِّ حِينَ يُكَرَّمُوا ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى وَادٍ هُنَالِكَ أَفْيَحٍ ... ???? ... وَتُرْبَتُهُ مِنْ أَذْفَرِ الْمِسْكِ أَعْظَمُ ... ???? ... مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ هُنَاكَ وَفِضَّةٍ ... ???? ... وَمِنْ خَالِصِ الْعِقْيَانِ لا تَتَفَصَّمُ ... ???? ... وَمِنْ حَوْلِهَا كُثْبَانُ مِسْكٍ مَقَاعِدُ ... ????(5/456)
.. لِمَنْ دُونَهُمْ هَذَا الْعَطَاءُ الْمُفَخَّمُ ... ???? ... يَرَوْنَ بِهِ الرَّحْمَنَ جَلَّ جَلاله ... ???? ... كَرُؤْيَةِ بَدْر التِّم لا يُتَوَهَّمُ ... ???? ... كَذَا الشَّمْسُ صَحْوًا لَيْسَ مِنْ دُونِ أُفِقْهَا ... ???? ... سَحَابٌ وَلا غَيْمٌ هُنَاكَ يُغَيِّمُ ... ???? ... فَبَيْنَاهُمْ فِي عَيْشِهِمْ وَسُرُورِهِمْ ... ???? ... وَأَرْزَاقُهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ وَتُقْسَمُ ... ???? ... إِذَا هُمْ بِنُورٍ سَاطِعٍ قَدْ بَدَا لَهُمْ ... ???? ... وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا هُمُ ... ???? ... بِرَبِّهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ قَائِلٌ لَهُمْ: ... ???? ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمُ وَنَعِمْتُمُ ... ???? ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ يَسْمَعُونَ جَمِيعُهُمْ ... ???? ... بِآذَانِهِمْ تَسْلِيمَهُ إِذْ يُسَلِّمُ ... ???? ... يَقُولُ سَلُونِي مَا اشْتَهَيْتُمْ فَكُلَّ مَا ... ???? ... تُرِيدُونَ عِنْدِي إِنَّنِي أَنَا أَرْحَمُ ... ???? ... فَقَالُوا جَمِيعًا نَحْنُ نَسْأَلُكَ الرِّضَى ... ???? ... فَأَنْتَ الَّذِي تُولِي الْجَمِيلَ وَتَرْحَمُ ... ???? ... فَيُعْطِيهِمُ هَذَا وَيُشْهِدُ جَمْعَهُمْ ... ???? ... عَلَيْهِ تَعَالَى اللهُ فَاللهُ أَكْرَمُ ... ???? ... فَبِاللهِ مَا عُذْرُ امْرِئٍ هُوَ مُؤْمِنٌ ... ???? ... بِهَذَا وَلا يَسْعَى لَهُ وَيُقَدِّمُ؟! ... ???? ... وَلَكِنَّمَا التَّوْفِيقُ بِاللهِ إِنَّهُ ... ????(5/457)
.. يَخُصُّ بِهِ مَنْ شَاءَ فَضْلاً وَيَنْعَمُ ... ???? ... فَيَا بَائِعًا غَالٍ بِبَخْسٍ مُعَجَّلٍ ... ???? ... كَأَنَّكَ لا تَدْرِي بَلَى سَوْفَ تَعْلَمُ ... ???? ... فَقَدِّمْ فَدَتْكَ النَّفْسُ نَفْسَكَ إِنَّهَا ... ???? ... هِيَ الثَّمَنُ الْمَبْذُولُ حِينَ تُسَلَّمُ ... ???? ... وَخُضْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَارْقَ مَعَارِجَ الْـ ... ???? ... مَحَبَّةِ فِي مَرْضَاتِهِمْ تَتَسَنَّمُ ... ???? ... وَسَلَّمْ لَهُمْ مَا عَاقَدُوكَ عَلَيْهِ إِنْ ... ???? ... تُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَبْذِلُوا وَيُسْلَّمُوا ... ???? ... فَمَا ظَفِرَتْ بِالْوَصْلِ نَفْسٌ مُهَيْنَةٌ ... ???? ... وَلا فَازَ عَبْدٌ بِالْبَطَالَةِ يَنْعَمُ ... ???? ... وَإِنْ تَكُ قَدْ عَاقَتْكَ سُعْدَى فَقَلْبُكَ الْـ ... ???? ... مُعَنى رَهِينٌ فِي يَدَيْهَا مُسَلَّمُ ... ???? ... وَقَدْ سَاعَدَتْ بِالْوَصْلِ غَيْرَكَ فَالْهَوَى ... ???? ... لَهَا مِنْكَ وَالْوَاشِي بِهَا يَتَنَعَّمُ ... ???? ... فَدَعْهَا وَسَلِّ النَّفْسَ عَنْهَا بِجَنَّةٍ ... ???? ... مِنَ الْعِلْمِ فِي رَوْضَاتِهَا الْحَقُّ يَبْسِمُ ... ???? ... وَقَدْ ذُلِّلَتْ مِنْهَا الْقُطُوفُ فَمَنْ يُرِدْ ... ???? ... جَنَاهَا يَنَلْهُ كَيْفَ شَاءَ وَيَطْعَمُ ... ???? ... وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَتَزَيَّنَتْ ... ???? ... لِخُطَّابِهَا فَالْحُسْنُ فِيهَا مُقَسَّمُ ... ???? ... وَقَدْ طَابَ مِنْهَا نَزْلُهَا وَنَزِيلُهَا ... ????(5/458)
.. فَطُوبَى لِمَنْ حَلُّوا بِهَا وَتَنَعَّمُوا ... ???? ... أَقَامَ عَلَى أَبْوَابِهَا دَاعِي الْهُدَى ... ???? ... هَلِمُّوا إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ تَغْنَمُوا ... ???? ... وَقَدْ غَرَسَ الرَّحْمَنُ فِيهَا غِرَاسَةً ... ???? ... مِنَ النَّاسِ وَالرَّحْمَنُ بِالْخَلْقِ أَعْلَمُ ... ???? ... وَمَنْ يَغْرِسِ الرَّحْمَنُ فِيهَا فَإِنَّهُ ... ???? ... سَعِيدٌ وَإِلا فَالشَّقَاءُ مُحَتَّمُ ... ? ... ???? اللَّهُمَّ وفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من وساوس قلوبنا الحاملة على التورط في هوة الْبَاطِل وابتداعه واجعل إيماننا إيمانًا خالصًا صادقًا قويًا وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل عيشنا عيشًا رغدًا. ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا في محبتك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وعملاً متقبلاً وحفظًا كاملاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وأدبًا مرضيًا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في الشفاعة العظمى
تأمل ما في حديث الشفاعة العظمى الَّذِي رواه أَبُو هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: كنا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوة، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة وَقَالَ: «أَنَا سيد النَّاس يوم القيامة هل تدرون مم ذاك؟ يجمَعَ الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنوا مِنْهُمْ الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فَيَقُولُ النَّاس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوَكَمْ آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أَنْتَ أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الْجَنَّة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا تَرَى ما نَحْنُ فيه وما(5/459)
بلغنا؟ فَقَالَ: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أَنْتَ أول رسول إلى أَهْل الأَرْض، وقَدْ سماك الله عبدًا شكورًا، ألا تَرَى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قَدْ كَانَ لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون: أَنْتَ نَبِيّ اللهِ وخليله من أَهْل الأَرْض، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إن رَبِّي قَدْ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى مُوَسى، فيأتون مُوَسى فيقولون: يا مُوَسى أَنْتَ رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على النَّاس، اشفع لنا إلى ربك، أما تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ: إن رَبِّي قَدْ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قَدْ قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: أَنْتَ رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت النَّاس في المهد، اشفع لنا عِنْد ربك، ألا تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ عيسى: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأتون فيقولون: يا محمدًا أَنْتَ رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فأنطلق فآتي العرش فأقع ساجدًا لرَبِّي، ثُمَّ يفتح الله علي من محامده، وحسن الثناء عَلَيْهِ شَيْئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثُمَّ يُقَالُ يا مُحَمَّد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع
تشفع، فأرفع رأسي فأَقُول: أمتي يا رب، يا رب أمتي يا رب، فَيُقَالُ: يا مُحَمَّد أدخل من أمتك لا حساب عَلَيْهمْ من الْبَاب الأيمن من أبواب الْجَنَّة، وهم شركاء النَّاس فيما(5/460)
سِوَى ذَلِكَ من الأبواب، - ثُمَّ قال -: والَّذِي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الْجَنَّة كما بين مَكَّة وهجر، أو كما بين مَكَّة وبصرى» . رواه البخاري، ومسلم. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... إِلَهُ الْعَالَمِينَ وَكُلِّ أَرْضٍ ... وَرَبُّ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الْجِبالِ
بَناهَا وَاِبْتَنَى سَبْعًا شِدَادًا
بِلا عَمَدٍ يُرَيْنَ وَلا رِجَالِ
وَسَوَّهَا وَزَيَّنَهَا بِنُورٍ
مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ وَالْهِلالِ
وَمِنْ شُهُبٍ تَلألأُ فِي دُجَاهَا
مَرَامِيهَا أَشَدُّ مِنَ النِّصَالِي
وَشَقَّ الأَرْضَ فَاِنْبَجَسَتْ عُيُونًا
وَأَنْهَارًا مِنَ الْعَذْبِ الزِّلالِ
وَبارَكَ فِي نَوَاحِيهَا وَزَكَّى
بِهَا مَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ وَمَالِ
فَكُلُّ مُعَمَّرٍ لا بُدَّ يَوْمًا
وَذِي دُنْيَا يَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ ... ?(5/461)
.. وَيَفْنَى بَعْدَ جِدَّتِهِ وَيَبْلَى
سِوَى الْبَاقِي الْمُقَدَّسِ ذِي الْجَلالِ
وَسِيقَ الْمُجْرِمُونَ وَهُمْ عُرَاةٌ
إِلَى ذَاتِ السَّلاسِلِ وَالنَّكَالِ
فَنَادَوْا وَيْلَنَا وَيْلاً طَوِيلاً
وَعَجُّوا فِي سَلاسِلِهَا الطِّوَالِ
فَلَيْسُوا مَيِّتِينَ فَيَسْتَرِيحُوا
وَكُلُّهُمُ بَحَرِّ النَّارِ صَالِ
وَحَلَّ الْمُتَّقُونَ بِدَارِ صِدْقٍ
وَعَيْشٍ نَاعِمٍ تَحْتَ الضِّلالِ
لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَمَا تَمَنُّوا
مَنَ الأفْرَاحِ فِيهَا وَالكَمَالِ ... ?
اللَّهُمَّ يا مثَبِّتْ القُلُوب ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لمحبة أوليائك وبغض أعدائك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وبِكِتَابِكَ وبرسلك مقتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك، وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: وتأمل إذا جيء بجهنم إلى الموقف، تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ(5/462)
لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ، وَقَالَ: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، وَقَالَ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} .
في ذَلِكَ الوَقْت يتذكر الإِنْسَان سعيه، ويستحضر إن كانَتْ أحوال الدُّنْيَا وشواغل المتاع أغفلته وأنسته، أيًّا كَانَ يتذكره، ويستحضره، ولكن حيث لا يفيد التذكر والاستحضار إِلا الحَسْرَة والندامة، وتصور ما وراء ذَلِكَ من الْعَذَاب والبلوى.
وَقَالَ في آية ق: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قوي لا يحجبه حجاب، وهَذَا هُوَ الموعد الَّذِي غفلت عَنْهُ، وهَذَا هُوَ الموقف الَّذِي لم تحسب له حسابه، وهذه هِيَ النهاية التي كنت لا تتوقعها، ولا تهتم لها وتستهين بها في الدُّنْيَا فالآن فَانْظُرْ {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} ، وفي الآيَة الأخرى يَقُولُ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .(5/463)
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . رواه مسلمٌ. فبينما النَّاس في الكروب والأهوال والشدائد سمعوا لها زفيرًا وجرجرةً.
تفصح عن شدة الغيظ والْغَضَب، فعِنْد ذَلِكَ أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} ، ثَبِّتْ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من كذب علي متعمدًا فليتبوء بين عيني جهنم مقعدًا» قَالُوا: وهل لها من عينين؟ قال: «نعم ألم تسمعوا قول الله تَعَالَى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قيل: المكَانَ الْبَعِيد مسيرة مائة عام، وقيل خمسمائة عام، وَذَلِكَ إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، يشد بكل زمام سبعون ألف ملك، لو تركت لأتت على كُلّ بر وفاجر» . وأخَرَجَ الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يخَرَجَ عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران وأذنان يسمعا، ولسان ينطق، يَقُولُ: إني وكلت بثلاثة، بمن جعل مَعَ الله إلهًا آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصور» . وعن ابن عباس قال: إن الْعَبْد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثُمَّ تزفر زفرة لا يبقى أحد إِلا خاف» . هكَذَا رواه ابْن أَبِي حَاتِم مختصرًا.
وعن ابن مسعود قال: إذا بقى في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، ثُمَّ جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار، ثُمَّ جعلت تلك التوابيت في توابيت من نور، ثُمَّ قذفوا في نار(5/464)
الجحيم، فيرون أنه لا يعذب في النار غيرهم، ثُمَّ تلا ابن مسعود {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} .
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة» . ليكون ذَلِكَ من باب تعجيل الهم والحزن لَهُمْ، فإن توقع الْعَذَاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآيات، أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها عَلَيْهمْ، وحنقها بِهُمْ، وبعد قذفهم بها تغلي بِهُمْ، كما يغلي الحب القليل في الماء الكثير، قاله الْعُلَمَاء.
واعْلَمْ أن أول من تسعر بِهُمْ جهنم من ذكروا في ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: الله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أول ناس يقضى بينهم يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقَالُ جريء، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه، ثُمَّ ألقى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه، وقَرَأَ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليُقَالُ عَالِم، وقرأت القرآن ليُقَالُ هُوَ قارئ، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عَلَيْهِ وأعطاه من أصناف الْمَال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إِلا أنفقت فيها لك، قال(5/465)
كذبت ولكنك فعلت ليُقَالُ هُوَ جواد، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار» أخرجه مسلم. والترمذي بمعناه، وَقَالَ معاذ بن جبل وذكر علماء السُّوء: من إذا وعظ عنف، أو وعظ أنف، فذاك في أول درك من النار، ومن الْعُلَمَاء من يأخذ علمه مأخذ السُّلْطَان فذَلِكَ في الدرك الثاني من النار، ومن الْعُلَمَاء من يحرز علمه، فذَلِكَ في الدرك الثالث من النار، ومن الْعُلَمَاء من يتخَيْر الكلام والعلم لوجوه النَّاس، ولا يرى سفلة النَّاس له مَوْضِعًا، فذَلِكَ في الدرك الرابع، ومن الْعُلَمَاء من يتكلم كلام اليهود والنَّصَارَى وأحاديثهم، ليكثر حديثهم، فذَلِكَ في الدرك الخامس من النار، ومن الْعُلَمَاء من ينصب نَفْسهُ للفتيا، يَقُولُ للناس: سلوني، فذَلِكَ الَّذِي يكتب عِنْد الله متَكَلُّفًا، والله لا يحب المتكلفين، فذَلِكَ في الدرك السادس من النار، ومن الْعُلَمَاء من يتخذ علمه مروءة وعقلاً، فذَلِكَ في الدرك السابع من النار، ذكره غير واحد من الْعُلَمَاء.
قال القرطبي: مثله لا يكون رأيًا، وإنما يدرك توقيفًا.
وفي حديث ذكره أسد بن مُوَسى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في جهنم لواديًا، جهنم لتتعوذ من شر ذَلِكَ الوادي كُلّ يوم سبع مرات، وإن في ذَلِكَ الوادي لجبًا، إن جهنم وَذَلِكَ الوادي ليتعوذان بِاللهِ من شر ذَلِكَ الجب، وإن في ذَلِكَ الجب لحية، إن جهنم والوادي وَذَلِكَ الجب ليتعوذون من شر تلك الحية، أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن» .
... لأَمْرٍ مَا تَصَدَّعَتِ الْقُلُوبُ ... وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ
وَبَاتَتْ فِي الْجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ... لَهَا مِنْ خَارِجٍ أَثَرٌ عَجِيبُ
وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ ... وَلا أَعْيَا بِمَنْطِقِهِ الأَرِيبُ
ذَرَاهُ لائِمَاهُ فَلا تَلُومَا ... فَرُيَّتَ لأئِمٍ فِيهِ يَحُوبُ(5/466)
رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ ... مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الْهَبُوبُ
وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا ... وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ... بِهِ الْوِلْدَانُ مِنْ رَوْعِ تَشِيبُ
وَهَذَا الْمَوْتُ يُدْنِيهِ إليه ... كَمَا يُدْنِي إِلَى الْهَرَمِ الْمَشِيبُ
مَقَامٌ تُسْتَلَذُّ بِهِ الْمَنَايَا ... وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تَجِيبُ
وَمَاذَا الْوَصْفُ بَالِغُهُ وَلَكِنْ ... هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
فما ظنك أيها المهمل المفرط في عمره بسكَانَ هذه الدار، ضيقة الأرجَاءَ، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقَدْ فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} والنزل هُوَ ما يعد للضيف عِنْد قدومه، فدلت هذه الآيات على أن أَهْل النار يتحفون عِنْد دخولها بالأكل من شجرة الزقوم، والشراب من الحميم، وهم إنما يساقون إليها عطاشًا، كما قال تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} ، قال أبو عمران الجوني بلغنا أن أَهْل النار يبعثون عطاشًا يقفون في مشاهد القيامة عطاشًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} .(5/467)
خَرَجَ الترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِى دَارِ الدُّنْيَا لأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ» . وقَالَ الترمذى: صَحِيحٌ.
وروي موقوفًا عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير قال: إذا جاع أَهْل النار استغاثوا من الجوع، فأغيثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فانسلخت وجوههم، حتى لو أن مارًا مر عَلَيْهمْ يعرفهم، لعرف جلود وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عَلَيْهمْ العطش، فاستغاثوا من العطش فأغيثوا بماء كالمهل والمهل الَّذِي قَدْ انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم، ويضربون بمقامَعَ من حديد، فيسقط كُلّ عضو على حياله، يدعون بالثبور، ويدل على هَذَا قوله تَعَالَى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، والمعنى: يترددون بين جهنم والحميم، فمرة إلى هَذَا ومرة إلى هَذَا، قاله قتادة وابن جريج وَغَيْرِهمَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} وَقَالَ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} .
وروى الإمام أَحَمَد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قال: شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا(5/468)
يخَرَجَ، وعن ابن عباس في قوله تَعَالَى: {مِن ضَرِيعٍ} قال: شجر في جهنم. وَقَالَ مجاهد: الضَرِيعٍ: الشبرق اليابس، وروي عن ابن عباس: الشبرق نبت ذو شوك لاط بالأَرْض، فإذا هاج سمي ضريعًا، وخرج الترمذي من حديث أبي الدرداء عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يلقى على أَهْل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من الْعَذَاب فيستغيثون، فيغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذا غصة، فيذكرون أنهم كَانُوا يجيزون الغصص في الدُّنْيَا بالشراب، فيستغيثون، بالشراب، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم» وذكر بقية الْحَدِيث، وقَدْ روي هَذَا موقوفًا على أبي الدرداء.
وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {مِنْ غِسْلِينٍ} قال: هُوَ صديد أَهْل النار. وَقَالَ شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم، وَهُوَ طعامهم، وعن مقاتل قال: إذا سال القيح والدم بادروا إلى أكله، قبل أن تأكله النار.
وَقَالَ عز من قائل: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} ، وَقَالَ(5/469)
تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ، وَقَالَ عز من قائل: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} الحميم الَّذِي قَدْ انتهى حره، والغساق قيل: إنه ما يسيل من بين جلد الكافر ولحمه، وقيل: الزمهرير البارد الَّذِي يحرق من برده، قاله ابن عباس، وعن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: الغساق القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهرق في المغرب لأنتنت أَهْل المشرق، ولو أهريقت في المشرق، لأنتنت أَهْل المغرب، وَقَالَ مجاهد: (غساق) الَّذِي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده، وَقَالَ قتادة: هُوَ ما يغسق أي يسيل من القيح والصديد من جلود أَهْل النار ولحومهم، وفروج الزناة ودموع أَهْل النار وعروقه، وَقَالَ كعب: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كُلّ ذات حمة من حية وعقرب وغير ذَلِكَ، فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخَرَجَ وقَدْ سقط جلده ولحمه عن العظام.
ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه ويجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه. رواه ابْن أَبِي حَاتِم. وأما الصديد فَقَالَ مجاهد في قوله تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ} ، قال: يعني: القيح والدم، وَقَالَ قتادة: ما يسيل من بين لحمه وجلده، وَقَالَ تَعَالَى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} .
وخَرَجَ الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث أبي أمامة عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: يقرب إلى فيه فيكرعه، فإذا أدْنِيَ منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه،(5/470)
فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى يخَرَجَ من دبره، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن لله عهدًا لمن شرب المسكرات ليسقينه من طينة الخبال» . قالوا: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» .
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مَاتَ مدمن خمر، سقاه الله من نهر الغوطة، قيل: ما نهر الغوطة، قال: نهر يخَرَجَ من فروج المومسات، يؤذي أَهْل النار نتن فروجهم» .
وعن أبي سعيد عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تَعَالَى: {كَالْمُهْلِ} قال: «كعكر الزيت، فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه» ، وَقَالَ عطية: سئل ابن عباس عن قوله تَعَالَى: {كَالْمُهْلِ} قال: غليظ كردي الزيت، وَقَالَ الضحاك: أذاب ابن مسعود فضة من بيت الْمَال، ثُمَّ أرسل إلى أَهْل المسجد، فَقَالَ: من أحب أينظر إلى المهل فلينظر إلى هَذَا.
وخرج الطبراني من طَرِيق تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن غربًا من حميم جهنم جعل في وسط الأَرْض، لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب» .
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي ... أَشَدَّ مِن الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ... عَنِيتٌ وَسَوَّاقٌ يَقُودُ الْفَرَزْدَقَا
أَسَاقُ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلاً ... سَرَابِيلَ قُطْرَانٍ لِبَاسًا مُحَرِّقًا
إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا
شِعْرًا:
أَفْنَى شَبَابَكَ كَرُ الطَّرْفِ وَالنَّفَسِ
فَالْمَوْتُ مُقْتَرِبٌ وَالدَّهْرُ ذُو خَلَسِ ... ?(5/471)
.. لا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرْفٍ وَلا نَفَسٍ
وَإِنْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجُّابِ وَالْحَرَسِ
فَمَا تَزَالُ سِهَامُ الْمَوْتِ صَائِبَةً
فِي جَنْبِ مُدَّرِعٍ مِنْهَا وَمُتَّرِسِ
أَرَاكَ لَسْتَ بِوَقَّافٍ وَلا حَذِرٍ
كَالْحَاطِبِ الْخَالطِ الأَعْوَادِ فِي الْغَلَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا
إِنَّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
أَنَّى لَكَ الصَّحْوُ مِن سُكْرٍ وَأَنْتَ مَتَى
تَصِّحُ مِنْ سَكْرَةٍ تَغْشَاكَ مِنْ نَكَسِ
مَا بَالُ دِينِكَ تَرْضَى أَنْ تُدَنِّسَهُ
وَثَوْبُكَ الدَّهْرَ مَغْسُولٌ مِن الدَّنَسِ
لا تَأْمَنِ الْحَتْفَ فِيمَا تَسْتَلِذُّ وَإِنْ
لانَتْ مَلامِسُهُ فِي كَفِّ مُلْتَمِسِ
الْحَمْدُ للهِ شُكْرًا لا شَرِيكَ لَهُ
كَمْ مِنْ حَبِيبٍ مِن الأَهْلِينَ مُخْتَلَسِ ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نباتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعًا لما جَاءَ به رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا علي يا عَظِيم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أَهْل طَاعَتكَ ويذل فيه أَهْل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن الْمُنْكَر(5/472)
اللَّهُمَّ اعمر قلوبنا وألسنتنا بِذِكْرِكَ وشكرك ووفقنا للامتثال لأَمْرِكَ وأمنا من سطوتك ومكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ أولياءك المتقين وحزبك المفلحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وأما كسوة أَهْل النار فقَدْ ذكر جَلَّ وَعَلا ثيابهم، فَقَالَ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} .
وفي كتاب أبي داود، والنسائي، والترمذي عن بريدة أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى على رجل خاتمًا من حديد، فَقَالَ: «ما لي أرى عَلَيْكَ حلية أَهْل النار» ، وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أول من يكسى حلة من النار إبلَيْسَ، يضعها على حاجبه، ويسحبها من خلفه ذريته خلفه، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثبوره. وهم ينادون: يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار، فَيَقُولُ: يا ثبوره ويقولون: يا ثبورهم، فَيُقَالُ: {لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} خرجه الإمام أَحَمَد.
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري، عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعَلَيْهَا سربال من قطران، ودرع من جرب» . وفي مسند الإمام أَحَمَد(5/473)
عن حبيب بن المغفل عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما تحت الكعبين من الإزار في النار» قَالَ الْعُلَمَاءُ: إن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معًا، وأنه يسحب ثوبه في النار كما كَانَ يسحبه في الدُّنْيَا خيلاء. وخَرَجَ أبو داود وغيره من حديث المستورد عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أكل برجل مسلم أكلة في الدُّنْيَا أطعمه الله مثلها في جهنم، ومن كسي أو اكتسى برجل مسلم ثوبًا كساه الله مثله في جهنم» .
وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فطعامهم نار وشرابهم نار. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} ، ولباسهم نار، ومهادهم نار، قال تَعَالَى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فهم بين مقطعات النيران، وسرابيل القطران وضرب المقامَعَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ? قال: «لو أن مقمعًا من حديد وضع في الارض فاجتمَعَ له الثقلان ما أقلوه من الأَرْض» وعن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لو ضرب الجبل بمقمَعَ من حديد لتفت ثُمَّ عاد كما كَانَ» .
وَقَالَ ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال يضربون بها، فيقع كُلّ عضو على حياله، فيدعون بالثبور.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} الغساق ما سال من جلود(5/474)
أَهْل النار من القيح والصديد، وَقَالَ القرطبي هُوَ عصارة أَهْل النار. وَقَالَ السدي: هُوَ الَّذِي يسيل من دموع أَهْل النار يسقونه من الحميم، وقوله: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي عذاب آخر، أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل الْعَذَاب.
ومعنى {أَزْوَاجٌ} : أجناس، وأنواع، وأشباه، ونظائر. وقيل: هُوَ الزمهرير، وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} الآيَة أي الأتباع داخلون معكم بشدة، والاقتحام: الالقاء في الشَيْء بشدة، فَإِنَّهُمْ يضربون بمقامَعَ من حديد، حتى يقتحموها بأنفسهم خوفًا من تلك المقامَعَ، فأخبر جَلَّ وَعَلا عن قيل أَهْل النار، بَعْضهمْ لبعض كما قال تَعَالَى في الآيَة الأخرى: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} .
فبدل السَّلام يتلاعنون، ويتكاذبون، ويكفر بَعْضهمْ ببعض، فَتَقُول الطائفة الأولى دخولاً للتي بعدها: لا مرحبًا بِهُمْ. أي: لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب والسعة. والمعنى: لا كرامة لَهُمْ، وهَذَا إخبار من الله جَلَّ وَعَلا بانقطاع الْمَوَدَّة بينهم وأن مودتهم في الدُّنْيَا تصير عداوة، كما قال في الآيَة الأخرى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .
فتأمل حال أولئك التعساء الَّذِينَ كَانَ بَعْضهمْ يملي لبعض في الضلال، كيف تناكروا، وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع الْعَذَاب، ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال وما يفتت ذكره الأكباد، يقتحمون إلى جهنم إقتحامًا.
ويتجلجلون في مضائقها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، ويطوفون بينها وبين حميم آن، ولا تسأل عما يعانونه من ثقل السلال والأغلال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ(5/475)
وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} ، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
وَقَالَ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} فهذه ثلاثة أنواع، أحدها: الأغلال، وهي في الأعناق، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ، وَقَالَ معمر عن قتادة في قوله تَعَالَى: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} قال: مقرنين في القيود والأغلال.
وروى ابْن أَبِي حَاتِم بإسناده عن مُوَسى بن أبي عَائِشَة أنه قَرَأَ قوله تَعَالَى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: تشتد أيديهم بالأغلال في النار، فيستقبلون الْعَذَاب بوجوههم قَدْ شدت أيديهم، فلا يقدرون على أن يتقوا بها كُلّ ما جَاءَ نوع من الْعَذَاب، يستقبلون بوجوههم وبإسناده عن فيض بن إسحاق عن فضيل بن عياض: إذا قال الرب تبارك وتَعَالَى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} تبدره سبعون ألف ملك، كلهم يتبدر أيهم يجعل الغل في عنقه، النوع الثاني: الأنكال. وهي القيود. قاله ابن عباس، وعكرمة، ومُحَمَّد ابن كعب، وطاووس، وأبو عمران الجوني وغيرهم.
وَقَالَ أبو عمران الجوني القيود لا تحل وَاللهِ أبدًا. وروى أبو سنان عن الحسن: أما وعزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه، ولكن قيدهم لترسى في النار. اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، وأرشدنا برشدك إلى السعي فيما يرضيك، وأجرنا يا مولانَا من خزيك وعذابك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة، وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/476)
شِعْرًا: ... لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَهْلَ الشَّقَا ... فِي النَّارِ قَدْ غُلُّوا وَقَدْ طُوِّقُوا
تَقُولُ أَوْلاهُمْ لأُخْرَاهُمُ ... فِي لُجَحِ الْمُهْلِ وَقَدْ أُغْرِقُوا
وَقَدْ كُنْتُمُ حُذِّرْتُمْ حَرَّهَا ... لَكِنْ مِنْ النِّيرَانِ لَمْ تَفْرَقُوا
وَجِيءَ بِالنِّيرَانِ مَزْمُومَةً ... شَرَارُهَا مِنْ حَوْلِهَا مُحْدِقُ
وَقِيلَ لِلنِّيرَانِ أَنْ أَحْرِقِي ... وَقِيلَ لِلْخُزَّانِ أَنْ أَطْبِقُوا
وَأَوْلِيَاءُ اللهِ فِي جَنَّةٍ ... قَدْ تُوِّجُوا فِيهَا وَقَدْ مُنْطِقُوا
تَدَبَّرُوا كَمْ بَيْنَهُمْ إِخْوَتِي ... ثُمَّ أَجِيلُوا فِكْرَكُمْ وَانْتَقُوا
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال مُحَمَّد بن كعب القرظي في قوله تَعَالَى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه.
وعن ثابت البناني أنه قَرَأَ هذه الآيَة ثُمَّ قال: تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، لَقَدْ بلغ مِنْهُمْ الْعَذَاب ثُمَّ يبكي.
وَقَالَ العوفي عن ابن عباس في قول الله تَعَالَى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} أدخلهم في عمد ممدة عَلَيْهمْ بعماد في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب.
اللَّهُمَّ اقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا وثَبِّتْ حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قولبنا وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخَرَجَ من منخريه حتى لا يقوم على(5/477)
رجليه. وَقَالَ ابن جريج: قال ابن عباس: السلسة تدخل في استه، ثُمَّ تخَرَجَ من فيه، ثُمَّ ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود، حين يشوى. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.
وَقَالَ جويبر في قول الله تَعَالَى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} قال: يجمَعَ بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره.
وَقَالَ السدي - في هذه الآيَة -: يجمَعَ بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه وظهره، ويفتل. وذكر الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: يؤخذ بناصيته وقدميه ويكسر ظهره كما يكسر الحطب في التنور. وبئس المصير.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عن أبي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» . خرجه الإمام أَحَمَد، والترمذي، والحاكم وقالا: صحيح. وَقَالَ: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال عطاء: يرمى به في النار منكوسًا فأول شَيْء منه تمسه النار وجهه.
وقَدْ أجرى الله العادة أن الإِنْسَان يبقى وجهه بيديه وجسمه فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نَفْسهُ النار بيديه ولا برجليه فيدفعها بوجهه، ويتقي به سوء الْعَذَاب، مِمَّا يدل على شدة الهول والاضطراب فمجرد تصوره يزعج ويقلق ويفزع.
وفي زحمة هَذَا الْعَذَاب يتلقى التوبيخ، والتأنيب، وتدفع إليه حصيلة حَيَاتهُ، ويا لها من حصيلة، {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وفي الآيَة الأخرى قال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَدْ أمْسَتِ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً(5/478)
.. وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لَمْ يُخْبَأَ لَهَا فَزَعُ
وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهَنٌ
لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يُطَّلِعُ
إِذْ النَّبِيُّونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةٌ
وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشَعُوا
وَطَارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرةً
فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تُطَّلَعُ
فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ
عَمَّا قَلِيلٍ وَلا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزِ لا انْقِطَاعَ لَهُ
أَم الْجَحِيمِ فَلا تُبْقِي وَلا تَذَرُ
تَهْوِي بِسَاكِنَهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ
إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ
هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ
لِينْفَع الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ
قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا ... ?
اللَّهُمَّ أتمم عَلَيْنَا نعمتك الوافية وارزقنا الإِخْلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا، وعد عَلَيْنَا بإصلاح قلوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/479)
موعظة
عباد الله إن بين أيديكم يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق، وتنفصم فيه العرى، فتدبروا أمركم قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قَدْ فهم ودرى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} ، يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قَدْ وهي شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه، عباد الله أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، إنها لتحرق كُلّ ما يلقى فيها، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} ، وَقَالَ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} عباد الله أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابها الحميم، قال عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأَرْض لأمرت على أَهْل الدُّنْيَا معيشتهم» فَكَيْفَ بمن هُوَ طعامه، لا طعام له غيره، قال تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} .
أخرَجَ الطبراني، وابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الْحَدِيث إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ينشئ الله لأَهْل النار سحابة سوداء مظلمة، فَيُقَالُ: يا أَهْل النار أي شَيْء تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدُّنْيَا، فيقولون: يا ربنا الشراب، فتمطر أغلالً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرًا يلتهب عَلَيْهمْ» .(5/480)
شِعْرًا: ... مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ
فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ
فَرْدًا ذَلِيلاً وَالْحِسَابُ عَسِيرُ
وَتَعَلَّقَتْ فِيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي
يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُورُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي
ضِيقِ الْقُبُورِ مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وَلايَةً
يَوْمًا وَلا قَالَ الأَنَامُ أَمِيرُ
وَبَقِيتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حَفِيرَةٍ
فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيرُ
وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِينًا بَاكِيًا
قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الأَنَامِ مُجِيرُ
أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبَكَ دَارِسٌ
عَافِي الْخَرَابَ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ
أَرَضِيتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ
أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُورُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا
يَوْمَ الْمِعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو الْعُورُ ... ?(5/481)
اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات فأَنْتَ الحليم المسامح، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
تفكر عافنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين، وأدم الفكر في جهنم، واعْلَمْ أن لها سبعة أبواب كما أخبر جَلَّ وَعَلا، قال عز من قائل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} . وخرج الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث ابن عمر عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على أمتي» .
وفي حديث أبي رزين العقيلي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر: «إن للنار سبعة أبواب، ما منهن بابان إِلا ويسر الراكب بينهما سبعين عامًا» . خرجه عَبْد اللهِ بن الإمام أَحَمَد، وابن أبي عاصم، والطبراني، والحاكم وغيرهم.
وخَرَجَ ابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق حطان الرقاشي قال: سمعت عليًا يَقُولُ: هل تدرون كيف أبواب جهنم، قلنا: هِيَ مثل أبوابنا هذه، قال: لا، هِيَ هكَذَا بعضها فوق بعض. وفي رواية له: بعضها أسفل بعض.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا(5/482)
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فتأمل حال هؤلاء الأشقياء الكفار كيف يساقون سوقًا عنيفًا إلى جهنم، بزجر وتوبيخ، وتقريع وتهديد، ووعيد كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} أي يدفعون إليها دفعًا، هَذَا وهم عطاش ظماء جياع نصبون وجلون قَدْ بلغ مِنْهُمْ الخوف والرعب كُلّ مبلغ. قال تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي مِنْهُمْ من يمشي على وجهه، قال تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} .
وروى مخلد بن الحسن عن هشام بن حسان قال: خرجنا حجَّاجًا فنزلنا منزلاً في بعض الطَرِيق، فقَرَأَ رجل معنا هذه الآيَة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فسمعته امرأةٌ ف قَالَتْ: أعد رَحِمَكَ اللهُ. فأعادها ف قَالَتْ: خلفت في البيت سبعة أعبد، أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد مِنْهُمْ. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.
شِعْرًا:
... يَا غَافِلاً عَنْ مَنَايَا سَاقَهَا الْقَدَرُ
مَاذَا الَّذِي بَعْدَ شَيْبِ الرَّأْسُ تَنْتَظِرُ
عَايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْعَيْنَ غَافِلَةٌ
عَنِ الْحَقِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا سَقَرُ ... ?(5/483)
.. سَوْدَاءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ
لِلظَّالِمِينَ فَمَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ
لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوْتِ مَوْعِظةٌ
لَكَانَ فِيهِ عَنِ اللَّذَّاتِ مُزْدَجَرُ ... ?
آخر: ... اسْلُكْ بُنَيَّ مَنَاهِجَ السَّادَاتِ ... وَتَخَلَّقَنَ بِأَشْرَفِ العَادَاتِ
لا تُلهِيَنَّكَ عَن مَعادِكَ لَذَّةٌ ... تَفْنَى وَتُوَرِثُ دَائِمَ الْحَسَراتِ
وَإِذا اتَّسَعتَ بِرِزْقِ رَبِّكَ فَاِجْعَلَنْ ... مِنْهُ الأَجَلَّ لأَوْجُهِ الصَّدَقَاتِ
وَارْعَ الْجِوارِ لأَهْلِهِ مُتَبَرِّعًا ... بِقَضَاءِ مَا طَلَبُوا مِنَ الْحَاجَاتِ
قال الضحاك في قول الله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} هِيَ سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها: فيه أَهْل التَّوْحِيد يعذبون عَلَى قَدْرِ ذنوبهم ثُمَّ يخرجون، والثاني: فيه النَّصَارَى، والثالث: فيه اليهود، والرابع: الصابئون، والخامس: فيه المجوس، والسادس: فيه مشركوا الْعَرَب، والسابع: فيه المنافقون.
وعن ابن جريج في قوله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} ، قال: أولها جهنم، ثُمَّ لظى، ثُمَّ الحطمة، ثُمَّ السعير، ثُمَّ سقر، ثُمَّ الجحيم، وفيها أبو جهل، ثُمَّ الهاوية. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا وغيره. وقَدْ وصف الله الأبواب بأنها مغلقة عَلَيْهمْ، فَقَالَ: {إِنَّهَا عَلَيْهمْ مُّؤْصَدَةٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ، قال مقاتل: يعني: أبوابها مطبقة عَلَيْهمْ، فلا يفتح لها باب، ولا يخَرَجَ منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وهَذَا الإطباق نوعان: أحدهما خاص لمن يدخل في النار أو من يريد الله التضييق عَلَيْهِ، أجارنا الله والمسلمين من ذَلِكَ، قال أبو توبة اليزني: إن في النار أقوامًا مؤصدة عَلَيْهمْ كما يطبق الحق على طبقه. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.(5/484)
والثاني الإطباق العام وَهُوَ إطباق النار على أهلها المخلدين فيها. وقَدْ قال سفيان وغيره في قول الله تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قَالُوا: هُوَ طبق النار على أهلها.
وَقَالَ أبو الزعراء عن ابن مسعود: وإذا قيل لَهُمْ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أطبقت عَلَيْهمْ، فلا يخَرَجَ مِنْهُمْ أحد.
وَقَالَ أبو عمران الجوني: إذا كَانَ يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد، وبكل من يخاف من شره العبيد، فأوثقوا بالحديد، ثُمَّ أمر بِهُمْ إلى جهنم التي لا تبيد، ثُمَّ أوصدها عَلَيْهمْ ملائكة رب العبيد، قال: فلا وَاللهِ لا تستقر أقدامهم على قرارٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا ينظرون فيها إلى أديم سماءٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدًا، ولا وَاللهِ لا يذوقون فيها بارد ولا شراب أبدًا.
وقَدْ أخبر سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن الكفار يحاولون الْخُرُوج ويرغمون على البقاء فيها.
قال تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآيَة. فلا يزالون يريدون الْخُرُوج مِمَّا هم فيه من الشدة وأليم مس الْعَذَاب ولا سبيل لَهُمْ إلى ذَلِكَ، كُلَّما رفعهم اللهب فصاروا في أعلا جهنم ضربتهم الزبانية بمقامَعَ الحديد فيردونهم إلى أسفلها.
وأخبر جَلَّ وَعَلا أنهم يطلبون منه الْخُرُوج منها فَقَالَ مخبرًا عما قَالُوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} . والجواب على ذَلِكَ يَقُولُ(5/485)
الرب جَلَّ وَعَلا: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
أمانيهم فيها الهلاك وما لَهُمْ من النار فكاك قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} ، وَقَالَ: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآيَة. وَقَالَ: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} .
وَقَالَ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} ، وَقَالَ: {لَا يُقْضَى عَلَيْهمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} ، وَقَالَ: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ، وَقَالَ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ، وَقَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .
ومن السنة ما خرجه الشيخان عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد بما هو فيه» .
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الْجَنَّة والنار ويذبح ويُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت» . رواه البخاري.
وما أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو قيل لأَهْل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كُلّ حصاة في الدُّنْيَا لفرحوا، ولو قيل لأَهْل الْجَنَّة: إنكم ماكثون(5/486)
في الْجَنَّة عدد كُلّ حصاة لحزنوا ولكن جعل لَهُمْ الأبد» . هَذَا مِمَّا يدل على عدم فناء النار وبقاء أهلها فيها ينقلبون في أنواع الْعَذَاب لا راحة ولا نوم، ولا هدوء ولا قرار لَهُمْ، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد مِنْهُمْ حد معلوم عَلَى قَدْرِ عصيانه وذنبه، إِلا أن أقلهم لو عرضت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هُوَ فيه، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أدنى أَهْل النار عذابًا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه» من حرارة نعله فَانْظُرْ الآن إلى من خفف عَلَيْهِ، واعتبر بمن شدد عَلَيْهِ الْعَذَاب ممن يسحبون على وجوههم في النار، ويُقَالُ لَهُمْ: ذوقوا مس سقر، وَقَالَ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} . أي: تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثُمَّ تبدل غير ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} قال قتادة: قال ابن عباس {صَعُوداً} صخرة في جهنم يسحب عَلَيْهَا الكافر على وجهه. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
عباد الله عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عروة مالها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام، وسراج يضيء للأفهام، من تعلق بها حمته بإذن الله محذور العاقبة، ومن تحقق بحملها وقته بإذن الله شرور كُلّ نائبة، والحذر من دار فرقة مالها أسلاف، وقرار حرقة مالها انصراف، وأماني رجعة مالها إسعاف، فانهضوا عباد الله في استعمال ما يقربكم من دار القرار، واتركوا كُلّ ما يدنيكم من دار البوار، فإنها المصيبة الجامعة(5/487)
والعقوبة الواقعة، يا لها دار انقطع من الرجَاءَ انحلالها، وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البُكَاء والعويل، وسرابيل الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية وبئس المقيل، يقطع مِنْهُمْ الحميم أمعاء طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع مِنْهُمْ الجحيم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قَدْ كثر مِنْهُمْ الأنين، وحلت بِهُمْ المثلات، فجلودهم كُلَّما نضجت بدلت جلودًا غيرها، وكرر عَلَيْهمْ الْعَذَاب، ووجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، ينادون إلهًا ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه ونسوه، وحق عَلَيْهمْ في الآجلة حكمه لما أغضبوه يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيجيبهم بعد حين إجابة دعوى ذي قوة متين: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فحينئذٍ ينقطع عندها وَاللهِ تأميل المذنبين، ويجتمَعَ التنكيل على المذنبين، ويرتفع في جهنم عويل المجرمين المعذبين {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة لا تشبهها ندامة ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى، ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تَغْفِرِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
إِنْ كُنْتَ تَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ فَهَاتِ
كَمْ مِنْ أَبٍ لَكَ صَارَ فِي الأَمْوَاتِ
مَا أَقْرَبَ الشَّيْءَ الْجَدِيدَ مِنَ الْبِلَى
يَوْمًا وَأَسْرَعَ كُلَّ مَا هُوَ آتِ
اللَّيْلُ يَعْمَلُ وَالنَّهَارَ وَنَحْنُ عَمَّـ
ـمَا يَعْمَلانِ بِأَغْفَلِ الْغَفِلاتِ(5/488)
.. يَا ذَا الَّذي اتَّخَذَ الزَّمَانَ مَطِيَّةً
وَخُطَا الزَّمَانِ كَثِيرَةُ الْعَثَراتِ
مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَكَ حُجَّةٌ
لَوْ قَدْ أَتَاكَ مُنَغِّصُ اللَّذَاتِ
أَوْ مَا تَقُولُ إِذَا حَلَلْتَ مَحَلَّةً
لَيْسَ الثِّقَاتُ لأَهْلِهَا بِثِقَاتِ
أَوْ مَا تَقُولُ وَلَيْسَ حُكْمُكَ نَافِذًا
فِيمَا تُخَلِّفُهُ مِن التَّرِكَاتِ
مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ
مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ
زُرْتُ الْقُبُورَ قُبُورَ أَهْلِ الْمُلْكِ فِي الدُّ
نْيَا وَأَهْلِ الرَّتْعِ فِي الشَّهَوَاتِ
كَانُوا مُلُوكَ مَآكِلٍ وَمَشَارِبٍ
وَمَلابِسٍ وَرَوَائِحٍ عَطِرَاتِ ... ?(5/489)
.. فَإِذَا بِأَجْسَادٍ عَرِينَ مِن الْكِسَا
وِبِأَوْجُهٍ فِي التُّرْبِ مُنْعَفِرَاتِ
لَمْ تُبْقِ مِنْهَا الأَرْضُ غَيْرَ جَمَاجِمٍ
بِيضٍ تَلُوحُ وَأَعْظُمٍ نَخَرَاتِ
إِنَّ الْمَقَابِرَ مَا عَلِمْتُ لَمَنْظِرٌ
يَهْدِي الشَّجَا وَيُهَيِّجُ الْعَبَرَاتِ
سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِقُدْرَةٍ
بَارِي السُّكُونِ وَنَاشِرِ الْحَرَكَاتِ ... ?
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
فتفكر يا أخي في حال هؤلاء الَّذِينَ قَدْ عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران، وهم مَعَ ذَلِكَ يتمنون الموت فلا يموتون، فَكَيْفَ بك أيها العاصي لو نظرت إلى هؤلاء المجرمين وقَدْ اسودت وجوههم، وأعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، وكسرت عظامهم، وجدعت آنافهم، وآذانهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمَعَ بين نواصيهم وأقدامهم، ولهيب النار سار في بواطنهم، وحيات جهنم وعقاربها متشبثة بظواهرهم.(5/490)
ثُمَّ انظر في أودية جهنم وشعابها، فعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» . رواه أَحَمَد، والترمذي. إِلا أنه قال: «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» .
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} قال: واد في جهنم يقذف فيه الَّذِينَ يتبعون الشهوات. رواه الطبراني، والبيهقي.
وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعوذوا بِاللهِ من جب الحزن أو وادي الحزن» قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما جب الحزن أو وادي الحزن؟ قال: «واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كُلّ يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين» . رواه البيهقي بإسناد حسن.
ثُمَّ انظر يا أخي وتأمل في قعر جهنم وظلماتها وتفاوت دركاتها فعن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان ري الله عَنْهُ فَقَالَ: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا ما يدرك لها قعرًا وَاللهِ لتملأنه أفعجبتم. رواه مسلم هكَذَا.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كنا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا وجبة فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتدرون ما هَذَا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: «هَذَا حجر أرسله الله في جهنم مُنْذُ سبعين خريفًا فالآن حين انتهى إلى قعرها» . رواه مسلم.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:(5/491)
«أوقَدْ على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثُمَّ أوقَدْ عَلَيْهَا ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» رواه مالك، والترمذي.
وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نار ابن آدم التي يوقدون منها جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وإن كانَتْ لكافية، قال: «فإنها فضلت بتسعة وستين جزءًا» . أخرجه مال، ومسلم وزَادَ: «كُلّهَا مثل حرها» . وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها وإنها لتدعوا الله أن لا يعيدها فيها» . رواه ابن ماجة.
وروى الأئمة عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشتكت النار إلى ربها فقَالَتْ: رَبِّي أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فشدة ما يجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما يجدون من الحر من سمومها» . أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
اللَّهُمَّ ثبتنا عِنْد نزول غمرات هادم اللذات، وخفف عنا شدة كرب السياق، وغصص السكرات، الله وآنس وحشتنا في القبر الضيق العطن، ولقنا جواب الملك الموكل بالفتن وارحمنا عِنْد مضاجعة التُّرَاب والديدان ومفارقة الأَهْل والإِخْوَان، وأمنا عِنْد طلوع هول المطلع الفظيع وبلوغ صوت المنادي إلى أذن كُلّ سميع، وثَبِّتْ قلوبنا عِنْد تقلب القُلُوب إذا مد الصراط على النيران وتطاير العقول إذا نصب الميزان ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الفضل العميم بمنك وجود يا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا(5/492)
وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ تفكر بقلبك، وألق السمَعَ لقوله تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} الآيَة وقوله عَزَّ من قائل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، وقوله تَعَالَى: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الآيتين.
روى الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يلقى البُكَاء على أَهْل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثُمَّ يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كيهئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت» . خرجه ابن ماجة، وروى سلام بن مسكين عن قتادة عن أبي بردة بن أبي مُوَسى عن أبيه قال: إن أَهْل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت،(5/493)
ثُمَّ إنهم ليبكون بالدم بعد الدموع، ولمثل ما هم فيه فليبك. وَقَالَ صالح المري: بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى مِنْهُمْ إِلا كهيئة الأنين من المدنف.
وروى الوليد بن مسلم عن أبي سلمة الدوسي - واسمه ثابت بن شريح - عن سالم بن عَبْد اللهِ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ ارزقني عينين هطالتين يشفيان الْقَلْب بذروف الدموع من خشيتك، قبل أن يكون الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا» . سالم بن عَبْد اللهِ هُوَ المحارَبِّي، وحديثه مرسل. وروى الوليد بن مسلم أيضًا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله قال: إن داود عَلَيْهِ السَّلام قال: (رب ارزقني عينين هطالتين يبكيان بذروف الدموع ويشفيان من خشيتك، قبل أن يعود الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا) ، قال وكَانَ داود عَلَيْهِ السَّلام يعاتب في كثرة البُكَاء، فَيَقُولُ: دعوني أبكي قبل يوم البُكَاء، قبل تحرق العظام، واشتعال اللحى،، وقبل أن يؤمر بي {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وروى يونس بن ميسرة عن أبي إدريس الخولاني قال: إن داود عَلَيْهِ السَّلام قال: أبكي نفسي قبل يوم البُكَاء، أبكي نفسي قبل أن لا ينفع البُكَاء، ثُمَّ دعا بجمر فوضع يده عَلَيْهِ، حتى إذا حره رفعها، وَقَالَ: أَوَّهْ لعذاب الله، أَوَّهْ أَوَّهْ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ.
وروى ثابت البناني عن صفوان بن محرز قال: كَانَ لداود عَلَيْهِ السَّلام يومًا يتأوه فيه، يَقُولُ: أَوَّهْ أَوَّهْ من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ، قال: فذكره صفوان ذات يوم في مجلس فَبَكَى حتى(5/494)
غلبه البُكَاء فقام. وَقَالَ عَبْد اللهِ بن رباح الأنصاري: سمعت كعبًا يَقُولُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} قال: كَانَ إذا ذكر النار قال: أَوَّهْ من النار، أَوَّهْ من النار. والتأوه هُوَ التوجع والتحزن. قال المثقف العبدي:
... إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... ???? ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ ... ? ... ???? وفي حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في ذكر أَهْل النار قال: «فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قال: فيقولون: ادعوا مالكًا، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} قال الأعمش: نبئت أن بين دعاءهم وبين إجابة مالك لَهُمْ ألف عام، قال: فيقولون: ادعوا ربكم فإنه لَيْسَ أحد خيرًا من ربكم فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قال: فيجيبهم: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ، قال: فعِنْد ذَلِكَ يئسوا من كُلّ خَيْر، وعِنْد ذَلِكَ يأخذون في الحَسْرَة والزفير والويل» . خرجه الترمذي مرفوعًا، وموقوفًا على أبي الدرداء.
وروى أبو معشر عن مُحَمَّد بن كعب القرظي قال: لأَهْل النار خمس دعوات، يكلمون في أربع منها، ويسكت عنهم في الخامسة فلا يكلمون، يقولون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا(5/495)
فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فيرد عَلَيْهمْ: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخر الآيتين، ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} إلى قوله: {وَكُنتُم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} قال: فلا يتكلمون بعد ذَلِكَ. أخرجه آدم بن أبي إياس وابْن أَبِي حَاتِم.
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
... فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ... ???? ... صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ ... ???? ... أَفِقْ قَدْ دَنَى الْوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ
سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ ... ???? ... وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا ... ???? ... هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ ... ???? ... تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله ... ???? ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمِ ... ???? ... وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... ???? ... فَمَرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ ... ? ... ????(5/496)
.. وَهَيِّءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... ???? ... مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ ... ???? ... بِهِ رُسُلِي لِمَا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ ... ???? ... أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ ... ???? ... وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... ???? ... لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ ... ???? ... وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجَسْرُ مِنْ فَوْق مَتْنِهَا ... ???? ... فَهَاوٍٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ ... ???? ... وَيَأْتِي إلهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ... ???? ... فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ ... ???? ... وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ ... ???? ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ ... ???? ... وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ ... ???? ... ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ ... ???? ... فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... ???? ... وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ ... ???? ... وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيء بِمَا جَنَى ... ???? ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتُمُ ... ???? ... فَيَالَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالِكُ عِنْدَمَا ... ???? ... تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ ... ? ... ????(5/497)
.. أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ ... ???? ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ ... ???? ... وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ... ???? ... فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ ... ???? ... تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُهُ فَإِنَّهُ ... ???? ... يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ ... ???? ... وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ... ???? ... أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مَغْرَمُ ... ???? ... فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ ... ???? ... وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ ... ???? ... وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... ???? ... فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ ... ???? ... وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... ???? ... وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... ? ... ????
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
في الثناء على أَهْل الْجَنَّة وتبشيرهم، وتبكيت أَهْل النار، وتقريعهم على إهمالهم وتفريطهم.(5/498)
روى صفوان بن عمرو قال: سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يَقُولُ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة، وأَهْل النار النار، قال الله: يا أَهْل الحنة {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال: نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثُمَّ يَقُولُ لأَهْل النار: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فَيَقُولُ: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم سخطي ومعصيتي وناري، امكثوا فيها خالدين مخلدين، فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنََّا ظَالِمُونَ} فَيَقُولُ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فيكون ذَلِكَ آخر عهدهم بكلام ربهم عَزَّ وَجَلَّ» . خرجه أبو نعيم، وَقَالَ: كَذَا رواه أيفع مرسلاً.
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ النَّاسِ يَومَ القِيَامةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» . أخرجه مسلم، وأخرجه ابن ماجة أيضًا عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من الكفار، فَيُقَالُ: اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثُمَّ يخَرَجَ، فَيُقَالُ: أي فلان هل أصابك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد الْمُؤْمِنِين ضررًا وبَلاء، فَيُقَالُ: اغمسوه(5/499)
في الْجَنَّة غمسة، فيغمس فيها غمسة، فَيُقَالُ له: أي فلان هل أصابك ضر وبَلاء فَيَقُولُ: لا ما أصابني ضر قط ولا بَلاء» .
قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: وأعظم أَهْل النار حجابهم عن الله عَزَّ وَجَلَّ وإبعادهم عَنْهُ، وإعراضه عنهم، وسخطه عَلَيْهمْ كما أن رضوان الله على أَهْل الْجَنَّة أفضل من كُلّ نعيم الْجَنَّة وتجليه لَهُمْ ورؤيتهم إياه، أعظم مِنْ جَمِيعِ أنواع نعيم الْجَنَّة، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} فذكر تَعَالَى لَهُمْ ثلاثة أنواع من الْعَذَاب: حجابهم عَنْهُ، ثُمَّ صليهم الجحيم، ثُمَّ توبيخهم بتكذيبهم به في الدُّنْيَا، ووصفهم بالران على قُلُوبهمْ، وَهُوَ صدأ الذُّنُوب الَّذِي اسودت به قُلُوبهمْ، فلم يصل إليها بعد ذَلِكَ في الدُّنْيَا شَيْء من معرفة الله، ولا من إجلاله ومهابته، وخشيته ومحبته، فكما حجبت قُلُوبهمْ في الدُّنْيَا عن الله حجبوا في الآخِرَة عن رؤيته، وهَذَا بخلاف حال أَهْل الْجَنَّة، قال تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} والَّذِينَ أحسنوا هم أَهْل الإحسان والإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) كما فسره النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله عَنْهُ جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فجعل جزاء الإحسان الحسنى - وَهُوَ الْجَنَّة - والزيادة - وهي النظر إلى وجه الله عَزَّ وَجَلَّ - كما فسره بذَلِكَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صهيب وغيره. انتهى.
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين اللهم يا مقلب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/500)
وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
... أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِي الإِيمَانِ
يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ
يَا أَهْلَهَا لَكُمُ لَدَى الرَّحْمَنُ وَعْـ
ـدُ هُوَ مُنْجِزُهُ لَكُمْ بِضَمَانِ
قَالُوا أَمَا بَيَّضْتَ أَوْجُهَنَا كَذَا
أَعْمَالَنَا ثَقَّلْتَ فِي الْمِيزَانِ
وَكَذَاكَ قَدْ أَدْخَلْتَنَا الْجَنَّاتِ حِيـ
ـنَ أَجَرْتَنَا مِنْ مَدْخَلِ النِّيرَانِ
فَيَقُولُ عِنْدِي مَوْعِدٌ قَدْ آنَ أَنْ
أُعْطِيكُمُوهُ بِرَحْمَتِي وَحَنَانِي
فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ كَشْفِ حِجَابِهِ
جَهْرًا رَوَى ذَا مُسْلِم بِبَيَانِ
وَلَقَدْ أَتَانَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اللَّذَيْ
نِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ قُرْآنِ
بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ جَرِيرٍ الْـ
ـبجَلِيِّ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ
أَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ
رُؤْيَا الْعِيَانَ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ
فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ كُلَّ وَقْتٍ فَاحْفَظُوا الْـ
ـبَرْدَيْنِ مَا عِشْتُمْ مَدَى الأَزْمَانِ ... ?(5/501)
.. وَلَقَدْ رَوَى بِضْعٌ وَعِشْرُونَ امْرُوءٌ
مِنْ صَحْبِ أَحْمَدِ خَيْرَةِ الرَّحْمَنِ
أَخْبَارَ هَذَا الْبَابِ عَمَّنْ قَدْ أَتَى
بِالْوَحْيِ تَفْصِيلاً بِلا كِتْمَانِ
وَأَلَذُّ شَيْءٍ لِلْقُلُوبِ فَهِذِهِ الْـ
أَخْبَارُ مَعَ أَمْثَالِهَا هِيَ بَهْجَةُ الإِيمَانِ
وَاللهِ لَوْلا رُؤْيَةُ الرَّحْمَنِ فِي الْـ
جَنَّاتٍ مَا طَابَت لِذِي الْعِرْفَانِ
أَعْلَى النَّعِيمِ نَعِيمُ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ
وَخِطَابُه فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ
وَأَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْعَذَابِ حِجَابُهُ
سُبْحَانَهُ عَنْ سَاكِنِي النِّيرَانِ
وَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ نَسُوا الَّذِي
هُمْ فِيهِ مِمَّا نَالَتِ الْعَيْنَانِ
فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى
لَذَّاتِهِمْ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ
فَلَهُمْ نَعِيمٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سِوَى
هَذَا النَّعِيمِ فَحَبَذَا الأَمْرَانِ
أَوَ مَا سَمِعْتَ سُؤَالَ أَعْرفِ خَلْقِهِ
بِجَلالِهِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ ... ?(5/502)
.. شَوْقًا إليه وَلَذَّةِ النَّظَرِ الَّذِي
بِجَلالِ وَجْهِ الرَّبِّ ذِي السُّلْطَانِ
فَالشَّوْقُ لَذَّةٌ رُوُحه فِي هَذِهِ الدُّ
نْيَا وَيَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَانِ
تَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ الَّذِي فَازَتْ بِهِ
دُونَ الْجَوَارِحِ هَذِهِ الْعَيْنَانِ
وَاللهِ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَلَـ
ـذُّ مِنْ اشْتِيَاقِ الْعَبْدِ لِلرَّحْمَنِ
وَكَذَاكَ رُؤْيَةُ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ
هِيَ أَكْمَلُ اللَّذَاتِ لِلإِنْسَانِ ... ?
اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك والوفاء بعهدك فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفاك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
عباد الله وقَدْ سبق ذكر النار وأهوالها، وغمومها وأنكالها وطباقتها، وشراب أهلها وطعامهم، وما إلى ذَلِكَ مِمَّا أعده الله جَلَّ وَعَلا لأهلها من أنواع الْعَذَاب الأليمِ الأبدي السرمدي أعاذنا الله وإياكم وَجَمِيع(5/503)
المسلمين منها، ويقابلها دار أخرى دار قرار ونعيم، وسرور وحبور، وأمن وصحة، وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مِمَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، دار جعلها الكريم الرحيم الغافر الجواد الماجد، دار ضيافة يكرم فيها عباده الأخيار الَّذِينَ وفقهم الله لخدمته والْعَمَل بطاعته، ولا تظنن هذه الضيافة فيها محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي، بل الكرامة كُلّ ما تحبه وتتمناه أمامك، إن كنت ممن سبقت له من الله الحسنى.
فاستثر الخوف من قلبك، بطول فكرك في أصحاب جهنم، وفي أحوالهم وتقلباتهم، وحسرتهم، وندامتهم على تفريطهم، واذكر طعامهم وشرابهم، وألوان عذابهم وخلودهم، واستثر الرجَاءَ، بطول فكرك فيما أعده الله لأولياءه وأصفيائه في دار كرامته من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم الموعود لأَهْل الْجَنَّة، جعلنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين ممن يحلها، وسق نفسك بسوط الخوف، وقدها بزمام الرجَاءَ إلى الصراط المستقيم لتنال الملك العَظِيم، وتسلم من الْعَذَاب الأليمِ، وتفكر في قدوم أَهْل الْجَنَّة، وما يلاقون من الحفاوة والتكريم، وما يُقَالُ لَهُمْ عَنْدَ قدومهم.
قال تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} إلى قوله: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا أحوال الأشقياء، وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال والكروب والشدائد، أردف ذَلِكَ بذكر أحوال السعداء، وما(5/504)
يلاقونه إذ ذاك من النَّعِيم، وما يُقَالُ لَهُمْ والمراد بالسوق هنا الإسراع بِهُمْ إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، بخلاف السوق المتقدم في حق الكفار، فإنه طردهم إلى الْعَذَاب والذل والهوان، كما يفل بالمجرم الأسير إذا سيق إلى السجن أو القتل فشتان ما بين السوقين {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} المعنى أنهم إذا وصلوا إليها وقَدْ فتحت أبوابها لَهُمْ كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف عَنْدَ قدومه، وتقف له منتظرة حضوره فرحًا واستبشارًا لقدومه، فرحوا بما أفاء الله عَلَيْهمْ من النَّعِيم، وبما شاهدت أعينهم مِمَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثُمَّ أخبر جَلَّ وَعَلا أن خزنة الْجَنَّة يسلمون على الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ عز من قائل: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فبدؤهم بالسلام، التضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتم فلا يلقكم بعد اليوم ما تكرهون ثم قالوا لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} .
أي سلامتكم ودخولكم بطيبكم، فإن الله حرمها إِلا على الطيبين، فبشروهم بالسلامة والطيب، والدخول والخلود، ثُمَّ أخبر عما يقوله المؤمنون إذا عاينوا ذَلِكَ النَّعِيم الْمُقِيم والعطاء الجزيل بعد دخولهم واستقرارهم، حامدين لله على ما أولاهم ومن به عَلَيْهمْ وهداهم له، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} ونحو هذه الآيَة {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} .
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات(5/505)
وارفع منازلنا في فسيح الجنات وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قال ابن القيم:
... أَبْوَابُهَا حَقُّ ثَمَانِيَةٌ أَتَتْ
فِي النَّصِّ وَهِيَ لِصَاحِبِ الإِحْسَانِ
بَابُ الْجِهَادِ وَذَاكَ أَعْلاهَا وَبَا
بُ الصَّوْمِ يُدْعَى الْبَابُ بِالرَّيَّانِ
وَلِكُلِّ سَعْيٍ صَالِحٍ بَابُ وَرَ
بُ السَّعْيِ مِنْهُ دَاخِلٌ بِأَمَانِ
وَلَسَوْفَ يُدْعَى الْمَرْءُ مِنْ أَبْوَابِهَا
جَمْعًا إِذَا وَافَى حُلَى الإِيمَانِ
مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الصِّدِّيقُ ذَا
كَ خَلِيفَةُ الْمُبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ ... ?
وتفكر في وجوه أَهْل الْجَنَّة التي أخبر الله عَنْهَا بقوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي بهاءه ونضارته ورونقه فإن توالي اللذات والمسرات والأفراح يكسب الوجه نورًا وحسنًا، وبهجة وإشراقًا، تبرق منه أسارير الوجه.
ثُمَّ أخبر جَلَّ وَعَلا عما يسقاه الأَبْرَار من الشراب الطيب اللذيذ، فَقَالَ: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ} الرحيق من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد. وَقَالَ الإمام أَحَمَد: حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعيد عن أبي المحاصر الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قَدْ رفعه إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما مُؤْمِن(5/506)
سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مُؤْمِن أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله من ثمار الْجَنَّة، وأيما مُؤْمِن كسا مؤمنًا ثوبًا على عُرْيٍ كساه الله من خضر الْجَنَّة» ، وقوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي خلطه مسك.
وعن أبي الدرداء: هُوَ شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم، ولو أن رجلاً من أَهْل الدُّنْيَا أدخل أصبعه فيه ثُمَّ أخرجها، لم يبق ذو روح إِلا وَجَدَ طيبها، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المعنى - وَاللهُ أَعْلَمُ - وفي مثل هَذَا الحال فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى المتباهْوَن، ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون، كقوله تَعَالَى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} ، وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} المعنى أن هَذَا الشراب الموصوف المختوم بالمسك: يفض ختمه، ثُمَّ يمزج بشَيْء من هذه العين المسماة {تَسْنِيمٍ} التي {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَهُوَ أشرف شراب أَهْل الْجَنَّة وأعلاه، قاله أبو صالح، والضحاك. ولهَذَا قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي يشربها المقربون، وقيل: يشرب منها المقربون، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطَافُ عَلَيْهمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَأَنْتَ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} بعد ما أخبر جَلَّ وَعَلا أنه وقاهم شر ذَلِكَ اليوم، فلا يحزنهم الفزع الأكبر، وأنه لقاهم نضرة في وجوههم، وَسُرُورًا في قُلُوبهمْ، فجمَعَ لَهُمْ بين النَّعِيم الظاهر، والنَّعِيم الباطن، وأنه {جَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، وأنهم في جلسة مريحة مطمئنة، والجو حولهم رخاء ناعم، دافئ في غير حر نَدِيِ، في غير برد، فلا شمس تلهب،(5/507)
ولا برد يقرس، وقريبة أغصانها وثمارها من مريدها يناله قاعدًا أو قائمًا، أخبر عما يدور به الولدان والخدم، من الطعام والشراب الَّذِي عَلَى قَدْرِ ريهم، لا يزيد عَنْهُ ولا ينقص، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ واصفًا لطعامهم وشرابهم:
... وَطَعَامُهُمْ مَا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُهُمْ
وَلُحُومُ طَيْرٍ نَاعِمٍ وَسِمَانِ
وَفَوَاكِهٌ شَتَّى بِحَسْبِ مُنَاهُمُ
يَا شِبْعَة كَمُلَتْ لِذِي الإِيمَانِ
لَحْمٌ وَخَمْرٌ وَالنِّسَا وَفَوَاكِهٌ
وَالطِّيبُ مَعْ رُوحٍ وَمَعْ رَيْحَانِ
وَصِحَافُهُمْ ذَهَبٌ تَطُوفُ عَلَيْهِمْ
بِأَكَفِّ خُدَّامٍ مِن الْوِلْدَانِ
وَانْظُرْ إِلَى جَعْلِ اللَّذَاذَةِ لِلْعُيُو
نِ وَشَهْوَةٍ لِلنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ
لِلْعَيْنِ مِنْهَا لَذَّةٌ تَدْعُو إِلَى
شَهَوَاتِهَا بِالنَّفْسِ وَالأَمْرَانِ
سَبَبُ التَّنَاوُلِ وَهُوَ يُوجِبُ لَذَّةً
أُخْرَى سِوَى مَا نَالَتِ الْعَيْنَانِ ... ?
اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين.
اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادانَا وفي دينك(5/508)
اجتهادنا وعَلَيْكَ توكلنا واعتمادنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} هَذَا الكلام استئناف مسوق لشرح محاسن الْجَنَّة الموعود بها الْمُؤْمِنِين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إليها وأنها تجري من تحتهم، فَقَالَ - مفسرًا لذَلِكَ - {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} أي غير متغيرة الطعم والريح واللون، بل هُوَ أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها وألذها شربًا والثاني: {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لا بحموضة ولا غيرها.
الثالث: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} لم تدنسها الأرجل، ولم تكدرها الأيدي، ولَيْسَ فيها كراهة طعم ولا ريح ولا غائلة سكر، بل يلتذ شاربها لذة عظيمة، لا كخمر الدُّنْيَا التي يكره مذاقها، وتصدع الرأس، وتزيل العقل.
والرابع: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي قَدْ صفي عن القذى والوسخ، وما يكون في عسل الدُّنْيَا قبل تصفيته من الشمَعَ، وفضالات النحل وغيرها، وبدئ بالماء لأنه لا يستغنى عَنْهُ في الدُّنْيَا، ثُمَّ باللبن لأنه يجري مجرى الطعام لكثير من الْعَرَب في غالب أوقاتهم، ثُمَّ بالخمر، لأنه إذا حصل(5/509)
الري والشبع تشوَقْت النفس لما يستلذ به، ثُمَّ بالعسل لأن فيه الشفاء في الدُّنْيَا مِمَّا يمرض من المطعوم والمشروب.
الخامس: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ} أي ولهم في الْجَنَّة أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال، من نخيل وأعناب، وتفاح ورمان وتين وغير ذَلِكَ، مِمَّا لا نظير له في الدُّنْيَا: وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في شراب أَهْل الْجَنَّة:
... يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرٍ لَذِيذِ شُرْبُهَا
بِالْمِسْكِ أَوَّلَهُ كَمِثْلِ الثَّانِي
مَن خَمْرَةٍ لَذَّتْ لِشَارِبِهَا بِلا
غَوْلٍ وَلا دَاءٍ وَلا نُقْصَانِ
وَالْخَمْرُ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا وَصْفُهَا
تَغْتَالُ عَقْلَ الشَّارِبِ السَّكْرَانِ
وَبِهَا مِن الأَدَّوَاءِ مَا هِيَ أَهْلُهُ
وَيُخَافُ مِنْ عَدَمِ لِذِي الْوِجْدَانِ
فَنَفَى لَنَا الرَّحْمَنُ أَجْمَعَهَا عَنْ الْـ
ـخَمْر الَّتِي فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ
وَشَرَابُهُمْ مِنْ سَلْسَبِيلِ مَزْجُهُ الْـ
ـكَافُورُ ذَاكَ شَرَابُ ذِي الإِحْسَانِ
هَذَا شَرَابُ أُولِي اليمِين وَلَكِنْ الْـ
أَبْرَارُ شُرْبُهُمْ شَرَابُ ثَانِي ... ?(5/510)
.. يُدْعَى بِتَسْنِيمٍ سَنَامُ شَرَابِهِمْ
شُرْبٌ الْمُقَرَّبِ خِيرَةِ الرَّحْمَنِ
صَفَّى الْمُقَرَّبُ سَعْيَهُ فَصَفَا لَهُ
ذَاكَ الشَّرَابُ فَتِلْكَ تَصْفِيَتَانِ
لَكِنَّ أَصْحَابَ الْيَمينِ فَأَهْلُ مَزْ
جٍ بِالْمُبَاحِ وَلَيْسَ بِالْعِصْيَانِ
مُزِجَ الشَّرَابُ لَهُمْ كَمَا مَزَجُوا هُمُ
أَعْمَالَ ذَاكَ الْمَزْجُ بِالْمِيزَانِ
هَذَا وَذُو التَّخْلِيطِ مَزْجًا أَمْرُهُ
وَالْحُكْمُ فِيهِ لِرَبِّنَا الدَّيَّانُ ... ?
اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأَرْض اللَّهُمَّ وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة، واغفر لنا بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قال تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثُمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا وصف أواني مشروبهم، ووصف مشروبهم، ذكر أوصاف السقاة الَّذِينَ يسقونهم ذَلِكَ الشراب، وأنهم ولدان من ولدان الْجَنَّة، يأتون على ما هم عَلَيْهِ من الشباب والطراوة والنظارة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة، وإنك إذا رَأَيْت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم لؤلؤًا(5/511)
منثورًا، ولما ذكر جَلَّ وَعَلا نعيم أَهْل الْجَنَّة، ذكر أن هناك أمور عالية عظيمة، يعني في الْجَنَّة وسعتها وارتفاعها، وما فيها من المساكن، والغرف المزينة المزخرفة، مِمَّا لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه الشهية، ولحوم الطيور الطرية، والأنهار التي قال الله جَلَّ وَعَلا عَنْهَا: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ} .
وَقَالَ في سورة الواقعة - مخبرًا عما هم فيه من النَّعِيم وأنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مؤنة ما يريدون -: {يَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} وبعد وصف الشراب، وصف جَلَّ وَعَلا الطعام، فَقَالَ: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} ثُمَّ بعد ذكر الطعام والشراب ذكر نساءهم فَقَالَ: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} .
ثُمَّ ذكر السبب في متعتهم بكل هَذَا النَّعِيم فَقَالَ: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكما حسنت مِنْهُمْ الأعمال، أحسن الله لَهُمْ الجزاء، ووفر لَهُمْ الفوز والنَّعِيم، فجازاهم على ما عملوا وأثابهم بما كسبوا في الدُّنْيَا، وزكوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء فرائضه على أتم الوجوه وأكملها، فهم كَانُوا قوامين الليل، صوامين النَّهَارَ {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
... وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ مُوَحِّدٍ ... مُلازَمِ ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةِ
لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ ... وَذُو رَغْبَةٍ فِيمَا يُؤَدِّي لِجَنَّةِ(5/512)
وبعد أن وصف نساءهم وصف جَلَّ وَعَلا حديثهم حينئذٍ فَقَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} ، أي: لا يسمعون في الْجَنَّة اللغو أي الهراء من الْحَدِيث، ولا هجر القول، ما تتقزز منه النُّفُوس الراقية، ذات الأَخْلاق العالية ولا يسمعون كلامًا يؤثم صاحبه، ولكن يسمعون أطيب الكلام وَهُوَ التسليم من بَعْضهمْ على بعض، وَذَلِكَ أنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إِلا كُلّ طيب، وهَذَا دَلِيل على حسن أدب أَهْل الْجَنَّة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب السَّلام، وسامي الكلام، مِمَّا يستساغ، كما قال تَعَالَى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثُمَّ بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم في جنات النَّعِيم، أردف ذَلِكَ بذكر أصحاب اليمين فَقَالَ: {وَأَصْحَابُ اليمين مَا أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِّأَصْحَابِ اليمين} . ففيها كُلّ ما تشتهيه النُّفُوس، وتلذ الأعين به، من مطاعم ومشارب، وملابس ومناكح، ومناظر حسنة، ويرى فيها الأشجار الملتفة، والمباني المزخرفة، ويرى فيها الرياض المعجبة، والطيور المطربة المشجية، ما يأخذ بالقُلُوب، ويسر النُّفُوس ويفرحها، وتجد الواحد عنده من الزوجات اللآتي في غاية الجمال، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، اللآتي قال الله عنهم: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} ما يملأ الْقَلْب سرورًا ولذة وفرحًا، وعنده(5/513)
من الخدم والغلمان المخلدين ما به تحصل الرَّاحَة وَالطُّمَأْنِينَة والأُنْس، وتتم به لذة العيش، وتكمل به الغبطة، وفوق ذَلِكَ رضى بديع السماوات والأَرْض، وسماع كلامه، ولذة القرب منه، والابتهاج والسرور برضاه، والخلود الدائم الأبدي، الخالي من المكدرات والمنغصات، وتزايد ما هم فيه من النَّعِيم الْمُقِيم، والعيش السَّلِيم، كُلّ وَقْت وحين، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ - في صفة عرائس الْجَنَّة، وحسنهن وجمالهن، ولذة وصالهن ومهورهن:
يا مَنْ يَطُوفُ بِكَعْبَةِ الْحُسْنِ الَّتِي
حُفَّتْ بِذَاكَ الْحِجْرِ وَالأَرْكَانِ
وَيَظَلُّ يَسْعَى دَائِمًا بَيْنَ الصَّفَا
وَمُحَسِّرٌ مَسْعَاهُ لا الْعَلَمَانِ
وَيَرُومُ قُرْبَانَ الْوِصَالِ عَلَى مِنَى
وَالْخَيْفُ يَحْجِبُهُ عَنِ الْقُرْبَانِ
فَلِذَا تَرَاهُ مُحْرِمًا أَبَدًا وَمَوْ
ضِعُ حِلِّهِ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَانِي
يَبْغِي التَّمَتُعَ مُفْرَدًا عَنْ حِبِّهِ
مُتَجَرِّدًا يَبْغِي شَفِيعَ قِرَانِ
فَيَظَلُّ بِالْجَمَرَاتِ يَرْمِي قَلْبَهُ
هَذِي مَنَاسِكُهُ وَكُلُّ زَمَانِ
وَالنَّاسُ قَدْ قَضَّوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَدْ
حَثُوا رَكَائِبَهُمْ إِلَى الأَوْطَانِ ... ?(5/514)
ج
... وَخَدَتْ بِهِمْ هِمَمٌ لَهُمْ وَعَزَائِمُ
نَحْوَ الْمَنَازِلَ أَوَّلَ الأَزْمَانِ
رُفِعَتْ لَهُمْ فِي السَّيْرِ أَعْلامُ الْوِصَا
لِ فَشَمِّرُوا يَا خَيْبَةَ الْكَسْلانِ
وَرَأَوا عَلَى بُعْدٍ خِيَامًا مُشْرِفَا
تٍ مُشْرِقَاتِ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ
فَتَيَمَّمُوا تِلْكَ الْخِيَامَ فَآنَسُوا
فِيهِنَّ أَقْمَارًا بِلا نُقْصَانِ
مِنْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لا تَبْغِي سِوَى
مَحْبُوبِهَا مِنْ سَائِرِ الشُّبَّانِ
قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهَا مِنْ حُسْنِهِ
وَالطَّرْفُ فِي ذَا الْوَجْهِ لِلنَّسْوَانِ
أَوْ أَنَّهَا قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهُ
مِنْ حُسْنِهَا فَالطَّرْفُ لِلذُّكْرَانِ
وَالأَوَّلُ الْمَعْهُودُ مِنْ وَضْعِ الْخِطَا
بِ فَلا تَحُدْ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ
وَلَرُبَّمَا دَلَّتْ إِشَارَتُه عَلَى الثَّـ
ـانِي فَتِلْكَ إِشَارَةٌ لِمَعَانِي
هَذَا وَلَيْسَ الْقَاصِرَاتُ كَمَنْ غَدَتْ
مَقْصُورَةً فَهُمَا إِذًا صِنْفَانِ ... ?(5/515)
.. يَا مُطْلِقَ الطَّرْفِ الْمُعَذَّبِ فِي الأُلَى
جُرِّدْنَ عَنْ حُسْنٍ وَعَنْ إِحْسَانِ
لا تَسْبِينَّكَ صُورَةٌ مِنْ تَحْتِهَا الدَّ
اءُ الدَّفِينُ تَبُوءُ بِالْخُسْرَانِ
قَبُحَتْ خَلائِقُهَا وَقُبِّحَ فِعْلُهَا
شَيْطَانَةٌ فِي صُورَةِ الإِنْسَانِ
تَنْقَادُ لِلأَنْذَالِ وَالأَرْذَالِ هُمْ
أَكْفَاؤُهَا مِنْ دُونِ ذِي الإِحْسَانِ
مَا ثُمَّ مِنْ دِينٍ وَلا عَقْلٍ وَلا
خُلُقٍ وَلا خَوْفٍ مِن الرَّحْمَنِ
وَجَمَالُهَا زُورٌ وَمَصْنُوعٌ فَإِنْ
تَرَكْتُهُ لَمْ تَطْمَح لَهَا الْعَيْنَانِ
طُبِعَتْ عَلَى تَرْكِ الْحِفَاظِ فَمَا لَهَا
بِوَفَاءِ حَقِّ الْبَعْلِ قَطُ يَدَانِ
إِن قَصَّرَ السَّاعِي عَلَيْهَا سَاعَةً
قَالَتْ وَهَلْ أَوْلَيْتَ مِنْ إِحْسَانِ
أَوْ رَامَ تَقْوِيمًا لَهَا اسْتَعْصَتْ وَلَمْ
تَقْبَلَ سِوَى التَّعْوِيجِ وَالنُّقْصَانِ
أَفْكَارُهَا فِي الْمَكْرِ وَالْكيدِ الَّذِي ... ?(5/516)
.. قَدْ حَارَ فِيهِ فِكْرَةُ الإِنْسَانِ
فَجَمَالُهَا قِشْرٌ رَقِيقٌ تَحْتَهُ
مَا شِئْتَ مِنْ عَيْبٍ وَمِنْ نُقْصَانِ
نَقْدٌ رَدِيءٌ فَوْقَهُ مِنْ فِضَّةٍ
شَيْءٌ يُظَنُّ بِهِ مِنْ الأَثْمَانِ
فَالنَّاقِدُونَ يَرَوْنَ مَاذَا تَحْتَهُ
وَالنَّاسُ أَكْثَرْهُم مِن الْعُمْيَانِ
أَمَّا جَمِيلاتُ الْوُجُوهِ فَخَائِنَا
تُ بُعُولَهنَّ وَهُنَّ لِلأَخْدَانِ
وَالْحَافِظَاتُ الْغَيْبِ مِنْهُنَّ الَّتِي
قَدْ أَصْبَحَتْ فَرْدًا مِنْ النّسْوَانِ
فَانْظُرْ مَصَارِعَ مَنْ يَلِيكَ وَمَنْ خَلا
مِنْ قَبْلُ مِن شَيْبٍ وَمِنْ شُبَّانِ
وَارْغَبْ بِعَقْلِكَ أَنْ تَبِيعَ الْغَالِي الْـ
بَاقِي بِذَا الأَدْنَى الَّذِي هُوَ فَانِي
إِنْ كَانَ قَدْ أَعْيَاكَ خُودٌ مِثْلَ مَا
تَبْغِي وَلَمْ تَظْفَرْ إِلَى ذَا الآنِ
فَاخْطُبْ مِنَ الرَّحْمَنِ خُودًا ثُمَّ قَدِّ
مْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ
ذَاكَ النِّكَاحُ عَلَيْكَ أَيْسَرُ إِنْ يَكُنْ ... ?(5/517)
.. لَكَ نِسْبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالإِيمَانِ
وَاللهِ لَمْ تُخْرَجْ إِلَى الدُّنْيَا لِلَّذْ
ةِ عَيْشِهَا أَوْ لِلْحُطَامِ الْفَانِي
لَكِنْ خَرَجْتَ لِكَيْ تُعِدَّ الزَّادَ لِلْـ
أُخْرَى فَجِئْتَ بِأَقْبَحِ الْخُسْرَانِ
أَهْمَلْتَ جَمْعَ الزَّادِ حَتَّى فَاتَ بَلْ
فَاتَ الَّذِي أَلْهَاكَ عَنْ ذَا الشَّانِ
وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْقُلُوبَ سَلِيمَةٌ
لِتَقَطَّعَتْ أَسَفًا مِن الْحُرْمَانِ
لَكِنَّهَا سَكَرَى بِحُبِّ حَيَاتِهَا الدُّ
نْيَا وَسَوْفَ تَفِيقُ بَعْدَ زَمَانِ ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات وجنبنا الخطايا والذُّنُوب الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وألهمنا ذكرك في جَمِيع الأوقات وزحزحنا عن النار وأدخلنا فسيح الجنات يا رفيع الدرجات.
اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا مِنْ حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين. وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وبعد أن وصف الله جَلَّ وَعَلا شراب أَهْل الْجَنَّة وآنيته، وما هم فيه من النَّعِيم، وصف ملابسهم بقوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} وذكر بعده حليهم فَقَالَ: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر يَقُولُ(5/518)
جَلَّ وَعَلا: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
وَقَالَ في الآيَة الأخرى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} إلخ، وَقَالَ عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ففي آية سورة الدخان ذكر جَلَّ وَعَلا من ضروب نعيمهم خمسة ألوان:
1- مساكنهم فَقَالَ: {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} والمسكن الطيب يطيب بأمرين:
(أ) أن يكون الساكن فيه آمنًا مِنْ جَمِيعِ ما يخافه ويحذر منه، وَهُوَ المقام الأمين.
(ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون، وَذَلِكَ في قوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
2- ملابسهم، وهي التي ذكرها بقوله: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} .
3- استئناس بَعْضهمْ ببعض، بجلوسهم على جهة التقابل وَهُوَ ما أشار إليه بقوله: {مُّتَقَابِلِينَ} .(5/519)
4- الأزواج وَهُوَ المشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} .
5- المأكول كما في قوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} هَذَا جزاء المتقين لله، الَّذِينَ تجنبوا ما يسخطه من المعاصي، وفعلوا ما يرضيه من الطاعات، وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم، بين أن حياتهم في هَذَا النَّعِيم مستمرة دائمة لا يلحقها موت ولا فناء ولا انقطاع فَقَالَ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، فلا يخشون في الْجَنَّة موتًا ولا فناءًا أبدًا، ففي الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الْجَنَّة والنار، ثُمَّ يذبح ثُمَّ يُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت» . وروى أَبُو هُرَيْرَةِ وأبو سعيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يُقَالُ لأَهْل الْجَنَّة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» . رواه مسلم.
ومَعَ هَذَا النَّعِيم، فقَدْ نجاهم من عذاب الجحيم، تفضلاً منه وإحسانَا، فأعطاهم ما يطلبون، ونجاهم مِمَّا يرهبون وهَذَا هُوَ الفلاح والفوز العَظِيم.
قال ابن القيم:
... أَوَ مَا سَمِعْتَ بِذَبْحِهِ لِلْمَوْتِ بَيْـ
نَ الْمَنْزِلَيْنِ كَذَبْحِ كَبْشِ الضَّانِ ... ?(5/520)
.. حَاشَا لِذَا الْمَلَكِ الْكَرِيمِ وَإِنَّمَا
هُوَ مَوْتُنَا الْمَحْتُومُ لِلإِنْسَانِ
وَاللهُ يُنْشِىءُ مِنْهُ كَبْشًا أَمْلَحًا
يَوْمَ الْمَعَادِ يُرَى لَنَا بِعِيَانِ ... ?
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
... هَذَا وَخَاتِمَةُ النَّعِيمِ خُلُودُهُم
أَبَدًا بِدَارِ الأَمْنِ وَالرِّضْوَانِ
أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِيَ الإِيمَانِ
يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِيهِمْ بِحُسْنِ بَيَانِ
لَكُمُ حَيَاةٌ مَا بِهَا مَوْتٌ وَعَا
فِيَةٌ بِلا سُقْمٍ وَلا أَحْزَانِ
وَلَكُمْ نَعِيمٌ مَا بِهِ بُؤْسٌ وَمَا
لِشَبَابِكُمْ هَرَمٌ مَدَى الأَزْمَانِ
كَلا وَلا نَوْمٌ هُنَاكَ يَكُونَ ذَا
نَوْمٌ وَمَوْتٌ بَيْنَنَا أَخَوَانِ
هَذَا عَلِمْنَاهُ اضْطِرَارًا مِنْ كِتَا
بِ اللهِ فَافْهَمْ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ ... ?
ونعود إلى لباس أَهْل الْجَنَّة والكلام عَلَيْهِ.
فلباس أَهْل الْجَنَّة في الْجَنَّة الحرير، ومنه سندس، وَهُوَ رفيع(5/521)
الديباج، للقمصان والغلائل ونحوها مِمَّا يلي أبدانهم، والاستبرق هُوَ غليظ الديباج لامعه، مِمَّا يلي الظاهر، كما هُوَ المعهود في لباس الدُّنْيَا، وأما الحل فقيل: إن صفة حلي الأَبْرَار أنه من فضة وصفة حلي المقربين من الذهب، وقيل: لأن أَهْل الْجَنَّة يلبسون هَذَا تَارَّة، والآخِر تَارَّة، وقَدْ يجمعون بينهما. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ بعد ذَلِكَ ذكر جَلَّ وَعَلا وتقدس أنهم يسقون شرابًا آخر طهورًا، قيل: طاهرٌ من الأقذار والأقذاء، لم تدنسه الأيدي والأرجل، كخمر الدُّنْيَا وقيل إنه لا يصير بولاً نجسًا ولكنه يصير في أبدانهم كريح المسك، وَذَلِكَ أنهم يؤتون بالطعام فيأكلون، فإذا كَانَ آخر ذَلِكَ أتوا بالشراب الطهور فيشربون، فتطهر بطونهم، ويصير ما أكلوا رشحًا، يخَرَجَ من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم، وتعود شهوتهم، وَقَالَ مقاتل: هُوَ عين ماء على باب الْجَنَّة، من شرب منها نزع الله ما في قَلْبهُ من غل وغش وحسد. وعن أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: إذا انتهى أَهْل الْجَنَّة إلى باب الْجَنَّة وجدوا هنالك عينين، فكأنما ألهموا ذَلِكَ، فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثُمَّ اغتسلوا من الأخرى فجرت عَلَيْهمْ نضرة النَّعِيم، فأخبر سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بحالهم الظاهر، وجمالهم الباطن، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} في هذه الآيات يخبر جَلَّ وَعَلا عن أَهْل الْجَنَّة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل مفكة للنفس، ملذٍ لها، من كُلّ ما تهواه(5/522)
النُّفُوس، وتلذه العيون. قال الحسن البصري وإسماعيل بن خالد: في شغل عما فيه أَهْل النار من الْعَذَاب. وَقَالَ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي: شغلهم افتضاض الأبكار.
والخلاصة أن من يدخل الْجَنَّة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذَلِكَ في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأنى له أن يفكر فيما سواه وَهُوَ بذَلِكَ فرح مستبشر، ضحوك السن، هادئ البال، لا يرى شَيْئًا يغمه أو ينغص عَلَيْهِ حبوره وسروره.
... وَلَقَدْ رُوِينَا أَنَّ شُغْلَهُم الَّذِي ... قَدْ جَاءَ فِي يَس دُونَ بَيَانِ
شُغْلُ الْعَرُوسِ بِعُرْسِهِ مِنْ بَعْدِمَا ... عَبِثَتْ بِهِ الأَشْوَاقُ طُولَ زَمَانِ
بِاللهِ لا تَسْأَلْهُ عَنْ أَشْغَالِهِ ... تِلْكَ اللَّيَالِي شَأْنُهُ ذُو شَانِ
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً بِصَبٍّ غَابَ عَنْ ... مَحْبُوبِهِ فِي شَاسِعِ الْبُلْدَانِ
وَالشَّوْقُ يُزْعِجُهُ إليه وَمَا لَهُ ... بِلِقَائِهِ سَبِبٌ مِن الإِمْكَانِ
وَافَى إليه بَعْدَ طُولِ مَغِيبِهِ ... عَنْهُ وَصَارَ الْوَصْلُ ذَا إِمْكَانِ
أَتَلُومُهُ أَنْ صَارَ ذَا شُغْلٍ بِهِ ... لا وَالَّذِي أَعْطَى بِلا حُسْبَانِ
يَا رَبُّ غَفْرًا قَدْ طَغَتْ أَقْلامُنَا ... يَا رَبُّ مَعْذِرَةً مِنَ الطُّغْيَانِ
اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين. اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/523)
(فَصْلٌ)
قال تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} يذكر جَلَّ وَعَلا ما يتلقى به عباده الْمُؤْمِنِين، الْمُتَحَابِّينَ فيه، تشريفًا لَهُمْ وتكريمًا، وتسكينًا لروعهم، مِمَّا يكون في ذَلِكَ اليوم من الأهوال والكروب والشدائد، فَقَالَ: {يَا عِبَادِ} الآيَة. ثُمَّ بين من يستحق هَذَا الندا فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فعِنْدَمَا يسمَعَ النَّاس المنادي ينادي بالآيَة الأولى، وهي قوله: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} يرجوها النَّاس كلهم فإذا سمعوا الآيَة التي تليها يئس النَّاس منها غير الْمُؤْمِنِين ثُمَّ ذكر ما يُقَالُ لَهُمْ على سبيل البشرى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} وبعد ذَلِكَ ذكر طرفًا مِمَّا يتنعمون به من النَّعِيم، فَقَالَ: {يُطَافُ عَلَيْهمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي وبعد أن يستقروا بالْجَنَّة، ويهدأ روعهم، تدور عَلَيْهمْ خدامهم من الولدان المخلدين بصحاف من الذهب، مترعة بألوان الأطعمة، وبأكواب فيها أصناف الشراب مِمَّا لذ وطاب.
وعن أنس قال: كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه الرؤيا، فيسأل عَنْهُ إذا لم يكن يعرفه، فإذا أُثْنِيَ عَلَيْهِ معروف كَانَ أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ رأيت(5/524)
كأني أتيت، فأخرجت من الْمَدِينَة، فأدخلت الْجَنَّة، فسمعت وجبة انفتحت لها الْجَنَّة، فنظرت فإذا فلان وفلان وفلان، فسمت اثني عشر رجلاً كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بعثهم في سرية قبل ذَلِكَ، فجيء بِهُمْ عَلَيْهمْ ثياب طلس، تشخب أوداجهم، فقيل: اذهبوا بِهُمْ إلى نهر البيذخ، قال: فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من ذَلِكَ البسر ما شاءوا، فما يقلبونها من وجه إِلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم، فَجَاءَ البشير من تلك السرية، فَقَالَ: أصيب فلان، وفلان، حتى عد اثني عشر رجلاً، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرأة فَقَالَ: «قصي رؤياك» فقصتها وجعلت تَقُول: جيء بفلان، وفلان كما قال. رواه الإمام أَحَمَد في مسنده بنحوه وإسناده على شرط مسلم.
وبعد هَذَا التفصيل لبعض ما في الْجَنَّة من نعيم، عمم ذَلِكَ فَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ففيها ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والألبسة، والأياء المعقولة والمسموعة، ونحوها مِمَّا تطلبه النُّفُوس وتهواه، كائنًا ما كَانَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا حال المجرمين المكذبين الطاغين، أعقبه بمآل المتقين، وما يفوزون به من الجنات التي وصفها، ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء منه، ففي ذكرها استنهاظ، وحث لعوالي الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على الطاعات والازدياد منها، وفي تذكر ما في هَذَا المفاز والمنجى الْبَعِيد عن النار،(5/525)
والزوجات الكواعب، اللاتي على سن واحد متقارب، ما يمنع ذا اللب من الانهماك في الدُّنْيَا ولذاتها، وقتل الأوقات في طلبها وتحصيلها.
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: فَصْلٌ فيما أعد الله لأوليائه المتمسكين بالْكِتَاب والسنة:
يَا خَاطِبَ الْحُورِ الْحِسَانِ وَطَالِبًا
لِوِصَالِهِنَّ بِجَنَّةِ الْحَيَوَانِ
لَوْ كُنْتَ تَدْرِي مَنْ خَطَبْتَ وَمَنْ طَلَبْـ
تَ بَذَلْتَ مَا تَحْوِي مِنَ الأَثْمَانِ
أَوْ كُنْتَ تَدْرِي أَيْنَ مَسْكَنُهَا جَعَلْـ
ـتَ السَّعْيَ مِنْكَ لَهَا عَلَى الأَجْفَانِ
وَلَقَدْ وَصَفْتُ طَرِيقَ مَسْكَنِهَا فَإِنْ
رُمْتَ الْوِصَالَ فَلا تَكُنْ بِالْوَانِي
أَسْرِعْ وَحُثَّ السَّيْرَ جَهْدَكَ إِنَّمَا
مَسْرَاكَ هَذَا سَاعَةً لِزَمَانِ
فَاعْشِقْ وَحَدِّثْ بِالْوِصَالِ النَّفْسَ وَابْـ
ـذِلْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ
وَاجْعَلْ صِيَامَكَ قَبْلَ لُقْيَاهَا وَيَوْ
مْ الْوَصْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانِ
وَاجْعَلْ نُعُوتَ جَمَالِهَا الْحَادِي وَسِرْ
تَلْقَى الْمَخَاوُفَ وَهِيَ ذَاتُ أَمَانِ ... ?(5/526)
.. لا يُلْهِيَنَّكَ مَنْزِلٌ لَعِبْتَ بِهِ
أَيْدِي الْبِلا مِنْ سَالِفِ الأَزْمَانِ
فَلَقَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُ كُلُّ مُسَرَّةٍ
وَتَبَدَلَتْ بَالْهَمِّ وَالأَحْزَانِ
سِجْنٌ يَضِيقُ بِصَاحِبِ الإِيمَانِ لَـ
ـكِنْ جَنَّةُ الْمَأْوَى لِذِي الْكُفْرَانِ
سُكَّانُهَا أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْبَطَا
لَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْجَسُ السُّكَّانِ
وَأَلَذُّهُمْ عَيْشًا فَأَجْهَلُهُمْ بِحَـ
ـقِ اللهِ ثُمَّ حَقَائِقِ الْقُرْآنِ
عَمْرتْ بِهِمْ هَذِي الدِّيَارُ وَأَقْفَرَتْ
مِنْهُمْ رُبُوعُ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ
قَدْ آثَرُوا الدُّنْيَا وَلَذَّةُ عَيْشِهَا الْـ
فَانِي عَلَى الْجَنَّاتِ وَالرِّضْوَانِ
صَحِبُوا الأَمَانِي وَابْتُلُوا بِحُظُوظِهِمْ
وَرَضُوا بِكُلِّ مَذَلَّةٍ وَهَوَانِ
كَدْحًا وَكَدًا لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ
مَا فِيهِ مِنْ غَمٍّ وَمِنْ أَحْزَانِ
وَاللهِ لَوْ شَاهَدتَ هَاتَيْكَ الصُّدُو
رِ رَأَيْتَهَا كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ ... ?(5/527)
.. وَوَقُودُهَا الشَّهَوَاتُ وَالْحَسَرَاتُ وَالآ
لامُ لا تَخْبُو مَدَى الأَزْمَانِ
أَبْدَانُهُمْ أَجْدَاثُ هَاتِيكَ النُّفُو
سِ اللائِي قَدْ قُبِرتْ مَعَ الأَبْدَانِ
أَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ وَجُسُومُهُمْ
فِي كَدْحِهَا لا فِي رِضَا الرَّحْمَنِ
هَرَبُوا مِن الرِّقِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ
فَبُلُو بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
لا تَرْضَ مَا اخْتَارُوا هُمُ لِنُفُوسِهِمْ
فَقَدْ ارْتَضُوا بِالذُّلِّ وَالْحِرْمَانِ
لَوْ سَاوَتْ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
لَمْ َيَسْقِ مِنْهَا الرَّبُّ ذُو الْكُفْرَانِ
لَكِنَّهَا وَاللهِ أَحْقَرُ عِنْدَهُ
مِنْ ذَا الْجَنَاحِ الْقَاصِرِ الطَّيَرَانِ
وَلَقَدْ تَوَلَّتْ بَعْدُ عَنْ أَصْحَابِهَا
فَالسَّعْدُ مِنْهَا حَلَّ بِالدَّبَرَانِ
لا يُرْتَجَى مِنْهَا الْوَفَاءُ لِصَبِّهَا
أَيْنَ الْوَفَا مِنْ غَادِرِ خَوَّانِ
طُبِعَتْ عَلَى كَدْرِ فَكَيْفَ يَنَالُهَا
صَفْوٌ أهَذَا قَطُ فِي إِمْكَانِ ... ?(5/528)
.. يَا عَاشِقَ الدُّنْيَا تَأَهَّبْ لِلَّذِي
قَدْ نَالَهُ الْعُشَّاقُ كُلَّ زَمَانِ
أَوْ مَا سَمِعْتَ بَلْ رَأَيْتَ مَصَارِعَ الْـ
ـعُشَّاقِ مِنْ شَيْبٍ وَمِنْ شُبَّانِ ... ?
اللَّهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا وبفنائك أنخنا وَإِيَّاكَ أملنا ولما عندك من الجود والإحسان طلبنا ولرحمتك رجونا، ومن عذابك أشفقنا ولعفوك وغفرانك تعرضنا فاعف عنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} لما ذكر تَعَالَى أنه يدخل التائبين الْجَنَّة، وصف هذه الْجَنَّة بجملة أوصاف (أولاً) : أحبر أنها جنات إقامة دائمة، لا كجنات الدُّنْيَا، وقَدْ وعد بها المتقين، وهي غائبة لم يشاهدوها، ووعد الله حق لا يخلف، فهم آتوها لا محالة. (ثانيًا) : أنهم لا يسمعون فيها كلامًا ساقطًا تافهًا لا معنى له، كما يوَجَدَ في الدُّنْيَا، بل يسمعون فيها سلامًا، والسَّلام اسم جامَعَ للخَيْر، لأنه يضمن السلامة. (ثالثًا) : أن لَهُمْ ما يشتهون من المطاعم والمشارب، في قدر وَقْت البكرة ووَقْت العشي من نهار أيام الدُّنْيَا، أي إن الَّذِي بين غدائهم وعشائهم في الْجَنَّة قدر ما بين غداء أحدنا في الدُّنْيَا وعشائه.
... فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا فَلَمْ أَرَهَا ... تَنَالُ إِلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ(5/529)
ولما ذكر جَلَّ وَعَلا وتقدس أن هذه الْجَنَّة تخالف جنات الدُّنْيَا ذكر ما هُوَ سبب استحقاقها فَقَالَ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} المعنى: هذه الْجَنَّة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها من عبادنا المتقين الَّذِينَ يطيعون الله في السِّرّ والعلن، ومعنى إيراثهم الْجَنَّة: الإنعام عَلَيْهمْ بالخلود فيها في أكمل نعيم، وقيل: نجعلها لَهُمْ كملك الميراث الَّذِي هُوَ أقوى تمليك، بأن نبقي عَلَيْهِ الْجَنَّة، كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقاء يلقون ربهم يوم القيامة وقَدْ انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الْجَنَّة، فإن أدخلهم الْجَنَّة فقَدْ أورثهم من تقواهم، كما يورث الوارث من المتوفى الْمَال الَّذِي خلفه.
وجَاءَ بمعنى الآيَة قوله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} ، وَقَالَ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} ، وَقَالَ: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ(5/530)
لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهمْ مِّن كُلّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} إلى غير ذَلِكَ من الآيات المنوهة بذكرهم وشرفهم وعظم جزائهم فنكتفي بالآيات التي ذكرنا، وما أوضحناه من معاني الآيات السابقات نسأل الله الحي القيوم ذا الجلال والإكرام، بديع السماوات والأَرْض، الواحد الأحد الفرض الصمد، الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أن ينفع بها إنه القادر على ذَلِكَ.
وأما الأحاديث الواردة في الْجَنَّة، فمنها ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قال الله تبارك وتَعَالَى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، أَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِى السَّمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن القيم:
هَذَا وَسِنَّهُمْ ثَلاثٌ مَعَ ثَلا
ثِينَ الَّتِي هِيَ قُوَّةُ الشُّبَّانِ
وَصَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ فِي ذَا عَلَى
حَدٍ سَوَاءٌ مَا سِوَى الْوِلْدَانِ ... ?(5/531)
.. وَلَقَدْ رَوَى الْخُضَرِيُّ أَيْضًا أَنَّهُمْ
أَبْنَاءُ عَشْرٍ بَعْدَهَا عَشْرَانِ
وَكِلاهُمَا فِي التِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ ذَا
بِتَنَاقُضٍ بَلْ هَا هُنَا أَمْرَانِ
حَذْفُ الثَّلاثِ وَنَيِّفٌ بَعْدَ الْعُقُو
دِ وَذِكْرَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ سِيَّانِ
عِنْدَ اتِّسَاعٍ فِي الْكَلامِ وَعِنْدَمَا
يَأْتُوا بِتَحْرِيرٍ فَبِالْمِيزَانِ
وَالطُّولُ طُولُ أَبِيهِمْ سِتُّونَ لَـ
كِنْ عَرْضُهم سَبْعٌ بِلا نُقْصَانِ
الطُّولُ صَحَّ بِغَيْرِ شَكٍّ فِي الصَّحِيـ ... ???? ... ـحَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا لَنَا شَمْسَانِ ... ???? ... وَالْعَرْضُ لَمْ نَعْرِفْهُ فِي إِحْدَاهُمَا ... ???? ... لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَد ُالشَّيْبَانِي ... ???? ... هَذَا وَلا يَخْفي التَّنَاسُبُ بَيْنَ هَـ
ذَا الْعَرْضِ وَالطُّولِ الْبَدِيعِ الشَّانِ
كُلُّ عَلَى مِقْدَراِ صَاحِبِهِ وَذَا
تَقْدِيرُ مُتْقِنِ صَنْعَةِ الإِنْسَانِ
هَذَا كَمَالُ الْحُسْنِ فِي أَبْشَارِهِمْ
وَشُعُورِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعَيْنَانِ
أَلْوَانُهُمْ بِيضُ وَلَيْسَ لَهُمْ لُحَى
جُعْدُ الشُّعُور مُكَحَّلُوا الأَجْفَانِ ... ?(5/532)
اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمله ورجاءه واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العَظِيم يا أكرم الأكرمين،
وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في بيان أدنى أَهْل الْجَنَّة منزلةً
عن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يَجِىءُ بَعْدَ مَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ؟ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرْسَ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّة، رَجُلاً يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إليه أَنَّهَا مَلأَى، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إليه أَنَّهَا مَلأَى. فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا(5/533)
مَلأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّى وَأَنْتَ الْمَلِكُ» . قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَكَانَ يَقولُ: «ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قال: «إن للمُؤْمِن في الْجَنَّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمُؤْمِن فيها أهلون، يطوف عَلَيْهمْ المُؤْمِن، فلا يرى بَعْضهمْ بعضًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الميل: ستة آلاف ذراع. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الْجَنَّة لكما بين مَكَّة وهجر» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «إن في الْجَنَّة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة سنة ما يقطعها» . متفق عَلَيْهِ. وعنه عن النَّبِيّ ? قال: «إن أَهْل الْجَنَّة ليتراءون أَهْل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم، قال: «بلى والَّذِي نفسي بيده، رِجَال آمنوا بِاللهِ وصدقوا المرسلين» . متفق عَلَيْهِ. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «لقاب قوس في الْجَنَّة خَيْر مِمَّا تطلع عَلَيْهِ الشمس أو تغرب» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «إن في الْجَنَّة سوقً يأتونها(5/534)
كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقَدْ ازدادوا حسنًا وجمالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أهلوهم: وَاللهِ لَقَدْ ازددتم حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم وَاللهِ لَقَدْ ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً» . رواه مسلم.
وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قال: «يدخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة جردًا مردًا مكحلين، بني ثلاث وثلاثين» . رواه الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن غريب.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ حدثنا عن الْجَنَّة ما بناؤها؟ قال: «لبنة من ذهب، ولبنة منن فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها الؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبئس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» . الْحَدِيث رواه أَحَمَد واللفظ له، والترمذي.
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إن في الْجَنَّة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» . فَقَالَ أبو مالك الأشعري: لمن هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا وَالنَّاس نيام» . رواه الطبراني، والحاكم، وَقَالَ: على شرطهما. ورواه أَحَمَد، وابن حبان في صحيحه.
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (لكل مسلم خيرة، ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عَلَيْهَا من كُلّ باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذَلِكَ، لا مرحات، ولا دفرات، ولا سخرات،(5/535)
ولا طماحات، حور عين، كأنهن بيض مكنون» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا من رواية جابر الجعفي موقوفًا.
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «بينا أَنَا أسير في الْجَنَّة، إذ أَنَا بنهر حافتاه قباب الؤلؤ المجوف، فقُلْتُ: ما هَذَا يا جبريل، قال: هَذَا الكوثر الَّذِي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك بيده. فإذا طينه مسك أذفر» . رواه البخاري.
وروي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: «في الْجَنَّة بحر للماء، وبحر للبن، وبحر للعسل، وبحر للخمر، ثُمَّ تشقق الأنهار منها بعد» . رواه البيهقي.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خلق الله جنة عدن بيده، ودلى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثُمَّ نظر إليها، فَقَالَ لها: تكلمي، فقَالَتْ: قَدْ أفلح المؤمنون، فَقَالَ: وعزتي لا يجاورن فيك بخيل» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط بإسنادين أحدهما جيد. ورواه ابن أبي الدُّنْيَا من حديث أنس أطول منه، ولفظه قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، وملاطها مسك، حشيشها الزعفران، حصباؤها اللؤلؤ، ترابه العنبر، ثُمَّ قال لها: انطقي: قَالَتْ: قَدْ أفلح المؤمنون. فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: وعزتي وجلالي: لا يجاورني فيك بخيل» ثُمَّ تلا رسول الله ?: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/536)
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
... وَالْجَنَُّة اسْمُ الْجِنْسِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ
جِدَا وَلَكِنْ أَصْلُهَا نَوْعَانِ
ذَهَبِيَّتَانِ بِكُلِّ مَا حَوَتَاهُ مِنْ
حُليٍّ وَآنِيَةٍ وَمِنْ بُنْيَانِ
وَكَذَاكَ أَيْضًا فِضَّةٌ ثِنْتَانِ مِنْ
حُليٍّ وَبُنْيَانِ وَكُلِّ أَوَانِ
لَكِنَّ دَارَ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَعَدْ
نِ وَالسَّلامِ إِضَافَةٌ لِمَعَانِ
أَوْصَافُهَا اسْتَدعَتْ إِضَافَتَهَا إِلَيْـ ... ???? ... ـهَا مِدْحَةً مَعَ غَايَةَ التِّبْيَانِ ... ???? ... لَكِنَّمَا الْفِرْدَوْس أَعْلاهَا وَأَوْ
سَطُهَا مَسَاكِنُ صَفْوَةِ الرَّحْمَنِ
أَعْلاهُ مَنْزِلَةً لأَعْلَى الْخَلْقِ مَنْـ
زِلَةً هُوَ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ
وَهِيَ الْوَسِيلَةُ وَهِيَ أَعْلَى رُتْبَةً
خَلُصَتْ لَهُ فَضْلاً مِن الرَّحْمَنِ
وَلَقَدْ أَتَى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ ... ???? ... تَفْصِيلُ الْجِنَانِ مُفَصَّلاً بِبَيَانِ ... ???? ... هِيَ أَرْبَع ثِنْتَانِ فَاضِلَتَانِ وَا
يَالِيهِمَا ثِنْتَانِ مَفْضُولانِ ... ?(5/537)
.. فَالأَوْلَيَانِ الْفَضْلَيَانِ لأَوْجُهٍ
عَشْرٍ وَيَعْسُرُ نَظْمُهَا بِوِزَانِ
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ وَجَدْتَهَا
فِيهِ تَلُوحُ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ
سُبْحَانَ مَنْ غَرَسَتْ يَدَاهُ جَنَّةُ الْـ ... ???? ... فِرْدَوْسِ عِنْدَ تَكَامُلِ الْبُنْيَانِ ... ???? ... وَيَدَاهُ أَيْضًا اتْقَنَتْ لِبِنَائِهَا
فَتَبَارَكَ الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ بَانِي
لَمَّا قَضَى رَبُّ الْعِبَادِ الْغَرْسَ قَا
لَ تَكَلَّمِي فَتَكَلَّمَتْ بِبَيَانِ
قَدْ أَفْلَحَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ مُؤْمِنٌ
مَاذَا ادَّخَرْتَ لَهُ مِن الإِحْسَانِ ... ?
اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض، عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمن من افزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
روي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أرض الْجَنَّة بيضاء، عرصتها صخور الكافور وقَدْ أحاط به المسك، مثل كثبان الرمل، أنهار مطردة، فيجتمَعَ فيها أَهْل الْجَنَّة، أدناهم(5/538)
وآخرهم، فيتعارفون، فيبعث الله ريح الرحمة، فتهيج عَلَيْهِمْ ريح المسك، فيرجع الرجل إلى زوجته وقَدْ ازداد حسنًا وطيبًا، فَتَقُول له: لَقَدْ خرجت من عِنْدِي وأنَا بك معجبة، وأنَا بك الآن أشد إعجابًا» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا.
وعن كريب أنه سمَعَ أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا مشمر إلى الْجَنَّة، فإن الْجَنَّة لا خطر لها، هِيَ ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، حلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية» قَالُوا: نعم يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ المشمرون، قال: «قولوا: إن شَاءَ الله» فَقَالَ القوم: إن شَاءَ الله. رواه ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي.
وعن سماك أنه لقي عَبْد اللهِ بن عباس بالْمَدِينَة، بعد ما كف بصره، فَقَالَ: يا ابن عباس ما أرض الْجَنَّة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة، كأنها مرآة. قُلْتُ: ما نورها؟ قال: ما رَأَيْت الساعة التي يكون فيها طلوع الشمس؟ فذَلِكَ نورها، إِلا أنه لَيْسَ فيها شمس ولا زمهرير، قال: قُلْتُ: فما أنهارها؟ أفي أخدود؟ قال: لا ولكنها تجري على أرض الْجَنَّة، مستكفة، لا تفيض ها هنا ولا ها هنا، قال الله لها: كوني فكانَتْ. قُلْتُ: فما حلل الْجَنَّة؟ قال: فيها شجرة ثمر كأنه الرمان، فإذا أراد ولي الله منها كسوة انحدرت إليه من غصنها، فانفلقت له عن سبعين حلة، ألوانًا بعد ألوان، ثُمَّ تنطبق فترجع كما كانَتْ. رواه ابن أبي الدُّنْيَا موقوفًا بإسناد حسن.(5/539)
وروي عن عمران بن حصين وأَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قالا: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تَعَالَى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} قال: «قصر في الْجَنَّة من لؤلؤة، فيها سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كُلّ دار سبعون بيتًا، من زمردة خضراء، في كُلّ بيت سبعون سريرًا، على كُلّ سرير سبعون فراشًا من كُلّ لون، على كُلّ فراش امرأة، في كُلّ بيت سبعون وصيفًا ووصيفة، يعطى المُؤْمِن من القوة ما يأتي على ذَلِكَ كله في غداة واحدة» . رواه الطبراني.
وعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر سدرة المنتهى - فَقَالَ: «يسير الراكب في ظِلّ الفنن منها مائة سنة، أو يستظِلّ بها مائة راكب شك يحيى، فيها فراش الذهب، كأن ثمارها القلال» . رواه الترمذي. وَقَالَ: حديث حسن صحيح غريب.
وفي حديث أُبَيَّ بن كعب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: ما الحوض؟ قال: «والَّذِي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وآنيته أكثر عددًا من النجوم، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدًا، ولا يصرف عَنْهُ إنسان فيروى أبدًا» . رواه ابن أبي عاصم وغيره.
وأخَرَجَ الشيخان وَغَيْرِهمَا من حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، كيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدًا» . وأخَرَجَ مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(5/540)
قال: «ليردن على الحوض أقوام، فيختلجون دوني، فأَقُول: رب أصحابي، رب أصحابي، فَيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .
وأخَرَجَ الطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه عن خباب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سيكون أمراء من بعدي فلا تصدقوهم بكذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فمن فعل لم يرد عليّ الحوض» .
وأخَرَجَ البخاري ومسلم غيرها من طَرِيق أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أَنَا فرطكم على الحوض من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثُمَّ يحال بيني وبينهم» . قال أبو حازم:
فسمَعَ النعمان ابن أبي عياش وانَا أحدث هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ: هكَذَا سمعت سهلاً يَقُولُ؟ قُلْتُ: نعم، فَقَالَ: وانَا أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته يزيد: «إنهم مني، فَيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأَقُول: سحقًا لمن بدل بعدي» .
وعن عتبة بن عبدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: جَاءَ أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما حوضك الَّذِي تحدث عَنْهُ؟ فذكر الْحَدِيث إلى أن قال فَقَالَ الأعرابي: يَا رَسُولَ اللهِ فيها فاكهة؟ قال: «نعم، وفيها شجرة تدعى طُوبَى، هِيَ تطابق الفردوس» فَقَالَ: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: «لَيْسَ تشبه شَيْئًا من شجر أرضك، ولكن أتيت(5/541)
الشام» ؟ قال: لا يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «فإنها تشبه شجر في الشام، تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد، ثُمَّ ينتشر أعلاها» . قال: فما عظم أصلها؟ قال: «لو ارتحلت جزعة من إبل أهلك لما قطعتها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا» . قال: فيها عنب؟ قال: «نعم» . قال: فما عظم العنقود منها؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع، ولا ينثني ولا يفتر» ، قال: فما عظم الحبة منه؟ قال: «هل ذبح أبوك تيسًا من غنمه عظيمًا، فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فَقَالَ: ادبغي هَذَا، ثُمَّ افري لنا منه ذنوبًا، يروي ماشيتنا» ؟ قال: نعم، قال: «فإن تلك الحبة تشبعني وأَهْل بيتي» . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وعامة عشيرتك» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، واللفظ له، والبيهقي بنحوه، وابن حبان في صحيحه، بذكر الشجرة في موضع والعنب في آخر، ورواه أَحَمَد باختصار.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنْ الثَّلْجِ» رواه ابن ماجة والترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
عن جرير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نزلنا الصفاح، فإذا رجل نائم في تحت شجرة قَدْ كادت الشمس تبلغه، قال: فقُلْتُ للغلام: انطلق بهَذَا النطع فأظله. قال فأنطلق فأظله، فَلَمَّا استيقظ فإذا هُوَ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فأتيته أسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ: يا جرير تواضع لله، فإن من تواضع لله في الدُّنْيَا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير هل تدري ما الظلمَاتَ يوم القيامة؟ قُلْتُ: لا أدري، قال: ظلم النَّاس بينهم ثُمَّ أخذ عودًا لا أكاد(5/542)
أراه بين إصبعيه فَقَالَ: يا جرير لو طلبت في الْجَنَّة مثل هَذَا العود لم تجده، قُلْتُ: يا أبا عَبْد اللهِ؟ أين النخل والشجر؟ فَقَالَ: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاه الثمر. رواه البيهقي بإسناد حسن. وعن الْبَرَاءُ بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قوله تَعَالَى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أَهْل الْجَنَّة يأكلون من ثمار الْجَنَّة، قيامًا وقعودًا ومضطجعين. رواه البيهقي وغيره موقوفًا بإسناد حسن.
وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: يساق الَّذِينَ اتقوا ربهم إلى الْجَنَّة زمرا حتى إذا انتهوا إلى أول باب من أبوابها وجدوا عندها شجرة، يخَرَجَ من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها فشربوا منها، فأذهب ما في بطونهم من قذى وأذى، ثُمَّ عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عَلَيْهمْ نضرة النَّعِيم، فلن تتغير أبشارهم بعدها أبدًا، ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا، ثُمَّ انتهوا إلى خزنة الْجَنَّة، فَقَالُوا: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ثُمَّ تتلقاهم الولدان يطيفون بِهُمْ كما يطيف ولدان أَهْل الدُّنْيَا بالحميم يقدم من غيبته، يقولون له: أبشر بما أعد الله لك من الكرامة، قال: ثُمَّ ينطلق غلام من أولئك الغلمان إلى بعض أزواجه من الحور العين فَيَقُولُ: قَدْ جَاءَ فلان - باسمه الَّذِي كَانَ يدعى به في الدُّنْيَا - فَتَقُول: أَنْتَ رأيته؟ فَيَقُولُ: أَنَا رأيته. وهو ذا في أثري. فيستخف إحداهن الفرح، حتى تَقُوم على أسكفة بابها فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أي شَيْء أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أخضر وأصفر وأحمر من كُلّ لون ثُمَّ رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق فلو أن الله تَعَالَى قدره له لألم أن يذهب بصره، ثُمَّ طأطأ رأسه فنظر إلى(5/543)
أزواجه وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فتظروا إلى تلك النعمة ثُمَّ اتكئوا فَقَالُوا: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} ثُمَّ ينادي مناد: تحيون فلا تموتون، وتقيمون فلا تظعنون.
قال ابن القيم:
... فَاسْمَعْ صِفَاتِ عَرَائِسِ الْجَنَّاتِ ثُمَّ
اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أَخَا الْعِرْفَانِ
حُورٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا
وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ
حَتَّى يَحَارُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي
قَدْ أَلْبَسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ
وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا
سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ
وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤُوسِ جَمَالِهَا
فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النَّشْوَانِ
كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأُكْمِلَ حُسْنُهَا
كَالْبَدْرِ لَيْلَ السِّتِ بَعْدَ ثَمَانِ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا
وَاللَّيْلُ تَحْتَ ذَوَائِبِ الأَغْصَانِ
فَتَرَاهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن
لَيْلٍ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ ... ?(5/544)
.. فَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعُه
سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإِنْسَانِ
وَكِلاهُمَا مَرَآةُ صَاحِبِهِ إِذَا
مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ
فَيَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا
وَتَرَى مَحَاسِنَهَا بِهِ بِعَيْنَانِ
حُمْرُ الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئ
سُودُ الْعُيُونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ
وَالْبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا
فَيُضِيءُ سَقْفُ الْقَصْرِ بِالْجِدْرَانِ
وَلَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ بَرْقًا سَاطِعًا
يَبْدُو فَيَسْأَلُ عَنْهُ مَنْ بِجِنَانِ
فَيُقَالُ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ
فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا كَمَا تَرَيَانِ
للهِ لاثِمُ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِي
فِي لَثْمِهِ إِدْرَاكُ كُلِّ أَمَانِ
رَيَّانَةُ الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا ... ???? ... بِ فَغُصْنُهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ ... ???? ... لما جَرَى مَاءُ الشَّبَابِ بِغُصْنِهَا
حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ
فَالْوَرْدُ وَالتُّفَّاحُ وَالرُّمَّانُ فِي
غُصْنٍ تَعَالَى غَارِسُ الْبُسْتَانِ ... ?(5/545)
إلى أن قال:
... وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً بِصَبٍّ غَابَ عَنْ
مَعْشُوقِهِ فِي شَاسِعِ الْبُلْدَانِ
وَالشَّوْقُ يُزْعِجُهُ إليه وَمَا لَهُ
بِلِقَائِهِ سَبَبٌ مِن الإِمْكَانِ
وَافَى إليه بَعْدَ طُولِ مَغِيبهِ
عَنْهُ وَصَارَ الْوَصْلُ ذَا إِمْكَانِ
أَتَلُومُهُ أَنْ صَارَ ذَا شُغْلٍ بِهِ
لا وَالَّذِي أَعْطَى بِلا حُسْبَانِ ... ?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَمَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ وَاليوم الآخِر، والقَدَرِ خَيْره وَشَرهِ، وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعِبَادِكَ الأَخْيار وانْظُمْنَا في سِلْكِ الْمُقَرَّبينَ والأَبْرَارِ وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
عن جَابِرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرَيحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ(5/546)
إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ وَيَشْرَبُونَ؟ قَالَ: «نعم، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالْشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ» . قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُون لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ فِي الجَنَّةِ أَذَى؟ قَالَ: «تَكُون حَاجَة أَحَدِهِمْ رَشْحًا يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرَشْحِ الْمِسْكِ فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي. وَرُوَاتُهُ مُحْتَجّ بِهِم في الصَّحِيحِ.
ورواه الطبراني بإسناد صحيح. ولفظه في إحدى رواياته قال: بينما نَحْنُ عَنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل رجل من اليهود، يُقَالُ له: ثعلبة بن الحارث فَقَالَ: السَّلام عَلَيْكَ يا مُحَمَّد، فَقَالَ: «وعليكم» . فَقَالَ له اليهودي: تزعم أن في الْجَنَّة طعامًا وشرابًا وأزواجًا، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم تؤمن بشجرة المسك» ؟ قال: نعم. قال: «وتجدها في كتابكم» ؟ قال: نعم، قال: «فإن البول والجنابة عرق، يسيل من تحت ذوائبهم، إلى أقدامهم مسك» .
وَرَواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم ولفظهما: أتى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من اليهود، فَقَالَ: يا أبا القاسم ألست تزعم أن أَهْل الْجَنَّة يأكلون فيها ويشربون؟ وَيَقُولُ لأصحابه: إن أقر لي بهَذَا خصمته، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بلى، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ في المَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالْجِمَاعِ» ، فَقَالَ اليهودي: فإن الَّذِي يأكل ويشرب تَكُون له الحاجة، فَقَالَ له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حاجتهم يفيض من جلودهم مثل المسك، فإذا البطن قَدْ ضمر» . ولفظ النسائي نحو هَذَا.(5/547)
.. هَذَا وَتَصْرِيفُ الْمَآكِلِ مِنْهُمُوا
عَرَقٌ يَفِيضُ لَهُمْ مِنْ الأَبَدَانِ
كَرَوَائِحِ الْمِسْكِ الَّذِي مَا فِيهِ مِنْ
خِلْطٍ لَهُ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ
فَتَعُودُ هَاتِيكَ الْبُطُونُ ضَوَامِرٌ
تَبْغِي الطَّعَامَ عَلَى مَدَى الأَزْمَان
لا غَائِطٌ فِيهَا وَلا بَوْلٌ وَلا
مَخَطٌ وَلا بَصَقٌ مِن الإِنْسَانِ
وَلَهُمْ جُشَاءٌ رِيحُهُ مِسْكٌ يَكُو
نُ بِهِ تَمَامُ الْهَضْمِ بِالإِحْسَانِ
هَذَا وَهَذَا صَحَّ عَنْهُ فَوَاحِدٌ
فِي مُسْلِمٍ وَلأَحْمَدَ الأَثَرَانِ ... ?
وعن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرفعه: «إن أسفل أَهْل الْجَنَّة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، مَعَ كُلّ خادم صحفتان، واحدة من فضة، وواحدة من ذهب، في كُلّ صفحة لون لَيْسَ في الأخرى مثلها، يأكل من آخره كما يأكل من أوله، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله، ثُمَّ يكون فوق ذَلِكَ رشح مسك وجشاء مسك، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا واللفظ له، والطبراني، ورواته ثقات.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أدنى أَهْل الْجَنَّة منزلة إن له سبع درجات وَهُوَ على السادسة،(5/548)
وفوقه السابعة، إن له لثلاثمائة خادم، ويغدى عَلَيْهِ في كُلّ يوم ويراح بثلاثمائة صحفة، - ولا أعلمه إِلا قال -: من ذهب، في كُلّ صفحة لون لَيْسَ في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء، في كُلّ إناء لون لَيْسَ في الآخِر، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليَقُولُ: يا رب لو أذنت لي لأطعمت أَهْل الْجَنَّة وسقيتهم، لم ينقص مِمَّا عِنْدِي شَيْء» . الْحَدِيث رواه أَحَمَد عن شهرٍ عَنْهُ.
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن طير الْجَنَّة كأمثال البخت، ترعى في شجر الْجَنَّة» . فَقَالَ أبو بكر: يَا رَسُولَ اللهِ إن هذه لطير ناعمة، فَقَالَ: «أكلتها أنعم منها» . قالها ثلاثًا، «وإني لأرجو أن تَكُون ممن يأكل منها» . رواه أَحَمَد بإسناد جيد، والترمذي، وَقَالَ: حديث حسن، ولفظه قال: سئل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه الله، يعني في الْجَنَّة، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر) قال عمر: إن هذه لناعمة، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أكلتها أنعم منها» . (البخت) : بضم الموحدة، وإسكَانَ الخاء المعجمة، هِيَ الإبل الخراسنية.
... فَمَا الْعَيْشُ إِلا ذَاكَ لا عَيْشُ عَزَّةٍ
وَسُعْدَى وَلا لَيْلَى وَلا أُمِّ سَالِمِ
وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَا
وَيُرْجَى لِعَبْدٍ قَارِعِ الْبَابِ لازِمِ ... ?(5/549)
وعن سليم بن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يومًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكر الله في الْجَنَّة شجرة مؤذية، وما كنت أرى أن في الْجَنَّة شجرة تؤذي صاحبها؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما هِيَ» ؟ قال: السِّدر، فإن له شوكًا مؤذيًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أليسَ الله يَقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} ، خَضَد الله شوكه، فجعل مكَانَ كُلّ شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخِر» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا، وإسناده حسن. ورواه أيضًا عن سليم بن عامر عن أبي أمامة الباهلي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله. وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: الرمانة من رمان الْجَنَّة يجتمَعَ حولها بشر كثير يأكلون منها فإن جرى على ذكر أحدهم شَيْء يريده وجده في موضع يده حيث يأكل» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا. وروى بإسناده أيضًا عَنْهُ قال: «إن التمرة من تمر الْجَنَّة طولها اثنا عشر ذراعًا، لَيْسَ له عجم» .
شِعْرًا:
... فَسِرْ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى الْعُلا
عَلَى الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ وَالْبِرِّ وَالتُّقَى
وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الْغَرُورَ فَإِنَّهَا
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مَالَهَا أَبَدًا بَقَا
وَتُلْهِيكَ عَنْ جَنَّاتِ خُلْدٍ نَعِيمُهَا
يَدُومُ وَيَصْفُو حَبَذَا ذَلِكَ مُلْتَقَى ... ?(5/550)
.. وَفِيهَا رِضَا الرَّبِّ الْكَرِيمِ وَقُرْبُهُ
وَرُؤْيَتُه أَكْرِمْ بِذَلِكَ مُرْتَقَى
وَصَلِّ وَسَلِّمْ ذُو الْجَلالِ عَلَى أَحْمَدٍ
شَفِيعِ الْبَرَايَا كُلَّمَا الْمُزْنُ أَغْدَقَا ... ?
اللَّهُمَّ أعذنا من شر نُفُوسنَا ومن شر الشيطان ومن شر الهوى ومن شر الدُّنْيَا وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا.
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) في ثيابهم وحللهم
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من يدخل الْجَنَّة ينعم ولا يبأس، لا تبلى، ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الْجَنَّة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . رواه مسلم.
وَعَنْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ضَوْءُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَة عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ واحد مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعَيْنِ، عَلَى كُلّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء» . رواه الطبراني بإسناد صحيح، والبيهقي بإسناد حسن، وتقدم(5/551)
حديث أَبِي هُرَيْرَةِ المتفق عَلَيْهِ بنحوه.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَة فَتَضْرِبُ مَنْكِبَهُ فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلامَ وَيَسْأَلُهَا مَنْ أَنْتَ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنْ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنْ التِّيجَانِ إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . رواه أَحَمَد من طَرِيق ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم، وابن حبان في صحيحه من طَرِيق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم.
وروى الترمذي منه ذكر التيجان فقط من رواية رشدين عن عمرو بن الحارث، وَقَالَ: لا نعرفه إِلا من حديث رشدين.
وعن شريح بن عبيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال كعب: لو أن ثوبًا من ثياب أَهْل الْجَنَّة لبس اليوم في الدُّنْيَا لصعق من ينظر إليه، وما حملته أبصارهم. رواه ابن أبي الدُّنْيَا. ويأتي حديث أنس المرفوع: «ولو اطلعت امرأة من نساء أَهْل الْجَنَّة إلى الأَرْض لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها - يعني خمارها - على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها. رواه البخاري، ومسلم.
شِعْرًا:
... بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى سَهَرَ اللَّيَالِي
وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ ... أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمَحَالِ
تَرُومَ الْخُلْدَ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهَا ... يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلي(5/552)
وفي الصحيحين من حديث عَبْد اللهِ بن قيس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْعَبْدِ المُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَة طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهمْ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وأخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا عن سعيد بن جبير: إن شهوته لتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة ولا يلحقهم بذَلِكَ جنابة فيحتاجون إلى التطهير ولا ضعف ولا انحلال قوة، وطؤهم وطء التذاذ، نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه. وأخَرَجَ أبو نعيم قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يستطع نور في الْجَنَّة فيرفعون رؤوسهم فإذا هُوَ من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها» . وإلى هَذَا أشار الشاعر:
شِعْرًا:
فَلَوْ أَنَّ حُورًا فِي الدَّيَاجِي تَبَسَّمَتْ
تَجَلَّى دُجَى الظَّلْمَاءِ فِي الأَرْضِ نُورُهَا
وَلَوْ مُزِجَ الْمَاءُ الأُجَاجُ بِرِيقِهَا
لأَصْبَحَ عَذْبًا سَلْسَبِيلاً بِحُورُهَا ... ?
آخرُ:
... يَا عَاشِقًا لِلْغَوَانِي مُغْرَمًا بِهَوَى
دَارِ الْغُرُورِ وَعَيْشٍ شِيبَ بِالْكَدَرِ
إِنَّ الْغَوَانِي الْحِسَانَ الْحُورَ مَسْكَنُهَا
دَارُ السُّرُورِ عَلَى فُرشٍ عَلَى السُّرُرِ ... ?(5/553)
.. فِي سُنْدُس الْفُرْشِ أَقْمَارٌ عَلَى سُرُرٍ
مِن الْيَواقِيتِ فِي قَصْرٍ مِن الدُّرَرِ
يُشَاهِدُ الْمُخَّ فِي السَّاقَينِ نَاظِرُهَا
مِنْ فَوْقِ سَبْعِينَ مَلْبُوسًا مِن الْحِبَرِ
قَدْ طِلْنَّ شَوْقًا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا
يَشْتَاقُ لِلْغَائِبِ الْمَحْبُوبِ فِي السَّفَرِ ... ?
اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
شِعْرًا:
... اللهُ أَعْظَمَ مِمَّا جَالَ فِي الْفِكَر
وَحُكْمُهُ فِي الْبَرَايَا حُكْمُ مُقْتَدِرِ
مَوْلَىً عَظِيمٌ حَكِيمٌ وَاحِدٌ صَمَدٌ
حَيُّ قَدِ يُرْمُرِ يدُ فَاطِرَ الْفِطَرِ
يَا رَبُّ يَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ صَلِّ عَلَى
رَسُولِكَ الْمُجْتَبِي مِنْ أَطْهَرِ الْبَشَرِ
وَآلِهِ وَالصِّحَابِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ
أَهْلِ التُّقَى وَالْوَفَا وَالنُّصْحِ لِلْبَشَرِ
أَشْكُو إليْكَ أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا
فُتُورَ عَزْمِي وَمَا فَرَّطْتُ فِي عُمُرِي
وَفَرْطَ مَيْلِي إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ حَسَرَتْ
عَنْ سَاعِدِ الْغَدْرِ فِي الآصَالِ وَالْبُكَرِ ... ?(5/554)
.. يَا رَبِّ زِدْنِي تَوْفِيقًا وَمَعْرِفَةً
وَحُسْنَ عَاقِبَةٍ فِي الْوِرْدِ وَالصَّدَرِ
قَدْ أَصْبَحَ الْخَلْقُ فِي خَوْضٍ وَفِي ذُعُرٍ
وَزَوْرِ لَهْوٍ وَهُمْ فِي أَعْظَمِ الْخَطَرِ
وَلِلْقِيَامَةِ أَشْرَاطٌ وَقَدْ ظَهَرَتْ
بَعْضُ الْعَلامَاتِ وَالْبَاقِي عَلَى الأَثَرِ
قَلَّ الْوَفَاءُ فَلا عَهْدٌ وَلا ذِمَمُ
وَاسْتَحْكَمَ الْجَهْلُ فِي الْبَادِينَ وَالْحَضَرِ
دَعَوْا لأَدْيَانِهِمْ بِالْبَخْسِ مِنْ سُحْتٍ
وَأَظْهَرُوا الْفِسْقَ وَالْعُدْوَانَ بِالأَشَرِ
وَجَاهُروا بِالْمَعَاصِي وَارْتَضَوْا بِدَعًا
عَمَّتْ فَصَاحِبُهَا يَمْشِي بِلا حَذَرِ
وَطَالِبُ الْحَقِّ بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَتِرٌ
وَصَاحِبُ الإِفْكِ فِيهِمْ غَيْرُ مُسْتَتِرِ
وَالْوَزْنُ بِالْوَيْلِ وَالأَهْوَاءِ مُعْتَبَرٌ
وَالْوَزْنُ بِالْحَقِّ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ
وَقَدْ بَدَا النَّقْضُ بِالإِسْلامِ مُشْتَهِرًا
وَبُدِّلَتْ صَفْوَةُ الْخَيْرَاتِ بِالْكَدَرِ
فَسَوْفَ يَخْرُجُ دَجَّالُ الضَّلالَةِ فِي
هَرَجٍ وَقُحْطٍ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ
وَيَدَّعِي أَنَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَهَلْ
تَخْفَى صِفَاتُ كَذُوبٍ ظَاهِرِ الْعَوَرِ ... ?(5/555)
.. فَنَارُهُ جَنَّةُ طُوبَى لِدَاخِلِهَا
وَزُورُ جَنَّتِهِ نَارٌ مِنَ السُّعُرِ
شَهْرٌ وَعَشْرٌ لَيَإلى طُولَ مُدَّتِهِ
لَكِنَّهُ عَجَبٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ
فَيَبْعَثُ اللهُ عِيسَى نَاصِرًا حَكَمًا
عَدْلاً وَيَعْضِدُهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ
فَيَتْبَعُ الْكَاذِبَ الْبَاغِي وَيَقْتُلُهُ
وَيَمْحَقُ اللهُ أَهْلَ الْبَغْي وَالضَّرَرِ
وَقَامَ عِيسَى يُقِيمُ الْحَقَّ مُتَّبِعًا
شَرِيعَةَ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ
فِي أَرْبَعِينَ مِنَ الأَعْوَامِ مُخْصِبَةٌ
فَيَكْسِبُ الْمَالَ فِيهَا كُلُّ مُفْتَقِرِ
حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ اللهُ الْقَضَاءَ دَعَى
عِيسَى فَأَفْنَاهُمُ الْمَوْلَى عَلَى قَدْرِ
وَعَادَ لِلنَّاسِ عِيدُ الْخَيْرِ مُكْتَمِلاً
حَتَّى يَتِمَّ لِعِيسَى آخِرُ الْعُمُرِ
وَالشَّمْسُ حِينَ تُرَى فِي الْغَرْبِ طَالِعَةً
طُلُوعُهَا آيَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْكِبَرِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ لا إِيمَانَ يُقْبَلُ مِنْ
أَهْلِ الْجُحُودِ وَلا عُذْرٌ لِمُعْتَذِرِ ... ?(5/556)
.. وَدَابَةٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا
وَسْمٌ مِنْ النُّورِ وَالْكُفَّارِ بِالْقَتَرِ
وَخَلْفُهَا الْفِتْنَةُ الدَّجَالُ قَبْلَهُمَا
أَوْ بَعْدَ قَدْ وَرَدَ الْقَوْلانِ فِي الْخَبَرِ
وَكَمْ خَرَابٍ وَكَمْ خَسْفٍ وَزَلْزَلَةٍ
وَفِيحِ نَارِ وَآيَاتٍ مِنَ النُّذُرِ
وَنَفْخَةٌ تُذْهِبُ الأَرْوَاحَ شِدَّتُهَا
إِلا الَّذِينَ عَنُوا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ
وَأَرْبَعُونَ مِنَ الأَعْوَامِ قَدْ حُسِبْتَ
لِكَيْ تُبَثَّ بِهَا الأَرْوَاحُ فِي الصُّوَرِ
قَامُوا حُفَاةً عُرَاةٌ مِثْلَ مَا خُلِّقُوا
مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا سَكْرَى بِلا سُكُرِ
قَوْمٌ مُشَاةٌ وَرُكْبَانٌ عَلَى نُجُبِ
عَلَيْهِمَا حُلَلٍ أَبْهَى مِنَ الزَّهْرِ
وَيُسْحَبُ الظَّالِمُونَ الْكَافِرُونَ عَلَى
وُجُوهِهِمْ وَتُحِيطُ النَّارُ بِالشَّرَرِ
وَالشَّمْسُ قَدْ أُدْنِيَتْ وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ
وَفِي زِحَامٍ وَفِي كَرْبٍ وَفِي حَصَرِ
وَالأَرْضُ قَدْ بُدِّلَتْ بَيْضَاءَ لَيْسَ لَهَا
مَخْفَى وَلا مَلْجَأٌ يَبْدُو لِمُسْتَتِرِ ... ?(5/557)
.. طَالَ الْوُقُوفُ فَجَاءُوا آدَمًا فَرَجُوا
شَفَاعَةً مِنْ أَبِيهِمْ أَوَّلُ الْبَشَرِ
فَرَدَّ ذَاكَ إِلَى نُوحٍ فَرَدَّهُمُوا
إِلَى الْخَلِيلِ فَأَبْدَى وَصْفَ مُفْتَقِرِ
إِلَى الْكَلِيمِ إِلَى عِيسَى فَرَدَّهُمُوا
إِلَى الْحَبِيبِ فَلَبَّاهَا بِلا حَصَرِ
فَيَسْأَلُ الْمُصْطَفَى فَصْلَ الْقَضَاءِ لَهُمْ
لِيَسْتَرِيحُوا مِنَ الأَهْوَالِ وَالْخَطَرِ
تُطْوَى السَّمَاوَاتُ وَالأَمْلاكُ هَابِطَةٌ
حَوْلَ الْعِبَادِ لِهَوْلٍ مُعْضِلٍ عَسِرِ
وَالشَّمْسُ قَدْ كُوِّرَتْ وَالْكُتُبُ قَدْ نُشِرَتْ
وَالأَنْجُمُ انْكَدَرَتْ نَاهِيكَ عَنْ كَدَرِ
وَقَدْ تَجَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ مُقْتَدِرًا
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ كَيْفٍ وَعَنْ فِكَرِ
فَيَأْخُذُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ مُنْتَصِفًا
مِنْ ظَالِمٍ جَارٍ بِالْعُدْوَانِ وَالْبَطَرِ
وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ وَالأَعْمَالُ قَدْ ظَهَرَتْ
وَوَزْنُهَا عِبْرَةٌ تَبْدُو لِمُعْتَبِرِ
وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ الأَوْثَانَ يَتْبَعُهَا
بِإِذْنِ رَبِّي وَصَارَ الْكُلُّ فِي سَقَرِ ... ?(5/558)
.. وَالْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمِيزَانِ قَدْ قُسِمُوا
ثَلاثَةً فَاسْمَعُوا تَقْسِيمَ مُخْتَصِرِ
فَسَابِقٌ رَجَحَتْ مِيزَانُ طَاعَتِهِ
لَهُ الْخُلُودُ بِلا خَوْفٍ وَلا ذُعُرِ
وَمُذْنِبٌ كَثُرَتْ آثَامُهُ فَلَهُ
شَفْعٌ بِأَوْزَارِهِ أَوْ عَفْوُ مُغْتَفِرِ
وَوَاحِدٌ قَدْ تَسَاوَتْ حَالَتَاهُ لَهُ
حَبْسٌ طَوِيلٌ وَبَيْنَ الْبِشْرِ وَالْحَصَرِ
وَيُكْرِمُ اللهُ مَثْوَاهُ بِجَنَّتِهِ
بِجُودِ فَضْلٍ عَمِيمٍ غَيْرِ مُنْحَصِرِ
وَفِي الطَّرِيقِ صِرَاطٌ مُدَّ فَوْقَ لَظَى
كَحَدٍّ سَيْفٍ سَطَا فِي دِقَّةِ الشَّعَرِ
النَّاسُ فِي وَرْدِهِ شَتَّى فَمُسْتَبَقٌ
كَالْبَرْقِ وَالطَّيْرِ أَوْ كَالْخَيْلِ فِي النَّظَرِ
سَاعِي وَمَاشٍ وَمَخْدُشٍ وَمُعْتَلِقٍ
نَاجٍ وَكَمْ سَاقِطٍ فِي النَّارِ مُنْتَشِرِ
لِلْمُؤْمِنِينَ وُرُودٌ بَعْدَهُ صَدَرٌ
وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ وِرْدٌ بِلا صَدَرِ
فَيَشْفَعُ الْمُصْطَفَى وَالأَنْبِيَاءُ وَمَنْ
يَخْتَارُهُ الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ فِي زُمَرِ ... ?(5/559)
.. فِي كُلِّ عَاصٍ لَهُ نَفْسٌ مُقَصِّرَةٌ
وَقَلْبُهُ عَنْ سِوَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ بَرِي
فَأَوَّلُ الشُّفَعَا حَقًّا وَآخِرُهُمْ
مُحَمَّدٌ ذُو الْبَهَاءِ الطَّيِّبِ الْعَطِرِ
وَالْحَوْضُ يَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ غَدًا
كَالأَرْيِ يَجْرِي عَلَى إلياقُوتِ وَالدُّرَرِ
وَيَخْلُقُ اللهُ أَقْوَامًا قَدْ احْتَرَقُوا
كَانُوا أُولِي الْعِزَّةِ الشَّنْعَاءِ وَالنَّجَرِ
وَالنَّارُ مَثْوَى لأَهْلِ الْكُفْرِ كُلِّهِمُ
طِبَاقُهَا سَبْعَةٌ مُسْوَدَّةُ الْحُفَرِ
جَهَنَّمٌ وَلَظَى وَالْحَطْمُ بَيْنَهُمَا
ثُمَّ السَّعِيرُ كَمَا الأَهْوَالُ فِي سَقَرِ
وَتَحْتَ ذَاكَ جَحِيمٌ ثُمَّ هَاوِيَةٌ
يَهْوِي بِهَا أَبَدًا سُحْقًا لِمُحْتَقِرِ
فِي كُلِّ بَابٍ عُقُوبَاتٌ مُضَاعَفَةٌ
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَسْطُوا عَلَى النَّفَرِ
فِيهَا غِلاظٌ شِدَادٌ مِنْ مَلائِكَةٍ
قُلُوبُهُمْ شِدَّةً أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ
لَهُمْ مَقَامِعُ لِلتَّعْذِيبِ مُرْصَدَةٌ
وَكُلُّ كِسْرٍ لَدَيْهِمْ غَيْرِ مُنْجَبِرِ ... ?(5/560)
.. سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ شَعْثَاءُ مُوحِشَةٌ
دَهْمَاءُ مُحْرِقَةٌ لَوَّاحَةُ الْبَشَرِ
فِيهَا الْجَحِيمُ مُذِيبٌ لِلْوُجُوهِ مَعَ الْ
أَمْعَاءِ مِنْ شِدَّةِ الأحْرَاقِ وَالشَّرَرِ
فِيهَا الْغِسَاقُ الشَّدِيدُ الْبَرْدِ يَقْطَعُهُمْ
إِذَا اسْتَغَاثُوا بِحَرِّ ثُمَّ مُسْتَعِرِ
فِيهَا السَّلاسِلُ وَالأَغْلالُ تَجْمَعُهُمْ
مَعَ الشَّيَاطِينِ قَسْرًا جَمْعَ مُنْقَهِرِ
فِيهَا الْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ قَدْ جُعِلَتْ
جُلُودُهُمْ كَالْبِغَالِ الدُّهْمِ وَالْحُمُرِ
وَالْجُوعُ وَالْعَطَشُ الْمُضْنِي لأَنْفُسِهِمْ
فِيهَا وَلا جَلَدٌ فِيهَا لِمُصْطَبِرِ
لَهَا إِذَا مَا غَلَتْ فَوْرٌ يُقَلِّبُهُمْ
مَا بَيْنَ مُرْتَفِع مِنْهَا وَمُنْحَدِرِ
جَمْعُ النَّوَاصِي مَعَ الأَقْدَامِ صَيَّرَهُمْ
كَالْقُوسِ مَحْنِيَّةً مِنْ شِدَّةِ الْوَتَرِ
لَهُمْ طَعَامٌ مِن الزَّقُّومِ يَعْلَقُ فِي
حُلُوقِهِمْ شَوْكُهُ كَالصَّابِ وَالصَّبِرِ
يَا وَيْلَهُمْ تُحْرِقُ النِّيرَانُ أَعْظُمَهُمْ
بِالْمَوْتِ شَهْوَتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الضَّجَرِ ... ?(5/561)
.. ضَجَّوْا وَصَاحُوا زَمَانًا لَيْسَ يَنْفَعُهُمْ
دُعَاءُ دَاعٍ وَلا تَسْلِيمُ مُصْطَبِرِ
وَكُلُّ يَوْمٍ لَهُمْ فِي طُولِ مُدَّتِهِمْ
نَزْعٌ شَدِيدٌ مِن التَّعْذِيبِ وَالسَّعَرِ
كَمْ بَيْنَ دَارِ هَوَانٍ لا انْقِضَاءَ لَهَا
وَدَارِ أَمْنٍ وَخُلْدٍ دَائِمِ الدَّهَرِ
دَارِ الَّذِينَ اتَّقُوْا مَوْلاهُمُ وَسَعَوْا
قَصْدًا لِنَيْلِ رِضَاهُ سَعْيَ مُؤْتَمِرِ
وَآمِنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أُمِرُوا
وَاسْتَغْرَقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِ
وَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ
عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ
جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا
فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِ
بِنَاؤُهَا فِضَّةٌ قَدْ زَانَهَا ذَهَبٌ
وَطِينُهَا الْمِسْكُ وَالْحَصْبَا مِنَ الدُّرَرِ
أَوْرَاقُهَا ذَهَبٌ مِنْهَا الْغُصُونُ دَنَتْ
بِكُلِّ نُوعٍ مِن الرَّيْحَانِ وَالثَّمَرِ
أَوْرَاقُهَا حُلَلٌ شَفَافَةٌ خُلِقَتْ
وَاللُّؤْلؤُ الرَّطْبُ وَالْمُرْجَانُ فِي الشَّجَرِ ... ?(5/562)
.. دَارُ النَّعِيمِ وَجَنَّاتُ الْخُلُودِ لَهُمْ
دَارُ السَّلامِ لَهُمْ مَأْمُونَةُ الْغِيَرِ
وَحَنَّةُ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَكَمْ جَمَعَتْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مِنْ مُونِقٍ نَضِرِ
طِبَاقُهَا دَرَجَاتٌ عَدُّهَا مائَةٌ
كُلُّ اثْنَتَيْنِ كَبُعْدِ الأَرْضِ وَالْقَمَرِ
أَعْلَى مَنَازِلِهَا الْفِرْدَوْسُ عَإليهَا
عَرْشُ الإِلَهِ فَسَلْ وَاطْمَعْ وَلا تَذَرِ
أَنْهَارُهَا عَسَلٌ مَا فِيهِ شَائِبَةٌ
وَخَالِصُ اللَّبَنِ الْجَارِي بِلا كَدَرِ
وَأَطْيَبُ الْخَمْرِ وَالْمَاءِ الَّذِي خَلِيَتْ
مِنَ الصُّدَاعِ وَنُطْقِ اللَّهْوِ وَالسَّكَرِ
وَالْكُلُّ تَحْتَ جِبَالِ الْمِسْكِ مَنْبَعُهَا
يُجْرُونَهُ كَيْفَ شَاءُوا غَيْرَ مُحْتَجَرِ
فِيهَا نَوَاهِدُ أَبْكَارٌ مُزَيَّنَةٌ
يَبْرُزْنَ مِنْ حُلَلٍ فِي الْحُسْنِ وَالْخَفَرِ
نِسَاؤُهَا الْمُؤْمِنَاتُ الصَّابِرَاتُ عَلَى
حِفْظِ الْعُهُودِ مَعْ الإِمْلاقِ وَالضَّرَرِ
كَأَنَّهُنَّ بُدُور فِي غُصُون نَقَا
عَلَى كَثِيبٍ بَدَتْ فِي ظُلْمَةِ السَّحَرِ ... ?(5/563)
.. كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يُعْطَى قُوَى مائَةً
فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالإِفْضَا بِلا خَوَرِ
طَعَامُهُمْ رَشْحُ مِسْكٍ كُلَّمَا عَرِقُوا
عَادَتْ بُطُونُهُمْ فِي هَضْمِ مُنْضَمِرِ
لا جُوعَ لا بَرْدَ لا هَمٌ وَلا نَصَبٌ
بَلْ عَيْشُهُمْ عَنْ جَمِيعِ النَّائِبَاتِ عَرِي
فِيهَا الْوَصَائِفُ وَالْغُلْمَانُ تَخْدُمُهُمْ
كَلُؤْلُؤ فِي كَمَالِ الْحُسْنِ مُنْتَثِرِ
فِيهَا الْغِنَا وَالْجَوَارِي الْغَانِيَاتُ لَهُمْ
بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ لِلْمَوْلَى مَعَ السَّمَرِ
لِبَاسُهُمْ سُنْدُسٌ حُلاهُمْ ذَهَبٌ
وَلُؤْلُؤٌ وَنَعِيمٌ غَيْرُ مُنْحَصِرِ
وَالذِّكْرُ كَالنَّفَسِ الْجَارِي بِلا تَعَبٍ
وَنُزِّهُوا عَنْ كَلامَ اللَّغْوِ وَالْهَذَرِ
وَأَكْلُهَا دَائِمٌ لا شَيْءَ مُنْقَطِعٌ
كَرِّرْ أَحَادِيثَهَا فِي أَطْيَبِ الْخَبَرِ
فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَجْرِي فِي خَلَدٍ
وَلَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ
فِيهَا رِضَا الْمَلِكَ الْمَوْلَى بِلا غَضَبٍ
سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ نَفْعٌ بِلا غِيَرِ ... ?(5/564)
.. لَهُمْ مِن اللهِ شَيْءٌ لا نَظِيرَ لَهُ
سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالْفَوْزُ بِالنَّظَرِ
بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلا حَدٍّ وَلا مَثلٍ
حَقًّا كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ
وَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالْحُسْنَى الَّتِي وَرَدَتْ
وَأَعْظَمُ الْمَوْعِدِ الْمَذْكُورِ فِي الزُّبُرِ
للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوهُ وَمَا قَصَدُوا
سِوَاهُ إِذَا نَظَرُوا الأَكْوَانَ بِالْعِبَرِ
وَكَابَدُوا الشَّوْقَ وَالأَنْكَادُ قُوَّتُهُمْ
وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالأَذْكَارَ فِي الْبُكَرِ
يَا مَالِكَ الْمُلْكِ جُدْ لِي بِالرِّضَا كَرَمًا
فَأَنْتَ لِي مُحْسِنٌ فِي سَائِرِ الْعُمُرِ
يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى الْهَادِي الْبَشِيرِ لَنَا
وَآلِهِ وَانْتَصِرْ يَا خَيْرَ مُنْتَصِرِ
مَا هَبَّ نَشْرُ الصَّبَا وَاهْتَزَّ نَبَتُ رُبَا
وَفَاحَ طِيبُ شَذَا فِي نَسْمَةِ السَّحَرِ
أَبْيَاتُهَا تِسْعُ عَشْرٍ بَعْدَهَا مائَةٌ
كِلاهُمَا وَعْظُهَا أَبْهَى مِن الدُّرَرِ ... ?
اللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وصلع الدين وغلبة الرِّجَال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك، واقطع رجاءنا عمن سواك، اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها، وتعلم حاجتنا فاقضها، كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب(5/565)
العالمين، اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
عباد الله لَقَدْ امتن الله على خاتم رسله، وصفوة خلقه، سيدنا مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بأشرف المنن، واختصه بأجل النعم، وآتاه من فضله ما لم يؤت أحدًا سواه، أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، ومنحه من الصفات الجميلة غايتها، ومن الأَخْلاق الكريمة نهايتها، ثُمَّ أثنى عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ خلقه القرآن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه، وكَانَ ? أوسع النَّاس صدرًا، وأصدقهم قولاً، وإلينهم جانبًا، وأكرمهم عشرةً، يؤلف النَّاس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كُلّ قوم، ويوليه عَلَيْهمْ، يتفقَدْ أصحابه ويعطي كُلّ جلَيْسَ نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدًا أكرم عَلَيْهِ منه، من جالسه أو قاربه بحاجة سايره، حتى يكون هُوَ المنصرف عَنْهُ، قَدْ وسع النَّاس بسطه وخلقه، فصار لَهُمْ أبًا رحيمًا. وصاروا عنده في الحق سواء، لذَلِكَ اجتمعت عَلَيْهِ القُلُوب بعد نفورها، وتألفت النُّفُوس بعد جموحها، تحقيقًا لقوله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وكَانَ ? حليمًا مَعَ الأَذَى، عفوا مَعَ القدرة، صبروا على المكاره، وتلك خصال أدبه بها ربه، فَقَالَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام عن تفسيرها، فَقَالَ: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم النَّاس، وأسخاهم يدا، وأطيبهم(5/566)
نفسًا، ما سئل عن شَيْء قط فَقَالَ لا، من سأله حَاجَة لم يرده إِلا بها، أو بميسور من القول، يجيب دعوة من دعاه، ويقبل الهدية لو كأَنْتَ كراعًا، ويكافئ عَلَيْهَا خيرًا منها، وكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام أشجع النَّاس، وأعظم النَّاس غيرة وإقدامًا، فر الفرسان والأبطال عَنْهُ غير مرة، وَهُوَ ثابت لا يبرح مقبل لا مدبر، ولا يتزحزح، وكَانَ صلوات الله وسلامه عَلَيْهِ أشد النَّاس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال أبو سعيد الخدري: كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، وكَانَ إذا كره شَيْئًا عرفناه في وجهه وكَانَ لا يخاطب أحدًا بما يكره حياء وكرمًا.
أما شفقته ورحمته ورأفته ولطفه بجَمِيع الخلق، فنما ذكر الله عَنْهُ بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، وَقَالَ عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وأما تواضعه – مَعَ علو منصبه ومكانته، ورفع رتبته - فقَدْ خيره الله بين أن يكون ملكًا نبيًا، أو عبدًا نبيًا، فاختار عبدًا نبيًا، وكَانَ يَقُولُ: «إنما أَنَا عبد، آكل كما يأكل الْعَبْد، وأجلس كما يجلس الْعَبْد» وكَانَ يجالس الفقراء، ويعود المساكين، ويجلس مَعَ أصحابه مختلطًا بِهُمْ كأنه واحد مِنْهُمْ، وكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أحيني مسكينً، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» .
وأما عدله وأمانته، وعفته ومروءته، ووقاره وهيبته، وصدقه ووفاؤه بالعهد وحفظه للوعد، وصلته للأرحام، وعطفه على الأيتام، فقَدْ بلغ في كُلّ ذَلِكَ الغاية، ووصل إلى النهاية، وأما زهده وورعه، فقَدْ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فقُلْتُ: لا(5/567)
يا رب. أجوع يومًا، وأشبع يومًا، فأما اليوم الَّذِي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الَّذِي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ» . وقَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَا كنا آل مُحَمَّد لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إِلا التمر والماء، وأما خوفه من ربه، وطاعته لَهُ فعَلَى قَدْرِ عمله به ولذَلِكَ قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، أرى ما لا ترون، وأسمَعَ ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إِلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إِلَى اللهِ تَعَالَى» . وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى حتى تورمت قدماه، فَقَالَتْ له عَائِشَة: أتكلف هذا وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَقَالَ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ؟ هَذَا يا عباد الله قليل من كثير من صفات سيد المرسلين ذي الخلق العَظِيم، والقدر الفخيم، فهل لكم أن تتأملوا هذه الصفات الجليلة والخصال الحميدة، فتمسكوا بها وتسيروا على نهجها قال تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآيَة.
شِعْرًا:
... يَا نَفْسُ تُوبِي فَإِنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَانَا
وَاعْصِي الْهَوَى فَالْهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا
أَمَا تَرَيْنَ الْمَنَايَا كَيْفَ تَلْقُطُنَا
لَقْطًا فَتُلْحِقُ أُخْرَانَا بِأُولانَا ... ?(5/568)
.. فِي كُلِّ يَوْمٍ لَنَا مَيِّتٌ نُشَيِّعُهُ
نَرَى بِمَصْرَعِهِ آثَارَ مَوْتَانَا
يَا نَفْسُ مَإلى وَلِلأَمْوَالِ أَتْرُكُهَا
خَلْفِي وَأُخْرَجُ مِنْ دُنْيَايَ عُرْيَانَا
أَبَعْدَ خَمْسِينَ قَدْ قَضَيْتُهَا لِعِبَا
قَدْ آنَ أَنْ تَقْصُرِي قَدْ آنَ قَدْ آنَا
مَا بِالُنَا نَتَعَامَى عَنْ مَصَائِرُنَا
نَنْسَى بِغَفْلَتِنَا مَنْ لَيْسَ يَنْسَانَا
نَزْدَادُ حِرْصًا وَهَذَا الدَّهْرُ يَزْجُرَنَا
كَانَ زَاجِرَنَا بِالْحِرْصِ أَغْرَانَا
أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ
كَانَتْ تَخِر لَهُ الأَذْقَانُ إِذْعَانَا
صَاحَتْ بِهِمْ حَادِثَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا
مُسْتَبْدِلِينَ مِن الأَوْطَانِ أَوْطَانَا
خَلَّوا مَدَائِنَ كَانَ الْعِزُّ مَفْرَشُهَا
وَاسْتَفْرَشُوا حُفُرًا غُبْرًا وَقِيعَانَا
يَا رَاكِضًا فِي مَيَادِين الْهَوَى مَرِحًا
وَرَافِلاً فِي ثِيَابِ الْغَيِّ نَشْوَانَا
مَضَى الزَّمَانُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ
يَكْفِيكَ مَا قَدْ مَضَى قَدْ كَانَ مَا كَانَا ... ?(5/569)
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوفيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكِ، وَأَرَشِدْنَا إلى السَّعْيِ إلى مَا يُرْضِيكَ وأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ.
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَوَامِرَكَ، واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ
في وصف نساء أَهْل الْجَنَّة
عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لغَدْوَةٌ في سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِهِ - يَعْنِي سَوْطَهُ - مِنْ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ اطَّلَعَتْ مَنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيْحًا ولأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ البُخَاريِ وَمُسْلِمٌ وَالطَّبَرانِيّ مُخْتَصَرًا بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: «ولَتَاجُهَا عَلَى رَأسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
(النصِيفُ) : الخِمَارُ.
(أَلْقَابُ) : هُوَ القَدْرُ، وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: قَابُ القَوْسِ مِنْ مَقْبَضِهِ إلى رَأْسِهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، والتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ وَلِكُلِّ امْرئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يَرَى مُخَّ سُوقِهما مِنْ وَرَاءِ اللحْمِ، وَمَا فيِ الجَنَّةِ أَعْزَبٌ» . رَواهُ(5/570)
البُخَارِيّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عزّ وَجَلَّ يَقُولُ: {كَأَنَّهُنَّ إلىاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فَأَمَّا إلياقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لأُرِيتَهُ مِنْ وَرَائِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِه، والتِّرْمِذِي واللفظُ لَهُ وَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وروي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «حدثني جبريل عَلَيْهِ السَّلام قال: يدخل الرجل على الحوراء فتستقبله بالمعانقة، والمصافحة» . قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فبأي بنان تعاطيه، لو أن بعض بنانها بدا لغلب ضوؤه ضوء الشمس والقمر، ولو أن طاقة من شعرها بدت لملأت ما بين المشرق والمغرب من طيب ريحها، فبينا هُوَ متكئ معها على أريكته إذ أشرف عَلَيْهِ نور من فوقه، فيظن أن الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أشرف على خلقه، فإذا حوراء تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ ، فَيَقُولُ: ومن أَنْتَ يا هذه؟ ، فَتَقُول: أَنَا من اللواتي قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} فيتحول عندها، فإذا عندها من الجمال والكمال ما لَيْسَ مَعَ الأولى، فبينا هُوَ متكئ معها على أريكته، وإذا حوراء أخرى، تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ ، فَيَقُولُ: ومن أَنْتَ يا هذه؟ فَتَقُول: أَنَا من اللواتي قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ،(5/571)
فلا يزال يتحول من زوجة إلى زوجة» . رواه الطبراني في الأوسط.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُنَّ إلياقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قَالَ: «يَنْظُرُ إِلَى وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حَلة يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ» . رواه أَحَمَد، وابن حبان في صحيحه في حديث تقدم بنحوه، والبيهقي بإسناد ابن حبان، واللفظ له.
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في صفة عرائس أَهْل الْجَنَّة وحسنهن وجمالهن ووصالهن:
... وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ لُبْسِهَا
وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ
تَهْتَزُّ كَالْغُصْنِ الرَّطِيبِ وَحَمْلُهُ
وَرْدٌ وَتُفَّاحٌ عَلَى رُمَّانِ
وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحِقُ ذَا
كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ
وَوَصَائِفٌ مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا
وَعَلى شَمَائِلِهَا وَعَنْ أَيْمَانِ
كَالْبَدْرِ لَيْلَةَ تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي
غَسَقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ ... ?(5/572)
.. فَلِسَانِهِ وَفُؤَادِهِ وَالطَّرْفُ فِي
دَهَشٍ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ
فَالْقَلْبُ قَبْلَ زِفَافِهَا فِي عُرْسِهِ
وَالْعُرْسُ إِثْرَ الْعُرْسِ مُتَّصِلانِ
حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا
أَرَأَيْتَ إِذْ يَتَقَابَلُ الْقَمَرَانِ
فَسَلِ الْمُتَيَّمَ هَلْ يَحِلُّ الصَّبْرُ عَنْ
ضَمٍّ وَتَقْبِيلٍ وَعَنْ فُلْتَانِ
وَسَلْ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ
فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ
وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ
مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ
مِنْ مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْـ
ـهٍ كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِنْ جَرَيَانِ
وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ عِيشَتُهُ إِذَا
وَهُمَا عَلَى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَانِ
يَتَسَاقَطَانِ لَئَآلِئًا مَنْثُورَةً
مِنْ بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ
وَسَلْ الْمَتَيَّمَ كَيْفَ مَجْلِسُهُ مَعَ الْـ
مَحْبُوبَ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ ... ?(5/573)
.. وَتَدُورُ كَاسَاتُ الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا
بِأَكُفٍّ أَقْمَارٍ مِن الْوِلْدَانِ
يَتَنَازَعَانِ الْكَأْسَ هَذَا مَرَّةً
وَالْخُودُ أُخْرَى ثُمَّ يَتَّكِئَانِ
فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأَيْتَ مَعْـ
شُوقَيْنِ بَعْدَ الْبُعْدِ يَلْتَقِيَانِ
غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكِّدٍ
وَهُمَا بِثَوْبِ الْوَصْلِ مُشْتَمِلانِ
أَتَرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنْ ذَا الْعَيْشِ لا
وَحَيَاةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ
وَيَزِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا حُبًّا لِصَا
حِبِهِ جَدِيدًا سَائِرَ الأَزْمَانِ
وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًّا بَعْدَهُ
مُتَسَلْسِلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانِ
فَالْوَصْلُ مَحْفُوفٌ بِحُبٍّ سَابِقٍ
وَبِلاحِقٍ وَكِلاهُمَا صِنْوَانِ
فَرْقٌ لَطِيفٌ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ ذَا
يَدْرِيهِ ذُو شُغْلٍ بِهَذَا الشَّانِ
وَمَزِيدُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ حَاصِلٌ
سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ ... ?(5/574)
.. يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ
جَدَّ الرَّحِيلُ وَلَسْتَ بِإليقْظَانِ
سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأُولى
قَنَعُوا بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْفَانِ
وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا
فَتَبَعْتَهُمْ فَرَضِيتَ بِالْحُرْمَانِ
لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْلٍ
بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ
مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللُّحُوقِ مَعَ الْقُعُو
دِ عَن الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ
وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا
مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إِمْكَانِ ... ?
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ
(وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العَظِيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جَمِيع الْخَيْر بحذافيره، وطهرها من كُلّ عيب وآفة ونقص.
فإن سألت عن أرضها وتربتها، فهي المسك والزعفران.(5/575)
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن.
وإن سألت عن بلاطها، فهو المسك الأذفر.
وإن سألت عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها، فلبنة من فضة، ولبنة من ذهب.
وإن سألت عن أشجارها، فما فيها شجرة إِلا وساقها من ذهب وفضة، لا من الحطب والخشب.
وإن سألت عن ثمرها، فأمثال القلائل إلين من الزبد، وأحلى من العسل.
وإن سألت عن ورقها، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألت عن أنهارها، فأنهار من ماء غير آسن {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} .
وإن سألت عن طعامهم، فـ {فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} .
وإن سألت عن شرابهم، فالتسنيم، والزنجبيل والكافور.
وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير ,
وإن سألت عن سعة أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عَلَيْهِ يوم وَهُوَ كظيظ من الزحام.
وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها، فإنها تستفز بالطرب لمن(5/576)
يسمعها.
وإن سألت عن ظلها، ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها.
وإن سألت عن سعتها، فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألف عام.
وإن سألت عن خيامها وقبابها، فالخيمة الواحدة من درة مجوفة، طولها ستون ميلاً من تلك الخيام.
وإن سألت عن علإليها وجواسقها، فهي {غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
وإن سألت عن ارتفاعها، فَانْظُرْ إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الَّذِي لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألت عن لباس أهلها، فهو الحرير والذهب.
وإن سألت عن فُرُشِهم فَبَطائِنُها مِن اسْتَبْرَقٍ مَفْرُوشَةٍ في أَعْلَى ألرُّتَبِ.
وإن سألت عن أرائكها، فهي الأسرة عَلَيْهَا البشخانات وهي الحجال، مزرة بأزرار الذهب، فمالها من فروج ولا خلال.
وإن سألت عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر.
وإن سألت عن أسنانهم، فأبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عَلَيْهِ السَّلام أبي البشر.(5/577)
وإن سألت عن أسماعهم، فغناء أزواجهم من الحور العين وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما خطاب رب العالمين.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ في سماع أَهْل الْجَنَّة)
وَقَالَ في النونية
... قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسِلُ رَبُّنَا
رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ
فَتُثِير أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ
إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ
يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي
بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ
أَو مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهم فِيهَا غِنَا
ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ
مُلِئَتْ بِهِ الأَذُنَانِ بِالإِحْسَانِ
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ
مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ
وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ
ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ ... ?(5/578)
.. وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ
لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ
مَا ظَنَّ سَامِعُهُ بِصَوْتِ أَطْيَبِ الْـ
أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ
نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيَّرَا
تٌ كَامِلاتُ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ
لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَا لَنَا
سَخَطٌ وَلا ضَغَنٌ مِن الأَضْغَانِ
طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو
بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُّنَا لَفْظَانِ
فِي ذَاكَ آثَارٌ رُوِينَ وَذِكْرُهَا
فِي التِّرْمِذِيِّ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِي
وَرَوَاهُ يَحْيى شَيْخُ الأَوْزَاعِي تَفْـ
سِيرًا لِلَفْظَةِ يُحْبَرُونَ أَغَانِي
نَزِّهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ ذَيَّـ
ـاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ
لا تُؤْثِرِ الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ
رَمُ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحُرْمَانِ ... ?(5/579)
.. إِن اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِل الْـ
أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِنَ النُّقْصَانِ
وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهُمْ فِي الْقَلْبِ وَالْـ
أَبْدَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ
وَاللهِ مَا انْفَكَّ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ
أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ
فَالْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ
حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ
فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ
عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ
حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا
فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ ... ?
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عَلَيْهَا، فنجائب أنشأها الله مِمَّا شَاءَ تسير بِهُمْ حيث شاءوا من الجنان.
وإن سألت عن حليهم وشارتهم فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.(5/580)
وإن سألت عن غلمانهم، (فَوِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) .
وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم، فهن الكواعب والأتراب، اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ منثور ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عَلَيْهِ الخصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك بمحادثة الحبين وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في صحن خدها، كما يرى في المرآة التي جلاها صقيلها، ويرى مخ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها.
لو اطلعت على الدُّنْيَا لملأت ما بين الأَرْض والسماء ريحًا، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتوخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كُلّ عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بِاللهِ الحي القيوم.
ونصيفها على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها، ووصالها أشهى إليه مِنْ جَمِيعِ أمانيها، لا تزداد على طول الأحقاب إِلا حسنًا وجمالاً، ولا يزداد لها طول المدى إلا محبة ووصالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا(5/581)
وإن سألت عن حسن العشرة ولذة ما هنالك، فهن الْعَرَب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل بالروح أي امتزاج، فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الْجَنَّة من ضحكها، وإذا انتقُلْتُ من قصر إلى قصر قُلْتُ هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها، وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة.
... وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلالُ لَوْ أَنَّهُ
لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ
إِنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وَإِنْ هِيَ حَدَّثَتْ
وَدَّ الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ ... ?
آخر:
... يُعَادُ حَدِيْثُهَا فَيَزِيْدُ حُسْنًا
وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ الشَيْء المُعَادُ ... ?
وإن غَنَّّتْ فَيَا لَذَّةَ الأبْصَارِ والأَسْمَاع، وإن آنَسَتْ وَأَمْتعَتْ فَيَا حَبَّذا تِلْكَ المؤَانَسَةِ والامْتَاع، وإنْ قَبلَتْ فلا شيْءَ أشْهَى مِنْ ٍذَلِكَ التّقِْبيْلِ، وإنْ نَوَّلْتَ فلا ألذَّ وَلاَ أَطْيَبَ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيْلِ.
هَذَا وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما تَرَى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وَذَلِكَ موجود في الصحاح، والسُّنَن والمسانيد، من رواية جرير وصهيب وأنس وأَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مُوَسى وأبي سعيد: فاستمَعَ يوم ينادي المنادي: يا أَهْل الْجَنَّة إن ربكم تبارك وتَعَالَى يستزيركم فحي على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قَدْ أعدت لَهُمْ، فيستوون،(5/582)
يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها.
قَدْ قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصر طرفه عَلَيْهَا فهي غاية أمنيته وهواه، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها بطاعته أطاعته، وإن غاب عَنْهَا حفظته، فهو معها في غاية الأماني والأمان.
هَذَا ولم يطمثها قبله إنس ولا جان، كُلَّما نظر إليها ملأت قَلْبهُ سرورًا، وكُلَّما حدثته ملأت أذنه لؤلؤًا مَنْظُومًا منثورًا.
وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نورًا.
وإن سألت عن السن، فأتراب في أعدل سن الشباب.
وإن سألت عن الحسن، فهل رَأَيْت الشمس والقمر.
وإن سألت عن الحدق، فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور.
وإن سألت عن القدود، فهل رَأَيْت أحسن الأغصان، وإن سألت عن النهود فهن الكواعب، نهودهن كألطف الرمان.
وإن سألت عن اللون، فكأنه إلياقوت والمرجان.
وإن سألت عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان، اللات جمع لهن بين الحسن والإحسان، فأعطين جمال الباطن والظاهر، فهن أفراح النُّفُوس، وقرة النواظر.(5/583)
على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الَّذِي جعل لَهُمْ موعدًا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي مِنْهُمْ أحدًا، أمر الرب تبارك وتَعَالَى بكرسيه فنصب هناك، ثُمَّ نصبت لَهُمْ منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم – وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء – على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا.
حتى إذا استقرت بِهُمْ مجالسهم، واطمأَنْتَ بِهُمْ أماكنهم، نادى المنادي: يا أَهْل الْجَنَّة إن لكم عَنْدَ الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هُوَ؟ ألم يبيض وجوهنا. ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الْجَنَّة، ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كَذَلِكَ إذ سطع لَهُمْ نور أشرقت له الْجَنَّة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، قَدْ أشرف عَلَيْهمْ من فوقهم،وَقَالَ: يا أَهْل الْجَنَّة سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من نقولهم: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلام ومنك السَّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لَهُمْ الرب تبارك وتَعَالَى يضحك إليهم، وَيَقُولُ: يا أَهْل الْجَنَّة، فيكون أول ما يسمعون منه تَعَالَى: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهَذَا يوم المزيد. فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قَدْ رضينا فارض عنا، فَيَقُولُ: يا أَهْل الْجَنَّة: إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هَذَا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه. فيكشف لَهُمْ الرب جل جلاله الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره ما لو أن الله تَعَالَى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذَلِكَ المجلس أحد إِلا حاضره ربه تَعَالَى محاضرة، حتى إنه(5/584)
ليَقُولُ: يا فلان أتذكر يوم فعلت كَذَا وَكَذَا؟ يذكره ببعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب ألم تغفر لي؟ فَيَقُولُ: بلى بمغفرتي بلغتك منزلتك هذه، فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأَبْرَار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخِرَة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .
... فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا
مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوُّ فَهَلْ تَرَى
نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ ... ?
اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لا خوفٌ عَلَيْهمْ ولا هُمْ يَحْزَنونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شِعْرًا:
... أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مُعَافًا وَمُبتَلَى
وَمَا زَالَ حُكْمُ اللهِ فِي الأَرْضِ مُرْسَلا
مَضَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ سَابِقُ عِلْمِهِ
وَفَصَّلَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَوَصَّلا
وَلَسْنَا عَلى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ
نَرَى حَكَمًا فِينَا مِنَ اللهِ أَعْدَلا
بِلا خَلْقَهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَرِّ فِتنَةً
لِيَرْغَبَ فِيمَا فِي يَدَيْهِ وَيَسْأَلا ... ?(5/585)
.. وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ نَبُوءَ بِفَضْلِهِ
عَلَيْنَا وَإِلا أَنْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا
هُوَ الأَحَدُ الْقَيُّومُ مِنْ بَعْدِ خَلْقِهِ
وَمَا زَالَ فِي دَيْمُومَةِ الْخَلْقِ أَوَّلا
وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانَ إِلا لِغايَةٍ
وَلَمْ يَتْرُكِ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ مُهْمَلا
كَفَى عِبْرَةً أَنَّا وَأَنَّكَ يَا أَخِي
نُصَرِّفُ تَصْرِيفًا لَطِيفًا وَنُبْتَلَى
كَانَا وَقَدْ صِرْنَا حَدِيثًا لِغَيْرِنَا
يُخَاضُ كَمَا خُضْنَا الْحَدِيثَ بِمَنْ خَلا
تَوَهَّمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلُوا فَكَأَنَّهُمُ
بِأَجْمَعِهِم كَانُوا خَيَالاً تَخَيَّلا
وَلَسْتُ بِأَبْقَى مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ
وَلَكِنَّ لِي فِيهَا كِتَابًا مُؤَجَّلا
وَمَا النَّاسُ إِلا مَيِّتٌ وَابْنُ مَيِّتٍ
تَأَجَّلَ حَيٌّ مِنْهُمْ أَوْ تَعَجَّلا
فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعدَهُ
بِمَا كَانَ أَوْصَى الْمُسْلِمِينَ وَأَرْسَلا
هُوَ الْمَوْتُ يَا ابْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثُ بَعْدَهُ
فَمِنْ بَيْنِ مَبْعُوثٍ مُخفًا وَمُثْقَلاَ
وَمِنْ بَيْنِ مَسْحُوبٍ عَلَى حُرٍّ وَجْهِهِ
وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَأْتِي أَغَرَّ مُحَجَّلا ... ?(5/586)
.. عَشِقْنَا مِنَ اللَّذَاتِ كُلَّ مُحَرَّمٍ
فَأُفٍّ عَلَيْنَا مَا أَغَرَّ وَأَجْهَلا
لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنَا
يَعَافُونَ مِنْهُنَّ الْحَلالَ الْمُحَلَّلا
رَكَنّا إِلَى الدُّنْيَا فَطَالَ رُكُونُنَا
وَلَسْنَا نَرَ الدُّنْيَا عَلَى ذَاكَ مَنْزِلا
فَلِلَّهِ دَارٌ مَا أَحَثَّ رَحِيلَهَا
وَمَا أَعْرَضَ الآمَالَ مِنْهَا وَأَطْوَلا
أَبيّ الْمَرْءُ إِلا أَنْ يَطُولَ اغْتِرَارُهُ
وَتَأْبَى بِهِ الْحَالاتُ إِلا تَنَقُّلا
إِذَا أَمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا فَنَالَهُ
سَمَا يَبْتَغِي فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَمَّلا
وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ عَزَّ مِن بَعْدِ ذِلَّةٍ
وَكَمْ مِنْ رَفِيعٍ كَانَ قَدْ صَارَ أَسْفَلا
وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلِمًا فِي وَفَاتِهِ
وَإِنْ أَكْثَرَ الْبَاكِي عَلَيْهِ وَأَعْوَلا
وَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّأْنِ فِي قَعْرِ حُفْرَةٍ
تَلَحَّفَ فِيهَا بِالثَّرَى وَتَسَرْبَلا
أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ
تَرَى الْمَوْتَ فِيهِ بِالْعِبَادِ مُوَكَّلا
تُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا لِتَبْلُغَ عِزَّها
وَلَسْتَ تَنَالُ العِزَّ حَتَّى تَذَلَّلا ... ?(5/587)
.. إِذَا اصْطَحَبَ الأَقْوَامُ كَانَ أَذَلُّهُمْ
لأَصْحَابِهِ نَفْسًا أَبَرَّ وَأَفْضَلا
وَمَا الْفَضْلُ فِي أَنْ يُؤثِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ
وَلَكِنَّ فَضْلَ الْمَرْءِ أَنْ يَتَفَضَّلا ... ?
اللَّهُمَّ يا من عم العباد فضله ونعماؤه، ووسع البرية جوده وعطاؤه، نسأل منك الجود والإحسان، والعفو والغفران، والصفح والأمان، والعتق من النيران، وتوبة تجلو أنوارها ظلمَاتَ الإساءة والعصيان، يا كريم يا.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ثبوت الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ وَاجْعَلْنَا هُداةً مُهْتَدِين وَأَصْلِحْ أَوْلادَنَا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مَعَ عبادك الصالحين في جنات النَّعِيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وأصْحابِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
(في نظر أَهْل الْجَنَّة إلى ربهم تبارك وتَعَالَى)
عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» فذكر الْحَدِيث بطوله. رواه البخاري، ومسلم.
وَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ - قَالَ -: فَيَكْشِفُ(5/588)
الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ – ثُمَّ تلا هذه الآيَة -: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} » . رواه مسلم، والترمذي، والنسائي.
وَعَنْ أَبِي مُوسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، فِي كُلّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» . رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، والترمذي.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بِنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ?: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَاركَ وَتَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سلوني، فَقَالُوا: نسألك الرِّضَا عنا، قال: رضائي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، وهَذَا أوانها فسلوني، قَالُوا: نسألك الزيادة، قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر أزمتها من زمرد أخضر، وياقوت أحمر، فيحملون عَلَيْهَا، تضع حوافرها عَنْدَ منتهى طرفها، فيأمر الله عَزَّ وَجَلَّ بأشجار عَلَيْهَا الثمار، فتجيء حوراء من الحور العين وهن يقلن: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا نَبْأَسُ، نَحْنُ الخالدات فلا نموت، أزواج قوم مؤمنين كرام، ويأمر الله عَزَّ وَجَلَّ بكثبان من مسك أبيض، فينشر عَلَيْهمْ ريحًا يُقَالُ: لها: المثيرة، حتى تنتهي بِهُمْ إلى جنة عدن، وهي قصبة الْجَنَّة، فَتَقُول الملائكة: يا ربنا قَدْ جَاءَ القوم، فَيَقُولُ: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين. قال: فيكشف لَهُمْ الحجاب، فينظرون إِلَى اللهِ تبارك(5/589)
وتَعَالَى، فيتمتعون بنور الرحمن، حتى لا ينظر بَعْضهمْ بعضًا، ثُمَّ يَقُولُ: أرجعوهم القصور بالتحف، فيرجعون وقَدْ أبصر بَعْضهمْ بعضًا، فَقَالَ رسول الله ?: فذَلِكَ قوله: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} . رواه أبو نعيم، والبيهقي، واللفظ له، وَقَالَ: وقَدْ مضى في هَذَا الْكِتَاب، يعني: في كتاب البعث، وفي كتاب الرؤية ما يؤكد ما روي في هَذَا الخبر. انتهى.
وَهُوَ عَنْدَ ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا مختصر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ جلَّ جَلالهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْء مِمَّا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إليه، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَتَبْقَى فِيهِم بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ» . هَذَا لَفْظُ ابْنُ مَاجَة، وَالآخرُ بِنَحْوِهِ.
عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: جَاءَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقُلْتُ: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الْجُمُعَة يعرضها عَلَيْكَ ربك لتَكُون لك عيدًا ولقومك من بعدك، تَكُون أَنْتَ الأول، وتَكُون اليهود والنَّصَارَى من بعدك، قال: مالنا فيها؟ قال: فيها خَيْر لكم، فيها ساعة من دعا ربه فيها بخَيْر – هُوَ له قسم - إِلا أعطاه إياه، أو لَيْسَ بقسم إِلا ادخر له ما هُوَ أعظم منه، أو تعوذ فيها من شر هُوَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه، أو لَيْسَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه من أعظم منه، قُلْتُ: ما هذه النكتة السوداء فيها؟ قال: هذه الساعة تقم يوم الْجُمُعَة، وَهُوَ سيد الأيام عندنا، ونَحْنُ ندعوه في الآخِرَة: يوم المزيد. قال: قُلْتُ: لم تدعونه يوم المزيد؟ قال: إن ربك عزَّ وجل اتخذ في الْجَنَّة(5/590)
واديًا أفيح من مسك أبيض، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة نزل تبارك وتَعَالَى من عليين، فجلس على كرسيه، ثُمَّ حف الكرسي بمنابر من نور، وجَاءَ النبيون حتى يجلسوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يجيء أَهْل الْجَنَّة حتى ينظروا إلى وجهه، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، هَذَا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه الرِّضَا، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لَهُمْ عَنْدَ ذَلِكَ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف النَّاس يوم الْجُمُعَة، ثُمَّ يصعد الرب تبارك وتَعَالَى على كرسيه، فيصعد معه الشهداء والصديقون» . أحسبه قال: «ويرجع أَهْل الغرف إلى غرفهم، درة بيضاء، لا فصم فيها ولا وصم، أو ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء منها غرفها، وأبوابها، مطردة فيها أنهارها، متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليسوا إلى شَيْء أحوج مِنْهُمْ إلى يوم الْجُمُعَة ليزداد فيه كرامة، وليزدادوا فيه نظرًا إلى وجهه تبارك وتَعَالَى ولذَلِكَ دعي يوم المزيد» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا، والطبراني في الأوسط بإسنادين، أحدهما: جيد قوي، وأبو يعلى مختصرًا ورواته رواة الصحيح، والبزار، واللفظ له.
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
... أَوَ مَا سَمِعْتَ بِشَأْنِهِمْ يَوْمَ الْمَزِيـ
دِ وَأَنَّهُ شَانٌ عَظِيمُ الشَّانِ
هُوَ يَوْمُ جُمْعَتِنَا وَيَوْمَ زِيَارَةِ الـ
ـرَّحْمَنِ وَقْتَ صَلاتِنَا وَأَذَانِ
وَالسَّابِقُونَ إِلَى الصَّلاةِ هُمْ الأُولَى ... ???? ... فَازُوا بِذَاكَ السَّبْقِ بِالإِحْسَانِ ... ???? ... سَبْقٌ بِسَبْقٍ وَالْمُؤَخَّرُ هَا هُنَا ... ???? ... مُتَأَخَّرٌ فِي ذَلِكَ الْمَيْدَانِ ... ????(5/591)
.. وَالأَقْرَبُونَ إِلَى الإِمَامِ فَهُمْ أُولُو ... ???? ... الزُّلْفَى هُنَاكَ فَهَا هُنَا قُرْبَانِ ... ???? ... قُرُبٌ بِقُرْبٍ وَالْمُبَاعَدُ مِثْلُهُ
بُعْدٌ بِبُعْدٍ حِكْمَةُ الدَّيَّانِ
وَلَهُمْ مَنَابِرُ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ
وَمَنَابِرُ إلياقُوتِ وَالْعِقْيَانِ
هَذَا وَأَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِي
مِن فَوْقَ ذَاكَ الْمِسْكِ كَالْكُثْبَانِ
مَا عِنْدَهُمْ أَهْلُ الْمَنَابِرِ فَوْقَهُمْ
مِمَّا يَرَوْنَ بِهِمْ مِنَ الإِحْسَانِ
فَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى جَهْرَةً
نَظَرَ الْعِيَانِ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ
وَيُحَاضِرُ الرَّحْمَنُ وَاحِدَاهُمْ مُحَا
ضَرَةَ الْحَبِيب يَقُولُ يَا ابْنَ فُلانِ
هَلْ تَذْكُرُ اليوم الَّذِي قَدْ كُنْتَ فِيـ ... ???? ... ـهِ مُبَارِزًا بِالذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ ... ???? ... فَيَقُولُ رَبِّ أَمَا مَنَنْتَ بِغَفْرَةٍ
قِدْمًا فَإِنَّكَ وَاسِعُ الْغُفْرَانِ
فَيُجِيبُهُ الرَّحْمَنُ مَغْفِرَتِي الَّتِي
قَدْ أَوْصَلَتْكَ إِلَى الْمَحَل الدَّانِي ... ?
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّإلينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا(5/592)
وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ،
اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(موعظة) : عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنتم في دار المعاملات، وأن لكم درًا أخرى أبدية، فيها تستوفون مالكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كَانَ جزاؤكم هناك إحسانَا أو إساءات، هكَذَا وعدكم ربكم، وَهُوَ عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عَلَيْهَا قدير، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} ، وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وَقَالَ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من هَذَا قاطعًا تعلم أن شأن هذه المعاملات عَظِيم عظمًا لا يعرف قدره إِلا الرجل العاقل، الْبَعِيد النظر الحكيم، فإن عَلَيْهَا يترتب غضب الله وعقابه أو رضاه، والنَّعِيم الْمُقِيم، وشَيْء هَذَا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مَعَ الله جَلَّ وَعَلا فبأن تسمَعَ وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مَعَ عباد الله الْمُؤْمِنِين، فبأن تحب لَهُمْ ما تحب لنفسك، وَذَلِكَ بأن تجعل نفسك ميزانَا في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أَنْتَ تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا مالك بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان،وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر، فكن لَهُمْ خَيْر حفيظ ونصير، وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك، فأرحهم عَنْدَ مجاورتك لَهُمْ، وكما تحب أن ينصحوك(5/593)
ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أَنْتَ إلى ذَلِكَ، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أَنْتَ كَذَلِكَ معهم، وكما تحب أن لا يتكلموا فيك إلا بخَيْر، فلا تكن أَنْتَ معهم بضد ذَلِكَ، وقس على ذَلِكَ ما يتعلق بالموضوع، وأما معاملتك مَعَ نفسك، فهي أن تعودها دائمًا على الْخَيْر بلا ضجر.
شِعْرًا:
... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ أَبْلَجُ لائِحُ
وَأَنَّ لِجَاجَاتِ النُّفُوسِ جَوائِحُ
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَكْفُفْ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ
فَلَيْسَ لَهُ مَا عَاشَ مِنْهُمْ مُصَالِحُ
إِذَا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ
وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالْعَبْدُ صَالِحُ
إِذَا الْعَبْدُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ
فَلَيْسَ لَهُ وَالْحَمْدُ للهِ مَادِحُ
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ لَمْ يَصْفُ عَيْشُهُ
وَمَا يَسْتَطِيبُ الْعَيْشَ إِلا الْمُسَامِحُ
وَبَيْنَا الْفَتَى وَالْمُلْهِيَاتُ يُذِقْنَهُ
جِنَى اللَّهْوِ إِذْ نَاحَتْ عَلَيْهِ النَّوَائِحُ
وَإِنَّ امْرأً أَصْفَاكَ فِي اللهِ وُدَّهُ
وَكَانَ عَلَى التَّقْوَى مُعِينًا لِصَالِحُ ... ?(5/594)
.. وَإِنَّ أَلَبَّ النَّاسِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ
بِمَا شَهِدَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ ... ?
اللَّهُمَّ عَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، ووفقنا لطَاعَتكَ ومرضاتك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وروي عن حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاني جبريل، فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكتة سواداء، قال: قُلْتُ: يا جبريل ما هذه؟ قال: هذه الدُّنْيَا صفاؤها وحسنها، قال: قُلْتُ: وما هذه اللمعة السوداء في وسطها؟ قال: قال هذه الْجُمُعَة قال: قُلْتُ: وما الْجُمُعَة: قال: يوم من أيام ربك عَظِيم، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا والآخِرَة، أما شرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا، فإن الله تبارك وتَعَالَى جمَعَ فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه، فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله فيها خيرًا إِلا أعطاها إياه، وأما شرفه وفضله واسمه في الآخِرَة فإن الله تَعَالَى إذا صير أَهْل الْجَنَّة إلى الْجَنَّة، وأدخل أَهْل النار النار، وجرت عَلَيْهمْ أيامها وساعتها، لَيْسَ بها ليل ولا نهار إِلا قَدْ علم الله مقدار ذَلِكَ وساعته، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة في الحين الَّذِي يبرز أو يخَرَجَ فيه أَهْل الْجُمُعَة،(5/595)
نادى مناد: يا أَهْل الْجَنَّة أخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعتها وعرضها وطولها إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فيخرجون في كثبان من المسك» ، قال حذيفة: وإنه لهو أشد بياضًا من دقيقكم هَذَا، قال: فيخَرَجَ غلمان الأنبياء بمنابر من نور، ويخَرَجَ غلمان الْمُؤْمِنِين بكراسي من ياقوت، قال: فإذا وضعت لَهُمْ، وأخذ القوم مجالسهم، بعث الله تبارك وتَعَالَى عَلَيْهمْ ريحًا تدعى المثيرة، تثير عَلَيْهمْ أثابير المسك الأَبْيَض، فتدخله من تحت ثيابهم،وتخرجه في وجوههم وإشعارهم، فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من امرأة أحدكم لو دفع إليها كُلّ طيب على وجه الأَرْض لكأَنْتَ تلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من تلك المرأة لو دفع إليها ذَلِكَ الطيب بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: ثُمَّ يوحي الله سُبْحَانَهُ إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الْجَنَّة، وبينه وبينهم الحجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يَقُولُ: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فسلوني فهَذَا يوم المزيد. قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب رضينا عَنْكَ، فارض عنا، قال: فيرجع الله تَعَالَى في قولهم: أن يا أَهْل الْجَنَّة إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي فسلوني فهَذَا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب وجهك أرنا ننظر إليه. قال: فيكشف الله تبارك وتَعَالَى تلك الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره شَيْء، لو أنه قضى عَلَيْهمْ أن لا يحترقوا مِمَّا غشيهم من نوره، قال: ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: ارجعوا إلى منازلكم، قال: فيرجعون إلى منازلهم، وقَدْ خفوا على أزواجهم، وخفين عَلَيْهمْ، مِمَّا غشاهم من نوره. انتهى.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هل نرى ربنا؟ قال: نعم، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: «كَذَلِكَ لا(5/596)
تتمارون في رؤية ربكم عَزَّ وَجَلَّ ولا يبقى فذ يدلك المجلس أحد إِلا حاضره الله عَزَّ وَجَلَّ محاضرة حتى أن يَقُولُ للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كَذَا وَكَذَا يذكره بعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب أفلم تغفر لي فَيَقُولُ: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كَذَلِكَ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عَلَيْهمْ طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شَيْئًا قط ثُمَّ يَقُولُ: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فنأتي سوقًا قَدْ حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمَعَ الآذان ولم يخطر على القُلُوب، قال: فيحمل لنا ما اشتهينا لَيْسَ يباع فيه شَيْء ولا يشتَرَى وفي ذَلِكَ السوق يلقى يلقى أَهْل الْجَنَّة بَعْضهمْ بعضًا، فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هُوَ دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عَلَيْهِ من اللباس فما ينقص آخر حديثه حتى يتمثل له عَلَيْهِ أحسن منه وَذَلِكَ أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها قال: ثُمَّ ننصرف إلى منازلنا فتلقانَا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلاً لَقَدْ جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مِمَّا فارقتنا عَلَيْهِ فنقول: أَنَا جالسنا اليوم ربنا الجبار عَزَّ وَجَلَّ ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا.
قال ابن القيم في سوق الْجَنَّة:
... فَيَقُولُ جَلَّ جَلالُهُ قُومُوا إِلَى
مَا قَدْ ذَخَرْتُ لَكُمْ مِنَ الإِحْسَانِ
يَأْتُونَ سُوقًا لا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى
فِيهِ فَخُذْ مِنْهُ بِلا أَثْمَانِ ... ?(5/597)
.. قَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارَ أَثْمَانَ الْمَبِيـ ... ???? ... ـعِ بِعَقْدِهِمْ فِي بيعةِ الرِّضْوَانِ ... ???? ... للهِ سُوقٌ قَدْ أَقَامَتُهُ الْمَلا
ئِكَةُ الْكِرَامُ بِكُلِّ مَا إِحْسَانِ
فِيهِ الَّذِي وَاللهِ لا عَيْنٌ رَأَتْ
كَلا وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُذُنَانِ
كَلا وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْبِ امْرِئٍ
فَيَكُونُ عَنْهُ مُعْبِرًا بِلِسَانِ
فَيَرَى امْرَأً مِنْ فَوْقَهُ فِي هَيْئَةٍ
فَيَرُوعُهُ مَا تَنْظُرُ الْعَيْنَانِ
فَإِذَا عَلَيْهِ مِثْلُهَا إِذْ لَيْسَ يَلْـ ... ???? ... ـحَقُ أَهْلَهَا شَيْءٌ مِن الأَحْزَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَا السُّوقِ الَّذِي مِن حَلَّهُ
نَالَ التَّهَانِي كُلَّهَا بِأَمَانِ
يُدْعَى بِسُوقِ تَعَارُفٍ مَا فِيهِ مِنْ
صَخَبٍ وَلا غِشٍّ وَلا أَيْمَانِ
وَتِجَارَةٍ مَنْ لَيْسَ تُلْهِيهِ تِجَا
رَاتٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ الرَّحْمَنِ
أَهْلُ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ وَالتُّقَى
وَالذِّكْرِ لِلرَّحْمَنِ كُلَّ أَوَانِ
يَا مَنْ تَعَوَّضَ عَنْهُ بِالسُّوقِ الَّذِي(5/598)
.. رُكزَتْ لَدَيْهِ رَايَةُ الشَّيْطَانِ
لَوْ كُنْتَ تَدْرِي قَدْرَ ذَاكَ السُّوق لِمْ
تَرْكَنْ إِلَى سُوق الْكَسَادِ الْفَانِي ... ?
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِن لَفَحَاتِ الجَحِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : اعْلَمْ أن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى اختار من كُلّ جنس من أجناس المخلوقات أطيبه. واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تَعَالَى طيب لا يحب إِلا الطيب، ولا يقبل من الْعَمَل والكلام والصدقة إِلا الطيب، فالطيب من كُلّ شَيْء هُوَ مختاره تَعَالَى، وأما خلقه تَعَالَى فعام للنوعين.
وبهَذَا يعلم عنوان سعادة الْعَبْد وشقائه، فإن الطيب لا يناسبه إِلا الطيب ولا يرضى إِلا به، ولا يسكن إِلا إليه، ولا يطمئن قَلْبهُ إِلا به، فله من الكلم الطيب الَّذِي لا يصعد إِلَى اللهِ تَعَالَى إلا هُوَ، وَهُوَ أشد شَيْء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان والبذاء، والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور، وكل كلام خبيث.
وكَذَلِكَ لا يألف من الأعمال إِلا أطيبها وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مَعَ الشرائع النبوية، وزكتها العقول الصحيحة. فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة.
مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شَيْئًا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه جهده وطاقته، ويحسن إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بِهُمْ ما يحب أن يفعلوه به، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه به،ويدعهم مِمَّا يجب أن يدعوه منه.
وينصحهم لما ينصح به نَفْسهُ، ويحكم لَهُمْ بما يجب أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بمثل ما نالوا من عرضه، وإذا رأى لَهُمْ(5/599)
حسنًا أذاعه وإذا رأى لَهُمْ سيئًا كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة، ولا يناقض الله أمرًا ولا نهيًا.
وله أيضًا من الأَخْلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم والوقار والسكينة، والرحمة والصبر والوفاء، وسهوله الجانب ولين العريكة والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقَدْ والحسد، والتواضع وخفض الجناح لأَهْل الإِيمَان.
والعزة والغلظة على أعداء الله وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة. وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول.
وكَذَلِكَ لا يختار من المطاعم إِلا أطيبها وَهُوَ الحلال الهنيء المريء الَّذِي يغذي البدن والروح أحسن تغذية، مَعَ سلامة الْعَبْد من تبعته. وكَذَلِكَ لا يختار من المناكح إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الرائحة إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الأصحاب والعشراء إِلا الطيبين مِنْهُمْ.
فروحه طيب وبدنه طيب، وخلقه طيب، وعمله طيب، وكلامه طيب، ومطعمه طيب، ومشربه طيب، وملبسه طيب، ومنكحه طيب، ومدخله طيب ومخرجه طيب، ومنقَلْبهُ طيب، ومثواه كله طيب.
فهَذَا ممن قَالَ اللهُ تَعَالَى فيه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ومن الَّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خزنة الْجَنَّة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} .
وهَذَا الفناء تقتضي السببية، أي بسبب طيبكم ادخلوها. وَقَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وقَدْ فسرت الآيَة بأن الكلمات الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، والكلمات الطَّيِّبَاتُ، للطَّيِّبِينَ، وفسرت بأن النساء َالطَّيِّبَاتُ للرِجَال الطَّيِّبِينَ، والنساء الْخَبِيثَاتُ للرِجَال اِلْخَبِيثِينَ، وهي تعم ذَلِكَ وغيره.(5/600)
فالكلمَاتَ والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمَاتَ والأعمال والنساء الخبيثات لمناسبها الخبيثين. وَاللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى جعل الطيب بحذافيره في الْجَنَّة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار. فجعل الدور ثلاثة:
دار أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين. وقَدْ جمعت كُلّ طيب، وهي الْجَنَّة.
ودار أخلصت للخبيثين والخبائث، ولا يدخلها إِلا الخبيثون، وهي النار.
ودار امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار.
ولهَذَا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هَذَا الامتزاج والاختلاط، وَذَلِكَ بموجب الحكمة الإلهية. فإذا كَانَ يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب.
فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأَمْر إلى دارين فقط: الْجَنَّة، وهي دار الطيبين، والنار: وهي دار الخبيثين.
وأنشأ الله تَعَالَى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم، فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين نعيمهم ولذاتهم، فأنشأ لَهُمْ منها أكمل أسباب النَّعِيم والسرور. وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لَهُمْ منها أعظم أسباب العقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزة باهرة قاهرة، ليرى عباده كمال ربوبيته، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنهم كَانُوا هم المفترين الكذابين، لا رسله البررة الصادقون قال الله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ}(5/601)
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ جعل للسعادة والشقاء عنوانَا يعرفان به. فالسَّعِيد الطيب لا يليق به إِلا طيب، ولا يأتي إِلا طيبًا، ولا يصدر منه إِلا طيب، ولا يلبس إِلا طيبًا، والشقي الخبيث لا يليق به إِلا الخبيث، ولا يأتي إِلا خبيثًا ولا يصدر منه إِلا الخبيث.
فالخبيث: يتفجر من قَلْبهُ الخبث على لِسَانه وجوارحه. والطيب: يتفجر من قَلْبهُ الطيب على لِسَانه وجوارحه، وقَدْ يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عَلَيْهِ كَانَ من أهله، فإن أراد الله به خيرًا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوافيه يوم القيامة مطهرًا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار.
فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة حتى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة. ويمسك عن الآخِر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمته تَعَالَى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له، وتصفية وسبكًا، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذٍ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.
وإقامة هَذَا النوع من النَّاس في النار على حسب سرعة زَوَال تلك الخبائث مِنْهُمْ وبطئها فأسرعهم زوالاً وتطهيرًا أسرعهم خروجًا، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
وما كَانَ المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه، بل لو خَرَجَ منها لعاد خبيثًا كما كَانَ كالكلب إذا دخل البحر ثُمَّ خَرَجَ منه فلذَلِكَ حرم الله تَعَالَى على المشرك الْجَنَّة. ولما كَانَ المُؤْمِن الطيب المطيب مبرًا من الخبائث، كأَنْتَ النار حرامًا عَلَيْهِ، إذا لَيْسَ فيه ما يقتضي تطهيره بها.(5/602)
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين، لا إله إِلا هُوَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَمَ.
(فَصْلٌ)
خطب أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رضوان الله عَلَيْهِ بالكوفة، فَقَالَ في كلام له:
سبحانك خالقًا معبودًا بحسن بَلائِكَ في خلقك، خلقت دارًا وجعلت مأدبة ومطعمًا ومشربًا، وأزواجًا وقصورًا، وخدمًا وعيونًا وأنهارًا، ثُمَّ أرسلت داعيًا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغبتنا رغبنا، أقبلنا على جيفة نأكل منها، قَدْ زَادَ بعضنا على بعض حرصًا عَلَيْهَا، وافتضحنا لما اصطلحنا على حبها، عميت أبصار صالحينا وفقهائنا فيها، ولها من في قَلْبهُ مرض، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمَعَ بأذن غير سميعة، وقَدْ ملكت الشهوات عقله، وأماتت الدُّنْيَا قَلْبهُ، وذهلت عَلَيْهَا نَفْسهُ، فهو عبدها وعبد من في يديه منها شَيْء، حيثما زالت زال معها، وحيثما أقبلت أقبل إليها، لا يعقل ولا يسمَعَ، ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ من الله بواعظ. قَدْ رأى المأخوذين على الغرة حيث لا إقالة ولا رجعة كيف فاجاتهم تلك الأمور، ونزل بِهُمْ ما كَانُوا يوعدون، وفارقوا الدور، وصاروا إلى القبور، ولقوا دواهي تلك الأمور، فإذا نزلت بقُلُوبهمْ حسرات أنفسهم، اجتمعت عَلَيْهمْ خصلتان، حَسْرَة الفوت، وسكرة الموت، تفطرت لها قُلُوبهمْ، وتغيرت ألوانهم، وتردد فوافهم وحركوا لمخَرَجَ أرواحهم أيديهم وأرجلهم، فعرقت لذَلِكَ جباههم، ثُمَّ ازداد الموت فيهم، فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنه لبين ظهراني قومه ففكر بعقل بقي له: فيم فني عمره، وفيم ذهبت أيامه!!
عن الأصمعي رَحِمَهُ اللهُ قال: حجبت فنزلت ضرية في يوم جمعة، فإذا أعرابي قَدْ كور عمامته، وتنكب قوسه، فصعد المنبر فحمد الله، وأثنى عَلَيْهِ،(5/603)
وصلى على نبيه ?، ثُمَّ قال: أيها النَّاس، إن الدُّنْيَا دار ممر، والآخِر دار مقر فخذوا من دار ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عَنْدَ من لا تخفى عَلَيْهِ أسراركم، فإنه لن يستقبل أحدٌ يومًا من عمره إِلا بفارق آخر من أجله، وإن أمس موعظة، واليوم غنيمة، وغدًا لا يدري من أهله. فاستصلحوا ما تقدمون عَلَيْهِ، واقنوا ما لا ترجعون إليه، واخرجوا من الدُّنْيَا بقلوبكم قبل أن تخَرَجَ منها أبدانكم، ففيها خلقنم، وإلى غيرها ندبتم. وإنه لا قوي أقوي من الخالق، ولا ضعيف أضعف من مخلوق، ولا هرب من الله إِلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يدي طالبه، و {كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير.
... لا يَخْدَعَنَّكَ صِحَّةٌ وَفَرَاغ
مَا لا يَدُومُ عَلَيْكَ فَهُوَ مُعَارُ
يَغْشَى الْفَتَى حُبَّ الْحَيَاةِ وَزِينَةَ الدُّ
نْيَا وَيَنْسَى مَا إليه يُصَارُ
وَإِذَا الْبَصَائِرُ عَنْ طَرَائِقِ رُشْدِهَا
عَمِيَتْ فَمَاذَا تَنْفَعُ الأَبْصَارُ
لا تَغْتَرِرْ بِالدَّهْرِ إِنْ وَافَاكَ فِي
حَالٍ يَسُرُّكَ إِنَّهُ غَرَّارُ
انْظُرْ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَاعْتَبِرْ
سَتَصِيرُ عَنْ قُرْبٍ إِلَى مَا صَارُوا
آخر: ... النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهُمْ
وَمِمَّا يُفِيقُونَ حَتَّى يَنْفَدَ الْعُمُرُ ... ?(5/604)
.. يُشِيعُونَ أَهَإليهِمْ بِجَمْعِمُوا
وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَا فِي قَدْ قُبِرُوا
وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَحْلامِ غَفْلَتِهِمْ
كَأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْئًا وَلا نَظَرُوا ... ?
اللَّهُمَّ إن حسناتنا من عطائك، وسيئآتنا من قضائك، فجد اللَّهُمَّ بما أعطيت، على ما به قضيت، حتى تمحو ذَلِكَ بذَلِكَ، اللَّهُمَّ إن مساوينا قطعت عنا الوسائل، غير أَنَا علمنا أنك رب كريم، ومولى رؤوف رحيم، فجرانَا مَعَ قبح أفعالنا، وضعف أعمالنا، علمنا بذَلِكَ، وحملنا – مَعَ البعد عَنْكَ - رجاؤنا في نوالك، فاستجب لنا، واغفر لنا وارحمنا، وتب عَلَيْنَا، وعافنا واعف عنا، وحقق رجاءنا، واسمَعَ دعاءنا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
وهذه قصة الذبيح إسماعيل بن إبراهيم الخليل عَلَيْهِمَا الصَّلاة والسَّلام
... الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى ... إِنْعَامِهِ فَهُوَ ذُو الأَنْعَامِ وَالنِّعَمِ
وَبَعْدَ هَذَا فَآلافُ الصَّلاةِ عَلَى ... مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ
وَالآلِ وَالصَّحْبِ ثُمَّ التَّابِعِينَ لَهُمْ ... مَا لاحَ بَرْقٌ وَسَحَّتْ أَعينُ الدِّيمِ
إِنِّي نَظَمْتُ لأَمْرٍ لِلْخَلِيلِ بِمَا ... أَدَّاهُ فِكْرِي وَمَا أَبْدَى بِهِ قَلَمِي
فَبَيْنَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُضْطَجِعًا ... الْعَيْنُ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبُ لَمْ يَنَمِ
رَأَى مَنَامًا بِأَنَّ اللهَ يَأْمُرُهُ ... بِذَبْحِ ابن صَدُوقِ الْقَوْلِ ذِي الشِّيَمِ
أَعْنِي أَبَا الْعَرَبِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ بِهِ ... جَمَاعَةٌ مِنْ ذَوِي الأَلْبَابِ وَالْحِكَمِ
وَبَعْضُهُمْ قَالَ إِسْحَقَ الذَّبِيحَ وَقَدْ ... تَوَاتَرَ الْقَوْلُ فِيمَنْ قَبْلُ كَانَ سُمِي
نَادَاهُ إِنِّي أَرَى فِي النَّوْمِ ذَبْحَكَ يَا ... بُنَيَّ فَانْظُرْ فَمَا رُؤْيَايَ بِالْحُلُمِ(5/605)
فَقَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... مُبَادِرًا أَنْتَ أَمْرَ اللهِ لَنْ تُلَمِ
لَكِنَّ وَالدَتِي وَارَحْمَتَاهُ لَهَا ... مَاذَا يَحِلُّ بِهَا إِنْ خُبِّرَتْ بِدَمِ
فَاقْرِي وَالِدَتِي مِنِّي السَّلامَ وَقُلْ ... لَهَا أصْبِرِي لِقَضَاءِ اللهِ وَاعْتَصِمِ
حَولْ لِوَجْهِكَ عِنْدَ الذَّبْحِ يَا أَبَتِي ... وَاغْضُضْ بِطَرْفِكَ لا تَجْزَعْ لِسَفْكِ دَمِي
فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُ بِي ... مَا شَاءَ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ وَذُو كَرَمِ
فَاسْتَسْلَمَا ثُمَّ سَارَ عَازِمِينَ عَلَى ... إِنْفَاذِ أَمْرِ إلَهٍ مُحْيِي الرِّمَمِ
فَجَاءَ إِبْلَيْسُ يَسْعَى وَهُوَ ذُو عَجَلٍ ... فِي زِيِّ شَيْخٍ كَبِيرِ السِّنِّ ذِي هَرَمِ
فَقَالَ أَنْتَ خَلِيلُ اللهِ تَسْمَعُ مَا ... يُوحِيهِ إِبْلَيْسَ فِي الأَضْغَانِ وَالْحُلُمِ
أَجَابَهُ اخْسَأْ عَدَوَّ اللهِ إِنَّكَ إِبْـ ... ـلَيْسُ اللَّعِينُ قَرِينُ الشَّرِّ وَالنَّدَمِ
فَرَاحَ عَنْهُ وَوَلَّى خَاسِئًا خَجِلاً ... يَقُولُ قَدْ فَاتَنِي الْمَطْلُوبُ وَآلِمِ
ثُمَّ انْثَنَى نَحْوَ إِسْمَاعِيلَ مُمْتَحِنًا ... لَهُ يَقُولُ ادْنُ مِنِّي وَاسْتَمِعْ كَلَمِ
أَبُوكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ يَأْمُرُهُ ... بِذَبْحِكَ اليوم مَا هَذَا مِنَ الشِّيَمِ
فَقَالَ إِنْ كَانَ رَبُّ الْعَرْشِ يَأْمُرُهُ ... فَإِنَّنِي صَابِرٌ رَاضٍ بِلا نَدَمِ
وَطَاعَةُ الرَّبِّ فَرْضٌ لا مَحِيصَ لَنَا ... عَنْهَا لأَنْ كُتِبَتَ فِي اللَّوْحِ بِاْلَقَلمِ
فَارْجِعْ بِكِبْرِكَ عَنَّا إِنَّنَا بَرَءَآ ... مِنْكَ فَإِنَّكَ مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحِمِ
فراحَ عنه لِنَحْو الأم قَالَ لَهَا ... إنَّ ابنَكَ اليومَ مَذْبُوحٌ على وَهَمِ
مِنْ أَجْلِ رُؤْيًا رَآهَا الشَّيْخُ حَقَّقَهَا ... يُرِيدُ انْجازَهَا هَلْ ذَا بِمُلْتَزَمِ
قَالَتْ نَعَمْ مَا لَهُ بُدٌ وَكَيْفَ لَهُ ... بِأَنْ يُخَالِفَ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمِ
لَمَّا رَأَى إليأْسَ مِنْهُمْ رَدَّ مُكْتَئِبًا ... يَرنَّ أَرْنَانَ ذَاتِ الثُّكْلِ وَإليتُمِ
إِذَا فَاتَهُ مَا جَرَى مِنْهُ وَأَمَّلَهُ ... وَبَاءَ بِالْخِزْيِ وَالْخُذْلانِ وَالنَّدَمِ
وَانْقَادَ لِلذَّبْحِ إِسْمَاعِيلُ مُحْتَسِبًا ... لِحُكْمِ مَوْلاهُ يَمْشِي حَافِي الْقَدَمِ
فَبَيْنَمَا هُوَ مُنْقَادٌ لِسَيِّدِهِ ... مَا فِيهِ مِنْ جَزَعٍ كَلا وَلا سَئَمِ(5/606)
.. أَتَى الْخَلِيلُ بِسِكِّينٍ فَأَشْحَذْهَا ... حَتَّى غَدَتْ مِثْلَ بَرْقٍ دُجَى الظُّلَمِ
فَقَالَ يَا أَبَتَاهُ ارْفَعْ ثِيَابَكَ لا ... يُصِيبُهَا قَذَرٌ عِنْدَ اصْطِبَابِ دَمِي
وَيَفْجَعُ الأُمَّ مَهْمَا شَاهَدَتْهُ كَذَا ... فَاللهُ يَعْصِمُهَا مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ
وَالأَمُّ يَا وَالَدِي مَهْمَا رَجَعْتَ لَهَا ... فَاطْلُبْ لِي الْحَلَّ مِنْهَا وَأحْفَظْ الذِّمَمِ
وَأَمْرَ مَوْلايَ نَفَّذْهُ بِذَبْحِكَ لِي ... وَاشْحذ لِشَفْرَةِ ذَبْحِي يَا أَبَا الْكَرَمِ
كَيْمَا يَهُونُ عَليَّ الْمَوْت إِنَّ لَهُ ... لَشِدَّةٍ لَمْ تَصِفْهَا أَلْسُنُ الأُمَمِ
قَالَ الْخَلِيلُ فَنِعْمَ الْعَوْنِ أَنْتَ عَلَى ... مَرْضَاةِ رَبِّي فَثِقْ بِاللهِ وَاعْتَصِمِ
فَجَاءَ بِالْحَبْلِ شَدَّ الإِبْنُ ثُمَّ بَكَى ... لِرِقَّةِ غَلَبَتْهُ فَهُوَ لَمْ يُلَمِ
أَمَرَّ شَفْرَتَهُ بِالنَّحْرِ فَانْقَلَبَتْ ... عَنْهُ ثَلاثًا وَلَمْ يَمْسَسْهُ مِنْ أَلَمِ
فَقَالَ إِنَّ شَقَّ ذَا وَالنَّفْسُ مَا سَمِحَتْ ... فَكُبَّ وَجْهِي فَإِنِّي غَيْرَ مُهْتَضِمِ
فَكَبَّهُ مِثْلَ مَا أَوْصَاهُ فَانْقَلَبَتْ ... إِذْ ذَاكَ شَفْرَتُهُ لَمْ تُفْرِ مِنْ أَدَمِ
وَالأَرْضُ رَجَّتْ وَأَمْلاكُ السَّمَا جَارَتْ ... وَالْوَحْشُ عَجَّتْ وَعَمَّ الْخَطْبُ فِي الأُمَمِ
وَاللهُ ذُو الْعَرْشِ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْجِبُ مِنْ ... إِيمَانِ عَبْدَيْهِ مَا عَنْهُ بِمُنْكَتِمِ
أَوْحَى لِجِبْرِيلَ أَنْ أَدْرَكْهُمَا عَجلاً ... بِكَبْشِ ضَانٍ رَبِّي فِي رَوْضَةِ النَّعَمِ
أَيْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا فِي الْجِنَانِ رَعَى ... يَسْقَى مِنْ أَنْهَارَهَا عَذْبًا بِلا وَحَم
فَجَاءَ بِالْكَبْشِ جِبْرِيلُ الأَمِينُ إِلَى ... ذَاكَ الْخَلِيلِ النَّبِيلِ الطَّاهِرِ الْعَلَمِ
فَقَالَ هَذَا الْفِدَى مِنْ عِنْدَ رَبَّكَ عَنْ ... هَذَا الذَّبِيحِ جَزَا هَذَا دَمٌ بِدَمِ
فَكَبَّرَ اللهَ جُبْرَائِيلُ حِينَئِذٍ ... وَالْكَبْشُ كَبَّرَ أَيْضًا نَاطِقًا بِفَمِ
ثم الخَلِيلُ كَذاكَ الإِبنُ مَا بَرَحَا ... مُكَبَّرِيْنَ وذَا شُكْرٌ على النَّعَمِ
وَسَرَّ أَهْلَ السَّمَا وَالأَرْضُ حَالَهُمَا ... وَاغْتَمَ إِبْلَيْسَ غَمًّا غَيْرَ مُنْصَرِمِ
عَوَاقِبُ الصَّبْرِ تُنْجِي مَنْ يُلازِمُهَا ... وَالْحَمْدُ للهِ هَذَا آخِرُ الْكَلِمِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ أَحْمَدَ مَا ... غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ فِي الأَيْكِ بِالنِّعَمِ(5/607)
.. وَالآلُ وَالصَّحْبُ ثُمَّ التَّابِعِينَ لَهُمْ ... مَا لاحَ فَجْرٌ فَأَجْلَى غَيْهَبَ الظُّلَمِ
انتهى.
اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤمِنُ بِلقَائِكْ وتَرْضَى بِقَضائِكْ، وتَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، يا أرْأفَ الرائفين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ التَّوْفِيق لما تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وحُسْنَ الظَنِّ بِكَ يَا رَبَّ العالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المُخْبِتِين، الغُرِّ المُحَجَّلِين الوَفْدِ المُتَقَبِّلين.
اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، ونَفْسًا تَقِيَّةً، وعِيْشَةً نَقِيَّةً ومِيْتَةً سَويَّةً، ومَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي ولا فاضح.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهلِ الصَّلاحِ والنَّجَاحِ والفَلاحِ، ومِن المُؤَيَّدِينَ بِنَصْرِكَ وتَأْييدِكَ ورِضاكَ.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنا بابَ القَبُولِ والإِجَابةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
خطبة في التحذير من المعاصي
قال أحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ عَلَيْهِ:
الحمد لله الَّذِي حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن المتعرف إلى خلقه بما أسداه إليهم من الكرم والمنن الَّذِي أخَرَجَ النَّاس من الظلمَاتَ إلى النور وهداهم إلى صراطه المستقيم وجنبهم ما يوقعهم في مهامه الجحيم.
الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز الحكيم لا تدركه الأبصار وَهُوَ يدرك الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير أحمده سُبْحَانَهُ على فضله وجوده الغزير وأشكره وَالشُّكْر مؤذن بالزيادة والتوفير.(5/608)
وأشهد أن لا إله إِلا الله وحده لا شريك له وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير اللَّهُمَّ صل وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصبحه أولي الجد في الطاعة والتشمير صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم المصير.
أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى بفعل أوامره واجتناب مناهيه وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها النَّاس والحجارة عَلَيْهَا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وتدبروا فيمن ضاع عمره في البطالة والتمادي وجمَعَ الْمَال ولا يبإلى أمن حلالٍ جمعه أم من حرام.
ولا تأكلوا الربا فإن الله لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وَقَالَ هم في الوزر سواء قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ إليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَقَالَ عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وفي الْحَدِيث: «مْا تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أعْلِنُوها إِلاَّ ابتلاهم الله بالطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. ومْا طفّف قَوْمٍ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ ابتلوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ وَما مْنَعُ قَوْمٍ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَمْا خفر قَوْمٍ العَهْدَ اللَّهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. ولا حكموا بغير مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» .(5/609)
وقَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمُ كَانَ فِي حَاجَتِهِ» .
وَقَالَ في حجة الوداع: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» وقَالَ عن الكعبة ما أعظمك وأعظم حرمتك وإن حرمة المُؤْمِن أعظم عَنْدَ الله منك.
وقَالَ «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يأمن جاره بوائقه» وقَالَ مُعَاذُ أو
، مُؤَاخَذُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» وَقَالَ
الغيبة أشد مِنَ الزِّنَا الْحَدِيث إن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم» وَقَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وفي حديث أبي بكر «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ من عنده» رواه أَحَمَد وعن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولِ اللهُ ?: «إذا خفيت الخطيئةُ لم تضرَّ إِلا صاحبَها وإذا ظهرتْ فلم تغيَّرْ ضَرَّتْ العامةَ» .
وروى أَحَمَد عن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يوشك أن تخرب القرى وهي عامرة قَالُوا وكيف خرابها قال إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبيلة منافقوها وروى أَحَمَد من حديث جَرِيرٍ أن النَّبِيّ ? قال: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ َأَعَزُّ وأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُه فلم يُغَيِّرُوهُ إِلاَّ عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» وروى البخاري عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ?، مَنْ الْمُوبِقَاتُ» .
فاتقو الله عباد الله بالإقلاع عن المعاصي وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحًا(5/610)
عَسَى ربكم أن يكفر عنكم سئاتكم واستدركوا بقية عمر أضعتم أوله فإن بقية عمر المُؤْمِن لا قيمة له جعلني الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه وأعد عدة تصلح لرمسه.
إن أحس ما وعظ به الواعظون كلام من نَحْنُ لعفوه وكرمه مؤملون والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المهتدون وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} بارك الله لي ولكم في القرآن ولكم في القرآن العَظِيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله العَظِيم لي ولكم وَلِجَمِيعِ المسلمين فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم.
(موعظة)
عباد الله إن العاقل اللبيب الفطن الرشيد من يسعى في نفع نَفْسهُ وأهله ودفع الضَّرَر عنهم، وانَا نرى في زمننا الَّذِي كثرت فيه المنكرات وانحطت فيه الأَخْلاق وقل فيه الورع وكثر فيه النفاق والرياء.
تَرَى النَّاس يخشون النَّاس ولا يخافون ربًا قهارًا بطشه شديد وعذابه إليم تَرَى الرجل يفعل الْمُنْكَر جهارًا ولا تنهاه وتنسى أو تتناسى قول الله تَعَالَى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} ، وقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} .
وقوله ?: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَليُغَيِّرَهُ بِيَدِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» .
فقل للذي يرى تارك الصَّلاة ولا ينهاه لا يجوز لك ذَلِكَ أنصح أخاك(5/611)
المسلم وقل للذي قَدْ عميت بصيرته فأتى بكفار خدامين أو سواقين أو مربين أو طباخين أو خياطين أو نحو ذَلِكَ وأمِنْهُمْ على محارمه.
خف الله وأحذر من عقوبة الدُّنْيَا قبل عقوبة الآخِرَة كيف تأتي بأعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين، لَقَدْ أسأت إلى نفسك وأهلك والمسلمين.
أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» .
أو ما بلغك قصة الثلاثة الَّذِينَ هجرهم المسلمون نحوا من خمسين ليلة بأيامها حين تخلفوا عن رَسُولِ اللهُ ? في غزوة تبوك.
أو ما بلغك أن أبا هريرة أقسم (لا يظله سقف هُوَ وقاطع رحم) وأَنْتَ وأعداء الله الكفار متصل بعضكم في بعض في البيت والسوق والسيارة عياذا بِاللهِ من ذَلِكَ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وإذا رَأَيْت من يحلق لحيته ويبقي شاربه متشبها بالمجوس فقل له أما سمعت حَدِيثِ «أكرموا اللحى» وَحَدِيثِ «وَفِّرُوا اللِّحَى» وقول الله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ} ، وقوله ?: «كُلّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ» وعملك هَذَا مجاهرة.
وإذا رَأَيْت شارب الدخان فإنصحه وبين له مضاره في الدين والبدن والدنيا.
وإذا رَأَيْت من يقتل وقته أمام الملاهي والمنكرات فأنصحه وبين له المضار التي منها ترك الصَّلاة جماعة أو إهمالها بتاتا والعياذ بِاللهِ.
وإذا رَأَيْت الَّذِي يطارد النساء في الأسواق فقل بِاللهِ هل ترضى أن الفسقة مثلك يطاردون نساءك أتق الله وتب إليه من هَذَا الخلق الرذيل.(5/612)
وإذا رَأَيْت الَّذِي يغش المسلمين فقل له إتق الله أما بلغك حديث المصطفى ?: «مَنْ غَشَّنَا فلَيْسَ مِنَّا» .
وإذا رَأَيْت من يعامل بالربا فقل كيف تحارب ربك الَّذِي أعطاك الْمَال خف الله وأحذر أن يمحقك الله ويمحق مالك.
وإذا رَأَيْت من يسافر إلى بلاد الكفر فأنصحه وقل أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «أَنَا بَرِىءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لاَ تَرَأيَ نَارَاهُمَا» وكَانَ ? يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ علي يد أحدهم «أن لاَ تَرَيَ نَارَك نار المشركين إِلا أن تَكُون حربا لَهُمْ» .
وإذا رَأَيْت من يصور أو يبيع صور ذوات الأرواح فأنصحه وقل له أما بلغك: «أنَّ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» أما بلغك مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ، وقل له أما سمعت حديث «كُلّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْس فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» إتق الله قبل أن تقف بين يديه حافيًا عاريًا أعزلاً.
وإذا رَأَيْت من يبيع الصور أو آلات اللهو كالتلفزيون والكورة والمذياع والفيديو والسينماء والورق الملهية عما خلق الإِنْسَان له وأبا الخبائث الدخان ونحو هذه البدع المحرمة التي ضاع العمر والْمَال بسببها وقضت على الأَخْلاق والغيرة الدينية فقل له: أترضى لنفسك أن تتجر بالمحرمَاتَ وأن تَكُون ممن يعين على المعاصي وينشر الفساد إتق الله قبل أن يفاجئك هادم اللذات فتندم ولا يفيدك الندم. ويصدق عَلَيْكَ قول الشاعر:
نَدَمُ الْبُغَاةِ وَلاتَ سَاعَةُ مندم ** وَالْبَغْيَ مَصْرَعُهُ وَخِيمَ الْمَصْرَعِ
وإذا رَأَيْت من يطفف في المكيال والميزان أزو يأخذ راتبه كاملاً ولا يؤدي(5/613)
الْعَمَل كاملاً قل له: إتق الله أما تقَرَأَ قول رب العالمين: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقل له: ستناقش عن عملك وإهمالك له في يوم كَانَ مقداره خمسين ألف سنة.
وإذا رَأَيْت المغتابين نهاشة الأعراض أكالة لحوم الغوافل فقل لَهُمْ: أما قرأتم قول الملك الديان: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} الآيَة.
وإذا رَأَيْت النمام فقل له: أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «لا يدخل الْجَنَّة نمام» ، وهكَذَا تفعل عِنْدَمَا تريد أن تنصح أَهْل المعاصي نحو هؤلاء من منافقين ومتملقين وكذابين وخداعين ومرائين ومكارين.
ولَقَدْ تضاعفت الغيبة والنميمة والكذب أضعافًا كثيرة بعد ظهور التلفزيون والتلفون والمسجلات فقَدْ كأَنْتَ بالأول لا توَجَدَ إِلا مَعَ اجتماع الأبدان والآن توَجَدَ ولو كَانَ بينهم مسافات بعيدة نسأل الله العافية.
اللَّهُمَّ جنبنا البدع والمنكرات واغفر لنا جَمِيع الزلات ووفقنا للأعمال الصالحات وأسكنا فسيح الجنات وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قَسْوَة الْقَلْب والبعد عن الله خلقت النار لإذابة القُلُوب القاسية أبعد الْقَلْب من الله الْقَلْب القاسي، إذ قسى قحطت العين.
قَسْوَة الْقَلْب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل،(5/614)
والنوم، والكلام، والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكَذَلِكَ الْقَلْب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
من أراد صفاء قَلْبهُ فليؤثر الله على شهواته.
القُلُوب المتعلقة بالشهوات محجوبة بقدر تعلقها بها. شغلوا قُلُوبهمْ بالدُّنْيَا، ولو شغلوها بِاللهِ والدار الآخِرَة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفَوَائِد.
إذا غذي الْقَلْب بالتذكر، وسقى بالتفكر، ونقى من الدغل، ورأى العجائب، وألهم الحكمة، خراب الْقَلْب من الأمن والغَفْلَة، وعمارته من الخشية والذكر.
إذا زهدت القُلُوب في موائد الدُّنْيَا قعدت على موائد الآخِرَة بين أَهْل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدُّنْيَا فاتتها تلك الموائد.
والْقَلْب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدئ المرآة وجلاوة بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.
للقب ستة مواطن يجول فيه لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية.
فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة لا تزال تجول فيها.
والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده. والقُلُوب جوالة في هذه المواطن.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن الْقَلْب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ، فإذا ذكر جلاه.(5/615)
وصدأ الْقَلْب بأمرين: بالغَفْلَة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كأَنْتَ الغَفْلَة أغلب أوقاته كَانَ الصدأ متراكمًا على قَلْبهُ، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدأ الْقَلْب لم تنطبع فيه صور المعلومَاتَ على ما هِيَ عَلَيْهِ فيرى الْبَاطِل في صورة الحق والحق في صورة الْبَاطِل، لأنه لما تراكم عَلَيْهِ الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلاً. وهَذَا أعظم عقوبات الْقَلْب.
وأصل ذَلِكَ من الغَفْلَة وإتباع الهوى فإنهما يطمسان نور الْقَلْب ويعميان بصره، قال تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فإذا أراد الْعَبْد أن يقتدي برجل فلينظر:
هل هُوَ من أَهْل الذكر أو من الغافلين. وهل الحاكم عَلَيْهِ الهوى أو الوحي. فإن كَانَ الحاكم عَلَيْهِ هُوَ الهوى وَهُوَ من أَهْل الغَفْلَة كَانَ أمره فرطًا. ومعنى الفرط قَدْ فسر بالتضييع، أي أمره الَّذِي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قَدْ فرط فيه، وفسر بالإسراف أي قَدْ أفرط، وفسر بالأهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ نهى عن طاعة من جمَعَ هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كَذَلِكَ فليبعد منه وإن وَجَدَ ممن غلب عَلَيْهِ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وإتباع السنة، وأمره غير مفروط عَلَيْهِ بل هُوَ حازم في أمره فليتمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إِلا بالذكر، فمثل الَّذِي يذكر ربه والَّذِي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعًا: «أكثر واذكر الله تَعَالَى حتى يُقَالُ: مجنون» .
شِعْرًا:
الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلَ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا
فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا(5/616)
وَتَحْمَدِ اللهَ فِي يَوْمِ الْمَعَادِ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا
للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: كل آفة تدخل على الْعَبْد فسببها ضياع الْقَلْب وفساد الْقَلْب يعود بضياع حقه من الله تَعَالَى ونقصان درجته ومنزلته عنده.
ولهَذَا أوصى بعض الشيوخ فَقَالَ: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوَقْت وتفسد الْقَلْب فإن ضاع الوَقْت وفسد الْقَلْب انفرطت على الْعَبْد أموره كُلّهَا وكَانَ ممن قال الله فيه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .
ومن تأمل حال هذه الخلق وجدهم كلهم إِلا أقل القليل ممن غفلت قُلُوبهمْ عن ذكر الله تَعَالَى الَّذِي به تحيا القُلُوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصَارَت أمورهم ومصالحهم فرطا، أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عَلَيْهمْ بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.
وهؤلاء قَدْ أمر الله سُبْحَانَهُ رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرَّسُول ? لا تتم إِلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من أتباع الهوى والغَفْلَة عن ذكر الله.
والغَفْلَة عن ذكر الله والدار الآخِرَة متى تزوجت باتباع الهوى تولد بينهما كُلّ شر وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخِر ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العَالِم عمومًا وخصوصًا وجده ناشئًا عهن هاذين الأصلين فالغَفْلَة تحول بين الْعَبْد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذَلِكَ من الضإلين، وإتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته وإتباعه، فيكون من المغضوب عَلَيْهمْ.
وأما المنعم عَلَيْهمْ فهم الَّذِينَ من الله تَعَالَى عَلَيْهمْ بمعرفة الحق عِلْمًا وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملاً وهؤلاء هم الَّذِينَ على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك.(5/617)
ولهَذَا أمرنا الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن نقول كُلّ يوم وليلة عدة مرات {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيْهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهمْ وَلاَ الضَّإلينَ} .
فإن الْعَبْد مضطر كُلّ للاضطرار إلى أن يكون عارفا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون موثرًا مريدًا لما ينفعه مجتنبًا لما يضره فبمجموع هذين قَدْ هدى إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذَلِكَ سلك سبيل الضإلين.
وإن فاته قصده وأتباعه سلك سبيل المغضوب عَلَيْهمْ وبهَذَا تعرف قدر هَذَا الدُّعَاء العَظِيم وشدت الحاجة إليه وتوقف سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة عَلَيْهِ.
وَقَالَ آخر: حافظ على الأوقات فإن الوَقْت رأس الْمَال ولا تضيعها بالفراغ وأملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعًا واعرف ما يذهب به ليلك ونهارك وجدد توبتك في كُلّ وَقْت.
وقسم وقتك ثلاثة أقسام قسم لطلب العلم وقسم للعمل الَّذِي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جَلَّ وَعَلا وتقدس فريق في الْجَنَّة وفريق في السعير.
واستحضر قرب الله منك كما في الْحَدِيث فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأكرم الكتبة الحافظين فقَدْ أوصى رَسُولِ اللهُ بالجار من النَّاس الَّذِي بينك وبينه جدار وأحجار فَكَيْفَ بالجار الكريم الَّذِينَ قال الله فيهم {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس {عَنِ اليمين وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} .
فرعاية جواره أحق وإكرام قربه أو جب لأنه أسبق وألصق ولَيْسَ بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومَعَ الأسف إلشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر.
اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ(5/618)
فكفيته واستهداك فهديته ودعاك فأحبته وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ أعلم أيها الأخر أنه ما من ساعة تمر على الْعَبْد لا يذكر الله فيها إِلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذَلِكَ ينبغي للعاقل أن يجعل معه شَيْئًا يذكره لذكره الله كُلَّما غفل عَنْهُ.
ويُقَالُ إن الْعَبْد تعرض عَلَيْهِ ساعات عمره في اليوم واللَّيْلَة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كُلّ خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآاها فارغة ساءه ذَلِكَ وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كَانَ يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بَعْضهمْ أوقات الإِنْسَان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
ولله عَلَيْكَ في كُلّ وَقْت منها سهم من العبودية.
فمن كَانَ وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عَلَيْهِ أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كَانَ وقته المعصية فعَلَيْهِ بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كَانَ وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عَلَيْهِ.
ومن كَانَ وقته البلية فسبيله الرِّضَا بالِقَضَاءِ والصبر والرِّضَا رضي النفس عن الله، والصبر ثبات الْقَلْب بين يدي الرب. أ. هـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإِنْسَان هُوَ ميدانه للأعمال الصَّالِحَة المقربة من الله تَعَالَى والموجبة له جزيل الثواب في الآخِرَة. ولكن ما يعرف قدر العمر إِلا نوادر الْعُلَمَاء.(5/619)
قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تبارك وتَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَإليةِ} وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات.
وهذه هِيَ السعادة التي يكدح الْعَبْد ويسعى من أجلها ولَيْسَ له منها إِلا ما سعى كما قال جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .
فكل جزء يفوته من العمر خَإليا من عمل صالح.
يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.
فالوَقْت لا يستدرك ولَيْسَ شي أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من الْعَمَل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذَلِكَ لأنه في غاية الشرف والنفاسة.
ولأجل هَذَا عظمت مراعاة السَّلَف الصالح رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إِلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.
تَبْغِي الْوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيهِ تَقْصِيرُ ** لا شَكَّ أَنَّكَ فِيمَا رُمْتَ مَغْرُورُ
قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ** هَذَا وَفِي سَيْرِهِمْ جَدٌّ وَتَشْمِيرُ
قال بَعْضهمْ أدركت أقوما كَانُوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخَرَجَ أحدكم دنيارًا ولا درهما إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهِ فكذالك السَّلَف لا يحبون أن تخَرَجَ ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهمْ ضد ما عَلَيْهِ أَهْل هَذَا الزمان من قتل الوَقْت عَنْدَ المنكرات.
بَقيَّةُ الْعُمْرِ عِنْدِي مَا لَهُ ثَمَنٌ ... وَإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الزَّمَنِ
يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيهَا مَا فَائِتَةٍ ... مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوءَ بِالْحَسَنِ(5/620)
آخر:
لا يَحَقْرِ الرَّجُلُ الرَّفِيعُ دَقِيقَةً ... فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ
فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيِر صَغِيرَةٌ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ
رأى أحد الزهاد إنسانَا يأكل فطوره وَهُوَ يحتاج إلى مضغ فَقَالَ: هَذَا يستغرق وقتًا طويلاً فَلَمَّا أخَرَجَ فطوره وإذا هُوَ ما يستغرق إِلا وقتًا يسيرًا.
فَقَالَ له: ما حَمَلَكَ على هَذَا فَقَالَ: إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة.
لله دره على هذه الملاحظة ولَقَدْ بلغنا أن أحد علماء السَّلَف كَانَ يأكل بإليمنى والكراس بإليسرى.
وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كُلّ هَذَا محافظة على الوَقْت.
بلغ يا أخي قتالة الأوقات عَنْدَ الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وَقَالَ ونحو ذَلِكَ.
ويا أخي إن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره واسأله الثبات حتى الْمَمَات.
وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عن ضياع الأوقات فلعلك أن تَكُون سببًا لهدايتهم.
وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا ... وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى إليدِ
فَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ
ثُمَّ اعْلَمْ أيها الأخ إن الوَقْت لَيْسَ من ذهب كما يَقُولُ النَّاس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرةً إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذَلِكَ وحافظ عَلَيْهِ واقتد بالسَّلَف الصالح الَّذِينَ عرفوا قيمة الوَقْت.(5/621)
قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ما ندمت على شَيْء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي.
وَقَالَ آخر: كُلّ يوم مر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عَزَّ وَجَلَّ فلا بورك لي في طلوع شمسه.
وَقَالَ آخر: من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خَيْر أسسه أو علم اقتبسه فقَدْ عق يومه وظلم نَفْسهُ. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.
وإذا كَانَ هَذَا حرص السَّلَف على الوَقْت والمحافظة عَلَيْهِ وتقديره عندهم فإن مِمَّا يحزن المسلم ويجرحه ويدمي الْقَلْب ويمزق الكبد أسىً وأسفًا ما نشاهده عَنْدَ كثيرين من الْمُؤْمِنِين من إضاعة للوَقْت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد.
وبالحَقِيقَة أن السفيه هُوَ مضيع الوَقْت لأن الْمَال له عوض أما الوَقْت فلا عوض له.
فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عَلَيْهِ كالجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدامَاتَ إن من أخسر النَّاس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، وَقَالَ عز من قائل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الَّذِي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الَّذِي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير.(5/622)
اللَّهُمَّ يا من خلق الإِنْسَان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصِّدِّيقِينَ والشهداء والصالحين، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.
(فَصْلٌ)
عن وهب بن منبه قال الحواريون: يا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟ فَقَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى ظاهرها والَّذِينَ نظروا إلى آجل الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما عملوا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه.
خلقت الدُّنْيَا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيوها.
يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لَهُمْ، رفضوها وكَانُوا برفضها فرحين، وباعوها وكَانُوا ببيعها رابحين.
نظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره.(5/623)
لَهُمْ خبر عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بِهُمْ قام الْكِتَاب وبه قاموا، وبهم من نطق الْكِتَاب، وبه نطقوا، وبهم علم الْكِتَاب وبه علموا فلَيْسَ يرون نائلاًَ مَعَ ما نالوا ولا أمانَا دون ما يرجون ولا خوفًا دون ما يحذرون. رواه الإمام أَحَمَد.
[قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية]
عن عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وَهُوَ من أصحاب النَّبِيّ ? أن النَّبِيّ ? ابتاع فرسًا من أعرابي فاستتبعه النَّبِيّ ? ليقضيه ثمن فرسه.
فأسرع النَّبِيّ ? المشي وأبطأ الأعرابي. فطفق رِجَال يعترضون الأعرابي فيساومون بالفرس ولا يشعرون أن النَّبِيّ ? ابتاعه.
حتى زَادَ بَعْضهمْ الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الَّذِي ابتاعه النَّبِيّ ?.
فنادى الأعرابي النَّبِيّ ? فَقَالَ: إن كنت مبتاعًا هَذَا الفرس فابتعه وإِلا بعته.
فقام النَّبِيّ ? حين سمَعَ نداء الأعرابي فَقَالَ: «أو لَيْسَ قَدْ ابتعته منك» ؟ قال الأعرابي: لا وَاللهِ ما بعتك.
فَقَالَ النَّبِيّ ?: «بلى قَدْ ابتعته منك» فطفق النَّاس يلوذون بالنَّبِيّ ? والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يَقُولُ: هَلُمَّ شهيدًا يشهد أني بايعتك؟
فمن جَاءَ من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النَّبِيّ ? لم يكن ليَقُولُ إِلا حقًا.
حتى جَاءَ خزيمة فاستمَعَ لمراجعة النَّبِيّ ? ومراجعة الأعرابي وطَفِقَ الأعرابي يَقُولُ: هَلُمَّ شهيدًا أني بايعتك؟(5/624)
فَقَالَ خزيمة: أَنَا أشهد أنك قَدْ بايعته؟ فأقبل النَّبِيّ ? على خزيمة فَقَالَ: «بم تشهد» ؟ قال: بتصَدِيقكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
فجعل النَّبِيّ ? شهادة خزيمة شهادة رجلين.
وقَدْ روى في بعض طرق هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? قال لخزيمة: «بم تشهد ولم تكن معنا» ؟ قال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أصدقك بخبر السماء أفلا أصدقك بما تَقُول؟
قال الخطابي: ووجه هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? حكم على الأعرابي بعلمه إذ كَانَ النَّبِيّ ? يَقُولُ صادقًا بارًا وجرت شهادة خزيمة في ذَلِكَ مجرى التوكيد لقوله له ? والاستظهار بها على خصمه.
فصَارَت في التقدير مَعَ قول رسول الله ? كشهادة رجلين في سائر القضايا. رَحِمَهُ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَمَ.
فَصْلٌ: قال الواقدي عن أشياخ له: إن شيبة بن عثمان كَانَ يحدث عن إسلامه فَيَقُولُ: ما رَأَيْت أعجب مِمَّا كانَا فيه من لزوم ما مضى عَلَيْهِ آباؤنا من الضلالات.
فَلَمَّا كَانَ عام الفتح ودخل النَّبِيّ ? عنوة قُلْتُ: أسير مَعَ قريش إلى هوزان بحنين فعَسَى إن اختلطوا أن أصيب من مُحَمَّد غرة فأثأر منه فأكون أَنَا الَّذِي قمت بثأر قريش كُلّهَا، وأَقُول: ولو لم يبق من الْعَرَب والعجم أحد إِلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا.
فَلَمَّا اختلط النَّاس اقتحم رسول الله ? عن بغلته وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي، فرفع لي شواظ من نار كالبرق حتى كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفًا عَلَيْهِ، فالتفت إلى رسول الله ? وناداني يا شيب ادن مني.
فدنوت منه فمسح صدري وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أعذه من الشيطان(5/625)
فوالله لهو كَانَ ساعتئذٍ أحب إلى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله عَزَّ وَجَلَّ ما كَانَ بي.
ثُمَّ قال: ادن فقاتل. فتقدمت أمامه اضرب بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كُلّ شَيْء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كَانَ حيًا لأوقعت به السيف.
فَلَمَّا تراجع المسلمون وكروا كرة رجل واحد قربت بغلة رسول الله ? فاستوى عَلَيْهَا فخَرَجَ في أثرهم حتى تفرقوا في كُلّ وجه، وَرَجَعَ إلى معسكره فدخل خباءه، فدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: «يا شيب الَّذِي أراد الله بك خَيْر مِمَّا أردت بنفسك» .
ثُمَّ حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مِمَّا لم أكن أذكره لأحد قط. فقُلْتُ: فإني أشهد أن لا إله إِلا الله وأنك رسول الله. ثُمَّ قُلْتُ: أستغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «غفر الله لك» .
وعن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره مِنْهُمْ البراء بن مالك» .
وإن البراء لقي زحفًا من المشركين وقَدْ أوجع المشركون في المسلمين.
فَقَالُوا له: يا براء إن رسول الله ? قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرك، فأقسم على الله فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم فمنحوا أكتافهم.
ثُمَّ التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا المسلمين فَقَالُوا: أقسم على ربك، فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ? فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.(5/626)
فَصْلٌ: أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكَانَ النَّاس يثنون عَلَيْهِ خيرًا حتى سئل عَنْهُ رجل من بني عبس.
فَقَالَ: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كَانَ لا يخَرَجَ في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية.
فَقَالَ سعد: اللَّهُمَّ إن كَانَ كاذبًا قام رياءً وسمعةً فاطل فأطل عمره وعظم فقره وعرضه للفتن.
فكَانَ يرى وَهُوَ شيخ كبير قَدْ تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات وَيَقُولُ: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
وَكَذَا سعيد بن زيد كَانَ مجاب الدعوة فقَدْ روى أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقَالَتْ: سرق من أرضي وأدخله في أرضه.
فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إن كأَنْتَ كاذبة فأذهب بصرها وأقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها.
قال إبراهيم بن آدهم: مرض بعض العباد فدخلنا عَلَيْهِ نعوده فجعل يتنفس ويتأسف فقُلْتُ له: على ماذا تتأسف؟ قال: على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيه عن ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ.
وبكى بعض العباد عَنْدَ موته فقيل له: ما يبكيك؟ فَقَالَ: أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم، ويصلى المصلون ولست فيهم. تأمل يا أخي هذه الأماني لله دره وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: عن ابن أبي مليكة قال: لما كَانَ يوم الفتح ركب عكرمة بن(5/627)
أبي جهل البحر هاربًا فخب بِهُمْ البحر فجعلت الصراري (أي الملاحون) يدعون الله ويوحدونه.
فَقَالَ: ما هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا مكَانَ لا ينفع فيه إِلا الله قال: هَذَا إله مُحَمَّد الَّذِي يدعونا إليه، فارجعوا بنا. فرجع فأسلم.
وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ? يَوْمَ جِئْتُهُ: «مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» . قُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لا أَدَعُ نَفَقَةً أَنْفَقُتُهَا عَلَيْكَ إِلا أَنْفَقْتُ مِثْلَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ.
وعن عَبْد اللهِ بن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كَانَ إذا اجتهد في اليمن قال: لا والَّذِي نجاني يوم بدر، وكَانَ يضع المصحف على وجهه وَيَقُولُ: كتاب رَبِّي، كتاب رَبِّي.
استشهد عكرمة يوم إليرموك في خلافة أبي بكر، فوجدوا فيه بضعًا وسبعين من بين ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
فَصْلٌ: قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عَبْد اللهِ قال: جَاءَ الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها بعد من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.
فَقَالَ له عَبْد اللهِ بن الزبير: بعت مَكَّرمة قريش؟ فَقَالَ حكيم: ذهبت المكارم إِلا التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا في الْجَنَّة أشهدك أني قَدْ جعلتها في سبيل الله.
وعن أبي بكر بن سليمان قال: حج حكيم بن حزام معه مائة بدنة قَدْ أهدها وجللها الحبرة وكفها عن أعجازها ووقف مائة صيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضة قَدْ نقش في رؤوسها:(5/628)
(عتقاء الله [عَزَّ وَجَلَّ] عن حكيم بن حزام) . وأعتقهم وأهدى ألف شاة.
وعن مُحَمَّد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يومًا، فَقَالَ له ابنه: ما يبكيك؟ قال: خصال كُلّهَا أبكاني: أما أولها فبطء إسلامي حتى سبقت في مواطن كُلّهَا صَالِحَة، ونجوت يوم بدر وأُحُدٍ فقُلْتُ: لا أخَرَجَ أبدًا من مَكَّة ولا أوضع مَعَ قريش ما بقيت.
فأقمت بمَكَّة ويأبى الله [عَزَّ وَجَلَّ] أن يشرح صدري للإسلام وَذَلِكَ أني أنظر إلى بقايا من قريش لَهُمْ أسنان متمسكين بِمَا هُمْ عَلَيْهِ من أمر الجاهلية فأقتدي بِهُمْ، ويا ليت أني لم أقتد بِهُمْ فما أهلكنا إِلا الاقتداء بآبانَا وكبرائنا.
فَلَمَّا غزا النَّبِيّ ? مَكَّة جعلت أفكر، فخرجت أَنَا وأبو سفيان نستروح الخبر فلقي العباس أبا سفيان فذهب به إلى النَّبِيّ ? ورجعت فدخلت بيتي، فأغلقته علي ودخل النَّبِيّ ? مَكَّة فآمن النَّاس فجئته فأسلمت وخرجت معه إلى حنين.
وعن عروة أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة وفي الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير.
قال ابن سعد: قال مُحَمَّد بن عمر: قدم حكيم بن حزام الْمَدِينَة ونزلها وبنى بها دارًا، ومَاتَ بها سنة أربع وخمسون وَهُوَ ابن مائة وعشرين سنة رَحِمَهُ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
فَصْلٌ: عن أبي برزة الأسلمي: أن جليبيبًا كَانَ امرأ من الأنصار، وكَانَ أصحاب النَّبِيّ ? إذا كَانَ لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتى يعلم النَّبِيّ ? هل له فيها حَاجَة أم لا؟
فَقَالَ رسول الله ? ذات يوم لرجل من الأنصار: «يا فلان(5/629)
زوجني ابنتك» . قال: نعم ونعمة عين، قال: «إني لست لنفسي أريدها» . قال: لمن؟ ، قال: «لجليبيب» . قال: يا رسول الله حتى أستأمر (أي أشاور) وأمها. فأتاها فَقَالَ: إن رسول الله ? يخطب ابنتك. قَالَتْ: نعم ونعمة عين زوج رسول الله ?.
قال: إنه لَيْسَتْ لنفسه يريدها. قَالَتْ: فلمن؟ ، قال: لجليبيب، قَالَتْ: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله، لا أزوج جليبيبًا.
فَلَمَّا قام أبوها ليأتي النَّبِيّ ? قَالَتْ الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما قالا: رسول ?. قَالَتْ: أفتردون على رسول الله ? أمره؟ ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني.
فذهب أبوها إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ: شأنك بها، فزوجها جليبيبًا.
قال إسحاق بن عَبْد اللهِ بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النَّبِيّ ?؟ قال: وما دعا لها به النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلام؟ قال: «اللَّهُمَّ صب عَلَيْهَا الْخَيْر صبًّا، ولا تجعل عيشها كَدًّا كَدًا» .
قال ثابت: فزوجها إياه، فبينما رسول الله ? في مغزى له، قال: «تفقدون من أحد؟» ، قَالُوا: نفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا.
ثُمَّ قال: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا.
ثُمَّ قال: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: لا.
قال: «لكني أفقَدْ جليبيبًا» . فطلبوه في القتلى.(5/630)
فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعةٍ، قَدْ قتلهم، ثُمَّ قتلوه.
فَقَالَ رسول الله ?: «هَذَا مني وانَا منه، أقتل سبعة ثُمَّ قتلوه هَذَا مني وانَا منه أقتل سبعة ثُمَّ قتلوه هَذَا مني وانَا منه» .
فوضعه رسول الله ? على ساعديه ثُمَّ حفروا له ما له سرير إِلا ساعدي رسول الله ? حتى وضعه في قبره.
لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فغما أرفعها!
وَلَمَّا رَأَواَ بَعْضَ الْحَيَاةِ مَذَلَّةً ... عَلَيْهِمْ وَعِزَّ الْمَوْتِ غَيْرَ مُحَرَّمِ
أَبَوْا أَنْ يَذُوقُوا الْعَيْشَ وَالذَمُّ وَاقِعٌ ... عَلَيْهِ وَمَاتُوا مَيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ
وَلا عَجَبٌ لِلأُسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
فَحَربَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمزَةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلِيٍّ في حُسَامِ ابْنِ مُلْجَمِ
رَوَى مُسْلِم في أفراده مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: انْطَلََقَ رَسُولُ اللهِ ? وأَصْحَابَهُ إلى بَدْر حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ» .
قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: بَخٍ بَخٍ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ» . قَالَ: [لاَ] وَاللهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» .
قال: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.
فَصْلٌ: قال الواقدي: لما أراد عمرو بن الجموح الْخُرُوج إلى أحد، منعه بنوه، وقَالُوا: قَدْ عذرك الله. فَجَاءَ إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ:(5/631)
إن بني يريدون حبسي عن الْخُرُوج معك وإني لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الْجَنَّة فَقَالَ: «أما أَنْتَ فقَدْ عذرك الله» . ثُمَّ قال لبنيه: «لا عليكم لا تمنعوه لعل الله عَزَّ وَجَلَّ يرزقه الشهادة» . فخلوا سبيله.
قَالَتْ امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه موليًا قَدْ أخذ درفته وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تردني إلى خربى وهي منازل بني سلمة.
قال أبو طلحة: فمظرت إليه حين انكشف المسلمون ثُمَّ ثابوا وَهُوَ في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلع في رجله وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا وَاللهِ مشتاق إلى الْجَنَّة!
ثُمَّ أنظر إلى ابنه خلاد [وَهُوَ] يعدو [معه] في إثره حتى قتلا جميعًا.
وفي الْحَدِيث: أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغير كأنهم ماتوا بالأمس. وَاللهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ: عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مَعَ رسول الله ? فَقَالَ: «يطلع الآن عليكم رجل من أَهْل الْجَنَّة» . فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه قَدْ عل نعَلَيْهِ بيده الشمال.
فَلَمَّا كَانَ الغد قال النَّبِيّ ? مثل ذَلِكَ، فطلع ذَلِكَ الرجل مثل المرة الأولى.
فَلَمَّا كَانَ اليوم الثالث قال النَّبِيّ ع مثل مقالته أيضًا فطلع ذَلِكَ الرجل على مثل حاله الأولى فَلَمَّا قام النَّبِيّ ع تبعه عَبْد اللهِ ابن عمرو فَقَالَ: إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه(5/632)
ثلاثًا فإن رَأَيْت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم.
قال أنس: فكَانَ عَبْد اللهِ يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليإلى فلم يره يقوم من الليل شَيْئًا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، وكبر حتى لصلاة الفجر.
قال عَبْد اللهِ: غير أني لم أسمعه يَقُولُ إِلا خيرًا، فَلَمَّا مضت الثلاث الليإلى، وكدت أن أحتقر عمله.
قُلْتُ: يا عَبْد اللهِ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله ع يَقُولُ لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أَهْل الْجَنَّة» . فطلعت أَنْتَ الثلاث المرات، فأردت أن آوى إليك.
فَانْظُرْ ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الَّذِي بلغ بك ما قَالَ رَسُولُ اللهِ ?؟
قال: ما هُوَ إِلا ما رَأَيْت، فَلَمَّا وليت دعاني فَقَالَ: ما هُوَ إِلا ما رَأَيْت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدًا على خَيْر أعطاه الله إياه.
فَقَالَ عَبْد اللهِ: هذه التي بلغت بك. رواه أَحَمَد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
فَصْلٌ: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ? بعث جيشًا فيهم رجل يُقَالُ له حدير. وكأَنْتَ تلك السنة قَدْ أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله ونسي أن يزود حديرًا.
فخَرَجَ حدير صابرًا محتسبًا وَهُوَ في أخر الركب يَقُولُ: لا إله إِلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. وَيَقُولُ: نعم الزَادَ هُوَ يا رب. فهو يرددها وَهُوَ في آخر الركب.(5/633)
قال: فَجَاءَ جبريل إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ له: إن رَبِّي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديرًا، وَهُوَ في آخر الركب يَقُولُ: لا إله إِلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله.
فدعا النَّبِيّ ع رجلاً فدفع إليه زَادَ حدير وأمر إذا انتهى إليه حفظ عَلَيْهِ ما يَقُولُ: وإذا دفع إليه الزَادَ حفظ عَلَيْهِ ما يَقُولُ وَيَقُولُ له: إن رسول الله ع يقرئك السَّلام ورحمة الله ويخبرك أنه كَانَ نسي أن يزودك، وإن رَبِّي تبارك وتَعَالَى أرسل إلى جبريل يذكرني بك فذكره جبريل وأعلمه مكانك.
فانتهى إليه وَهُوَ يَقُولُ: لا إله إِلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ، وَيَقُولُ: نعم الزَادَ هَذَا يا رب. قال: فدنا منه ثُمَّ قال له: إن رسول الله ع يقرئك السَّلام ورحمة الله وقَدْ أرسلني إليك بزَادَ معي، وَيَقُولُ: إني إنما نسيتك فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بك. قال: فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ ع.
ثُمَّ قال: الحمد لله رب العالمين، ذكرني رَبِّي من فوق سبع سماوات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديرًا فاجعل حديرًا لا ينساك.
قال: فحفظ ما قال وَرَجَعَ إلى النَّبِيّ ? فأخبره بما سمَعَ منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فَقَالَ رسول الله ?: «أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرَأَيْت لكلامه ذَلِكَ نورًا ساطعًا ما بين السماء والأَرْض. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
فَصْلٌ: عن مُحَمَّد بن سعد قال: كَانَ ذو البجادين يتيمًا لا ما له. فمَاتَ أبوه ولم يورثه شَيْئًا، وكفله عمه حتى أيسر.(5/634)
فَلَمَّا قدم النَّبِيّ الْمَدِينَة جعلت نَفْسهُ تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عَلَيْهِ من عمه حتى مضت السنون والمشاهد.
فَقَالَ لعمه: يا عم إني قَدْ انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا فأذن لي في الإسلام.
فَقَالَ: وَاللهِ لئن اتبعت مُحَمَّد لا أترك بيدك شَيْئًا كنت أعطيتكه إِلا نزعته منك حتى ثوبيك.
قال: فانَا وَاللهِ متبع محمدًا وتارك عبادة الحجر، وهَذَا ما بيدي فخذه، فأخذ ما أعطاه حتى جرده من إزاره.
فأتي أمه فقطعت بجادًا لها باثنين فأتزر بواحدٍ وارتدى بالآخِر ثُمَّ أقبل إلى الْمَدِينَة وكَانَ بورقان فاضطجع في المسجد في السحر.
وكَانَ رسول الله ? يتصفح النَّاس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه فنظر إليه فَقَالَ: «من أَنْتَ» ؟ فانتسب له، وكَانَ اسمه عبد العزى. فَقَالَ: «أَنْتَ عَبْد اللهِ ذو البجادين» .
ثُمَّ قال: «انزل مني قريبًا» . فكَانَ يكون في أضيافه حتى قَرَأَ قرانَا كثيرًا.
فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ ? إلى تبوك قال: ادع لي بالشهادة فربط النَّبِيّ ? على عضده لحى سمرة وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إني أحرم دمه على الكفار» .
فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا أردت.
قال النَّبِيّ ? إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأَنْتَ شهيد، أو وقصتك دابتك فأَنْتَ شهيد» . فأقاموا بتبوك أيامًا ثُمَّ توفي.(5/635)
قال بلال بن الحارث: حضرت رسول الله ? ومَعَ بلال المؤذن شعلة من نار عَنْدَ القبر واقفًا بها.
وإذا رسول الله ? وَهُوَ يَقُولُ: «أدينا إلى أخاكما» . فَلَمَّا هيأه لشقه في اللحد قال: «اللَّهُمَّ إني قَدْ أمسيت عَنْهُ راضيًا فارض عَنْهُ» .
فَقَالَ ابن مسعود: ليتني كنت صَاحِب اللحد.
وعن أبي وائل عن عَبْد اللهِ قال: وَاللهِ لكأني أرى رسول الله ?في غزوة تبوك وَهُوَ في قبر عَبْد اللهِ ذي البجادين وأبو بكر وعمر يَقُولُ: «أدنيا إلى أخاكما» .
وأخذه من القبلة حتى أسكنه في لحده ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيّ ? وولياهما الْعَمَل.
فَلَمَّا فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعًا يديه يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إني أمسيت عَنْهُ راضيًا فارض عَنْهُ» .
وكَانَ ذَلِكَ ليلاُ فوَاللهِ لوددت أني مكانه، ولَقَدْ أسلمت قبله بخمس عشر سنة. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
فَصْلٌ: عن مُحَمَّد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله ? فصلى معه الصبح. وكَانَ رسول الله ? إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه فَلَمَّا دنا من واثلة قال: «من أَنْتَ» ؟ فأخبره.
فَقَالَ: «ما جَاءَ بك» ؟ قال: جئت أبايع. فَقَالَ رسول الله ? «فيما أحببت وكرهت» ؟ قال نعم. قال: «فيما أطقت» ؟ قال: نعم. فأسلم وبايعه.
وكَانَ رسول الله ? يتجهز يومئذ إلى تبوك فخَرَجَ واثلة إلى أهله فلقي أبا الأسقع فَلَمَّا رأى حاله قال: قَدْ فعلتها؟ قال: نعم قال أبوه: وَاللهِ لا أكلمك أبدًا.(5/636)
فأتى عمه فسلم عَلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ فعلتها؟ قال: نعم قال: فلامه أيسر من ملامة أبيه وَقَالَ: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر.
فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عَلَيْهِ بتحية الإسلام. فَقَالَ واثلة: أنى لك هَذَا يا أخية؟ قَالَتْ: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت.
فَقَالَ: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله ? على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله ? قَدْ تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من النَّاس وهم على الشخوص.
فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وَكُنْت رجلاً لا رحلة بي.
قال: فدعاني كعب بن عجرة فَقَالَ: أَنَا أحَمَلَكَ عقبة بالليل وعقبة بالنَّهَارَ ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قال واثلة: نعم.
قال واثلة: جزاه الله خيرًا لَقَدْ كَانَ يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله ? خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد المالك بدومة الجندل.
خَرَجَ كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقُلْتُ: اخَرَجَ رَحِمَكَ اللهُ فَانْظُرْ إلى قلائصك فاقبضها.
فخَرَجَ وَهُوَ يبتسم وَيَقُولُ: بارك الله لك فيها ما حملتك وانَا أريد أن آخد منك شَيْئًا.(5/637)
عن بشر بن عَبْد اللهِ عن واثلة بن الأسقع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كنَّا أصحاب الصفة في مسجد رسول الله ? وما فينا رجل له ثوب.
ولَقَدْ اتخذ العرق في جلودنا طرقًا من الغبار، إذ خَرَجَ عَلَيْنَا رسول الله ? فَقَالَ: «ليبشر فقراء المهاجرين» .؟ ثلاثًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: عَنْ نَعِيم بن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ أخدِمُ رَسُولَ اللهِ ?وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجه نِهَارِي أجمَعَ، حَتَّى يُصلى رسولُ الله ?العشاء الأخرة.
فأجلس على بابه إذا دخل بيته أَقُول: لعلها أن تحدث لِرَسُولِ اللهِ ? حَاجَة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقَدْ.
فَقَالَ لي يومًا لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه «يا ربيعة سَلْنِي أعطك» . قال: فقُلْتُ أنظر في أمري يَا رَسُولَ اللهِ ثم أعلمك ذَلِكَ.
فَقَالَ: ففكرت في نفسي فعلمت أن الدُّنْيَا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، قال: فقُلْتُ أسأل رسول الله ? لآخرتي فإنه من الله عَزَّ وَجَلَّ بالمنزل الَّذِي هُوَ به.
فجئته فَقَالَ: «ما فعلت يا ربيعة» ؟ أسألك يَا رَسُولَ اللهِ أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار.
فَقَالَ: «من أمرك بهَذَا يا ربيعة» ؟ فَقُلْتُ: ولا الَّذِي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قُلْتُ «سلني أعطك» . وَكُنْت من الله بالمنزل الَّذِي أَنْتَ به نظرت في أمري فعرفت أن الدُّنْيَا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني.
فقُلْتُ: أسأل رسول الله ? لآخرتي. قال: فصمت رسول(5/638)
الله ? طويلاً ثُمَّ قال لي: «إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» .
شِعْرًا:
يَا أَيُّهَا الرَّاقِدُ كَمْ تَرْقُدُ ... قُمْ يَا حَبِيبِي قَدْ دَنَا الْمَوْعِدُ
وَخُذْ مِنَ اللَّيْلِ وَسَاعَاَتِهِ ... حَظًّا إِذَا مَا هَجَعَ الرُّقَّدُ
مَنْ نَامَ حَتَّى يَنْقَضِي لَيْلَهُ ... لَمْ يَبْلُغ الْمَنْزِلَ لَوْ يَجْهَدُ
قُلْ لِذِي الأَلْبَابِ أَهْلِ التُّقَى ... قَنْطَرَةُ الْحَشْرِ لَكُمْ مَوْعِدُ
اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
كَانَ الْفُقَهَاء يتواصون بينهم بثلاث ويكتب بذَلِكَ بَعْضهمْ إلى بعض من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله تَعَالَى فيما بينه وبين النَّاس.
وَقَالَ مُحَمَّد بن كعب القرظي: إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل فيه ثلاث خلال: فقه في الدين، وزهادة في الدُّنْيَا، وبصرٍ بعيوبه.
وَقَالَ الحسن بن صالح: الْعَمَل بالحسنة قوة في البدن، ونور في الْقَلْب، وضوء في البصر، والْعَمَل بالسيئ، وهن في البدن، وظلمة في الْقَلْب، وعمًى في البصر.
وكتب الخسن البصري إلى عمر بن عَبْد الْعَزِيز يعظه: احتمال المؤنة المنقطعة التي تعقبها الرَّاحَة الطويلة خَيْر من تعجل راحة منقطعة تعقبها مؤنة باقية وندامة طويلة.
واعْلَمْ أن الهول الأعظم أمامك ومن وراء ذَلِكَ داران إن أخطأتك هذه صرت على هذه، وكأنك بالدُّنْيَا لم تكن وبالآخِرَة لكم تزل.
وكتب أحد عمال عمر بن عَبْد الْعَزِيز إليه (إلى مدينتنا قَدْ تهدمت فإن(5/639)
رأى أمير الْمُؤْمِنِين أن يقطع لنا مالاً نرمها به فعل، فكتب عمر إليه: إذا قرأت كتابي ها فحصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم فإنه عمارتها.
وقيل: الدين والملك إِخْوَان توأمان لا قوام لأحدهما إِلا بصاحبه، لأن الدين أساس الملك، ثُمَّ صار الملك بعد حارسًا للدين فَلا بُدَّ للملك من أساس، ولا بد للدين من حارس، وما لا حارس له فهو ضائع، وما لا أساس له فهو مهدوم.
كَانَ جماعة من الملوك يوعظون فيؤثر الوعظ في قُلُوبهمْ فيخرجون من ملكهم ودنياهم ويزهدون وكَانَ فيهم من يتفكر في نَفْسهُ ويعلم انقطاع الدُّنْيَا عَنْهُ وقرب رحيله منها ويخاف شدة الحساب وأهوال القيامة وما إلى ذَلِكَ فينفر من الدُّنْيَا ويزهد في الولاية وكل من تدبر القرآن وتأمل أحوال من مضى لا بد أن يتأثر ويتجافى عن الدُّنْيَا ولكن مقل ومكثر إِلا من عميت بصيرته.
شِعْرًا:
يَا خَدُّ إِنَّكَ إِنْ تُوسَدَ لَيِّنًا ... وُسِّدْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ صُمَّ الْجَنْدَلِ
فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا تَسْعَدْ بِهِ ... فَلَتَنْدَمَنَّ غَدًا إِذَا لَمْ تَفْعَلِ
قال تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وَقَالَ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} .
قال تَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} ، وَقَالَ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} .
روى ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بينما رجل ممن كَانَ قبلكم في مملكته تفكر فعلم أن ذَلِكَ منقطع عَنْهُ وأن الَّذِي هُوَ فيه قَدْ شغله عن عبادة ربه تَعَالَى فخَرَجَ ذات ليلة من قصره فأصبح في مملكة غيره فأتى ساحل البحر وكَانَ يضرب اللبن بالأجرة فيأكل ويتصدق بالفضل من قوته فلم يزل كَذَلِكَ حتى رفع إلى ملك تلك الناحية.
فأرسل الملك إليه أن يأتيه فأعاد إليه الرَّسُول فأبى وَقَالَ: ماله وإياي فركب الملك فَلَمَّا رآه الرجل ولى هاربًا فَلَمَّا رأى ذَلِكَ الملك جد في أثره فلم(5/640)
يدركه فناداه يا عَبْد اللهِ إنه لَيْسَ عَلَيْكَ مني بأس فأقام حتى أدركه.
فَقَالَ له: من أَنْتَ يرَحِمَكَ اللهُ قال: فلان بن فلان صَاحِب كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: وما شأنك، فَقَالَ: تفكرت في أمري فعلمت أن ما أَنَا فيه منقطع عني لا محالة وأنه قَدْ شغلني عن عبادة رَبِّي فتركته وجئت هنا أعبد رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَالَ: ما أَنْتَ بأحوج إلى ما صنعت مني فنزل عن دابته فسيبها وإلى ثيابه فألقى بها ثُمَّ أتبعه فكانَا جميعا فدعوا الله تَعَالَى أن يميتهما جميعا فماتا. قال ابن مسعود: ولو كنت برملية مصر لأريتكم قبريهما بالنعت الَّذِي نعت لنا رسول الله ?. رواه أَحَمَد، وأبو يعلى بنحوه.
إِلَى اللهِ أَشْكُو لَوْمَ نَفْسٍ شَحِيحَة ... عَلَى الْخَيْرِ قَدْ أَضْنَى فُؤَادِي عَلاجُهَا
إِذَا سَأَلْتَنِي شَهْوَة قَدْ مَنَعْتُهَا ... أَدَامَتْ سُؤَإلى وَاسْتَمَرَّ لَجَاجُهَا
وَإِنْ سُمْتُهَا خَيْرًا تَفُوزُ بِنَفْعِهِ ... غَدًا نَفَرتْ مِنِّي وَدَامَ انْزِعَاجَهَا
فَقَدْ ضِقْتُ يَا مَوْلايَ ذَرْعًا وَأَظْلَمَتْ ... عَليَّ الأَرَاضِي الْوَاسِعَات فِجَاجُهَا
فَهَبْ لِيَّ يَا نُوار السَّمَاوَاتِ فِطْرَةً ... يُضِيءُ لِعَيْنِي فِي السُّلُوكَ سَرَاجُهَا
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَمَ.
فَصْلٌ: ثُمَّ اعْلَمْ أن الدُّنْيَا بأسرها وبجَمِيع لذاتها لا تساوي في باب السعادة واللذة الروحية شَيْئًا قال الإمام علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أصاب الدُّنْيَا من حذرها وأصابت من أمنها، وَقَالَ: الدُّنْيَا لا تصفوا لشارب ولا تبقي لصَاحِب ولا تخلوا من فتنة ولا تنكشف إِلا عن محنة.
فأعرض بقلبك عَنْهَا قبل أن تعرض عَنْكَ واستبدل بها خيرًا منها قبل أن تستبدل بك فإن نعيمها متحول وأحوالها متنقلة ولذاتها فانية وتباعتها باقية.
واعْلَمْ أن مثل الدُّنْيَا كمثل الحية لين مسها قاتل سمها فاقتصد فيما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها وكن أحذرهر ما تَكُون لها وأَنْتَ آنس بها فإن صاحبها كُلَّما اطمأن منها إلى سرور أشخصه لك مكروه أو غرور.
وَقَالَ آخر: وجملت الأَمْر أنك إذا نظرت بعقلك أيها الرجل فعلمت(5/641)
أن الدُّنْيَا لا بقاء لها، وأن نفعها لا يفي بضرها وتبعاتها من كد البدن وشغل الْقَلْب في الدُّنْيَا والْعَذَاب الإليمِ والحساب الطويل في الآخِرَة الَّذِي لا طاقة لك به.
فإذا علمت ذَلِكَ جدًا زهدت في فضول الدُّنْيَا فلا تأخذ منها إِلا ما لا بدًا لك منه في عبادة ربك وتدع التنعم والتلذذ إلى الْجَنَّة دار النَّعِيم الْمُقِيم في جوار رب العالمين الملك القادر الغني الكريم وعلمت أن الخلق لا وفاء لَهُمْ. قال الواصف لحال أَهْل وقته:
غَاضَ الْوَفَاءُ فَمَا تَلْقَاهُ فِي عِدَّةٍ ... وَأَعُوذُ الصِّدْقَ فِي الأَخْبَار وَالْقسم
وعلمت أن مؤنة الخلق أكثر من معونتهم فيما يعنيك وتركت مخالطتهم إِلا فيما لا بد لك منه تنتفع بخيرهم وتجتنب من ضرهم وتجعل صحبتك لمن تربح في صحبته ولا تخسر ولا تندم على خدمته وأنسك بكتابه وملازمتك إياه.
فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَاحْفَظْ كِتَابَهُ ... فَفِيهِ الْهُدَى حَقًّا وَلِلْخَيْرِ جَامِعُ
هُوَ الذَّخْرُ لِلْمَلْهُوفِ وَالْكَنْزُ وَالرَّجَا ... وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ تُنَالُ الْمَنَافِعُ
بِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ فِي مُهِمَّهِ الْهَوَى ... بِهِ يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الْفَجَائِعُ
فتَرَى منه كُلّ جميل وإفضال وتجده عَنْدَ كُلّ نائبة في الدُّنْيَا والآخِرَة كما في الْحَدِيث: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك» . وفي رواية: «تجده أمامك، تعرف إِلَى اللهِ في الرخاء يعرفك في الشدة» . الْحَدِيث.
واعْلَمْ أن الشيطان خبيث قَدْ تجرد لمعادتك فاستعذ بربك القادر القاهر من هذا الكلب اللعين ولا تغفل عن مكائده فتطرده بذكر الله والاستعاذة من شره.
فإنه يسير إذا ظهرت منك عزيمة صادقة وأنه كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} نسأل الله أن يوفقنا للعمل بكتابه وسنة رسوله ?.(5/642)
وَقَالَ آخر: ما الدُّنْيَا وما إبلَيْسَ، أما الدُّنْيَا فما مضى منها فحلم وما بقى فأماني، وأما الشيطان فوَاللهِ لَقَدْ أطيع فما نفع بل ضر، ولَقَدْ عصي فما ضر.
وعلمت جهالة هذه النفس وجماحها إلى ما يضرها ويهلكها فنظرت إليها رحمة لها نظرة العقلاء والْعُلَمَاء الَّذِينَ ينظرون في العواقب.
لا نظر الجهال والصبيان الَّذِينَ ينظرون في الحال ولا يفطنون لغائلة الأَذَى وينفرون من مرارة الدواء فألجمها بلجام التقوى بأن تمنعها عما لا تحتاج إليه بالحَقِيقَة من فضول الكلام والنظر والتلبيس بخصلة فاسدة من طول أمل أو حسد أو كبر أو نحو ذَلِكَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن الشيطان قاسم أباك وأمك حواء إنه لهما لمن الناصحين، وقَدْ علمت كذبه وغشه ورَأَيْت فعله بهما وأما أَنْتَ فقَدْ أقسم أن يغويك قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فاحذره وشمر عن ساق الجد في الفرار عن مكائده والعجب ممن يصدق في عدواته ويتبع غوايته.
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وَرَاعِهَا وَهِيَ فِي الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتْ الْمرعَى فَلا تُسَمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَن السُّمَّ فِي الدَّسَمِ
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا ... وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِِنْ عَيْنٍ قَدْ امْتَلأتْ ... مِن الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ
قال في الفنون: من عجيب ما نقدت من أحوال النَّاس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.
وقَدْ رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السُّنَن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الَّذِي لا يجدي والقبيح الَّذِي يوبق ويؤذي فلا أجد مِنْهُمْ من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.
وما أرى لذَلِكَ سببًا إِلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدُّنْيَا في عيونهم ضد(5/643)
ما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين، قُلْتُ: فَكَيْفَ لو رأى أَهْل هذا الزمن الَّذِي كثرت فيه المعاصي والملاهي وانفتحت فيه الدُّنْيَا على كثير من النَّاس فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ.
ومن عجب ما رَأَيْت أَنَا أن أحدنا إذ ناداه أمير أو وزير أو مساعد أو مدير يبادر ويقوم بسرعة لداعي الدُّنْيَا ولا يتأخر ويسمَعَ داعي الله يدعوه إلى الصَّلاة التي هِيَ الصلة بينه وبين ربه جَلَّ وَعَلا وتقدس فيتثاقل ولا يهتم لها وإن قام بعد التريث فكأنه مكره يدفع إليها دفعا عكس ما عَلَيْهِ السَّلَف الصالح من المبادرة والمرابطة وترك الأعمال فورًا عِنْدَمَا يسمعون (حي على الصَّلاة، حي على الفلاح) وكثير من المساجد عندهم تجد الصف الأول يتم قبل الأذان وقَدْ ازداد الطين بلة بما حدث عندنا من المنكرات قتالة الأوقات، مفرقة النُّفُوس والأبدان، ومشتت القُلُوب، وَذَلِكَ كالتلفزيون والمذياع والفيديو والجرائد والمجلات ومخالطة المنحرفين والفاسقين والكافرين والمجرمين أبعدهم الله.
سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبُ ... فَمَا تَبِينُ وَلا يَعْتَاقُهَا نَصَبُ
كَيْفَ النَّجَاءَ وَأَيْدِيهَا مُصَمِّمَتٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدَى لَيْسَتْ لَهَا نَصَبُ
وَهَلْ يُؤْمِّلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عَجَبُ
وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزَلٍ هَتَفَتْ ... وَفِيهِ بِنَا مُذْ سَكنَّا رَبْعَهُ نُوَبُ
وَآذنتنا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ
أَزْرَتْ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إِلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ
هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ ... وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلُّهَا نَصَبُ
وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعِ الْبَلأ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌّ وَمُرْتَقِبُ
أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي ابْنِتَائِهِمُوا ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ، وَتَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(5/644)
آخر: هذه قصيدة وعظية ألق لها سمعك:
أَنِسْتُ بِلأوَاءٍ الزَّمَانِ وَذِلِّهِ ... فَيَا عِزَّةَ الدُّنْيَا عَلَيْكَ سَلامُ
إِلَى كَمْ أُعَانِي تِيهَهَا ودَلالَهَا ... ألَمْ يَأْنِ عَنْهَا سَلْوَةُ وَسَآمُ
وَقَدْ أَخْلَقَ الأَيَّامُ جِلْبِاب حُسْنِهَا ... وَأَضْحَتْ وَدِيبَاجُ الْبَهَاءِ مَسَامُ
عَلَى حِينَ شَيْبٌ قَدْ أَلَمَّ بَمَفْرَقِي ... وَعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وَهُوَ ثَغَامُ
طَلائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى الْقُوَى ... وَثَارَ بِمِيدَانِ الْمِزَاجِ قَتَامُ
فَلا هِيَ فِي بُرْجِ الْجَمَالِ مُقِيمَةٌ ... وَلا أَنَا فِي عَهْدِ الْمُجُونَ مُدَامُ
تَقَطَّعَت الأَسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَلَمْ يَبْقَ فِينَا نِسْبَةٌ وَلِئَامُ
وَعَادَتْ قُلُوصُ الْعَزْمِ عَنِّي كَلِيلَةً ... وَقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَّامُ
كَأَنِّي بِهَا والْقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابهُ ... وَقُوِّضَ أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ
وَسِيقَتْ إِلَى دَارِ الْخُمُولِ حُمُولُهُ ... يَحُنُّ إليها وَالدُّمُوعُ رُهَامُ
حَنِينَ عَجُولٍ غَرَّهَا الْبَوُّ فَانْثَنَتْ ... إليه وَفِيهَا أَنَّهُ وَضُغَامُ
تَوَلَّتْ لَيَالِ لِلْمَسَرَّاتِ وَانْقَضَتْ ... لِكُلِّ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ
فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا ... تَدُومُ وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ
دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالْمَسَرَّاتِ سَاعَةً ... وَيَوْمَ تَوَلَّى بِالْمَسَاءَةِ عَامُ
فَلِلَّهِ دَرُّ الْغَمِّ حَيْثُ أَمَدَّنِي ... بِطُولِ حَيَاةٍ وَالْهُمُومُ سِهَامُ
أَسِيرُ بِتَيْمَاءٍ التَّحَيُّرِ مُفْرَدًا ... وَلِي مَعَ صَحْبِي عِشْرَةٌ وَنَدَامُ
وَكَمْ عَشِيرَةٍ مَا أَوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ ... وَرُبَّ كَلامِ فِي الْقُلُوبِ كَلامُ
فَمَا عِشْتُ لا أَنْسَى حُقُوقَ صَنِيعِهِ ... وَهَيْهَاتَ أَنْ يُنْسَى لَدَيَّ ذِمَامُ
كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ ... عَلَيْهِ فِئَامٌ إِثْرَ ذَاكَ فِيَامُ
خَبَتْ نَارُ أَعْلامِ الْمَعَارِفِ وَالْهُدَى ... وَشُبَّ لِنِيرَانِ الضَّلالِ ضُرَامُ
وَكَانَ سَرِيرَ الْعِلْمِ صَرْحًا مُمَرَّدًا ... يُنَاغِي الْقِبَابَ السَّبْعَ وَهِيَ عِظَامُ(5/645)
.. مَتِينًا رَفِيعًا لا يُطَارُ غُرَابُهُ ... عَزِيرًا مَنِيعًا لا يَكَادُ يُرَامُ
يَلُوحُ سَنَا بَرْقِ الْهُدَى مِنْ بُرُوجِهِ ... كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السَّحَابِ يُشَامُ
فَجَرَّتَ عَلَيْهِ الرَّاسِيَاتُ ذُيُولَهَا ... فَخَرَّتْ عُرُوشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ
وَسِيقَ إِلَى دَارِ الْمَهَانَةِ أَهْلُهُ ... مَسَاقَ أَسِيرٍ لا يَزَالُ يُضَامُ
كَذَا تَجْرِي الأَيَّامُ بَيْنَ الْوَرَى عَلَى ... طَرَائِقَ مِنْهَا جَائِرٌ وَقَوَّامُ
فَمَا كُلُّ مَا قَدْ قِيلَ عِلْمٌ وَحِكْمَةٌ ... وَمَا كُلُّ أَفْرَادِ الْحَدِيدِ حُسَامُ
وَلِلدَّهْرِ تَارَاتٌ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... نَعِيمٌ وَبُؤْسٌ صِحَّةٌ وَسَقَامُ
وَمَنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا فَلا يَعْتِبَنَّهَا ... فَلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْتَبٌ وَمَلامُ
أَجِدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا مَتَاعُهَا ... وَمَا الَّذِي تَبْغِيهِ فَهُوَ حُطَامُ
تَشَكَّلَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ بِشَكْلِ مَا ... يُعَانِدُهُ وَالنَّاسُ عَنْهُ نِيَامُ
تَرَى النَّقْصَ فِي زِيِّ الْكَمَالِ كَأَنَّمَا ... عَلَى رَأْسِ رَبَّاتِ الْحِجَالِ عِمَامُ
فَدَعْهَا وَنَعْمَاهَا هَنِيئًا لأَهْلِهَا ... وَلاتَكُ فِيهَا رَاعِيًا وَسَوَامُ
تَعَافُ الْعَرَانِينُ السِّمَاطَ عَلَى الْخِوَى ... إِذَا مَا تَصَدَّى لِلطَّعَامِ طَغَامُ
عَلَى أَنَّهَا لا يُسْتَطَاعُ مَنَالُهَا ... لِمَا لَيْسَ فِيهِ عُرْوَةٌ وَعِصَامُ
وَلَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلْفَ حَجَّةٍ ... وَقَدْ جَاوَزَ الطِّبْيَيْنِ مِنْكَ حِزَامُ
رَجَعْتَ وَقَدْ ضَلَّتْ مَسَاعِيكَ كُلُّهَا ... بِخُفَى حُنَيْنٍ لا تَزَالُ تُلامُ
هَبِ إِنَّ مَقَاليدَ الأُمُورِ مَلَكْتَهَا ... وَدَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ هُمَامُ
وَمُتِّعْتَ بِاللَّذَاتِ دَهْرًا بِغِبْطَةٍ ... إليسَ بِحَتْمٍ بَعْدَ ذَاكَ حِمَامُ
فَبَيْنَ الْبَرَايَا وَالْخُلُودِ تَبَايُنٌ ... وَبَيْنَ الْمَنَايَا وَالنُّفُوسِ لِزَامُ
قَضِيَّةِ انْقَادَ الأَنَامُ لِحُكْمِهَا ... وَمَا حَادَ عَنْهَا سَيِّدٌ وَغُلامُ
ضرُورِيَّة تقضي الْعُقُولُ بِصِدْقِهَا ... سَلْ إِنْ كَانَ فِيهَا مِرْيَةٌ وَخِصَامُ
سَلْ الأَرْضَ عَنْ حَالِ الْمُلُوكِ الَّتِي خَلَتْ ... لَهُمْ فَوْقَ فَوْقَ الفرقدين مَقَامُ(5/646)
.. بِأَبْوَابِهِمْ لِلْوَافِدِينَ تَرَاكُم ... بِأَعْتَابِهِمْ لِلْعَاكِفِينَ زِحَامُ
تُجِبْكَ عَنْ أَسْرَارِ السُّيُوفِ الَّتِي جَرَتْ ... عَلَيْهِمْ جَوَابًا لَيْسَ فِيهِ كَلامُ
بِأَنَّ الْمَنَايَا أَقْصَدَتْهُمْ نِبَالُهَا ... وَمَا طَاشَ عَنْ مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ
وَسِيقُوا مَسَاقَ الْغَابِرِينَ إِلَى الرَّدَى ... وَأَقْفَرْ مِنْهُمْ مَزَلٌ وَمَقَامُ
وَحَلُّوا مَحْلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَهُ ... فلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى الْقِيَامِ قِيَامُ
أَلَمَ بِهِمْ رَيْبُ الْمَنُونِ فَغَالَهُمْ ... فَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الرُّغَامِ رُغَامُ
انتهى.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عن ذِكرك واعفُ عن تَقْصِيرنَا فِي طَاعَتكَ وشُكْرِكْ وأدمْ لَنَا لزُومَ الطَرِيق إليكَ وهَبْ لَنَا نورًا نَهْتَدِي بِهِ إليكَ واسْلُكْ بنا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ واقْطِعْ عَنَّا كُلّ ما يُبعدُنا عَنْ سَبِيلِكَ ويَسِّرْ لَنَا ما يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقَّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا واسْتُرْنَا في دُنْيانَا وآخرتِنَا واحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
شِعْرًا:
أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مُعَافًا وَمُبْتَلىً ... وَمَا زَالَ حُكْمُ اللهِ فِي الأَرْضِ مُرْسَلا
مَضَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ سَابِقُ عِلْمِهِ ... وَفَصَّلَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَوَصَّلا
وَلَسْنَا عَلَى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ ... نَرَى حكَمًا فِينَا مِنَ اللهِ أَعْدَلا
بِلا خَلْقَهُ بِالْخَيْرِ وَالشَرِّ فِتْنَةً ... لِيَرْغَبَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ وَيَسْأَلا
وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ نَبُوءَ بِفَضْلِهِ ... عَلَيْنَا وَإِلا أَنْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا
هُو الأحَدُ القَيّومُ مِنْ بَعِد خَلقِه ... وَما زالَ في دَيمومَةِ المُلْكِ أولاً
وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانُ إِلا لِغَايَةٍ ... وَلَمْ يَتْرُكِ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ مُهْمَلا
كَفَى عِبْرَةً أَنِّي وَأَنَّكَ يَا أَخِي ... نُصَرَّفُ تَصْرِيفًا لَطِيفًا وَنُبْتَلَى
كَانَا وَقَدْ صِرْنَا حَدِيثًا لِغَيْرِنَا ... نُخَاضُ كَمَا خُضْنَا الْحَدِيثَ لِمَنْ خَلا(5/647)
.. تَوَهَّمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلَوْا فَكَأَنَّهُمْ ... بِأَجْمَعِهِمْ كَانُوا خَيَالاً تَخَيَّلا
وَلَسْتُ بِأَبْقَى مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ ... وَلَكِنَّ لِي فِيهَا كِتَابًا مُؤَجَّلا
وَمَا النَّاسُ إِلا مَيِّتٌ وَابْنُ مَيِّتٍ ... تَأَجَّلَ حَيٌّ مِنْهُمْ أَوْ تَعَجَّلا
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ ... بِمَا كَانَ أَوْصَى الْمُرْسَلِينَ وَأَرْسَلا
هُوَ الْمَوْتُ يَا ابْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثُ بَعْدَهُ ... فَمِنْ بَيْنِ مَبْعُوثٍ مُخِفًّا وَمُثْقَلا
وَمِنْ بَيْنِ مَسْحُوبٍ عَلَى حُرِّ وَجْهِهِ ... وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَأْتِي أَغَرَّ مُحَجَّلا
عَشِقْنَا مِنَ اللَّذَاتِ كُلَّ مُحَرَّمٍ ... فَأُفٍّ عَلَيْنَا مَا أَغَرَّ وَأَجْهَلا
رَكَنَّا إِلَى الدُّنْيَا فَطَالَ رُكُونُنَا ... وَلَسْنَا نَرَ الدُّنْيَا عَلَى ذَاكَ مَنْزِلا
لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنَا ... يَعافُونَ مِنْهُنَّ الْحَلالَ الْمُحَلَّلا
فَلِلَّهِ دَارٌ مَا أَحَثَّ رَحِيلُهَا ... وَمَا أَعْرَضَ الآمَالَ فِيهَا وَأَطوَلا
أَبَى الْمَرْءُ إِلا أَنْ يَطُولَ اغْتِرَارُهُ ... وَتَأْبَى بِهِ الْحَالاتُ إِلا تَنَقُّلا
إِذَا أَمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا فَنَالَهُ ... فَمَا يَبْتَغِي فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَمَّلا
وَكَمْ مِنْ ذَليلٍ عَزَّ مِنْ بَعْدِ ذِلَّةٍ ... وَكَمْ مِنْ رَفِيعٍ كَانَ قَدْ صَارَ أَسْفَلا
وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلِمًا فِي وَفَاتِهِ ... وَإِنْ أَكْثَرَ الْبَاكِي عَلَيْهِ وَأَعْوَلا
وَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّأْنِ فِي قَعْرِ حُفْرَةٍ ... تَلَحَّفَ فِيهَا بِالثَّرَى وَتَسَرْبَلا
أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ ... تَرَى الْمَوتَ فِيهِ بِالْعِبَادِ مُوَكَّلا
تُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا لِتَبْلُغَ عِزَّهَا ... وَلَسْتَ تَنَالُ العِزَّ حَتَّى تَذَلَّلا
إِذَا اصْطَحَبَ الأَقْوَامُ كَانَ أَذَلُّهُمْ ... لأَصْحَابِهِ نَفْسًا أَبَرَّ وَأَفْضَلا
وَمَا الْفَضْلُ فِي أَنْ يُؤْثِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّ فَضْلَ الْمَرْءِ أَنْ يَتَفَضَّلا
آخر: ... يَا أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِاللهِ ... فِرَّ مِنَ اللهِ إِلَى اللهِ
وَلُذْ بِهِ وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ ... فَقَدْ نَجَا مَنْ لاذَ اللهِ
وَقُمْ لَهُ وَاللَّيْلُ فِي جنْحِهِ ... فَحَبَّذَا مَنْ قَامَ للهِ(5/648)
.. وَاِتْلُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَوْ آيَةً ... تُكْسَى بِهَا نُورًا مِنَ اللهِ
وَغَفِّرِ الْوَجْهَ لَهُ سَاجِدًا ... فَعَزَّ وَجْهٌ ذَلَّ للهِ
فَمَا نَعِيمٌ كَمُنَاجَاتِهِ ... لِقَانِتْ يُخْلِصُ للهِ
وَاِبْعُدْ عَنِ الذَّنْبِ وَلا تَاتِهِ ... فَبُعْدُهُ قُرْبٌ مِنَ اللهِ
يَا طَالِبًا جَاهًا بِغَيْرِ التُّقَى ... جَهِلْتَ مَا يُدْنِي مِنَ اللهِ
لا جَاهَ إِلا جَاهُ يَوْمِ الْقَضَا ... إِذْ لَيْسَ حُكْمٌ لِسِوَى اللهِ
وَصَارَ مَنْ يُسْعَدُ فِي جَنَّةٍ ... عالية فِي رَحْمَةِ اللهِ
يَسْكُنُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي قُبَّةٍ ... مِنْ لُؤْلُؤٍ فِي جِيرَةِ اللهِ
وَمَنْ يَكُنْ يُقْضَى عَلَيْهِ الشَّقَا ... فِي جَاحِمٍ فِي سَخَطِ اللهِ
يُسْحَبُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ... بِسَابِقِ الْحُكْمِ مِنَ اللهِ
يَا عَجَبًا مِنْ مُوقِنٍ بِالْجَزَا ... وَهُوَ قَلِيلُ الْخَوْفِ للهِ
كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ مُخْبِرٌ ... بِأَمْنِهِ مِنْ قِبَلِ اللهِ
يَا رُبَّ جَبَّارٍ شَدِيدِ الْقُوَى ... أَصَابَهُ سَهْمٌ مِنَ اللهِ
فَأَنْفَذَ الْمَقْتَلَ مِنْهُ وَكَمْ ... أَصْمَتْ وَتُصْمِي أَسْهُمُ اللهِ
وَاِسْتَلَّ قَسْرًا مِنْ قُصُورٍ إِلَى الْـ ... أَجْدَاثِ وَاِسْتَسْلَمَ للهِ
مُرْتَهَنًا فِيهَا بِمَا قَدْ جَنَى ... يُخْشَى عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ
لَيْسَ لَهُ حَوْلٌ وَلا قُوَّةٌ ... الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ للهِ
يَا صَاحِ سِرْ فِي الأَرْضِ كَيْمَا تَرَى ... مَا فَوْقَهَا مِنْ عِبَرِ اللهِ
وَكَمْ لَنَا مِنْ عِبْرَةٍ تَحْتَهَا ... فِي أُمَمٍ صَارَتْ إِلَى اللهِ
مِنْ مَلِكٍ مِنْهُمْ وَمِنْ سُوقَةٍ ... حَشْرُهُمُ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ
وَالحَظْ بِعَيْنَيْكَ أَدِيمَ السَّمَا ... وَمَا بِهَا مِنْ حِكْمَةِ اللهِ
تَرَى بِهَا الأَفْلاكَ دَوَّارَةً ... شَاهِدَةً بِالْمُلْكِ للهِ(5/649)
.. مَا وَقَفَتْ مُذْ أُجْرِيَتْ سَاعَةً ... أَوْ دُونَهاَ خَوْفًا مِنَ اللهِ
وَمَا عَلَيْهَا مِنْ حِسَابٍ وَلا ... تَخْشَى الَّذي يُخْشَى مِنَ اللهِ
وَهِيَ وَمَا غَابَ وَمَا قَدْ بَدَا ... مِنْ آيَةٍ فِي قَبْضَةِ اللهِ
تُوَحِّدُ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ ... فِي غَيْبِهِ فَالأَمْرُ للهِ
وَمَا تَسَمَّى أَحَدٌ فِي السَّمَا ... وَالأَرْضِ غَيْرُ اللهِ بِاللهِ
إِنَّ حِمَى اللهِ مَنِيعٌ فَمَا ... يَقْرُبُ شَيْءٌ مِنْ حِمَى اللهِ
لا شَيْءَ فِي الأَفْوَاهِ أَحْلَى مِنَ التَّـ ... ـوْحِيدِ وَالتَّمْجِيدِ للهِ
وَلا اطْمَأَنَّ الْقَلْبُ إِلا لِمَنْ ... يَعْمُرْهُ بِالذِّكْرِ للهِ
وَإِنْ رَأَى فِي دِينِهِ شُبْهَةً ... أَمْسَكَ عَنْهَا خَشْيَةَ اللهِ
أَوْ عَرَضَتهُ فَاقَةٌ أَوْ غِنَىً ... لاقَاهُمَا بِالشُّكْرِ للهِ
وَمَنْ يَكُنْ فِي هَدْيِهِ هَكَذَا ... كَانَ خَلِيقًا بِرِضَى اللهِ
وَكانَ فِي الدُّنْيَا وَفِي قَبْرِهِ ... وَبَعْدَهُ فِي ذِمَّةِ اللهِ
وَفِي غَدٍ تُبْصِرُهُ آمِنًا ... لِخَوْفِهِ اليوم مِنَ اللهِ
ما أَقْبَحَ الشَّيْخَ إِذَا مَا صَبَا ... وَعَاقَهُ الْجَهْلُ عَنِ اللهِ
وَهُوَ مِنَ الْعُمْرِ عَلَى بَازِلٍ ... يَحْمِلُهُ حَثًّا إِلَى اللهِ
هَلا إِذَا أَشْفَى رَأَى شَيْبَهُ ... يَنْعَاهُ فَاسْتَحْيَى مِنَ اللهِ
كَأَنَّمَا رِينَ عَلَى قَلْبِهِ ... فَصَارَ مَحْجُوبًا عَنِ اللهِ
مَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ فِي جَهْلِهِ ... فَضْلاً عَنِ الْعَالِمَ بِاللهِ
دَارَانِ لا بُدَّ لَنَا مِنْهُمَا ... بِالْفَضْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ اللهِ
وَلَسْتُ أَدْرِي مَنْزِلِي مِنْهُمَا ... لَكِنْ تَوَكَّلْتُ عَلى اللهِ
فَاعْجَبْ لِعَبْدٍ هَذِهِ حَالُهُ ... كَيْفَ نَبَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ
وَاسَوْأَتَا إِنْ خَابَ ظَنِّي غَدًا ... وَلَمْ تَسَعْنِي رَحْمَةُ اللهِ(5/650)
.. وَكُنْتُ فِي النَّارِ أَخَا شِقْوَةٍ ... نَعُوذُ مِنْ ذَلِكَ بِاللهِ
كَمْ سَوْءَةٍ مَسْتُورَةٍ عِنْدَنَا ... يَكْشِفُهَا الْعَرْضُ عَلَى اللهِ
فِي مَشْهَدٍ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَى ... قَدْ نَكَّسُوا الأَذْقَانَ للهِ
وَكَمْ تَرَى مِنْ فَائِزٍ فِيهِمُ ... جَلَّلَهُ سِتْرٌ مِنَ اللهِ
فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الْـ ... إِسْلامِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ
(فَصْلٌ)
عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعَ النَّبِىُّ ? رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
فَقَالَ رَسُولِ اللهُ ?: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . أخرجه أبو داود، والترمذى.
وًعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الحنان الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يا حي يا قيوم.
فَقَالَ النَّبِىُّ ?: «أتَدْرُونَ بِمَ دَعَا؟ قَالُوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ دعا اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» ، أخرجه أصحاب السُّنَن.
عن سَعْدٍ عَنْ أَبِيِ وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَى وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» .
فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْء قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» .
رواه الترمذي والنسائي والحاكم وَقَالَ صحيح الإسناد.
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك مِن شَر أسماعنا ومِن شَر أبصارنا ومِن شَر ألسِنَتنَا وشر قبوبنا وشر منينا.
اللَّهُمَّ عافنا في أبداننا وفي أسماعنا وفي أبصارنا اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من الفقر والكفر، اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من عذاب القبر لا إله إِلا أَنْتَ.
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يرفع ودعاء لا يسمَعَ.(5/651)
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من زَوَال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك،
الهم أنفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا عِلْمًا الحمد لله على كُلّ حال وأعوذ بِاللهِ من حال أَهْل النار.
اللَّهُمَّ أغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وحملنا بالعافية.
اللَّهُمَّ أَنَا نسألك صحة في إيمان وإيمانَا في حسن خلق ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية ومغفرة منك ورضوانَا.
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بوجهك الكريم واسمك العَظِيم من الكفر والفقر.
اللَّهُمَّ أَنَا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكى بها علمنا، وتبيض بها وجوهنا وتلهمنا بها رشدنا وتعصمنا بها من كُلّ سوء.
اللَّهُمَّ أعطنا إيمانَا صادقًا ويقينًا لَيْسَ بعده كفر ورحمة تنال بها شرف كرامتك في الدُّنْيَا والآخِرَة.
اللَّهُمَّ أَنَا نسألك الفوز عَنْدَ الِقَضَاءِ ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء ومرافقة الأنبياء.
اللَّهُمَّ ما قصر عَنْهُ رأينا وضعف عَنْهُ عملنا ولم تبلغه نيتنا وأمنيتنا من خَيْر وعدته أحدًا من عبادك وخَيْر أَنْتَ معطيه أحدًا من خلقك فانَا نرغب إليك فيه ونسألكه يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ ارزقنا أعينا هطالة تشفيان الْقَلْب يذروف الدموع من خشيتك قبل أن تَكُون الدموع دمًا والأضراس جمرًا.
اللَّهُمَّ اجعلنا هداة مهتدين غير ضإلين ولا مضلين حربًا لأعدائك وسلمًا لأوليائك نحب بحبك النَّاس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك.
اللَّهُمَّ إن نسألك الأمن يوم الوعيد من الْعَذَاب الشديد ونسألك الْجَنَّة دار الخلود مَعَ المقربين الشهود والركع السجود والموقين بالعهود والوعود إنك غفور رؤف ودود.(5/652)
اللَّهُمَّ أَنَا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الَّذِي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت.
يَا حَيُّ يا قَيُّوم يا علي يا عَظِيم يا واحد أحد يا فرد صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام أن تفتح لدعائنا باب القبول والإجابة.
اللَّهُمَّ ارحم ذلنا يوم الأشهاد وأمن خوفنا من فزع المعاد ووفقنا لما تنجينا به من الأعمال في ظلم الإلحاد ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
قال بَعْضهمْ:
أُقِلِّبُ كُتُبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَإليدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنْضَّدَا
وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى
وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَإليتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا
آخر: ... الْعِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ ... قَالَ الصَّحَابَةُ هُمْ أُولُو الْعِرْفَانِ
لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ بِالْمُنَى ... مَا كَانَ يَبْقَى فِي الْبَرِيَّةِ جَاهِلُ
اجْهَدْ وَلا تَكْسَلْ وَلا تَكُ غَافِلاً ... فَنَدَامَةُ الْعُقْبَى لِمَنْ يَتَكَاسَلُ
(فَوَائِد عظيمة النفع لمن وفقه الله)
واعجبًا منك يضيع الشَيْء القليل وتتكدر وتتأسف، وقَدْ ضاع أشرف الأَشْيَاءِ عندك وَهُوَ عمرك الَّذِي لا عوض له وأَنْتَ عَنْدَ قتالات الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطَرِيق عن الأعمال الصَّالِحَة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .
شِعْرًا: ... أَرَى النَّاسَ سَفْرًا فِي طَرِيقِ الْمَتَالِفِ ... فَمَنْ بَالِغٍ أُخْرَى الْمَدَى وَمُشَارِفِ
وَمَا بَطْنُ هَذِي الأَرْضَ إِلا قَرَارَةٌ ... وَأَرْوَاحَنَا مِثْلُ السُّيُولِ الْجَوَارِفِ
وَمَا الْعُمْرُ إِلا جَوْلَةٌ ثُمَّ أَوْلَهٌ ... وَنَحْنُ بِمِرْصَادِ الرَّقِيبِ الْمُشَارِفِ(5/653)
(خاتمة، وصية، ونصيحة)
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وكلام رسوله ?.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تَعَالَى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ ? المتفق على صحتها عَنْهُ كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذَلِكَ.
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان البخاري ومسلم، ويجعل لمن يحفظ لك ستة آلاف.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف، أو الأربعون النواوية ويجعل لمن يحفضها ألفًا.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذَلِكَ وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسنة هِيَ مدارس التعليم العإلى الممتاز الباقي النافع في الدُّنْيَا والآخِرَة أو يدخلهم في حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة في المساجد.
شِعْرًا:
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرِبٍ ... كَعِلْمِ الشَّرْعِ يُؤْخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأَوَالي ... لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ
فمن وفقه الله لذَلِكَ وعمل أولاده بذَلِكَ كَانَ سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مَعَ أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق(5/654)
الجَمِيع لحسن النِّيْة إنه لقادر على ذَلِكَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
تم الجزء الخامس بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر وأن يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
والله المسئول أن يجعل عملنا هَذَا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كُلّ شَيْء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين نبينا مُحَمَّد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
عبد العزيز المُحَمَّد السلمان
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
شِعْرًا:
تَمَنَّيْتُ فِي الدُّنْيَا عُلُومٌ أبثُهَا ... وأنْشُرُهَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دُعَاءٌ إِلَى القُرْآنِ والسُنَّةِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرَهَا فِي الْمَحَاضِرِ
وقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالْجَرَائِدِ تَارَّةً ... وَتِلْفَازِهِمْ رَأْسُ الشُّرُورِ الْمَنَاكِرِ
وَمِذْيَاعِهِمْ أَيْضًا فَلا تَنْسَ شَرَّهُ ... فَكَمْ ضَاعَ مِنْ وَقْتٍ بِهَا بِالْخَسَائِرِ(5/655)
فَصْلٌ: وإليك طرفًا مِمَّا حدث بأسباب النظر إلى النساء مِمَّا أدى بالإِنْسَان إلى ضياع الوَقْت والأمراض وآخرها الموت نسأل الله العافية سقناها لتأخذ حذرك ولا تهمل طرفك فيجنى عَلَيْكَ واسمَعَ إلى قول من تولعوا بنساء عفيفات وكن متيقظًا حذرًا للأتقع في شبكة العشق المودية إلى ضياع الوَقْت من النظر إلى النساء الأجنبيات منك خشية أن تقع فيما وقع به بَعْضهمْ.
قال بعض من ابتلى بذك فمرض وأشرف على الموت نسأل الله العافية:
(1) مَاذَا عَلَيْكَ إِذْ خُبِّرْتَ بِي دَنَفًا ... رَهْنَ الْمَنِيَّةِ يَوْمًا أَنْ تَعُودِينِي
وَتَجْعَلِي نُطْفَةً فِي الْقُعْبِ بَارِدَةً ... فَتَغْمِسِي فَاكِ فِيهَا ثُمَّ تَسْقِينِي
آخر: ... (2) قَالُوا تَصَبَّرَ فَمَا هَذا الْجُنُونُ بِهَا ... فَقُلْتُ يَا قَوْمُ لَيْسَ الْقَلْبُ مِنْ قِبَلِي
آخر: ... قُلْ لِلْبَخِيلَةِ بِالسَّلامِ تَوَرُّعًا ... كَيْفَ اسْتَبَحْتَ دَمًا وَلَمْ تَتَوَرَّعِي
هَلْ تَسْمَحِينَ بِبَذْلِ أَيْسَرَ نَائِلٍ ... أَنْ أَشْتَكِي بَثِّي إليْكِ وَتَسْمَعِي
آخر: ... (3) أَجِدِ الْمَلامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةٍ ... حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمِّنِي اللَّوَمُ
(4) آخر:
فَيَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتِي ... شَمِمْتُ الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَكِ وَالْفَمِ
وَلَيْتَ غَسِيلِي كَانَ رِيقُكِ كُلِّهِ ... وَلَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِكِ وَالدَّمِ
آخر:
(5) وَقَائِلَةٍ مَاذَا الشُّحُوبُ وَذِي الضَّنَى ... فَقُلْتُ لَهَا قَوْلَ الْمَشُوق الْمُتَيَّمِ
أَتَانَا هَوَاكِ وَهُوَ ضَيْفٌ أُعِزُّهُ ... فَأَطْعَمْتُهُ لَحْمِي وَأَسْقَيْتُهُ دَمِي
آخر:
(6) لَئِنْ سَأنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمَسَاءَةٍ ... لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ(5/656)
(7) آخر: يَصِفُ حَالَه مَعَ مَعْشوقَيِه التي تَولّعَ بها:
كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يُهِينُهَا ... تَذُوقُ مَرَارَ الْمَوْتِ وَالطِّفْلُ يَلْعَبُ
فَلا الطِّفْلُ ذُو عَقْلٍ يَرِقُّ لِحَالِهَا ... وَلا الطَّيْرُ مَتْرُوكَ الْجَنَاحَيْن يَذْهَبُ
(8) آخر:
إِذَا مَا التَقَيْنَا وَالْوُشَاةُ بِمَجْلِسٍ ... فَلَيْسَ لَنَا رُسْلٌ سِوَى الطَّرْفِ بِالطَّرْفِ
وَإِنْ غَفَلَ الْوَاشُونَ فُزْتُ بِنَظْرَةٍ ... وَإِنْ نَظَرُوا نَحْوِي نَظَرْتُ إِلَى السَّقْفِ
(9) آخر:
أَفْدِي بِرُوحِي مَنْ شَبَّهْتُ طَلْعَتَهَا ... بِطَلْعَتِ الشَّمْسِ فَاغْتَاضَتْ لَتَشْبِيهِي
قَالَتْ أَللشَّمْسِ طَرْفٌ مِثْلُ طَرْفِي ذَا ... إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ مَعْنَى مِنَ مَعَانِيهِ
أَوْ هَلْ بِهَا مِثْلُ خَدِّي فِي تَوَرُّدِهِ ... أَوْ هَلْ بِهَا مِثْلُ قَدّ فِي تَثَنِّيهِ
فَقُلْتُ دُونَكِ فَاقْنَصِي بِلا حَرَجٍ ... هَذَا لِسَانِي الَّذِي أَخْطَأَ فَعُضِّيهِ
(10) آخر: مبالغ في الكذب
قَدْ كَانَ لِي قَبْلَ الْهَوَى خَاتَمٌ ... وَاليوم لَوْ شِئْتُ تَمَنْطَقْتُ بِهْ
فَنِيتُ حَتَّى صِرْتُ لَوْ زُجَّ بِي ... فِي مُقْلِةِ الْوَسْنَانِ لَمْ يَنْتَبَهْ
(11) آخر:
وَهَيْفَاءُ لا أُصْغِي إِلَى مَنْ يَلُومُنِي ... عَلَيْهَا وَيُغْرِينِي بِهَا أَنْ أَعِيبَهَا
أَمِيلُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيَّ إِذَا بَدَتْ ... إليها وَبِالأُخْرَى أُرَاعِي رَقِيبَهَا
وَقَدْ غَفَلَ الْوَاشِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي ... أَخَذْتُ لِعَيْنِي مَنْ سُلَيْمَى نَصِيبَهَا
(12) آخر:
ثِقي بِالَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْكِ فَإِنَّهُ ... عَظِيمٌ لَقَدْ حَصَّنْتُ سِرِّكِ فِي سِرِّي
(13) آخر:
أُعَانِقُهَا وَالنَّفْسُ بَعْدُ مُشَوَّقَةً ... إليها وَهَلْ بَعْدَ الْعِنَاقِ تَدَانِي
وَأَلْثِمُ فَاهَا كَيْ تَزُولَ حَرَارَتِي ... فَيَشْتَدُّ مَا أَلْقَى مِنَ الْهَيَمَانِي(5/657)
(14) آخر:
وَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَالدُّمُوع سَوَاجِمٌ ... خَرَسْتُ وَطَرْفِي بِالْهَوَى يَتَكَلَّمُ
حَوَاجِبُنَا تَقْضِي الْحَوَائِجِ بَيْنَنَا ... وَنَحْنُ سُكُوتٌ والْهَوى يَتَكَلَّمُ
(15) آخر:
تَسَاهَمَ ثَوْبَاهَا فَفِي الدِّرْعِ رَأدَةٌ ... وَفِي الْمِرْطِ لَفَّاوَانِ رِدْ فُهُمَا عَبْلُ
فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أزِيدَت مَلاحَةً ... وَحُسْنًا عَلَى النِّسْوَانِ أَمْ لَيْسَ لِي عَقْلُ
آخر:
لَئِنْ طَلَبُوا مِنِّي لِدَعْوَايَ شَاهَدًا ... فَإِنَّ شُهُودِي أَرْبَعٌ ثُمَّ أَرْبَعُ
نَحُولٌ وَذُلٌّ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ ... وَوَجْدٌ وَأَشْجَانٌ وَصَدٌّ وَأَدْمُعُ
آخر:
أَمَا وَجَلالِ اللهِ لَوْ تَذْكُرِينَنِي ... كَذِكْرِيكِ مَا كَفَكَفْتِ لِلْعَيْنِ مَدْمَعَا
فَقَالَتْ بَلَى وَاللهِ ذِكْرًا لَوْ أَنَّهُ ... يُصَبُّ عَلَى صُمِّ الصَّفَا لِتَصَدَّعَا
آخر:
سَلِبْتِ عِظَامِي كُلَّهَا فَتَرَكْتَهَا ... مُجَرَّدَةً تُضْحِي لَدَيْكَ وَتَحْضُرُ
وَأَخْلَيْتَهَا مِنْ مُخِّهَا فَكَأَنَّهَا ... أَنَابِيبُ فِي أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تَصْفُرُ
إِذَا سَمِعِتْ بِاسْمِ الْحَبِيبِ تَقَعْقَعَتْ ... مَفَاصِلُهَا مِنْ خَوْفِ مَا هِيَ تَنْظُرُ
خُذِي بِيَدِي ثُمَّ ارْفَعِ الثَّوْبِ تَنْظُرِي ... ضَنَى جَسَدِي لَكِنَّنِي أَتَسَتَّرُ
وَلَيْسَ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْعَيْنِ مَاؤُهَا ... وَلَكِنَّهَا رُوحِي تَذُوبُ فَتَقْطُرُ
آخر:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكَ رَوْعَةٌ ... لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبِيبُ
فَمَا هُوَ إِلا أَنْ أَرَاهَا فَجَاءَةً ... فَأُبْهَتُ حَتَّى لا أَكَادُ أُجِيبُ
آخر:
هَلِ الْحُبِّ إِلا زَفْرَةُ بَعْدَ زَفْرَةٍ ... وَحَرٌّ عَلَى الأَجْسَادِ لَيْسَ لَهُ بَرْدُ
وَفَيْضُ دُمُوعِ تَسْتَهِلُّ إِذَا بَدَا ... لَنَا عَلَمٌ مِنْ أَرْضِكُمْ لَمْ يَكُنْ يَبْدُو(5/658)
آخر:
وَلَمَّا وَقَفْنَا وَالرَّسَائِلُ بَيْنَنَا ... دُمُوعٌ نَهَاهَا الْوُجْدُ أَنْ تَتَوَقَّفَا
ذَكَرْنَا اللَّيَإلى فِي الْعَقِيقِ وَظِلَّهَا الْـ ... نِيقِ فَقَطَّعْنَ الْقُلُوبَ تَأَسُّفَا
آخر:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِ لِذِكْرَاكَ هَزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
آخر:
وَأَخْرَجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ فِي السِّرِّ خَاليا
آخر:
لَيْتَنِي إِذْ رَأَيْتَهَا كُلِّي عُيُون ... فَبِعَيْنَيْنِ فَلَسْتُ مِنْهَا أَشْبَعُ
آخر:
لِي فِي مَحَبَّتِهَا شُهُودُ أَرْبَعٌ ... وَشُهُودُ كُلِّ قَضِيَّةٍ إثْنَانِ
خَفَقَانُ قَلْبِي وَاضْطِرَابُ جَوَانِحِي ... وَنُحُولُ جِسْمِي وَانْعِقَادُ لِسَانِي
آخر:
حَمِِدْتُ إِلَهِي إِذْ بَلانِي بِحُبِّهَا ... عَلَى حَول أغْنَى عَنِ النَّظَرِ الشَّزَرِ
نَظَرْتُ إليها وَالرَّقِيبُ يَظُنُّنِي ... نَظَرْتُ إليه فَاسْتَرَحْتُ مِنَ الْعُذْرِ
أَتَبْكِي عَلَى لبْنَى وَأَنْتَ تَرَكْتها ... فَكُنْتَ كَآتٍ حَتْفِهِ وَهُوَ طَائِعُ
فَيَا قَلْبُ خَبِرْنِي إِذَا شَطَّتِ النَّوَى ... بِلُبْنَى وَبَانَتْ عَنْكَ مَا أَنْتَ صَانِعُ
وإليك من قصيدة طويلة قيل: إنه إدعاها شعراء كثيرون نقتصر على سياق بعضها خوف الملل لأنها حول المائة منها:
... خُذُوا بِدَمِّي ذَاتَ الْوِشَاحِ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ بِعَيْن فِي أَنَامِلِهَا دَمِي
وَلا تَقْتُلُوهَا إِنْ ظَفِرْتُمْ بِقَتْلِهَا ... وَلَكِنْ سَلُوهَا كَيْفَ حَلَّ لَهَا دَمِي
وَقُولُوا لَهَا يَا مَنِيَّةَ النَّفْسِ إِنَّنِي ... قَتِيلُ الْهَوَى وَالْعِشْقِ لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِي
آخر:
لَوْ كَانَ لِي صَبْرُهَا أَوْ عِنْدَهَا جَزَعِي ... لَكُنْتُ أَمْلِكُ مَا آتِي وَمَا أَدَعُ
إِذَا دَعَا بِاسْمِهَا دَاعٍ لِيُحْزِنَنِي ... كَادَتْ لَهُ شُعْبَةٌ مِنْ مُهْجَتِي تَقَعُ
آخر:
لَمْ يَبْقَ لِي بَعْدَكُمْ رَسْمٌ وَلا طَلَلُ ... إِلا وَلِلشَّوْقِ فِي حَافَاتِهِ عَمَلُ(5/659)
إِذَا شَمَمْتُ نَسِيمًا مِنْ بِلادِكُمْ ... فَقَدْتُ عَقْلِي كَأَنِّي شَارِبٌ ثِمَلُ
آخر: ... أَدِيرِ لِحَاظَ الْقَلْبِ فِيَّ لِتَنْظُرِي ... إِلَى مُفْلِسٍ مِنْ صَبْرِهِ عَنْكَ مُعْدِمِ
وَلا تُرْسِلِي هَذِي اللَّوَاحَظَ كُلَّهَا ... فَوَاحِدَةٌ تَكْفِيكِ قَتْلَ الْمُتَيَّمِ
آخر:
أَقُولُ لِعَيْنِي حِينَ جَادَتْ بِدَمْعِهَا ... وَإِنْسَانُهَا فِي لُجَّةِ الدَّمْعِ يَغْرَقُ
خُذِي بِنَصِيبٍ مِنْ مَحَاسِنِ وَجْهَهَا ... ذَرِي الدَّمْعَ لِلْيَوْمِ الَّذِي نَتَفَرَّقُ
آخر:
أَقُولُ لَهَا رُدِّي الْحَدِيثَ الَّذِي انْقَضَى ... وَذِكْرَاكِ مِنْ ذَاكَ الْحَدِيثِ أُرِيدُ
يُجَدِّدُ تَذْكَارُ الْحَدِيثِ مَوَدَّتِي ... فَذِكْرُكِ عِنْدِي وَالْحَدِيثُ جَدِيدُ
أُنَاشِدُهَا إِلا تُعِيدُ حَدِيثَهَا ... كَأَنِّي بَطِيءُ الْفِهْمِ حِينَ تَعِيدُ
آخر:
أَفْدِي بِرُوحِي مَنْ شَبَّهْتُ طَلْعَتَهَا ... بِطَلْعَتِ الشَّمْسِ فَاغْتَاضَتْ لَتَشْبِيهِي
قَالَتْ أَللشَّمْسِ طَرْفٌ مِثْلُ طَرْفِي ذَا ... إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ مَعْنَى مِنَ مَعَانِيهِ
أَوْ هَلْ بِهَا مِثْلُ خَدِّي فِي تَوَرُّدِهِ ... أَوْ هَلْ لهََََا مِثْلُ قَدّ فِي تَثَنِّيهِ
آخر: ... يَعُدُّ عَلَيَّ الْوَاشِيَانِ ذُنُوبَهَا ... وَمِنْ أَيْنَ لِلْوَجْهِ الْمَلِيحِ ذُنُوبُ
آخر:
وَإِيَّاكَ ذِكْرَ الْعَامِرِيَّةِ إِنَّنِي ... أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ فَمِ الْمُتَكَلِّمِ
أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا ... وَمِنْ مَضَغِةِ الْمِسْوَاكِ إِذَا مُصَّ فِي الْفَمِ
أَغَارُ عَلَى أَعْطَافِهَا مِنْ ثِيَابِهَا ... إِذَا وَضَعَتْهَا فَوْقَ جِسْمٍ مُنَعَّمِ
وَأَحْسُدُ كَاسَاتٍ يُقَبِّلْنَ تَغْرَهَا ... إِذَا وَضَعَتْهَا مَوْضِعَ اللَّثْمِ فِي الْفَمِ
عِرَاقِيَّةُ الأَطْرَافِ مَكِّيَّةُ الْحَشَا ... حِجَازِيَّةُ الْعَيْنَيْنِ طَائِيَةُ الْفَمِ
ومنها:
لَهَا حُكْمُ لُقْمَانٍ وَصُورَةُ يُوسُفٍ ... وَنَغَمَةُ دَاوُودٍ وَعِفَّةُ مَرْيَمِ
وَلِي ضُرُّ أَيُّوبٍ وَوَحْشَةُ يُونُسٍ ... وَأَحْزَانُ يَعْقُوبٍ وَحَسْرَة آدَمِ(5/660)
آخر:
وَاللهِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا غَرَبَتْ ... إِلا وَأَنْتِ مُنَى قَلْبِي وَوَسْوَاسِي
وَلا جَلَسْتُ إِلَى قَوْمِ أُحَدِّثُهُمْ ... إِلا وَأَنْتِ حَدِيثِي بَيْنَ جُلاسِي
وَلا هَمَمْتُ بِشُرْبِ الْمَاءِ مِنْ عَطَشٍ ... إِلا رَأَيْتَ خَيَالاً مِنْكِ فِي الْكَأْسِ
آخر: ... رُوحِي إليكِ بِكُلِّهَا قَدْ أَجْمَعَتْ ... لَوْ كَانَ فِيكِ هَلاكُهَا مَا أَقْلَعَتْ
تَبْكِي عَلَيْكَ بكُلِهَا عَنْ كُلَّهَا ... حَتَّى يُقَالُ مِنَ الْبُكَاءِ تَقَطَّعَتْ
آخر: ... وَلِي عَبَرَاتٌ تَسْتَهِلُّ صَبَابَةٌ ... عَلَيْكَ إِذَا بَرْقُ الْغَمَامَ تَأَلَّقَا
أَلِفْتُ الْهَوَى حَتَّى حَلَتْ لِي صُرُوفُهُ ... وَرُبَّ نَعِيمٍ كَانَ جَالِبُهُ شَقَا
وَأَذْهَلُ حَتَّى أَحْسِبُ الصَّدَّ وَالنَّوَى ... بِمُعْتَرَكِ الذِّكْرَى وِصَالاً وَمُلْتَقَى
فَهَا أَنَا ذُو حَإلينِ أَمَّا تَلَذُّذِي ... فَحَيُّ وَأَمَا سَلْوَتِي فَلَكِ الْبَقَا
آخر:
مَا كَانَ ضَرَّكَ يَا شَقِيقَةَ مُهْجَتِي ... لَوْ أَنْ بَعَثْت تَحِيَّةً تُحْيِينِي
... زكي جَمَالاً أَنْتَ عَنْهُ غَنِيَّةٌ ... وَتَصَدَّقِي مِنْهُ عَلَى الْمِسْكِينِ
آخر: ... وَرَأَيْتُهَا فِي الطَّرْسِ تَكْتُبُ مَرَّةً ... غَلَطًا وَتَمْحُو خَطَّهَا بِرَضَا بِهَا
فَوَدِدْتُ لَوْ أَنِّي أَكُونُ صَحِيفَةً ... وَوَدِدْتُ أَنْ لا تَهْتَدِي لِصَوَابِهَا
آخر: ... أَمْسِي وَأُصْبِحُ مِنْ تَذْكَارِكمْ قَلِقًا ... يَرْثِي لِي الْمُشْفِقَانِ الأَهْلِ وَالْوَلَدُ
قَدْ خَدَّدَ الدَّمْعُ خَدِّي مِنْ تَذَكُّرِكُمْ ... وَاعْتَادَنِي الْمُضْنِيَانِ الشَّوْقُ وَالْكَمَدُ
وَغَابَ عَنْ مُقْلَتِي نَوْمِي فَنَافَرَهَا ... وَخَانَنِي الْمُسْعِدَانِ الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ
لا غُرْوَ لِلدَّمْعِ أَنْ تَجْرِي غَوَارِبُهُ ... وَتَحْتَهُ الْخَافِقَانِ الْقَلْبُ وَالْكَبِدُ
كَأَنَّمَا مُهْجَتِي نِضْؤُ بِبَلْقَعَةٍ ... يَعْتَادَهُ الضَّارِيَانِ الذِّئْبُ وَالأَسَدُ
لَمْ يَبْقَ إِلا خَفِيُّ الرُّوحِ فِي جَسَدِي ... فِدَاؤُكِ الْبَاقِيَانِ الرُّوحُ وَالْجَسَدُ
آخر: ... رُدُّوا الْمَطِيَّ وَإِلا رَدَّهَا نَفَسِي ... وَأَدْمُعِي فَهُمَا سَيْلٌ وَنِيرَانُ(5/661)
يَا سَائِقَ الظَّعْنِ قَلْبِي فِي رِحَالِكُمُوا ... أَمَانَةٌ رَعْيُهَا وَالْحِفْظُ إِيمَانُ
آخر: ... وَكَانَ فُوَآدِي خَإليا قَبْلَ حُبِّكُمْ ... وَكَانَ بِذِكْرِ الْخَلْقِ يَلْهُو وَيَمْرَحُ
فَلَمَّا دَعَى قَلْبِي هَوَاكَ أَجَابَهُ ... فَلَيْسَ آرَاهُ عَنْ فِنَائِكِ يَبْرَحُ
رُمِيتُ بِبُعُدٍ مِنْكَ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا ... وَإِنْ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِكَ أَفْرَحُ
فَإِنْ شِئْتَ وَاصَلْتِي وَإِنْ شِئْتِ فَاقْطَعِي ... فَلَسْتَ أَرَى قَلْبِي لِغَيْرِكِ يَصْلَحُ
آخر: ... وَإِنِّي إِذَا اصْطَكَتْ رِقَابُ مَطِيِّكُمْ ... وَثِوَّرِ حَادٍ بِالرِّفَاقِ عَجُولُ
أُخَالِفُ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْحَشَا ... وَأنْظُرُ أَنِّي مِلْتُمُ فَأَمِيلُ
آخر: ... وَفِي حُبِّ ذَاتِ الْحَالَ لامَتْ عِصَابَةٌ ... يَظُنُّونَ أَنِّي لَسْتُ بِالرُّوحِ أَسْمَحُ
يَقِيسُونَ حَإلى فِي الْغَرَامِ بِحَالِهِمْ ... وَكُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ
آخر: ... وَعِزَّةِ اللهِ مَا لِي عَنْكُم عَوَضٌ ... وَلَيْسَ لِي بِسِوَاكُمْ بَعْدَكُمْ غَرَضُ
وَمِنْ حَدِيثِي بِكُمْ قَالُوا بِهِ مَرَضٌ ... فَقُلْتُ لا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ الْمَرضُ
آخر: ... فَفِي بُعْدِهَا عَنِّي وَفَاتِي وَقُرْبِهَا ... حَيَاتِي وَإِسْعَادِي وَنَيْلُ مَرَامِي
... وَمِنْ وَجْنَتَيْهَا نَارٌ وُجْدِي وَخِصْرُهَا ... نُحُولِي وَمِنْ سُقْمِ الْجُفُونِ سِقَامِي
فَكُنْ عَاذِرِي يَا عَاذِلِي فَدَلالُهَا ... دَلِيل عَلَى وِجْدِي بِهَا وَغَرَامِي
آخر: ... تَجُولُ خَلاخِيلُ النِّسَاءُ وَلا أَرَى ... لِرَمْلَةَ خِلْخَالاً يَجُولُ وَلا قُلْبَا
أُحِبُّ بَنِي الْعَوَامِ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا ... وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبَا
آخر: ... نَالَتْ عَلَى يَدِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ يَدِي ... نَقْشًا عَلَى مِعْصَمٍ أَوْهَتْ بِهِ جَلَدِي
كَأَنَّهُ طُرْقُ نَمْل فِي أَنَامِلِهَا ... أَوْ رَوْضَةٌ رَصَّعَتْهَا السُّحْبُ بِالْبَرْدِ
سَأَلْتُهَا قَالَتْ لا تَكُنْ عَبِثًا ... مَنْ رَامَ مِنَّا وِصَالاً مَاتَ بِالْكَمَدِ(5/662)
إلى أن قال:
وَاسْتَرْجَعَتْ سَأَلَتْ عَنِّي فَقِيلَ لَهَا ... مَا فِيهِ مِنْ رَمَقٍ دَقَّتْ يَدًا بِيَدِي
آخر: ... يَا مُنْيَةَ الْقَلْبِ مَاجِيدِ بِمُنْعَطِفٍ ... إِلَى سِوَاكَ وَلا حَبْلِي بِمُنْقَادِ
لَوْلا الْمَحَبَّةُ مَا أَكْثَرْتُ ذِكْرَكُمُ ... وَلا سَأَلْتُ حَمَامَ الرُّوحِ إِسْعَادِي
وَلا وَقَفْتُ عَلَى الْوَادِي أُسَائِلُهُ ... بِالدَّمْعِ حَتَّى رَثَى سَاكِنُ الْوَادِي
آخر: ... مَا أَقْتلَ الْحُبِّ وَالإِنْسَانُ يَجْهَلُهُ ... وَكُلُّ مَا لَمْ يَذُقْهُ فَهُوَ مَجهُولُ
رَاحَ الرُّمَاةُ إِلَى بَعْضِ الْمَهَا فَإِذَا ... بَعْضُ الرُّمَاةِ بِبَعْضِ الصَّيْدِ مَقْتُولُ
آخر: ... إِذَا وَصِلْتُمْ إِلَى وَادِي الْمُحِبِّ سَلُو ... عَنْ حَالِ مُنْقَطِعِ أَوْدَى بِهِ السَّهَرُ
وَفَتِّشُوا عَنْ فُؤَادٍ هَائِمٍ قَلِقٍ ... قَدْ ضَاعَ مِنِّي فَلا عَيْنٌ وَلا أَثَرُ
آخر: وَدَّعْتَ قَلْبِي حِينَ وَدَّعْتُهُمْ
آخر: ... عَشَقْتُكِ طِفْلاً وَاتَّخَذْتُكِ سَيِّدًا ... فَجَرَّعْتِنِي بِالصَّدِّ فَاتِحَةَ الرَّعْدِ
فَبِاللهِ دَاوِينِي كَمَا قَدْ جَرَحْتِنِي ... بِفَاتِحَةِ الأَعرَافِ مِنْ رِيقِكِ الشَّهْدِ
يريد بفاتحة الرعد رسم السورة لأن رسمها (المر) وبفاتحة الأعراف لأن رسمها (المص) يريد مص لسان المعشوقة لتزول حرارة الشوق والوَجَدَ والحرمان.
آخر: ... وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوَى وَصَبَابَةٍ ... عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَدخل النَّارَ كَافِرُ(5/663)
إشارة إلى قول الله جَلَّ وَعَلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} .
آخر: ... حَمَلْتُ جِبَالَ الْحُبِّ فِيكِ وَإِنَّنِي ... لأَعْجَزُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ
وَمَا الْحُبُّ مِنْ حُسْنٍ وَلا مِنْ سَمَاحَةٍ ... وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ بِهِ الرُّوحُ تَكْلَفُ(5/664)
آخر: ... لَوْ عَايَنَتْ عَيْنَاك حسْنُ مُسَقِمَتِي ... مَا لَمَّتْنِي وَلَكُنُتْ أَوَّلُ مَنْ عَذَرْ
عَيْنُ الرَّشَاقَدُّ النَّقَارِدْفُ النَّقَا ... شَعْرُ الدُّجَى شَمْسُ الضُّحَى وَجْهُ الْقَمَرْ
آخر: ... أَقُولُ وَقَدْ جَدَّ الْغَرَامُ بِمُهْجَتِي ... وَفَاضَتْ جُفُونِي بَعْدَ أَدْمُعِهَا دَمَا
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى مِنَ النَّاسِ مَيْتًا ... عَلَى صُورَةِ الأَحْيَاءِ فاَلْقَى مُتَيَّمَا
آخر: ... وَأَنْتَ الَّذِي مَا مِنْ صَدِيقٍ وَلا أَخٍ ... يَرَى نِضْوَمَا أَبْقَيْتِ إِلا أَوَى لِيَا
أُحِبُّ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا وَافَقَ اسْمَهَا ... وَأَشْبَهَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ مُدَانِيَا
وَإِنِّي لا أَسْتَنْعِسْ وَمَا بِي نِعْسَةٌ ... لَعَلَّ خَيَالاً مِنْكِ يَلْقَى خَيَاليا
هِيَ السِّحْرُ إِلا أَنَّ لِلسِّحْرِ رُقْيَة ... وَإِنِّي لا أَلْقَى لِسِحْرِي رَاقِيَا
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا ... كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ هَادِيَا
إلى أن قال:
عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَإِنْ كَانَ مِن لَيْلَى عَلَى الْهَجْرِ طَاوِيَا
آخر: ... أَعِدُّ اللَّيَالي لَيْلَةٍ بَعْدَ لَيْلَةٍ ... وَقَدْ عِشْتُ دَهْرًا لا أَعُدُّ اللَّيَاليا
وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ بِاللَّيْلِ خَاليا
آخر: ... وَلَمَّا دَنَى مِنِّي السِّيَاقُ تَعَطَّفَتْ ... عَليَّ وَعِنْدِي عَنْ تَعَطُّفِهَا شُغْلُ
أَتَتْ وَحِيَاضُ الْمَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنِهَا ... وَجَادَتْ بِوَصْل حِينَ لا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
وَاسْمَعْ إلى قول أحد العشاق المبالغين في الكذب واسأل ربك العافية.
كُلُّ الْعَذَابِ الَّذِي فِي النَّاس مُسْتَرَقٌ ... مِمَّا بِقَلْبِي مِنْ شَوْقٍ وَتَذْكَارِ
لَوْلا مَدَامِعُ عُشَّاقٍ وَلَوْعَتُهُمْ ... لَبَانَ فِي النَّاسِ عِزُّ الْمَاءِ وَالنَّارِ(5/664)
.. فَكُلُّ نَار فَمَنْ أَنْفَاسِهِمْ قَدَحَتْ ... وَكُلُّ مَاء فَمِنْ دَمْعِ لَهُمْ جَارِي
آخر: ... سَأَلْتُهَا عَنْ فُوَآدِي أَيْنَ مَوْضِعُهُ ... فَإِنَّهُ ضَلَّ عَنِّي عِنْدَ مَسْرَاهَا
قَالَتْ لَدَيْنَا قُلُوبٌ جَمَّةٌ جُمِعَتْ ... فَأَيُّهَا أَنْتَ تَعْنِي قُلْتُ أَشْقَاهَا(5/665)
آخر: ... وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يَحْرِسُوكِ بِخَادِمٍ ... وَخُدَّامُ هَذَا الْحُسْنِ مِنْ ذَاكَ أَكْثَرُ
عِذَارُكِ رَيْحَانٌ وَثَغْرُكِ جَوْهَرٌ ... وَخَدُّكِ يَاقُوتٌ وَخَالُكِ عَنْبَرُ
آخر: ... بَدا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ حِينَ جَمَّرتْ ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيَا ... بِسَبْعِ رَمَيْن الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
آخر: ... وَكُنْتُ كَذَبَّاحِ الْعَصَافِيرِ دَائِبًا ... وَعَيْنَاهُ مِنْ وَجْدِ عَلَيْهِنَّ تُهْمِلُ
فَلا تَنْظُرِي لَيْلَى إِلَى الْعَيْنِ وَانْظُرِي ... إِلَى الْكَفِّ مَاذَا بِالْعَصَافِيرِ تَفْعَلُ
آخر: ... فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ ... وَخَلَّيْتُ قَلْبًا فِي هَوَاكِ يُعَذَّبُ
وَلَكِنَّمَا أَحْيَا بِقَلْبٍ مُرَوَّعِ ... فَلا الْعَيْشُ يَصْفُو لِي وَلا الْمَوْتُ يَقْرُبُ
تَعَلَّمْتُ أَلْوَانَ الرِّضَا خَوْفَ سُخْطِهَا ... وَعَلَّمَهَا حُبِّي لَهَا كَيْفَ تَغْضَبُ
آخر: ... جَرَى السَّيْلُ فَاسْتَبْكَانِي السَّيْلُ إِذْ جَرَى ... وَفَاضَتْ لَهُ مِنْ مُقْلَّتِي غُرُوبُ
وَمَا ذَاكَ إِلا أَنْ تَيَقَنْتُ أَنَّنِي ... أَمُرُّ بِوَادِ أَنْتَ مِنْهُ قَرِيبُ
آخر: ... أُسِرُّ الَّذِي بِي وَالدُّمُوعُ تَبُوحُ ... وَجِسْمِي سَقِيمٌ وَالْفُؤَادُ قَرِيحُ
وَبَيْنَ ظُلُوعِي لَوْعَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا ... أَذُوبُ إِشْتِيَاقًا وَالْفُؤَادُ صَحِيحُ
آخر: ... عَلَقْتُ الْهَوَى مِنْهَا وَلِيدًا فَلَمْ يَزَلْ ... إِلَى اليوم يَنْمِي حُبُّهَا وَيَزِيدُ
إِذَا قُلْتُ مَا بِي يَا بُثَيْنَةُ قَاتِلِي ... مِن الْحُبِّ قَالَتْ ثَابِتٌ وَيَزِيدُ
وَإِنْ قُلْتُ رُدِّي بَعْضَ عَقْلِي أَعِشْ بِهِ ... مَعَ النَّاسِ قَالَتْ ذَاكَ مِنْكَ بَعِيدُ
آخر: ... وَإِنِّي لَمُشْتَاقٌ إِلَى رِيحِ جَيْبِهَا ... وَحَلَّتْ مَكَانًا لَمْ يَكُنْ حُلَّ مِنْ قَبْلُ(5/665)
آخر: ... مَحَا حُبُّهَا حُبَّ الأُولى كُنَّ قَبْلَهَا ... وحَلَّتْ مَكَانًا لم يَكُنْ حُلَّ مِنْ قَبْلُ
آخر: ... لَيْلَى وَلَيْلِي نَفَى نَوْمِي اخْتِلافَهُمَا ... فِي الطَّوْلِ وَالطَّوْلِ طُوبَى لِي لَوْ اعْتَدَلا
... يَجُودُ بِالطُّولِ لَيلِي كُلَّمَا بَخِلَتْ ... بِالطَّوْلِ لَيْلَى وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلا
بِرَغْمِي أُطِيلُ الصَّدَّ عَنْهَا إِذَا نَأَتْ ... أُحَاذِرُ أَسْمَاعًا عَلَيْهَا وَأَعْيُنَا
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَإليا فَتَمَكَّنَا
نَهَارِي نَهَارُ النَّاسِ حَتَّى إِذا بَدَا ... لِيَ اللَّيْلُ هَزَّتْنِي إليكِ الْمَضَاجِعُ
أَقَضِي نَهَارِي بِالْحَدِيثِ وَبِالْمُنَى ... وَيَجْمَعُنِي وَالْهَمَّ بِاللَّيْلِ جَامِعُ
آخر: ... وَلَمَّا شَكَوْتُ الْحُبَّ قَالَتْ كَذَبتني ... فَمَا لِي أَرَى الأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا
فَلا حُبَّ حَتَّى يَلْصَقُ الْجِلْدُ بِالْحَشَا ... وَتَذْهل حَتَّى مَا تُجِيبَ الْمُنَادِيَا
آخر: ... وَمِمَّا دَهَانِي أَنَّهَا يَوْمَ أَعْرَضَتْ ... تَوَلَّتْ وَمَاءَ الْعَيْنِ فِي الْجِفْنِ حَائِرُ
فَلَمَّا أَعَادِتْ مِنْ بَعِيدٍ بِنَظْرَةٍ ... إلى الْتِفَاتًا أَسْبَلَتْهُ الْمَحَاجِرُ
آخر: ... وَلَكِنَّمَا أَفْشَاهُ دَمْعِي وَرُبَّمَا ... أَتَى الْمَرْءُ مَا يَخْشَا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي
آخر: ... لا وَالَّذِي جَعَلَ الْغُصُونَ مَعَاطِفًا ... لَهُمُوا وَصَاغَ الأَقْحُوانَ ثُغُورَا
مَا مَرَّ رِيحُ الصِّبَا مِنْ أَرْضِهِمْ ... إِلا شَهِقْتُ لَهُ فَعَادَ سَعِيرَا
آخر: ... رَمَتْنِي وَاسْتَتَرَتْ فِي خِدْرِهَا كَذَ ألْ ... قَنَّاصُ إِنْ رَامَ صَيْد الآبَدِ اسْتَتَرا
فَرُبَّ صَبٍّ تَمَنَّى أَنَّهُ حَجَرٌ ... فِي الْبَيْتِ حِينَ أَكَبَّتْ تَلْثُمُ الْحَجَرا
آخر: ... لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي ضَمِّ النُّهُودِ وَفِي ... لَثْمِ الْخُدُودِ لُبَانَاتٌ وَأَوْطَارُ
هَذَا اخْتِيَارِي فَوَافِقْ إِنْ رَضِيتَ بِهِ ... أَوْ لا فَدَعْنِي وَمَا أَهْوَى وَأَخْتَارُ
لُمْنِي جُزَافًا وَسَامِحْنِي مُصَارَفَةً ... فَالنَّاسُ فِي دَرَجَاتِ الْحُبِّ أَطْوَارُ
آخر: ... بَدَا فَأَرَانِي الظَّبْيَ وَالْغُصْنَ وَالْبَدْرَا ... فَتَبًّا لِقَلْبٍ لا يَبِيتُ بِهِ مُغْرَا(5/666)
بَدِيعُ جَمَالٍ كُلَّمَا فِيهِ مُعْجِزٌ ... مِنَ الْحُسْنِ لَكِنْ وَجْهُهَا الآيَةُ الْكُبْرَى
أَقَامَ بِلالُ الْخَال فِي صَحْنِ خَدِّهَا ... يُرَاقِبُ مِنْ لألاءِ غُرَّتَهَا الْفَجْرَا
آخر: ... يُذَكِّرِنِي عَهْدَ النَّجَاشِي خَالُهَا ... وَأَجْفَانُهَا الْوَسْنَى تُذَكِّرُنِي كِسْرَى
يَمِيلُ بِهَا خَمْرُ الدَّلالِ كَأَنَّمَا ... مَعَاطِفَهَا مِنْ خَمْرِ ألْحَاضِهَا سَكْرَى
آخر: ... وَمَنْ لِي بِجِسْمٍ أَشْتَكِي مِنْهُ بِالْفَنَا ... وَقَلْبٍ فَأَشْكُو مِنْهُ بِالْخَفَقَانِ
وَمَا عِشْتُ حَتَّى الآنَ إِلا لأَنَّنِي ... خَفِيتُ فَلَمْ يَدْرِ الْحِمَامُ مَكَانِي
وَلَوْ أَنَّ عُمْرِي عُمْرُ نُوحٍ وَبِعْتُهُ ... بِسَاعَةِ وَصْلٍ مِنْكَ قُلْتُ كَفَانِي
إِذَا إليأْسُ نَاجَى النَّفْسَ مِنْكَ بِلَنْ وَلا ... أَجَابَتْ ظُنُونِي رُبَّمَا وَعَسَانِي
آخر: ... أَضُمُّ عَلَى الدَّاءِ الدَّفِينِ جَوَانِحِي ... وَأُظْهِرُ مِنْ خَوْفِ الرَّقِيبِ بَشَاشَتِي
وَلَيْسَ تَلافِي مُذْ رُمِيتُ بِهَجْرِهَا ... عَجِيبٌ وَلَكِنَّ الْعَجِيبَ سَلامَتِي
لَهَا قَدُّ عَسَّالٍ وَحُسْنُ مُعَتَّقٍ ... وَلِي قَلْبُ مَحْزُونٍ وَنَظْرَةُ بَاهِتِ
آخر: ... وَلَمَّا التَقَيْنَا وَالنَّوَى وَرَقِيبُنَا ... غَفُلانِ عَنَّا ظِلْتُ أَبْكِي وَتَبْسِمُ
فَلَمْ أَرَ بَدْرًا ضَاحِكًا قَبْلَ وَجْهِهَا ... وَلَمْ تَرَ قَبْلِي مَيِّتًا يَتَكَلَّمُ
ظَلُومٌ كَمَتْنَيْهَا لِصَبٍّ كَخَصْرِهَا ... ضَعِيفِ الْقُوَى مِنْ فِعْلِهَا يَتَظَلَّمُ
بِفَرِعٍ يُعِيدُ اللَّيْلَ وَالصُّبْحُ نَيِّرٌ ... وَوَجْهٍ يُعِيدُ الصُّبْحَ وَاللَّيْلُ مُظْلِمُ
آخر: ... أَثَافٍ بِهَا مَا بِالْفُؤَادِ مِنَ الصَّلَى ... وَرَسْمٌ كَجِسْمِي نَاحِلٌ مُتَهَدِّمُ
قَالُوا عَهِدْنَاكَ مِنْ أَهْلِ الرَّشَادِ فَمَا ... أَغْوَاكَ قُلْتُ اطْلُبُوا مِنْ لَحْظِهَا السَّبَبَا
مَنْ صَاغَهَا اللهُ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ وَقَدْ ... أَجْرَى بَقِيَّتُهَا فِي ثَغْرِهَا شَنَبَا
مَاذَا تَرَى فِي مُحِبٍّ مَا ذُكَرْتِ لَهُ ... إِلا بَكَى أَوْ شَكَا أَوْ حَنَّ أَوْ طَرِبَا
كَمْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَالنَّجْمُ يَشْهَدُ لِي ... رَهِينَ شَوْقٍ إِذَا غَالَبْتُهُ غَلَبَا
آخر: ... فَيَا حُسْنَنَا وَالدَّمْعُ بالدَّمْعِ وَاشُجٌ ... نُمَازِجُهُ وَالْخَدُّ بِالْخَدِّ مُلْصَقُ(5/667)
وَقَدْ ضَمَّنَا وَشْكُ التَّلاقِي وَلَفَّنَا ... عِنَاقٌ عَلَى أَعْنَاقِنَا ثُمَّ ضَيِّقُ
فَلَمْ تَرَ إِلا مُخْبِرًا عَنْ صَبَابَةٍ ... بِشَكْوَى وَإِلا عِبْرَةً تَتَرَقْرَقُ
وَمِنْ قُبَلٍ قَبْلَ التَّلاقِي وَبَعْدَهُ ... تَكَادُ بِهَا مِنْ شِدَّةِ اللَّثْمِ نَشْرقُ
آخر: ... كَيْفَ التَخَلُّصُ وَالْجُفُونُ نَوَاعِسٌ ... وَبِمَا التَّسَلِّي وَالْقُدُودُ رِشَاقُ
وَأُحِبُّ تَلْسَعُنِي عَقَارِبُ صُدْغِهَا ... عِلْمًا بِأَنَّ رُضَا بَهُا تِرْيَاقُ
آخر: ... وَمَهْزُوزَةٍ هَزَّ الْقَضِيبِ إِذَا مَشَتْ ... تَثَنَّتْ عَلَى دَلٍّ وَحُسْنِ قَوَامِي
أَحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَحَرَّمَتْ ... بِلا سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلامِي
فُؤُادِي مَا أَبْقَيْتِ مِنِّي فَإِنَّهُ ... حُشَاشَةُ نَفْسٍ فِي نُحُولِ عِظَامِ
آخر: ... وَلَمْ أَنْسَ ضَمِّي لِلْحَبِيبِ عَلَى رِضَا ... وَرَشْفِي رُضَابًا كَالرَّحِيقِ الْمُسَلْسَلِ
وَلا قَوْلَهَا لِي عِنْدَ تَقْبِيلِ خَدِّهَا ... تَنَقَّلْ فَلَذَّاتُ الْهَوَى فِي التَّنَقُّلِ
آخر: ... دُرِّيَةُ الْقَصْرِ لَوْلا سِمْطُ مَنْطِقِهَا ... وَظَبْيَةُ الْقَفْرِ لَوْلا الْحَلْيُ وَالْعَطَلُ
سِيَّانَ بِيضُ ثَنَايَاهَا إِذَا ضَحَكَتْ ... وَمَبْسَمَ الْبَرْقِ لَوْلا النَّظْمُ وَالرَّتَلُ
فُرْسَانُ طَعْنٍ وَضَرْبٍ غَيْرَ أَنَّهُمْ ... أَمْضَى سِلاحِهِمْ الْقَامَاتَ وَالْمُقَلُ
شَوْسٌ عَلَى الشُّوسِ بِالْبَيْضِ الرِّقَاقِ سَطَوْا ... وَبِالْجُفُونِ عَلَى أَهْلِ الْهَوَى حَمَلُوا
آخر: ... لَهَا خَالٌ عَلَى صَفَحَاتِ خَدٍّ ... كَنَقْطَةِ عَنْبَرٍ فِي صِحْنِ مَرْمَرْ
وَأَجْفَانٍ بِأَسْيَافٍ تُنَادِي ... عَلَى عَاصِي الْهَوَى اللهُ أَكْبَرْ
آخر: ... تَصَبَّرْتَ عَنْهُمْ وَانْثَنَيْتُ إليهم ... وَلَمْ يَبْقَ فِي قوْس التَّصَبّرُ مَنْزَعُ
فَلا حَاجِزٌ بَيْنَ الأَحِبَّةِ حَاجِزٌ ... وَلا لَعْلَعٌ مُذْ فَارَقَ الْحَيُّ لَعْلَع(5/668)
لَهَا مِنْ مَهَاةِ الرَّمْلِ عَيْنٌ مَرِيضَةٌ ... وَجِيدٌ كَجِيدِ الظَّبِي أَغِيدُ أَتْلَعُ
وَلا عَجَبٌ فَالبُخْل فِي الْغِيدِ وَالدُّمَى ... طَبِيعَةُ نَفْسٍ لَيْسَ فِيهَا تَصَنُّعُ
آخر: ... تَمِيسَ إِذَا عَايَنْتُ غُصْنَ قَوَامِهَا ... وَتَكْسِرُ كَسْرَاتِ الْجُفُونِ تَحَرُّشَا
وَلِي دَهْشَةُ السَّاهِي إليها إِذَا بَدَتْ ... وَلَمْ تُبْدِ ذَاكَ الْخَدَّ إِلا لِتُدْهِشَا
سَرَتْ فَوْقَ خَدَّيْهَا مِيَاهُ جَمَالِهَا ... فَمُدَّ مِن الأَصْدَاغ كَرْمًا مُعَرَّشَا
وَشَى النَّاسُ أَنِّي فِي هَوَاهَا مُتَيَّمٌ ... لَقَدْ صَدَقَ الْوَاشِي النَّمُومُ بِمَا وَشَى
آخر: ... دَعُوا الْوُشَاةَ وَمَا قَالُوا وَمَا نَقَلُوا ... بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَا لَيْسَ يَنْفَصِلُ
لَهَا سَرَائِرُ فِي قَلْبِي مُخَبَّأَةٌ ... لا الْكُتُبُ تَنْفَعُنِي فِيهَا وَلا الرُّسُلُ
آخر: ... هَزُّوا الْقُدُودَ وَأَرْهَفُوا سَمْر الْقَنَا ... وَتَقَدَّمُوا عَوض السُّيُوفِ الأَعْيُنَا
... وَتَقَدَّمُوا لِلْعَاشِقِينَ فَكُلُّهُمْ ... أَخَذَ الأَمَانَ لِنَفْسِهِ إِلا أَنَا
يَا قَلْبَهَا الْقَاسِي وَرِقَّةَ خِصْرِهَا ... هَلا انْتَقَلْتِ مِنْ هُنَاكِ إِلَى هُنَا
لما انْثَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ سُنْدُسٍ ... قَالَتْ غُصُونُ الْبَانِ مَا أَبْقَتْ لَنَا
وَبِخَدِّهَا وَبِشَعْرِهَا وَعِذَارِهَا ... مَعْنَى الْعَقِيقِ وَبَارِقٍ وَالْمُنْحَنَى
آخر: ... مَا كُنْتُ أَعْرَفُ مَا مِقْدَارَ وَصْلُكِ لِي ... حَتَّى هَجَرْتِ وَبَعْضُ الْهَجْرِ تَأْدِيبُ
أَرْضَى وَأَسْخَطُ أَوْ أَرْضَى تَلَوُّنَهَا ... وَكُلُّ مَا يَفْعَلْ الْمَحْبُوبُ مَحْبُوبُ
آخر: ... وَمَنْ كَانَ ذَا صَبْوَةٍ بِالْمِلاحْ ... فَلا يَطْعَمُ النَّوْمَ إِلا قَلِيلْ
بِرِدْفٍ ثَقِيلٍ وَخِصْرٍ نَحِيلْ ... وَخَدٍّ أَسِيلٍ وَطَرْفٍ كَحِيلْ
وَتِلْكَ الْقُدُودِ وَتِلْكَ الْعُيُونْ ... فَكَمْ مِنْ جَرِيحٍ وَكَمْ مِنْ قَتِيلْ(5/669)
آخر: ... وَمَا هَجَرَتْكِ النَّفْسُ أَنَّكِ عِنْدَهَا ... قَلِيلٌ وَإِنْ قَدْ قَلَّ مِنْكِ نَصِيبُهَا
وَلَكِنَّهُمْ يَا أَجْمَلَ النَّاسِ أُولِعُوا ... بِقَوْلٍ إِذَا مَا زُرْتُ هَذَا حَبِيبُهَا
آخر: ... وَأَمَرُّ مَا لاقَيْتُ مِنْ أَلَمِ الْهَوَى ... قُرْبُ الْحَبِيبِ وَمَا إليه وُصُولُ
كَالْعَيْسِ فِي الْبِيدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا ... وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ
آخر: ... أَمَاطَتْ كِسَاءَ الْخَزِّ عَنْ حُرِّ وَجْهِهَا ... وَأَرْخَتْ عَلَى الْمَتْنَيْنِ بُرْدًا مُهَلْهَلا
مِنَ اللاء لَمْ يَحْجِجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً ... وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلا
آخر: ... يَا مَنْ إِذَا نَظَرَتْ عَيْنِي مَحَاسِنُهَا ... أَلُومُهَا فِي هَوَاهَا ثُمَّ أَعْذِرُهَا
يَا لِلرِّجَالِ أَمَا فِي الْحُبِّ مِنْ حَكَمٍ ... يَنْهَى الْعُيُونَ إِذَا جَارَتْ وَيَأْمُرُهَا
لا تَطْلُبَنَّ مِِِِِن الأَعْطَافِ عَاطِفَةٌ ... فَإِنَّ أَعْدَلَهَا فِي الْحُبِّ أُجُورُهَا
آخر: ... مَتَى أَوْعَدَتْ أَوْلَتْ وإِنْ وَعَدَتْ لَوَتْ ... وَإِنْ أَقْسَمَتْ لا تُبْرِئُ السُّقْمَ بَرَّتِ
وَإِنْ عَرَضَتْ أُطْرِقْ حَيَاءً وَهِيبَةً ... وَإِنْ أَعْرَضَتْ أُشْفِقْ وَلَمْ أَتَلَفَّتِ
بِهَا قَيْسُ لُبْنَى هَامَ بَلْ كُلُّ عَاشِقٍ ... كَمَجْنُونِ لَيْلَى أَوْ كُثَيَّرِ عَزَّةُُُُِ
مَوَاطِنُ أَفْرَاحِي وَمَرْبَى مَآرَبِي ... وَأَطْوَارُ أَوْطَارِي وَتَخْفِيف خِيفَتِي
أَخَذْتُمْ فُؤَادِي وَهُوَ بَعْضِيَ عِنْدَكُمْ ... فَمَا ضَرَّكُمْ لَوْ كَانَ بَعْضِي جُمْلَتِي
كَأَنِّي هِلالُ الشَّكِّ لَوْلا تَأَوُّهِي ... خَفِيتُ فَلَمْ تُهْدَ الْعُيُونُ لِرُؤْيَتِي
آخر: ... خُذُوا مِنْ صَبَا نَجْدِ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كَانَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ
تَذَكَّرَ وَالذِّكْرَى تَشُوقُ وَذُو الْهَوَى ... يَتُوقُ وَمَنْ يَعْلِقْ بِهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ
أَغَارُ إِذَا آنَسْتُ فِي الْحَيِّ أَنَّهُ ... حِذَارًا وَخَوْفًا أَنْ تَكُونَ لِحُبِّهِ
وَلَسْتُ عَلَى وَجْدِي بِأَوَّلِ عَاشِقٍ ... أَصَابَتْ سِهَامُ الْحُبِّ حَبَّةَ قَلْبِهِ
آخر: ... خَطَطْتُ مِثَالَهَا وَجَلَسْتُ أَشْكُو ... إليها مَا لَقِيتُ عَلَى انْتِحَابِ(5/670)
كَأَنِّيَ عِنْدَهَا أَشْكُو هُمُومِي ... إليها وَالشَّكَاةُ إِلَى التُّرَابِ
آخر: ... إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بِيَ الْهَوَى ... أَصَخْتَ إِلَى الْوَاشِي فَلَجَّ بِي الْهَجْرُ
تَوَهَّمْتُهَا أَلْوِي بِأَجْفَانِهَا الْكَرَى ... كَرَى النَّوْمِ أَوْ مَالَتْ بِأَعْكَافِهَا الْخَمْرُ
وَيَوْمَ مَا تَثَنَّتْ لِلْوَدَاعِ وَسَلَّمَتْ ... بِعَيْنَيْنِ مَوْصُولٌ بِلَحْظِهِمَا السِّحْرُ
آخر: ... فَخُذُوا أَحَادِيثَ الْهَوَى مِنْ صَادِقٍ ... مَا ضَلَّ عَنْ شَرْعِ الْغَرَامِ وَمَا غَوَى
وَبَمُهْجَتِي رَشَأَ أَطَالَتْ عُذَّلِي ... فِيهَا الْمَلامَ وَقَدْ حَوَتْ مَا قَدْ حَوَى
قَالُوا أَفِيهَا سِوَى رَشَاقَتِ قَدِّهَا ... وَفُتُورِ عَيْنِيهَا وَهَلْ مَوْتِي سِوَى
يروي الأَرَاكُ مَحَاسِنَا عَنْ ثَغْرِهَا ... يَا طِيبَ مَا نَقَلَ الأَرَاكُ وَمَا رَوَى
آخر: ... أظن وما جريت مثلك إنما ... قُلُوب نساء العالمين صخور
ذريني أنم إن لم أنل منك زورة ... لعل خيالاً في المنام يزور
آخر: ... وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززت سيوفًا واستللن خناجرا
تصدين لي يومًا بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادر
سفرن بدورًا وانتقبن أهلةً ... ومسن غصونًا والتفتن جأذرا
وأطلعن بالأجياد بالدر أنجما ... جعلن لحبات القُلُوب ضرائرُُُُُُُُ
آخر:
رَشَا قد اتَّخَذَا الضُّلُوعُ كِنَاسَهُ ... وَالْقَلْبَ مَرْعَى وَالْمَدَامِعَ مَوْرِدَا
سَلَبَ الْفُؤَادَ إِذَا بَدَا وَإِذَا رَنَا ... فَضَحَ الْغَزَالَةَ وَالْغَزَالَ الأَغْيَدَا
كَالْوَرْدِ خَدًّا وَالْهِلالِ تَبَاعُدًا ... وَالضَّبْي جِيدًا وَالْقَضِيبِ تَأَوُّدَا
سَيْفٌ تَرَقْرَقَ فِي شَبَاهُ فِرِنْدُهُ ... يَأْبَى بِغَيْرِ جَوَانِحِي أَنْ يُغْمَدَا(5/671)
آخر:
لَوْ كُنْتَ سَاعَةَ بَيْنَنَا مَا بَيْنَنَا ... وَشَهِدتَّ كَيْفَ نُكَرّرُ التَّوْدِيعَا
أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ الدُّمُوعِ مُحَدِّثًا ... وَعَلِمْتَ أَنَّ مِن الْحَدِيثِ دُمُوعَا
آخر:
يَا لائِمِي فِيمَنْ تَمَنَّعَ وَصْلُهَا ... عَنْ حُبِّهَا أَحْلَى الْهَوَى مَمْنُوعُهُ
آخر:
نَفُوزُ عَرَتْهَا نَفْرَةٌ فَتَجَاذَبَتْ ... سَوَالِفُهَا وَالْحَلْيُ وَالْخَصْرُ وَالرِّدْفُ
وَخَيَّلَ مِنْهَا مَرْطُهَا فَكَأَنَّمَا ... تَثَنَّى لَنَا خُوطٌ وَلا حَضَنَا خَشْفُ
وَقَابَلَنَا رُمَّا نَتَاغُصْنِ بَانَةٍ ... يَمِيلُ بِهِ بَدْرٌ وَيُمْسِكُهُ حِقْفُ
آخر:
فِي الْبَدْرِ مِنْ صَفْحَتِهَا لَمْحَةٌ ... وَلَمْحَةٌ فِي الظَّبْي مِنْ طَرْفِهَا
انْتَهَى إِذَا مَشَتْ جَاذَبَهَا رِدْفُهَا ... كَأَنَّمَا تَمْشِي إِلَى خَلْفِهَا
آخر:
وَلَوْ أَذَى التَّطْوِيل سُقْتُ زِيَادَةً ... لَهَا صَاحِب التَّفْكِيرِ يَخْشَى وَيَحْذَرُُُُُ(5/671)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء السادس(6/1)
شِعْرًا: ... أَلا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيِّتِي ... أُلازِمُ ذِكَرَ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةِ
وَآخِرُ رَمْقٍ مِنْ حَيَاتِي خِتَامُهُ ... بِكَلِمَةِ إِخْلاصٍ لِبَارِي البَرِّيَةِ
آخر: ... أُقَلِّبْ كِتَبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فِيهَا الْعَيْنَ والْعَيْنَ واَلْيَدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنِّ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِيْ بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا
وَأَحْذَرُ جُهْدِيْ أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٍ وَأَنْ يَغْتَالَها غَائِلُ الرَّدَى
وَأَعْلَمُ حَقًا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَالَيْتَ شِعْرِيْ مَنْ يُقَلَّبُهَا غَدَا
آخر: ... جَنَحَتْ شَمْسُ حَيَاتِي ... وَتَدَلَّتْ لِلْغُرُوبْ
وَتَوَلَّى لَيْلُ رَأْسِي ... وَبَدَ فَجْرُ الْمَشِيبْ
رَبِّي خَلِّصْنِي فَإِنِّي ... غَرِيق بَحْرِ الذُّنُوبْ
وَأَنِلْنِي الْعَفْو يَا مَنْ ... أَقْرَبْ مِنْ كُلِّ قَرِيبْ
آخر: ... وَمِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَصَائِبُ جَمَّةٌ ... هَجْرِ كِتَابِ الْوَاحِد الرَّحْمَنِ
وَالإِنْكِبَابُ عَلَى صُحْفٍ قَدْ امْتَلأتْ ... بِالْمُنْكَراتِ وَتَضْيِيعٍ لأَزْمَانِ
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَحْفَظْ ثَلاثًا فَخَلِّهِ ... وَرَى الظَّهْرِ وَاصْحَبِ مُخْلِصًا لإِلِههِ
فَأَوَّلُهَا الإِخْلاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... وَثَانِيهَا تَابِعْ مَنْ أَتَى بِالرِّسَالةِ
وَثَالِثُهَا جَنِّبْ هوًا وَتَكَبُّرًا ... لِتِسْلَمَ مِنْ نَار الْجَحِيم الْعَضِيمَةِ
آخر: ... إِنِّي أَبُثَكَ مِنْ حَدِيثِي ... والْحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ
غَيَّرْتُ مَرْقَدَ نَومِي ... لَيْلاً فَنَافَرِنِي السُّكُونْ
قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلُةٍ ... فِي الْقَبْرِ تَرى يَكُونْ
آخر: ... يَا مَنْ سَيَنا عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوه
وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوه(6/2)
آخر:
أَعْوَامُ لَهْوٍ كَانَ يُحْزِنُ ذِكْرُهَا ... قَلْبَ الَّلِبِيب لِفَقْدِهَا لِلَّطَاعَةِ
لَوْ أَنَّهَا مُلِئَتْ بِذِكْرِ إِلَهَنَا ... وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ زَالَ نَدَامَتِي
آخر:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ فِي الْحَيَاةٍ ... تَزوُّدَا فَلَقَدْ تُفَارِقَهَا وَأَنْتَ مُوَدَّعُ
وَاهْتَمَّ لِلَسَّفَرِ الْقَرِيبْ فَإِنَّهُ ... أَنَاي مِنَ السَّفَرِ الْبَعِيدِ وَأَشْنَعُ
واجْعَلْ تَزوُّدَكَ الْمَخافَةَ والتُّقى ... فَلَعَلَّ حَتْفَكَ فِي مَسَائِكَ أَسْرَعُ(6/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالٍم فَقَالَوْا: إِنَّا سُّائِلُوكَ أَفَمُجِبْيُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلَوْا وَلا تُكْثِرُوْا، فَّإِنَّ النَهَارَ لَنْ يَرِجِعَ وَالعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، والطَّالِبَ حَثِيْثٌ فِي طَلبِه، قَالَوْا: فأَوْصَنَا، قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدَرِ سَفَرِكُمْ فإِنََّ خَيْرَ الزَّادِ مَا أَبْلَغَ البُغْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفَ الأَعْمَارِ فَخلَّدُوْهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الفرص تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، والتَّوَاني مِنْ أَخْلاق الكُسَالى وَالْخَوالِفِ، وَمَنْ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْز عَثَرَ بِهِ، وَتَزَوَّجَ التَّوَاني بالْكَسَلَ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخَسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا: ... تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ
فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَة
آخر: ... الذَّكْرُ أًصْدَقُ قَوْلٍ فافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأ الْبَشَرا
فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَال العِزَّ والْفَخَرَا
وَتَحْمِد الله في يَوْمِ الْمَعادَ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوفُ وانْتَشَرَا
لله دَرُّ رَجالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا
قَال بَعْضُهُمْ:
أَيُّهَا الأَخ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ فَإِنَّكَ فِي زَمَنِ الرِّبْح وَوَقتِ الْبَذْرِ وَاحْذَرْ أَنْ يَخْدَعَكَ الْعَدُوَّ عَنْ نَفِيسِ هَذَا الْجوهَر فَتُنْفِقُهُ بِكَفِّ التّبْذِير، وَالله لَئِنْ فَعَلْتَ لَتَغْرَسَنَّ شَجَرِةَ النَّدَامَة فَيَتَسَاقَطُ عَلَيَكَ مِنَ كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا حَسْرَةٌ وَنَدَامَة وَاحْذَرْ مِنْ اخْتِلاسِ الأَعْدَاءِ لَهُ، والأعداء أَرْبَعَة إِبْلِيسُ لَعَنَهُ الله، وَالدنيا، والنَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، والْهَوَى.
شِعْرًا ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلَهُمْ أَعْدَائِي(6/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
مُلاحَظَة: لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصِرَهُ أوْ يَتَعرَّضَ له بما يُسَمُّونَه تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتصار سَبَبٌ لِتعطيلِ الأصْلِ والتحقيق أرَى أَنَّهُ اتِهَامُ لِلْمُؤَلِفَ، ولا يُطْبَع إلا وقفًا لله تعالى على مَن ينتفع به من المسلمين.
(فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وفَّقَهُ الله)
ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلْ مِنْ أَنْ عَرَّفَه لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوِة إِلَيْهَا.
فوائد:
وَاعَجَبًا مِنْكَ يَضِيعُ الشَّيءُ الْقَلِيل وَتَتَكِدر وَتَتَأَسَّفْ، وَقَدْ ضَاعَ عُمْرَكَ الذي لا عَوضَ له، وَأَنْتَ عِنْد قَتَّالات الأَوْقَاتِ: الْكُورَة والتِّلْفَاز والْمِذِياعِ ونحوها من قُطَّاعِ الطَّرِيقْ عَنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلكَن سَتَنْدم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .(6/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة عَظِيمَةُ النَّفْع جِدًا لِبَعْضِ الْعُلَماء رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى
(1)
اللِّيلُ والنَّهارُ يَعْمَلان فِيكَ فاعْمَلْ فيهما أَعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَحَ وَتَحْمَدِ الْعَاقِبِةَ الْحَمِيدِة إن شاء الله تعالى.
وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمْرِكَ فَاغْتَنِمْهُ ... وَلاَ تَذْهَبْ بِشَطْرُ العُمْرِ نَوْمَا
آخر:
عَلَيكَ بِذِكرِ اللَهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمنِ يَذْكُرُ
(2)
الملائِكةُ يَكْتُبَانِ مَا تَلفَّظُ به فَاحْرَصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِقَ إلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوم الْقِيَامَةْ.
إِنَّ الشَرائِعَ أَلقَت بَينَا حِكَمًا ... وَأَورَثَتنا أَفانينَ المَوَدَّاتِ
وَهَلْ رَأَيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً ... لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَمَاتِ
(3)
اعْلَمْ أنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيهَ مَدَارٌ عَظِيمْ، وحِِصْنُ الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجَأَةِ الْمُوْتِ وَأَخْذُ الإِنْسان على غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ فِي غِرُورٍ وَفُتُور عن العمل للآخرة. نسأل الله أَنْ يُوقِظََ قُلوبَنَا إنه على كل شيء قدير. اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمِ.
فائدة:
الْعِلْمُ بِمَا جَاء عَنِ الله وَعَن رَسُوله خَيْرُ مِيراثٍ، وَالتَّوفِيقُ مِنَ الله خَيْرُ قِائِدٍ، والاجْتِهَادُ في طَاعَةَ اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةْ، وَلا مَالَ أَحْسَنَ مِنْ عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ، وَلا مُصِيبَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْكُفْرِ بالله، ولا عَوَينَ أَوْثَقَ مِن الاعتماد عَلَى الله(6/6)
ثُمَّ مُشَاوَرَةِ أَصْحَاب الرَّأي وَالدِّين مِنْ الْمُؤمنين، ولا أوحَشَ مِنَ الْكِبْر والْعُجْب والنِّفَاق.
آخر:
سلِ اللهَ عَقلاً نافِعاً واستَعِذْ بهِ ... منَ الجَهلِ تَسأَلْ خَيرَ مُعْطٍ لِسائلِ
فبالعَقلِ تَسْتَوْفِي الفضائلُ كُلُّها ... كَما الجَهلُ مُستَوفٍ جميعَ الرَّذائلِ
تَنْبِيهِ:
ومَن أَرَادَ طَبَاعَتَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله لا يُريد بِه عَرَضًا مِن الدنيا فقد أذن لُه وجَزَى اللهُ خَيْراً مِنْ طَبَعَهُ وَفَقًا أَوْ أَعَانَ على طَبْعِهِ أَوْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وَتَوْزِيعِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين فقد ورد عنه ? أَنَّهُ قال: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» . رواه مسلم. وَوَرَدَ عنه ? أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلَهُ» . الحديث رواه أبو داود. وَوَرَدَ عَنْه ? أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . الحديث رواه مسلم.
(فَصْلٌ) في الجهادِ في سبيل اللهِ
اعْلمْ وَفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِين أَنَّ الْجِهادَ فِي سَبيلِ اللهِ أَفْضَلُ تَطَوُّع البَدَنِ، وَعَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رُكْناً سَادِسًا لِدِينِ الإِسْلامِ، وَهُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الإسلامِ، وَمُوْجِبُ الْهِدَايَةِ، وَحَقِيقَة الإخْلاصِ، والزُّهْدِ في الدنيا، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنازِلِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا لَهُمْ الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا، فَهُم الأَعْلَوْنَ فِي الآخِرَةِ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس يَتَلَهَّفُونَ عَلَى الْجِهادِ الذِي أُغْلِقَتْ أَبْوابُهُ مِنْ زَمَنٍ بَعيدٍ، مِنْ عَهَدِ أَنْ كانَ الرجُلُ يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ وبِمَالِهِ آمِلاً أَنْ يُنْفَقَ(6/7)
كُلَّ مَالِهِ في سبيلِ اللهِ، وَأَنْ يَحْظَى بالشهادةِ في سبيلِ اللهِ، فإذا رَجَعَ سَالِمًا إلى أَهْلِهِ، رَجَعَ حَزِينًا على ما فَاتَهُ مِن مَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَ يَحْرصُ عليها كُلَّ الْحِرْصِ، وَلَقَدْ كانَ الْمُسْلِمُونَ في أَوَّلِ هَذِهِ الأمَّةِ أَقَلِّيَّةً بَيْنَ الأُمَمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ فُقَراءَ مِنَ الْمَالِ، ولكنْ كانُوا أَغْنِيَاءَ، بِمَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ البُطُولَةِ، غِنَىً لَمْ يَرْوِ لَنَا التَّارِيخُ نَظِيرَهُ بَيْنَ ذَوِي البُطُولاتِ، يَعْتَمِدُونَ في تِلْكَ البُطولَةِ على مَعونةِ مولاهُمْ لَهُم في كُلِّ حالٍ مِنَ الأَحْوَالِ.
وَلَقْدَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ تُبَيَّضُ الوُجُوهَ وَتَمْلأُ القُلُوبَ سُرُورًا وَفَرَحًا، كَانُوا إِذَا نَازَلُوا الأَعْدَاءَ رَجَعُوا ظَافِرِينَ مُنْتَصِرِينَ، لا يُرَى عَلَيْهِمْ أَثرُ كَآبةٍ، اللَّهُمَّ إلا كَآبةُ الْحُزْنِ، على أنَّ أَحَدَهُم لَمْ يَفُزْ بِمَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُنْتَهَى الآمالِ، لِذَلِكَ دَوَّخُوا الدُّنْيَا، وَكَانُوا عِنْدَ الكُلِّ سَادَةَ الأَعِزَّاءِ، كَانُوا لا يَطْمَعُ فِيهِمْ طَامِعٌ، مَعَ أَنَّهُمْ أَقَلِيَّةٌ، وَكَانُوا إِذَا نُسِبُوا لِغَيْرِهِمْ فُقَرَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بالتَّوَكُّل عَلَى مَنْ بِيَدِهِ القُلوبُ، وَبِيَدِهِ كُلْ شيء لا إِلهَ إِلا هو جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّس.
وَلَقَدْ كانَ مَعَهُمْ صَفْوَةُ الْخَلْقِ، وَعَنْ إِرْشَادَاتِهِ يُصْدِرُونَ مَا يَصْدِرُونَ مِنْ أَعْمَالٍِ، وَهُوَ كَانَ لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِذَلِكَ، أَمَّا نَحْنُ فَعُدَّ مِنَّا بِمِئَآتِ الأُلُوفِ وَقُلْ مَا تُرِيدُ في غِنَانَا فَالْوَاحِدُ مِنَّا يَمْلِكُ الْمَلايينَ، وَمِنْ العَقَارَاتِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَلَكِنَّنَا مَعَ ذَلِكَ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، نُحِبُّ هَذِهِ الْحَيَاةَ، حُبًّا مَلَكَ مَشَاعِرَنَا كُلَّهَا اللَّحْمُ وَالعَظْمَ وَالعُروقَ وَكُلَّ شَيْءٍ وَنَكْرَهُ الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَالسَّبَبْ في ذلك - واللهُ أعلمُ -(6/8)
أنَّ حُبَّ الدُّنْيَا، وَالتَّعَلُّقَ بِهَا هُوَ الذِي أَنْسَانَا، وَأَلْهَانَا عَنْ تَذَكُّر الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَتَمَنِّيَهِ، وَبَذْلِ النَّفِيسِ فِيمَا يُقَرّبُ إِلَيْهِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا، وَيُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ سَلَفِنَا. لِنُقيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ، وَيَجْعَلْنَا مِنْ أَنْصَارِ دِينِهِ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) وَقَدْ وَرَدَ في فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ عَظِيمِ ثَوَابِهِ، آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللهِ تَعَالى.
فَمِنَ الآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ترغيبٌ في الْجِهَادِ على أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ ابنُ القَيَّمِ رحمه اللهُ على هذه الآية: فجعلَ سبحانَهُ ها هُنَا الجنَةَ ثَمَنًا لِنفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إِذَا بَذَلُوهَا فِيهِ اسْتَحَقُّوا الثَّمَنَ، وَعَقَدَ مَعهمْ هَذَا العَقْدَ، وَأَكَّدَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ التَّأْكِيدَاتِ.
1- أَوَّلاً: إِخْبَارُهُمْ بصِيغَةِ الْخَبَرِ الْمؤَكَّدِ بأداةً إِنَّ.
2- ثَانِيًا: الإِخْبَارُ بذلِكَ بِصَيْغَةِ الْمَاضِي الذي وَقَعَ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ.
3- ثَالِثًا: إِضَافةُ هذا العَقْدِ إلى نَفْسِهِ سُبْحَانَه، وَأَنَّهُ هو الذي اشْتَرَى هَذَا الْمَبِيعَ.(6/9)
4- رَابِعًا: أَنَّهُ أَخْبَرَ بَأَنَّهُ وَعَدَ بِتَسْلِيمْ هَذَا الثَّمَن، وَعْدًا لا يُخْلِفُهُ وَلا يَتْرُكُهُ.
5- خَامِسًا: أَنَّهُ أَتَى بِصِيْغَةِ (عَلَى) الَّتِي لِلْوُجوب، إعْلامًا لِعِبادِهِ بَأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ، أَحَقَّه هو على نَفْسِهِ.
6- سَادِسًا: أَنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ حَقًّا عَلَيْهِ.
7- سَابِعًا: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَحَلِّ هَذَا الوَعْدِ، وَأَنَّهُ في أَفْضَلِ كُتُبهِ الْمُنَزَلةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهِيَ التَّوراةُ وَالإِنْجِيلُ والقرآنُ.
8- ثَامِنًا: إِعْلامُهُ لِعِبَادِهِ بِصِيغةِ استفهامِ الإنكارِ، وَأَنَّهُ لا أَحَدَ أَوْفى بعهدِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.
9- تَاسِعًا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهَذَا الْعَقْدِ، وَيُبَشّرَ بِهِ بَعْضُهمْ بَعْضًا، بَشَارةَ مَنْ قَدْ تَمَّ لَهُ العَقْدُ وَلَزِمَ، بِحَيْثُ لا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، وَلا يَعْرِضُ لَهُ مَا يَفْسَخُهُ.
10- عَاشِرًا: أنهُ أَخْبَرَهُمْ إِخْبَارًا مُؤكَّدًا بَأَنَّ ذَلِكَ البيعَ الذي بَايَعُوهُ بِهِ هو الفوزُ العظيمُ، والبيعُ ها هُنَا بِمَعْنى الْمُبِيعِ الذي أَخَذُوهُ بِهَذَا الثَّمَن، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ: {بَايَعْتُم بِهِ} أَيْ عَاوَضْتُمْ وثامَنْتُمْ بِهِ، ثم ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ هَذَا العَقدِ الذي وَقَّعَ العقْدَ وَتَمَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ التَّائِبُونَ إلخ. انتهى.
شِعْرًا:
إِذَا قَلَّ دِينُ قَلَّ بَهَاؤُهُ ... وَضَاقَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ وَسَمَاؤُهُ
وَأَصْبَحَ لا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا ... أقدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاؤُهُ
فَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ عَلاه بَهَاؤُهُ ... وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِهِ أَصْدِقَاؤُهُ(6/10)
وَيقولُ سَيِّدُ قُطْبِ رحمه الله على الآية المتقدمَةِ قَرِيبًا: هذا النَّصُ النَّصُ الذِي تَلَوْتُهُ مِنْ قَبْلُ وَسَمِعْتُهُ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ تَزَيدُ في أَثْنَاءِ حِفْظِي لِلْقُرْآنِ، وَفِي أَثْنَاءِ تِلاوَتِهِ بعدَ ذَلِكَ وَدِرَاسَتِهِ، فِي أَكْثَر مِنْ رُبع قَرْنٍ، هَذَا النَّصْ أَشْهَدُ أَنَّنِي أَدْرِكُ مِنْهُ اللَّحْظَةَ مَا لَمْ أُدْرِكْهُ في أَلْفِ مَرَّةٍ أَوْ تَزِيدُ، إِنَّهُ نَصٌّ رَهِيبٌ، يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ العِلاقَةِ التِي تَرْبَطُ الْمُؤْمِنينَ الصادقينَ باللهِ، وَعَنْ حَقِيقَةِ البَيْعَةِ التِي في أعْنَاقِهِمْ طُولَ الْحَيَاةِ، فمَنْ بايَعَ البَيْعَةَ، وَوَفَى بِهَا فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْحَقُّ، الذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَحَقِيقَتِهِ، وَإِلاّ فَهِي دَعْوَى تَحْتَاجُ إلي التصديقِ والتحقيق.
حقيقةُ هذهِ البَيْعَةِ - أَوْ هذه الْمُبَايَعَةِ كَمَا سَمَّاهَا اللهُ كَرَمًا منه وَفَضْلاً - أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ اسْتَخْلَصَ لِنَفْسِهِ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، لَمْ يَعُدْ لَهُمْ أَنْ يَسْتَبِقُوا مِنْهَا بَقِيَّةً، لا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ، لَمْ يَعُدْ لَهَمْ خِيارٌ فِي أَنْ يَبْذُلُوا أَوْ يُمْسِكُوا، كَلا إِنَّها بَيْعةٌ كامِلةٌ، فالثمَنُ الجَنةُ والطريقُ الجِهَادُ، والنِّهايةُ هِيَ النَّصْرُ أَوِ الاسْتِشْهَادُ، وَمِنْ رَحمتِهِ أَنْ جَعَلَ لِلصَّفْقَةِ ثَمنًا، وَإِلاّ فهو مالِكُ الأَنفُسِ والأَموَالِ وَلَكِنَّهُ كَرَّمَ هَذَا الإنسانَ، فَجَعَلَهُ مُرِيدًا، وَكَرَّمَهُ فَجَعل لَهُ أَنْ يعقِدَ العُقودَ وَيُمْضِيهَا حتَّى مَعَ اللهِ وَكَرَّمَهُ فقيَّدَهُ بعُقُودِهِ وَعُهُودِهِ، وجعلَ وَفَاءَهُ بِهَا مِقْيَاسَ آدَمِيَّتِهِ الكَرِيمةِ، كَمَا جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَإِنَّهَا لَبَيْعَةٌ رَهِيبَةٌ بِلا شَكٍّ، وَلَكِنَّهَا في عُنُقِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، لا تَسْقُطُ عنهُ إلا بِسُقُوطِ إيمانِهِ وَالعِياذُ بِاللهِ، يَا اللهُ عونَكَ، فَإِنَّ العَقْدَ رَهِيبٌ، وَهؤلاءِ القَاعِدونَ بِالْمَلايينِ، في مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَدَّعُون أنهم مؤمنونَ بِكَ، وَهُمْ قَاعِدُونَ، لا يُقَاتلون لإِعْلاءِ(6/11)
كَلِمَتِكَ، ولا يَقْتُلُون ولا يُقْتَلُون، ولا يُجَاهِدُون جِهَادًا مَا دُونَ القِتَالِ والقَتْلِ، يَسُدُّون بِهِ ثَغْرةً وَيُسَاهِمُونَ بِهِ في الدِّفَاعِ عَنْ دِينِك الذي أَرَدْت له النَّصْرَ والاستعلاءَ، قال:
ولقد كانَتْ هذه الكماتُ تَدْخُلُ إلى قلوب مُسْتَمِعيها الأوَّلِينَ، على عهدِ الرسولِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ، فَتَتَحَوَّلُ مِنْ فَوْرِهَا إلى وَاقِعٍ مِنْ وَاقع حَيَاتِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ مَعَانٍ يَتَمَلَّوْنَها بأذهانِهِمْ، وَيُحِسُّونَها مُجَرَّدَةً فِي مَشَاعِرِهِمْ، كانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا للْعَمَل الْمبَاشِر بِها، لِتَحْوِيلِهَا إلى حَرَكةٍ مَنظورَةٍ، لا إلى صُورَةٍ مُتأمَّلَةٍ، هَكَذَا أَدْرَكَهَا عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحة رضيَ اللهُ عَنْهُ في بَيْعَةِ العَقَبَةِ.
قال محمدُ بن كعبِ القُرَظِي: قَالَ عَبْدُ اللهِ بن رواحةَ لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي لَيلةَ العقبةِ - اشْتَرطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: «أشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، واشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكمْ وَأَمْوَالَكُمْ» . قَالَ: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: «الْجَنَّةِ» قَالُوا: رَبِحَ البَيْعُ، لا نُقِيلُ ولا نَسْتَقِيل فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} . انْتَهَى باخْتِصَار.
اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(6/12)