فنظرت إِلَى حسنه ونوره وحسن صورة الْجَنَّة وجدرانها، وقلبك مستطير فرح مسرور متعلق بدخول الْجَنَّة حين وافيت بابها أَنْتَ وأَوْلِيَاء الرحمن.
فتوهم أي تخيل وتصور نفسك فِي ذَلِكَ الموكب، وهم أَهْل كرامة الله ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورون فرحون مستبشرون، وقَدْ وافيت باب الْجَنَّة بغبار قبرك، وحر المقام ووهج ما مر بك.
فنظرت إِلَى العين التي أعدها الله لأوليائه وإلى حسن مائها، فانغمست فيها مسرورًا، لما وجدت من برد مائها وطيبة، فوجدت لَهُ بردًا وطيبًا فذهب عَنْكَ بحزن المقام، وطهرك من كُلّ دنس وغبار، وأَنْتَ مسرور لما وجدت من طيب مائها لما باشرته، وقَدْ أفلتَّ من وهج الصراط وحره، لأنه قَدْ يوافي بابها من أحرقت النار بَعْض جسده بلفحها وقَدْ بلغت منه.
فما ظنك وقَدْ انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهج حر الصراط فوافيت باب الْجَنَّة بذَلِكَ، فَلَمَّا نظرت إِلَى العين قذفت بنفسك فيها، فتوهم (أي تصور وتخيل) فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأَنْتَ فرح لمعرفتك إِنَّكَ إنما تغتسل لتتطهر لدخول الْجَنَّة والخلود فيها.
فأَنْتَ تغتسل مَنْهَا دائبًا، ولونك متغير حسنًا، وجسدك يزداد نضرة وبهجة ونعيمًا، ثُمَّ تخَرَجَ مَنْهَا فِي أحسن الصور وأتم النور.
اللهم ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتَرَى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْء من أمرنا نَحْنُ البؤساء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات وتقيم علم الجهاد وتقمَعَ أَهْل(2/511)
الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : فتوهم (أي تصور وتخيل) فرح قلبك حين خرجت مَنْهَا فنظرت إِلَى كمال جمالك، ونضارة وجهك وحسنه، وأَنْتَ عَالِم موقن بأنك تتنظف للدخول إِلَى جوار ربك، ثُمَّ تقصد إِلَى العين الأُخْرَى، فتتناول من بَعْض آنيتها، فتوهم نظرك إِلَى حسن الإناء وإلى حسن الشراب، وأَنْتَ مسرور بمعرفتك إِنَّكَ إنما تشرب هَذَا الشراب لتطهر جوفك من كُلّ غل وجسدك ناعم أبدًا.
حَتَّى إِذَا وضعت الإناء على فيك ثُمَّ شربته، وجدت طعم شراب لم تذق مثله ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إِلَى جوفك، فطار قلبك سرورا لما وجدت من لذته، ثُمَّ نقى جوفك من كُلّ آفة، فوجدت لذة طهارة صدرك من كُلّ طبع كَانَ فيه ينازعه إِلَى الغموم والهموم والحرص والشدة والْغَضَب والغل فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذَلِكَ على فؤادك.
حَتَّى إِذَا استكملت طهارة الْقَلْب والبدن، واستكمل أحباء الله ذَلِكَ معك، والله مطلع يراك ويراهم، أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الْجَنَّة من الملائكة الَّذِينَ لم يزالوا مطيعين خائفين منه مشفقين وجلين من عقابه إعظاما لَهُ وإجلالاً، وهيبة لَهُ، وحذرًا من نقمة، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه، فانحدروا من دارها، وبادروا من ساحتها، وأتوا باب الْجَنَّة فمدوا أيديهم ليفتحوا أبوابها.
وأيقنت بذَلِكَ، فطار قلبك سرورًا، وامتلأت فرحًا، وسمعت حسن صرير أبوابها، فعلاك السرور، وغلب على فؤادك، فيا سرور قُلُوب المفتوح لَهُمْ باب جنة رب العالمين.(2/512)
فَلَمَّا فتح لَهُمْ بابها، هاج نسيم طيب الجنان، وطيب جرى مائها، فنفح وجهك، وَجَمِيع بدنك، وثارت أراييج الْجَنَّة العبقة الطيبة، وهاج ريح مسكنها الاذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وارياح طيب ثمارها وأشجارها، وما فيها من نسيمها.
فتدخلت تلك الارييح فِي مشامك حَتَّى وصلت إِلَى دماغك، وصار طيبها فِي قلبك، وفاض مِنْ جَمِيعِ جوارحك، ونظرت بعينيك إِلَى حسن قصورها، وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد والياقوت الأحمر، والدر الأَبْيَض، قَدْ سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه.
فقَدْ أكمله الله فِي الصفاء والنور، ومازجة نور ما فِي الجنان، ونظرت إِلَى حجب الله، وفرح فؤادك لمعرفتك إِنَّكَ إِذَا دخلتها فَإِنَّ لَكَ فيها الزيادات، والنظر إِلَى وجه ربك، فاجتمَعَ طيب أراييح الْجَنَّة وحسن بهجة منظرها وطيب نسيمها، وبرد جوها.
فتصور نفسك أن تفضل الله عَلَيْكَ بهذه الهيئة، فلو مت فرحًا لكَانَ ذَلِكَ يحق لَكَ، حَتَّى إِذَا فتحوا بابها، أقبلوا عيك ضاحكين فِي وجهك ووجوه أولياء الله معك، ونادوَكَمْ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فتوهم حسن نغماتهم، وطيب كلامهم، وحسن تسليمهم، فِي كمال صورهم، وشدة نورهم.
ثُمَّ اتبعوا السَّلام بقولهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فاثنوا عَلَيْهمْ بالطيب والتهذيب من كُلّ دنس، ودرن وغل وغش، وكل آفة فِي دين أَوْ دنيا، ثُمَّ أذنوا لَهُمْ على الله بالدخول فِي جواره، ثُمَّ أخبروهم أنهم باقون فيها أبدًا، فَقَالُوا: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فَلَمَّا سمعت الأذن وأَوْلِيَاء الله معك ن بادرتم الْبَاب بالدخول، فكضت الأبواب من الزحام.
فتصور نفسك أن الله عفا عَنْكَ فِي تلك الزحمة مبادرًا مَعَ مبادرين،(2/513)
مسرورا مَعَ مسرورين، بأبدان قَدْ طهرت، ووجوه قَدْ أشرقت وأنارت فهي كالبدر، قَدْ سطع من أعراضهم كشعاع الشمس.
فَلَمَّا جاوزت بابها، وضعت قدميك على تربتها، وهي مسك اذفره، ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها، فَذَلِكَ أول خطوة خطوتها فِي أرض البقاء بالأمن من الْعَذَاب والموت، فأَنْتَ تتخطى فِي تراب المسك، ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر، من حسن أشجارها، وزينة تصويرها.
فبينما أَنْتَ تتخطى فِي عرصات الجنان، فِي رياض الزعفران، وكثبان المسك، إذ نودي فِي أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانَا قَدْ أقبل، فأجابوا، واستبشروا لقدومك، كما يبشر أَهْل الغائب فِي الدُّنْيَا بقدومه.
ثناء على الله وتضرع إليه جل جلاله
إِلَهِي وَخلاقي وَحِرْزِي وَمَوْئِلِي ... إِلَيْكَ لِدَى الإِعْسَارِ وَالْيُسْرِ أَفْرَعُ
إِلَهْيِ لَئِنْ ابْعَدْتَنِي أَوْ طَرَدْتَنِي ... فَمَنْ ذَا الَّذِي أَرْجُوا وَمَنْ أَتَشَفَّعُ
إِلَهِي لَئِنْ جَلَتَ وَجَمَعْتَ خَطِيئَتِي ... فَعَفْوُكَ عَنْ ذَنْبِي أَجَلُّ وَأَوْسَعُ
إِلَهِي لَئِنْ أَعْطيتَ نَفْسِي سُؤَالَهَا ... فَهَا أَنَا فِي رَوْضَ النَّدَامَةِ ارْتَعُ
إِلَهِي فَلا تَقْطَعْ رَجَائِي وَلا تَزْغ ... فُؤَادِي فإني خَائٍفٌ مُتَضَرِّعُ
إِلَهِي فَأَنِسْنِي بِتَلْقِينِ حُجْتَي ... إِذَا كَانَ لي فِي الْقَبْرِ مَثْوَى وَمَضْجَعُ
إِلَهْيِ أَذِقْنِى بَرْدَ عَفْوِكَ يَوْمَََ لا ... بَنُونَ وَلا مَالَ هُنَالِكَ خضعُ
وَلا تَحْرِمْنِي مِنْ شَفَاعَةِ أَحْمَدٍ ... وَصَحْبة أَخْيَارِ هُنَالِكَ خُضَّعُ
وَصَلِّ عَلَيْهِ مَا دَعَاكَ مُوَحَّدٍ ... وَنَاجَاكَ أَقْوَامٌ بِبِاكٍ خُشْعُ(2/514)
" فَصْلٌ "
فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى قصورك، إذ سمعت جلبتهم وتبشيشهم فاستطرت لِذَلِكَ فرحًا، فينما أَنْتَ فرح ومسرور بغبطتهم لقدومك لما سمعت إجلابهم فرحًا بك، إذ ابتدرت القهارمة إليك، وقامت الولدان صفوفًا لقدومك، فينما أتت القهارمة مقبلة إليك، ذا استخف أزواجك للعجلة، فبعثت كُلّ واحدة منهن بَعْض خدامها لينظر إليك مقبلاً، ويسرع بالرجوع إليها يخبرها بقدومك، لتطمئن إليه فرحًا، وتسكن إِلَى ذَلِكَ سرورًا، فنظر إليك الخدم قبل أن تلقاك قهارمتك.
ثُمَّ بادر رسول كُلّ واحدة منهن إليها فَلَمَّا أخبرها بقدومك، قَالَتْ: كُلّ واحدة لرسولها: أَنْتَ رأيته. من شدة فرحها بذَلِكَ، ثُمَّ أرسلت كُلّ واحدة منهن رسولاً آخر، فَلَمَّا جاءت البشارات بقدومك إليهن، لم يتمالكن فرحًا، فأردن الْخُرُوج إليك مبادرات إِلَى لقائِك لولا أن الله كتب القصر لهن فِي الخيام، إِلَى قدومك، كما قَالَ مليكك: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} .
فوضعن أيديهن على عضائد أبوابهن، وأذرعهن برؤوسهن، ينظرون متى تبدو لهن صفحة وجهك، فيسكن طول حنينهن، وشدة شوقهن إليك، وينظرون إِلَى قرير أعينهن، ومعدن راحتهن، وأنسهن إِلَى ولي ربهن وحبيب مولاهن.
فتوهم ما عاينت، حين فتحت أبواب قصورك، ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، وتلألؤ صحنه، ونور ساحاته.
فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى ذَلِكَ، إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك هَذَا فلان بن فلان قَدْ دخل من باب قصره، فَلَمَّا سمعن نداء البُشْرَاء بقدومك ودخولك، توثبن من الفرش على الأسرة فِي الحجال.(2/515)
وعينك ناظرة إليهن فِي جوف الخيام والقباب، فنظرت إِلَى وثوبهن مستعجلات، وقَدْ استخفهن الفرح، والشوق إِلَى رؤيتك.
فتخيل تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة، يتوثبن بالتهادي والتبختر.
فتصور كُلّ واحدة منهن حين وثَبَتْ فِي حسن حللها وحليتها بصحابة وجهها، وتثنِّي بدنها بنعمته.
فتوهم انحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عَنْ سريرها إِلَى صحن قبتها وقرار خيمتها، فوثبن حَتَّى أتين أبواب خيامهن وقبابهن.
ثُمَّ أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر، الَّذِي ضرب عليهن إِلَى قدومك، فقمن آخذات بَعْضائد أبوابهن.
ثُمَّ خرجن برؤوسهن ووجوههن، ينحدرن من أبواب قبابهن، متطلعات، ينظرن إليك، مقبلات قَدْ ملئن منك فرحًا وَسُرُورًا.
وتخيل نفسك بسرور قلبك وفرحه، وقَدْ رمقتهن على حسن وجوههن، وغنج أعينهن.
فَلَمَّا قابلت وجوههن حار طرفك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوت الذاهل من عظيم ما هاج فِي قلبك من سرور ما رأت عيناك وسكنت إليه نفسك.
فينما أَنْتَ ترفل إليهن إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مبادرات قَدْ استخفهن العشق، مسرعات يتثنين من نعيم الأبدان، ويتهادين من كمال الأجسام.
ثُمَّ نادتك كُلّ واحدة منهن: يَا حبيبي ما أبطأك عَلَيْنَا؟ فأجبتها بأن قُلْتُ:(2/516)
يا حبيبة ما زال الله عَزَّ وَجَلَّ يوقفني على ذنب كَذَا وَكَذَا حَتَّى خشيت أن لا أصل إليكن، فمشين نحوك فِي السندس والحرير، يثرن المسك، وشوقًا وعشقًا لَكَ.
فأول من تقدمت منهن مدت إليك بنانها ومعصمها وخاتمها وضمتك إِلَى نحرها فانثنيت عَلَيْهَا بكفك وساعدك حَتَّى وضعته على قلائدها من حلقها ثُمَّ ضممتها إليك وضمتك إليها.
فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها كاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه.
فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها، ولذة معانقتها، ثُمَّ شممت طيب عوارضها، فذهب قلبك من كُلّ شَيْء سواها حَتَّى غرق فِي السرور، وامتلأ فرحًا، لما وصل إِلَى روحك من طيب مسيسها، ولذة روائح عوارضها.
فَلَمَّا استمكنت خفة السرور من قلبك، وعمت لذة الفرح جميع بدنك، وموعد الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سرورك، فناديت بالحمد لله الَّذِي صدقك الوعد، وأنجز لَكَ الموعد، ثُمَّ ذكرت طلبك إِلَى ربك إياهن بالدؤوب والتشمير.
فأين أَنْتَ فِي عاقبة ذَلِكَ الْعَمَل الَّذِي استقبلته وأَنْتَ تلتثمهن وتشم عوارضهن {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} .
اللَّهُمَّ إِنَّا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومرادًا غير مخزي ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين. اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، وتنْزِع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أَرْكَانَ عرشك وبقدرتك التي(2/517)
قدرتَ بها على جميع خلقكَ وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا، وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
" فَصْلٌ ": فتوهم صعودها على السرير بعَظِيم بدنها ونعيمه، حَتَّى استوت عَلَيْهِ جالسةً، ثُمَّ ارتقيت على السرير، فاستويت عَلَيْهِ معها، فقابلتك وأَنْتَ مقابلها، فيا حسن منظرك إليها جالسةً فِي حالها وحليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها! الأساور فِي معاصمها، والخواتم فِي أَكفها، والخلاخيل فِي أسواقها، والقلائد فِي عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذَلِكَ على رأسها، والذوائب من تحت التاج قَدْ حل من مناكبها، وبلغ أردافها، تَرَى وجهك فِي نحرها، وهي تنظر إِلَى وجهها فِي نحرك.
وقَدْ تدلت الأشجار بثمارها من جوانب حجلتك، واطردت الأنهار حول قصرك، واستعلى الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل.
وقَدْ كمل حسنك وحسنها، وأَنْتَ لابس الحرير والسندس، وأساور الذهب واللؤلؤ على كُلّ مفصل من مفاصلك، وتاج الدر والياقوت منتصف فوق رأسك، وأكاليل الدر مفصصة بالنور على جبينك.
وقَدْ أضاءت الْجَنَّة وَجَمِيع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك، وأَنْتَ تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وَجَمِيع أبنية مقاصيرك.
وقَدْ تدلت عليك ثمار أشجارك واطردت أنهارك من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسل من فوقك، وأَنْتَ جالس مَعَ زوجتك على أريكتك، وقَدْ فتحت مصاريع أبوابك، وأرخيت عَلَيْكَ حجال خيميتك، وحفف الخدام والودان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك عَزَّ وَجَلَّ.(2/518)
وأَنْتَ وزوجك بأكمل الهيئة وأتم النَّعِيم، وقَدْ حار فيها طرفك تنظر إليها متعجبًا من جمالها وكمالها، طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهي منادمة لَكَ على أريكتك، تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم فِي كأسات الدر وأكاويب قوارير الفضة.
فتوهم الكأس من الياقوت والدر فِي بنانها، وقَدْ قربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، فسطع نور بنانها فِي الشراب، مَعَ نور وجهها ونحرها، ونور الجنان، ونور وجهك وأَنْتَ مقابلها، واجتمَعَ فِي الكأس الَّذِي فِي بنانها نور الكأس، ونور الشراب ونور وجهها ونور نحرها، ونور ثغرها. انتهى بتصرف.
وقَالَ ابن القيم:
فَاسْمَعْ صَفَاتِ عَرَائِسَ الْجَنَّاتِ ثُمَّ ... اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أَخَا الْعِرْفَانِ
حُورٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا ... وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ
حَتَّى يُحَارُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي ... قَدْ ألْبَسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ
وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا ... سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْن وَالإِحْسَانِ
وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤوس جَمَالِهَا ... فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النّشْوَانِ
كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأَكْمَلَ حُسْنُهَا ... كَالْبَدْرِ لَيلَ السَّتِ بَعْدَ ثَمَانِ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا ... والليلُ تَحتَ ذَوائِبِ الأَغْصَانِ
فَتَرَاهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن ... لَيلِ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ
فَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعَه ... سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإِنْسانِ
وَكلاهُمَا مِرْآةُ صَاحِبِه إِذَا ... مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ
فَتَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا ... وَيَرَى مَحَاسِنِهَا بِهِ بَعَيْنَانِ
حُمْر الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئٌ ... سُودُ الْعُيُونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ
وَالْبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا ... فَيُضِئُ سَقْفُ الْقَصْر بِالْجُدْرَانِ
وَلَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ بَرْقًا سَاطِعًا ... يَبْدُو فَيَسْألُ عَنْهُ مَن بِجِنَانِ(2/519)
فَيُقَالَ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ ... فِي الْجَنَّةِ الْعُلَيا كَمَا تَريَانِ
للهِ لاثِمْ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِي ... فِي لَثْمِةِ إِدْرَاك كُلّ أَمَانِ
رَيَّانَة الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا ... ب فَغِصْنَهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ
لَمَّا جَرَى مَاءُ الشَّبَابِ بِغِصْنِهَا ... حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ
فَالْوَرْدُ وَالتُّفْاحُ وَالرُّمَّانُ فِي ... غِصْنِ تَعَالَى غَارِسِ الْبُسْتَانِ
والَقَدْ مَنْهَا كَالْقَضِيبِ اللدِنْ فِي ... حُسْنِ الْقَوامِ كَأَوْسَط الْقُضْبَانِ
إِلَى أن قَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ من لُبْسِهَا ... وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ
تَهْتَزُ كَالْغِصْنِ الرَّطِيبِ وَحِمْلُه ... وَرْدٌ وَتُفْاحٌ عَلَى رُمَّانِ
وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيَهَا وَيَحِقُّ ذَا ... كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنْةِ الْحَيَوَان
وَوَصَائِفٌ مِن خَلْفِها وَأَمَامِها ... وَعَلَى شَمَائِلِهَا وَعَنْ إِيمَانِ
كَالبَدْرِ لَيلَة تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي ... غَسّقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ
فَلِسَانُهُ وَفُؤَادُهُ وَالطَّرف فِي ... دَهْشٌ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ
فالْقَلْبُ قَبْلَ زَفَافِهَا فِي عُرْسِهِ ... وَالْعُرْسُ إِثْر العُرْسِ مُتَّصِلانِ
حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا ... أرأيْتَ إِذ يَتَقَابَل الْقَمَرَانِ
فَسَلِ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ ... فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بَأَي مَكَانَ
وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ ... مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالعَيْنَانِ
مِن مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْـ ... ــه كَمْ بِهِ لِلشمْس مِن جَرَيَانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيَفَ عِيشَتُهُ إِذَا ... وَهُمَا عَلى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَان
يَتَسَاقَطَانِ لَئِآلئا مَنْثُورة ... مِن بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمانِ
وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيَفَ مَجْلِسُه مَعَ الْـ ... مَحْبُوبِ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ
وَتَدُورُ كَاسَات الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا ... بِأَكُفٍ أقمارٍ من الْولْدَانِ
يَتَنَازَعَانِ الكَأْسَ هَذَا مَرَّة ... وَالْخُودُ أُخرَى ثُمَّ يَتَكِئَانِ(2/520)
فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأيْتَ مَعْـ ... ــشُوقَيْنِ بَعدَ البُعْدِ يَلْتقِيانِ
غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكَّدٍ ... وَهُمَا بثَوْبِ الوَصْلِ مُشْتَمِلانِ
أَتَرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنَ ذَا الْعَيْشِ لا ... وَحَياةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ
وَيَزِيدُ كُلّ مِنْهُمْ حُبًّا لِصَا ... حِبِهِ جَدِيدًا سَائِرَ الأَزْمَانِ
وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًا بَعْدَهُ ... مُتَسَلْسَلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانٍ
فَالْوَصُلُ مَحْفُوفٌ بِحُبٍ سَابِقٌ ... وَبِلاحِقِ وَكِلاهُمَا صِنْوَانِ
فَرْقٌ لَطِيفٌ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ ذَا ... يَدْرِيْهِ ذُو شُغْلٍ بِهَذَا الشَّانِ
وَمَزِيدُهُم فِي كُلّ وَقْتٍ حَاصِلٌ ... سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ
يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ ... جَدَّ الرَّحِيل وَلَسْتَ بِالْيَقْظَانِ
سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأولى ... قَنَعُوا بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْفَانِ
وَرَأَيْت أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا ... فَتَبَعْهُم فَرَضِيتَ بِالْحِرْمَانِ
لَكنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْـ ... ــلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ
مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِالْحُوقِ مَعَ الْقُعُودِ ... عَنْ الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ
وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ... مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمكَانِ
وقَالَ ابن القيم رحمه الله:
فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ... صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ
أَفِقْ قَدْ دَنَى الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ... سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرَّ نَارٍ تَضَرَّمُ
وَبِالسُنَّةِ الْغَرَاءِ كُنْ مَتَمَسِّكًا ... هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ
تَمَسَّكَ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَالِهِ ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ
وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... فَمُرَتِّعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ
وَهَيء جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... مِنِ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ
بِهِ رُسُلِي لَمَّا أَتَوْكَمْ فَمَنْ يَكُن ... أَجَابَ سوَاهُمْ سَوْفَ يُجْزَى وَيَنْدَمُ
وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... لِيَوْمِ بِه تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ(2/521)
وَيَنْصِبُ ذَاكَ الْجِسْرِ مِنْ فَوْقِ مَتْنِهَا ... فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسْلِمُ
وَيَأْتِى اللهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ... فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ
وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقّهُ ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ
وَيَنْشُر دَيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوْضَعُ الْـ ... ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ
فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... وَلا مُحْسِنٌ مِن أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ
وَيَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيئ بِمَا جَنَى ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهيْمِنِ يَخْتِمُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا ... تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسِمُ
أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ
وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ... فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ
تَقُولُ كِتَابِي فَأْقَرُؤهُ فَإِنَّهُ ... يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ
وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ... أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوْتَهُ فَهُو مُغْرَمُ
فَبَادِرْ إِذَا مَادَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةً ... وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ
وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْت خَلْفُكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَمُ
اللَّهُمَّ ألهمنا القيام بحقك، وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج، يَا قاضى الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأمّلناه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلى الله على مُحَمَّد وَعَلَى آلِه وصحبه أجمعين.
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(2/522)
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تَعَالَى أن يحث أولاده على حفظ القران وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها عَنْهُ كالْبُخَارِيّ ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر لَهُ استخَرَجَ المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذَلِكَ.
فمثلاً يجعل لمن حفظ القران على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أَوْ أزيد أَوْ أقل حسب حاله فِي الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان الْبُخَارِيّ ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذَلِكَ ستة آلاف.
فإن عجزوا على حفظها، فالعمدة فِي الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أَوْ الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين من الريالات، فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسُرْعَةِ استخراج ما أُرِيدَ من ذَلِكَ، وما أشكل معناه أَوْ يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسُنَّة هِيَ مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، أَوْ يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد.
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍ ... كَعِلْمِ الشَّرْعِ يُؤْخَذُ عَنْ ثِقَاتٍ
بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأََوَالِي ... لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ
فمن وفقه الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أولاده بذَلِكَ كَانَ سبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنَ الله وَسَبَبًا لِبِرِّهِمْ بِهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ إذ ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سببَا مبَارَكًا يعمل به أولاده مَعَ أولادهم، فيزيد الأجر لَهُ ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النِّيْة إنه القادر على ذَلِكَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
تَمَّ هَذَا الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العليّ(2/523)
العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد أن يعز الإِسْلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين، وأن يلم شعث الْمُسْلِمِين ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إِلَى كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر، ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر، وأن يغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" موعظة "
فَيَا أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشيِّت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منَّا، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ(2/524)
والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" موعظة "
عباد الله تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال واجتهدوا واستعدوا للرحيل فقَدْ قرب الارتحال ومهدوا لأنفسكم صالح الأَعْمَال فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذنت بالفراق، وإن الآخِرَة قَدْ أشرفت للتلاق فتزودا من دار الانتقَالَ إِلَى دار الْقَرَار.
واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال واحذروا التفاخر والتَّكَاثُر فِي الدُّنْيَا بجمَعَ الحطام واكتساب الآثام وَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال فوراءكم المقابر ذات الوحشة والهموم والغموم والكربات وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات.
فسوف ترون ما لم يكن لكم فِي حساب إِذَا نوديتم من الأجداث حفاة عراة غُرلاً مهطعين إِلَى الداعي وتَعَلَّقَ الْمَظْلُومُونَ بِالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بين يدي رب العالمين وحل بكم كرب المقام، واشتد بالخلق فِي ذَلِكَ الموقف الزحام وأُخِذَ المجرمون بالنواصي والأقدام وبرزت جهنم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها والخزنة حولها غلاظ شداد.
وَيُنَادِي عَنْدَ ذَلِكَ العزيز الحميد الجبار فَيَقُولُ: هل امتلأت؟ وَتَقُول هل من مزيد. هنالك ينخلع قلبك وتتذكر ما فرطت فيه من الأوقات وتتندم ولات ساعة مندم، وتتمنى أن لو زيد فِي الحسنات وخفف من السيئات ولكن أنَّى لَكَ هَذَا وهيهات {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
شِعْرًا: ... لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالْوَادِي الْمَرِيعِ ... تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيحَ الضُّلُوعِ
عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُو ... عَلَى أَعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيعِ(2/525)
جج
تُرَدِدُ صَوْتُ بَاكِيَةٍ عَلَيْهَا ... رَمَاهَا الْمَوْتُ بِالأَهْلِ الْجَمِيعِ
فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وأَدَالَ مِنْهُ ... غَرَامًا عَاثَ فِي قَلْبٍ صَرِيعِ
عَجِبْتُ لَهَا تُكَلَّمُ وَهِي خَرْسَا ... وَتَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةُ الدُّمُوعِ
فَهِمْتُ حَدِيثِهَا وَفَهِمْتُ أَنِّي ... مِنَ الْخُسْرَان فِي أَمْرٍ شَنِيعٍ
أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيسًا ... وَتَشْربُ مِنْهُ بِالْكَأْسِ الْفَظِيعِ
وَهَا أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْد نَفْسِي ... وَتَضْيِيعِ الْحَيَاةِ مَعَ الْمَضِيعِ
وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ الْيَوْمَ أَمْرِي ... لأَرْسَلْتُ الْمَدَامِعِ بِالنَّجِيعِ
أَلا يَا صَاحِ وَالشَّكْوَى ضُرُوبٌ ... وَذِكْرُ الْمَوْتِ يَذْهَبُ بِالْهُجُوعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيرَ أَخَاكَ دَمْعًا ... فَمَا فِي مُقْلَتَيْهِ مِنْ الدُّمُوعِ
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين وأيقظ قلوبنا وقلوبكم من الغَفْلَة وارزقنا وَإِيَّاكُمْ الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إِلَى الدار الباقية، أنَّ مِنْ أَضَرِّ ما على الإِنْسَان طول الأمل.
ومعنى ذَلِكَ استشعار طول البقاء فِي الدُّنْيَا حَتَّى يغلب على الْقَلْب وينسى أَنَّهُ مُهَدَّدٌ بالموت فِي كُلّ لحظة، ولا بد منه وكل ما هُوَ آت قريب فتأهب لساعة وَدَاعَكَ من الدُّنْيَا وخروجك مَنْهَا.(2/526)
وكن يَا أخي على حذر من مفاجأة الأجل فإنك عرض للآفات، وهدف منصوب لسهام الْمَنَايَا، وإنما رأس مالك الَّذِي يمكنكك إن وفقك الله أن تشتَرَي به سعادة الأبد هَذَا العمر.
قَالَ الله جل وعلا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} الآية، فإياك أن تنفق أوقات عمرك وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خَيْر فيه ولا منفعة فيطول حزنك وندامتك وتحسرك بعد موتك.
واجعل ما يلي من الآيات نصب عينيك دَائِمًا لتحثك على الإستعداد ليوم المعاد.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}
وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}
وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} .
وقوله تَعَالَى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} الآية.
وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
وقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .
وقال جَلَّ وَعَلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .
ونحو هَذِهِ الآيات التي مرت عَلَيْكَ فَإِنَّ كنت مؤمنًا حَقِيقَة فاشعر قلبك(2/527)
تلك المخاوف والأخطار، وأكثر فيها التفكر والاعتبار لتسلب عَنْ قلبك الرَّاحَة والقرار فِي هَذِهِ الدار فتشتغل بالجد والاجتهاد والتشمير للعرض على الجبار.
وتفكر أَوَّلاً فيما يقرع سمَعَ سكَانَ القبور من شدة نفخ الصور، فَإِنَّهَا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عَنْ رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
قَالَ الله جل جلاله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} .
فتصور نفسك إنتبه يَا أخي لهَذَا الْيَوْم العَظِيم الَّذِي لَيْسَ عظمة مِمَّا يوصف، ولا هوله مِمَّا يكيف، ولا يجري على مقدار مِمَّا يعلم فِي الدُّنْيَا ويعرف، بل لا يعلم مقدار عظمه ولا هوله إلا الله تبارك وتَعَالَى، وما ظنك بيوم عَبَّرَ الله تبارك وتَعَالَى عَنْهُ بَعْض ما يكون فيه بشَيْء عَظِيم. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، وماذا عَسَى أن يَقُولُ القائل فيه وماذا عَسَى أن يصف الواصف به الأَمْر أعظم والخطب أكبر والهول أشنع كما قَالَ القائل:
وما عَسَى أنْ أَقُولَ أَوْ أَقُومُ بِهِ ... الأَمْر أَعْظَمُ مِمَّا قِيْل أَوْ وُصِفَا
وقَالَ آخر:
يَضْحَكُ الْمَرءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ ... وَيَرُومُ الْبَقَاءَ وَالموتُ رَامَهْ
ويَمْشِي الْحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ ... وَيُخْلِي حَدِيثُ يَومِ الْقِيَامَهْ
وَلأَمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ ... وَنَفَى فِي الظَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ
صَاحَ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصْرهُ 10 ... فَمُحَالٌ بِأنْ تُطِيقَ تَمَامَهُ
عَجِزَ الْوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا ... لَمْ نَجِئْ مِن بحَارِهِ بِكضَامَهْ(2/528)
ج
فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا ... وَدَعِ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ
فتصور نفسك وقَدْ خرجت من قبرك متغيرًا وجهك مغبرًا بدنك من تراب قبرك مبهوتًا من شدة الصعقة، قَالَ تَعَالَى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} .
وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} الآية. وقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .
وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} .
وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فتفكر فِي الخلائق ورعبهم وذلهم واستكانتهم عَنْدَ الانبعاث خوفًا من هَذِهِ الصعقة وانتظارًا لما يقضى عَلَيْهمْ من سعادة أَوْ شقاوة.
قَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} .
شِعْرًا: ... مَنْ كَانَ يُوحِشْهُ تَبْدِيل مَنْزِلِهِ ... وَأَنْ يُبَدَّل مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَهَا ... عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِنْ هَا هُنَا وَهُنَا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَتِهِ ... فَرْدًا وَقَدْ فَارَقَ الأَهْلِينَ وَالسَّكَنَا
يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ ... وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا
وَلَمْ أَعُدْ مَكَانًا لِلنِّزَالِ وَلا ... أَعَدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غِرَّةً وَمُنَا
إِنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوَالَى جُودُهُ أَبَدَا ... وَيَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِن طَالِبِيهِ دَنَا(2/529)
فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الجُوُدِ وَاكِفةٌ ... سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ وَالْمِنَنَا
آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وَحْشَتُنَا ... وَأَلْطَفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا
نَحْنُ الْعُصَاةُ وَأَنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا ... وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا
فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأسَاهَا وَشِدَّتِهَا ... أَوْلَى فَمَنْ ذَا الَّذِي فِيهَا يَكُونُ لَنَا
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، اغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عَنْ المعاصي وتلين الْقَلْب القاسي، وتذهب الفرح بالدُّنْيَا وزينتها وزخارفها ولذاتها.
وتحثك على الجد والاجتهاد فِي الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.
قَالَ بَعْضهمْ: فضح الدُّنْيَا وَاللهِ هَذَا الموت فلم يترك فيها لذي عقلٍ فرحًا.
وقَالَ آخر: ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.
وقَالَ آخر: من ذكر الموت هانَتْ عَلَيْهِ مصائب الدُّنْيَا.
وقَالَ آخر: من لم يخفه فِي هَذِهِ الدار ربما تمناه فِي الآخِرَة فلا يؤتاه.(2/530)
وقَالَ آخر يوصى أخًا لَهُ: يَا أخي احذر الموت فِي هَذِهِ الدار من قبل أن تصير إِلَى دارٍ تتمنى بها الموت فلا يوَجَدَ.
وقَالَ آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كَانَ أمرًا مقدارًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عَنْ دار الغرور، والاستعداد والإنابة إِلَى دار الخلود، والتفكير والنظر فيما تقدم عَلَيْهِ وفيما يصير أمرك إليه.
ويهون عَلَيْكَ مصائب الدُّنْيَا ويصغر عندك نوائبها، فَإِن كَانَ سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كَانَتْ الأُخْرَى كنت مأجورًا مَعَ النِّيْة الصَّالِحَة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.
واعْلَمْ أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالْقَلْب وإقبالك على ما تذكره. قَالَ الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فأي فائدة لَكَ رَحِمَكَ اللهُ فِي تحريك لسانك إِذَا لم يخطر بقلبك.
وإنما مثل الذكر الَّذِي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغَفْلَة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمَعَ لَهُ ذهنك وتجعله نصب عينيك ومثالاً حاضرًا بين يديك، وأن تنظر إِلَى كُلّ ما تحبه من الدُّنْيَا من ولدٍ أَوْ أَهْلِ أَوْ مالٍ أَوْ غير ذَلِكَ، فتعلم عِلْمًا لا يشوبه شك إِنَّكَ مفارقه فِي الحياة أَوْ فِي الْمَمَات، وهذه سُنَّة الله الجارية فِي خلقه وحكمه المطرد.
وتشعر هَذَا قلبك وتفرغ لَهُ نفسك فتمنعها بذَلِكَ عَنْ الميل إِلَى ذَلِكَ المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.
شِعْرًا: ... فَعُقْبَى كُلِّ شَيْءٍ نَحْنُ فِيهِ ... مِن الْجَمْعِ الْكَثِيفِ إِلَى شَتَاتِ
وَمَا حُزْنَاهُ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمٍ ... يُوَزَّعُ فِي الْبَنِينِ وَفِى الْبَنَاتِ
وَفِيمَنْ لَمْ نُؤَهِّلْهُُمْ بِفَلسٍ ... وَقِيمَةِ حَبَّةٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ(2/531)
ج
وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ ... وَقَدْ صِرْنَا عِظَامًا بَالِيَاتِ
كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ ... وَلَمْ يَكُ فِيهِمْ خِلٌّ مُؤاتِ
واعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أن مِمَّا يعينك على الفكرة فِي الموت ويفرغك لَهُ ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الَّذِينَ مضوا قبلك وتقدموا أمامك.
كَانُوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.
ويتذكر أيضًا ما كَانُوا عَلَيْهِ من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم وما كَانُوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كَانُوا فِي نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاؤا من محابهم يتنعمون.
وفى أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزَوَال، ولا يهمون بانتقَالَ، ولا يخطر الموت لَهُمْ على بال، قَدْ خدعتهم الدُّنْيَا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.
فلم تزل تقرب لَهُمْ بعيدها، وترفع لَهُمْ مشيدها، وتلبسهم غضَّها وجديدها، حَتَّى إِذَا تمكنت مِنْهُمْ علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشف لَهُمْ حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.
فوثَبِّتْ عَلَيْهمْ وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قلة المختنق، فكم عَلَيْهمْ من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقُلُوبٍ من الفرح والسرور لفقدهم خالية، وأنشدوا فِي هذا المعنى:(2/532)
وَرَيَّانَ مِنْ مَاء الشَّبَابِ إِذَا مَشَى ... يَمِيدُ عَلَى حُكْمِ الصِّبَا وَيَمِيدُ
تَعَلَّقَ مِنْ دُنْيَاهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ ... خَلُوبًا لأَلْبَابِ الرِّجَالِ تَصِيدُ
فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيدٍ وَقَائِم ... وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدُ
خَلا بِالأَمَانِي وَاسْتَطَابَ حَدِيثَهَا ... فَيَنْقُصُ مِنْ أَطْمَاعِهِ وَيَزِيدُ
وَأَدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءِ وَهِيَ بَعِيدَةُ ... وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهُوَ بَعِيدُ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْتِ رَمْيَةٌ ... فَرَاحَ بِهَا الْمَغْرُورُ وَهُوَ حَصِيدُ
وَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا ... وَعَادَ حَدِيثًا يَنْقَضِي وَيَبِيدُ
كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَذَّة ... وَلا طَلَعَتْ فِيهِ عَلَيْهِ سُعُودُ
تَبَارَكَ مَنْ يُجْرِي عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ ... فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْهُ مَحِيدُ
" فَصْلٌ ": ويروى أن إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام لما مَاتَ قَالَ الله جل جلاله: كيف وجدت الموت؟ قَالَ: كسفودٍ جعل فِي النار ثُمَّ أدخل فِي صوف رطب ثُمَّ جذب. فقَالَ الله تَعَالَى: أما أَنَا لَقَدْ هوناه عَلَيْكَ يَا إبراهيم.
ويروى عَنْ مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام أنه لما صَارَت روحه إِلَى الله تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُوَسى كيف وجدت الموت؟ فقَالَ: وجدت نفسي كالعصفور حين يلقى فِي المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير. ويروى عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ. ويروى أن عمر قَالَ لكعب الأحبار: حدثنا عَنْ الموت. فقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كغصن كثير الشوك أدخل فِي جوف رجل فأخذت كُلّ شوكة بعرق ثُمَّ جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى.
وقَالَ القرطبي: لتشديد الموت على الأَنْبِيَاء فائدتان أحدهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم ولَيْسَ ذَلِكَ نقصًا ولا عذابًا بل هُوَ كما جَاءَ أن أشد النَّاس بَلاءً الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل. وَالثَّانِيَة تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقَدْ يطلع الإِنْسَان على بَعْض الموتى فلا يرى عَلَيْهِ حركةً ولا قلقًا ويرى سهولة(2/533)
خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه.
فَلَمَّا ذكر الأَنْبِيَاء الصادقون فِي خبرهم شدة ألمه مَعَ كرامتهم على الله تَعَالَى قطع الخلق بشدة الموت الَّذِي تقاسيه مطلقًا لأخبار الصادقين عَنْهُ ما خلا الشهيد فِي سبيل الله. انتهى.
أخَرَجَ الطبراني عَنْ قتادة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة» .
أخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا فِي المرض والكفارات وابن منيع فِي مسنده مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة مرفوعًا: «يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق تكلم به فِي أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار» . قُلْتُ: بلى. قَالَ: «لا إله إلا الله يحيى ويميت وَهُوَ حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والْبِلاد والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كُلّ حال والله أكبر كبيرًا وكبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكَانَ. اللَّهُمَّ إن كنت أمرضتني لتقبض روحي فِي مرضي هَذَا فاجعل روحي فِي أرواح من سبقت لَهُمْ منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الَّذِينَ سبقت لَهُمْ منك الحسنى.
فإن مت فِي مرضك ذَلِكَ فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قَدْ اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك» . وأخَرَجَ الطبراني عَنْ أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا: «من قَالَ عَنْدَ موته: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلى العَظِيم لا تطعمه النار» . وأخَرَجَ الحاكم عَنْ سعيد بن أبي وقاص أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هل أدلكم
على اسم الله الأعظم دُعَا يونس {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأَيُّمَا مُسْلِم دَعَا بِهَا فِي مرض موته أربعين مرة فمَاتَ فِي مرضه ذَلِكَ أعطى أجر شهيد وان برئ بَرئ مغفورًا لَهُ» .(2/534)
شِعْرًا: ... بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي الْوَرَى سَتُعَذَّبُ ... فَنَاجٍ بِخَدْشٍ وَالْكَثِيرُ يُكَبْكَبُ
أَمَا يَسْتَحِي مَنْ كَانَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ ... (ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ)
(وَتُجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ)
وَأَنْتَ بِمَا لا يُرْتَضَى كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَمَا تَتَّقِي مَوْلاكَ فِي كُلِّ فِعْلَةِ
تَبِيتُ بِِلَذَّاتِ وَتَلْعَابِ طِفْلَةٍ ... (وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ)
(وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ)
فَلَوْ تَسْتَطِعْ أَخْذَ التَّقِي وَرَحْلِهِ ... أَخَذْتَ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ وَمَحَلِّهِ
وَأَنْتَ عَلَى كَنْزِ الْقَلِيلِ وَجِلِّهِ ... (تُبَاهِي بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلَّهِ)
(وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي الْمَعَاصِي وَتُذْبِبُ)
وَتُعْرِضُ عَنْ فِعْلِ المَرَاضِي وَتَرْتَضِي ... فِعَالاً تُنَافِي فِعْلَةَ الدينِ الرَّضِي
أَمَا تَرْعَوِي يَا مَنْ عَلَى لَهْوَهِ رَضِي ... (أَمَا الْعُمْرُ يَفْنَى وَالشَّبِيبَةَ تَنْقَضِي)
(أَمَا الْعُمْرُ آتٍ وَالْمَنِيَّةَ تُطلبُ)
فَلا تَغْتَرِرُ وَاحْذَرْ فَدُنْيَاكَ يَا الْغَدِي ... إِذَا أَضْحَكتكَ الْيَوْم أَبْكَتْكَ فِي الْغَدِي
أَتَلْهُو بِدَارٍ لا تَدُومُ لِمَرْغَدِي ... (أَمَا تَذْكُر الْقَبْرَ الْوَحِيشَ وَلَحْدَهَ)
(بِهِ الْجِسْمُ مِنْ بَعْدِ الْعِمَارَةِ يَخْرَبُ)
وَتَقْتَتِلُ الدِّيدَانُ لا شَكَّ حَوْلَهُ ... وَمَا أَحَدٌ يَنْعِي وَلا يَعِ عَوْلَهُ
أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى الْعَزِيزَ وَطَوْلَهُ ... (أَمَا تَذْكُر الْيَوْمَ الطَّوِيلَ وَهَوْلَهُ)
(وَمِيزَانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ)
فَتُوزَنُ أَعْمَالٌ فَتُخْزَى رِجَالُهُ ... وَكُلٌّ يُجَازِي مَا جَنَتُهُ فِعَالُهُ
وَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَجَالُهُ ... (أَمَا جَاءَ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ)(2/535)
(إِذَا هَتَكَ الْعَبْدُ الْمَحَارِمَ يَغْضَبُ)
فَيَهْتِكُ سِتْرَ الظَّالِمِينَ بِغِرَّةٍ ... وَكُلُّهُمُوا عَضَّ الأَكُفَّ بِحَسْرَةٍ
وَلاتَ مَنَاصٍ حِينَ جَادُوا بِعَبْرَةٍ ... (أَمَا الْوَاحِدُ الدَّيَّانُ جَلَّ بِقُدْرَةٍ)
(يُنَاقَشُ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ وَيَحْسِبُ)
فَيُنْصِفُ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ لَهُ افْتَرَى ... وَيَقْصِمُهُ فَيَبْقَى مُقَحْطَرَا
أَمَا زَاجِرٌ يَزْجُرْكَ يَا مَنْ تَبَخْتَرَى ... (أَمَا تَذْكُرُ الْمِيزَانَ وَيْحَكَ مَا تَرَى)
(إِذَا كُنْتَ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ مُكَبْكَبُ)
أَمَا تَمْشِين بَيْنَ الْوَرَى مُتَوَاضِعًا ... أَمَا تَتَّقِي رَبًا آلاتُكَ خَاضِعًا
أَحَاطَكَ ظَهْرًا ثُمَّ بَطْنًا وَرَاضِعًا ... (كَأَنَّكَ مَا تَلْقَى عَلَى الأَرْضِ مَوْضِعًا)
(وَمِنْ بَعْدِ تَلْهُو بِالشَّبَابِ وَتَلْعَبُ)
رَأَيْتُ وَلَمْ تَشْعُرْ نَذِيرًا وَنَاهِيًا ... وَكُنْتَ بِدُنْيَاكَ الدَّنِيَّةِ سَاهِيَا
سَهِرْتَ وَآثَرْتَ الْغِنَى وَمَلاهِيًا ... (تَرُوحُ وَتَغْدُو فِي مُرَاحِكَ لاهِيًا)
(وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ الْمَنِيَّةِ تَنْشبُ)
أَتَحْسَبُ أَنَّ اللهَ أَنْشَى الْوَرَى سُدَى ... سَيَأْتِيكَ مَا مِنْهُ تَكُونُ مُكَسَّدَا
وَتُنْزَعُ رَوْحٌ تَبْقَى مُجَسَّدَا ... (وَتَبْقَى صَرِيعًا فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا)
(وَجِسْمُكَ مِنْ حَرٍّ بِهِ يَتَلَهَّبُ)
وَمَالَكَ عَنْ دَفْعِ الأَذِيَّةِ صَوْلَةٌ ... وَمَالَكَ مُذْ جَاءَ الْمُقَدَّرُ حِيلَةٌ
تَنُوحُ وَتَبْكِى بِالدُّمُوعِ أَهْيَلَة ... (وَحَوْلَكَ أَطْفَالٌ صِفَارٌ وَعَوْلَةٌ)
(بِهِمْ بَعْدَ مَغْذَاكَ الْبَنُونُ تَشَعَّبُ)
أَيَادِي سَبَا خَلْفًا وَيَمْنَى وَيَسْرَةً ... وَكُنْتَ رَهِينًا لِلْمَنَايَا وَقَسْرَةً
وَجَاءَكَ مَا أَوْدَى البَهَا وَمَسَرَّةً ... (وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكَ بِالدَّمْعِ حَسْرَةً)
(وَخَلَّفْتَ لِلْوُارَّثِ مَا كُنْتَ تَكْسِبُ)
وَتَسْعَى لَهُ مِنْ تَالِدٍ وَمُحَصَّلٍ ... وَتَسْهَرُ لَوْ فِي سَدِّ يَأْجُوجَ تُوصِلُ(2/536)
.. وَبِتَّ وَلَمْ تَسْمَعْ وِصَاةً لِمُوصِلٍ ... (تُعَالُجَ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ)
(فَلا رَاحِمٌ يُنْجِي وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ)
وَضَاقَتْ عَلَيْكَ الرُّوحُ بَعْدَ مُرُوجِهَا ... وَأَنْزَلْتَ عِنْدَ الْبَابِ بَعْدَ بُرُوجِهَا
وَقُرَّبتِ الأَكْفَانُ بَعْدَ عُرُوجِهَا ... (وَغُمِّضَتِ الْعَيْنَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا)
(وَبُسِّطَتِ الرِّجْلان وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ)
وَقَامَ سِرَاعُ النَّاسِ لِلنَّعْشِ يحْضِرُوا ... وَحَفَّارُ قَبْرٍ فِي الْمَقَابِرِ يَحْفُرُ
وَجَدَّ الَّذِي فِي حَوْلِ نَادِيكَ حُضَّرٌ ... (وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازِكَ أَحْضَرُوا)
(حُنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا)
وَصَبُّوا عَلَيْكَ الْمَاءَ وَأَنَّ سُمُوعَهُ ... وَحَنَّ قَرِيبٌ بِالْبُكَا وَرُبُوعُهُ
وَكُلُّ شَقِيقٍ جَاءَ جَدَّ زُمُوعُهُ ... (وَغَاسِكُكَ الْمَحْزُونُ تَبْكِي دُمُوعُهُ)
(بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ)
كَصَيِّبِ مُزْنٍ وَدْقُهُ مُتَفَرِّقٌ ... حَزِينٌ وَمِنْ مَا دَمْعِهِ مُتَفَرَّقٌ
وَكُلُّ رَحِيمٍ قَلْبُهُ مُتَحَرِّقٌ ... (وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ)
(يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ)
وَجَاؤُوا بِأَثْوَابٍ وَطِيبٍ بِطَيِّهَا ... (وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا)
(وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا)
وَخَاطُوا الَّذِي يَحْتَاجُ وَأَخْرَجُوا ... طَرَأيِدَ لِلتَّحْزِيمِ مِنْهَا وَأَدْلَجُوا
جَمِيعًا بِتَجْهَازٍ وَجِسْمِكَ أَدْرَجُوا ... (وَأَلْقُوكَ فِيهَا بِيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا)
(عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوا)
وَشَالُوكَ مِنْ بَيْنِ الأَخِلا مُجَرَّدًا ... وَمَالَكَ خَلْفًا قَدْ تَرَكْتَ وَخُرَّدَا
وَصَلَّوْا وُقُوفًا ثُمَّ زَقَّوْكَ وُرَّدًا ... (وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرَانَ مُفْرَدَا)
(تَضُمُّكَ بَيْدَاءٌ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ)
بَعِيدٌ عَلَى قُرْبِ الْمَدَى يَعْلَمُونَهُ ... وَسَائِلُكَ الْمُجْهَادُ لا يَسْمَعُونَهُ(2/537)
.. وَقَبْرُكَ قَامُوا بَعْدَ ذَا يَسِمُونَهُ ... (وَرَاحُوا لِمَّا خَلَّفْتَ يَقْتَسَمُوْنَهُ)
(كَأَنَّكَ لَمْ تَشْقَى عَلَيْهِ وَتَتْعَبُ)
وَتَسْهَرُ حَتَّى كَادَ ظَهْرُكَ يَنْهَصِرُ ... (وَجِسْمُكَ مَهْزُولٌ بِسَعْيِكَ مُنْعَصِرْ)
َوَخَّلْفَتُه طُرًا وَمَالَكَ مُنْتَصِرْ ... (فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ حَسْبُكَ فَاقْتَصِرْ)
(وَخَفْ مِنْ جَحِيمٍ حَرُّهَا يَتَلَهَّبُ)
وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ مُسْبِلا ... وَكُنْ صَالِحًا بَرًّا تَقِيًّا مُحْسَبْلا
وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَكُنْ مُتَكَرْبِلا ... (وَجَانِبْ لِمَا يُرْدِيكَ فِي حُفْرَةِ الْبَلا)
(فَكُلٌّ يُجَازَى بِالَّذِي كَانَ يَكْسِبُ)
مَآكِلُ مَا نَحْتَاجُ مِنْهَا لِقُوَّتِنَا ... شَبِيهُ حَرَامٍ وَالسَّمِيعُ لِصَوْتِنَا
يُجَازِي بِعَدْلِ لا مَفَرَّ لِفَوْتِنَا ... (إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا)
(فَكَيْفَ يَطِيبُ الْيَوْمَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ)
وَقُدَّامُنَا قَبْرٌ بِهِ الْمَرْءُ أَلْكَنُ ... وَلَوْ أَنَّهُ سَحْبَانُ مَأثمَّ أَلْسَنُ
وَكَيْفَ رَبَتْ مِنَّا لُحُومٌ وَأَعْكُنُ ... (وَكَيْفَ يَطِيبُ الْعَيْشُ وَالْقَبْرَ مَسْكَنُ)
(بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ)
وَخَوْفٌ بِهِ حُزْنُ طَوِيلٌ وَرَعْشَةٌ ... وَلَيْتَكُ تَسْلَمْ لا يُصِيبُكَ نَهْشَةٌ
وَمُنْكَرُ إِذْ يَسْأَلْ يَهُلَكْ وَدَهْشَةٌ ... (وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ)
(وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيَذْهَبُ)
وَمِنْ بَعْدِ ذَا يَوْمٌ وَإِنَّ حِسَابَهُ ... أَلِيمٌ مَهُولٌ مُفْزِعٌ وَعِقَابُهُ
عَظِيمٌ لِعَاصٍ مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ ... (فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ)
(فَهَادِمُ لَذَّاتِ الْفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ)
فَيَأْخُذُ أَطْفَالاً وَيَأْخُذُ رِمَّةً ... وَيَأْخُذُ شُبَّابًا وَيَهْدِمُ نِعْمَةَ
فَخَلِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ وَعَسْمَةً ... (وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً)
(وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهُ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ)(2/538)
.. وَخُذْ بِيَدِي نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمُحَمَّدِي ... وَكُنْ بِي رَحِيمًا وَاسْتَقِمْ بِي عَلَى الْهُدَى
وَلا تُخْزِنِي فِي الْحَشْرِ وَأَطْلِقْ مُقَيَّدِي ... (وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي)
(فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ)
وَجُودُكَ مَنَّانِي وَلَوْ كُنْتَ أَحْقَرَا ... وَعَفْوَكَ رَجَا مَنْ هَفَا وَتَقَحْطَرَا
وَإِنِّي وَأَنْ كُنْتَ الْبَعِيدِ وَمِنْ وَرَى ... (فَمَا لِي إلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الْوَرَى)
(عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ)
وَأَنْتَ مَلاذٌ لِلْوَرَى فِي رُجُوعِهَا ... مُجِيبٌ لِمَنْ يَدْعُو بِهَامِي دُمُوعِهَا
فَتَرْجُوكَ تَسْمَعْ مِنْ صَمِيمِ سَمِيعِهَا ... (وَنَدْعُو بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا)
(وَخَاتِمَةِ الْعُمْرِ الَّتِي هِيَ أَطْلُبُ)
وَأَسْأَلُ طُولُ الدَّهْرِ مَا نَآءَ طَارِقُ ... (وَصَلِّ إِلَهِي كُلَّ مَا نَاضَ بَارِقُ)
(وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا لاحَ كَوْكَبُ)
وَمَا حَنَّ رَعْدٌ فِي دِيَاجِي لَيَالِهِ ... وَمَا انْهَلَّ سَارٍ مُغْدِقٍ مِنْ خِلالِهِ
وَمَا أَمَّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلِّ وَالِهِ ... (عَلَى أَحْمَدِ الطُّهْرِ النَّذِيرِ وَآلِهِ)
(فَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ طُرًّا وَأَطْيَبُ)
وَأَكْمُلَ مَنْ حَلَّ الصَّفَا وَالْمُحَصَّبَا ... وَأَحَلاُهُموا خَلْقًا وَخُلْقًا وَمَنْصِبَا
وَأَصْحَابِهِ مَا اخْضَرَّ عُودٌ وَأَخْصَبَا ... (كَذَاكَ سَلامُ اللهِ مَا هَبَّتِ الصَّبَا)
(وَهَبَّتْ شَمَالٌ مَعَ جَنُوبٍ وَهَيْدَبُ)
آخر: ... إِلَى كَمْ تَمَاى فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... وَكَمْ هَكَذَا نَوْمٌ إِلَى غَيْرَ يَقْظَةِ
لَقَدْ شَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنْهُ تُشْتَرَى ... بِمِلْءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيَّةَ ضَيْعَةِ
أَيُنْفَقُ هَذَا فِي هَوَى هَذِهِ الَّتِي ... أَبَى اللهُ أَنْ تُسْوَى جَنَاحَ بَعُوضَةِ
أَتَرْضَى مِن الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَعَيْشَةٍ ... مَعَ الْمَلا الأَعْلَى بِعَيْشِ الْبَهِيمَةِ
فَيَا دُرَّةً بَيْنَ الْمَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةً بِيعَتْ بِأَبْخَسِ قِيمَةِ
أَفَقٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيهِ سَفَاهَةً ... وَسُخْطًا بِرِضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ(2/539)
.. أَأَنْتَ صَدِيقُ أَمْ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيهَا بِكُلِّ مُصِيبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لِمَسَّتْهُمْ لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لَقَدْ بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخِيصَةً ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ
أَلا فَاسْتَفِقْ لا تَفْضَحَنْهَا بِمَشْهَدٍ ... مِنْ الْخَلْقِ إِنْ كُنْتَ ابنَ أُمٍّ كَرِيمَةِ
فَبَيْنَ يَدَيْهَا مَشْهَدٌ وَفَضِيحَةٌ ... يُعَدُّ عَلَيْهَا كُلُّ مِثْقَالِ ذَرَّةِ
فُتِنْتَ بِهَا دُنْيَا كَثِيرٍ غُرُورُهَا ... تُعَامِلْ فِي لَذَّتهِاَ بِالْخَدِيعَةِ
إِذَا أَقْبَلَتْ بَذَّتْ وَإِنْ هِيَ أَحْسَنَتْ ... أَسَاءَتْ وَإِنْ ضَاقَتْ فَثِقْ بِالْكُدورَةِ
وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا مَالَ قَارُونَ لَمْ تَنَلْ ... سِوَى لُقْمَةٍ فِي فِيكَ مِنْهَا وَخِرْقَةِ
وَهَيْهَاتَ تُحْظَى بِالأَمَانِي وَلَمْ تَكُنْ ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ
فَدَعْهَا وَأَهْلِيهَا لِتَغْبِطَهُمْ وَخُذْ ... لِنَفْسِكَ عَنْهَا فَهُوَ كُلُّ غَنِيمَةِ
وَلا تَغْتَبِطْ مِنْهَا بِفَرَحَةِ سَاعَةٍ ... تَعُودُ بِأَحْزَان عَلَيْكَ طَوِيلَةِ
فَعَيْشُكَ فِيهَا أَلْفُ عَامِ وَتَنْقَضِي ... كَعَيْشِكَ فِيهَا بَعْضُ يَوْمِ وَلَيْلَةِ
قَالَ بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ توعيظها: يَا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي فِي حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور قَدْ تشققت، وبالأمور وقَدْ تحققت، وبوجوه المتقين وقَدْ أشرقت، وبرؤوس العصاة وقَدْ أطرقت، قَالَ تَعَالَى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، يَا نفس أما الورعون فقَدْ جدوا، وأما الخائفون فقَدْ استعدوا، وأما الصالحون فقَدْ فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقَدْ نصحوا.
اللَّهُمَّ قوي إيمانَنَا بِكَ وَنَوِّر قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، اللَّهُمَّ يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(2/540)
" فَصْلٌ "
عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم.
فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا» ؟ قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لَقَدْ دعا باسمه الله الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن.
عَنْ سعيد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذ دعي وَهُوَ فدى بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه (لا إله إلا الله، والله اكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ» . رَوَاهُ الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: (يَا ذا الجلال والإكرام) فقال: «قَدْ استجيب لَكَ فسل» . رَوَاهُ الترمذي.
اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عَنْكَ، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك.
يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا، فإنك بالَّذِي أَنْتَ لَهُ أَهْل من عفوك أحق منا بالَّذِي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك.(2/541)
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ هب لَنَا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عَنْ خلقك، واجعل خَيْر أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللَّهُمَّ أغننا بما وفقتنا لَهُ من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية.
اللهم افتح مسامِعَ قلوبنا لذكرك وارزقنا طَاعَتكَ وطاعة رسولك وَوَفِّقْنَا للعمل بِكِتَابِكَ وسُنَّة رسولك.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البَلاء ومن سوء الِقَضَاءِ ومن شماتة الأعداء.
اللَّهُمَّ لَكَ الحمد كله، ولك الملك كله، بيدك الْخَيْر كله، واليك يرجع الأَمْر كله علانيته وسره، أَهْل الحمد والثناء أَنْتَ، لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير.
اللَّهُمَّ اغفر لَنَا جميع ما سلف منا من الذُّنُوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، وَوَفِّقْنَا لعمل صالح ترضى به عنا.
اللَّهُمَّ يَا سامَعَ كُلّ صوت، ويا بارئ النُّفُوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عَلَيْهِ الأصوات، يَا عَظِيم الشأن، يَا واضح البرهان، يَا من هُوَ كُلّ يوم فِي شأن، اغفر لَنَا ذنوبنا إِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم.
اللَّهُمَّ يَا عَظِيم العفو، يَا واسع المغفرة، يَا قريب الرحمة، يَا ذا الجلال والإكرام، هب لَنَا العافية فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.
اللَّهُمَّ يَا حي ويَا قيوم فرغنا لما خلقتنا لَهُ، ولا تشغلنا بما تكلفت لَنَا به،(2/542)
وَاجْعَلْنَا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللَّهُمَّ اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمت بنا أَحَدَا.
اللَّهُمَّ رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لَنَا اليقين الَّذِي لا تسكن النُّفُوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللَّهُمَّ يَا عليم يَا حليم يَا قوي يَا عزيز يَا ذا المن والعطاء والعز والكبرياء يَا من تعنوا لَهُ الوجوه وتخشع لَهُ الأصوات، وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وأكفنا بحلالك عَنْ حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا به رشدنا، وتعصمنا من كُلّ سوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ عَلَيْنَا ديننا وصحة أبداننا.
اللَّهُمَّ يَا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيْل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يَا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.(2/543)
اللَّهُمَّ اعتقنا من رق الذُّنُوب، وخلصنا من أشر النُّفُوس، واذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذُّنُوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللَّهُمَّ طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مَعَ المرحومين من أوليائك، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللَّهُمَّ يَا فالق الحب والنوى، يَا منشئ الأجساد بعد البلى يَا مؤي المنقطعين إليه، يَا كافي المتوكلين عَلَيْهِ، انقطع الرجَاءَ إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عَلَيْكَ نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إِنَّكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك قلبًا سَلِيمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخَيْر الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك باسمك الأعظم الأعز الأجل الأكرم الَّذِي إِذَا دعيت به أجبت وَإِذَا سئلت به أعطيت، ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يَا من عنت لَهُ الوجوه، وخضعت لَهُ الرقاب، وخشعت لَهُ الأصوات، يَا ذا الجلال والإكرام، يَا حي يَا قيوم، يَا مالك الملك، يَا من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير، وبكل شَيْء عليم، لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نستغيث، ومن عذابك نستجير.
اللَّهُمَّ اجعلنا نخشاك حَتَّى كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك.(2/544)
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تسمَعَ كلامنا، وتَرَى مكاننا، وتعلم سرنا، وعلانيتنا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْءٌ من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا، نسألك مسألة المسكين، ونبتها إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير.
اللَّهُمَّ يا من خضعت لَهُ رقابنا، وفاضت لَهُ عباراتنا، وذلت لَهُ أجسامنا، ورغمت لَهُ أنوفنا ... لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا رؤوفًا يَا خَيْر المسؤلين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك نفسًا مطمئنةً، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يَا أرأف الرائفين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك التَّوْفِيق لما تحبه من الأَعْمَال، ونسألك صدق التوكل عَلَيْكَ، وحُسْن الظَّنِ بك يَا رب العالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك حياةً طيبةً، ونفسًا تقيةً، وعيشةً نقية، وميتةً سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين.
{اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التِي قدرت بها على جميع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التِي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع(2/545)
المسلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَوَائِد عَظِيْمَة النَّفْعِ "
واعجبًا منك يضيع منك الشيء القليل وتتكدر، وتتأسف، وقَدْ ضاع أشرف الأَشْيَاءِ عندك وَهُوَ عمرك الَّذِي لا عوض لَهُ، وأَنْتَ عند قَتَّالاتِ الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطَرِيق عَنْ الأَعْمَال الصَّالِحَة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}
وقَالَ آخر: من تفكر فِي قصر العمر المعمول فيه، وفكر فِي امتداد زمان الجزاء الَّذِي بعد البعث اختطف اللحظة من عمره وانتهبها، وعباها فِي الباقيات الصالحات وزاحم كُلّ فضيلة فَإِنَّهَا إِذَا فاتت فلا تدرك أبدًا، ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيلها كاملة، فهم يبالغون فِي كُلّ علم، ويثابرون على كُلّ فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عَنْ بَعْض ذَلِكَ قامت النيات نائبة عَنْهَا.
شِعْرًا: ... الْجَدُّ بِالْجَدِّ وَالْحِرْمَانَ فِي الْكَسَلِ ... فَانْصِبٍ تُصِبْ عَنْ قَرِيبٍ غَايَة الأَمَلِ
ويقول الآخر:
فَكَابِدْ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسَ عَذْوَهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلاع أَنْجُدِ
وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْر مِنْكَ سَبَهْلَلا ... وَلا تَغْبَن بِالنِّعْمَتَيْنِ بَلْ أجْهِدِ
فَمَنْ هَجَرَ اللذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
آخر: ... فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَأحْفَظْ كِتَابَهُ ... فَفِيهِ الْهُدَى حَقًّا وَلِلْخَيْرِ جَامِعُ
هُوَ الذُّخْرُ لِلْمَلْهُوفِ وَالْكِنْزُ وَالرَّجَا ... وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ تُنَالَ الْمَنَافِعُ
وَبِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ مُهِمَّهِ الْهَوى ... بِهِ يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الْفَجَائِعُ
آخر: ... يَا عَاشِقَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ... هَلْ أَخْلَدَ النَّاسَ مَا حَازُوا وَمَا عَمِرُوا
عَلَيْكَ بِاللَّيْلِ فِي الأَذْكَارِ تُعَمِّرهُ ... وَدَعْ مَلَذَّتِهِ الأُخْرَى لِمَنْ كَفَرُوا
لَغَمْسَةٌ فِي جِنَانِ الْخُلْدِ خَاطِفَةً ... تُنْسِيكَ مَا مَرَّ مِنْ بُؤْسٍ لَهُ خَطَرُ(2/546)
" فَائِدَةٌ عَظِيْمَة النَّفْعِ "
قَالَ أحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَلَيْكَ يَا أخي بمحاربة الشيطان، وقهره، وَذَلِكَ لخصلتين أحدهما أنه عدو مضل مبين، لا مطمَعَ فيه بمصالحة واتقاء شره أبدَا، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلاً فلا وجه إِذًا للآمن من هَذَا الْعَدُو والغَفْلَة عَنْهُ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، والخصلة الثَّانِيَة أنه مجبول على عداوتك، ومنتصب لمحاربتك، فِي الليل والنَّهَارَ يرميك بسهامه، وأَنْتَ غَافِل عَنْهُ، ثُمَّ هُوَ لَهُ مَعَ جميع الْمُؤْمِنِينَ عداوةٌ عامةٌ، ومَعَ المجتهد فِي العبادة والعلم عداوةٌ خاصةٌ، ومعه عَلَيْكَ أعوان نفسك الأمارة، بالسُّوء، والهوى، والدُّنْيَا، وَهُوَ فارغٌ وأَنْتَ مشغول، وَهُوَ يراك وأَنْتَ لا تراه، وأَنْتَ تنساه وَهُوَ لا ينساك، فإذًا لا بد من محاربته، وقهره، وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بِاللهِ والإكثار من ذكره.
شِعْرًا:
اهْجُرْ فِرَاشَكَ جَوْفَ الليْلِ وَارْمِ بِهِ ... فَفِي الْقُبُورِ إِذَا وَافَيْتَهَا فُرُشُ
مَا شِئْتَ إِن شَيئْتهَا فُرْشًا مُرَّقَشة ... أَوْ رَمْضَة فَوْقَهَا الْمَسْمُومَةُ الرُّقُش
هَذَا عَلَيْهِ قَرِير الْعَيْنِ نَائِمُهَا ... وذا عَلَيْهِ سَخِينَ الْعَيْنِ يُنْتَهَشُ
شَتَّانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حَالِهِمَا ... هَلْ يَسْتَوِي الرَّيُّ فِي الأَحْشَاءِ وَالْعَطَشُ
فَبَادِرِ الصُّبْحَ أَنْ تَغْشَى طَلائِعَهُ ... وَيَلْتَقِي الأَحْيَانِ الرُّومُ وَالْحَبُشُ
كَمْ فَازَ دُونَكَ بِاللَّذَّاتِ مِنْ رَجُلٍ ... وَافَى بِهِ دُلُجَ الأَسْحَارِ وَالْغَبَشُ
قَامُوا وَنِمْنَا وَكُلٌّ فِي تَقََلُّبِه ... لِنَفْسِهِ جَاهِدًا يَسْعَى وَيَجْتَوِشُ
زَكُّوا نُفُوسَهُمْ بِكُلِّ صَالِحَةٍ ... وَطَيَّبُوهَا فَلا عَيْبٌ وَلا وَقشُ
وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/547)
(فَصْلٌ في فَوَائِد منوعة)
قَالَ ابن القيم: واعلم أن الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجِبُه الشهوة.
فان الشهوة إما إن تَكُون توجب ألمًا وعقوبةً.
وإما أن تقطع لذةً أكمل مِنْهَا.
وإما أن تضيع وقتًا أضاعته حَسْرَة وندامة.
وإما أن تثلم عرضًا توفيره وانفع للعبد من ثلمه.
وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خَيْرٌ من ذهابه.
وإما أن تسلب نعمةً بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة.
وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذَلِكَ.
وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا لا يقارب لذة الشهوة.
وإما أن تنسي عِلْمًا ذكره ألذ من نيل الشهوة.
وإما أن تشمت عدوًا وتحزن وليًا.
وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفةً لا تزول، فَإِنَّ الأَعْمَال تورث الصفات والأَخْلاق.. أهـ.
وقَالَ إبراهيم بن بشار: ما رَأَيْت فِي جميع من لقيته من العباد والْعُلَمَاء والصالحين والزهاد أَحَدًا يبغض الدُّنْيَا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، وَرُبَّمَا مررنا على قوم قَدْ أقاموا حائطًا أَوْ دارًا أَوْ حانوتًا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه فعاتبته على ذَلِكَ، فقَالَ: يَا بشار اقرأ ما قَالَ الله تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبًا وذخرًا وجمالاً، ثُمَّ بكى وقَالَ صدق الله عز اسمه فيما يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ولم يقل إلا ليعمروا الدُّنْيَا ويجمعوا الأموال ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، وجعل يومه كله يردد ذَلِكَ وَيَقُولُ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .(2/548)
شِعْرًا: ... صَرَفْتُ إِلَى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجْهَتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرَبِّي
إِلَى الْمَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهْ ... مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي الْمَتَاعِبِ
إِلَى الصَّمَدِ الْبَرِّ الَّذِي فَاضَ جُودُهُ ... وَعَمَّ الْوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيْلي إِذَا زَلَّتْ بِيَ النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَاسْمَحْ غِفَارٍ وَأَكْرمَ وَاهِبِ
فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ
وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِينًا وَيَحْمِينِي وَبِيَّ الْمَكَاسِبِ
إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكَ دُونِي قُصُورَهُمْ ... وَنَهْنَهَ عَنْ غِشْيَانِهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إِلَى بَابِ الْمُهَيْمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنَادِي بِاسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ
فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الْكَوَاكِبِ
كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَى وَالْغَيَاهِبِ
سَأَسْأَلُهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَّغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبَّي فِي الْهَزَاهِزِ مَلْجَأً ... وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَام النَّوَائِبِ
وَنَسْأَلَ اللهَ الْحَيَّ الْقَيْوُمَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ الْصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ يَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الْكَفَرَةَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ فِي صَلاحِهِ صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ ويُهْلِكَ مَنْ فِي هَلاكِهِ عِزٌّ وَصَلاح لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَلِمَّ شَعَثَ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتُهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بِأَيْدِينَا إِلَى كُلّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ ضُرٍّ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/549)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الثالث(3/)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالِم فَقَالُوا: إِنَا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثِرُوا، فَإِنَّ النَّهَارَ لَنْ يَرْجِعَ وَالْعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، وَالطَّالِبَ حَثِيثٌ فِي طَلَبِهِ. قَالُوا: فَأَوْصِنَا. قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أَبْلَغَ الْبُغْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَخَلّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الْفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَحَابِ، والتَّوَانِي مِنْ أَخْلاقَ الْكُسَالَى وَالْخَوَالِفِ، وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْزِ عَثَرَ بِهِ. وَتَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخُسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا: ... تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةُ بِالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامَهْ
فَأَمَّا الابْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَهَ
آخر: ... خِصَالٌ إِذَا لَمْ يَحْوِهَا الْمَرْء لَمْ يَنَلْ ... مَنَالاً مِنَ الأُخْرَى يَكُونُ لَهُ ذُخْرَا
يَكُونُ لَهُ تَقْوَى وَزُهْدٌ وَعِفَّة ... وَإِكْثَارُ أَعْمَال يَنَالُ بِهَا أَجْرَا
آخر: ... لَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْجَدِيدَيْنِ إِلا ... عَمَلٌ صَالِحٌ وَذِكْرٌ جَمِيلُ
آخر: ... وَمَا فِي النَّاسِ أَحْسَنُ مِنْ مُطِيعٍ ... لِخَالِقِهِ إِذَا عُدَّ الرِّجَالُ
آخر: ... سَأُنْفِقُ رَيْعَانَ الشَّيْبَةِ دَائِبًا ... عَلَى طَلَبِ الْعَلْيَاءِ مَعْ طَلَبِ الأَجْرِ
أَلَيْسَ مِنْ الْخُسْرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا ... تَمُرُّ بِلا نَفْعِ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي
قَالَ بَعْضُهم: أَيُّهَا الناسُ إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارِكمْ، ولا مَحَلِّ إِقَامَتِكُمْ، دَارٌ كَتَبَ اللهُ عَلى أَهْلِهَا الفَنَاءَ وَأَوْجَبَ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهَا الرَّحِيْلَ فَكَمْ مِنْ عَامِرٍ مُؤَنِّقٍ وَمُحسِّنْ، عَمَّا قَلِيْلٍ ستَخْرَبُ عِمَارَتُه، وَكَمْ مِنْ مُقِيْمٍ مُغْتَبِطٍ سَيَرحَلُ إِلى المقبَرة فَأَحْسِنُوا رَحِمكُم اللهُ مِنْهَا الرِّحْلَةَ وَاحْمِلُوا خَيْرَ مَا يَحْضُرُكُمْ لِلنُّقْلَةِ وَتَزَوَّدُوْا فَإِنَّ خَيْرَ الزَادِ التَّقوى.(3/1)
(1)
الليْل والنَّهَارَ يَعْمَلانِ فِيكَ فَاعْمِلْ فِيهِمِا أِعْمَالاً صَالِحَة تَرْبَحُ وَتُحْمَدُ الْعَاقِبَة الْحَمِيدَة إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ
آخر: ... إِذَا شَامَ الْفَتَى بَرْقَ الْمَعَالِي ... فَأَهْوَنُ فَائِتٍ طِيبُ الرُّقَادِ
(2)
الْمَلائِكَة يَكْتُبَان مَا تَلْفِظُ بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِق إِلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوْم الْقِيامَةِ. أَشْرَفُ الأَشْيَاءِ قَلْبُكَ، وَوَقْتُكَ، فَإَذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيْعَتَ وَقْتَكَ فَمَاذَا يَبْقَى مَعَكَ كُلُّ الْفَوَائِدِ ذَهَبَتْ.
شِعْرًا: ... أَمَّا بُيُوتُكَ فِي الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَّسِعُ
آخر: ... وَبَادِرِ اللَّيْلُ يِدْرِسِ الْعُلُوم ... فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نَهَارُ الأَرِيبُ
(3)
اعْلَمْ أَنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيم وَحِصْن الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتَ وَحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجْأَة الْمَوْت وأَخْذ الإِنْسَان عَلَى غِرّة وَغَفْلَة وَهُوَ فِي غُرُورٍ وَفُتُورٍ عَنْ الْعَمَل لِلآخِرَةِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا إَِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٍ، اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم.
شِعْرًا: ... يَحْيِي اللَّيَالِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلَهَا ... كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجُلُ
آخر: ... وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ ... لِخَالِقِهِ فَهُوَ الَّذِي خَسِرَ الْعُمْرَا
آخر: ... أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الأَنَامُ ... لِمَا خُلِقُوا لَمَا غَفَلُوا وَنَامُوا(3/2)
لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أَبْصَرَتْهُ ... عُيُونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا
وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ ... وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ
مُلاحَظَة: لا يُسْمَح لأَيِ إِنْسَانٍ أَنْ يَخْتَصَرُهُ أَوْ يَتَعَرَض لَهُ بِمَا يُسَمُونَهُ تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتِصَارَ سَبَبٌ لِتَعْطِيلِ الأَصْلِ. وَالتَّحْقِيقَ أَرَى أَنَّهُ اتِّهَامٌ لِلْمُؤَلِفِ، وَلا يُطْبَعُ إِلا وَقْفًا للهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين.
شِعْرًا: ... الدِّينُ فِيهِ الْعِزُّ وَالْكَمَالُ ... وَالْكُفْرُ فِيهِ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ
((فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ النَّفْع لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ))
مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُ لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.
شِعْرًا: ... إِذَا تَمَّ دِينُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ ... وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ
آخر: ... الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا
فَاعْمَلْ بِهِ تُرِدْ فِهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا
وَتَحْمِدِ اللهِ فِي يَوْمِ الْمَعَادِ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا
للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا
آخر: ... جَمِيعُ الْكُتُبِ يُدْرِكُ مَنْ قَرَاهَا ... مِلالٌ أَوْ فُتُورُ أَوْ سَآمَةْ
سِوَى الْقُرْآنِ فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ
آخر: ... أُقَلِّبُ كُتُبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتَ فِيهَا الْعَيْنَ وَالْعَيْنَ وَالْيَدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنِّ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا
وَأَحْذَرْ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مُهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالِهَا غَائِلُ الرَّدَى
وَأَعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا
آخر: ... لَصِيقُ فُؤَادِي مِنْذُ عِشْرِينَ حَجَّةٍ ... وَصَيْقَلُ ذِهْنِي وَالْمَفِرّ عَنْ هَمِّي(3/3)
عَزِيزٌ عَلَى مِثْلِي إِعَارَةُ مِثْلِهِ ... لِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ لَطِيفٍ وَمِنْ نَظْمٍ
جُمُوعٌ لأَصْنَافِ الْعُلُومِ بِأَسْرِهَا ... فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ لا يُفَارِقَهُ كُمِّي
(فَصْلٌ)
في نماذج من وصايا السلف وثباتهم عند الموت رحمة الله على تلك الأرواح
الأولى: وصية أبي بكر رضي الله عنه:
عن أبي المليح أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أني أوصيك بوصية، إن أنت قبلتها عني: إن لله عز وجل حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عز وجل حقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه عز وجل لا يقبل النافلة حتى تؤدَّى الفريضة، ألم تر إنما ثقلت موازينه في الآخرة بإتباعهم الحق في الدنيا، وثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حقًا أن يثقل، ألم تر إنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة بإتباعهم الباطل في الدنيا، وخف ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا باطلاً، أن يخف، ألم (تر) أن الله عز وجل أنزل آية الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء، لكي يكون العبد راغبًا راهبًا، لا يلقي بيده إلى التهلكة، لا يتمنى على الله عز وجل غير الحق، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
وصية عمر رضي الله عنه:
عن الشعبي قال: لما طعن عمر رضي الله عنه جاء ابن عباس فقال: يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خذله الناس، وقتلت شهيدًا ولم يختلف عليك اثنان، وتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3/4)
وهو عنك راض، فقال له: أعد علي مقالتك، فأعاد عليه فقال: المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطلع. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
وصية عثمان رضي الله عنه:
وعن العلاء بن الفضل عن أبيه قال: لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقًا مقفلاً، ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان بن عفان:
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله عز وجل. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وعن الشعبي لما ضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تلك الضربة قال: ما فعل ضاربي؟ قالوا: قد أخذناه، قال: أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي، فإن أنا عشت رأيت فيه رَأْيِي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها.
ثم أوصى الحسن رضي الله عنه أن يغسله ولا يغالي في الكفن، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تغلو في الكفن فإنه يسلب سلبًا سريعًا» . وامشوا بي بين المشيتين، لا تسرعوا بي، ولا تبطئوا، فإن كان خيرًا عجلتموني إليه، وإن كان شرًا ألقيتموني عن أكتافكم.
شِعْرًا: ... نُرَاعُ لِذِكْرِ الْمَوْتِ سَاعَةَ ذِكْرِهِ ... وَتَعْتَرِضُ الدُّنْيَا فَنَلْهُوا وَنَلْعَبُ(3/5)
وَنَحْنُ بَنُو الدُّنْيَا خُلِقْنَا لِغَيْرِهَا ... وَمَا كَانَ فِيهَا فَهُوَ شَيْءٌ مُحَبَّبُ
آخر: ... أَبَا الْمُغِيرَةِ وَالدُّنْيَا مُغِيرَةٌ ... وَإِنَّ مَنْ غُرَّ بِالدُّنْيَا لَمَغْرُورُ
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية معاذ بن جبل رضي الله عنه:
ولما أصيب أبو عبيدة (بن الجراح) في طاعون عمواص استحلف معاذ بن جبل واشتد الوجع، فقال الناس لمعاذ: ادع الله يرفع عنا هذا الزجر، قال: إنه ليس برجز ولكنه: دعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وموت الصالحين قبلكم وشهادة يختص (بها) الله من يشاء منكم أيها الناس أربع خلال من استطاع أن لا يدركه شيء منهن فلا يدركه، قالوا: وما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر، ويقول الرجل: والله ما أدري على ما أنا. لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة ويعطَى الرجل المال من مال الله على أن يتكلم الذي يسخط الله، اللهم آت آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة فطعن ابناه فقال: كيف تجدانكما؟ قال: يا أبانا {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. . ثم طعنت امرأتاه فهلكتا، وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه يقول: اللهم إنها صغيرة فبارك فيها فإنك تبارك في الصغير حتى هلك رحمة الله عليه. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
وعن الشعبي قال: لما حضر عبد الله بن مسعود الموت دعا ابنه فقال: يا عبد الله بن مسعود! إني أوصيك بخمس خصال فاحفظهن عني: أظهر اليأس للناس، فإن ذلك غنىً فاضل، ودع مطلب الحاجات إلى الناس، فإن (ذلك) فقر حاضر، ودع ما تعذر منه من الأمور، ولا تعمل به،(3/6)
وإن استطعت أن لا يأتي عليك يوم إلا وأنت خير منك بالأمس فافعل، فإذا صليت صلاة فصل مودع كأنك لا تصلى بعدها. قال بعضهم:
شِعْرًا: ... أَلا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتِي ... أُلازِمْ ذِكْرَ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةِ
وَآخِرُ رَمْقِ مِنْ حَيَاتِي خِتَامُهُ ... بِكَلِمَةِ إِخْلاصٍ لِبَارِي الْبَرِيَّةِ
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
ولما حضرت أبا موسى الوفاة دعا فتيانه فقال: اذهبوا فاحفروا لي وأعمقوا فإنه كان يستحب العمق، قال: فجاء الحفرة فقالوا: قد حفرنا. فقال: اجلسوا بي فوالذي نفسي بيده إنها لإحدى المنزلتين، إما ليوسعن قبري حتى تكون كل زاوية أربعين زراعا، وليفتحن لي بابًا من أبواب الجنة فلأنظرن إلى منزلي وإلى أزواجي، وما أعد الله عز وجل لي فيها من النعيم، ثم لأنا أهدى إلى منزلي في الجنة مني اليوم إلى أهلي، وليصيبني من روحها وريحانها حتى أبعث. وإن كانت الأخرى فليضيقن علي قبري حتى تختلف فيه أضلاعي حتى يكون أضيق من كذا وكذا، وليفتحن لي باب من أبواب جهنم، فلأنظرن إلى مقعدي وإلى ما أعد الله عز وجل لي فيها من السلاسل والأغلال والقرناء، ثم لأنا إلى مقعدي من (جهنم) لأهدى مني اليوم إلى منزلي ثم ليصيبني من سمومها وحميمها حتى أبعث. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية أبي عقيل رضي الله عنه:
ولما كان يوم اليمامة واصطف الناس للقتال كان أول من خرج أبو عقيل رمي بسهم بين منكبه وفؤاده فأخرج السهم فوهن له شقه الأيسر وجر إلى الرحل فلما حمى القتال سمع معن ابن عدي يصيح يا آل الأنصار اللهَ الله(3/7)
والكرة على عدوكم قال عبد الله بن عمر: فنهض أبو عقيل فقلت: ما تريد، قال: قد فوه المنادى باسمي، فقلت: ما يعنى الجرحى. فقال: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حبوًا. فتحزم وأخذ السيف ثم جعل ينادي: يا آل الأنصار كرة كيوم حنين، قال ابن عمر: فاختلفت السيوف بينهم فقطعت يده المجروحة من المنكب فقلت: أبا عقيل، فقال: لبيك، بلسان ملتاث، لمن الدبرة؟ فقلت: أبشر قد قتل عدو الله. فأخبرت عمر فقال: رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
ولما تجهز الناس وتهيئوا للخروج إلى مؤتة مضوا حتى نزلوا أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضمت إليه المستعربة (من لخم، وجزام وبلقين، وبهرا، وبلى) في مائة ألف، فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره (بعدد عدونا) . قال: (فشجع عبد الله بن رواحة الناس، ثم قال: والله يا قوم، إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة وما نقاتل العدو بعدة، ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة فمضوا.
ولما قدم أبو عون مصر واستولى على البلد أرسل إلى حيوة بن شريح فجاء فقال: إنا معشر الملوك لا نعصى فمن عصانا قتلناه قد وليتك القضاة، قال: أوامر أهلي، قال: اذهب فجاء إلى أهله فغسل رأسه ولحيته ونال شيئا من الطيب ولبس أنظف ما قدر عليه من الثياب ثم جاء فدخل عليه فقال: من جعل السحرة(3/8)
أولى بما قالوا منا فاقض ما أنت قاض، فلست أتولى لك شيئًا، قال: فأذن له فرجع.
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده بيدي الخرقة لأشد بها لحييه فجعل يعرق، ثم يفتح عينيه، ويقول بيده هكذا: لا بعد ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة، قلت له: يا أبة أي شيء هذا قد لهجت به في هذا الوقت تعرق حتى تقول قد قبضت، ثم تعود فنقول لا لا بعد فقال لي: يا بني ما تدري؟ قلت: لا، قال: إبليس لعنه الله قائم حذائي عاض على أنامله يقول لي: أحمد فُتَّنِي، فأقول له: لا بعد حتى أموت. . . . أ. هـ. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر: وصية داود بن أبي هند رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به داود بن أبي هند (أوصى بتقوى الله عز وجل ولزوم طاعته، وطاعة رسوله، والرضي بقضائه، والتسليم لأمره، وأوصاهم بما أوصى به يعقوب بنيه) {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة:132) . وداود يشهد بما شهد الله عز وجل عليه وملائكته: أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالجنة والنار وبالقدر كله، على ذلك يحيا، وعلى ذلك يموت.
اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/9)
وصية الأوزعي رضي الله عنه:
وسئل الأوزعي كيف يكتب الرجل وصيته؟ قال: يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما شهد به فلان بن فلان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة (آتية) لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، على ذلك يحيا، وعليه يبعث إن شاء الله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
وصية فاطمة رضي الله عنها بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -:
عن عبد بن محمد بن عقيل بن طالب الهاشمي المدني قال: لما حضرت فاطمة رضي الله عنها الوفاة دعت بماء فاغتسلت ثم دعت بحنوط فتحنطت، ثم دعته بثياب أكفانها فلبست ثم قالت: إذا أنا مت فلا تحركوني. فقلت: هل بلغك أن أحدًا فعل ذلك قبلها؟ قال: نعم كثير بن عباس.
وكتب في طرف أكفانه كثير بن عباس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعن أسماء بنت عميس أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصت أن يغسلها زوجها علي بن أبى طالب رضي الله عنه فغسلها هو وأسماء بنت عميس. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
عن الزهري أن سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة دعا بخلق جبة له من صوف فقال: كفنوني فيها فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر وإنما كنت أخبئها لهذا اليوم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(3/10)
وصية حميد بن عبد الرحمن الحيرى رحمه الله:
عن حماد بن سلمة قال: قرأت في وصية حميد بن عبد الرحمن الحميرى أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى أهله من بعده أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن لا يموتوا إلا وهم مسلمون.
وصية عبادة بن الصامت رضي الله عنه:
عن الصنابحي قال: دخلت على عبادة بن الصامت وهو في الموت فبكيت فقال: مهلاً لم تبكي فوالله لئن استشهدت لأشهدن لك ولئن شفعت لأشفعن لك ولئن استطعت لأنفعنك.
ثم قال: والله ما حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكم فيه خير إلا قد حدثتكموه إلا حديثًا واحدًا سوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي.
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شهد أن لا الله إلا الله وأن محمد رسول الله حرم على النار» . انفرد بإخراجه مسلم. أ. هـ.
وصية: أوصى بعضهم أخًا له في الله فقال: ألهمك الله يا أخي ذكره وأوزعك شكره ورضاك بقدره ولا أخلاك من توفيقه ومعرفته.
ولا وكلك إلى نفسك ولا إلى أحد من خلقه وكتبك عنده ممن أراد الله عز وجل تقريبه وجد في الطلب بالصدق والأدب.
وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتابعة والتصديق.
وأراد الدار الآخرة بالأعمال الصالحة واحتمال الأذى وترك الأذى، وجعلك من المكثرين لذكر الله وحمده وشكره الوجلين من خشيته تعالى.(3/11)
المخلصين لله عز وجل الموحدين لله عز وجل المصدقين لله تعالى المؤثرين على أنفسهم المقدمين حقه على حقوقهم.
الذين خلت بواطنهم من الحقد والحسد والعجب والكبر وسوء الظن.
الذين لا يستأثرون ولا يزاحمون وعلى غير طاعة ربهم لا يحزنون.
الذين هم على جميع أمة محمد يشفقون وبهم يرفقون الذين ينصحون المسلمين ولا يفترون، ويعرفون بالله وشرعه ولا يعنفون ولا يسخرون بالناس ولا يستهزئون.
وعن عيب من فيه العيب يغمضون ويسترون ولعورات المؤمنين لا يتتبعون، الذين هم لله في جميع حركاتهم وسكناتهم مراقبون.
الذين يكون غضبهم لله لا لأنفسهم ولا يتمنون السوء ولا يعتدون ويكون رضاهم لله، الذين لا يأمرون إلا بما تأمر به الشريعة المطهرة ولا ينكرون إلا ما أنكرته الشريعة على حسب طاقتهم.
الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ويبغضون الظلم من الظالم ويمقتون الظالم ولا يعظمونه، ويسألون الله تعالى أن يمنع الظلمة من الظلم حتى لا يظلموا ويتوب الله عليهم حتى يتوبوا.
الذين بما أنزل لله تعالى على رسوله يحكمون الزاهدين في الدنيا المقبلين بكلتهم على الله عز وجل.
وجعلك الله يا أخي من الموحدين المخلصين الذين لا شرك عندهم المنزهين الذين لا تهمة عندهم المصدقين الذين لا شك عندهم.
الطالبين الذين لا فتور عندهم في الأعمال الصالحات المتبعين الذين لا ابتداع عندهم القانعين الذين لا طمع عندهم ولا ميل إلى السوء عندهم للمسلمين.(3/12)
الذين لا منازعة عندهم الراضين الذين لا سخط عندهم المحافظين على طاعة الله الذين لا يرضيهم إلا مولاهم ولا يرتضون نفوسهم إلا إذا استقامت على ما يحبه الله ويرضاه.
الذين يقتفون أثر الشارع وبه يقتدون وعلى جميع الصحابة يترحمون ولقرابة نبيهم يوادون وبفضل السلف يعترفون.
الذين لا تعجبهم زينة الدنيا الذين يحثون عباد الله على طاعته ويحببون الله عز وجل إلى خلقه ويذكرونهم نعمه.
الذين أيديهم مقبوضة عن أموال الناس وجوارحهم مكفوفة عن أذاهم وعن أعراضهم، الناس منهم في راحة وهم من شرور أنفسهم في تعب ونصب ورياضة.
الذين لا يقابلون عمل السوء إلا عفوًا وصفحًا ولا قول السوء إلا اعرضًا عملاً بقول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} ، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} .
شِعْرًا: ... قَالُوا سَكَتَّ وَقَدْ خُوصِمْتَ قُلْتُ لَهُمْ ... إِنَّ الْجَوَابَ لِبَابِ الشَّرِّ مِفْتَاحُ
فَالصَّمْتُ عَنْ جَاهِلٍ أَوْ أَحْمَقٍ شَرَفٌ ... أَيْضًا وَفِيهِ لِصَوْنِ الْعِرْضِ إِصْلاحُ
أَمَا تَرَى الأُسْدَ تُخْشَى وَهِيَ صَامِتَةٌ ... وَالْكَلْبُ يَخْشَى لَعَمْرِي وَهُوَ نَبَّاحُ
آخر: ... وَإِنِّي أَلْقَى الْمَرْءَ أَعْلَمُ أَنَّهُ ... عَدُوَّ وَفِي أَحْشَائِهِ الضِّغْنُ كَامِنُ
فَأَمْنَحُهُ بِشْرًا فَيَرْجِعُ قَلْبُهُ ... سَلِيمًا وَقَدْ مَاتَتْ لَدَيْهِ الضَّغَائِنُ
آخر: ... رَجِعْتُ عَلَى السَّفِينَةِ بِفَضْلِ حِلْمِي ... فَكَانَ الْحِلْمُ عَنْهُ لَهُ لِجَامَا
وَظَنَّ بِي السَّفَاهَ فَلَمْ يَجِدْنِي ... أَسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلامَا
فَقَامَ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلاَ ... وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَلَّةَ وَالْمَلامَا
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/13)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
وقال بعضهم موصيًا أولاده بوصية نافعة لمن عمل بها.
وبعد، فإني لما علاني المشيب بغمته، وقادني الكبر في رمته، وادكرت الشباب بعد أمته؛ أسفت لما أضعت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت؛ وتأكدت وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلق بسعيي سعيه، وأملت أن تتعدى إلى ثمرات استقامته، وأنا رهين فوات، وفى برزخ أموات؛ ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إن سلك - وعسى ألا يكون ذلك - على آثاري فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخلد؛ بعد الضراعة إلى الله في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم؛ وأن يمن علي فيهم بحسن الخلف، والتلاقي من قبل التلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف؛ فهو ولي ذلك، والهادي إلى خير المسالك.
اعملوا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال، إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، وتبرأت من يمينها الشمال؛ إني مودعكم وإن سالمني الردى، ومفارقكم وإن طال المدى، وما عدا مما بدا؛ فكيف وأدوات السفر تجمع، ومنادي الرحيل يسمع؛ ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعجالة مقتصر؛ ونصيحة تكون نشيدة واع ومبصر؛ تتكفل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم في الشفقة والحنو قصدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي؛ فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رف عليكم سقفه؛ وكأني بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ؛ وبنشاطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل [السام] من كل حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل؛ فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم آباء عسكر مجر، وغدًا شيوخ مضيعة وهجر؛ والقبور فاغرة، والنفوس عن المألوفات(3/14)
صاغرة؛ والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها آخرة؛ والحازم من لم يتعظ به أمر، وقال: بيدي لا بيد عَمِرو؛ فاقتنوها من وصية، ومرام في النصح قصية؛ وخصوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليحدوا زادها إذا انتقلوا؛ وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؛ ولا رضي الدنيا منزلاً، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلاً؛ ولتلقنوا تلقينًا، وتعلموا علمًا يقينًا؛ إنكم لن تجدوا بعد أن أنفرد بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويسح انسكابي، وتهرول عن المصلى ركابي، أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب؛ حتى لا يكون في الدين والدنيا أوْرف منكم ظلاً، ولا أشرف محلاً، ولا أغبط نهلا وعلا؛ وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا إلى قولي الآذان، وتتلمحوا صبح نصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصية لقمان:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله، حسبما تضمنه محكم تنزيله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفاه، وقرره مصطفاه، من قبل أن يتوفاه، فالله واحد أحد، فرد صمد، ليس له والد ولا ولد.
سبق وجوده الأكوان؛ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} خالق الخلق وما يعلمون، والذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛(3/15)
الحي العليم المدبر القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ أرسل الرسل رحمة لتدعو العباد إلى النجاة من الشقاء وتوجه الحجة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء؛ ثم ختم ديوانهم بنبي ملتنا المرعية للهمل، الشاهدة على الملل، فتلخصت الطاعة، وتبينت له الإمرة المطاعة، ولم يبق بعده إلا ارتقاب الساعة؛ ثم إن الله قبضه إذ كان بشرًا، وترك دينه يضم من الأمة نشرا؛ فمن اتبعه لحق به، ومن حاد عنه تورط في منتسبه، وكانت نجاته على قدر سببه.
روي عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي، فعضوا عليهما بالنواجذ» .
فاعملوا يا بني بوصية من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد؛ واستشعروا حبه الذي توفرت دواعيه، وعوا مراشد هديه فيا فوز واعيه؛ وصلوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به مجملاً أو مفصلاً على حسبه، وأوجبوا التجلة لصحبه؛ الذين اختارهم الله لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته؛ واشملوهم بالتوقير، وفضلوا منهم أولي الفضل الشهير؛ وتبرؤوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع، ولا تع التشاجر بينهم أذن واع، فهو عنوان السداد وعلامة سلامة الاعتقاد؛ ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة، وأئمتها الجلة؛ فهم صقلة نصولهم، وفروع ناشئة عن أصولهم، وورثتهم وورثة رسولهم؛ واعلموا أني قطعت في البحث زماني، وجعلت النظر شاني، منذ يراني الله وأنشاني، مع نبل يعترف به الشاني، وإدراك يسلمه العقل الإنساني؛ فلم أجد خابط ورق، ولا مصيب عرق؛ ولا نازع خطام، ولا متكلف فطام، ولا مقتحم بحر طام؛ إلا وغايته التي يقصدها قد فضلتها الشريعة وسبقتها، وفرعت ثنيتها وارتقتها؛ فعليكم بالتزام جادتها السابلة، ومصاحبة رفقتها(3/16)
الكافلة، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة؛ والله يقول وهو أصدق القائلين: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائعه. فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فعل المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بلغت، فأنت خير الشاهدين.
فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود؛ واستعيذوا برضا الله من سخطه، واربئوا بنفوسكم عن غمطه؛ وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم؛ واقنعوا منه بما تيسر، ولا تأسوا على ما فات وتعذر، فإنما هي دجنة ينسخها الصباح، وصفقة يتعقبها الخسار والرباح؛ ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنوا إليها؛ واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل؛ وتمسكوا بكتاب الله حفظًا وتلاوة، واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة؛ وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره وانتهوا عن مناهيه، ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه؛ وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه؛ وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا ينخرم.
اللهَ الله في الصلاة ذريعة التجلة، وخاصة الملة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم؛ وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة؛ والناهية عن الفحشاء والمنكر مهما عرض الشيطان عرضهما، ووطأ للنفس الأمارة سماءهما وأرضهما، والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تحفة(3/17)
الله إلى مريض الفكر؛ وضابطة حسن العشرة من الجار، وداعية المسالمة من الفجار؛ والواسمة بسمة السلامة، والشاهدة للعقد برفع الملامة؛ فاصبروا النفس على وظائفها بين إبداء وإعادة، فالخير عادة؛ ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية [وتؤثروا على العلية الدنية] ؛ فإن أوقاتها المعينة بالانفلات تنبس والفلك بها من أجلكم لا يحبس؛ وإذا قرنت بالشواغل فلها الجاه الأصيل، والحكم الذي لا يغيره الغدو ولا الأصيل؛ والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حق من يموت، من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها؛ وأتبعوها بالنوافل ما أطقتموها؛ فالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة استحق الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح مع إضاعة رأس المال، وثابروا عليها في الجماعات، وبيوت الطاعات؛ فهو أرفع للملام، وأظهر لشرائع الإسلام؛ وأبر بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعض البَعض.
والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل، وشرط لمشروطها محصل؛ فاستوفوها، والأعضاء نظفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها؛ والحجول والغرر فأطيلوها، والنيات في كل ذلك فلا تهملوها؛ فالبناء بأساسه، والسيف برئاسه، واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور؛ تستغرق الأوقات، وتنازع شتى الخواطر المفترقات؛ فلا يضبطها إلا من ضبط نفسه بعقال، وكان في درجة الرجولة ذا انتقال، واستعاض صدأه بصقال؛ وإن ترخى تقهقر الباع، وسرقته الطباع، وكان لما سواها أضيع فشمل الضياع.
والزكاة أختها الحبيبة، ولدتها القريبة؛ مفتاح السماحة بالعرض الزائل وشكران المسئول على الضد من درجة السائل؛ وحق الله في مال من أغناه، لمن أجهده في المعاش وعناه؛ من غير استحقاق ملء يده وإخلاء يد أخيه، ولا علة القدر الذي يخفيه، وما لم ينله حظ الله فلا خير فيه، فاسمحوا بتفرقتها للحاضر(3/18)
لإخراجها واختيار عرضها ونتاجها؛ واستحيوا من الله أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل، وخالفوا الشيطان كلما عذل؛ واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون؛ فوهب وأقدر، وأورد بفضله وأصدر؛ ليرتب بكرمه الوسائل، ويقيم الحجج والدلائل، فابتغوا إليه الوسيلة بماله، واغتنموا رضاه ببعض نواله.
صيام رمضان عبادة السر المقربة إلى الله زلفى، الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى؛ مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام، والقيام ببر القيام؛ والاجتهاد، وإيثار السهاد على المهاد؛ وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرعية، ولواحقه الشرعية؛ فبذلك تحسن الوجوه، وتحصل النفوس من الرقة على ما ترجوه؛ وتهذب الطباع، ويمتد في ميدان الوسائل إلى الله الباع.
والحج مع الاستطاعة الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجبه الحاجب؛ وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدره فيما فرض عن ربه وسنه، وقال: «ليس له جزاء عند الله إلا الجنة» .
ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله إن كانت لكم قوة عليه، وغنى لديه؛ فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه.
هذه عمد الإسلام وفروضه، ونقود مهره وعروضه؛ فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين، وتلقوا الله لا مبدلين ولا مغيرين، ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين.
واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب، تجلى محاسنها من بعد الانتقاب؛ فعليكم بالعلم النافع، دليلا بين يدي الشافع؛ فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصل إلى اللباب؛ والله عز وجل يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} والعلم وسيلة النفوس الشريفة، على المطالب المنيفة، وشرطه الخشية لله والخيفة، وخاصة الملأ(3/19)
الأعلى، وصفة الله في كتبه التي تتلى؛ والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفى الدنيا إلى التجلة عادة؛ والذخر الذي قليله يشفع وينفع، وكثيره يعلي ويرفع؛ لا يغصبه الغاصب، ولا يسلبه العدو المناصب؛ ولا يبتزه الدهر إذا مال، ولا يستأثر به البحر إذا هال؛ من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله، وقليل إن جم ماله؛ وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتخطى حسابكم، فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم؛ واحملوهم على جمعه ودرسه، واجعلوا طباعهم ثرىً لغرسه؛ واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جراه، وسهر يهجر له الجفن كراه؛ تعقدوا لهم ولاية عز لا تعزل، وتحلوهم مثابة رفعة لا يحط فارعها ولا يستنزل؛ واختاروا من العلوم التي ينفقها الوقت، ما لا يناله في غيره المقت؛ وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة؛ من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد محصولها؛ فإنما هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير؛ فمن كان قابلاً منها لازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد؛ فليخص تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه؛ ثم الشروع في أصول الفقه، فهو العلم العظيم المنة، المهدي كنوز الكتاب والسنة؛ ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة، والتدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة؛ ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى؛ فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه.
وأمروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حريًا بالاعتدال حقيقًا، واغبطوا من كان من سنة الغفلات مفيقًا، واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا من طريقًا؛ وأطيعوا أمر من ولاه الله من أموركم أمرًا، ولا تقربوا من الفتنة جمرًا، ولا تداخلوا في الخلاف زيدًا ولا عمرًا.
وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهم ما أضرى عليه الآباء ألسنة(3/20)
البنين؛ وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى، والسوءة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى؛ وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعد الله له من العذاب، ألا يقبل صدقه إذا صدق، ولا يعول عليه إن كان بالحق قد نطق.
وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم، وفى وجه الديانة كلوم؛ ومن الشريعة التي لا يعذر بجهلها؛ أداء الأمانات إلى أهلها؛ وحافظوا على الحشمة والصيانة، لا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة؛ ولا توجدوا للغدر قبولا، ولا تقروا عليه طبعًا مجبولاً؛ وأوفوا بالعهد عن العهد كان مسئولاً؛ ولا تستأثروا بكنز ولا خزن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن، ولا تبخسوا الناس أشيائهم في كيل أو وزن؛ والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في فسحة ممتدة، وسبيل الله غير منسدة؛ ما لم ينبذ إلى الله بأمانه، ويغمس في الدم الحرام بيده أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه الذي هدى به سننًا قويمًا، وجلى من الجهل والضلال ليلاً بهيما: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .
واجتناب الزنا وما تعلق به من أخلاق دليل على من كرمت طباعه، وامتد في سبيل السعادة باعه؛ ومن غلبت عليه غرائز جهله، فلينظر هل يحب أن يزنى بأهله؟! والله قد أعد للزاني عذابًا وبيلاً، وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} .
والخمر أم الخبائث ومفتاح الجرائم والجرائر؛ واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطًا، والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوغ وأعطى؛ وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لقولهم بالفساد، ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة الأجساد، والله قد جعلها رجسًا محرمًا على العباد، وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السداد.(3/21)
ولا تقربوا الربا فإنه من مناهي الدين، والله تعالى يقول: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} في الكتاب المبين، ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه، وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه؛ والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه، ولا يكل اختياره إلا للثقة من خدمة، ولا تلجؤوا على المتشابه إلا عند عدمه؛ فهو في السلوك إلى الله أصل مشروط، والمحافظة عليه مغبوط.
وإياكم والظلم. فالظالم ممقوت بكل لسان، مجاهر لله بصريح العصيان، والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح والحسان؛ والنميمة فساد وشتات، لا يبقى عليه متات، وفى الحديث: «لا يدخل الجنة قتات» . واطرحوا الحسد والبخل فمارئي البخيل وهو مودود؛ وإياكم وما يعتذر منه، فمواقف الخزي لا تستقال عثراتها، ومظنات الفضائح لا تؤمن غمراتها؛ وتفقدوا أنفسكم مع الساعات، وافشوا السلام في الطرق والجماعات، ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يربحكم في البضاعات؛ وعولوا عليه وحده في الشدايد، واذكروا المساكين إذا نصبتم الموائد؛ وتقربوا إليه باليسير من ماله، واعلموا أن الخلق عيال الله وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله؛ وارعوا حقوق الجار، واذكروا ما ورد في من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج البادية الالتحام؛ واحذروا شهادة الزور فإنها تقطع الظهر، وتفسد السر والجهر؛ والرشا فإنها تحط الأقدار، وتستدعي المذلة والصغار؛ ولا تسامحوا في لعبة قمر، ولا تشاركوا أولي البطالة في أمر؛ وحقوق الله من الازدراء والاستخفاف، ولا تلهجوا بالآمال العجاف، لا تكلفوا بالكهانة والإرجاف؛ واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد، واعلموا أن الله بمرصاد؛ وأن الخلق بين زرع وحصاد، وأفلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما(3/22)
تحذر السموم، واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم؛ وقابلوا بالصبر أذية المؤذين، ولا تقارضوا مقلات الظالمين، فالله لمن بغي عليه خير الناصرين؛ ولا تستعظموا حوادث الأيام كلما نزلت، ولا تضجوا للأمراض إذا أعضلت؛ فكل منقرض حقير، وكل منقض وإن طال فقصير؛ وانتظروا الفرج، وانشقوا من جناب الله الأرج؛ وأوسعوا بالرجاء الجوانح، واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطوبى لعبد إليه جانح، تضرعوا إلى الله بالدعاء، والجؤوا إليه في البأساء والضراء؛ وقابلوا نعم الله بالشكر الذي يقيد منها الشارد، ويعذب الموارد؛ وأسهموا منها للمساكين، وأفضلوا عليهم، وعينوا الحظوظ منها لديهم؛ فمن الآثار: «يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلما زالت عن قوم فعادت إليهم» . ولا تطغكم النعم فتقصروا في شكرها، وتلفكم الجهالة بسكرها؛ وتتوهموا أن سعيكم جلبها، وجدكم حلبها؛ فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتقين، ولا فعل إلا الله إذا نظر بعين اليقين. والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زينكم؛ وليلتزم كل منكم لأخيه، ما يشتد به تواخيه؛ بما أمكنه من إخلاص وبر، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزية لا تجهل، وحق لا يهمل؛ وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التعاهد والتزاور؛ ترغموا بذلك الأعداء، وتستكثروا الأوداء؛ ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تهارشوا تهارش السباع على الجيفة؛ واعلموا أن المعروف يكدر بالامتنان، وطاعة النساء وشر ما أفسد بين الإخوان؛ فإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمرًا فاحتقره (إلا أن يكون تعظيمًا للدين فساعدوهن وانصروه) والله الله لا تنسوا مقارضة سجلي، وبروا أهل مودتي من أجلي، ومن رزق منكم مالاً بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد؛ فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعيًا لنفسه إن تغلب العدو على بلده في الافتضاح والافتقار؛ ومعوقًا عن الانتقال، أمام النوب الثقال؛ وإذا كان رزق(3/23)
العبد على المولى فالإجمال في الطلب أولى؛ وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا، فخيرها لا يقوم بشرها، ونفعها لا يفي بضرها؛ وأعقاب من تقدم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضدة؛ ومن بلي منكم بها فليستظهر بسعة الاحتمال، والتقلل من المال، ويحذر معاداة الرجال، ومزلات الإذلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال؛ وإفشاء الأسرار، وسكر الاغترار؛ وليصن الديانة، ويؤثر الصمت ويلزم الأمانة، ويسر من رضا الله على أضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق؛ وليقف في التماس أسباب الجلال، وسموا القدر ورفعة الحال دون الكمال، فما بعد الكمال غير النقصان، والزعازع تسالم اللدن اللطيف من الأغصان. وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلابًا، واستظهارًا على الحظوظ وغلابًا؛ فذلك ضرر بالمروءات والأقدار، داع إلى الفضح والعار؛ ومن امتحن منكم بها اختيارًا، أو جبر عليها إكراهًا وإيثارًا؛ فليتق وظائفها بسعة صدره، وليبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره؛ فالولايات فتنة ومحنة، واسر وإحنة؛ وهي بين إخطاء سعادة، وإخلال بعادة؛ وتوقع عزل، وإدالة رخاء بأزل، وبيع جد من الدنيا بهزل؛ ومزلة قدم، واستتباع ندم؛ ومال العمر كله قوت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد؛ جعلكم الله ممن نفعة بالتبصير والتنبيه، وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه.
هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها، وتجارتي التي لربحكم أدرتها؛ فتلقوها بالقبول لنصحها، والاهتداء بضوء صبحها؛ وبقدر ما أمضيتم من فروعها، واستغشيتم من دروعها؛ اقتنيتم من المناقب الفاخرة، وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة؛ وبقدر ما أضعتم من لآليها النفسية القيم، استكثرتم من بواعث الندم؛ ومهما سئمتم إطالتها، واستغزرتم مقالتها؛ فاعلموا أن تقوى الله فذلكة الحساب، وضابط هذا الباب؛ كان الله خليفتي عليكم في كل حال،(3/24)
فالدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض محال؛ فالموعد للالتقاء، دار البقاء؛ جعلها الله من وراء خطة النجاة، ونفق بضائعها المزجاة، بلطائفه المرتجاة؛ والسلام عليكم من حبيبكم المودع، والله يلأمه حيث شاء من شمل متصدع ورحمة الله وبركاته. انتهى.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
شِعْرًا: ... رَجِعْتُ عَلَى السَّفِيهِ بِفَضْلِ حِلْمِي ... فَكَانَ الْحِلْمُ عَنْهُ لَهُ لِجَامَا
وَظَنَّ بِي السَّفَاهَ فَلَمْ يَجِدْنِي ... أُسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلامَا
فَقَامِن يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلاَ ... وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَلَّةِ وَالْمَلامَا
وَفَضْلُ الْحِلْمِ أَبْلَغُ فِي سَفِيهٍ ... وَأَحْرَى أَنْ يَنَالَ بِهِ انْتِقَامَا
كان عمر بن الخطاب رحمه الله يتمثل بما يلي من الأبيات:
لا شَيْءَ مِمَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِلَهُ وَيُودِي الْمَالُ وَالْوَلَدُ
لَمْ تُغْنِي عَنْ هُرْمُز يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلُدُ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا
وَلا سُلَيْمَانُ إِذْ تَجْرِ الرِّيَاحُ لَهُ ... وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ فِيمَا بَيْنَهُمَا تَرِدُ
أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّتِي كَانَتْ لِعِزَّتِهَا ... مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا وَافِدٌ يَفِدُ
حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلا كَذِبٍ ... لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا
مَنْ كَانَ حِينَ تَصِيبُ الشَّمْس جَبْهَتَهُ ... أَوْ الْغُبَارَ يَخَافَ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا
فِي قَعْرِ مَظْلَمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ ... يَطِيلُ فِيهَا وَلا يَخْتَارُهَا اللَّبَثَا
تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّى لَمْ تُخْلِقِي عَبثَا
آخر: ... رَكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةْ ... وَتَبَوَّءُوا الرُّتَبَ الْعَلِيَّةْ
حَتَّى إِذَا اغْتَرُّوا بِهَا ... صَرَعَتْهُمُوا أَيْدِي الْمَنِيَّةْ
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/25)
(فَصْلٌ)
فائدة عظيمة النفع في دفع فضول الغم والهم الغم يكون للماضي والهم يكون للمستقبل، فمن اغتنم لما مضى من ذنوبه نفعه غمه على تفريطه، لأنه يثاب عليه.
ومن اهتم بعمل خير نفعاه همته، قال الله جلا وعلا: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} فأما إذا اغتنم لمفقود من الدنيا، فالمفقود لا يرجع والغم يؤذي، فكأنه أضاف إلى الأذى أذى.
وينبغي للحازم أن يحترز مما يجلب الغم، وجالبه فقد محبوب فمن كثرت محبوباته كثر غمه ومن قللها قل غمه.
ثم إن الإنسان كلما طال إلفه لما يحبه واستمتاعه به تمكن من قلبه، فإذا فقده أحس من مر التألم في لحظة لفقده بما يزيد على لذات دهره المتقدم.
وهذا لأن المحبوب ملائم فإن اضطر إلى جوالب الغم فأثمرت الغم فعلاجه الإيمان بالقضاء والقدر وأنه لا بد مما قضي بقضاء الله قدره وأنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور ثم يعلم أن الدنيا موضوعة على الكدر فالبناء إلى النقض والجمع إلى التفرق ومن رام بقاء ما لا يبقى كمن رام وجود ما لا يوجد فلا ينبغي أن يطلب من الدنيا ما لم توضع عليه، قال الشاعر:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا ... صَفْوًا مِنَ الأَقْذَاءِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
ثم يتصور ما نزل به مضاعفا فيهون عليه حينئذ ما هو فيه ومن عادة الحمال الحازم أن يضع فوق حمله شيئًا ثقيلاً ثم يمشي به خطوات ثم ينزله فيخف الحمل عليه.(3/26)
وإذا نزلت به مصيبة تصور أعظم منها فمثلاً إذا ذهبت إحدى عينيه تصور أن يعمى، وإذا أخذ بعض ماله تصور أخذه كله وهكذا يقدر أعظم مما حدث به فيهون عليه الأمر.
شِعْرًا: ... يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي نَفْسِهِ ... مَصَائِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا
فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ ... لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مَثَّلا
وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنُ أَيَّامَهُ ... وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا
فَإِذَا دَهَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ ... بِبَعْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا
وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمِ فِي أَمْرِهِ ... لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ حُسْنَ الْبَلا
وقال رحمه الله الحازم من أعد للخوف عدته قبل وقوعه ونفى فضول الخوف مما لا بد منه لا ينفعه خوفه منه.
وقد اشتد الخوف من الله بكثير من الصالحين حتى سألوا الله تقليل ذلك والسبب في سؤالهم أن الخوف كالسوط للدابة فإذا ألح على الناقة (أي يضربها) قلقت.
قال سفيان الثوري لشاب يجالسه: أتحب أن تخشى الله حق خشيته؟ قال: نعم. قال: أنت أحمق لو خشيته حق خشيته ما أديت الفرائض.
قال: ولا ينبغي للعاقل أن يشتد خوفه من نزول المرض فإنه نازل لا بد وخوف ما لا بد منه زيادة أذى.
شِعْرًا: ... يَا مَنْ سَيْنَأَى عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهُ
مَثِّلْ لِنَفْسَكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوهْ
وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ
آخر: ... أَسْلَمُوهُ مَقْبُورًا مُشَيِّعُوه ... وَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَخَلَّفُوهُ
سَاعَةِ سَوَّوْا تُرَابَهُ عَلَيْهِ ... وَلَّوْاوَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ(3/27)
فأما الخوف من الموت والفكر فيه فإنه لا سبيل إلى دفعه عن النفس وإنما يخفف الأمر العلم بأنه لا بد منه فلا يفيد الحزر إلا زيادة على المحذور.
وكلما تصورت شدته كانت كل تصويرة موتًا ليصرف الإنسان فكره عن تصور الموت ليكون ميتًا مرة لا مرات ويكون صرف الفكر ربحًا.
وليعلم أن الله جل وعلا قادر على تهوينه إذا شاء وليوقن أن ما بعده أخوف منه، لأن الموت قنطرة إلى منزلة إقامة، وإنما ينبغي للإنسان أن يكثر ذكر الموت ليحثه على الإكثار من الأعمال الصالحة لا لنفس تصويره وتمثيله.
فإن خطر على القلب الحزن على فراق الدنيا فالعلاج أن يعلم أن الدنيا ليست بداره لذة وفرح وسرور، وإنما لذتها راحة من مؤلم ومثل هذا لا ينافس فيه، فأما الحزن على فراق الدنيا لفوت العمل الصالح فقد كان السلف يحزنون لذلك.
قال معاذ بن جبل عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
واحتضر أحد العباد فقال: مسا تأسفي على دار الهمود والأحزان والخطايا والذنوب وإنما تأسفي على ليلة لمتها وساعة غفلت فيها عن ذكر الله.
شِعْرًا: ... سعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر: ... وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ ... ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ
آخر: ... مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ زَمَانَهُ ... بِتَفَهُّمٍ وَتَدِبُرٍ لِمَعَانِي
آخر: ... الدِّينُ فِيهِ الْعِزُّ وَالْجَمَالُ ... وَالْكُفْرُ فِيهِ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ
آخر: ... وَلَيْسَ بَعَامِرٍ بُنْيَانُ قَوْمٍ ... إِذَا لَمْ يُخْلِصُوا للهِ دِينَا
آخر: ... وَإِذَا رُزِقْتَ مِنَ الْحَلالِ تِجَارَةٌ ... فَابْذِلْ لَهَا فِي مَرَاضِي اللهِ مُجْتَهِدَا(3/28)
هكذا كانت طريقة كثير من السلف كانوا يحرصون على أن لا تمر ساعة من الزمان أن يتزودوا فيها بعلم نافع أو عمل صالح من صدقة أو ذكر أو مجاهدة نفس أو إسداء نفع لمسلم، حتى لا تذهب الأعمار سبهللا دون فائدة.
فَكُنْ فِي حَالَةٍ تَزْدَادُ فِيهَا ... لَدَى الْخَلاقِ مَرْتَبَةً وَقَدْرَا
وكانوا يقولون: من علامات المقت إضاعة الوقت. ويقولون: الوقت سيف إن قطعته وإلا قطعك.
وكانوا يحاولون دائمًا الترقي من حال إلى حال أحسن منها بحيث يكون اليوم أحسن من أمس، ويقولون من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو غير مغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو رابح، ومن كان يومه أسوأ من أمسه فهو خسران.
وقال حكيم: من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثلة أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه.
وَأَسْوَأَ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمٌ لا يُرَى ... لَهُ فِيهِ أَعْمَالٌ تَسُرُّ لَدَى الْحَشْر
وقال آخر: أشرف الأشياء قلبك ووقتك، فإذا أهملت قلبك وضيعت وقتك فماذا يبقى معك كل الفوائد ذهبت.
قال الحسن: عجبت لأقوام أمروا إن ونودي فيهم بالرحيل جلس أولهم مع آخرهم وهم يلعبون.
وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في وقت كسادها فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير.(3/29)
وقال آخر: لو سقط من أحدهم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي، وعمره يذهب ولا يقول: ذهب عمري، وكان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات.
ويقول آخر: لله در أقوام يحافظون على أوقاتهم أكثر من محافظتكم على دراهمكم.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.
وهكذا كان السلف ينصحون إخوانهم ويحفظون أوقاتهم فعليك بالاقتداء بهم.
شِعْرًا: ... فَقُلْ لِمُرَجِي مَعَالِي الأُمُور ... بِغَيْرِ اجْتِهَاد رَجَوْتَ الْمُحَالا
آخر: ... يَا نَائِمًا وَالْمَنُونُ يَقْضَى ... وَغَالِبًا وَالْحِمَامُ أَوْفَى
جَاءَكَ أَمْرٌ وَأَيُّ أَمْرٍ ... طَمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَعَفَّى
هَلْ بَعْدَ هَذَا الْمَشِيبِ شَيءٌ ... غَيْرَ تُرَابٍ عَلَيْكَ يُحْثَى
فَلَيْسَ هَذَا الأَمْرَ سَهْلاً ... وَلا بِشَيءٍ عَلَيْكَ يَخْفَى
مَنْ بِعْدِ مَا الْمَرْءُ فِي بَرَاحٍ ... يَهْتَزُّ تِيهًا بِهِ وَظَرْفَا
سَاكِنُ نَفْسٍ قَرِيرُ عَيْنٍ ... يَرْشُفُ ثَغْرَ النَّعِيمِ رَشْفَا
إِذْ عَصَفَتْ فِي دَارِهِ رِيحٍ ... تَقْصِفُ كُلَّ الظُّهُورَ قَصْفَا
فَبَاتَ فِي أَهْلِهِ حَصِيدًا ... قَدْ جَعَفَتْهُ الْمَنُونُ جَعْفَا
فَعَادَ ذَاكَ النَّعِيمُ بُؤْسَا ... وَصَارَ ذَاكَ السُّكُونُ رَجْفَا
وَسِيقَ سَوْقًا إِلَى ضَرِيحٍ ... يُرْصَفُ بِالرَّغْمِ فِيهِ رَصْفَا(3/30)
وَبَاتَ لِلدَّوْدِ فِيهِ طَعْمًا ... وَلِلْهَوَامِّ الْعِطَاشِ رَشْفَا
وَلَيْتَهُ لَمْ يَكُنُ رَهِينًا ... بِكُلِّ مَا قَدْ هَفَا وَأَهْفَا
اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم مع الذي أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين وثبتنا وإياك وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إن علَى من نزل به الموت أن يعلم أنها ساعة تحتاج إلى معاناة صعبة جدًا لأن صورتها ألم محض وفراق لجميع المحبوبات.
ثم ينضم إلى ذلك هول سكرات الموت وشدائده والخوف من المآل، ويأتي الشيطان يحاول أن يسخط العبد على ربه، ويقول له: انظر في أي شيء ألقاك، وما الذي قضى عليك وكيف يؤلمك.
وها أنت تفارق ولدك، وزوجتك، وأهلك، وتلقى بين أطباق الثرى، وربما أسخطه على ربه، فكره قضاء الله تعالى ولقاءه، وربما حسن إليه الجور في الوصية، وربما حابا بعض الورثة وخصه بشيء دونهم، أو يعوقه إصلاح شأنه، والخروج من مظلمة تكون فبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يحول بينه وبين التوبة.(3/31)
أخرج أبو داود من حديث أبي اليسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» .
وفى تلك الساعة يقول الشيطان لأعوانه: إن فاتكم الآن لم تقدروا عليه أبدًا.
وقال رحمه الله: وأما العلاج لتلك الشدائد فينبغي أن نذكر قبله مقدمة، وهو أن من حفظ الله في صحته حفظه الله في مرضه ومن راقب الله في خطراته حرسه الله عند حركات جوارحه.
ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ? - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» . أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي.
ثم إنك قد سمعت قصة يونس عليه السلام لما وفقه الله لأعمال صالحة متقدمة أنقذه الله بسببها، قال الله جل وعلا وتقدس: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
ولما لم يكن لفرعون عمل خير لم يجد وقت الشدة متعلقًا، فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند الموت: سيدي لهذه الساعة خبأتك.
فأما من ضيع وأهمل في حال الصحة فإنه يضيع في مرضه فالجزاء من جنس العمل.
قال الله جلا وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وقال جلا وعلا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ، وقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا(3/32)
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
(فائدة) : قال أحد العلماء: إني رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض اشتغلوا بالشكوى والتداوي عن الالتفات إلى المصالح من وصية أو فعل خير فكم له من ذنوب لا يتوب منها أو عنه ودائع أو عليه دين أو زكاة أو مظلمة لا يخطر بباله تداركها، والسبب والله أعلم ضعف الإيمان فينبغي للمتيقظ أن يتأهب في حال صحته قبل هجوم المرض أو الموت فربما ضاق الوقت عن عمل واستدراك فارط أو وصية وربما مات فجاءة والله أعلم.
شِعْرًا: ... أَبْغِي فَتَى لَمْ تَذَرُ الشَّمْسَ طَالِعَةً ... يَوْمًا مِنَ الْوَقْْتِ إِلا صَلَّى أَوْ ذَكَرَا
آخر: ... للهِ قَومٌ أَخْلَصُوا فِي حُبِّهِ ... فَكَسَا وُجُوهَهُمْ الْوَسِيمَةَ نُورَا
ذَكَرُوا النَّعِيمَ فَطَلَّقُوا دُنْيَاهُمُوا ... زُهْدًا فَعَوَّضَهُمْ بِذَاكَ أُجُورَا
قَامُوا يُنَاجَوْنَ الإِلَهَ بِأَدْمُعٍ ... تَجْرِي فَتَحْكِي لُؤْلُؤًا مَنْثُورَا
سَتَروا وُجُوهَهُمُوا بِأَسْتَارِ الدُّجَى ... لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بُدُورَا
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوا بِالَّذِي ... وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظَّهُم مَوْفُورَا
وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِينَهُمْ ... وَشَهِدَتْ وَجْدًا مَنْهُمُوا وَزَفِيرَا
تَعِبُوا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ ... فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيرَا
صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيرَا
يَا أَيُّهَا الْغِرُّ الْحَزِينُ إِلَى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُورَا
بَادِرْ زَمَانَكَ وَاغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ ... وَاحْذَرْ تَوَانَاكَى تَحُوزَ أُجُورَا
وَاضْرِعْ إِلَى الْمَوْلَى الْكَرِيمِ وَنَادِهِ ... يَا وَاحِدًا فِي مُلْكِهِ وَقَدِيرَا
مَا لِي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي ... وَإِذَا رَضِيتَ فَنِعْمَةٌ وَسُرُورَا
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر(3/33)
على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم واليتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من أراد لحاق القوم المجتهدين المشمرين عن ساق للآخرة ممن تقدم ذكرهم، أن عليه أن ينبذ الكسل والعجز والتواني والتهالك في طلب الدنيا ويجد ويجتهد سالكًا طريق المجتهدين العارفين قيمة الوقت والعمر.
شِعْرًا: ... كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقُ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي أَنْتَ تَطْلُبُ
آخر: ... أَسْرِعْ أَخَا الْعِلْمِ فِي ثَلاثْ ... الأَكْلُ وَالْمَشْي وَالْكِتَابَةْ
آخر: ... وَسَاهِرَ اللَّيْلَ فِي الْحَاجَاتِ نَائِمُهُ ... وَوَاهِبُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَجْدِ كَاسِبُهُ
وذكر أحد العلماء علاج الكسل وهو سهل لمن وفقه الله فقال: هو تحريك الهمة بخوف فوات القصد، وبالوقوع في اللوم، أو التأسف، فإن أسف المفرط إذا عاين أجر المجتهد أعظم من كل عقاب، وليفكر العاقل في سوء مغبة الكسل والعجز، والاشتغال بالدنيا عن الآخرة فرب راحة أوجبت حسرات وندمًا، فمن رأى زميله اجتهد وثابر على دروسه ونجح زادت حسرته وأسفه، ومن رأى جاره قد سافر ورجع بالأرباح والفوائد زادت حسرة أسفه وندامته على لذة كسله وعجزه.
قال: وقد أجمع الحكماء على أن الحكمة لا تدرك بالراحة فمن تلمح ثمرة الكسل أجتنبه ومن مد فطنته إلى ثمرات الجد والاجتهاد نسى مشاق الطريق، ثم إن اللبيب الذكي يعلم أنه لم يخلق عبثًا وإنما هو في الدنيا كالأجير أو كالتاجر، ثم إن زمان العمل بالإضافة إلى مدة البقاء في القبر كلحظة، ثم إن إضافة ذلك إلى البقاء السرمدي إما في الجنة وإما في النار ليس يشيء.(3/34)
ومن أنفع العلاج النظر في سير المجتهدين الذين يعرفون قيمة العلم النافع والعمل الصالح والوقت والعجب من مؤثر البطالة في موسم الأرباح.
والمهم أنه بالجد والاجتهاد تدرك غاية المراد، وبالغزمات الصحاح يشرق صباح الفلاح، وما حصلت الأماني بالتواني ولا ظفر بالأمل من استوطن الكسل.
شِعْرًا: ... مَا هَذِي الْحَيَاةُ رَخِيصَةٌ ... فَصُنْهَا عَن التَّضِييعِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ
وَأَكْثِرْ بِهَا ذِكْرَ الإِلَهِ وَحَمْدَهُ ... وَشُكْرًا لَهُ تُحْظَى بِأَسْنَى الْمَرَاتِبِ
آخر: ... وَلَيْسَ كَمَا قَدْ شِئْتُهُ وَاشْتَهِيْتُهُ ... وَلَكِنْ كَمَا شَاءَ الإِلَهُ يَكُونُ
إِذَا لَمْ أَجِدْ شَيْئًا نَفِيسًا أُرِيدُهُ ... رَجَوْتُ إِلَهَ الْخَلْقِ أَنْ سَيَكُونُ
وقد قيل الكسل مزلقة الربح، وآفة الصنائع، وأرضة البضائع، وإذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة عن صالح العمل.
الْجَدُّ بِالْجَدِّ وَالْحِرْمَانَ فِي الْكَسَلِ ... فَانْصِبٍ تُصِبْ عَنْ قَرِيبٍ غَايَة الأَمَلِ
ثم اعلم أن الموجب للكسل حب الراحة وإيثار البطالة وصعوبة المشاق.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر أن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل» . متفق عليه.
وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» . وقال ابن مسعود: (إني لأبغض الرجل أراه فارغًا ليس في سيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة» . أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقال: (يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان) . وقال ابن عباس: تزوج التواني(3/35)
بالكسل فولد بينهما الفقر. وقال آخر: مضى القوم على خيل بلق عتاق وبقينا على حمر حمر دبرة فقيل له: إن كنا على الطريق المستقيم فما أسرعنا بالوصول.
تضرع إلى رب العزة جل جلاله وتقدست أسماؤه.
شِعْرًا: ... لا عُدْتُ أَرْكَبُ مَا قَدْ كُنْتُ أَرْكَبُهُ ... جُهْدِي فَخُذْ بِيَدِي يَا خَيْرَ مَنْ رَحِمَا
هَذَا مَقَامٌ ظَلُومِ خَائِفٍ وَجِلٍ ... لَمْ يَظْلِم النَّاسُ لَكِنْ نَفسَهُ ظَلَمَا
فَاصْفَحْ بِفَضْلِكِ عَمَّنْ جَاءَ مُعْتَذِرًا ... بِزَلَّةٍ سَبَقَتْ مِنْهُ وَقَدْ نَدَمَا
مَا لِي سِوَاكَ وَلا عِلْمٌ وَلا عَمَلٌ ... فَامْنُنْ بِعَفْوِكَ يَا مَنْ عَفْوُهُ عَظُمَا
اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم على الجهاد وقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
قَصِيْدَة تَحْتَّوِي على نَصَائِحَ وَوَصَايَا ومَوَاعِظَ
وَآدَابٍ وَأَخْلاقٍ فَحَضِّرْ قَلْبَكَ وَأَلْقِ سَمْعَكَ
الْحَمْدُ للهِ الْقَوِيِّ الْمَاجِدِ ... ذِي الطَّوْلِ وَالإِنْعَامِ وَالْمَحَامِدِ
حَمْدًا يَفُوقُ حَمْدَ كُلِّ الْخَلْقِ ... وَمَا أُُطِيقَ شُكْر بَعْضِ الْحَقِّ
ثُمَّ الصَّلاةُ بَعْدُ وَالسَّلامُ ... عَلَى نَبِيٍّ دِينِهِ الإِسْلامُ
سَأَلتَنِي الإِفْصَاحَ عَنْ هَذِي الْحِكَمْ ... وَنُزْهَةَ الأَلْبَابِ خُذْهَا كَالْعَلَمْ
خُذْ يَا بُنَيِّ هَذَه النَّصَائِحَا ... وَاسْتَعْمَلْنَهَا غَادِيًا وَرَائِحَا
لِتَقْنَى مَنْفَعَةً وَحِكْمَة ... وَاتَثْنِينِّي عَنْ مِنَنٍ وَنِعْمَة
فَحِفْظُهَا يَهْدِي إِلَى دَارِ الْبَقَا ... وَحُبُّهَا يَهْزِمُ أَجْنَادَ الشَّقَا(3/36)
إِذَا ابْتَدَأْتَ الأَمْرَ سَمِّ اللهَ ... وَاحْمِدْهُ وَاشْكُرْهُ إِذَا تَنَاهَا
وَكُلَّمَا رَأَيْتَ مَصْنُوعَاتِهِ ... وَالْمُبْدَعَاتِ مِنْ عُلا آيَاتِهِ
فَاذْكُرْهُ سِرًّا سَرْمَدَا وَجَهْرَا ... لِتَشْهَدَنْ يَوْمَ الْجَزَاءِ أَجْرَا
هَذَا وَإِنْ تَعَارَضَ الأَمْرَانِ ... فَأَبْدَأ بِحَقِّ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ
وَاعْمَلْ بِهِ تَنَلْهُمَا جَمِيعَا ... وَلا تَقُلْ سَوْفَ تَكُنْ مُضِيعَا
وَإِنْ أَتَاكَ مُسْتَشِيرٌ فَاذْكُرَنْ ... قَوْلَ النَّبِي الْمُسْتَشَارُ مُئْتَمَنْ
شَاوِرْ لَبِيبًا فِي الأُمُورِ تَنْجَحْ ... مَنْ يَخَفِ الرَّحْمَنَ فِيهَا يَرْبَحُ
وَأَخْلِصِ النِّيَّاتِ فِي الْحَالاتِ ... فَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
وَاسْتَخِرِ اللهَ تَعَالَى وَاجْتَهِدْ ... ثُمَّ ارْضَ بِالْمَقْضِيَّ فِيهِ وَاعْتَمِدْ
مَنْ اسْتَخَارَ رَكِبَ الصَّوَابَا ... أَوْ اسْتَشَارَ أمَنَ الْعِقَابَا
مَنْ اسْتَخَارَ لَمْ يَفُتْهُ حَزَمْ ... أَوْ اسْتَشَارَ لَمْ يَرُمْهُ خَصْمُ
مَا زَالَتِ الأَيَّامُ تَأْتِي بِالْعِبَرْ ... أَفِقْ وَسَلِّمْ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرْ
كَمْ آيَةٍ مَرَّتْ بِنَا وَآيَةْ ... فِي بَعْضِهَا لِمَنْ وَعَى كِفَايَةْ
وَنَحْنُ فِي ذَا كُلِّهِ لا نَعْتَبِرْ ... وَلا نَخَافُ غَيْبَهَا فَنَزْدَجِرْ
أَلَيْسَ هَذَا كُلِّهِ تَأْدِيبًا؟ ... فَمَا لَنَا لا نَتَّقِي الذُّنُوبَا
لَكِنْ قَسَى قَلْبٌ وَجَفَّتْ أَدْمُعُ ... إِنَّا إِلَى اللهِ إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ
فَنَسْأَلُ الرَّحْمَنَ سِتْرَ مَا بَقِي ... وَعَفْوَهُ وَاللَّطْفَ فِيمَا نَتَّقِي
فَكَمْ وَكَمْ قَدْ أَظْهَرَ الْجَمِيلا ... وَسَتَرَ الْقَبِيحَ جِيلاً جِيلاَ
حَتَّى مَتَّى لا تَرْعَوِي بِالْوَعْظِ ... وَأَنْتَ تَنْبُو كَالْغَلِيظِ الْفَظِّ
سِرْ سَيْرَ مِنْ غَايَتُهُ السَّلامَةْ ... وَعُدْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْمَلامَةْ
بَادِرْ بِخَيْرٍ إِنْ نَوَيْتَ وَاجْتَهِدْ ... وَإِنْ نَوَيْتَ الشَّرَّ فَازْجُرْ وَاقْتَصِدْ
وَخُذْ فِي عِتَابِ نَفْسِكَ الأَمَّارَةِ ... فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةْ(3/37)
.. خَالِفْ هَوَاكَ تَنْجَحْ مِنْهُ حَقًّا ... وَالنَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ كَيْ لا تَشْقَى
نَفْسِي عَمَّا سَرَّنِي تُدَفِعُ ... وَهِيَ عَلَى مَا ضَرَّنِي تُسَارِع
قَدْ أَسَرَتْهَا شَهْوَةٌ وَغَفْلَةْ ... تُنْكِرُ شَيْئًا ثُمَّ تَأْتِي مِثْلَهْ
فَمَنْ حَبَى حِسَانَهَا فَقَدْ ظَفِرْ ... وَمَنْ حَبَاهَا غَفْلَةً فَقَدْ خَسِرْ
قَدِّمِ لِيَوْمِ الْعَرْضِ زَادَ الْمُجْتَهِدِ ... ثُمَّ الْجَوَابُ لِلسُّؤَالِ فَاسْتَعِدْ
تَطْوِي اللَّيَالِي الْعُمْرَ طَيًّا طَيَّا ... وَأَنْتَ لا تَزْدَادُ إِلا غَيًّا
فَلا تَبِتْ إِلا عَلَى وَصِيِّةْ ... فَإِنَّهَا عَاقِبَةٌ مَرْضِيَّةْ
هَيْهَاتَ لا بُدَّ مِن النُّزُوحِ ... حَقًّا وَلَوْ عُمَّرِتَ عُمْرَ نُوحِ
فَنْسَأَلُ لَنَا السَّلامَةْ ... فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي الْقِيَامَةْ
أَعْدِدْ لِجَيْشِ السَّيِّئَاتِ تَوْبَةْ ... فَإِنَّهَا تَهْزِمُ كُلَّ حَوْبَةْ
وَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلنَّهُ ... وَلا تَحِدْ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنَّهْ
أَفْضَلُ زَادِ الْمَرْءِ تَقْوَى اللهِ ... سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنِ التَّنَاهِي
عَلَيْكَ بِالتَّقْوَى وَكُلِّ وَاجِبٍ ... وَتَرْكُ مَا يُخْشَى وَشُكْرِ الْوَاهِبِ
وَكُنْ لأَسْبَابِ التُّقَى أَلِيفَا ... وَاعْصِ هَوَاكَ وَاحْذَرِ التَّعْنِيفَا
فَالْخَوْفُ أَوْلَى مَا امْتَطَى أَخُو الْحَذَرْ ... فَاعْتَمِدِ الصَّمْتَ وَدَعْ عَنِ الْهَذَرْ
لَوْ أَنَّ مَا اسْتَمْلاهُ كَاتِبَاكَا ... بِأُجْرَةٍ مِنْكَ خَتَمْتَ فَاكَا
صَمْتٌ يُؤَدِيكَ إِلَى السَّلامَةْ ... أَفْضَلُ مِنْ نُطْقٍ جَنَى النَّدَامَةْ
الْعِلْمُ وَالْحِلْمُ قَرِينَا خَيْرٍ ... فَالْزِمْهُمَا وُقِيتَ كُلَّ ضَيْرِ
فَالْعِلْمُ عِزٌّ لا يَكَادُ يُبْلَى ... وَالْحِلْمُ كِنْزٌ لا يَكَادُ يُفْنَى
الْعِلْمُ لا يُحْصَى فَخُذْ مَحَاسِنَهْ ... وَنَبِّهِ الْقَلْبَ الصَّدِي مِن السَّنَةْ
أَجْمَلُ شَيْءٍ لِلْفَتَى مِنْ نَسَبِهْ ... إِكْثَارُهُ مِنْ عِلْمِهِ وَأَدَبِهْ
إِنْ كُنْتَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ مَا نَكَا ... أَوْ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ زَنَكَا(3/38)
.. لا خَيْرَ فِي عِلْمٍ بِغَيْرِ فِهْمِ ... وَلا عِبَادَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمِ
لا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمِ إِلا لِلْعَمَلْ ... فَاعْمَلْ بِمَا عَلَّمْتَه قَبْلَ الأَجَلْ
فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ السَّلامَةْ ... هَذَا إِذَا كَانَ بِلا سَآمَةْ
نُصْحُ الْوَرَى مِنْ أَفْضِلِ الأَعْمَالِ ... وَالْبِرُّ وَالرِّفْقُ بِلا اعْتِلالِ
إِيّاكَ إِيَّاكَ الرِّيَاءَ يَا صَاحِ ... فَتَرْكُهُ أَقْرَبُ لِلْفَلاحِ
فَالْعُمْرُ مَا كَانَ قَرِينَ الطَّاعَةْ ... هَذَا وَلَوْ قُدَّرَ بَعْضُ سَاعَةْ
حُثَّ كُنُوزَ الدَّمْعِ فِي الْحَنَادس ... بَيْنَ يَدِي رَبِّكَ غَيْرَ آيِسِ
عَلَى سَوَادِ خَالِ خَدِّ الصُّبْحِ ... تَتْلُو الْمَثَانِي رَغْبًا فِي الرِّبْحِ
وَقُلْ بِمَا جَاءَ بِهِ خَيْرُ الْبَشَرْ ... هَبْ لِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرْ
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍ فَرَجَا ... فَضْلاً وَمِنْ غَمٍّ وَضِيقٍ مَخْرَجَا
الْعَدْلُ أَقْوَى عَسْكَرُ الْمُلُوكِ ... وَالأَمْنُ أَهْنَى عِيشَةَ الْمُلُوكِ
سُسُ يَا أَخِي نَفْسَكَ قَبْلَ الْجُنْدِ ... وَاقْهَرْ هَوَاكَ تَنْجَحْ قَبْلَ الْقَصْدَ
وَاجْعَلْ قِوَامِ الْعَدْلِ حِصْنَ دَلْتِكْ ... وَالشُّكْرَ أَيْضًا حَارِسًا لِنِعْمَتِكْ
فَالْحَقُّ أَنْ تَعْدِلَ بِالسَّوِيَّةْ ... مَا بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْبَرِيَّةْ
فَكُلُّكُمْ وَكُلُّنَا مَسْئُولُ ... عَمَّا رَعَيْنَاهُ وَمَا نَقُولُ
مَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلاً إِلَى السِّيَاسَةِ ... أَخَرَّهُ الْعَجْزُ عَنِ الرِّيَاسَةْ
أَحْسِنْ إِلَى الْعِلْمِ يَحْمَدُوكَا ... وَعُمَّهُمْ بِالْعَدْلِ يَنْصَحُوكَا
فَعَدْلُ سُلْطَانِ الْوَرَى يَقِيهِ ... أَعْظَمَ مَا يَخْشَى وَيَتَّقِيهِ
لا تَسْتَعِنْ بِأَصْغَرِ الْعُمَّالِ ... عَلَى تَرَقِّي أَكْبَرَ الأَعْمَالِ
فَمَنْ عَدَا وَزِيرُهُ فَمَا عَدَلْ ... وَمَنْ طَغَى مُشِيرُهُ فَقَدْ جَهِلْ
شَرُّ الأَنَامِ نَاصِرُ الظُّلُومِ ... وَشَرٌّ مِنْهُ خَاذِلُ الْمَظْلُومِ
الظُّلْمُ حَقًّا سَالِبٌ لِلنَّعَمِ ... وَالْبَغْيُ أَيْضًا جَالِبٌ لِلنِّقَمِ(3/39)
.. ظُلْمُ الضَّعِيفِ يَا بَنِي لؤمْ ... وَصُحْبَةُ الْجَاهِلِ أَيْضًا شُؤْمُ
وَقِيلَ إِنَّ صُحْبَةَ الأَشْرَارِ ... تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالأَخْيَارِ
يَجْنِي الرَّدَى مَنْ يَغْرِسَ الْعُدْوَانَا ... وَصَارَ كُلُّ رِبْحِهِ خُسْرَانَا
أَقْرَبُ شَيْءٍ صَرْعَةُ الظَّلُومِ ... وَأَنْقَذُ النَّبْلِ دُعَا الْمَظْلُومِ
نِعْمَ شَفِيعُ الْمُذْنِبِ اعْتِذَارُهُ ... وَبِئْسَ مَا عَوَّضَهُ إِصْرَارُهُ
خُذْ الأُمُورَ كُلِّهَا بِالْجَدِّ ... فَالأَمْرُ جَدٌّ لا هَوَاكَ الْمُرْدِي
خَيْرُ دَلِيلِ الْمَرْءِ الأَمَانَةْ ... بَيْنَ الْوَرَى وَتَرْكُهُ الْخِيَانَةْ
مَنْ امْتَطَى أَمْرًا بِلا تَدْبِير ... صَيَّرَهُ الْجَهْلُ إِلَى تَذْمِيرِ
مَنْ صَانَ أُخْرَاهُ بِدُنْيَاهُ سَلِمْ ... وَمَنْ وَقَى دُنْيَاهُ بِالدِّينِ نَدِمْ
مَنْ أَخَّرَ الطَّعَامَ وَالْمَنَامَا ... لَذَّ وَطَابَ سَالِمَا مَا دَامَا
مَنْ أَكْثَرَ الْمِزَاحَ قَلَّتْ هِيبَتُهْ ... وَمَنْ جَنَى الْوَقَارَ عَزَّتْ قِيمَتُهْ
مَنْ سَالَمَ النَّاسَ جَنَى السَّلامَةْ ... وَمَنْ تَعَدَّى أَحْرَزَ النَّدَامَةْ
مَنْ نَامَ عَنْ نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهْ ... نَبَّهَهُ الْعُدْوَانُ مِنْ أَعْدَائِهْ
مَنْ اهْتَدَى بِالْحَقِّ حَيْثُمَا ذَهَبْ ... مَالَ إِلَيْهِ الْخَلْقُ طُرًّا وَغَلَبْ
مَنْ رَفَضَ الدُّنْيَا أَتَتْهُ الآخِرَةْ ... فِي حُلَّةٍ مِنَ الأَمَانِ فَاخِرَةْ
وَقِيلَ مَنْ قَلَّتْ لَهُ فَضَائِلُهْ ... فَقَدْ ضَعُفَتْ بَيْنَ الْوَرَى وَسَائِلُهْ
وَمَنْ تَرَاهُ أَحْكَمَ التَّجَارُبَا ... فَازَ بِهَا وَحَمِدَ الْعَوَاقِبَا
مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ بِنَوْعِ الْمَكْرِ ... كَافَاهُ كُلُّ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ
مَنْ لا تَطِيقُ حَرْبَهُ فَسَالِمِ ... تَعِشْ قَرِيرَ الْعَيْنِ غَيْرَ نَادِمِ
مَنْ لَمْ يُبَالِ كَانَتْ الدُّنْيَا لِمَنْ ... فَهُوَ عَظِيمُ الْقَدْرِ سِرًّا وَعَلَنْ
مَنْ بَانَ عَنْهُ فَرْعُهُ وَأَصْلُهُ ... أَوْشَكَ أَنْ يَنْعَاهُ حَقًّا أَهْلُهُ
مَنْ غَلَبَ الشَّهْوَةَ فَهُوَ عَاقِلٌ ... وَمَنْ دَعَتْهُ فَأَجَابَ جَاهِلُ(3/40)
.. مَنْ ظَلَّ يَوْمًا كَاتِمًا لِسِرَّهِ ... أَصْبَحَ مِنْهُ حَامِدًا لأَمْرِهِ
خَيْرُ زَمَانِكَ الَّذِي سَلِمْتَا ... مِنْ شَرِّهِ لُطْفًا وَمَا اقْتَرَفْتَا
خَيْرُ النَّدَى وَأَفْضَلُ الْمَعْرُوفِ ... فِيمَا يُرَى إِغَاثُهُ الْمَلْهُوفِ
لا تَثْبُتُ النَّعْمَاءُ بِالْجُحُودِ ... وَالشُّكْرِ حَقًّا ثَمَنُ الْمَزِيدِ
مَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَةً الطَّعَامِ ... سُلَّ عَلَيْهِ صَارِمُ الأَسْقَامِ
تَعْصِي الإِلَهَ وَتُطِيعُ الشَّهْوَةَ ... هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ بِالْقَسْوَةْ
مِنْ هَمُّهُ أَمْعَاؤُهُ وَفَرْجُهْ ... وَتَاهَ فِي شَهْوَتِهِ لا تَرْجُهْ
أَجْمَلُ شَيْءٍ بِالْغِنَى الْقَنَاعَةْ ... فَعُدَّهَا مِنْ أَشْرَفِ الْبِضَاعَةْ
وَهِيَ تَسُوقُ قَاصِدِيهَا لِلْوَرَعْ ... فَاعْمَلْ بِمَا عَلِمْتَهُ وَلا تَدَعْ
وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي يَدِي الأَنَامِ ... مَنْزِلَةُ الأَخْيَارِ وَالْكِرَامِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ عَمَلَ الأَبْطَالِ ... كَسْبُ الْحَلالِ لِذَوِي الْعِيَالِ
فَإِنَّكَ الْمَسُولُ عَنْهُمْ فَاجْتَهِدْ ... وَلَيْسَ يُغْنِي عَنْكَ مِنْهُمْ أَحَدْ
مَنْ عَادَةِ الْكِرَامِ بَذْلُ الْجُودِ ... وَسُنَّةُ اللِّئَامِ فِي الْجُحُودِ
لا تَدْنُ مِمَّنْ يَدْنُ بِالْخَلابَةْ ... وَلا تَبِنْ كِبْرًا وَسُدَّ بَابَهْ
لا رَأْيَ لِلْمُعْجَبِ تِيهًا فَاعْلَمِ ... وَلا لِذِي كِبْرٍ صَدِيقٌ فَافْهَمِ
الْمَطْلُ بُخْلٌ أَقْبَحُ الْمُطْلَيْنِ ... وَالْيَأْسُ مِنْهُ أَحَدُ النُّجْحَيْنِ
وَالْبُخْلُ دَاءٍ وَدَاؤُهُ السَّخَا ... فَافْهَمْ فَفِيهِ الْعِزُّ حَقًّا وَالْعُلا
وَالْحِرْصُ دَاعِي الْخَلْقَ لِلْحُرْمَانِ ... ثُمَّ يَؤُولُ بِجَنَى الْخُسْرَانِ
مَا رُثِّ الأَنْبَاءُ خَيْرًا مِنْ أَدَبْ ... فَإِنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَسْنَى الرُّتَبْ
لاسِيَّمَا إِنْ كَانَ بَانَ فِي الصِّغر ... كَمَا رَوَيْنَاهُ كَنَقْشٍ فِي الْحَجَرِ
مَنْ امْتَطَى جَوَادَ رَيْعَانِ الْعَجَلْ ... أَدْرَكَهُ كَمِينُ آفَاتِ الزَّلَلْ
مَنْ كَانَ ذَا عَجْزٍ عَنْ الإِحْسَانِ ... أَثْقَلُ مَا كَانَ عَلَى الإِنْسَانِ(3/41)
.. مَنْ رَكِبَ الْجَهْلَ كَتَبْ مَطِيَّتُهْ ... وَضَلَّ أَيْضًا ثُمَّ دَامَتْ حَسْرَتُهْ
وَصَارَ أَيْضًا عِبْرَةً لِلْعَاقِلِ ... لأَنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ الرَّذَائِلِ
إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَرْتَجِي الْجِنَانَا ... لا تُطْلَقَنَّ الطَّرْفَ وَاللَّسَانَا
أَوْ رُمْتَ تَجْنِي زَهْرَ خَيْرَيْ أَمْرَكَا ... لا تَأْتِ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَا
أَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَرْتَجِي السَّلامَةْ ... فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي الْقِيَامَةْ
فَلا تَقُلْ هُجْرًا وَإِنْ غَضِبْتَا ... وَالْكِبْرَ وَالشُّحَّ فَبُثَّ بَتَّا
إِنْ فَوَّقَتْ مَصَائِبُ نِبَالِهَا ... فَاشْكُرْ مُثَابًا مَنْ كَفَى أَمْثَالَهَا
وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَصُونَ عِرْضَا ... فَلا تَقُلْ سُوءًا يَعُودُ قَرْضَا
إِنْ كُنْتَ تَخْتَارُ الْجِنَانَ دَارًا ... لا تَنْظَرُنَّ لِلْوَرَى اسْتِصْغَارَا
وَكُنْ أَخَا لِلْكَهْلِ مِنْهُمْ وَأَبَا ... لِذَوِيهِ فِي السِّنِّ شَاءَ أَوْ أَبَى
وَابْنًا لِشَيْخٍ قَدْ تَغَشَّاه الْكِبَرَا ... وَفَاقَ بِالنُّفُوسِ عَنْ قَوْسِ الْعِدَا
آوِي الْيَتِمَ وَارْحَمِ الضَّعِيفَا ... وَارْفُقْ بِمَمْلُوكِنَ أَنْ تَحِيفَا
وَالنِّاءِ هُنَّ كَالْغَوَانِي ... فَاجْنَحْ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرَ وَانِي
وَاعْمَلْ بِمَا فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ ... مِنَ الْوَصَايَا الْغُرِّ بِحَمْدِ رَاءِ
وَصِلْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ السَّائِلَةْ ... عَنْ قَطْعِهَا يَوْمَ الْقُلُوبِ ذَاهِلَةْ
وَالْجَارَ أَكْرِمْهُ فَقَدْ وَصَّانَا ... بِهِ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى مَوْلانَا
وَاحْذَرْ بُنَيَّ غَيْبَةَ الأَنَامِ ... لَفْضًا وَتَعْرِيضًا مَدَى الأَيَّامِ
وَالْهَمْزَ وَاللَّمْزَ مَعَ النَّمِيمَةْ ... فَإِنَّهَا ذَخَائِرُ ذَمِيمَةْ
شَرُّ الأُمُورِ الْعُجْبُ فَاجْتَنِبْهُ ... وَالْبُخْلَ مَا حَيِيتُ صَدَّ عَنْهُ
فَالْكِبْرُ دَاءٌ قَاتِلُ الرِّجَالِ ... دَوَاؤُهُ تَوَاضُعِ الأَبْطَالِ
لا دَاءَ أَدْوَى مَرَضًا مِنَ الْحُمُقْ ... وَلا دَوَاءَ مِثْلَ تَحْسِينِ الْخَلُقْ
وَالْحِقْدُ دَاءٌ لِلْقُلُوبِ وَالْحَسَدْ ... رَأْسُ الْعُيُوبِ فَاجْتَنِبْهُ وَاقْتَصِدْ(3/42)
.. وَالْبَغْيُ صَاحٍ يَصْرَعُ الرِّجَالا ... وَيُقْصِرُ الأَعْمَارَ وَالآجَالا
وَالْمَنُّ أَيْضًا يَهْدِمُ الصَّنِيعَةْ ... مَطِيُّةُ الطُّغَامِ وَالرَّعَاعِ
رَبَّ غَرَامِ جَلَبْتهُ لَحْظَةْ ... وَرُبَّ حَرْبٍ أَجَّجَتّهُ لَفْظَهْ
وَرُبَّ مَأْمُولٍ تَرَى مُنْهُ الضَّرَرْ ... وَرُبَّ مَحْذُورٍ يَسُرُّ مِنْ حَذَرْ
وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّ خُلْفَ الْوَعْدِ ... فِي أَكْثَرِ الأَمْثَالِ خُلْبقُ الْوَغْدِ
لا حَذَرَ مِنْ قَدَرٍ بِدَافِعِ ... وَلا أَسَىً مِنْ فَائِتٍ بِنَافِعِ
وَقِيلَ مَا أَضْمَرْتَ بِالْجِنَانِ ... يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ وَفِي اللِّسَانِ
لا تُطِلِ الشَّكْوَى فَفِيهِ التَّلَفُ ... وَالشُّكْرُ للهِ الْغَنِيِّ شَرَفُ
لا يُفْسِدُ دِينَ الْوَرَى إِلا الطَّمَعْ ... حَقًّا وَلا يُصْلِحُهُ إِلا الْوَرَعْ
لا تَحْمِلَنْكَ كَثْرَةُ الإِنْعَامِ ... عَلَى ارْتِكَابِ سَيِّءِ الآثَامِ
وَلا تَقُلْ سُوءًا تَزِلُ الْقَدَمَا ... وَتُورِثُ الطَّعْنَ وَتُبْدِي النَّدَمَا
لا تَقَرَّبَنَ مِنْ وَدَائِعِ الْبَرِيَّهْ ... وَلا الْوَكَالاتِ وَلا الْوَصِيَّهْ
فَإِنَّهُنَّ سَبَبُ الْبَلايَا ... وَمَعْدِنُ الآفَاتِ وَالرَّزَايَا
لا تَشْتَغِلْ إِذَا حُبِيتَ النِّعَمَا ... بِسُكْرِهَا عَنْ شُكْرِهَا فَتَنْدَمَا
لا تَتَّبِعْ مَسَاوِئَ الإِخْوَانِ ... رَعْيَ الذُّبَابِ فَاسِدَ الأَبْدَانِ
لا خَيْرَ فِيمَنْ يَحْقِرُ الضَّعِيفَا ... كِبْرًا وَلا مَنْ يَحْسُدُ الشَّرِيفَا
لا تَسْتَقِلَّ الْخَيْرَ فَالْحِرْمَانُ ... أَقَلُّ مِنْهُ أَيُّهَا الإِنْسَانُ
لا تَجْزِعَنْ فَقَدْ حَىَ الْمَقْدُورُ ... بِكُلِّ مَا جَاءَتْ بِهِ الدُّهُورُ
لا تَتَخَطَّى فُرَصَ الزَّمَانِ ... إِنَّ التَّوَانِي سَبَبُ الْحِرْمَانِ
أَنْفَاسُكُمْ خُطَاكُمُ إِلَى الأَجَلْ ... وَخَادِعُ الأَعْمَالِ تَقْدِيمُ الأَمَلْ
أَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ أَعْلَى الرُّتَبِ ... وَنَهْيُكَ الْمُنْكَرَ مِنْ أَقْوَى السَّبَبِ
الْوَلَدُ الْبَرُّ يَزِيدُ فِي الشَّرَفِ ... وَالْوَلَدُ السُّوءُ يَشِينُ بِالسَّلَفِ(3/43)
.. الرِّفْقُ يُدْنِى الْمَرْءَ لِلصَّلاحِ ... وَهُوَ لِقَاحُ سُرْعَةِ النَّجَاحِ
إِسَاءَةُ الْمُحْسِنِ مَنْعُ الْبِرِّ ... وَتُحْفَغُة الْمُسِيءُ كَفُّل الشَّرِّ
تَنَاسَى مِنْ إِخْوَانِكَ الْمَسَاوِيَا ... يَدُمْ لَكَ الْوِدَادُ مِنْهُمْ صَافِيَا
وَأَوْلِهِمْ مِنْ فِعْلِكَ الْجَمِيلا ... وَدَعْ مُثَابًا قِيلَهُمْ وَالْقِيلا
وَكُلُّ مَنْ أَبْدَى إِلَيْكَ الْفَاقَهْ ... صُنْ عَنْ مُحَيَّاهُ الَّذِي أَرَاقَهْ
بَسْذُ الْوُجُوهِ أَحَدُ الْبَذْلَيْنِ ... وَأَعْظَمُ الْهَمَّيْنِ هَمُّ الدَّيْنِ
وَإِنْ خَفَضتَ الصَّوْتَ مَا اسْتَطَعْتَا ... ثُمَّ غُضَتْتَ الطَّرْفَ أَنْتَ أَنْتَا
للهِ فِي كُلِّ بَلاءٍ نِعْمَهْ ... لا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَذُمَّهْ
تَمْحِيصُ ذَنْبٍ وَثَوَابٌ إِنْ صَبَرْ ... وَيَقَظَةٌ مِنْ غَفْلَةٍ لِمَنْ نَظَرْ
وَتَوْبَةٌ يُحْدِثُهَا وَصَدَقَةْ ... وَوَعْظُهُ هَدِيَّةٌ مُوَفَّقَةْ
وَفِي قَضَاءِ اللهِ ثُمَّ فِي الْقَدَرِ ... مِنْ بَعْدِ هَذَا عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ
أَعْمَارُكُمْ صَحَائِفُ الآجَالِ ... فَجَلِّدُوهَا أَنْفَسَ الأَعْمَالِ
عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ وَلَوْ أَضَرَّكَا ... وَلا تُعيِّرْ هَالِكًا فَتَهْلِكَا
صَبْرُ الْفَتَى عَلَى أَلِيمِ كَسْبِهِ ... أَسْهَلُ مِنْ حَاجَتِهِ لِصَحْبِهِ
فَالصَّبْرُ سَيْفٌ لا يَكَادُ يَنْبُو ... وَالْقَنْعُ نَجْمٌ لا تَرَاهُ يَخْبُو
جَرْحُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْهِمَمِ ... أَهْوَنُ مِنْ جُرْحِ اللِّسَانِ فَافْهَمْ
خَيْرُ قَرِينِ الْمَرْءِ حُسْنُ الْخُلُقِ ... يُدْنِي الْفَتَى مِنْ كُلِّ أَمْرٍ صَائِبِ
الْحُرُّ عَبْدٌ مَا تَرَاهُ طَامِعَا ... وَالْعَبْدُ حُرُّ مَا تَرَاهُ قَانِعَا
أَغْنَى الْغِنَى لِلْمَرْءِ حُسْنُ الْعَقْلِ ... وَالْفَقْرُ كُلُّ ذُلُّ وَالْجَهْلِ
إِيَّاكَ أَنْ تَخْدَعَكَ الأَمَانِي ... فَإِنَّهَا قَاتِلَةُ الإِنْسَانِ
وَاحْذَرْ لُزُومَ سَوْفَ مَا اسْتَطَعْتَا ... فَإِنَّهُ سَيْفٌ عَسَى وَحَتَّى
سَارِعْ إِلَى الْخَيْرِ تُلاقِ رَشَدَا ... وَكُنْ مِن الشَّرِّ أَشَدَّ بُعْدَا(3/44)
.. وَإِنْ صَحِبْتَ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَا ... فَاحْذَرْ رُجُوعَ الشَّهْدِ مِنْهُ عَلْقَمَا
وَانْصَحْهُ وَالْوَرَى مَعًا بِالرِّفْقِ ... وَالْبَسْ لَهُمْ دُرْعَى تُقىً وَصِدْقِ
آخِ الَّذِي يَسُدُّ مِنْكَ الْخَلَّةْ ... وَيَسْتُرُ الزَّلَّةِ بَعْدَ الزَّلَةْ
وَمَنْ أَقَالَ عَثْرَةً وَمَنْ رَفَقْ ... وَكَظَمَ الْغَيْظَ إِذَا اشْتَدَّ الْخُنُقْ
فَهُوَ الَّذِي قَدْ تَمَّ عَقْلاً وَكَمُلْ ... وَمَنْ إِذَا قَالَ مَقَالاً قَدْ فَعَلْ
فَاشْدُدْ يَدَيْكَ يَا بُنَيَّ ... تُحْظَ بِعِزٍّ دَائِمٍ سَنِي
إِيَّاكَ أَنْ تُهْمِلَ طَرَفَ الطَّرْفِ ... فَإِنَّهُ يَسْمُو لِكُلِّ حَتْفِ
إِذَا تُسِيء إِلَى أَخِيكَ فَاعْتَذِرْ ... وَإِنْ أَسَاءَ يَا بُنَيَّ فَاغْتَفِرْ
فَالْعُذْرُ يَقْضِي بِكَمَالِ الْعَقْلِ ... وَالْعَفْوُ بُرْهَانٌ لِكُلِّ فَضْلِ
وَجَانِب الْخَلْقَ بِغَيْرِ مَقْتِ ... وَالْبَسْ لَهُمْ يَا صَاحِ دِرْعَ الصَّمْتِ
إِذَا التَّوْبَ مَكَارِهٌ فَنَمْ لَهَا ... وَقُلْ عَسَاهَا تَنْجَلِي وَعَلَّهَا
عَسَى الَّذِي أَصْبَحْتُ فِيهِ مِنْ حَرَجْ ... يُعْقِبُهُ اللهُ تَعَالى بِالْفَرَجْ
هَذَا الَّذِي جَادَتْ بِهِ الْقَرِيحَةُ ... فَاحْذُ عَلَيْهِ وَاقْبَلَ النَّصِيحَةْ
وَإِنْ رَأَتْ عَيْنَاكَ عَيْبًا صُنْهُ ... فَتَفَضُلاً مِنْكَ وَصُدَّ عَنْهُ
فَتَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى عَفْوًا ... يُتْبِعُهُ فِي كُلِّ عُسْرٍ يُسْرَا
وَصَلِّ يَا رَبِّ عَلَى خَيْرِ الْوَرَى ... مَا صَدَّحَتْ قَمْرِيَّةٌ عَلَى الذُّرَا
وَالآلُ وَالأَزْوَاجِ وَالأَصْحَابِ ... وَالتَّابِعِينَ مِنْ أُولِي الأَلْبَابِ
(انتهى)
آخر: ... عَلَيْكَ مِن الأُمُورِ بِمَا يُؤَدَى ... إِلَى سُنَنِ السَّلامَةِ وَالْخَلاصِ
وَمَا تَرْجُو النَّجَاةَ بِهِ وَشِيكًا ... وَفَوْزًا يَوْمَ يُؤخَذُ بِالنَّوَاصِي
فَلَيْسَ تَنَالُ عَفْوَ اللهِ إِلا ... بِتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِنَ الْمَعَاصِي
وَبِرِّ الْمُؤْمِنِينَ بِكُلِّ رِفْقٍ ... وَنُصْحٍ لِلأَدَانِي وَالأَقَاصِي(3/45)
.. وَإِنْ تَشْدُدْ يَدًا بِالْخَيْرِ تُفْلَحْ ... وَإِنْ تَعْدِلْ فَمَا لَكَ مِنْ مَنَاصِ
اللهم ثبت وقوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم عاملنا بعفوك وغفرانك وامنن علينا بفضلك وإحسانك ونجنا من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك وكرمك وجودك الجنة دار القرار واجعلنا مع عبادك الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : أخرج أبو الشيخ بن حبان في كتاب الوصيا والحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل وأبو نعيم كلاهما عم عطاء الخرساني.
قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس إن ثابتًا قتل يوم اليمامة وعليه درع له نفيسة فمر رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه.
إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرسن يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقل له: إن علي من الدين كذا وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدًا فأخبره فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحدًا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس. انتهى.
شِعْرًا: ... تَبَارَكَ ذُو الْعُلا وَالْكِبْرِيَاءِ ... تَفَرَّدَ بِالْجَلالِ وَبِالْبَقَاءِ
وَسَوَّى الْمَوْتَ بَيْنَ الْخَلْقِ طُرًّا ... وَكُلُّهُمْ رَهَائِنُ لِلْفَناَءِ
وَدُنْيَانَا - وَإِنْ مِلْنَا إِلَيْهَا ... وَطَالَ بِهَا الْمَتَاعُ - إِلَى انْقِضَاءِ
أَلا إِنَّ الرُّكُونَ عَلَى غُرُورٍ ... إِلَى دَارِ الْفَنَاءِ مِنَ الْفَنَاءِ
وَقَاطِنُهَا سَرِيعُ الظَّعْنِ عَنْهَا ... وَإِنْ كَانَ الْحَرِيصَ عَلَى الثَّوَاءِ
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام لامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/46)
(وصية عظيمة نافعة لمن عمل بها)
وصية الإمام الغزالي لبعض إخوانه، فقال: وإني أوصي هذا الأخ أن يصرف إلى الآخرة همته وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ويراقب سريرته وعلانيته وقصده، وهمته، وأفعاله، وأقواله، وإصداره، وإيراده، أهي مقصورة على ما يقربه إلى الله تعالى ويوصله إلى سعادة الأبد، أو منصرفة إلى ما يعمر دنياه ويصلحها له إصلاحًا منغصًا، مشوبًا بالكدورات، مشحونًا بالغموم والهموم، ثم يختمها بالشقاوة والعياذ بالله؟
فليفتح عين بصيرته ولتنظر نفس ما قدمت لغد، وليعلم أنه لا ناظر لنفسه ولا مشفق سواه.
وليتدبر ما كان بصدده؛ فإن كان مشغولاً بعمارة ضيعة فلينظر: كم من قرية أهلكها الله تعالى وهى ظالمة، فهي خاوية على عروشها بعد إعمالها؟
وإن كان مقبلاً على استخراج ماء، وعمارة نهر؛ فلينظر: كم من بئر معطلة وقصر مشيد بعد عمارتها؟
وإن كان مهتمًا بتأسيس بناء؛ فليتأمل: كم من قصور مشيدة البنيان محكمة القواعد والأركان، أظلمت بعد سكانها؟
وإن كان مهتمًا بعمارة الحدائق والبساتين فليعتبر: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} (44 سورة الدخان، الآيات: 25-27) ، وليقرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (26 سورة الشعراء، الآيات: 205 - 207) .
وإن كان مشغوفًا - والعياذ بالله - بخدمة سلطان، فليتذكر ما ورد في الخبر أنه ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فلا يبقى أحد مد لهم دواة أو برى لهم قلمًا فما فوق ذلك إلا حضر، فيجمعون في تابوت من نار، فيلقون في جهنم.
وعلى الجملة، فالناس كلهم إلا من عصم الله نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا عن التزود للآخرة، وأقبلوا على طلب أمرين: الجاه والمال، فإن كان هو في طلب جاه ورياسة،(3/47)
فليتذكر ما ورد به الخبر: أن الأمراء والرؤساء يحشرون يوم القيامة في صورة الذر تحت أقدام الناس يطؤهم بأقدامهم، وليقرأ ما قال تعالى في كل متكبر جبار.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «يكتب الرجل جبارًا وما يملك إلا أهل بيته» . أي: إذا طلب الرياسة بينهم، وتكبر عليهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادًا من حب الشرف في دين الرجل المسلم» .
وإن كان في طلب المال وجمعه فليتأمل قول عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين، الغنى مسرة في الدنيا، مضرة في الآخرة، بحق أقول لكم: لا يدخل الجنة الأغنياء ملكوت السماء.
وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر الأغنياء يوم القيامة أربع فرق: رجل جمع مالاً من حرام، وأنفقه في حرام، فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حرام، وأنفقه في حلال فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حلال، وأنفقه في حرام، فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حلال، وأنفقه في حلال، فيقال: قفوا هذا، واسألوه؛ لعله ضيع بسبب غناه فيما فرضنا عليه، أو قصر في الصلاة أو في وضوئها، أو ركوعها، أو سجودها، أو خشوعها، أو ضيع شيئًا من فروض الزكاة والحج.
فيقول: لعلك باهيت، واختلت في شيء من ثيابك؟
فيقول: يا رب! ما باهيت ولا اختلت في ثيابي.
فيقول: لعلك فرطت فيما أمرناك به من صلة الرحم، وحق الجيران والمساكين، وقصرت في التقديم والتأخير، والتفصيل والتعديل؟
ويحيط هؤلاء به فيقولون: ربنا أغنيته بين أظهرنا، وأحوجتنا إليه، فقصر في حقنا» .
شِعْرًا: ... فَإِنْ يَكَنِ الرَّحْمَنُ أَعْطَاكَ ثَرْوَةً ... فَأَصْبَحْتَ ذَا يُسْرٍ وَقَدْ كُنْتَ ذَا عُسْرِ
فَتَابِعْ لَهُ حَمْدًا وَشُكْرًا مَعَ الثَّنَا ... يَزِدْكَ وَتَأْمَنْ يَا أُخَيَّ مِنَ الْفَقْرِ
وَأَخْرِجْ لِحَقِّ اللهِ مِنْهَا مُبَادِرًا ... لِمَنْ كَانَ ذَا فَقْرٍ قَرِيبٍ وَذِي عُسْرِ
آخر: ... ذِهَابُ الْمَالِ فِي حَمْدٍ وَأَجْرٍ ... ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ ذَهَابُ(3/48)
فإن ظهر تقصر ذهب به إلى النار، وإلا قيل له: قف! هات الآن شكر كل لقمة، وكل شربة، وكل أكلة، وكل لذة؛ فلا يزال يسأل.
فهذا حال الأغنياء الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله تعالى، أن يطول وقوفهم في العرصات، فكيف حال المفرطين المنهمكين في الحرام والشبهات، المتكاثرين به، المتنعمين بشهواتهم، الذين قيل فيهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (102 سورة التكاثر، الآية: 1) .
فهذه المطالب الفاسدة هي التي استولت على قلوب الخلق، فسخرتها للشيطان، وجعلتها ضحكة له، فعليه وعلى كل مستمر في عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا المرض الذي حل بالقلوب.
فعلاج مرض القلوب أهم من علاج مرض الأبدان، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. وله دواءان:
أحدهما: ملازمة ذكر الموت وطول التأمل فيه، مع الاعتبار بخاتمة الملوك وأرباب الدنيا، كيف أنهم جمعوا كثيرا، وبنوا قصورًا، وفرحوا بالدنيا بطرًا أو غرورًا فصارت قصورهم قبورًا، وأصبح جمعهم هباء منثورًا: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (23 سورة الأحزاب، الآية: 38) ، {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} (32 سورة السجدة، الآية: 26) .
فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة، تسهد بلسان حالها على غرور عمالها، فانظر الآن في جمعيهم: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} (19 سورة مريم، الآية: 98) .
شِعْرًا: ... إِنَّ الَّذِينَ بَنُو فَطَالَ بُنَاؤُهُمْ ... وَاسْتَمْتَعُوا بِالْمَالِ وَالأَوْلادِ
جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَل دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادِ(3/49)
قال بعضهم:
حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى نَتَوَانَا ... وَأَظُنُّ هَذَا كُلَّهُ نِسْيَانَا
وَالْمَوْتُ يَطْلُبُنَا حَثِيثًا مُسْرِعًا ... إِنْ لَمْ يَزُرْنَا بُكْرَةً مَسَّانَا
إِنَّا لَنُوعَظُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ... وَكَأَنَّمَا يُعْنِي بِذَاكَ سِوَانَا
غَلَبَ الْيَقِينُ عَلَى التَّشَكُكِ فِي الرَّدَى ... حَتَّى كَانَا قَدْ نَرَاهُ عِيَانَا
يَا مَنْ يَصِيرُ غَدًا إِلَى دَارِ الْبَلَى ... وَيُفَارَقُ الإِخْوَانَ وَالْخِلانَا
إِنَّ الأَمَاكِنَ فِي الْمَعَادِ عَزِيزَةٌ ... فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ إِنْ عَقَلْتَ مَكَانَا
الدواء الثاني: تدبر كتاب الله، ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين.
وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بملازمة هذين الواعظين بقوله: «فقد تركت فيكم واعظين: صامتًا وناطقًا؛ الصامت الموت، والناطق القرآن» .
وقد أصبح أكثر الناس أمواتًا عن كتاب الله تعالى، وأن كانوا أحياء في معايشهم، وبكمًا عن كتاب الله، وإن كانوا يتلونه بألسنتهم؛ وصمًا عن سماعه، وإن كانوا يسمعونه بآذانهم؛ وعميًا عن عجائبه، وإن كانوا ينظرون إليه في صحائفهم؛ وأميين في أسراره، ومعانيه، وإن كانوا يشرحونه في تفاسيرهم.
فاحذر أن تكون منهم، وتدبر أمرك، من لم يتدبر كيف بقوم ويحشر؟
وانظر في أمرك وأمر من لم ينظر في نفسه، كيف خاب عند الموت وخسر؟ واتعظ بآية واحدة من كتاب الله تعالى، ففيها مقنع وبلاغ لكل ذي بصيرة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (63 سورة المنافقين، الآية: 9) إلى آخرها. وإياك ثم إياك، أن تشتغل بجمع المال فإن فرحك به ينسيك عن ذكر الآخرة وينزع حلاوة الإيمان من قلبك.
شِعْرًا: ... أَتَطمَعُ أَنْ تُخَلَدَ لا أَبَالَكْ ... أَمِنْتَ مِنَ الْمَنِيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ(3/50)
فَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِهُجُومِ مَوْتٍ ... يُشَتَّتُ بَعْدَ جَمْعِهُمْ عِيَالَكْ
كَأَنِّي بِالتُّرَابِ عَلَيْكَ يُحْثَى ... وَبِالْبَاكِينَ يَقْتَسَمُونَ مَالَكْ
آخر: ... أَلا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا ... فَاخْبِرْهُ بِمَا فَعَلَ الْمَشِيبُ
قال عيسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بحلاوة إيمانكم وهذا ثمرته بمجرد النظر فكيف عاقبة الجمع والطغيان والبطر انتهت الوصية.
شِعْرًا: ... اذْكُرِي الْمَوْتَ لَدَى النَّوْمِ وَلا ... تَغْفُلِي عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْهُبُوبْ
وَاذْكُرِي الْوِحْشَةَ فِي الْقَبْرِ فَلا ... مُؤنِسٌ فِيهَا سِوَى تَقْوَى الْقُلُوبْ
قَدِّمِي الْخَيْرَ احْتِسَابًا فَكَفَى ... بَعْضُ مَا قَدَّمْتِ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبْ
رَاعَنِي فَقْدُ شَبَابِي وَأَنَا ... لا أَرَاعُ الْيَوْمَ مِنْ فُقْدِ الْمَشِيبْ
جَنَّ جَنْبَايَ إِلَى بُرْدِ الثَّرَى ... حَيْثُ أُنْسَى مِنْ عَدُوٍّ وَصَدِيقْ
آخر: ... وَكَمْ ذِي مَعَاصِي نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً ... وَمَاتَ وَخَلاهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا
تَصَرَّمُ لَذَّاتُ الْمَعَاصِي وَتَنْقَضِي ... وَتَبْقَى تِبَاعَات الْمَعَاصِي كَمَا هِيَا
فَوَاسَأتَا وَالله رَاءٍ وَسَامِعٌ ... لِعَبْدٍ بِعَيْنِ اللهِ يَغِشى الْمَعَاصِيَا
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ) : ولما نزل الموت بالحسن بن علي رضي الله عنهما قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار. فأخرج فقال: اللهم إني احتسب نفسي عندك فإني لم أصب بمثلها؛ ومن أخلاقهم قلة الضحك وعدم الفرح بشيء من الدنيا بل كانوا ينقبضون بكل شيء حصل لهم من ملابسهم ومراكبها ومناكحها ومناصبها عكس ما عليه أبناء الدنيا العاشقون لها كل ذلك خوفًا أن يكونوا ممن عجل لهم الطيبات في الحياة الدنيا وكيف يفرح بشيء سوى فضل الله ورحمته من هو في السجن محبوس عن لقاء الله عز وجل.(3/51)
شِعْرًا: ... لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ قَصْرٍ ... فَسِيحٍ مُنْيَةٍ لِلسَّاكِنِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِيِنٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ووالذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» . وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: عجبت من ضاحك ومن ورائه النار ومن مسرور ومن ورائه الموت.
وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم قال: أتى عبد الرحمن بن عوف بعشائه وهو صائم فقرأ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه وما تعشى وإنه لصائم خرجه الجوزجاني. وقال الحسن: ما ظنك بأقوام قاموا لله على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشًا واحترقت أجوافهم جوعًا صرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن جرها واشتد نضجها.
شِعْرًا: ... وَمَا عِظْم الْمُصَابِ فِرَاقُ أَهْلِ ... وَلا وَلَدٍ وَلا جَارٍ شَفِيقِ
وَلا مَوْتِ الْغَرِيبِ بَعِيدُ دَارٍ ... عَنِ الأَوْطَانِ فِي الْبَلَدِ السَّحِيقِ
وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ فَقْدُ دِينٍ ... يَنَالُ بِفَقْدِهِ سُكْنَى الْحَرِيقِ
وروي أن الحسن أمسى صائمًا فأتي بعشاه فعرضت له هذه الآية {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} فقلصت يده وقال: ارفعوه فأصبح صائمًا.
فلما أمسى أتي بإفطاره عرضت له الآية. فقال: ارفعوه. فقلنا: يا أبا سعيد تهلك وتضعف فأصبح اليوم الثالث صائمًا فذهب ابنه إلى يحيى البكاء وثابت(3/52)
البناني ويزيد الضبي. فقال: أدركوا أبي فإنه هالك فلم يزالوا له حتى سقوه شربة ماء من سويق. وكان كثير من السلف مثل هؤلاء ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار وشرابهم طعام الدنيا فيمتنعوا من تناوله أحيانًا لذلك.
وقال ابن أبي ذئب: حدثني من شَهِدَ عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام من مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس.
وقال سرار أبو عبد الله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال لي: يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يداها على عنقها وتسحب إلى النار أن لا تبكي ولا تصيح وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي.
وقال العلاء بن زياد كان إخوان مطرف عنده فخاضوا في ذكر الجنة والنار فقال مطرف: لا أدري ما تقولون حال ذكر النار بيني وبين الجنة.
وقال عبد الله بن أبي الهذيل: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة وعوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه وقيل له: لو كانت النار خلقت لك ما زادت على هذا، فقال: وهل خلقته إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن والإنس.
أما تقرأ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} ، أما تقرأ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} ، فقرأ حتى بلغ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} وجعل يجول في الدار ويبكي حتى غشي عليه.
شِعْرًا: ... يَا رَبِّ جُدْ لِي إِذَا مَا ضَمَّنِي جَدَثِي ... بِرَحْمَةٍ مِنْكَ تُنْجِيني مِنَ النَّارِ(3/53)
أَحْسِنْ جِوَارِي إِذَا أَمْسَيْتُ جَارَكَ فِي ... لَحْدٍ فَإِنَّكَ قَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ
اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : ومن أخلاقهم مقت أنفسهم ومحاسنها على الدقيق والجليل، قال مطرف بدعائه في عرفة: اللهم لا تردهم لأجلي. وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم. وقال أيوب السحيتاني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدتي اسمي الذي أضله أهل البصرة. وقال: لو قيل ليخرج شر من في المسجد ما سبقني على الباب أحد.
وكان سفيان الثوري ما ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النَّار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.
ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت ممن كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة أيطمع لمثلي أن ينجو من النار، فقال: أي والله إني لأرجو ذلك.
وكان سفيان الثوري بهذه الأبيات كثيرًا ما يتمثل:(3/54)
أَظَرِيفُ إِنَّ الْعَيْشَ كَدَّرَ صَفْوَهُ ... ذِكْرُ الْمَنِيَّةِ وَالْقُبُورِ الْهُوَّلِ
دُنْيًا تَدَاوَلَهَا الْعِبَادُ ذَمِيمَةً ... شِيبَتْ بِأَكْرَهَ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ
وَبَنَاتُ دَهْرِ لا تَزَالُ مُلِمَّةً ... وَلَهَا فَجَائِعُ مِثْلُ وَقْعِ الْجَنْدَلِ
وجاع مرة جوعًا شديدًا فمر بدار فيها عرس فدعته نفسه على أن يدخل فلم يطوعها ومضى إلى بيته وقدمت له بنته قرصًا فأكله وشرب ماء فتجشى ثم قال:
سَيَكْفِيكَ مِمَّا أُغْلِقَ الْبَابُ دُونَهُ ... وَظَنَّ بِهِ الأَقْوَامُ مِلْحٌ بِجُرْدُقِ
وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ وَتَغْتَذِي ... تُعَارِضُ أَصْحَابَ الثَّرِيدِ الْمَلَبَّقِ
تَجَتَّنِي إِذَا مَا هُمْ تَجشَوْا كَأَنَّمَا ... ظَلَلْتَ بِأَنْوَاعِ الْخَبِيصِ الْمُفَتَّقِ
آخر: ... إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً ... وَخَمْسَ تُمَيْرَاتٍ صِغَارِ كَوَانِزِ
فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خَصْبًا وَنَعْمَةً ... وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ عِنْدَ الْهَزَائِزِ
وَكَمْ مُتَمَنَّ عَيْشَنَا لا يَنَالَهُ ... وَلَوْ نَالَهُ أَضْحَى بِهِ حَقَّ فَائِزِ
آخر: ... خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الطَّوَى وَأَعِفَّةٌ ... عَنْ شُبْهِةٍ لا يَعْرِفُونَ حَرَامَا
وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة. وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي.
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فاثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس ما نحن عليه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدًا.
وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورًا ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ(3/55)
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معهم رضي الله عنها.
شِعْرًا: ... قَوْمٌ مَضَوْا كَانَتْ الدُّنْيَا بِهِمْ نُزَهًا ... وَالدَّهْرُ كَالْعِيدِ وَالأَوْقَاتُ أَوْقَاتُ
عَدْلٌ وَأَمْنٌ وَإِحْسَانٌ وَبَذْلُ نَدَى ... وَخَفْضُ عَيْشٍ نُقضِّيهِ وَأَوْقَاتُ
مَاتُوا وَعِشْنَا فَهُمْ عَاشُوا بِمَوْتِهِمْ ... وَنَحْنُ فِي صُوَرِ الأَحْيَاءِ أَمْوَاتُ
للهِ دَرُّ زَمَانٍ نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ... أَوْدَى بِنَا وَعَرَتْنَا فِيهِ نَكْبَاتُ
جُورٌ وَخَوْفٌ وَذُلٌّ مَا لَهُ أَمَدٌ ... وَعَيْشَةٌ كُلُّهَا هَمٌّ وَآفَاتُ
وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ لا أَخْلاقَ لَهُمْ ... إِلَى مُدَارَاتِهِمْ تَدْعُو الضَّرُورَاتُ
مَا فِيهِمْ مِنْ كَرِيمٍ يُرْتَجَى لِنَدىً ... كَلا وَلا لَهُمْ ذِكْرٌ إِذَا مَاتُوا
لا الدِّينُ يُوجَدُ فِيهِمْ لا وَلا لَهُمُوا ... مِنَ الْمُرُوءَةِ مَا تَسْمُو بِهِ الذَّاتُ
واَلصَّبْرُ قَدْ عَزَّ وَالآمَالُ تُطْمِعُنَا ... وَالْعُمْرُ يَمْضِي فَتَارَاتٌ وَتَارَاتُ
وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ... زَالَتْ مِنْ النَّاسِ وَاللهِ الْمُرُوآتُ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعاتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا لجميع المسلمين. اللهم اشف قلوبنا من أمراض المعاصي والآثام واملأها من خشيتك وأقبل بها إلى طاعتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/56)
(فَصْلٌ)
ومن أخلاقهم رضي الله عنهم كثرة الحزن والهم كلما تذكروا الموت وسكراته وخوف سوء الخاتمة الذي من أسبابه استيلاء حب الدنيا على القلب وضعف الإيمان والانهماك في المعاصي.
لأنه متى ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا حتى لا يبقى في القلب موضع لحب الله إلا من حيث حديث النفس ولا أثر له في كفها عن السيئات.
وذلك يورث الإكثار من المعاصي والاستمرار فيها حتى يظلم القلب وتراكم عليه ظلمات الذنوب فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى تصير طبعًا ورينا.
فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ضعف حبه لله لشعوره بفراق الدنيا إذ هي المحبوب الغالب على القلب فيتألم باستشعار فراقها ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهيته من حيث أنه من الله فيخشى أن يفرط من لسانه أو يثور من قلبه شيء يسخط الله عليه.
والذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى أما من كان حب الله تعالى أغلب على قلبه من حب المال والدنيا فهو أبعد عن هذا الخطر العظيم فحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال.
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين متأثرين بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تزن عندهم الدنيا شيئًا ولا يعبؤن بها وإذا حصل لهم شيء منها خرج فورًا ومن أخلاقهم القناعة وحسن الالتجاء إلى الله والثقة له والتوكل عليه في الدقيق والجليل قال بعضهم:(3/57)
يَا مَنْ لَهُ الْفَضْلُ مَحْضًا فِي بَرِيَّتِهِ ... وَهُوَ الْمُؤَمَّلُ فِي الضَّرَاءِ وَالْبَاسِ
عَوَّدَتْنِي عَادَةٌ أَنْتَ الْكَفِيلُ بِهَا ... فَلا تَكِلْنِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ النَّاسِ
وَلا تُذِلَّ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ ... وَجْهِي الْمَصُونُ وَلا تَخْفِضْ لَهُمْ رَاسِي
وَابْعَثْ عَلَى يَدِ مَنْ تَرْضَاهُ مِنْ بَشَرٍٍ ... رِزْقِي وَصُنْهُوَ عَمَّنْ قَلْبُهُ قَاسِي
فَإِنَّ حَبْلَ رَجَائِي فِيكَ مُتَّصِل ... بِحُسْنِ صُنْعِكَ مَقْطُوعًا عَنْ النَّاسِ
آخر: ... إِنَّ الْقَنَاعَةَ كَنْزٌ لَيْسَ بِالْفَانِي ... فَاغْنَمْ أَُخَيَّ هُدِيتَ عَيْشَهَا الْفَانِ
وَعِشْ قَنُوعًا بِلا حِرْصٍ وَلا طَمَعٍ ... تَعِشْ حَمِيدًا رَفِيعَ الْقَدْرِ وَالشَّانِ
لَيْسَ الْغَنِيُّ كَثِيرَ الْمَالِ يَخْزُنَهُ ... لِحَادِثِ الدَّهْرِ أَوْ لِلْوَارِثِ الشَّانِي
يُجَمِّعُ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ وَمِنْ شُبَهٍ ... وَلَيْسَ يُنْفِقُ فِي بِرٍّ وَإِحْسَانٍ
يَشْقَى بِأَمْوَالِهِ قَبْلَ الْمَمَاتِ كَمَا ... يَشْقَى بِهَا بَعْدَه فِي عُمْرِهِ الثَّانِي
إِنَّ الْغَنِيَّ غَنِيُّ النَّفْسِ قَانِعُهَا ... مُوَفَّرُ الْحَظِّ مِنْ زُهْدٍ وَإِيمَانِ
بَرٌّ كَرِيمٌ سَخِيُّ النَّفْسِ يُنْفِقُ مَا ... حَوَتْ بَدَاهُ مِنَ الدُّنْيَا بِإِيقَانِ
مُنَوَّرُ الْقَلْبِ يَخْشَى اللهَ يَعْبُدُهُ ... وَيَتَّقِيهِ بِإِسْرَارِ وَإِعْلانِ
مُوَفَّقٌ رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ مُتَّبِعٌ ... إِثَرَ الرَّسُولِ بِإِخْلاصِ وَإِحْسَانِ
آخر: ... إِنْ كُنْتَ تَرْجُو اللهَ فَاقْتَنِعْ بِهِ ... فَعِنْدَهُ الْفَضْلُ الْكَثِيرُ الْغَزِيرْ
مَنْ ذَا الَّذِي تَلْزَمُهُ فَاقَةٌ ... وَذُخْرُهُ اللهُ الْغَنِيُّ الْكَبِيرْ
(فَصْلٌ) : قال ابن القيم رحمه الله: من فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال:(3/58)
يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: «لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه» .
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه.
وإن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علْم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو ومغفرة، وأن إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجائهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن هنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
شِعْرًا:
شِعْرًا: ... مَا أَنْعَمَ الْعِيشَةُ لَوْ أَنَّ الْفَتَى ... يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الْوَرَى
وَقَدْ تَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالتُّقَى ... لِيَقْتَدِي مِنْ قَصْدُهُ سُبْلَ الْهُدَى
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا.
وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك، فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه،(3/59)
ولو عمل الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : وقال رحمة الله تعالى: فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.
فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل باعتقاده ومحبته لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضوع كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل.
وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه بغيره.
ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضوع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وأحكامه.
وسر ذلك في إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء وفهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
ولهذا في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا» . رواه مسلم وغيره.
فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها.(3/60)
وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغًا لها ولا قبولاً وجاوزته إلى محل سواه.
كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها وتلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة.
وقال بعضهم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ولقي حكيم حكيمًا فقال له: لا رأك الله عندما نهاك ولا فقدك حيث أمرك. وقال بشر بن الحارث: بي داء ما لم أعالج نفسي لا أتفرغ لغيري فإذا عالجت نفسي تفرغت لغيري.
وقال: أنا أكره الموت ولا يكره إلا مريب وسأله بعضهم موعظة فقال: ما تقول فيمن القبر مسكنه والصراط جوازه والقيامة موقفه والله مسائله فلا يعلم إلى جنة يصير فينهى أو إلى نار فيعزى فوا طول حزناه وأعظم مصيبتاه زاد البكاء فلا عزاء واشتد الخوف فلا أمن.
شِعْرًا: ... تَعَافُ الْقَذَا فِي الْمَاءِ لا تَسْتَطِيعُهُ ... وَتَكْرَعُ فِي حَوْضِ الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ
وَتُؤْثِرُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ ... وَلا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ تَكْسَبُ
وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينَ فَوْقَ نَمَارِقٍ ... وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ
فَحَتَّى مَتَى لا تَسْتَفِيقُ جَهَالَةٍ ... وَأَنْتَ ابنُ سَبْعِينٍ بِدِينِكَ تَلْعَبُ
ولقد كان بعض الصحابة يؤدي ما عليه من العبادة ولم يكن يكثر من الاستغفار في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى أكثر الصحابي من الاستغفار، فسأله الصحابة في ذلك فقال: لقد كنت آمنًا من العذاب في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما توفي لم يبق إلا الأمان الثاني وهو الاستغفار.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
وقال عامر بن عبد الله بن قيس: لو أن الدنيا كانت لي بحذافيرها ثم أمرني(3/61)
الله تعالى بإخراجها كلها لأخرجتها بطيب نفس، وكلن يقول: كم من شيء كنت أحسنه أود الآن إني لا أحسنه وما يغني ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به.
وكان يقول: (من جهل العبد أن يخاف على الناس من ذنوبهم ويأمن هو على ذنوب نفسه) .
ويقول بعضهم: طوبى لمن كان صمته تفكرًا وكلامه ذكرًا ومشيه تدبرًا وكان سفيان الثوري يقول: إذا فسد العلماء فمن بقي في الدنيا يصلحهم ثم ينشد:
يَا مَعْشَرُ الْعُلَمَاءِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ ... مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحَ فَسَدْ
آخر: ... وَرَاعِ الشَّاةَ يَحْمِي الذِّئْبَ عَنْهَا ... فَكَيْفَ إِذْ الذِّئَابُ لَهَا رُعَاةُ
بِالْمِلْحِ يَصْلَحُ مَا يَخْشَى تَغَيُّرُهُ ... فَكَيْفَ بِالْمِلْحِ إِنْ حَلَّتْ بِهِ الْغِيَرُ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : وقال بعض العلماء: إخواني اعلموا أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم وأن من العلماء رحمة على الناس يسعد من اقتدى بهم وأن من العلماء فتنة على الأمة يهلك من تأسى بهم.
فالعالم إذا كان عاملاً برضوان الله مؤثرًا للآخرة على الدنيا فأولئك خلفاء الرسل عليهم السلام والنصحاء للعباد والدعاة إلى الله فيسعد من أجابهم ويفوز من اقتدى بهم ولهم مثل أجر المتأسين بهم.
وتلا بعض أهل العلم قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
فقال: هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين إنه خليفة الله.(3/62)
يا قوم فبمثل هذا العالم اقتدوا به وتأسوا تسعدوا ألا أن صنفًا من العلماء رضوا بالدنيا عوضًا عن الآخرة فآثروها على جوار الله تعالى ورغبوا في الاستكثار منها وأحبوا العلو فيها.
فتأسى بهم عالم من الناس وافتتن بهم خلق كثير أولئك أسوء فتنة على الأمة، تركوا النصح للناس كيلا يفتضحوا عندهم، لقد خسروا وبئسما اتجروا واحتملوا أوزارهم مع أوزار المتأسين بهم فهلكوا وأهلكوا أولئك خلفاء الشيطان ودعاة إبليس أقل الله في البرية أمثالهم.
وقال بعض العلماء: من ازداد بالله علمًا فازداد للدنيا حبًا ازداد من الله بعدًا وقال: إذا كان العالم مفتونًا بالدنيا راغبًا فيها حريصًا عليها فإن في مجالسته لفتنة تزيد الجاهل جهلاً وبفتن العالم يزيد الفاجر فجورًا ويفسد قلب المؤمن.
شِعْرًا: ... أُوصِيكُمُ يَا مَعْشَرَ الإِخْوَانِ ... عَلَيْكِمْ بِطَاعَةِ الدَّيَّانِ
وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُهْمِلُوا أَوْقَاتَكُمْ ... فَتَنْدَمُوا يَوْمًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَإِنَّمَا غَنِيمَةُ الإِنْسَانِ ... شَبَابُهُ وَالْخُسْرُ فِي التَّوَانِي
مَا أَحْسَنَ الطَّاعَةَ لِلشُّبَّانِ ... فَأَسْعَوْا لِتَقْوَى اللهِ يَا إِخْوَانِي
وَأَعْمِرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِالطَّاعَةَ ... وَالذِّكْر كُلَّ لَحْظَةٍ وَسَاعَةْ
وَمَنْ تَفُتْهُ سَاعَةْ فِي عُمْرِهِ ... تَكُنْ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ فِي قَبْرِهِ
وَمَنْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي شَبَابِهِ ... حَتَّى مَضَى عَجِبْتُ مِنْ تَبَابِهِ
وَيَا سَعَادَةَ امْرِئٍ قَضَاهُ ... فِي عَمَلٍ يَرْضَى بِهِ مَوْلاهُ
أَحَبَّ رَبِّي طَاعَةِ الشَّبَابِ ... يَا فَوْزَهُمْ بِجَنَّةِ الرِّضْوَانِ
فَتُبْ إِلَى مَوْلاكَ يَا إِنْسَانُ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفُوتَكَ الأَوَانُ
وَمَنْ يَقُلْ إِنِّي صَغِيرٌ أَصْبِرُ ... ثُمَّ أُطِيعُ اللهَ حِينَ أَكْبُرَ
فَإِنْ ذَاكَ غَرَّهُ إِبْلِيسُ ... وَقَلْبُهُ مُغَلَّقٌ مَطْمُوسُ
لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ صَغِيرَا ... وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْبِهِ بَصِيرَا(3/63)
مُجَانِبًا لِلإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ ... مُخَالِفًا لِلنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
مُلازِمًا تِلاوَةَ الْقُرْآنِ ... مُسْتَعْصِمًا بِالذِّكْرِ مِنْ نِسْيَانِ
مُرَاقِبًا للهِ فِي الشُّؤُونِ ... مُحَاذِرًا مِنْ سَائِرِ الْفُتُونِ
مُجَانِبًا رَذَائِلَ الأَخْلاقِ ... مُجَافِيًا كُلا عَدَا الْخَلاقِ
مُحَارِبًا لِنُزْعَةِ الضَّلالِ ... وَصَوْلَةِ الأَهْوَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ
فَإِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ بِالنَّجَاةِ ... فَاسْلُكْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَاةِ
يَا مَنْ يَرُومُ الْفَوْزَ فِي الْجَنَّاتَ ... بِالْمُشْتَهَى وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ
انْهَضْ إِلَى السَّجَدَاتِ فِي الأَسْحَارِ ... وَاحْرِصْ عَلَى الأَوْرَادِ وَالأَذْكَارِ
وَاحْذَرْ رِيَاءَ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ ... فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ
وَاخْتَرْ مِنَ الأَصْحَابِ كُلَّ مُرْشِدِ ... إِنَّ الْقَرِينَ بِالْقَرِينَ يَقْتَدِي
وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ دَاءٌ وَعَمَى ... تَزِيدُ فِي الْقَلْبِ السَّقِيمَ السَّقَمَا
فَإِنْ تَبِعْت سُنَّةَ النَّبِي ... فَاحْذَرْ قَرِينَ السُّوءِ وَالدَّنِي
وَاخْتَرْ مِنَ الزَّوْجَاتِ ذَاتِ الدِّينِ ... وَكُنْ شُجَاعًا فِي حِمَى الْعَرِينِ
وَزَوِّدْ الأَوْلادَ بِالآدَابِ ... تَحْفَظْ قُلُوبَهُم مِن الأَوْصَابِ
وَهَذِّبِ النُّفُوسَ بِالْقُرْآنِ ... وَلا تَدَعْهَا نُهْبَةَ الشَّيْطَانِ
وَاحْرِصْ عَلَى مَا سُنَّةُ الرَّسُولُ ... فَهُوَ الْهُدَى وَالْحَقُّ إِذَا أَقُولُ
دَعْ عَنْكَ مَا يَقُولُهُ الضُّلالُ ... فَفِيهِ كُلَّ الْخُسْرِ وَالْوَبَالُ
وَأَصْدَقُ الْحَدِيثِ قَوْلُ رَبِّنَا ... وَخَيْرُ هَدْيِ اللهِ عَنْ نَبِيِّنَا
يَا أَيُّهَا الْغَفْلانُ عَنْ مَوْلاهُ ... انْظُرْ بِأَيِّ سَيِّءٍ تَلْقَاهُ
أَمَا عَلِمْتَ الْمَوْتَ يَأْتِي مُسْرِعًا ... وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى
وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مِنْ بَعْدِ الأَجَلْ ... إِلا الَّذِي قَدَّمَهُ مِنَ الْعَمَلْ
فَبَادِرِ التَّوْبَةَ فِي إِمْكَانِهَا ... مِنْ قَبْل أَنْ تُصَدَّ عَنْ إِتْيَانِهَا(3/64)
.. يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ مَا هَذَا الْعَمَلْ ... إِلَى مَتَى هَذَا التَّرَاخِي وَالْكَسَلْ
لَوْ يَعْلَمُ الإِنْسَانُ قَدْرَ مَوْتِهِ ... مَا ذَاقَ طُولَ الدَّهْرِ طَعْمَ قُوتِهِ
مَا لِي أَرَاكَ لَمْ تُفِدْ فِيكَ الْعِبَرْ ... وَيْحَكَ هَذَا الْقَلْبُ أَقْسَى مِنْ حَجَرْ
وَأَفْلَسُ النَّاسِ طَوِيلُ الأَمَلِ ... مُضَيِّعُ الْعُمْرِ كَثِيرِ الْخَطَلِ
نَهَارُهُ مُمْضِيهِ فِي الْبَطَالَةْ ... وَلَيْلَهُ فِي النَّوْمِ بِئْسَ الْحَالَةْ
ادْعُ لَنَا يَا سَامِعًا وَصِيَّتِي ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ مَعَ الْعَطِيَّةِ
وَلا تُؤَاخِذْنَا عَلَى النِّسْيَانِ ... وَلا عَلَى الأَخْطَاءِ وَلا الْعِصْيَانِ
يَا رَبِّ وَاحْفَظْنَا مِنَ الْفَتَّانِ ... وَلا تُذِقْنَا حُرْقَةَ النِّيرَانِ
يَا رَبِّ وَانْصُرْنَا عَلَى الأَعْدَاءِ ... وَاحْمِ الْحِمَى مِنْ هِيشَةِ الْغَوْغَائِي
وَدِينَكَ احْفَظْهُ مَعَ الأَمَانِ ... لِلأَهْلِ فِي الأَقْطَارِ وَالأَوْطَانِ
وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى الْخِتَامِ ... وَالشُّكْرُ للهِ عَلَى الإِنْعَامِ
مَا أَعْظَمُ الإِنْعَامَ مِنْ مَوْلانَا ... وَأَجْزَلَ الإِفْضَالُ إِذْ هَدَانَا
لِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ ... وَالاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِ الأَنَامِ
ثُمَّ صَلاةُ اللهِ وَالسَّلامُ ... مَا نَاحَ طَيْرُ الأيْكِ وَالْحَمَامِ
عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْبَشِيرِ ... الْهَاشِمِي الْمُجْتَبِي النَّذِيرِ
وَآلِهِ مَا انْبَلَجَ الصَّبَاحُ ... وَصَحْبَهِ مَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسماوات أنت الله الأحد لصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/65)
(فَصْلٌ)
وحسبك من آثار تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على قوة الثقة بالله وحسن الظن به والتوكل عليه والزهد في الدنيا ما يتجلى بأكمل معانيه في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. أما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر» .
فقال: عدة الله وعدة رسوله فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير إلا كنت سابقًا، وجاء عمر بنصف ماله حتى دفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر» .
قال: خلفت نصف مالي لهم. رواه ابن أبي حاتم من حديث عامر الشعبي وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحث على جيش العسرة.
فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» . أخرجه الترمذي.
وعن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر رضي الله عنه فخرج عطاؤه ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه ففضل معها سبعة فأمرها أن تشتري بها فلوسًا قال: قلت لو أخرجته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد لي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.(3/66)
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه» . رواه الطبراني في الكبير.
وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا؟ قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب قالت: غفر الله له ثم سلت سترًا لها فقطعته وجعلت العطاء صررًا وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها ثم رفعت يديها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا فكانت أول نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوقًا به.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن عبد العزيز قال: كان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه شيء.
وأخرج الحاكم عن أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باع أرضًا له بأربعين ألف دينار فقسمها في بني زهرة وفقراء المسلمين والمهاجرين وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى عائشة رضي الله عنها بمال من ذلك فقالت: من بعث هذا المال قلت: عبد الرحمن بن عوف.
قال: وقص القصة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحنو عليكن من بعدي إلا الصابرون سقى الله عوف من سلسبيل الجنة» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وعن نافع أن معاوية رضي الله عنه بعث إلى ابن عمر مائة ألف فما حال الحول وعنده منها شيء. وعن أيوب بن وائل الراسبي قال: قدمت المدينة فأخبرني رجل جار لابن عمر أنه أتى ابن عمر أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من قبل آخر وقطيفة.(3/67)
فجاء إلى السوق يريد علفًا لراحلته بدرهم نسيئة فقد عرفت الذي جاءه فأتيت سريته فقلت: إني أريد أن أسألك عن شيء أحب أن تصدقيني قلت: أليس قد أتي عبد الرحمن أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من آخر وقطيفة.
قالت: بلى قلت: رأيته يطلب علفًا بدرهم نسيئة قالت: ما بات حتى فرقها فأخذ القطيفة فألقاها على ظهره ثم ذهب فوجهها ثم جاء فقلت: يا معشر التجار ما تصنعون بالدنيا وابن عمر أتته البارحة عشرة آلاف درهم وضح فأصبح اليوم يطلب لراحلته علفًا نسيئة بدرهم.
وكانت زوجاتهم رضي الله عنهم زوجات صالحات تعينهم على تنفيذ المشاريع الخيرية فهذا أبو الدحداح لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} .
قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» . فقال: أرني يدك يا رسول الله فناوله - صلى الله عليه وسلم - يده الكريمة فقال: اشهد يا رسول الله أني قد أقرضت ربي حائطي. أي البستان وكان له بستان فيه ستمائة نخلة وفي البستان زوجته أم الدحداح وأولاده يسكنونه.
ثم جاء إلى البستان فنادى زوجته يا أم الدحداح قالت: لبيك. قال: أخرجي أنت وأولادك فقد أقرضت ربي عز وجل حائطي فشجعته ونشطته وقالت: ربح بيعك ثم نقلت متاعها وأولادها رضي الله عنهما. فتأمل قوة اليقين فيما عند الله كيف تعمل وتأمل موقف زوجته من عمله هذا.
ولو كانت من نساء الزمان لقالت: أنت مجنون وأقلقت راحته وألبت عليه أولاده وأمه وأباه وقالت: خذوا على يديه. نسأل الله العافية.
وهذا عثمان بن عفان ترد عليه عير له من الشام في وقت نزل فيه البرح(3/68)
بالمسلمين من الجدب والقحط فإذا هي ألف بعير مسوقة تحمل برًا وزيتًا وزبيبًا.
فجاءه التجار وقالوا: بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنك تعلم ضرورة الناس فيقول حبًّا وكرامة: كم تربحوني على شرائي فيجيبون قائلين الدرهم درهمين فيقول: أعطيت أكثر من هذا فيقولون: يا أبا عمر، وما بقى في المدينة تجار غيرنا وما سبقنا إليك أحد فمن الذي أعطاك.
فيجيب إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة فيقولون: لا، فيشهد الله على أن هذه وما حملت صدقة لله على المساكين والفقراء من المسلمين، فيا ليت أغنياء هذا الزمن تنسخوا من الزكاة فقط ولكن هيهات أن يتغلبوا على النفس والشيطان والدنيا والهوى.
اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أصاب أرضًا بخيبر أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عني منه فما تأمرني قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» .
قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل(3/69)
ولضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه. متفق عليه.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته وقد ربح الكثير من التجارة بعد الإسلام فلما هاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بقي له من كل مدخره سوى خمسة آلاف درهم.
لقد أنفق ماله المدخر في افتداء الضعفاء من الموالي المسلمين الذين كانوا يذوقون العذاب ألوانًا من ساداتهم الكفار كما أنفقه في بر الفقراء والمعوزين، فليعتبر بذلك معشر الحراس للأموال.
وقد حدث أن جاء عامل عمر بالبحرين أبو هريرة بمال كثير وروايته: قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم فأتيت عمر بن الخطاب مساء فقلت: يا أمير المؤمنين اقبض هذا المال. قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: وتدري كم خمسمائة ألف درهم؟ قلت: نعم مائة ألف خمس مرات. قال: أنت ناعس أذهب الليلة فبت حتى تصبح.
فلما أصبحت أتيته فقلت: اقبض مني هذا المال؟ قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: أمن طيب هو؟ قلت: لا أعلم إلا ذاك. فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس إنه قد جاءنا مال كثير فإن شئتم أن نكيل لكم كلنا وإن شئتم أن نعد لكم عددنا وإن شئتم أن نزن لكم وزنا.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين دون الدواين يعطون عليها فاشتهى عمر ذلك ووزعها على المسلمين كلها.
وذكر بعض المفسرين أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس فصلى الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت(3/70)
وفات وقت الصلاة ولم يخبروه بذلك هيبة له فاغتنم لذلك وقال: ردوها علي فاقبل عليها فضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربًا إلى الله وطلبًا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعة الله.
وكان ذلك مباحًا له وبقي منها مائة فرس فلما عقرها لله تعالى أبدله الله تعالى خيرًا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب تجري بأمره كيف شاء وإليه يشير قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} .
شِعْرًا: ... لا أَجْعَلُ الْمَالَ لِي رَبًا يُصرِفُنِي ... لا بَلْ أَكُونُ لَهُ مَوْلاً أُصَرّفُهُ
مَا لِي مِنَ الْمَالِ إِلا مَا تَقَدَّمَنِي ... فَذَاكَ لِي وَلِغَيْرِي مَا أُخَلِّفُهُ
آخر: ... وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَالِ لَوْلا امْتِهَانُهُ ... وَبَيْنَ الْحَصَى الْمَجْمُوع أَوْ كُثُبِ الرَّمْلِ
آخر: ... تَمَتَّعْ بِمَالِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ ... وَإِلا فَمَا النَّفْعُ إِنْ أَنْتَ مُتَّا
شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ ... لِغَيْرِكَ بَعْدَكَ فَسُحْقًا وَمَقْتَا
آخر: ... فَإِنَّ مَسِيرِي فِي الْبِلادِ وَمَنْزِلِي ... هُوَ الْمَنْزِلُ الأَقْصَى إِذَا لَمْ أُقْرَّبِ
وَلَسْتُ وَإِنْ أُذْنِيتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ ... خَلاقِي وَلا دِينِي ابْتِغَاءِ الرَّغَائِبِ
وروي أن عمر أرسل مع غلامه بأربعمائة دينار إلى أبي عبيدة بن الجراح وأمر الغلام بالتأني ليرى ما يصنع فيها فذهب بها الغلام إليه وأعطاها له وتأنى يسيرًا ففرقها أبو عبيدة كلها فرجع الغلام لعمر فخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فأرسلها معه إليه وأمره بالتأني كذلك ففعل ففرقها فاطلعت زوجته وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأعطاهما إياها. فرجع الغلام لعمر وأخبره فسر بذلك. وقال: إخوة بعضهم من بعض.(3/71)
وروي أن زوجة طلحة بن عبيد الله رأت منه ثقلاً فقالت له: مالك لعله رابك منا شيء فنعتبك قال: لا ولنعم الحليلة للمسلم أنت ولكن اجتمع عندي مالي ولا أدري كيف أصنع قالت: وما يغمك منه أدع قومك فاقسمه بينهم فقال: يا غلام عليَّ بقومي. فكان جملة ما قسم أربعمائة ألف (400000) .
وباع أرضًا من عثمان بسبعمائة فحملها عليه فلما جاء بها قال: إن رجلاً يبيت عنده هذه في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله فبات ورسله تختلف في السكك سكك المدينة حتى أسحروا ما عنده منها فرقوها على الفقراء والمساكين.
الصحابة رضي الله عنهم جمعوا كرمًا وشجاعة وخصالاً حميدة اقرأ آخر سورة الفتح وما ينطبق عليهم رضي الله عنهم ما يلي:
شِعْرًا: ... فَهُمْ جَمَعُوا الْعَلْيَاءَ عِلْمًا وَعِفَّةً ... وَزُهْدًا وَجُودًا لا يَضِيقُ فُوَاقَا
كَمَا جَمَعَ التُّفَّاحُ حُسْنًا وَنَظْرَةً ... وَرَائِحَةً مَحْبُوبَةً وَمَذَاقَا
آخر: ... لَهُمْ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِمْ ... أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالذَّهَبُ
فِي الْعُسْرِ قَالُوا إِذَا أَيْسَرْنَ ثَانِيةِ ... قَصَّرْنَ عَنْ بَعْضِ مَا نُعْطِي وَمَا نَهَبُ
حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَّامُ الْيَسَارَ لَهُمْ ... رَأَيْتَ أَمْوَالَهُمْ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ
آخر: ... هُمُ الْقَوْمُ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا ... أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطَوْا أَطَابُوا وَأَجْزَلُ
وَمَا يُدْرِكُونَ التَّابِعُونَ فِعَالَهُمْ ... وَإِنْ أَحْسَنُوا فِي النَّائِبَاتِ وَأَجْمَلُوا
آخر: ... وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةْ ... بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابة
آخر: ... وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لَدَيْهِمُ ... تَحِيضُ دِمَاءً وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ
وَأَعْجَبُ مِنْهَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ ... تَأَجَّجُ نَارًا وَالأَكُفُّ بُحُورُ
وبعث عبد الله بن الزبير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمال في غرارتين ثمانون ألف ومائة ألف درهم وهي صائمة فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما(3/72)
عندها من ذلك درهم فقالت لجارتها: هلمي فطوري فجاءت بخبز وزيت فقالت لها الجارية: فما استطعت فيما قسمت في هذا اليوم أن تشتري لنا لحمًا بدرهم قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت. هكذا يؤثر الإيمان العميق بما أخبر الله به وبرسوله.
كان سهل بن عبد الله بن يونس التستري ينفق ماله في طاعة الله فجاءت أمه وإخواته إلى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يشكونه فقالوا: هذا لا يمسك شيئًا ونخشى عليه الفقر فأراد عبد الله أن يعينهم عليه.
فقال له سهل: يا عبد الله أرأيت أن رجلاً من أهل المدينة اشترى ضيعة برستاق (أرض السواد) وهو يريد أن يتنقل إليها أكان يترك بالمدينة شيئًا وهو يسكن الرستاق.
فقال عبد الله بن المبارك: خصمكم يعني أنه أراد أن يتحول على الرستاق لا يترك بالمدينة شيئًا فالذي يريد أن يتحول على الآخرة كيف يترك في الدنيا شيئًا.
شِعْرًا: ... بِهَا لِيْلُ فِي الإِسْلامِ سَادُوا وَلَمْ يَكُنْ ... كَأَوَّلِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ
هُمُ الْقَوْمِ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا ... أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطُوا أَطَابُوا وَأجْزَلُوا
ومن الشعر الذي لا ينطبق إلا على الصحابة رضي الله عنهم ما يلي:
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقِيتُ سَيِّدَهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
لا يَنْطِقُونَ عَنِ الْفَحْشَاءِ إِنْ نَطَقُوا ... وَلا يُمَارُونَ إِنْ مَارَوْا بِإِكْثَارِ
إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإِنْ خُبِرُوا ... فِي الْجُهْدِ أَدْرَكَ مِنْهُمْ طِيبَ أَخْبَارِ
وَإِنْ تَوَدَّدْتَهُمْ لانُوا وَإِنْ شُهِمُوا ... كَشَفْتَ إِذْ مَارَ حَرْبٍ غَيْرَ إِغْمَارِ
هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ ذُوو حَسَبٍ ... سُوَّاسُ مَكْرُمَةً أَبْنَاءُ أَيْسَارِ
آخر: ... بِهَا لِيلُ لَوْ عَايَنْتَ فَيْضَ أَكُفِّهَم ... لأَيْقَنْتَ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ
فائدة سبب البخل ستة أشياء غلبة الشهوات (1) وطول الأمل (2) ورحمة الولد (3) وخوف الفقر (4) وقلة الثقة بمجيء الرزق (5) وعشق المال لذاته (6) فالبخل يتعب نفسه ويحرمها وينفع غيره كما قيل:(3/73)
شِعْرًا: ... يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ
كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
آخر: ... إِذَا كُنْتَ جماعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا ... فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ
تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ ... فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ
آخر: ... وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ
كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ
آخر: ... يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآتِ
إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَطْلُبُنِي ... مَا لَيْسَ عِنْدِي لِمَنْ إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ
آخر: ... قُلْ لِي بِرَبِّكَ مَاذَا يَنْفَعُ الْمَالُ ... إِنْ لَمْ يُزَيِّنْهُ إِحْسَانٌ وَإِفْضَالُ
الْمَالُ كَالْمَاءِ إِنْ تُحْبَسْ سَوَاقِيَهُ ... يَأْسَنْ وَإِنْ يَجْر يَعْذُبْ مِنْهُ سِلْسَالُ
تَحْيَا عَلَى الْمَاءِ أَغْرَاسُ الرِّيَاضِ كَمَا ... تَحْيَا عَلَى الْمَالِ أَرْوَاحٌ وَآمَالُ
إِنَّ الثَّرَاءَ إِذَا حِيلَتْ مَوَارِدُهُ ... دُونَ الْفَقِير فَخَيْرٌ مِنْهُ إِقْلالُ
اللهُ أَعْطَاكَ فَابْذُلْ مِنْ عَطِيَّتِهِ ... فَالْمَالُ عَارِيَةٌ وَالْعُمْرُ رَحَّالُ
آخر: ... لَقَدْ دَرَجَ الأَسْلافُ مِنْ قَبْلِ هَؤُلاءِ ... وَهِمَّتُهمِ نِيلُ الْمَكَارِمِ وَالْفَضْلِ
وَقَدْ رَفَضُوا الدُّنْيَا الْغُرُورَ وَمَا سَعَوْا ... لَهَا وَالَّذِي يَأْتِي يُبَادَرُ بِالْبَذْلِ
فَقِيرُهُمْ حُرٌّ وَذُو الْمَالِ مُنْفِقٌ ... رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ فِي صَالِحِ السُّبْلِ
لِبَاسُهُمْ التَّقْوَى وَسِيمَاهُمْ الْحَيَا ... وَقَصْدُهُمْ الرَّحْمَنُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ
مَقَالُهُمْ صِدْقٌ وَأَفْعَالُهُمْ هُدَىً ... وَأَسْرَارُهُمْ مَنْزُوعَةُ الْغِشِّ وَالْغِلِّ
خُضُوعٌ لِمَوْلاهُمْ مُثُولٌ لِوَجْهِهِ ... قُنُوتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ مِثْلِ
آخر: ... أَيَا نَفْسُ لِلْمَعْنَى الأَجَلِّ تَطَلَّبِي ... وَكُفِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي قَدْ تَقَضَّتِ
فَكَمْ أَبْعَدَتْ إِلْفًا وَكَمْ كَدَّرَتْ صَفًا ... وَكَمْ جَدَّدَتْ مِنْ تَرْحَةٍ بَعْدَ فَرْحَتِ
فَلَوْ جُعِلَتْ صَفْوًا شُغِلْتُ بِحُبِّهَا ... وَلَمْ يَكُ فَرْقٌ بَيْنَ دُنْيَا وَجَنَّةِ(3/74)
.. لَعُمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ أَخِي حِجَا ... فَيَلْهُو بِهَا عَنْ دَارِ فَوْزٍ وَجَنَّةِ
عَنِ الْمَوْطِنَ الأَسْنَى عَنِ الْقُرْبِ وَاللِّقَا ... عَنِ الْعَيْشِ كُلِّ الْعَيْشِ عِنْدَ الأَحِبَّةِ
فَوَاللهِ لَوْلا ظُلْمَةُ لَمْ يَطِبْ ... لَكَ الْعَيْشُ حَتَّى تَلْتَحِقْ بِالأَحِبَّةِ
اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : ومن أخلاقهم توصية بعضهم بعضًا بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة: ودع ابن عون رجلاً فقال له: عليك بتقوى الله فإن المتقي ليست عليه وحشة.
وقال زيد بن أسلم: كان يقال من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا.
وكانت أعمالهم بعيدة عن الرياء عملاً بقوله تعالى في الصدقات {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، كان الربيع بن خيثٍم لا يطلع على عمله إلا أهل بيته ودخل عليه رجل وهو يقرأ في المصحف فغطاه بكمه.
شِعْرًا: ... إِذَا وَاتَاكَ مِنْ مَوْلاكَ خَمْسٌ ... فَلا تَأْسَفْ عَلَى شَيْءٍ يَفُوتُ
حِجىً وَسَلامَةٌ وَلِبَاسُ تَقْوَى ... وَدِينٌ غَيْرَ مَدْخُولٍ وَقُوتُ
آخر: ... جَمَالُ أَخِي النُّهَى كَرَمٌ وَتَقْوَى ... وَلَيْسَ جَمَالهُ عَرْضًا وَطُولا
وكان ميمون بن مهران يقول لأصحابه قولوا ما أكره في وجهي فإن(3/75)
الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره وكان يقول يا أهل القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الربح في الدنيا اطلبوا الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة.
وبالتالي فإن الانهماك في الدنيا قد شمل أصناف الخلق لقلة معرفتهم بالله تعالى إذ لا يحب الله إلا من عرفه فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازداد حبه له، وكلما فكر في نعم الله عليه قوى حبه لربه، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
ولهذا قال الله تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله ورسوله ومن المجاهدة لأعلاء كلمة الله فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله.
ولهذا قال حتى يأتي الله بأمره وهذا وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ شنيعٌ للمنهمكين في طلب الدنيا المؤثرين لها ولأهلهم وقرابتهم وعشيرتهم على الله ورسوله والجهاد في سبيله أفلا يعتبر اللبيب وينظر كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غيرت الأرض ببلائها وكم غيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف المخلوقين.
وما أكثر من أخذت الدنيا بقلبه وقالبه وصار عبدًا لها في ليله ونهاره ضاعت أوقاته النفيسة في الركض خلفها يجمعها لمن يخلفه عليها وصار هو بالحقيقة حارسًا خادمًا محاميًا بجازته وكسوته وسكناه فقط ولا شكر ولا ثناء ولا مروءة وتأمله وصفًا مطابقًا لأغنياء أهل هذا الزمن تكون بذلك مصدقًا متعجبًا وان كنت موفقًا قلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم، اللهم عافهم(3/76)
ولا تبتلينا واستعملت ما عندك فيما يقرب إلى الله والدار الآخرة وسألت الله أن يثبتك على الإيمان وأن يزيغ قلبك بعد إذ هداك وأن يهب لك من لدنه رحمة وأن يهيئ لك من أمرك رشدًا.
شِعْرًا: ... وَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَكُنْ لَهُ ... مِن اللهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ
فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّهَا ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالزَّوَال قَرِيبُ
آخر: ... يُحْصِي الْفَتَى مَا كَانَ مِنْ نَفَقَاتِهِ ... وَيُضِيعُ مِنْ أَنْفَاسِهِ مَا أَنْفَقَا
وَكَأَنَّمَا دُنْيَا ابْنِ آدَمَ عِرْسُهُ ... أَخَذَتْ جَمِيعَ تُرَاثِهِ إِذْ طَلَّقَا
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
«موعظة» : عباد الله نحن في زمن لا نسيء إذا عددنا أهله من ضعفاء المتدينين الذي غلبت عليهم المداهنة، والتملق، والكذب، راجع حال السلف المؤمن حقًا وانظر حالنا اليوم، تعجب من الفرق المبين.
كان هذا المال بأيديهم بكثرةٍ، ومع ذلك لا يدور عليه الحول، لأنهم نصب أعينهم قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
مطمئنين على قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} كانوا إذا وصل إليهم المال يصيبهم قلق حتى يتصدقوا به على حد.
شِعْرًا: ... لأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِهِ ... إِنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف
وَلا أَذُمُّكَ إِنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ ... فَالرَّزْقُ بِالْقَدَرِ الْمَحْتُوم مَصْرُوفُ(3/77)
آخر: ... لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا ضِقْتَ مِنْ فَرَجٍ ... يَأْتِي بِهِ اللهُ فِي الرَّوْحَاتِ وَالدُّلَجِ
وَإِنْ تَضَايَقَ بَابٌ عَنْكَ مُرْتَتِجٌ ... فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ بَابًا غَيْرَ مُرْتَتِجِ
فَمَا تَجَرَّعَ كَأْسَ الصَّبْرِ مُعْتَصِمٌ ... بِاللهِ إِلا أَتَاهُ اللهُ بِالْفَرَجِ
آخر: ... قَالَتْ طُرَيْفَةُ لا تَبْقَى دَرَاهِمُنَا ... وَمَا بِنَا صَلَفٌ فِيهَا وَلا خَرَقُ
لَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا دَرَاهِمُنَا ... ظَلَّتْ إِلَى طُرُقِ الْمَعْرُوفِ تَسْتَبِقُ
لا يَأْلَفُ الدِّرْهَمْ الْمَضْرُوبُ صُرَّتَنَا ... لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهُوَ مُنْطَلِقُ
آخر: ... أَلَمْ تَرَى أَنَّ الْمَالَ يُهْلِكُ أَهْلَهُ ... إِذْ جَمَّ آتِيهِ وَسُدَّتْ طَرِيقُهُ
وَمَنْ جَاوَزَ الْمَاءَ الْغَزِيرَ مَسِيلُهُ ... وَسُدَّتْ مَجَارِي الْمَاءِ فَهُوَ غَرِيقُهُ
وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش، ذهبت المكارم إلا من التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا بالجنة أشهدك أني جعلت ثمنها في سبيل الله، تأمل سيرة الرجال الذين عرفوا الدنيا حقيقة لعلك تقتدي بهم فتربح الدنيا والآخرة.
وكانوا إذا عرض لهم أحد وأبدى لهم احتياجه يرون غفلتهم عنه من النقائض والعيوب الفاحشات على حد قول الشاعر:
وَتَرْكِي مُوَاسَاة الأَخِلاءِ بِالَّذِي ... تَنَالُ يَدِي ظُلْمٌ لَهُمْ وَعُقُوقُ
وَإِنِّي لأَسْتَحِيي مِن اللهِ أَنْ أُرَى ... بِحَالِ اتِّسَاعٍ وَالصَّدِيقُ مُضَيَّقُ
آخر: ... خَلِيلٌ أَتَانِي نَفْعُهُ وَقْتَ حَاجَتِي ... إِلَيْهِ وَمَا كُلُّ الأَخِلاءِ يَنْفَعُ
آخر: ... يَرَى الْمَرْءُ أَحْيَانًا إِذَا قَلَّ مَالُهُ ... مِنَ الْخَيْرِ أَبْوَابًا فَلا يَسْتَطِيعُهَا
وَمَا إِنْ بِهِ بُخْلٌ وَلَكِنَّ مَالَهُ ... يُقَصِّرُ عَنْهَا وَالْبَخِيلُ يُضِيعُهَا
أين هذا وأين حالنا اليوم وقد بخلنا بحق المال الزكاة وهي حق الفقراء والمساكين..... الخ.(3/78)
وكانوا إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام مع الأمام ربما غشي عليهم من ألم هذا المصاب العظيم وكانوا يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام ومن باب أولى وأحرى من فاتته الجماعة أو الجمعة.
أين هذا من حالب مجتمعنا اليوم الذي ترى الكثير منهم يجافي عليه الباب ويشرب الشاي والدخان أبا الخبائث والناس يصلون.
وكثير من الذين يصلون مع الجماعة تجدهم يحرصون على الإتيان إذا ظنوا أنها أقيمت الصلاة ويقصدون النقارين الذين لا يتركون في الصلاة ولا يطمئنون فيها ولا يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة التي لا صلاة لمن لم يقرأ بِهَا ولا يتمكن من الإتيان بالتشهد كاملاً.
فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنهم لا يفهمون الصلاة ولا المقصود منها ولو فهموها تماما لصارت قرة أعينهم ولا استراحوا بها واستعانوا بها على الدين والدنيا.
وكانوا أي السلف ممن يحن إلى بيت الله يتمتعون به في كل عام، ولذلك تعد لأحدهم أربعين حجة، وأزيد، أين هذا ممن يسافرون على بلاد الكفرة بلاد الحرية محكمة القوانين أعداء الإسلام وأهله، ويوالونهم بل ويدرسون عليهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبرأ من المقيم بين أظهر المشركين إذا كان يقدر على الخروج من بين أظهرهم ولكن نسال اله العافية {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
ومع ذلك يبعثرون الفلوس العظيمة، التي سيناقشون عنها داخلة وخارجة ضد ما عليه آباؤهم من هجران من جاء من بلاد الكفر غير مهاجرٍ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين» . وقال: «من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم» . بلغ يا أخي من يدرسون على الكفار والعياذ بالله.(3/79)
وكان السلف يشتاقون إلى الصيام، وبعضهم يصومون ستة أيام من شوال، وثلاثة من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس، وبعضهم يصوم كصيام داود عليه السلام، يوم يصوم ويوم يفطر.
أما نحن فيا ليته يسلم لنا رمضان من المفسدات والمنقصات وهيهات، وكانت المساكن لا تهمهم يسكنون فيما تيسر.
عن مالك بن دينار أنه رجلاً يبني دارًا وهو يعطي العمال الأجرة فمد يده فأعطاه درهمًا فطرح الدرهم في الطين فتعجب الرجل وقال: كيف تطرح الدرهم في الطين.
فقال: أعجب مني أنت طرحت كل دراهمك في الطين يعني ضيعتها في البناء، ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالعلا بن زياد فرأى سعة داره فقال له ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج.
وكان نوح عليه السلام في بيت من شعر ألف سنة فقيل له: يا رسول الله لو اتخذت بيتًا من طين تأوي إليه قال: أنا ميت فلم يزل فيه حتى فارق الدنيا. وقيل: إنه قال: بيت العنكبوت كثير من يموت.
شِعْرًا: ... أَرَى الزُّهَّادَ فِي رَوْحٍ وَرَاحَةْ ... قُلُوبُهُمُ عَنْ الدُّنْيَا مُزَاحَةْ
إِذَا أَبْصَرْتُهُمْ أَبْصَرْتَ قَوْمًا ... مُلُوكُ الأَرْضِ سِيمَتُهُمْ سَمَاحَةْ
وقال أبو هريرة: بئس بيت الرجل المسلم بيت العروس يذكر الدنيا وينسى الآخرة، وكان لشقيق البلخي خص يكون هو ودابته فيه فإذا غزا هدمه وغزا رجع بناه. بلغ يا أخي أهل الفلل والعمائر وقل عن قريب ستسكنون في مسكن ثلاث أذرع فقط ويسد عليكم فيه.
شِعْرًا: ... تَبْنِي الْمَنَازِلَ أَعْمَارٌ مُهَدَّمَةٌ ... مِنَ الزَّمَانِ بِأَنْفَاسٍ وَسَاعَاتِي(3/80)
آخر: ... أَمَّا بُيُوتُكَ فِي الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَّسِعُ
السلف كانوا إذا سمعوا الموعظة، أو مروا بحدادٍ يوقد نارًا، صعقوا وربما مكثوا بلا وعي، أيامًا، أو أشهرًا متتالياتٍ، وقد سمعت بأناس قتلتهم المواعظ أما نحن فتتلى علينا الآيات من كتاب الله ولا كأنها مرت قلوبنا من الانهماك بالدنيا والغفلة أصبحت لا تؤثر فيها العظات.
كانوا يتعاونون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويلتفتون كتلة واحدة ويأخذون على يد السفيه أما نحن فنثبط ونقول لمن يريد المساعدة ما أنت بملزم اتركهم.
السلف كانوا ينصحون أهل المعاصي، ويهجرونهم، إذا أصروا على المعاصي واو كانوا ممن لهم منزلة ومكانة في قلوب كثير من أهل الدنيا وكانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم وهممهم عالية وأنفسهم رفيعة لا يخشون إلا لله لا يتملقون ولا يداهنون ولا يخضعون غلا لله، قال بعضهم
شِعْرًا: ... يَا مَنْ خَلا بِمَعَاصِي اللهِ فِي الظُّلَمِ ... فِي اللَّوْحِ يُكْتَبُ فِعْلَ السُّوءِ بِالْقَلَمِ
بِهَا خَلَوْتَ وَعَيْنُ اللهِ نَاظِرَةُ ... وَأَنْتَ بِالإِثْمِ مِنْهُ غَيْرًُ مُكَتَتِمِ
فَهَلْ أَمِنْتَ مِنَ الْمَوَلَى عُقُوبَتَهُ ... يَا مَنْ عَصَى اللهَ بَعْدَ الشَّيْبِ وَالْهَرَمِ
آخر: ... قَالُوا نَرَى نَقَرًا عِنْدَ الْمُلُوكِ سَمَوْا ... وَمَا لَهُمْ هِمَّةٌ تَسْمُوا وَلا وَرَعُ
وَأَنْتَ ذُو هِمَّةٍ فِي الْفَضْلِ عَالِيَةٍ ... فَلَمْ ظَمِئْتَ وَهُمَ فِي الْجَاهِ قَدْ كَرَعُوا
فَقُلْتُ بَاعُوا نُفُوسًا وَاشْتَروا ثَمَنًا ... وَصُنْتُ نَفْسِي فَلَمْ أَخْضَعْ كَمَا خَضَعُوا
قَدْ يُكْرَمُ الْقِرْدُ إِعْجَابًا بِخِسَّتِهِ ... وَقَدْ يُهَانُ لِفَرْطِ النَّخْوَةِ السَّبُعُ
هذا الذي كان من سلفنا الكرام نحو أهل المعاصي والمنكرات.
أما نحن فنتركهم ونقول ذنوبهم على جنوبهم، وربما جالسناهم،(3/81)
وواكلناهم، وعظمناهم، كما يسمع الكثير يقولون للمهاجر بالمعاصي كشارب الدخان، وحالق اللحية، ومستعمل آلات اللهو، يا معلم يا أستاذ يا سيد والواجب هجرة ليرتدع فإنا لله وإنا إليه راجعون.
شِعْرًا: ... عُرَى الأَعْمَارِ يَعْلُوهَا انْفِصَامُ ... وَأَمْرُ اللهِ مَا مِنْهُ اعْتِصَامُ
سَوَاءٌ فِي الثَّرَى مَلِكٌ وَعَبْدٌ ... ثِوَى النَّعْمَانُ حَيْثُ ثَوَى عِصَامُ
أَعِدَّ لِمَوْقِفِ الْعَرْضِ احْتِجَاجًا ... لَعَلَّكَ لَيْسَ يَقْطَعُكَ الْخِصَامُ
وَلا يَعْظُمْ سِوَى التَّفْرِيطِ خَطْبٌ ... عَلَيْكَ فَإِنَّهُ الْخَطْبُ الْعِظَامُ
ابِنْ لِي هَلْ تُبَارِزْ أَمْ تُوَلِّي ... إِذَا شَرَكْتَ بِكَ الْحَرْبُ الْعُقَامُ
وَلَمْ تَعْرَفْ وَقَدْ فَجِئَ انْتِقَالٌ ... أَغَفْرٌ لِلذُّنُوبِ أَمْ انْتِقَامُ
تَوَقَّ مِن السِّفَار عَلَى اغْتِرَارِ ... فَلَيْسَ لِسَاكِنِي الدُّنْيَا مَقَامُ
وَإِنَّ الْمَوْتَ لِلأَتْقَى شِفَاءٌ ... كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَهُ سَقَامُ
حَذارِ حَذَارِ إِنَّكَ فِي بِحَارٍ ... مِنَ الدُّنْيَا طَمَتْ فَلَهَا التِّطَامُ
وَتَعْلَمُ أَنَّهَا تُرْدِي يَقِينًا ... وَمِنَّا فِي غَوَارِبِهَا اقْتِحَامُ
وَإِنَّ مِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ أَمَرَّتْ ... مَوَارِدُهَا وَإِنْ كَثُرَ الزِّحَامُ
آخر: ... هُوَ الزَّمَانُ فَلا عَيْشٌ يَطِيبُ بِهِ ... وَلا سُرُورٌ وَلا صَفْوٌ بِلا كَدَرِ
يَجْنِي الْفَتَى فَإِذَا لِيمَتْ جَنَايَتُهُ ... أَحَال مِنْ ذَنْبِهِ ظُلْمًا عَلَى الْقَدَرِ
وَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ يُعْجِبُنَا ... فَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْعُمُرِ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
(فَصْلٌ) : ومن الناس من يغلب على قلبه عند الموت حب شهوة من شهوات الدنيا فيكون استغراق قلبه صارفًا وجهه إلى الدنيا.
فإن اتفق قبض الروح حالة غلبة الدنيا فالأمر خطير لأن المرء يموت على ما عاش عليه كما انه يبعث على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب تضاد الصفة التي غلبت عليه لأن ذلك بالأعمال الصالحات وقد انقطع(3/82)
بالموت ولا أمل بالرجوع إلى الدنيا ليتدارك ذلك وعند ذلك تعظم الحسرة.
ويشد الندم وكم غرت الدنيا من مخلد إليها وصرعت من مكب عليها فلم تنعشه من عثرته ولم تنقذه من صرعته ولم تشفه من ألمه ولم تبرئه من سقمه.
شِعْرًا: ... بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ ... مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ ... هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ
تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ ... عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ
آخر: في التحذير عن الدنيا:
أَمُّ دَفْرٍ فِي غُرُورٍ تَتْجَلي ... كَعَرُوسٍ زَيَّنَتْهَا مُسْرِفَاتْ
تَخْدَعِ الْغِرَّ وَعَنْهَا يَرْعَوِي ... عَارِفٌ يَسْمُو بِإِشْرَاقِ الصِّفَاتْ
ابْتَعدْ مَا عِشْتَ عَنْ زِينَاتِهَا ... وَالْزَمِ التَّقْوَى إِلَى يَوْمِ الْوَفَاةْ
آخر: ... يسَرَّ الْفَتَى بِالْعَيْشِ وَهُوَ مُبِيدُهُ ... وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَمَا هِيَ دَارُهُ
وَفِي عِبرِ الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظٌ ... إِذَا صَحَّ فِيهَا فِكْرهُ وَاعْتِبَارُهُ
فَلا تَحْسَبنْ يَا غَافِلُ الدَّهْرِ صَامِتًا ... فَأَفْصَحُ شَيْءٍ لَيْلُه وَنَهَارُهُ
أَصِخْ لِمُنَاجَاةِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ ... سَيُغْنِيكَ عَنْ جَهْرِ الْمَقَالِ سِرَارُهُ
أَدَارَ عَلَى الْمَاضِينَ كَأْسًا فَكُلُّهُمْ ... أُبِيحَتْ مَغَانِيهِ وَأَقْوَتْ دِيَارُهُ
وَلَمْ يَحْمِهم مِنْ أَنْ يُسَقَّوْا بِكَأْسِهِمْ ... تَنَاوُشُ أَطْرَافِ الْقَنَا وَاشْتِجَارُهُ
آخر: ... أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ... وَأَبَلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ
ولهذا سببان أحدهما كثرة المعاصي والآخر ضعف الإيمان وذلك أن مقارفة المعاصي من غلبة الشهوات ورسوخها في اللب بكثرة الإلف والعادة، وكل ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه غالبا عند الموت.(3/83)
فعليك بالإكثار من ذكر الله، وتلاوة كتابه، والاستغفار من الذنوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم القوي العزيز.
شِعْرًا: ... لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أمِضَى الحَيَاةَ بَتَسْبِيْحٍ وَتَهْليْل
آخر: ... وَمَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ مَعْرِفِتْي بِهَا ... وَبِالنَّاسِ أَمْضَى وَقْتَهُ فِي الْعِبَادَةِ
وَأَعْرَضَ عَنْ قِيلَ وَقَالٍ وَجَلْسَةٍ ... مَعَ الْمُشْغِلِي أَوْقَاتِهِمْ فِي الْمَضرَّةِ
وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الإِلَهِ وَحَمْدِهِ ... وَشُكْرٍ لَهُ وَقْتَ الْهَنَا وَالْمَسَاءَةِ
فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر كان أكثر ما يحضره غالبا ذكر الله وطاعته وإن كان إلى المعاصي أكثر غلب ذكرها على قلبه عند الموت فربما تفيض روحه عند غلبة معصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويذهل عن الله وحسن الظن به لاشتغاله بما تقيد به نسال الله العافية.
فالذي غلبت طاعته على معاصيه بعيد عن هذا الخطر بإذن الله، والذي غلبت عليه المعاصي وكان قلبه بها افرح من الطاعات يخشى عليه وخطره عظيم جدا.
ومن أراد السلامة من ذلك فلا سبيل له إلا المجاهدة والصبر طول العمر في فطام نفسه عن الشهوات محافظة على القلب منها ويكون طول عمره مواظبًا على الأعمال الصالحة مكثرًا لذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضجعًا وماشيًا وان كان يحفظ القرآن وشيئًا منه فليداوم عليه بتدبرٍ وتفهمٍ ليستفيد حفظًا وفهمًا وأجرًا.
وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت وشدائده فإن المرء يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه.
ويعرف ذلك أي أن ما ألفه طول عمره يعود ذكره عند الموت بمثالٍ، وهو أن الإنسان لا شك انه يري في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره(3/84)
فالذي قضي عمره في طلب العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء ورؤيته بعضهم وبعض كتب العلم والذي قضى عمره في النجارة يرى من الأحوال المتعلقة بها.
والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط والذي قضى حياته في الفلاحة يرى الأحوال المتعلقة بالفلاحة والفلاحين.
والذي قضى عمره في الفساد والفجور يرى في منامه الأحوال المتعلقة بالفجور ويرى الفسقة مثله وأعمالهم من لواط أو زنا أو سرقة أو مسكر أو دخان أو نحو ذلك من المحرمات وقس على ذلك باقي الأعمال.
ووجه ذلك انه إنما يظهر في حالة النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والله اعلم والموت شبيه بالنوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فربما اقتضى ذلك تذكر مألوفة وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لذلك أي ذكره في القلب طول الألف لذلك.
إذا فهمت ذلك فاحذر كل الحذر أن تكون ممن قتلوا أوقاتهم في مقابلة التلفزيون والسينما والمذياع والبكمات والصور ونحو المنكرات المحرمات واحذر تعاطيها بيعا أو شراء فتخسر وقتك ومالك، ونسأل الله السلامة منها ومن جميع المحرمات.
ولذا نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغولا بالحساب الذي طال إلفه له فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين ويخشى على صاحب المعاصي والمنكرات ومتخذي آلات اللهو من شطرنج وأعواد وأوراق لعب وبكماتٍ واصطواناتٍ وكرةٍ(3/85)
ومذياعٍ وتلفزيون وسينما وصورٍ ونحو ذلك أن يكون مشغولاً بها في آخر لحظة من حياته فيكون ختام صحيفة ما نطق به لسانه مما يأتي فيها من أغاني وتمثيلياتٍ وصور وفديو ونحوه من المنكرات والمحرمات نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا، اللهم وقي أيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا ووفقنا لما تحبه وترضاه وألهمنا ذكرك وشكرك وأعذنا من عدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا: ... قَدْ آنَ بَعْدَ ظَلامِ الْجَهْلِ إِبْصَارِي ... الشَّيْبُ صُبْحٌ يُنَاجِينِي بِإِسْفَارِ
لَيْلُ الشَّبَابِ قَصِيرٌ فَاسْرِ مُبْتَدِرًا ... إِنَّ الصَّبَاح قُصَارَى الْمُدْلِجَ السَّارِي
كَمْ اغْتِرَارِي بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... أَبْنِي بِنَاهَا عَلَى جُرْفٍ لَهَا هَارِي
وَوَعْدِ زُورٍ وَعَهْدٍ لا وَفَاءَ لَهُ ... تَعَلَّمَ الْغَدْرَ مِنْهَا كُلُّ غَدَّارِ
دَارٌ مَآثِمُهَا تَبْقَى وَلَذَّتُهَا ... تَفْنَى أَلا قُبِّحَتْ هَاتِيكَ مِنْ دَارِ
فَلَيْتَ إِذْ صَفِرَت مِمَّا كَسَبْتَ يَدِي ... لَمْ تَعْتَلِقْ مِنْ خَطَايَاهَا بِأَوْزَارِ
لَيْسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ ... إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
«موعظة» : عباد الله كلن سلفنا يزور بعضهم بعضًا للمذاكرة للعلم وتذكر الملمات والمهمات يتساءلون عن ما خفي عليهم معناه من كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أورادهم ومقدارها في الصلاة والصيام والأذكار والصدقات وعن الكتب النافعة ليقتنوها والكتب الضارة ليجتنبوها.
هذا مدار مجالسهم لا يخطؤنه ولا يدور لهم غيره على بال أين هذا من(3/86)
مجالسنا وهي موارد غضب ومقت وغيبة ونميمة وبهت ومداهنةٍ ومصانعةٍ وقذفٍ وتساؤلٍ كم مرتب فلان، وفي إي مرتبة زيد، وكم فلة وعمارة لعمر، وكم دكان لبكرٍ وبكم باع فلان بيته، وما الذي أذيع في الملاهي، وانكباب على المجلات والجرائد حملات الكذب قتلات الأوقات في اللهو وما لا فائدة فيه وأين قضيت العطلة في لبنان أو في أوربا أو في مصر.
كانت أسفار السلف للقاء أحبار الأمة أوعية العلم مهما كانوا بعيدين يتلقون عنهم علم الكتاب والسنة ويتفقهون عليهم في الدين أليس من المؤسف أن يكون أولئك الناس سلفنا وبيننا وبينهم هذا الانفصال.
كان حب بعضهم لبعضٍ وتواددهم وتراحمهم فوق ما يتصور كان يمر المار في بيوتهم فلا يسمع إلا دوي أصواتهم بذكر الله وتلاوة كتابه.
والآن ما تسمع من بيوتنا إلا ما يحرض على الفسق والفجور والعصيان والنشوز والمخاصمات والطلاق والتفرق والقطيعة والعقوق من أغانٍ وألحانٍ من مذياعٍ وتلفزيون وفديو ونحوه من آلات اللهو التي عمت وطمت وابتلى بها الخلق وحطمت الأديان والأخلاق وقضت على الغيرة الدينية.
تنبيه: أنتبه يا من زين له سوء عمله فأتى بكفار خدامين أو سائقين أو مربين أو خياطين أو طباخين وأمنهم على أهله وأولاده ومحارمه أما تعلم أنهم أعداء لله ورسوله والمؤمنين حذر يا أخي عن بثهم بين المسلمين وقل له عملك هذا والعياذ بالله ذنب عظيم نشر للفساد بين المسلمين وجناية عظيمة على من هم أمانة عندك ومصادمة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» ، هذا ما نقدر عليه من النصح وانكار المنكر، نسأل الله العصمة وستظهر ثمرة مخالطة الأجانب واستخدامهم بعد ثمان أو عشر سنوات، الله اعلم فيما أظن وسيندم المستخدمون ونحوهم ندامة عظيمة عندما يتخلق أولادهم وأهليهم(3/87)
بأخلاق الكفرة والفسقة ويشبون عليها يألفونهم ولغتهم. ولكن لا ينفع الندم حينما يفوت الآوان ويتذكرون نصح الناصح وإهمالهم له.
اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنابك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَالِي أَوْلي الْعِرْفَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيـ ... ـثِ خُلاصَةُ الإِنْسَانِ وَالأَكْوَانِ
قَوْمٌ أَقَامَهُمُوا الإِلَهِ لِحِفْظِ هَـ ... ـذَا الدِّينِ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ شَيْطَانِ
وَأَقَامَهُمْ حَرَسًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّـ ... ـحْرِيفِ وَالتَتْمِيمِ وَالنُّقْصَانِ
يَزَكٌ عَلَى الإِسْلامِ بَلْ حِصْنٌ لَهُ ... يَأْوِي إِلَيْهِ عَسَاكِرُ الْفُرْقَانِ
فَهُمْ الْمحكُّ فَمَنْ يَرَى مُنْتَقِصًا ... لَهُمُوا فَزِنْدِيقٌ خَبِيثُ جَنَانِ
قَوْمٌ هُمُوا بِاللهِ ثُمَّ رَسُولِهِ ... أَوْلَى وَأَقْرَبُ مِنْكَ لِلإِيمَانِ
شَتَّانَ بَيْنَ التَّارِكِينَ نُصُوصَهُ ... حَقًّا لأَجْلِ زُبَالَةِ الأَذْهَانِ
وَالتَّارِكِينَ لأَجْلِهَا آرَاءَ مِنْ ... آرَاؤُهُمْ ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ
لَمَّا فَسَا الشَّيْطَانُ فِي آذَانِهِمْ ... ثَقُلَتْ رُؤْسُهُمُوا عَنْ الْقُرْآنِ
فَلِذَاكَ نَامُوا عَنْهُ حَتَّى أَصْبَحُوا ... يَتَلاعَبُونَ تَلاعُبَ الصِّبْيَانِ
وَالرَّكْبُ قَدْ وَصَلُوا الْعُلا وَتَيَمَّمُوا ... مِنْ أَرْضِ طَيْبَةِ مَطْلَعِ الإِيمَانِ
وَأَتَوْا إِلَى رَوْضَاتِهَا وَتَيَمَّمُوا ... مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ مَطْلَعِ الْقُرْآنِ
قَوْمٌ إِذَا مَا نَاجِذُ النَّصِّ بَدَا ... طَارُوا لَهُ بِالْجَمْعِ وَالْوِجْدَانِ(3/88)
وَإِذَا هُمُوا سَمِعُوا بِمُبْتَدِعٍ هَذَى ... صَاحُوا بِهِ طُرًّا بِكُلِّ مَكَانِ
وَرِثُوا رَسُولَ اللهِ لَكِنْ غَيْرُهُمْ ... قَدْ رَاحَ بِالنُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ
وَإِذَا اسْتَهَانَ سِوَاهُمُ بِالنَّصِّ لَمْ ... يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا مِنْ الْخُسْرَانِ
عَضُّوا عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ رَغْبَةً ... فِيهِ وَلَيْسَ لَدَيْهِمُ بِمُهَانِ
لَيْسُوا كَمَنْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَقِيقَةً ... وَتِلاوةً قَصْدًا لِتَرْكِ فُلانِ
عَزَلُوهُ فِي الْمَعْنَى وَوَلَّوْا غَيْرَهُ ... كَأَبِي الرَّبِيعِ خَلِيفَةِ السُّلْطَانِ
ذَكَرُوهُ فَوْقَ مَنَابِرٍ وَبِسِكَّةٍ ... رَقَمُوا اسْمَهُ فِي ظَاهِرِ الأَثْمَانِ
وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُّ الْمَطَاعُ لِغَيْرِهِ ... وَلِمُهْتَدٍ ضُرَبْتَ بِذَا مَثَلانِ
يَا لِلْعُقُولِ أَيَسْتَوِي مَنْ قَالَ بِالْـ ... ـقُرْآنِ وَالآثَارُ وَالْبُرْهَانِ
وَمُخَالِفٌ هَذَا وَفِطْرَةَ رَبِّهِ ... اللهُ أَكْبَرُ كَيْفَ يَسْتَوِيَانِ
بَلْ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَى ... مَضْمُونِهَا وَالْعَقْلُ مَقْبُولانِ
وَالْوَحْيُ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهُمَا فَلا ... تَلْقَى الْعَدَاوَةَ مَا هُمَا سِلْمَانِ
فَإِذَا تَعَارَضَ نَصُّ لَفْظٍ وَارِدٍ ... وَالْعَقْلُ حَتَّى لَيْسَ يَلْتَقِيَانِ
فَالْعَقْلُ إِمَّا فَاسِدٌ وَيَظُنَّهُ الرَّ ... أْيُ صَحِيحًا وَهُوَ ذُو بُطْلانِ
أَوْ أَنَّ ذَاكَ النَّصُّ لَيْسَ بِثَابِتٍ ... مَا قَالَهُ الْمَعْصُومُ بِالْبُرْهَانِ
وَنُصُوصُهُ لَيْسَتْ يُعَارِضُ بَعْضُهَا ... بَعْضًا فَسَلْ عَنْهَا عَلِيمَ زَمَانِ
وَإِذَا ظَنَنْتَ تَعَارُضًا فِيهَا فَذَا ... مِنْ آفَةِ الأَفْهَامِ وَالأَذْهَانِ
أَوْ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ... مَا قَالَهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبك وحب من ينفعنا حبه عندك، اللهم وما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغًا لنا فيما تحب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
اللهم اقبل توبتنا واغسل حوبتنا واجب دعوتنا وثبت حجتنا واهد قلوبنا(3/89)
وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا واجعلنا هداة مهتدين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة) : عباد الله طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر الله عز وجل بالطاعات وهذه الطاعات ترضيه سبحانه وتعالى لأنه شكور غفور وهذه الطاعات هي السبب الذي به يكون يسر العباد فيكونون في حياتهم هذه في سعادات وهي التي إذا بعثوا أدخلهم بها الله الجنات، فالناس إذا لزموا طاعة الله نالوا الخير والسعادة بعد الممات وخير ما تزوده المرء تقوى الله.
عن أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي.
هذا حديث عظيم خاطب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابي الجليل أبا ذر أحد السابقين في الإسلام وتلبية دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اسلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ورأى من حرصه على المقام معه وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له هذه المقالة.
واشتملت هذه المقالة على أمور ثلاثة جمع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حق الله وحقوق العباد فحق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته والتقوى كلمة جامعة للفضائل والكمالات مانعة من النقائض والرذالات وبعبارة أخرى هي امتثال الأمر واجتناب النهى والوقوف عند الحد الشرعي الذي حده الله ورسوله.
وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين ووصية كل رسول لقومه أن يقولوا اعبدوا الله واتقوه ويجب أن تعلم وأن التقوى في الدارين باب واسع للمتقي الملازم للأدب ينفذ منه أن نزلت بالناس شدائد أو نزل شدة لا مفر(3/90)
منها وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .
إن ربنا الذي بيده أزمة الأمور: بيده الأمر كله في الدنيا والآخرة هو الذي يقول ذلك لا زيد ولا عمرو ولا خالدٌ ولا بكرٌ والتقوى جمال للمرء لا يماثله جمال في نظر الأفاضل المتقين ولقد أحسن من قال:
فَعَلَيْكَ تَقْوَى للهِ فَالْزِمْهَا تَفُزْ ... إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْْبَهِيُّ الأَهِيبُ
وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا ... إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهِ مُقَرَّبُ
آخر: ... إِنَّ التَّقِيَّ إِذَا زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ ... يَهْوِي عَلَى فُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالسُّرِرُ
آخر: ... يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللهُ إِلا مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللهِ أَعْظَمُ مَا اسْتَفَادَا
آخر: ... أَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ فِعْلُ الْفَرَائِضْ ... وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِقَتْلِ الأَعَادِي
وَرَسُولٌ يُهْدِي إِلَيْكَ نَصِيحَةً ... تَنْتَفِعْ فِيهَا أُخَيَّ فِي الْمَعَادَ
آخر: ... أَطِعِ الإِلَهَ وَلا تُطِعْ لِهَوَاكَا ... إِنَّ الإِلَهَ إِذَا أَطِعْتَ هَدَاكَا
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَسُودُ وَلَنْ تَرَى ... سُبل الرَّشَادِ إِذَا عَصَيْتَ الله
آخر: ... وَلا عَيْشَ إِلا مَعْ رِجَالٍ قُلُوبُهُم ... تَحُنُّ إِلَى التَّقْوَى وَتَرْتَاحُ لِلذِّكْرِ
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر اتق الله حيثما كنت أي بأي زمان وجدت وأي مكان أقمت فإن التقوى لا تتقيد بزمان ولا مكان وإنما هي عبادة وإخلاص للرحمن وكف عن محارمه ومكافحة لهوى النفس والشيطان.
وموضعها القلب من كل إنسان على حد قوله - صلى الله عليه وسلم -: «التقوى هاهنا ويشير إلى صدره» وتظهر آثارها على الجوارح بعمل الطاعات والانكفاف عن المحرمات.
وقال - صلى الله عليه وسلم - «أن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر(3/91)
إلى قلوبكم» ، فعلى الإنسان أن يبذل جده واجتهاده في تحسين موضع نظر الله منه ليكون نقيًا طاهرًا خاليًا من الغش والحسد والحقد والظنون السيئة بالمسلمين خاليا من جميع الأمراض النفسية والخلقية فلعل الله ينظر له نظرة قبولٍ ورحمةٍ وعطفٍ وإحسانٍ وامتنانٍ.
يا أبا ذر أمرتك بالتقوى المشتملة على امتثال أمر الله والابتعاد عن محارمه.
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمير جيشه سعد ابن أبي وقاص يحضه فيه على تقوى الله ويحذره المعاصي فقال وبعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فان تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم فان ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله.
ولولا ذاك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعادتهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعلموا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله.
ولا تقولوا أن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. . .واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل الله تعالى ذلك لي ولكم. . .أهـ.
فتأمل ما كتبه أمير المؤمنين إلى قائد جيشه يأمر بالتقوى ويحذره من المعاصي بأشد المواقف وأحرجها عند مقابلة المسلمين لجيش العدو من(3/92)
الكفرة المعاندين لعلمه أن تقوى الله أفضل العدة والذخيرة وأقوى عاملٍ لنصرة المسلمين على أعدائهم والغلبة عليهم والظفر بهم.
فتمسك المسلمون بوصية عمر وكانوا كما وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من الروم أمير فقال جئتك من عند رجالٍ دقاقٍ يركبون خيولاً عتاقًا أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان لو حدثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصولهم بالقرآن والذكر فالتفت إلى أصحابة وقال أتاكم منهم مالا طاقة لكم به.
شِعْرًا:
هُمُ الرِّجَالُ وَغَبْنٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ ... لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفِهِمْ رَجلُ
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» لما كان العبد لابد أن يحصل منه تقصير في التقوى ولوازمها أمره - صلى الله عليه وسلم - بما يدفع ذلك ويمحوه فكأنه عليه الصلاة والسلام قال:
وحيث أن المرء لا يأمن على نفسه من الزلل والخطأ، فإذا ما وقعت منك زلة أو خطيئة فاتبعها بالحسنة فهي ماحية لها مخلصة لك من شرها وأثمها نظير قوله تعالى: {ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ومن أساء إليك فقابله بالإحسان على حد قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
شِعْرًا:
أَصْدَقُ صَدِيقَكَ إِنْ صَدَقْتَ صَدَاقَةً ... وَادْفَعْ عَدُوَّكَ بِالَّتِي فَإِذَا الَّذِي
وهذا من أكرم أخلاق المرء وأجل صفاته فإذا أساء إليك مسيء من الخلق خصوصًا من له حق عليك كالأقارب والأصحاب ونحوهم فقابل إساءته بالإحسان وسواء كانت إساءة قولية أو فعلية فإن قطعك فصله وإن ظلمك فاعف عنه وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله بالإساءة بل اعف عنه وعامله بالقول اللين وإن هجرك وترك خطابك فطيب له الكلام وابذل له السلام كما قيل:(3/93)
شِعْرًا: ... وَأَنْ أَسَاهُ مُسِيٌ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي ... عُرُوضُ زَلَّتِهِ عَفْوٌ غُفْرَانُ
آخر: ... فَإِنْ جَارَيْتَ ذَا جُرْمِِ بِجُرْمٍ ... فَمَا فَضْلُ الْمَصُونِ عَلَى الْمُذَالِ
آخر: ... إِذَا سَفَهَ السَّفِيهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْ ... سُكُوتَكَ عِنْدَ مِنْ شَرَفَ الْخِصَالِ
فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، كأنه قريب شقيق وهذا فيما إذا كان المتعدي من غير قصدٍ وأهلاً للعفو والمسامحة والمقابلة بالتي هي أحسن والحذر من الكبر والعجب.
شِعْرًا: ... كَمْ جَاهِلٍ مُتَوَاضِعٍ ... سَتَرَ التَّوَاضُعُ جَهْلَهْ
وَمُمَيِّزٍ فِي عِلْمِهِ ... هَدَمَ التَّكَبُّرُ فَضْلَهْ
فَدَعْ التَّكَبُّرَ مَا حَيِـ ... ـيتَ وَلا تُصَاحِبْ أَهْلَهُ
فَالْكِبْرُ عَيْبٌ لِلْفَتَى ... أَبَدًا يُقَبِّحُ فِعْلَهْ
وأما أن كان من المتغطر سين المتكبرين الذين يزيدهم العفو عتوًا وطغيانًا وتماديًا في ظلمهم وشرهم وبغيهم فاستعمال الشدة والحزم والقسوة أولى ليرتدعوا لأن اللئيم إذا كرمته تمرد وإذا أهنته ربما تأدب واعتدال. وقديما قيل:
إِنَّ الصَّنِيعَةَ لِلأَنْذَالِ تُفْسِدُهُمْ ... كَمَا تُضِرُّ رِيَاحُ الْوَرْدَ بِالْجَعَل
آخر: ... إِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا أَذْلَلْتَهُمْ صَلَحُوا ... عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا
آخر: ... إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا
فَوَضعُ النَّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النِّدَا
إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} ، مدهم جل وعلا لانتصارهم لأنفسهم ممن بغى عليهم وأردف جل وعلا ذلك بما يدل على أن الانتصار مقيد بالمثل لأن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض فقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .(3/94)
ونعود إلى الكلام على آخر جملة في الحديث وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وخالق الناس بخلق حسن» أي من غير تكلف، والخلق صورة الإنسان الباطنة. والخلق الحسن في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم هو أس الفضائل وينبوع المكارم وعين الكمال.
وفي حديث مسلم عنه عليه السلام قال: «البر حسن الخلق» المعنى أن خير خصال البر وأعظمها حسن الخلق نظير قوله عليه السلام «الحج عرفه» وناهيك أن الله سبحانه امتدح محمدًا - صلى الله عليه وسلم - به لبيان فضله وعلو منزلته وشرفه فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر مهمته التي لأجلها بعث وبها جاء من عند الله تعالى فيقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر ما جاء في هذه الآيات وما شاكلها من الآيات ولنا الأسوة الحسنة في قوله وفعله وقد ذكرنا نماذج من حلمه - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ورد في الحدث على حسن الخلق أحاديث كثيرة ومن حسن الخلق لين الجانب والتواضع وعدم الغضب وكف الأذى عنهم والعفو عن مساويهم وأذيتهم ومعاملتهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وبشاشة الوجه ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس المدخل عليه السرور المزيل عنه الوحشة.
ومن الخلق الحسن أن تعامل كل أحد بما يليق به ويناسب حاله ومما يثمره حسن الخلق تيسير الأمور وحب الخلق له ومعونتهم والابتعاد عن أذاه وقلة مشاكله في الحياة مع الناس والمجالسين له واطمئنان نفسه وطيب عيشه ورضاؤه به.
ومن محاسن الأخلاق الصدق والوفاء والشهامة والنجدة وعزة النفس(3/95)
والتواضع وعلو الهمة والتثبيت والعفو والبشر والرحمة والشجاعة والوقار والورع والصيانة والصبر والحياء والسخاء والنزاهة والقناعة وحفظ السر والعفة والإيثار.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحها ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله علي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا: ... أَسْعَدُنَا مَنْ وَفَقَ الله ... لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْهُ يَرْضَاهُ
وَمَنْ رَضِي مِنْ رِزْقِهِ بِالَّذِي ... قَدَّرَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ
وَاطَّرَحَ الْحِرْصَ وَأَطْمَاعَهُ ... فِي نَيْلِ مَا لَمْ يُعْطِهِ مَوْلاهُ
طُوبَى لِمَنْ فَكَّرَ فِي بَعْثِهِ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُو بِهِ اللهُ
وَاسْتَدْرَكَ الْفَارِطَ فِيمَا مَضَى ... وَمَا نَسِي فَاللهُ أَحْصَاهُ
فَالْمَوْتُ حَتْمٌ فِي جَمِيعِ الْوَرَى ... طُوبَى لِمَنْ تُحْمِدُ عُقْبَاهُ
وَكُلُّ مَنْ عَاشَ إِلَى غَايَةٍ ... فِي الْعُمْرِ فَالْمَوْتُ قُصَارَاهُ
يَعْلَمُهُ حَقًّا يَقِينًا بِلا ... شَكٍّ وَلَكِنْ يَتَنَاسَاهُ
كَأَنَّمَا خُصَّ بِهِ غَيْرَنَا ... أَوْ هُوَ خَطْبٌ نَتَوَقَّاهُ
وَإِنْ جَرَى ذِكْرٌ لَهُ بَيْنَنَا ... قُلْنَا جَمِيعًا قَدْ عَلِمْنَاهُ
وَلَيْسَ فِينَا وَاحِدٌ عَامِلٌ ... لِغَيْرِ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاهُ
كَمْ آمِنٍ فِي سِرْبِهِ غَافِلٍ ... فِي أَعْظَمِ الْعِزِّ وَأَوْفَاهُ
أَمْوَالُهُ لا تُنْحَصِي كَثِيرَةً ... وَالْخَلْقُ تَرْجُوهُ وَتَخْشَاهُ
وَمِنْ عَظِيمِ الذِّكْرِ فِي نِعْمَةٍ ... يُرْجَى وَيُخْشَى وَلَهُ جَاهُ(3/96)
قَدْ بَاتَ فِي خَفْضٍ وَفِي غِبْطَةٍ ... فِي أَطْيَبِ الْعَيْشِ وَأَهْنَاهُ
أَصْبَحَ قَدْ فَارَقَ ذَا كُلَّهُ ... قَهْرًا وَصَارَ الْقَبْرُ مَثْوَاهُ
فَزَالَتِ النِّعْمَةُ فِي لَحْظَةٍ ... وَاسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ عَطَايَاهُ
سِيقَ إِلَى دَارِ الْبَلَى مُكْرِهًا ... لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَالُ وَالْجَاهُ
وَكُلُّ مَنْ كَانَ وَدُودًا لَهُ ... تَحْتَ تُرَابِ الأَرْضِ وَارَاهُ
حَتَّى إِذَا مَا غَابَ عَنْ عَيْنِيهِ ... عَادَ إِلَى الدُّنْيَا وَخَلاهُ
مُقَاطَعًا مُطََّرَحًا مُهْمَلاً ... مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ يَتَجَافَاهُ
كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ سَاعَةً ... وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّهْرِ لاقَاهُ
لِي أَجَلٌ قَدَّرَهُ خَالِقِي ... نِعَمٌ وَرِزْقٌ أَتَوَفَّاهُ
اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنانك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) قال ابن القيم رحمه الله: الدين كله يرجع إلى هذه القواعد الثلاث: فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.
وهذه الثلاث هي التي أوصى بها لقمان لابنه في قوله: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.
فأمره بالمعروف: يتناول فعله بنفسه وأمر غيره به، وكذلك نهيه عن المنكر.(3/97)
أما من حيث إطلاق اللفظ، فتدخل نفسه وغيره فيه، وأما من حيث اللزوم الشرعي، فإن الآمر لا يستقيم له أمره ونهيه، حتى يكون أول مأمور ومنهي.
وذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}
فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف، فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه، وذلك يعم ونهيه الذي عهده إليهم، بينهم وبينه، وبينهم وبين خلقه. ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه.
شِعْرًا: ... إِذَا أَنْتَ تُصْلِحْ لِنَفْسِكَ لَمْ تَجِدْ ... لَهَا أَحَدًا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ يُصْلِحُ
آخر: ... نِعَمُ الإِلَهِ عَلَى الْعَبْدِ كَثِيرَةٌ ... وَأَجَلُهُنَّ فَنِعْمَةُ الإِيمَانِ
آخر: ... مَا أَنْعَمُ اللهَ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ ... أَوْفَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ طَاعَتِهْ
وَكُلَّ مَنْ عُوفِي فِي دِينِهِ ... فَإِنَّهُ فِي عَيْشَهٍ رَاضِيَهْ
ثم وصفاهم بأنهم يعلمون ما أمر الله به أن يوصل، ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه، وحق الله، وحق خلقه، فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له، والقيام بطاعته.
والإنابة إليه والتوكل عليه، وحبه وخوفه ورجائه، والتوبة والاستكانة له، والخضوع والذلة له، والاعتراف له بنعمته، وشكره عليها، والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها.(3/98)
فهذه هي الصلة بين الرب والعبد، وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل، وأمر أن يوصل ما بيننا وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء والرضا لحكمه، والتسليم له.
وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله.
وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة، فإنه أمر ببر الوالدين وصلة الأرحام وذلك مما أمر به أن يوصل وأمر أن نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف.
وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأقارب بأن نطعمهم مما نأكل، ونكسوهم مما نكتسي، ولا نكلفهم فوق طاقتهم، وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه، وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر.
وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحي منهم كما يستحي الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل.
ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة، هو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب ولا يمكن احد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته، ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصل.
ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد وهو آخيه ذلك وقاعدته ومداره الذي يدور عليه وهو الصبر فقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصا لوجه. ثم ذكر لهم ما يعينهم على الصبر وهو الصلاة فقال: {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} .(3/99)
وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة وهما الصبر والصلاة فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
ثم ذكر سبحانه إحسانهم إلى غيرهم بالإنفاق سرًا وعلانية فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة، وإلى غيرهم بالأنفاق عليهم.
ثم ذكر حالهم إذا جهل عليهم وأوذو أنهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأ ون بالحسنة السيئة، فيحسنون إلى من يسيء إليهم فقال: {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} . وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتبع السيئة الحسنة بعدها تمحها» .
والتحقق: أن الآية تعم النوعين والمقصود: أن هذه الآيات، تناولت مقامات الإسلام والإيمان كلها، واشتملت على فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.
وقد ذكر تعالى هذه الأصول الثلاثة في قوله: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} ، وقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر، اشتمل على الأمور الثلاثة، فإن حقيقة التقوى: فعل المأمور، وترك المحظور.
شِعْرًا:
اكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي مَهَلٍ ... وَلا تَكُنْ جَاهِلاً فِي الْحَقِّ مُرْتَابَا
إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَورُودٌ مَنَاهِلُهَا ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلَوْ عُمِّرتَ أَحْقَابَا(3/100)
وَفِي اللَّيَالِي وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... يَزْدَادُ فِيهَا أُوُلو الأَلْبَابِ أَلْبَابَا
بَعْدَ الشَّبَابِ يَصِير الصُّلْبُ مُنْحَنِيًا ... وَالشَّعْرُ بَعْدَ سَوَادٍ كَانَ قَدْ شَابَا
يُفْنِي النُّفُوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... لَيْلٌ سَرِيعٌ وَشَمْسٌ كَرُّهَا دَابَا
لِمُسْتَقَرٍّ وَمِيقَاتٍ مُقَدَّرَةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهُودُ النَّاسِ غُيَّابَا
وَمَنْ تُعَاقِرهُ الأَيَّامُ تَبْدِ لُهُ ... بِالْجَارِ جَارًا وَبِالأَصْحَابِ أَصْحَابَا
خَلَّوا بُرُوجًا وَأَوْطَانًا مُشَدِّةً ... وَمُؤْنِسِينَ وَأَصْهَارًا وَأَنْسَابَا
فَيَا لَهُ سَفَرًا بُعْدًا وَمُغْتَرَبًا ... كُسِيتَ مِنْهُ لِطُولِ النَّأْيِ أَثْوَابَا
بِمُوحِشِ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلَّتُهُ ... وَلَيْسَ مِنْ حَلَّهُ مِنْ غَيْبَةٍ آبَا
كَمْ مِنْ مَهِيبٍ عَظِيم الْمُلْكِ مُتَّخِذٍ ... دُونَ السُّرَادِقِ حُرَّاسًا وَحُجَّابَا
أَضْحَى ذَلِيلاً صَغِيرَ الشَّأْنِ مُنْفَرِدًا ... وَمَا يُرَى عِنْدَهُ فِي الْقَبْرِ بَوَّابَا
وَقَبْلَكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقَدْ هَلَكُوا ... فَأَضْرَبَ الْحيُّ عَنْ ذِي النَّأْيِ إِضْرَابَا
يَا أَيُّهَا الرَّاحِلُ النَّاسِي لِمَصْرَعِهِ ... أَصْبَحْتَ مِمَّا سَتَلْقَى النَّفْسُ هَرَّابَا
اكدحْ لِنَفْسِكَ مِنْ دَارِ تُزَايِلُهَا ... وَلا تَكُنْ لِلَّذِي يُؤْذِيكَ طَلابَا
والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَصْل في ذَمِّ طُوْلِ الأَمَلِ وَالحَثِّ عَلَى تَقْصِيْرِهِ)
اعلموا معشر الإخوان وفقنا الله وإياكم وأيقظ قلوبنا من الغفلة ورزقنا وإياكم الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إلى الدار الباقية أن من أضر الأشياء على الإنسان طول الأمل ومعنى ذلك استشعار طول البقاء في الدنيا حتى يغلب على القلب فيأخذ في العمل بمقتضاه.
شِعْرًا: ... تَأَهَّبْ لِلَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيعَادُ الْعِبَادِ
يَسُرَّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ(3/101)
وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
وينسى أنه مهدد بالموت في كل لحظة ولابد من ذلك، كل ما هو آت قريب، فتأهب لساعة وداعك من الدنيا وخروجك منها.
شِعْرًا: ... (أُؤَمِّلُ أَنْ أَحْيَا وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ ... تَمُرُّ بِيَ الْمَوْتَى تَهُزُّ نُعُوشُهَا)
(وَهَلْ أَنَا إِلا مِثْلَهُمْ غَيْرَ أَنَّ لِي ... بَقَايَا لَيَالٍ فِي الزَّمَانِ أَعِيشُهَا)
آخر: ... يَا أَيُّهَا الْبَانِي النَّاسِي مَنِيَّتَهُ ... لا تَأْمَمَنَّ فَإِنَّ الْمَوْتَ مَكْتُوبُ
عَلَى الْخَلائِقِ إِنْ سُرُّورا وَإِنْ حَزَنُوا ... فَالْمَوْتُ حَتْفٌ لِذِي الآمَالِ مَنْصُوبُ
لا تَبْنِيَنَّ دِيَارًا لَسْتَ تَسْكُنُهَا ... وَرَاجِعِ النُّسْكَ كَيْمَا يُغْفَر الْحُوبُ
قال بعض السلف: من طال أمله ساء عمله وذلك أن طول الأمل يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا والتشمير لها لعمارتها وطلبها حتى يقطع وقته ليله ونهاره في التفكير في جمعها وإصلاحها والسعي لها مرة بقلبه ومرة بالعمل فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في طلبها.
وحينئذ ينسى نفسه والسعي لها بما يعود إلى صلاحها وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد والتشمير في طلبه الآخرة التي هي دار الإقامة والبقاء وأما الدنيا فهي دار الزوال والانتقال وعن قريب يرتحل منها إلى الآخرة ويخلف الدنيا وراءه. فهل من العقل أن يعتني الإنسان بالمنزل الذي سينتقل منه قريبا ويهمل المنزل سيرتحل إليه قريبًا ويمكث فيه طويلاً.
شِعْرًا: ... الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ أُحْدُوثَةٌ ... يَفْنَى وَيَبْقَى مِنْهُ آثَارُهُ
فَأَحْسَنُ الْحَالاتِ حَالُ امْرِئٍ ... تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهُ
آخر: ... وَمَا الْعُمْرُ وَالأَيَّامُ وَسَائِطًا ... جُعِلْنَ لِمَا يُرْضِي الإِلَهَ وَسَائِلا
آخر: ... وَتَأَكُلنَا أَيَّامُنَا فَكَأَنَّمَا ... تَمُرُّ بِنَا السَّاعَاتُ وَهِيَ أُسُودُ
آخر: ... أَتَبْنِي بِنَاءَ الْخَالِدِينَ وَإِنَّمَا ... مَقَامُكَ فِيهَا لَوْ عَرَفْتَ قَلِيلُ(3/102)
لَقَدْ كَانَ فِي ظِلِّ الأَرَاكِ كِفَايَةٌ ... لِمَنْ كَانَ يَوْمًا يَقْتَفِيهِ رَحِيلُ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى لآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) :وقد ذكر العلماء أن طول الأمل له سببان أحدهما الجهل والآخر حب الدنيا، أما حب الدنيا فهو إنه إذا أنس بها وبشهواتها وعلائقها ثقل على قلبه ومفارقتها فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه والإنسان مشغول بالأماني الباطلة التي توافق مراده.
شِعْرًا: ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيهِ فِي الدُّنْيَا وَيُخْلِقُهُ ... حِرْصٌ طَوِيلٌ وَعُمْرٌ فِيهِ تَقْصِيرُ
يُطَوِّقُ النَّحْرَ بِالآمَالِ كَاذِبَةً ... وَلَهْذَمُ الْمَوْتِ دُونَ الطَّوْق مَطْرُورُ
جَذْلانَ يَبْسِمُ فِي أَشْرَاكِ مِيتَتِهِ ... إِنْ أَفْلَتَ النَّابُ أَرْدَتْهُ الأَظَافِيرُ
وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه ويقدر توابعه وما يحتاج إله من مالٍ وأهلٍ ودارٍ وأصدقاء ودواب ومركوب وسائر أسباب الدنيا فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر فيلهوا عن ذكر هاذم اللذات الموت.
شِعْرًا: ... إِذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ ... لِخَالِقِهِ فَهُوَ الَّذِي مَا لَهُ عَقْلُ
آخر: ... وَمَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ مَعْرِفَتِي بِهَا ... وَبِالْوَقْتِ أَمْضَى وَقْتَهُ فِي الْعِبَادَةِ
وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الإِلَهِ حَقِيقَةً ... وَشُكْرٍ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةْ
آخر: ... إِنَّ الْعِبَادَةَ لِلإِلَهِ حَقِيقَةً ... تَكْسُوا الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَمَالا(3/103)
وَهِيَ السَّبِيلُ لِمَنْ أَرَادَ نَجَاتَهُ ... يَوْمَ الْحِسَابِ إِذْ رَأَى الأَهْوَلا
آخر: ... كَيْفَ أَرْجُو مِن الْمَنَايَا خَلاصًا ... وَأَرَى كُلَّ مَنْ صَحبتُ دَفِينَا
فَأَرَى النَّاسَ يُنْقِلُونَ سِرَاعًا ... كُلَّ يَوْمٍ إِلَيْهِمْ مَرَّدَ فِينَا
قَدْ أَصَابَتْهُمْ سِهَامُ الْمَنَايَا ... وَسَتَرْمِي السِّهَامُ لا بُدَّ فِينَا
آخر: ... سِتُّ بُلِيتُ بِهَا وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ ... مِنْ شَرِّهَا مِنْ إِلَيْهِ الْخَلْقُ تَبْتَهِلُ
نَفْسِي وَإِبْلِيسُ وَالدُّنْيَا الَّتِي فَتَنَتْ ... مِنْ قَبْلَنَا وَالْهَوْى وَالْحِرْصُ وَالأَمَلُ
إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ يَا مَوْلايَ وَاقِيَةٌ ... مِنْ شَرِّهَا فَلَقَدْ أَعْيَتْ بِنَا الْحِيَلُ
فإن خطر في بعض الأحوال ذكر الموت والضرورة إلى الاستعداد والتهيؤ له سوف ووعد نفسه وقال ما مضى إلا قليل إلى أن تكبر ثم تتوب وتقبل على الطاعة فلا يزال يمني ويسوف من الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة أو إلى رجوعٍ من السفر أو إلى فراغه من تدبير شؤنه أو شئون أولاده أو بناته أو زواجهم أو انتهاء شغله في عماراته أو فلله أو دكاكينه أو بستانه أو تكميل دراسته أو نحو ذلك من الأماني الباطلة التي يتلذذ بذكرها ولا تجدي شيئا لكنه يرتاح لها.
فلا يزال يمني نفسه بما يوافق هواها ولا يزال يغالط نفسه في الحقائق ويتوهم البقاء في الدنيا إلى أن يتقرر ذلك عنده ويظن أن الحياة قد صفت له وينسى قوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} .
شِعْرًا: ... أُفٍّ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ... كَأَنَّهَا لِلْحُزْنِ مَخْلُوقَهْ
هُمُومُهَا مَا تَنْقَضِي سَاعَةً ... عَنْ مَلِكٍ فِيهَا وَلا سُوقَهْ
آخر:
إِنَّمَا الدُّنْيَا بَلاءٌ ... لَيْسَ فِي الدُّنْيَا ثُبُوتْ
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتْ ... نَسَجَتْهُ الْعَنْكَبُوتْ(3/104)
كُلَّ مَنْ فِيهَا لَعَمْرِي ... عَنْ قَرِيبٍ سَيَمُوتْ
إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْهَا ... أَيُّهَا الرَّاغِبُ قُوتْ
آخر: ... لا تُعْطِ عَيْنَكَ إِلا غَفْوَةَ الْحَذَرِ ... وَاسْهَرْ لِنَيْلِ عُلُومِ الدِّينِ تَغْتَنِمِ
وَلا تَكُنْ في طِلابِ الْعِلْمِ مُعْتَمِدًا ... إِلا عَلَى مُوجِدِ الأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ
آخر: ... تَصْفُو الْحَيَاةَ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ ... عَمَّا مَضَى مِنْهَا وَمَا يُتَوَقَّعُ
وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ نَفْسَهُ ... وَيَسُومُهَا طَلَبُ الْمُحَالِ فَتَطْمَعُ
آخر: ... ضَيَّعْتَ وَقْتَكَ فَانْقَضَى فِي غَفْلَةٍ ... وَطَوَيْتَ فِي طَلَبِ الْخَوَادِعِ أَدْهُرَا
أَفْهِمْتَ عَنِ الزَّمَانِ جَوَابَهُ ... فَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الْعِظَاتِ وَكَرَّرَا
عَايَنْتَ مَا مَلأَ الصُّدُورَ مَخَافَةً ... وَكَفَاكَ مَا عَايَنْتَهُ مَنْ أَخْبَرَا
وأصل هذه الأماني كلها حب الدنيا والأنس بها والغفلة عن الآخرة الثاني الجهل حيث يستعبد الموت مع الصحة والشباب ولا يدري المسكين أن الشيوخ في البلدان أقل بكثير من الشباب وليس ذلك إلا كثرة الموت في الشبان والصبيان أكثر ولو سألت أحد الشيوخ الطاعنين في السن عن من مات من الشبان الذين يعرفهم لعد لك مئات.
شِعْرًا: ... لَيْسَ بِالسِّنِّ تَسْتَحَقُّ الْمَنَايَا ... كَمْ نَجَا بَازَلٌ وَعُوجِلَ بَكْرُ
وَعَوَانٌ حَازَتْ حُلِّيَّ كِعَاب ... فَاجَأَتْهَا مِن الْحَوَادِثِ بِكْرُ
آخر: ... لا تَغْتَرَّ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَطِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشِّيب شُبَّانُ
آخر: ... وَلَقَدْ سَلَوْتَ عَن الشَّبَابِ كَمَا سَلا ... غَيْرِي وَلَكِنْ لِلْحَبِيبِ تَذَكُّرُ
آخر: ... يُعَمَّرُ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ... وَيُنْسَى مَنْ يَمُوتُ مِنَ الشَّبَابِ
وأيضًا لا يدري أن الموت وإن لم يكن يأتي فجأة غالبا لكن المرض لا يستعبد إتيانه فجأة لأن الوهم لا يعرف إلا ما يألفه فالإنسان ألف موت غيره ولم يرى موت نفسه أصلاً فلذلك يستعبد إلا أن العاقل يعرف أن الأجل محدود قد فرغ منه والإنسان يسير إليه في كل لحظة كما قيل:(3/105)
شِعْرًا: ... نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
تَبْنِي الْمَنَازِلَ أَعْمَارٌ مُهَدَّمَة ... مِنَ الزَّمَانِ بِأَنْفَاسٍ وَسَاعَاتِ
وَمَا نَفْسُ إِلا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ... وَيُدْنِي الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ فَتَقْرُبُ
(فَصْلٌ) : إذا عرفت ذلك فعلاج الجهل الفكر الصافي من القلب الحاضر وسماع الحكمة البالغة من الكتاب والسنة والقلوب الطاهرة وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد في غاية الصعوبة والمشقة وهذا هو الداء العضال الذي اعجز الأولين والآخرين.
ولهذا من مداخل الشيطان إلى قلب ابن آدم حب التزين من الأثاث والثياب والمسكن والمركوب فإن الشيطان إذا رأى ذلك الذي هو بالحقيقة حب الدنيا غاليًا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ فلا يزال الخبيث يزين له ويدعوه إلى عمارة المسكن وتزويقه وتوسيعه وتنظيمه ويدعوه إلى التزين بالثياب والمركوب ويستسخره ويستعمره طول عمره فإذا أوقعه وورطه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه.
ثانيًا: أن بعض ذلك يجره إلى بعض الآخر بالقوة فلا يزال يؤيده من شيء إلى آخر بالتدريج إلى أن يذهب عمره فرطا ويساق إلى أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان وإتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء ويخشى من سوء العاقبة بالكفر نعوذ بالله من ذلك.
شِعْرًا: ... الْقَلْبُ مُحْتَرِقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ ... وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ
كَيْفَ الْفِرَارُ عَلَى مَنْ لا فِرَارَ لَهُ ... مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ
يَا رَبِّ إِنْ كَانَ شَيْءٌ لِي بِهِ فَرَحٌ ... فَامْنُنْ عَليَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رَمَقُ
آخر: ... يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... إِنَّ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَلِيلُ
مَا اقْتَلَ الدُّنْيَا لِخُطَّابِهَا ... تَقْتلُهمْ قِدْمًا قَتِيلاً قَتِيلُ(3/106)
تَسْتَنْكِحُ الْبَعْلَ وَقَدْ وَطِئَتْ ... فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ بَدِيلُ
إِنِّي لَمُغْتَرُّ وَإِنَّ الْبَلا يَعْمَلُ ... فِي جِسْمِي قَلِيلاً قَلِيلُ
تَزَوَّدُوا لِلْمَوْتِ زَادًا فَقَدْ ... نَادَى مُنَادِيهِ الرَّحِيلَ الرَّحِيلُ
آخر: ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي
إِبْلِيس يَسْلُكُ فِي طَرِيقِ مَهَالِكِي ... وَالنَّفْسُ تَأْمُرُنِي بِكُلِّ بَلائِي
وَأَرَى الْهَوَى تَدْعُو إِلَيْهِ خَوَاطِرِي ... فِي ظُلْمَةَ الشُّبُهَاتِ وَالآرَائِي
وَزَخَارِفُ الدُّنْيَا تَقُولُ أَمَا تَرَى ... حُسْنِي وَفَخْرَ مَلابِسِي وَبَهَائِي
آخر: ... أَلا أَيُّهَا الَّلاهِي وَقَدْ شَابَ رَأْسُهُ ... أَلمَّا يَزِعْكَ الشَّيْبُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
أَتَصْبُ وَقَدْ نَاهَزْتَ خَمْسِينَ حِجَّةً ... كَأَنَّكَ غِرٌ أَوْ كَأَنَّكَ يَافِعُ
حَذَارِ مِنَ الأَيَّامِ لا تَأْمَنَنَّهَا ... فَتَخْدَعُكَ الأَيَّامُ وَهِيَ خَوَادِعُ
أَتَأْمَنُ خَيْلاً لا تَزَالُ مُغِيرَةً ... لَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي أُنَاسٍ وَقَائِعُ
وَتَأْمَلُ طُولُ الْعُمْرِ عِنْدَ نَفَاذِهِ ... وَبِالرَّأْسِ وَسْمٌ لِلْمَنِيَّةِ لامِعُ
يُرْجي الْفَتَى وَالْمَوْتُ دُونَ رَجَائِهِ ... وَيَسْرِي لَهُ سَارِي الرَّدَى وَهُوَ هَاجِعُ
تَرَحَّلْ مِنْ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِن التُّقَى ... فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِمَا أَنْتَ صَانِعُ
ولا علاج لحب الدنيا إلا الإيمان بالله واليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا فرأى حقارتها ونفاسة الآخرة ورأى أن الدنيا ليست بأهل أن يلتفت إليها أو ترمق بعين المحبة خلافًا للسواد الأعظم المنهمكين فيها.
شِعْرًا: ... إِذَا مُوجِدُ الأَشْيَاءِ يَسَّرَ لِلْفَتَى ... ثَمَانَ خِصَالٍ قَلَّمَا تَتَيَسَّرُ
كَفَافٌ يَصُونُ الْحُرَّ عَنْ بَذْلِ وَجْهِهِ ... فَيُضْحِي وَيُمْسِي وَهُوَ حُرٌّ مُوَقَّرُ
وَمَكْتَبَةٌ تَحْوِي تَعْلِيمَ دِينَنَا ... وَمَسْجِدُ طِينٍ بِالْقَدِيمِ يُذَكِّرُ
وَمَفْرُوشُهُ الْحَصْبَا كَمَا كَانَ أَوَّلاً ... أَوِ الرَّمْلِ وَلا فُرْشٌ بِهَا نَتَفَكَّرُ(3/107)
.. وَرَابِعُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... يُنَادِي لِخَمْسٍ فِي الْمَسَاجِدِ يَجْهَرُ
وَخَامِسُهَا عَزَّتْ وَقَلَّ وُجُودُهَا ... صَدِيقٌ عَلَى الأَيَّامِ لا يَتَغَيَّرُ
وَبَيْتٌ خَلِيٌ مِنْ شُرُورٍ تَنَوَّعَتْ ... لَهَا عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّذِيلَةِ مَظْهَرُ
وَجِيرَانُهُ أَصْحَابُ دِينِ وَغَيْرَةٍ ... إِذَا اسْتُنْصِرُوا لِلدِّينِ هَبُّوا وَشَمَّرُوا
مَجَالِسُهُمْ فِيمَا يَحُثُّ عَلَى التُّقَى ... وَرُؤْيَتُهُمْ بِالتَّابِعِينَ تُذَكِّرُ
وَثَامِنُهَا قَوَّامَةُ اللَّيْلِ دَأْبُهَا ... تُصَلِّي وَتَتْلُو لِلْكِتَابِ وَتَذْكُرُ
تُسَلِّي عَنِ الدُّنْيَا وَمَنْ وُلِّعُوا بِهَا ... وَتَخْدِمُهُ طُولَ النَّهَارِ وَتَشْكُرُ
فَهَذَا الَّذِي قَدْ نَالَ ملْكًا بِلا أَذَى ... وَلَمْ يَعْدُهُ عِزٌّ وَمَجْدٌ وَمَفْخَرُ
فعن الحارث بن مالك الأنصاري انه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له كيف أصبحت يا حارث قال أصبحت مؤمنًا حقًا، قال: «انظر ما تقول فأن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي بارزًا وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها كأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال «يا حارث عرفت فالزم» . ثلاثا.
نسأل الله أن يرينا الدنيا كما أراها الصالحين، قال الشاعر:
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ
آخر: ... يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا إِلَى نَفْسِهِ ... تَنَحَّ عَنْ خِطْبَتِهَا تَسْلَمِ
إِنَّ الَّتِي تَخْطِبُ غَدَّارَةٌ ... قَرِيبَةُ الْعِرْسِ مِنَ الْمَآتِمِ
آخر: ... مَا أَحْسَنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالَهَا ... إِذَا أَطَاعَ اللهَ مَنْ نَالَهَا
مَنْ لَمْ يُطِيعِ اللهِ فِي صَرْفِهَا ... عَرَّضَ لِلإِدْبَارِ إِقْبَالِهَا
آخر: ... يُسِيءُ امْرُئٌ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائِمًا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ
أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيْخُ وَالْكَهْلُ وَالْفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمِنْ كُلِّ النَّوَاظِرِ تُرْمُقُ
وَمَا هِيَ أَهْلٌ أَنْ يُؤَهَّلَ مِثْلُهَا ... لِوُدٍّ وَلَكِنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ(3/108)
قال بعضهم العجب ممن يغتر بالدنيا وإنما هي عقوبة ذنب.
قال الأصمعي سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول كنت أدور في ضيعت لي فسمعت من يقول:
وَإِنَّ امْرأَ دُنْيَاهُ أَكْبَرُ هَمِّهِ ... لِمُسْتَمْسِكَ مِنْهَا بِحَبْلِ غُرُورِ
فجعلته نقش خاتمي.
وقال علي بن أبى طالب: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب، إذا قربت من أحدهما بعدت عن الآخر.
قيل لزاهد أي خلق الله أصغر قال الدنيا، لأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فقال السائل ومن عظم هذا الجناح كان أصغر منه.
وقال بعضهم كان السلف يحرصون على حفظ أوقاتهم، أشد من حرص أهل الدنيا على دنياهم. قال بعضهم:
الْوَقْتَ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلُ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
وقال علي بن الحسين السجاد الدنيا سبات والآخرة يقظة.
قال آخر: ما آثر الدنيا على الآخرة حكيم ولا عصي الله كريم.
شِعْرًا: ... فَيَا رَبَّ ذَنْبِي قَدْ تَعَاظَمَ جُرْمِهِ ... وَأَنْتَ بِمَا أَشْكُوهُ يَا رَبِّ عَالِمُ
وَأَنْتَ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ مُهَيْمِنٌ ... حَلِيمٌ كَرِيمٌ وَاسِعُ الْعَفْوِ رَاحِمُ
وقال آخر:
اتخذوا الدنيا مرضعًا والآخرة أما ألم تروا إلى الصبي إذا ترعرع وعقل رمى بنفسه على أمه.
وقال آخر:
أيامك ثلاثة: يومك الذي ولدت فيه، ويوم نزولك قبرك، ويوم خروجك إلى ربك، فيا له من يوم قصير خبئ له يومان طويلان.(3/109)
شِعْرًا: ... حَيَاتُكَ رَأْسُ الْمَالِ وَالدِّينُ رِبْحُهُ ... وَأَخْلاقُ أَشْرَافٍ بِهِنَّ تَصَدَّرُ
وَمَوْسِمُكَ الأَيَّام فَلْتَكُ حَازِمًا ... وَإِلا فَذُو التَّفْرِيطِ لا شَكَّ يَخْسَرُ
وَمَنْ ضَيَّعَ التَّوْحِيدَ ضَاعَتْ حَيَاتُهُ ... وَعَاشَ بِجَهْل غَارِقٍ لَيْسَ يُعْذَرُ
اللهم أرحم عربتنا في القبور وآمنا يوم البعث والنشور واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) أعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لطاعته......
أن الناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتًا كثيرًا فمنهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم ومنهم من لا ينقطع أمله بحالٍ ومنهم من هو قصير الأمل وكلما قص الأمل جاد العمل لأنه يقدر قرب الموت فيستعد استعداد ميت فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال إنما يهلك اثنتان الهوى وطول الأمل فأما الهوى فيصد عن الحق.
وإما طول الأمل فينسي الآخرة وروي عنه أيضًا أنه قال من ارتقب الموت سارع إلى الخيرت وصدق رحمه الله فلو أن غائبين عنك تعتقد أن أحدهما لمجيئه احتمال قوي في ليلتك أو في يومك والآخر يتأخر بعده بشهر أو شهرين للذي تخشى أن يفاجئك قدومه سريعًا ولاسيما إن كان قد أوصاك بوصية نفذتها قبل أن يصل فيلحقك ملامة أو عقوبة وتهيئ له مع ذلك ما تقدر عليه من تحف وما ترى أنه يناسب ويهواه.
شِعْرًا: ... تَأَهَّبْ لِلَّذِي وَلا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيعَادُ الْعِبَادِ
يَسُرُّكَ أَنْ تَكُون رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادُ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
(فَصْلٌ) : اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن تقصير الأمل دليل على كمال العقل فسبيل العاقل تقصير آماله في الدنيا والتقرب إلى الله جل وعلا بصالح الأعمال.(3/110)
قَصِّرْ الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فَدَلِيل الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلْ
ومعنى تقصير الأمل استشعار قرب الموت ولهذا قال بعضهم قصر الأمل سبب للزهد لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف بالتوبة والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والتساهل بتأخير قضاء الديون والقسوة في القلب.
شِعْرًا: ... تُخَبِّرُنِي الآمَالَ أَنِّي مُعَمَّرٌ ... وَأَنَّ الَّذِي أَخْشَاهُ عَنِّي مُؤَخَّرُ
فَكَيْفَ وَمَرُ الأَرْبَعِينَ قَضِيَّةَ ... عَليَّ بِحُكْمٍ قَاطِعٍ لا يُغَيَّرُ
إِذَا الْمَرْءُ جَازَ الأَرْبَعِينَ فَإِنَّهُ ... أَسِيرٌ لأَسْبَابِ الْمَنَايَا وَمَعْبِرُ
وقيل من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة ورضي بالقليل وقال ابن الجوزي: الأمل مذمومٌ إلا للعلماء فلولا ما جعل الله فيهم من الأمل لما ألفوا ولا صنفوا.
وفي الأمل سر لطيف جعله الله لولاه لما تهنأ أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع بعمل من أعمال الدنيا. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأمل رحمة من الله لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أم ولدها ولا غرس غارسٌ شجرًا» . رواه الخطيب.
عن أنس رضي الله عنه والمذموم من الأمل الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته.
وورد في ذم الاسترسال في الأمل حديث أنس رفعه «أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا» رواه البزار.
وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأمل وإتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة وإتباع الهوى يصد عن الحق» .(3/111)
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل وطول الأمل» ، وقيل أن طول الأمل حجاب على القلب يمنعه من رؤية قرب الموت ومشاهدته ووقر في الأذن يمنع من سماع وجبته ودوي وقعته وبقدر ما يرفع لك من الحجاب ترى وبقدر ما تخفف عن أذنيك من الوقر تستمع.
فانظر رحمك الله نظر من رفع الحجاب وفتح له الباب واستمع سماع من أزيل وقره وخوطب سره وبادر قبل أن يبادر بك وينزل عليك وينفذ حكم الله فيك فتطوى صحيفة عملك ويختم على ما في يديك.
ويقال لك أجن ما غرست ولأحصد ما زرعت واقرأ كتابك الذي كتبت كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا وبربك تبارك وتعالى رقيبا، وعلم أن الأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقبه التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى.
وذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه ببرهان، كما أن قصر الأمل يبعث على الجد والاجتهاد في العمل، ويحمل على المبادرة، ويحث على المسابقة قال:
سأضرب لك في ذلك مثلاً، مثل ملك من الملوك كتب إلى رجل يقول له: افعل كذا وكذا، وانظر كذا وكذا، وأصلح كذا وكذا، وانتظر رسولي فلانًا فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك.
وإياك ثم إياك أن يأتيك إلا وقد فرغت من أشغالك وتخلصت من أعمالك، ونظرت في زادك، وأخذت ما تحتاج إليه في سفرك.
وإلا أحللت بك عقابي وأنزلت عليك سخطي، وأمرته يأتني بك مغلولة يداك مقيدة بجلاك، مشمتًا بك أعداك، مسحوبًا على وجهك إلى دار خزي وهوان وما أعددته لمن عصاني.(3/112)
وإن وجدك قد فرغت من أعمالك وقضيت جميع أشغالك أتى بك مكرمًا مرفعًا مرفهًا إلى دار رضواني وكرامتي وما أعددته لمن امتثل أمري وعمل بطاعتي.
واحذر أن يخدعك فلان أو فلانة عن امتثال أمري والاشتغال بعملي وكتب إلى رجل آخر بمثل ذلك الكتاب.
فأما الرجل الأول فقال هذا كتاب الملك يأمرني فيه بكذا وكذا، وذكر لي رسوله يأتيني ليحملني إليه وأنا لا أمضي إليه حتى يأتيني رسوله، ولعل رسوله لا يأتيني إلا إلى خمسين سنة فأنا على مهلة.
وسأنظر فيما أمرني به، ولم يقع الكتاب منه بذلك الموقع، ولم ينزله من نفسه بتلك المنزلة، وقال: والله لقد أتى كتابه إلى خلق كثير بمثل ما أتاني، ولم يأتهم رسوله إلا بعد السنين الكثيرة، والمدد الطويلة، وأنا واحد منهم.
ولعل رسوله يتأخر عني كما تأخر عنهم، وجعل الغالب على ظنه أن الرسول لا يأتيه إلا إلى خمسين سنة كما ظن، أو أكثر أو إلى المدة التي جعل لنفسه بزعمه.
ثم أقبل على إشغال نفسه مما لا يحتاج إليه ومما كان غنيًا عنه وترك أوامر الملك والشغل الذي كلفه النظر. فيها والاشتغال به.
فكلما دخلت عليه سنة قال: أنا مشغول في هذه السنة وسأنظر في السنة المقبلة والمسافة أمامي طويلة والمهل بعيد.
وهكذا كلما دخلت عليه سنة قال: أنا مشغول، وسأنظر في الأخرى أو سأنظر في أمري فبينما هو على ذلك من تسويفه، واغتراره، إذ جاءه رسول الملك فكسر بابه وهتك حجابه وحصل معه في قعر بيته.
وقال له: أجب الملك. فقال: والله لقد جاءني كتابه يأمرني فيه بأعمال(3/113)
أعملها وأشغال أنظر له فيها، وما قضيت منها شغلاً، ولا عملت فيها حتى الآن شيئًا.
فقال الرسول له: ويلك وما الذي أبطأك عنها وما الذي حبسك عن الاشتغال بها والنظر فيها. فقال: لم أكن أظن أنك تأتيني في هذا الوقت.
فقال له: ويلك ومن أين كان لك هذا الظن ومن أخبرك به ومن أعلمك بأني لا آتيك إلا في الوقت الذي تظن. قال: ظننت وطمعت وسولت لي نفسي وخدعني الشيطان وغرني.
فقال له: ألم يحذرك الملك في كتابه منهما وأمرك ألا تسمع لهما، قال: بلى والله لقد فعل ولقد جاءني هذا في كتابه ولكنني خدعت فانخدعت وفتنت فافتتنت وارتبت في وقت مجيئك فتربصت.
فقال له: ويلك غرك الغرور وخدعك المخادع أجب الملك لا أم لك، قال: أنشدك إلا تركتني حتى أنظر فيما أمرني به، أو في بعضه أو فيما تيسر منه حتى لا أقدم عليه في جملة المفرطين وعصابة المقصرين.
وهذا مال قد كنت جمعته لنفسي، وأعددته لمؤونة زماني، فاتركني حتى آخذ منه زادًا أتزوده ودابة أركبها، فإن الطريق شاقة، والمفازة صعبة، والعقبة كؤود، والمنزل ليس فيه ماء.
قال: أتركك حتى أكون عاصيًا مثلك ثم دفعه دفعةً ألقاه على وجهه ثم جمع يديه إلى عنقه وانطلق به يجره من خلفه خزيان ندمان جوعان عطشان، وهو ينشد بلسان الحال:
لا كَحُزْنِي إِذَا لَقِيتُ حَزِينَا ... جَلَّ خَطْبِي فَدَيْتُكم أَنْ يَهُونَا
ضَاقَ صَدْرِي عَنْ بَعْضِهِ وَاحْتِمَالِي ... فَاسْلُكُوا بِي حَيْثُ أَلْقَى الْمَنُونَا(3/114)
مَا تُرِيدُ الْعُدَاةُ مِنِّي وَإِنِّي ... لَبِحَالٍ يَرِقُّ لِي الْمَغْبِضُونَا
زَفَرَاتٌ هَتَكْنَ حُجْبَ فُؤَادِي ... وَهُمُومٌ قَطَعْنَ مِنِّي الْوَتِينَا
خُنْتُ عَهْدَ الْمَلِيكِ قَوْلاً وَفِعْلا ... وَاتَّخَذْتُ الْخِلافَ شَرْعًا وَدِينَا
غَرَسَت فِي الْحَيَاةِ كَفِي شَرًا ... فَاجْتَنَيْتُ الْعِقَابِ مِنْهُ فُنُونَا
لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ وَأَيْنَ لِمِثْلِي ... ظَالِمٌ نَفْسَهُ بِأَنْ لا يَكُونَا
يَا خَلِيلِي وَلا خَلِيلَ لِي الْيَوْ ... مَ سِوَى حَسْرَةٍ تُدِيمُ الأَنِينَا
رَبَحَ الرَّابِحُونَ وَانْقَضَتِ السُّو ... قُ وَخَلَى بِغَبْنِهِ الْمَغْبُونَا
فَابْكِينِي إِنْ يَكُنْ بُكَاكَ مُفِيدًا ... أَوْ فَدَعْنِي وَعُصْبَةً يَبْكُونَا
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا في بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب، اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وأما الآخر الذي كتب إليه الملك بمثل ما كتب إلى هذا فإنه أخذ كتاب الملك وقبلهن وقرأه وتصفحه وتدبره، وقال: أرى الملك قد كتب إلي بان أعمل له كذا وكذا، وأقضي له كذا وكذا، وأنظر له في كذا وكذا.(3/115)
ومن أين سبقت لي هذه السابقة عند الملك، ومن الذي عنى بي عنده، ومن الذي أنزلني منه هذه المنزلة، حتى جعلتني من بعض خدامه، والقائمين بأمره.
والله إن هذه لسعادة والله إنها لعناية الحمد لله رب العالمين، ثم نظر في الكتاب وقال: أسمع الملك وقد قال لي في كتابه، وانتظر رسولي فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك وأره لم يحد لي الوقت الذي يبعث فيه الرسول إلي ولا سماه لي.
ولعلي لا أفرغ من قراءة كتابه إلا ورسوله قد أتاني ونزل علي، والله لا قدمت شغلاً على شغل الملك ولا نظرت في شيء إلا بعد فراغي مما أمرني به الملك، وإعدادي زادًا أتزود به، ومركوبًا أركبه إذا جاءني رسوله وحملني إليه.
فتعرض له رجل وقال له: لم هذه المسارعة كلها وفيم هذه المبادرة كلها؟ فقال له: ويحك أما ترى كتاب الملك بما جاءني، أما تسمع ما فيه أما تصدقه، أما تؤمن به، قال لي: سمعت وآمنت وصدقت، ولكن لم يقل لك فيه إن رسوله يأتيك اليوم ولا غدًا ولا وقتًا معلومًا.
ولكنه سيأتيك وقد جاء كتابه إلى فلان الذي قد جاءك أنت به، وقد بقي منتظرًا لرسوله أكثر من سبعين سنة، وإلى الآن ما أتاه.
وبعد زمان طويل ما جاءه، وفلان أتاه بعد ثمانين سنة، وفلان أتاه بعد مائة سنة، وأنت واحد من المرسل إليهم، فلم هذه العجلة، وفيم هذا الإسراع.
فقال: ويحك أما ترى أنت فلانًا قد جاءه كتاب الملك بهذا الذي جاءني وجاءه الرسول في إثر مجيء الكتاب، وفلان قد جاءه بعد سنة.(3/116)
فقال: بلى ولكن لا تنظر إلى هؤلاء خاصة وانظر إلى الذين قلت لك ممن تأخر عنه المجيء فقال له: دعني يا هذا فقد شغلتني والله وإني لأخاف أن يأتيني الرسول وأنا أكلمك.
ثم أقبل على ما أمره به الملك فامتثله، ونظر فيما حد له، واشتغل بما يجب عليه أن يشتغل به، وأخذ الزاد لسفره، وأخذ الأهبة بطريقه وجعل ينتظر الرسول أن يأتيه وأقبل يلتفت يمينًا وشمالاً ينظر من أين يأتيه ومن أين يقبل عليه.
فبينما هو كذلك وإذا برسول الملك قد أتاه فقال: أجب الملك. قال: نعم. قال: الساعة، قال: الساعة، قال: وفرغت مما أمرك به، وعملت ما حد لك أن تعمله، قال: نعم، قال: فانطلق.
قال: بسم الله فخلع عليه خلعة الأولياء وكساه كسوة الأصفياء وأعطاه مركبًا يليق به ويجمل بمثله وانطلق به حبور وسرور.
فبان لك بهذا المثل وبغيره فضلية قصر الأمل، وفضيلة المبادرة إلى العمل، والاستعداد للموت قبل نزوله، والانتظار قبل حلوله.
وقد كثر الحض على هذا وكثرت الأقاويل فيه، ولم يزل المذكرون يذكرون والمنبهون ينهبون لو يجدون سمعًا ووعيًا وقلبًا حافظًا ومحلاً قابلاً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى.
شِعْرًا: ... مَنْ شَامَ بَرْقَ الشَّيْبَ أَيْقَنَ إِنَّمَا ... وَبْلُ الْمَنِيَّةِ عَقْبَهُ يَتَدَفَّقُ
فَأَعِدَّ زَادًا لِلرَّحِيلِ مُبَادِرًا ... أَجَلاً يُفَاجِؤُ ضَحْوَةً أَوْ يَطْرُقُ
اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك(3/117)
يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا: ... دَوَامُ حَالٍ مِنْ قَضَايَا الْمُحَالْ ... وَاللُّطْفُ مَوْجُودٌ عَلَى كُلِّ حَالْ
وَالنَّصْرُ بِالصَّبْرِ مُحَلَّى الظُّبَى ... وَالْجَدُّ بِالْحَدِ مَرِيشَ النِّبَالْ
وَعَادَةُ الأَيَّامِ مَعْهُودَةٌ ... حَرْبٌ وَسَلْمٌ وَاللَّيَالِي سِجَالْ
وَمَا عَلَى الدَّهْرِ انْتِقَادٌ عَلَى ... حَالٍ فَإِنَّ الْحَالَ ذَاتُ انْتِقَالْ
مَنْ لِلَّيَالِي بِائْتِلافٍ وَكَمْ ... مِنْ اعْتِبَارٍ بِاخْتَلافِ اللِّيَالْ
أَخْذٌ عَطَاءٌ مِحْنَةٌ مِنْحَةٌ ... تَفُرُّقٌ جَمْعٌ جَلالٌ جَمَالْ
حَالُ انْتِظَام وَانْتِثَارٍ مَعًا ... كَأَنَّمَا هَذِي اللَّيَالِي لآلْ
وَهَلْ سَنَا الصُّبْحِ وَجُنْحُ الدُّجَى ... لِخَلْقَةِ الأَضْدَادِ إِلا مِثَالْ
وَالظُّلْمُ الْحُلْكُ عَلَى نُورِهَا ... تَدُلُّ وَالْعُسْرُ بِيُسْرٍ يُدَالْ
وَالسَّيْفُ قَدْ يَصْدَأُ فِي غِمْدِهِ ... ثُمَّ يُجَلِّي صَفْحَتَيْهِ الصِّقَالْ
وَالشَّمْسُ بَعْدَ الْغِيمِ تُجْلَى كَمَا ... لِلْغَيْثِ مِنْ بَعْدِ الْقُنُوطِ انْهِمَالْ
وَالْفَرَجُ الْمَوْهُوبُ تَجْرِي بِهِ ... لَطَائِفٌ لَمْ تَجْرِ يَوْمًا بِبَالْ
فَصَابِرِ الدَّهْرَ بِحَالَيْهِ مِن ... حُلْوٍ وَمُرٍّ وَاعْتِدَا وَاعْتِدَالْ
فَمَا لَهُ صَبْرٌ عَلَى حَالَةٍ ... وَإِنَّمَا الصَّبْرُ حُلِيُّ الرِّجَالْ
وَلا يَضِيقُ صَدْرُكَ مِنْ أَزْمَةٍ ... ضَاقَتْ فَصُنْعُ اللهِ رَحْبُ الْمَجَالْ
وَانْظُرْ بِلُطْفِ الْعَقْلِ كَمْ كُرْبَةٍ ... فَرَّجَهَا لُطْفٌ كَحَلِّ الْعِقَالْ
وَكُلُّ إِلَيْهِ كُلَّ حاجٍ فَمَا ... لِذِي حجىً إِلا عَلَيْهِ اتِّكَالْ
وَكُل بَدْءٍ فَلَهُ غَايَة ... وَغَايَة الْخَطْبِ الشَّدِيدِ انْحِلالْ
وَكُل عَوْدٍ فَلَهُ آيَة ... وَآيَةُ الْعَقْلِ اعْتِبَارُ الْمَآلْ
وَفِي مَآلِ الصَّبْرِ عُقْبَى الرِّضَا ... مِنْ فَرَج يُدْنِي وَأَجْر يُنَالْ
عَجِبْتُ لِلْعَبْدِ الضَّعِيف الْقُوَى ... يَغُرُّ بِالرَّبِّ الشَّدِيدِ الْمَحَالْ(3/118)
.. يَهْوِي مَعَ الآمَالِ مُسْتَرْسِلاً ... طُلُوعُ الْهَوَى حَيْثُ أَمَالَته مَالْ
تَخْدَعُهُ النَّفْسَ بِتَخْيِيلِهَا ... وَهَلْ خَيَالُ النَّفْسِ إِلا خَبَالْ
يَخَالُ أَنْ الأمْرَ جَارٍ عَلَى ... تَدبِيْرُهُ.. هَيْهَاتَ مِمَّا يَخَالْ
وَالْخَلْقَ وَالأمْر لِمَنْ لَمْ يَزَل ... فِي مُلْكِهِ الْمَلْك وَمَا إِنْ يَزَالْ
وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لُيل عَلَى ... مُرَادِهِ وَالْكُلُّ طَوْعُ انْفِعَالْ
يُعْطِي فَلا مَنْعٌ وَيَقْضِي فَلا ... دَفْع وَيُمْضِي حُكْمُهُ لا يُبَالْ
يُدَبِّرُ الأمْرَ فَعَنْ أَمْرِهِ ... تَقْدِيرُ مَا فِي الْكَوْنِ سُفْلٍ وَعَالْ
يُضِلُّ يَهْدِي حُكْمُهُ أَنْفَذَتَ ... فَضْلاً وَعَدْلاً فِي هُدىً أَوْ ضَلالْ
وَحُكْمُهُ الْبَارِئ فِي حُكْمِهِ ... مَا لِمَجَال الْعَقْل فِيهَا مَجَالْ
وَالرَّبَ لا يُسْأَلُ عَنْ فِعْلِهِ ... قَدْ قُضِيَ الأَمْرُ فَفِيمَ السُّؤَالْ؟!
فَيَا أَخَا الْفِكْرِ اشْتِغَالاً بِمَا ... فِي غَيْرِهِ لِلْفِكْرُ حَقَّ اشْتِغَالْ
سَلِّمْ فَفِي التَّسْلِيمِ مِنْ كُلِّ مَا ... يَنْفَذُ تَسْلِيم وَتَنْعِيمُ بَالْ
وَارْضِ بِمَا فَاتَكَ أَوْ نِلْتَهُ ... فَعَكْسِهِ مَا لَكَ فِيهِ مَجَالْ
وَفَوِّض الأَمْرَ إِلَى الْحَقِّ لا ... تَرْكَنْ مِنَ الدُّنْيَا لِحَال مُحَالْ
فَذُو الْحِجَى فِيمَا اتَّقَى وَارْتَجَى ... بِالْعَدْلِ حَالَ وَمِنَ الْعَذْلِ خَالْ
يَرْضَى بِقِسْمِ الرَّبِّ كُلَّ الرِّضَا ... فِي كُلِّ حَالٍ مَا عَنِ الْعَهْدِ حَالْ
يُرَى خَلالَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرُ فِي ... مَا سَرَّ أَوْ سَاءَ أَبَرَّ الْخِلالْ
فَهُوَ عَلَى الْحَالَيْنِ قَدْ نَالَ مِنْ ... مُنَاهُ فِي الدَّارَيْنِ أَقْصَى مَنَالْ
مَا أَقْصَرَ الدُّنْيَا عَلَى مُرِّهَا ... كَالظِّلِّ مَا أَقْصَرَ مَدَّ الظِّلالْ!
فَافْطَن لَهَا حَزمًا فَفِي ظِلِّهَا ... مَا قَالَ يَوْمًا حَازِم حَيْثُ قَالْ
مَا يَقَظَاتِ الْعَيْشِ إِلا كَرَىً ... وَلا مَرَائيَ الْعَيْنُ إِلا خَيَالْ
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى عِبْرَة ... وَالشِّعْرُ قَوْلٌ قَدْ يُنَافِي الْفِعَالْ(3/119)
.. وَالشَّيْبُ هَلْ يُوقِظُنِي صُبْحُهُ ... فَالنَّوْمُ فِي لَيْلٍ مِنَ اللَّهْوِ طَالْ
وَكِسْرَتِي مِنْ عُسْرَتِي هَلْ تَقِي ... وَعَثْرَتِي مِنْ عِبْرَتِي هَلْ تُقَالْ
هَذَا زَمَانِي فِي تَوَلٍّ وَفِي ... عَزْمِي تَوَانٍ وَالْهَوَى فِي تَوَالْ
حَالُ مَنْ احْتَلَّ بِدَارِ الْبَلا ... وَلَمْ يحدِّثْ نَفْسَهُ بِارْتِحَالْ
يَا رَبِّ مَا الْمُخْلِصُ مِنْ زَلَّتِي ... لا عَمَلٌ لا حُجَّةٌ لا احْتِيَالْ
يَا رَبِّ مَا يَلْقَاكَ مِثْلِي بِهِ ... عَنْ طَاعَةِ لَمْ أَلْقَهَا بِامْتِثَالْ
يَا رَبِّ لا أَحْمِلُ حَرَّ الصَّبَا ... فَكَيْفَ بِالنَّارِ لِضَعْفِي احْتِمَالْ
أَمْ كَيْفَ عُذْرِي وَقَدْ أَعْذَرْتَ لِي ... بِأَخْذِ حُذْرِي مِنْ دَوَاعِي النِّكَالْ
رَحْمَتَكَ اللَّهُمَّ فَهِيَ الَّتِي ... لَهَا عَلَى الْعَاصِينَ مِثْلِي انْثِيَالْ
وَلا تُعَامِلْنَا بِأَعْمَالِنَا ... لَكِنْ رَجَا آمَالِنَا صِلْ وَوَالْ
اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأَمِّنْ خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : ثم اعلم أن قصر الأمل ديدن العلماء العاملون المتقون الورعون المبعدون عن التكالب على الدنيا الزاهدون في حطامها الفاني وكذلك أرباب القلوب الواعية وإن لم يكونوا علماء يقصرون أملهم ويحتقرون الدنيا ويعلمون أنها زائلة عكس ما عليه أكثر أهل هذا الزمان عبيد الدنيا للبطون والفروج.
شِعْرًا: ... لا تَحْسِدَنَّ غَنِيًّا فِي تَنَعُّمِهِ ... قَدْ يَكْثُرُ الْمَالُ مَقْرُونًا بِهِ الْكَدَرُ
تَصْفُو الْعُيُونُ إِذَا قَلَّتْ مَوَارِدُهَا ... وَالْْمَاءُ عِنْدَ ازْدِيَادِ النِّيلِ يَعْتَكِرُ
آخر: ... تَحَرَّزْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ فِنَاءَهَا ... مَحَلُّ فَنَاءٍ لا مَحَلُّ بَقَاءِ
فَصَفْوفتهَا مَمْزُوجَةٌ بِكَدْوَرَةٍ ... وَرَاحَتُهَا مَقْرُونَةٌ بِعَنَاءِ
آخر: ... دَعِ الْفُؤَادَ عَنِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... فَصَفْوُهَا كَدَر وَالْوَصْلُ هُجْرَانُ(3/120)
آخر: ... عَيْشَةُ الرَّاغِبِ فِي تَحْصِيلِهَا ... عَيْشَةُ الْقَانِعِ فِيهَا أَوْ أَقَلْ
كَمْ جَهُولٍ بَاتَ فِيهَا مُكْثِرًا ... وَعَلِيمٌ بَاتَ مِنْهَا فِي عِلَلْ
آخر: ... يُحَبُّ الْفَتَى طُولَ الْبَقَاءِ كَأَنَّهُ ... عَلَى ثِقَةٍ إِنَّ الْبَقَاءَ بَقَاءُ
إِذَا مَا طَوَى يَوْمًا طَوِيَ الْيَوْمُ بَعْضَهُ ... وَيَطْوِيهِ إِنْ جَنَّ الْمَسَاءُ مَسَاُء
زِيَادَتُهُ فِي الْجِسْمِ نَقْصُ حَيَاتِهِ ... وَأَنِّي عَلَى نَقْصِ الْحَيَاةِ نَمَاءُ
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ". وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه البخاري.
ولبعضهم على هذا الحديث:
أَيَا صَاحِ كُنْ فِي شَأْنِ دُنْيَاكَ هَذِهِ ... غَرِيبًا كَئِبًا عَابِرًا لِسَبِيلِ
وَعُدَّ مِنْ أَهْلِ الْقَبْرِ نَفْسَكَ إِنَّمَا ... بَقَاؤُكَ فِيهَا مِنْ أَقَلِّ قَلِيلِ
قالوا في شرح هذا الحديث معناه لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب فقط الذي يريد الذهاب إلى أهله وأحوال الإنسان ثلاث حال لم يكن فيها شيئًا وهي قبل أن يوجد.
وحال أخرى وهي من ساعة موته إلى ما لا نهاية في البقاء السرمدي فإن لنفسك وجود بعد خروج الروح من البدن إما في الجنة وإما في النار وهو الخلود الدائم وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة وهي أيام حياته في الدنيا فانظر إلى مقدار ذلك بالنسبة إلى الحالتين يتبين لك أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا.
ومن رأى الدنيا بهذه الصفة وبهذا التفكير السليم لم يلتفت إليها ولم(3/121)
يبالي كيف انقضت أيامه بها في ضرر وضيق أو سعة ورخاء ورفاهية ولهذا لم يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة.
وقال عيسى عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها هذا مثل واضح فإن الدنيا معبرا إلى الآخرة والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.
شِعْرًا: ... وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ ... وَمَا النَّاسُ إِلا رَاحِلٌ فَمُقَوِّضُ
كَانَ الْفَتَى يَبْنِي أَوَانَ شَبَابِهِ ... وَيَهْدِمُ فِي حَالِ الْمَشِيبِ وَيَنْقُضُ
آخر: ... يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيل سَتُلْقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... قَدْ آنَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبِّ أَنْ يَأْتِي
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومن الناس من قطع الثلثين ومنهم من قطع ثلاثة أرباع المسافة ومنهم من لم يبق له إلا ثمن المسافة ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيف ما كان فلابد من العبور فمن وقف يبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث على العبور عليها فهو في غاية الجهل والحمق والسفه.
وروي عن الحسن قال بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انه قال إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا(3/122)
منها، أو ما بقي أنفذوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة.
فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل في حلة، يقطر رأسه فقالوا: أن هذا قريب عهد بريفٍ، وما جاء هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء علام أنتم قالوا: على ما ترى قال: أرأيتكم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر، ما تعملوا قالوا: لا نعصيك شيئًا.
قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئًا، قال: فأوردهم ماًء ورياضًا خضراء فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء الرحيل قالوا إلى أين قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم فقال: أكثر القوم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا.
وقالت طائفة: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصوه وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره. قال: فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فنزل بهم عدو فأصبحوا من بين أسير وقتيل.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين ألا ووصيته مكتوبة عنه» . متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه فقال: «هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به. وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فأن أخطأه هذا نهشه هذا وان أخطأه هذا نهشه هذا» . رواه البخاري.
شِعْرًا: ... الْقَلْبُ نَهَشَهُ مُحْتَرَقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ ... وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ
كَيْفَ الْفِرَارُ عَلَى مَنْ لا فِرَارَ لَهُ ... مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ(3/123)
يَا رَبُّ إِنْ كَانَ لِي بِهِ فَرَحٌ ... فَامْنُنْ عَليَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رمْقُ
آخر: ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيه فِي الدُّنْيَا وَيَخْلِقُهُ ... حِرْصٌ طَوِيلٌ وَعُمْرُ فِيهِ تَقْصِيرُ
يَطُوقُ النَّحْرَ بِالآمَالِ كَاذِبَةً ... وَلِهَذْمِ الْمَوْتِ دُونَ الطَّوْقِ مَطُرُورُ
جَذْلانَ يَبْسِمُ فِي أَشْرَاكِ مَيْتَتِهِ ... إِنْ أَفْلَتَ النَّابُ أَرْدَتْهُ الأَظَافِيرُ
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي وللدنيا أنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها» . وفي صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . وأشار بالسبابة.
وفي الترمذي من حديثه قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السخلة الميتة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها» . قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله. قال: «فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» . وفي الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا» .
هِيَ الدُّنْيَا إِذَا عُشِقَتْ أَذَلَّتْ
وَتُكْرِمُ مَنْ يَكُونُ لَهَا مُهِينَا
( «
كَظِلَّكَ إِنْ تَرُمْهُ تَجِدْهُ صَعْبًا
وَتَتْرِكُهُ فَيَتْبَعُ مُسْتَكِينًا
آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلْءِ فِيهَا
حِذَارَ حِذَار مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي(3/124)
فَلا يَغْرُرْكُمْ حُسْنُ ابْتِسَامِي
فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالْفِعْلُ مُبْكِي
آخر: ... دَلَّتْ عَلَى عَيْبِهَا وَصَدَّقَهَا ... لِعْبٌ وَلَهْوٌ وَفَخْرٌ فِي مَطَاوِيهَا
آخر: ... فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرَنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهَا سَوْقَةٌ لَيْسَ نُنْصَفُ
فَأُفِّ لِدُنْيًا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
آخر: ... وَمَا الْمَرْءُ فِي دُنْيَاهُ إِلا كَهَاجِعِ ... تَرَاءَتْ لَهُ الأَحْلامُ وَهِيَ خَوَادِعُ
يُنَعِّمُهُ طَيْفٌ مِنَ اللَّهْوِ بَاطِلٌ ... وَيُوقِظُهُ يَوْمٌ بِهِ الْمَوْتُ فَاجِعُ
وليس العجب من انهماك الكفرة في حب الدنيا والمال فإن الدنيا جنتهم وإنما العجب أن يكون المسلمون يصل حب المال والدنيا في قلوبهم إلى حد أن تذهل عقولهم وأن تكون الدنيا هي شغلهم الشاغل ليلاً ونهارًا وهم يعرفون قدر الدنيا من كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أليس كتاب الله هو الذي فيه {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} .
ويقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} .
وتقدمت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبينة لحقارة الدنيا وليس المعنى أن نترك الدنيا ونبقى جياعًا عارين محتاجين بل معناه أن لا نجعلها مقصدًا كما جعلها الكفار بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلة إلى تلك الحياة الأبدية فنكون من الفريق الذي يحب المال لأجل الآخرة.
وقد كان على هذا المبدء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكذلك التابعون لهم اتخذوا الدنيا مطية للآخرة فسادوا بها أهل الدنيا ولما تخلفنا عنهم في هذا المبدء وجعلنا المال هو المقصد سكنا على الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها والداهية العظيمة هي أنا ضربنا بالذل.(3/125)
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض» . رواه البخاري ومسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتكم» . متفق عليه.
كَمْ رَأَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ هَلَكُوا ... فَبَكَى أَحْبَابُهُمْ ثُمَّ بُكُوا
تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْدَهُمُوا ... وُدُّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا
آخر: ... إِنِّي وَإِنْ كَانَ جَمْعُ الْمَالِ يُعْجِبُنِي ... فَلَيْسَ يَعْدِلُ عِنْدِي صِحَّةَ الْجَسَدِ
فِي الْمَالِ زَيْنٌ وَفِي الأَوْلادِ مَكْرُمَةٌ ... وَالسُّقْمُ يُنْسَيْكَ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ
والله أعلم. صلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
موعظة: عن الزهري: سمعت علي بن الحسين يحاسب نفسه ويناجى ربه يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من آلافك، ومن فجعت به من إخوانك. ونقل إلى الثرى من أقرابك، فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر.
خَلَتْ دُورُهمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عَرَاصُهُمْ ... وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ
وَخَلَّو عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا ... وَضَمَّتْهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْحَفَائِرُ
كم خربت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غبرت الأرض وغيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى المهالك ثم رجعت عنهم إلى أهل الإفلاس.
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ ... لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ
عَلَى خَطَرٍ تَمْشِي وَتُصْبِحُ لاهِيًا ... أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ
وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا ... وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لا شَكَّ خَاسِرُ
فحتام على الدنيا إقبالك وبشهواتها اشتغالك وفد وخطك الشيب(3/126)
وأتاك وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات وعاينت ما حل بهم من المصيبات.
أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ ... وَشِيب قَذَالٍ مُنْذِر لِلأَكَابِر
كَأَنَّكَ مَعْنَي بِمَا هُوَ ضَائِرٌ ... لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِر
انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الأيام ووفاهم الحمام فانمحت من الدنيا آثارهم ويقنت فيها أخبارهم وأضحوا رممًا في التراب إلى يوم الحشر والمآب والحساب.
فَأَمْسَوْا رَمِيمًا فِي التُّرَابِ وَعُطِّلَتْ ... مَجَالِسَهُمْ مِنْهُمْ وَأَخْلَى الْمَقَاصِرُ
وَحَلُّوا بِدَارٍ لا تزاور بَيْنَهُمْ ... وَأَنَّى لِسُكَّانِ الْقُبُورِ التَّزَاوُرُ
فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا ... مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ
كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.
فَمَا صَرَفَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ إِذَا أَتَتْ ... مُبَادَرَة تَهْوَى إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ
وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى ... وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ
وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ ... وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ الْعَسَاكِرُ
أتاه من الله ما لا يرد ونزل به من قضائه ما لا يصد فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز القهار قاصم الجبارين ومبيد المتكبرين الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان.
مَلِيكُ عَزِيزُ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ... حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِذُ الأَمْرِ قَاهِرُ
عَنَى كُلُّ ذِي عِزٍّ لِعِزَّةِ وَجْهِهِ ... فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ(3/127)
لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَأَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الملوكُ الْجَبَابِرُ
فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها، وتحلت لك من زينتها، وأبرزت لك من شهواتها وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها.
وَفِي دُون مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتُهَا ... إِلَى دَفْعِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ
فَجُدَّ وَلا تَغْفُلْ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا ... فَعَمَّا قَلِيلٍ يَتْركُ الدَّارَ عَامِرُ
فَشَمِّرْ وَلا تَفْتُرْ فَعُمْركَ زَائِلٌ ... وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ
وَلا تَطْلُبَ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَعِيمَهَا ... وَإِنْ نِلْتَ مِنْهُ غِبُّهُ لَكَ ضَائِرُ
فهل يحرص على الدنيا لبيب، أو يسر بها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها أم كيف تنام عين من يخشى البيات وكيف تسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات.
أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ... وَتَشْغَلُنَا الَّلَذاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ... بِمَوْقِف عَرْضٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نُشُورَ وَأَنَّنَا ... سُدى مَا لَنَا بَعْدَ الْمَمَاتِ مَصَادِرُ
وما عسى أن ينال صاحب الدنيا لذتها ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها وكثرة عذابه في مصائبها وفي طلبها وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.
أَمَا قَدْ نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ
تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا ... وَكَمْ قَدْ نَرَى يَبْقَى لَهَا الْمُتَعَاوِرُ
فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ ... وَلا هُوَ مَنْ تَطْلا بِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ
كم غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم(3/128)
تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمة.
بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمِنْعَةٍ ... مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ ... هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ
تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ ... عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ
إذا بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار، ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ... وَأبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَا وَالْحَنَاجِرُ
هنالك خلف عواده وأسلمه أهله وأولاده وارتفعت البرية بالعويل وقد أيسوا من العليل فغمضوا بأيديهم عينيه ومد عند خروج روحه رجليه وتخلى عنه الصديق والصاحب الشفيق.
فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفَجَّعٌ ... وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ
وَمُسْتَرْجِعٌ دَاعٍ لَهُ الله مُخْلِصًا ... يُعَدّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ
وَكَمْ شَامِتٌ مُسْتَبْشِرٌ بِوَفَاتِهِ ... وَعَمَّا قَلِيل لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ
فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه وشمروا لإبرازه كأن لم يكن بينهم العزيز المفدى ولا الحبيب المبدَّى.
وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ ... يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ
وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ ... وَوَجِّه لِمَا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ(3/129)
وَكُفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ ... مُشَيِّعُهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ
فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه وقد خضبت الدموع عينيه وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحرباه.
لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا ... يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ
أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيج اكْتِئَابِهم ... إِذَا مَا تَنَاسَاهُ الْبَنُونُ الأَصَاغِرُ
وَرَبَّةُ نِسْوَان عَلَيْهِ جَوَازِع ... مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ
ثم أخرج من سعة قصره، إلى مضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيء عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب.
فَوَلَّوا عَلَيْهِ مُعولِينَ وَكُلُّهُم ... لِمِثْل الَّذِي لاقَى أَخُوهُ مُحَاذِرُ
كَشَاءٍ رَعَاءٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا ... بِمُدْيتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ
فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْعَى قَلِيلاً وَأَجْفَلَتْ ... فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي هُوَ جَازِرُ
عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفا بأفعال الأنعام اقتدينا أم على عادتها جرينا، عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبره بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.
ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ ... مَوَارِيثَهُ أَوْلادُهُ وَالأَصَاهِرُ
وَأَحْنَو عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ... فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ... وَيَا آمِنًا مِن أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ
كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك، وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تشبع من طعامك، وأنت(3/130)
منتظر حمامك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات.
وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ دَنَا ... وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٌ مُسَافِرُ
فَيَا لَهْفَ قَلْبِي كَمْ أَسوِّفُ تَوْبَتِي ... وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِيَ نَاظِرُ
وَكُلَّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ ... يُجَازى عَلَيْهِ عَادِلُ الْحكمِ قَادِرُ
فكم ترتع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن أم على هذا نزل القرآن أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورًا ومساكنهم قبورًا.
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيَا ... فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ
وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً ... وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى اللهِ عَاذِرُ
أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي ... وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ
أ. هـ.
ينبغي لن عمر ستين أن يحاسب نفسه ويتخلى للعبادة قبل هجوم هادم اللذات.
وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا ... فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ ... فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا
آخر: ... سِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفُ
بِهِ وَجَلٌ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ
يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا
وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهُوَ رَاجٍ وَخَائِفُ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى
وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ(3/131)
فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي
إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا
يُصَدِّدُ ذُو الْقُرْبَى وَيَجْفُوا الْمُؤَآلِفُ
لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي
أُرَجِيّ لإِسْرَافِي فَإِنِّي لَتَالِفُ
آخر: ... غَفَلتُ وَلَيْسَ الْمَوْتُ فِي غَفْلَةٍ عَنِّي
وَمَا أَحَدٌ يَجْنِي عَليَّ كَمَا أَجْنِي
أُشَيِّدُ بُنْيَانِي وَأَعْلَمُ أَنَّنِي
أَزُولُ لِمَنْ شَيَّدتُهُ وَلِمَنْ أَبْنِي
كَفَانِي بِالْمَوْتِ الْمُنَغَّصِ وَاعِظًا
بِمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَا سَمِعَتْ أُذُنِي
وَكَمْ لِلْمَنَايَا مِنْ فُنُونٍ كَثِيرَة
تُمِيتُ وَقَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى فَنِّ
وَلَوْ طَرَقَتْ مَا اسْتَأْذَنَتْ مَنْ يُحِبني
كَمَا أَفْقَدَتْنِي مَنْ أُحِبُّ بِلا إِذْنِ
قَدْ كُنْتُ أَفْدِي نَاظِريهِ مِنَ الْقَذَى
فَغَطَّيْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أُفْدِيهِ بِالْعَيْنِ
سَتَسْجُني يَا رَبِّ فِي الْقَبْرِ بُرْهَةً
فَلا تَجْعَلَ النِّيرَانَ مِنْ بَعْدِهِ سِجْنِي
وَلِي عِنْدَ رَبِّي سَيِّئَاتٌ كَثِيرَةٌ
وَلَكِنَّنِي عِبدٌ بِهِ حَسَنُ الظَّنِّ(3/132)
عصمنا الله وإياكم من الزلل، ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد، وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد.
وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.
(النظر الثاني) النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها، ولا بد ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد، فيما يقتضي الزهد فيه كل احدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة، إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعدهم رغبته في الأفضل.(3/133)
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الأيمان وضعف العقل والبصيرة، فأن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وأما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها، وعدوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولو صلوا منها إلى كل مرغوب.
فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيادة حتى آذن بالرحيل.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» .
وقال خالقها سبحانه {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
شِعْرًا: ... إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً ... وَسَبْعُ تُمَيْرَاتٍ صِغَارٍ هَوَامِزِ
فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خِصْبًا وَنِعْمَةً ... وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ وَقْتَ الْهَزَاهِزِ(3/134)
آخر: ... لا خَيْرَ فِي طَمَعٍ يُدْنِي لِمَنْقَصَةٍ ... وَحَفْنَةٌ مِنْ كَفَافِ الْعَيْشِ تَكْفِينِي
آخر: ... لَعَمْرِي مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ نِعْمَةً ... وَمَدَّ لَهَا كَفًّا فَأَنْتَ أَمِيرُهُ
وَمَنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ ... أَمِيرُكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ أَسِيرُهُ
وَمَنْ كُنْتَ عَنْهُ ذَا غِنَى وَهُوَ مَالِكٌ ... أَزِمَّةً أَمْوَالٍ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ
آخر: ... لَعَمْرِكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... وَلا الْحَيُّ فِي دَارِ السَّلامَةِ آمِنُ
تُحَارِبُنَا أَيَّامُنَا وَلَنَا رِضَىً ... بِذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَنَايَا تُهَادِنُ
أَرَى الْحِيرَةَ الْبَيْضَاءَ عَادَتْ قُصُورُهَا ... خَلاءً وَلَمْ تَثْبُتْ لِكِسْرى الْمَدَائِنُ
رَكِبْنَا مِنَ الآمَالِ فِي الدَّهْرِ لُجَّةً ... فَمَا صَبَرَتْ لِلْمَوْجِ تِلْكَ السَّفَائِنُ
فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} .
وقال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
وقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
وقال تعالى {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}
قد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن(3/135)
بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} .
شِعْرًا: ... وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا ... فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ ... فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
وقوله {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} .
وقوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
وقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
وقوله {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}
وقوله {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
وقوله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} . والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.(3/136)
خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ اللَّيَالِي فَرَائِسًا
تَزَفُّ إِلَى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسَا
تُجََِّز مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا
وَتُرْدِفُ أَعْوَادُ الْمَنَايَا فَوَارِسَا
إِذَ أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عَنَانِهِ
غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسَا
أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُتِّ وَهُوَ بِمَائِهِ
رَطِيبًا وَمَا إِنْ أَصْبَحَ الْغِصْنُ يَا بِسَا
نَشِيدُ قُصُورَا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ... وَنَصِبرُ مَا شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسَا
وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلَيْنَا نُفُوسَنا ... بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسَا
لَقَدْ ضَرَبتْ كِسْرَى الْمُلُوكِ وَتُبَّعا ... وَقَيْصَرَ أَميَالاً فَلَمْ نَرَ قَائِسَا
نَرَى مَا نَرَى مِنْهَا جَهَارا وَقَدْ غَدَا ... هَوَاهَا عَلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ طَامِسَا
وَقَدْ فَضَح الدُّنْيَا لَنَا الْمَوْتُ وَاعِظًا ... وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسَا
آخر: ... كَمْ سَالِمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى ... حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَاطَرَا
وَمُتْرَفٍ قَلَبَتْ ظَهْرَ الْمِجَنَّ لَهُ ... فَعَادَ بَعْدَ عُلُّوِّ الْقَدْرِ مُحْتَقَرَا
فَأَبْعِدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفِهَا ... وَغُضَّ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَا
فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ ... كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقَى لَهُ أَثَرا
وَاصْحَبْ وَصَلّ وَوَاصِلْ كُلِّ أونَةٍ ... عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطَرَا
وَصَحْبِهِ وَمَنْ اسْتَهْدَى بِهَدْيِهِمُوا ... فَهُمْ أَئِمَّةُ مَنْ صَلَّى وَمَنْ ذَكَرَا
اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/137)
موعظة: عباد الله إن الناس في هذه الحياة انقسموا قسمين قسم جعلوا غايتهم الكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا من مساكن وملابس وقضاء وطر وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى فهم يقضون أوقاتهم يصرمون أعمارهم ليتمتعوا ما وسعهم التمتع فما بعد نظرهم الكليل الحسير وقلوبهم الميتة إلا العدم والفناء.
وهؤلاء هم جند الشيطان شر خلق الله وأشقاهم قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} فهم صاروا كالأنعام لا يختلفون عنها إلا في الصورة والشكل وإلا في دخولهم النار ولذلك قال الله جل وعلا {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
تلك هي غاية هذا الصنف أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإفساد والإضلال ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقال {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} .
الصنف الثاني الذين عرفوا الحقيقة والغاية التي خلقوا لها عرفوا أن الله خلقهم لعبادته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أيقنوا بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} فغايتهم كما تقدم عبادة الله.
ومنها الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة الدنيا ووراءها الغاية العظمى والعليا وهي ابتغاء مرضاة الله وحده جل جلاله.
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا(3/138)
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
هذه مهمة المسلم وغايته فيها عبادة الله وحده وجهاده في سبيله يجاهد نفسه حتى يحملها على طاعة الله ويبعدها عن المعصية جهده ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام.
وقد اختار الله المسلمين لهذه المهمة دلالة الناس وقيادتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور فلا مجال عن هذه المهمة الشريفة هذه طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى: {َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» . فكل واحد من المسلمين عليه على قدر حاله ولا يعذر وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .
فالذي يقول إنه مسلم عليه أن يبلغ ويدعو ويؤدي هذه الشهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء ويؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.(3/139)
وهو لا يؤيد هذه الشهادة تمامًا حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعًا يشهد لهذا الدين الإسلامي بالأحقية في الوجود بالخيرية وبالأفضلية على سائر ما في الأرض.
فالشهادة في النفس أولاً بمجاهدتها حتى تكون ترجمة له ترجمه حية في شعورها وسلوكها حتى صورة الأيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الأيمان وما أحسنه وما أزكاه.
وهو يصوغ أصحابه على هذا الشكل من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومحاسنه ومزيته بعد تمثل هذا الفضل.
وهذه المزية في نفس الداعية فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للأيمان في ذات نفسه إذا هو لم يدع إليها الناس وما يكون قد أدى الدعوة والتبليغ والبيان قال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال: {ُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية.
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجًا للجماعة المؤمنة ومنهجًا للبشرية جميعَا والمحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة.
فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الأيمان الذاتي ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة. أ. هـ.(3/140)
شِعْرًا: ... لَقَدْ عَفَتْ مِنْ دِيَارِ الْعِلْمِ آثَارُ
فَأَصْبَحَ الْعِلْمُ لا أَهْلٌ وَلا دَارُ
يَا زَائِرِينَ دِيَارَ الْعِلْمِ لا تَفِدُوا
فَمَا بِذَاكَ الْحِمَى وَالدَّارِ دَيَّارُ
تَرَحَّلَ الْقَوْمُ عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ
مُشَمِّرٌ مِنْ حُدَاةِ الْبَيْنِ سَيَّارُ
قَدْ أَوْرَدَ الْقَوْمَ حَادِيهم حِيَاضَ رَدَى
فَمَا لَهُمْ بَعْدَ ذَاكَ الْوِرْدِ إصْدَارُ
لَهْفِي عَلَى سُرُجِ الدُّنْيَا الَّتِي طَفِئَتْ
وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا
وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا
بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابَوْا وَلا جَارُوا
مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا
لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ
وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادٍ قُلُوبُهُمْ
طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ
هُم الَّذِينِ رَعَوا لِلْعِلْمِ حُرْمَتَهُ
لِلْعِلْمِ بَيْنَهُمْ شَأْنٌ وَمِقْدَارُ
صَانُوهُ طَاقَتَهُمْ عَنْ مَا يُدَنِّسُهُ
كَمَا يَصُونُ نَفِيسَ الْمَالِ تُجَّارُ(3/141)
وَأَحْسَنُوا فِيهِ تَصْرِيفًا لأَنَّهُم
لَهُمْ مِن اللهِ تَوْفِيقٌ وَإِقْدَارُ
رَأَوْهُ كَالنَّجْمِ بُعْدًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ
بَاعٌ قَصِيرٌ وَفَهْم فِيهِ إِقْصَارُ
فَدَوَّنُوهَا فُرُوعًا مِنْهُ دَانِيَةً
لَكُلٍّ جَانٍ تَدَلَّتْ مِنْهُ أَثْمَارُ
يَا صَاحِ فَالْزَمْ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُتَّبِعًا
فَرِيقَهُمْ لَيْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنْظَارُ
وَوَاجِبٌ قَصْرُكَ الْمَمْدُودَ مِنْ أَمَلٍ
مَسَافَةُ فِي دُنْيَاكَ أَشْبَارُ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بطاعتك وجبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عدوك واجعل هوانا تبعًا لما جاء به رسولك - صلى الله عليه وسلم - واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال ابن القيم رحمه الله في التحذير من إبليس وجنوده وبيان شيء من حيله ومكره وكيده لبني آدم ووصاياه لجنوده كيف يوقعون بني آدم في المعاصي من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون وتوجيه جنوده إلى المداخل إلى قلوب بني آدم ليدمرهم ويهلكهم ويزجهم معه في السعير، وقال رحمه الله:(3/142)
ولما علم سبحانه أن آدم، وبنيه قد بلوا بهذا العدو، وأنه قد سلط عليهم أمدهم بعساكر، وجند يلقونه بها، وأمد عدوهم أيضًا بجند وعساكر يلقاهم بها وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها.
واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد في أشرف كتبه وهي التوراة، والإنجيل، والقرآن، وأخبر أنه أوفى بعهده منه سبحانه.
ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو، وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة، وإلى من جرى على يديه هذا العقد، فأي فوز أعظم من هذا، وأي تجارة أربح منه.
ثم أكد سبحانه هذا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
ولم يسلط هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب أنواع المخلوقات إليه، إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه وأهله أرفع الخلق عنده درجات وأقربهم إليه وسيلة.(3/143)
فعقد سبحانه وتعالى لواء هذا الحرب لخلاصة مخلوقاته، وهو القلب الذي هو محل معرفته، ومحبته، وعبوديته، والإخلاص له والتوكل عليه، والإنابة إليه، فولاه أمر هذا الحرب.
وأيده بجنده من الملائكة لا يفارقونه، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} يثبتونه ويحفظونه، ويأمرونه بالخير، ويخصونه عليه، ويعدونه بكرامة الله، ويصبرونه، ويقولون: إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد.
ثم أمده بجند آخر من وحيه، وكلامه، فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل إليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، ومدادًا إلى مدده وعدة إلى عدته.
وأيده مع ذلك بالعقل وزيرًا له ومدبرًا، وبالمعرفة مشيرة عليه وناصحة له، وبالإيمان مثبتًا له، ومؤيدًا، وناصرًا، وباليقين كاشفًا له عن حقيقة الأمر كأنه يعاين ما وعد الله تعالى به أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه.
فالعقل يدبر أمر جيشه، والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللاحقة بها، والإيمان يثبته ويقويه ويصبره، واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة.
ثم أمد سبحانه القائم بهذه الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة، فجعل العين طليعته والأذن صاحب خبره، واللسان ترجمان، واليدين والرجلين أعوانه.(3/144)
وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له، ويسألون له أن يقيه السيئات، ويدخله الجنات، وتولى سبحانه الدفع عنه والدفاع عنه بنفسه.
وقال: هؤلاء حزبي وحزب الله المفلحون، وقال تعالى: {ُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهؤلاء جندي وجند الله هم الغالبون.
وعلم سبحانه عباده كيف هذا الحرب والجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مقاومته، ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل معه العدو ولزوم ثغر العين، والأذن واللسان، والبطن، واليد، والرجل.
فهذه الثغور منها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلى مكانها فيصادف العدو الثغر خاليًا فيدخل منه.
فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، خير الخلق بعد النبيين والمرسلين، وأعظمهم حماية، وحراسة من الشيطان، وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد، فدخل منه العدو فكان ما كان.
وجماع هذه الثلاثة الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى فلا ينفع الصبر ولا المصابرة، ولا المرابطة، إلا بالتقوى ولا تقوم التقوى إلا(3/145)
على ساق الصبر، فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين واصطدام العسكريين، وكيف تدال مرة. ويدال عليك مرة أخرى.
أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره، فوجد القلب في حصنه جالسًا على كرسي مملكته، أمره نافذٌ في أعوانه، وجنده قد حفوا به يقاتلون عنه، ويدافعون عن حوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه.
فسال عن أخص الجند به، وأقربهم منه منزلة، فقيل له هي النفس، فقال لأعوانه ادخلوا عليها من مرادها وانظروا مواقع محبتها، وما هو محبوبها، فعدوها به، ومنوها إياه، وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها.
فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جروها بها إليكم.
فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين، والأذن واللسان، والفم واليد، والرجل، فرابطوا على هذه الثغور وكل المرابطة فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيلٌ أو أسيرٌ أو جريحٌ مثخن الجراحات.
ولا تخلوا هذه الثغور، ولا تمكنوا سرية تدخل فيه إلى القلب فتخرجكم منها، وان غلبتم فاجتهدوا في أضعاف السرية ووهنا، حتى لا تصل إلى القلب وإن وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئًا.
فإذا استوليتم على هذه الثغور، فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره(3/146)
اعتبارًا بل اجعلوا نظره تفرجًا، واستحسانًا، وتلهيًا، فان استرق نظره عبرة، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة، والاستحسان والشهوة، فإنه أقرب غليه، وأعلق بنفسه، وأخف عليه.
ودونكم ثغر العين فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به القلب بذر الشهوة، ثم اسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة، إلى الانخلاع من العصمة.
فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم وهونوا عليه أمره وقولوا له مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنعه وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك العينين سدى وما خلق هذه الصورة ليحجبها عن النظر.
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب وامزجوه بما تهوى النفس مزجًا وألقوا الكلمة فان رأيتم منه إصغاء إليها فزجوه بأخواتها وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره.
وإياكم أن يدخل هذا الثغر شيء من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به إما بإدخال ضده عليه وأما بتهويل ذلك وتعظيمه وان هذا الأمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها أليه وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك.(3/147)
وأما بأرخصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس وأعز عليهم واغرب عندهم والقابلون له أكثر وأما الحق فهو مهجور وقائله معرض نفسه للعداوة. والرائج بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك فيدخلون الباطل عليه في كل قالب يقلبه ويخف عليه وتخرجون له في قالب يكرهه ويثقل عليه.
وإذا شئت أن تعرف ذلك انظر إلى إخوانهم من شياطين الأنس كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس والتعرض من البلا لما لا يطيق وإلقاء الفتن بين الناس ونحو ذلك.
والمقصود أن الشيطان لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه وأن دخل بغير اختيار أفسده عليه.
ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه، من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم.
أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن اكبر جندكم وأعوانكم.
والثاني: السكوت عن الحلق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم،(3/148)
أما سمعتم قول الناصح «المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس» .
فالرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق. واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر.
وأوصيكم بوصية فاحفظوها، لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعوانًا على الإنس بكل طريقٍ، وادخلوا عليهم من كل بابٍ، واقعدوا لهم كل مرصد.
أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت {16: 17 - فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقة كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها.
وقد حذرهم ذلك رسولهم وقال لهم: «إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد له بطريق الإسلام. فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فخالفه وأسلم.
فقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، فخالفه وهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة.(3/149)
فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء.
أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم.
واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا: طريقة مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال، وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها.
ثم أقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم، وزينوها في قلوبهم، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم.
ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه. اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ’ وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال رحمه الله يحكيه في التحذير عن إبليس وجنوده:
واعملوا أن أعوانكم على لزوم الثغور مصالحة النفس الأمارة(3/150)
فأعينوها واستعينوا بها، وأمدها واستمدوا منها، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وابطال قواها ولا سبيل إلى ذلك ألا بقطع موادها عنها.
فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة، وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس المارة، فأنها لا تأمر إلا بما ترونه وتحبونه، ولا تجيئكم بما تكرهونه البتة، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله.
فان أحسنتم من القلب منازعة إلى مملكته، وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح، فزينوها وجملوها وأوروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، وقولوا له: ذق طعم هذا الوصال وتمتع بهذه العروس، كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب.
ثم وازن بين لذة هذه المسألة ومرارة تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها، فليست بيوم وتنقضي، وإنما هو حرب متصل بالموت، وقواك تضعف عن حرب دائم.
واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:
أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.(3/151)
والثاني: جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم، وحسنوها في أعينهم وصلوا عليهم بهذين العسكريين، فليس لكم من بني آدم ابلغ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة وأقرنوا بين الغافلين.
ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحد خمسة، فإن مع كل واحد من الغافلين شيطانين صاروا أربعة، وشيطان الذكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم_ من ذكر الله أو مذاكرة أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم- فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الأنس البطالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم بهم.
وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا أعوانا له على تحصيلها، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصيروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا وأنتم صابروا ورابطوا عليهم بالثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودعوا طريق الغضب، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه، ولا تعطلوا ثغرها، فإن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب، والى الغضب من طريق الشهوة.(3/152)
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دمائهم وبه قتل أحد ابني آدم أخاه واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير.
فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فان ذلك عنهم نار الغضب والشهوة وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أودجه فمن أحس بذلك فليتوضأ وقال لهم إنما تطفأ النار بالماء وقد أوصاهم أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة.
فحولوا بينهم وبين ذلك وأنسوهم إياه واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة وأتباع الهوى وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى فإذا رأيتم الرجل لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه.
والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه فيقاتلونه بسلاحه ويكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل.
مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ
مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
انتهى كلامه رحمه الله بتصرف يسير.(3/153)
وقال رحمه الله يصف الدنيا:
لَكِنَّ ذَا الإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّ هَا
ذَا كَالضَّلالِ وَكُلُّ هَذَا فَانِ
كَخَيَالِ طَيْفٍ مَا اسْتَتَمَّ زِيَارَةً
إِلا وَصُبْحُ رَحِيلِهِ بِأَذَانِ
وَسَحَابَةٍ طَلَعَتْ بِيَوْمٍ صَائِفٍ
فَالظِّلُّ مَنْسُوخٌ بِقُرْبِ زَمَانِ
وَكَزَهْرَةٍ وَافَى الرَّبِيعُ بِحُسْنِهَا
أَوْ لامِعًا فَكِلاهُمَا إِخْوَانِ
أَوْ كَالسَّرَابِ يَلُوحُ لِلظَّمْآنِ فِي
وَسَطَ الْهَجِيرِ بِمُسْتَوَى الْقِيعَانِ
أَوْ كَالأَمَانِي طَابَ مِنْهَا ذِكْرُهَا
بِالْقَوْلِ وَاسْتِحْضَارُهَا بِجَنَانِ
وَهِيَ الْغُرُورُ رُؤُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَا
لِيسِ الأُولَى اتَّجَرُوا بِلا أَثْمَانِ
أَوْ كَالطَّعَامِ يَلَذُّ عِنْدَ مَسَاغِهِ
لَكِنَّ عُقْبَاهُ كَمَا تَجِدَانِ
هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ الرَّسُو
لُ لَهَا وَذَا فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ
وَإِذَا أَرَدْتَ تَرَى حَقِيقَتَهَا فَخُذْ
مِنْهُ مِثَالاً وَاحِدًا ذَا شَانِ
أَدْخِلْ بِجَهْدِكَ أَصْبُعًا فِي الْيَمِّ وَانْـ(3/154)
.. ـظُرْ مَا تَعَلَّقَهُ إِذَا بعَيَانِ
هَذَا هُوَ الدُّنْيَا كَذَا قَالَ الرَّسُو
لُ مُمَثِّلاً وَالْحَقُّ ذُو تِبْيَانِ
وَكَذَاكَ مَثَّلَهَا بِظِلِّ الدَّوْحِ فِي
وَقْتِ الْحَرُورِ لِقَائِلِ الرُّكْبَانِ
هَذَا وَلَوْ عَدَلَتْ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ
عِنْدَ الإِلَهِ الْحَقِّ فِي الْمِيزَانِ
لَمْ يَسْقِ مِنْهَا كَافِرًا مِنْ شَرْبَةٍ
مَاءً وَكَانَ الْحَقُّ بِالْحِرْمَانِ
تَاللهِ مَا عَقَلَ امْرُؤٌ قَدْ بَاعَ مَا
يَبْقَى بِمَا هُوَ مُضْمَحِلِّ فَانِ
هَذَا وَيُفْتِي ثُمَّ يَقْضِي حَاكِمًا
بِالْحِجْرِ مِنْ سَفَهٍ لِذَا الإِنْسَانِ
إِذْ بَاعَ شَيْئًا قَدْرُهُ فَوْقَ الَّذِي
يُعْتَاضُهُ مِنْ هَذِهِ الأَثْمَانِ
فَمَنِ السَّفِيهُ حَقِيقَةً إِنْ كُنْتَ ذَا
عَقْلٍ وَأَيْنَ الْعَقْلَ لِسَّكْرَانِ
وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْقُلُوبَ شَهِدْنَ مِنْ مِـ
نَا كَانَ شَأْنٌ غَيْرَ هَذَا الشَّانِ
نَفْسٌ مِنْ الأَنْفَاسِ هَذَا الْعَيْش إِنْ
قِسْنَاهُ بِالْعَيْشَ الطَّوِيل الثَّانِي
يَا خِسَّةَ الشُّرَكَاءِ مَعْ عَدَمِ الْوَفَا(3/155)
.. ءِ وَطُولَ جَفْوَتِهَا مِنْ الْهِجْرَانِ
هَلْ فِيكَ مُعْتَبَرٌ فَيَسْأَلُوا عَاشِقٌ
بِمَصَارِعِ الْعُشَّاقِ كُلَّ زَمَانِ
لَكِنْ عَلَى تِلْكَ الْعُيُونِ غِشَاوَةٌ
وَعَلَى الْقُلُوبِ أَكِنَّةُ النِّسْيَانِ
وَأَخُو الْبَصَائِرِ حَاضِرٌ مُتَيَقِّظُ
مُتَفَرِّدٌ عَنْ زُمْرَةِ الْعُمْيَانِ
يَسْمُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّفِيقِ الأَرْفَعِ اَلأَ
عْلَى وَخَلَّى اللِّعْبَ لِلصِّبْيَانِ
وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فَصِبْيَانٌ وَإِنْ
بَلَغُوا سِوَى الأَفْرَادِ وَالْوِحْدَانِ
وَإِذَا رَأَى مَا يَشْتَهِيهُ يَقُولُ مَوْ
عِدُكِ الْجِنَانُ وَجَدَّ فِي الأَثْمَانِ
وَإِذَا أَبَتْ إِلا الْجِمَاحَ أَعَاضَهَا
بِالْعِلْمِ بَعْدَ حَقَائِقِ الإِيمَانِ
وَيَرَى مِن الْخُسْرَانِ بَيْعَ الدَّائِمِ الْـ
بَاقِي بِهِ يَا ذِلَّةَ الْخُسْرَانِ
وَيَرَى مَصَارِعَ أَهْلِهَا مِنْ حَوْلِهِ
وَقُلُوبُهُمْ كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ
حَسَرَاتُهَا هُنَّ الْوُقُودُ فَإِنْ خَبَتْ
زَادَتْ سَعِيرًا بِالْوُقُودِ الثَّانِي
جَاؤُا فُرَادَى مِثْلَ مَا خُلِّقُوا بِلا(3/156)
.. مَالٍ وَلا أَهْلٍ وَلا إِخْوَانِ
مَا مَعَهُمُوا شَيْءٌ سِوَى الأَعْمَالِ فَهِـ
ـيَ مَتَاجِرٌ لِلنَّارِ أَوْ لِجِنَانِ
تَسْعَى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ شَوْقًا إِلَى الدَّ
ارِينِ سَوْقَ الْخَيْلِ بِالرُّكْبَانِ
صَبَرُوا قَلِيلاً فَاسْتَرَاحُوا دَائِمًا
يَا عِزَّةَ التَّوْفِيقِ للإِنْسَانِ
حَمَدُوا التُّقَى عِنْدَ الْمَمَاتِ كَذَا السُّرَى
عِنْدَ الصَّبَاحِ فَحَبَّذَا الْحَمْدَانِ
وَخَدَتْ بِهِمْ عَزَمَاتُهُمْ نَحْوَ الْعُلَى
وَسَرَوْا فَمَا نَزَلُوا إِلَى نُعْمَانِ
بَاعُوا الَّذِي يَفْنَى مِنْ الْخَزَفِ الْخَسِيـ
سِ بِدَائِمٍ مِنْ خَالِصِ الْعِقْيَانِ
رُفِعَتْ لَهُمْ فِي السَّيْرِ أَعْلامُ السَّعَا
دَةِ وَالْهُدَى يَا زَلَّةَ الْحَيْرَانِ
تَتَسَابَقَ الأَقْوَامُ وَابْتَدَرُوا لَهَا
كَتَسَابُقِ الْفُرْسَانِ يَوْمَ رِهَانِ
وَأَخُو الْهَوِينَا فِي الدِّيَارِ مُخَلَّفٌ
مَعْ شَكْلِهِ يَا خَيْبَةِ الْكَسْلانِ
(موعظة)
وعن الحسن البصري رضي الله عنه انه قال: الدنيا دار عمل، فمن صحبها بالبغض لها، والزهاده فيها، والهضم لها، سعد بها، ونفعته صحبتها.(3/157)
ومن صحبها بالرغبة فيها، والمحبة لها، شقي بها، وأجحفت بحظه من الله تعالى، ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه من عذاب الله وسخطه.
فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله ولي ميراثها، وأهلها يتحولون إلى منازل لا تبلى، ولا يغيرها طول الزمن، ولا العمر فيها يفنى فيموتون، ولا إن طال الثواء فيها يخرجون – ولا حول ولا قوة إلا بالله – ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك القلب.
نظرا ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى، ثم قال: والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا، ثم بكى حتى ارتفع صوته.
قال أبو زيد الرقي: قال أبو محمد الفضيل بن عياض رضي الله عنه يا أبا زيد اشتريت دارًا؟ قلت: نعم. قال: وأشهدت شهودًا؟ قلت: نعم. قال: فإنه والله يأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسأل عن بيتك، فيخرجها منها عريانًا مجردًا.
فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك، ووزنت فيها مالاً من غير حلة، فإذا أنت قد خسرت الدنيا والآخرة.
شِعْرًا: ... خُلِقْنَا لِلْحَيَاةِ وَلِلْمَمَاتِ
وَفِي هَذَيْنِ كُلُّ الْحَادِثَاتِ
وَمَنْ يُولَدْ يَعِشْ وَيَمُتْ كَأَنْ لَمْ
يَمُرَّ خَيَالُهُ بِالْكَائِنَاتِ
وَمَهْدُ الْمَرْءِ فِي أَيْدِي الرَّوَاقِي
كَنَعْشِ الْمَرْءِ بَيْنَ النَّائِحَاتِ
وَمَا سَلِمَ الْوَلِيدُ مِنْ اشْتِكَاءٍ
فَهَلْ يَخل الْمُعَمَّرُ مِنْ أَذَاتِ(3/158)
هِيَ الدُّنْيَا قِتَالٌ نَحْنُ فِيهَا
مَقَاصِدُ لِلْحِسَانِ وَلِلْقَنَاتِ
آخر: ... لَعَمْرُكَ مَا حَيُّ وَإِنْ طَالَ سَيْرُهُ
يُعَدُّ طَلِيقًا وَالْمَنُونُ لَهُ أَسْرُ
وَلا تَحْسَبَنَّ الْمَرْءَ فِيهَا بِخَالِدٍ
وَلَكِنَّهُ يَسْعَى وَغَايَتُهُ الْقَبْرُ
آخر: ... قِفْ بِالْقُبُور وَنَادِ الْمُسْتَقِرَّ بِهَا
مِنْ أَعْظُمٍ بَلَيْتَ فِيهَا وَأَجْسَادِ
قَوْمٌ تَقَطَّعَتِ الأَسْبَابُ بَيْنَهُوا
بَعْدَ الْوِصَالِ فَصَارُوا تَحْتَ أَلْحَادِ
وَاللهُ لَوْ بُعْثَرُوا يَوْمًا وَلَوْ نُشِرُوا
قَالُوا بِأَنَّ التُّقَى مِنْ أَعْظِمِ الزَّادِ
آخر: ... نُراعُ لِذِكْرِ الْمَوْتِ سَاعَةَ ذِكْرِهِ
وَتَعْتَرِضُ الدُّنْيَا فَنَلهُوا وَنَلْعَبُ
يَقِينٌ كَأَنَّ الشَّكَّ غَالِبُ أَمْرِهِ
عَلَيْهِ وَعِرْفَانُ إِلَى الْجَهْلِ يُنْسَبُ
آخر: ... وَدُنْيَاكَ الَّتِي غَرَّتْكَ مِنْهَا ... زَخَارِفُهَا تَصِيرُ إِلَى انْجِذَاذِ
تَزَحْزَحْ عَنْ مَهَالِكِهَا بِجُهْدٍ ... فَمَا أَصْغَى إِلَيْهَا ذُو نَفَاذِ(3/159)
لَقَدْ مُزِجَتْ حَلاوَتُهَا بِسُمٍّ ... فَمَا كَالْحِذْرِ مِنْهَا مِنْ مَلاذِ
عَجِبْتُ لِمُعْجِبٍ بِنَعِيمِ دُنْيَا ... وَمَغْبُونِ بِأَيَّامٍ لِذَاذِ
وَمُؤْثِرٍ الْمَقَامَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ ... عَلَى بَلَدٍ خَصِيبِ ذِي رَذَاذِ
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى آله على محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين.
فوائد ومواعظ ونصائح
قال أحد العلماء: اعلم أنه لا يسلم إنسان من النقص إلا من عصمه الله كالرسل قال الله جل وعلا عن الإنسان {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» . فمن خفيت عليه عيوبه فقط سقط.
وصار من السخف والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقله الفهم بحيث لا يختلف عن متخلف من الرذائل.
وعليه أن يتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والسؤال عنها بدقه وأكثر من يفهم عيوب الإنسان أعداؤه لأنهم دائمًا ينقبون عنها 0
وكذلك الأصدقاء الناصحين الصادقين المنصفين يفهمونها غالبًا.
فالعاقل يشتغل بالبحث عنها والسعي في إزالتها ولا يتعرض لعيوب الناس التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من باب النصيحة.
كما لو رأى إنسانا معجبًا بنفسه فيبدى له النصح وجها لوحه لا خلف ظهره.(3/160)
واحذر أن تقارن بينك وبين من هو أكثر منك عيوبًا فتستسهل الرذائل وتهاون بعيوبك.
لكن قارن بين نفسك ومن هو أفضل منك لتسلم من عجبك بنفسك وتفيق من داء الكبر والعجب الذي يولد عليك الاستحقار والاستخفاف بالناس مع العلم بأن فيهم من هو خير منك.
فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله جل وعلا وتقدس يقول {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .
فتسبب على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك مع ما تجنيه من الذنوب وطمس ما فيك من فضليه.
فإن كنت معجبًا بعقلك ففكر وتأمل في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ 0
وإن أعجبت بآرائك فتأمل وفكر في غلطاتك وسقطاتك واحفظها وتذكرها ولاتنسها0
وفى رأي كنت تراه صوابًا فتبين لك خطؤك وصواب غيرك والغالب أن خطاك أكثر من الصواب.
وهكذا ترى الناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك هل بيتك خال من الملاهي والمنكرات مثل الصور والتلفاز والمذياع وأغانيه والمجلات والجرائد التي فيها صور ذوات الأرواح 0
وهل هو خال من الأولاد الذي لا يشهدون الجماعة وهل أنت سالم من الغيبة وإخلاف الوعد والكذب والحسد والكبر والرياء.
والعقوق وقطيعه الرحم والظلم والربا والدخان وحلق اللحية0(3/161)
والغش وقول الزور وسوء الظن بالمسلمين والتجسس والاحتقار لهم ونحو ذالك.
فأنت إذا تفقدت نفسك وبيتك وأولادك وجدت عندك من الشرور والآثام ما بعضه يغلب على ما أعجبت به من عملك لا تدرى هل هو مقبول أو مردود.
وإن أعجبت بعلمك أو عملك فأعلم أنه موهوبة من العزيز العليم وهبك إياها فلا تقابلها بما يسخطه عليك 0قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} .
قال الله جل وعلا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وقال سبحانه وتعالى {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} .
وأسأل الله أن يزيد منه، وأن يجعله حجة لك لا عليك، قال تبارك وتعالى {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
وتفكر فيما تحمله من العلم هل أنت عامل به أم لا واجعل مكان عجبك بنفسك واستنقاصًا لها واستقصارًا فهو أولى بك.
وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرًا، ثم اعلم أن العلم الذي تفتخر فيه ربما يكون وبالاً عليك.
فيكون الجاهل أحسن حالاً ومالاً وأعذر منك فبذلك التفكير يزول العجب والكبر عنك وتهون نفسك عندك حينئذٍ.
وإن أعجبت بشجاعتك وقوتك فتفكر فيمن هو أشجع وأقوى منك ثم أنظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها.
فإن كنت صرفتها في معصية الله فأنت آثم لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمنا لها0(3/162)
وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بإعجابك بعملك.
ثم تفكر في زوالها عنك وقت الكبر عندما تنحل قوتك ويضعف جسمك وتدفع الأرض عند قيامك وقعودك ومردك إليها 0
تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعُفُ نَاضِرٌ ... وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُل مَسْمَعُ
قال الله جل وعلا وتقدس {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} 0
وقال وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره0
بل غرضه تتبع مرضاه الله تعالى أينما كانت فمدار تعبده عليها فلا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها 0
حتى تلوح له منزله أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره 0
فإن رأيت العلماء رأيته معهم 0
وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم 0
وإن رأيت العباد رأيته معهم 0
وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم 0
وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم 0
وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم 0
فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود 0
ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات.
بل هو على مراد ربه ولو كانت لذة نفسه وراحتها في سواه.(3/163)
فهذا هو المتحقق ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقا القائم بهما صدقا.
ملبسة ما تهيا، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا.
لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيثما دار.
يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه.
يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارمه فهو لله وبالله ومع الله.
فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرخه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعليه التكلان.
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فوائد ومواعظ)
من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فعلته من الذنوب والزلات.
وقد جاء في الخبر من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
فإذا لم يكن بهذا الوصف فهو ميت القلب.
وإنما كان ذلك من قبل أن أعمال العبد الحسنة علامة على وجود رضي الله عنه.(3/164)
وإن أعماله السيئة علامة على وجدود سخط الله عليه.
فإذا وفق الله عبده للأعمال الصالحة سره ذلك لأنه علامة على رضاه عنه وغلب حينئذ رجاؤه.
وإذا خذله ولم يعصمه فعمل بالمعاصي ساءه ذلك وأحزنه لأنه علامة على سخط عليه وغلب عليه حينئذ خوفه.
والرجاء يبعث على الجد والاجتهاد في الطاعات غالبا.
والخوف يبعث على المبالغة في اجتناب المعاصي والسيئات.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه آت
فلما حاذانا ورأى جماعتنا أناخ راحلته ثم مشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول أوضعت راحلتي من مسيرة تسع فسيرتها إليك ستًا.
وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وانضيت راحلتي لأسألك عن اثنتين أسهرتاني.
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أنت» . قال: زيد الخيل قال: «بل أنت زيد الخير» .
سل فرب معضلة قد سألت عنها.
قال: جئت أسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بخ بخ كيف أصبحت يا زيد.
قال: أصبحت أحب الخير وأهله وأحب أن يعمل به.
وإذا فأتني حنيت وإذا عملت عملاً أيقنت بثوابه.
قال: «هي بعينها يا زيد» .
ولو أرادك الله للأخرى هيأك لها ثم لا يبالي في أي واد هلكت.(3/165)
قال زيد: حسبي حسبي ثم ارتحل فلم يلبث.
من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصدٍ لها.
وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها.
وفتح اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال.
وإتباع السيئة بالحسنة.
وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب.
والإكثار من ذكر الله وحمده وشكره وتنزيهه والثناء عليه.
والاستغفار وشهود التقصير في الإخلاص والغفلة في الأذكار والنقصان في الصدق والفتور في المجاهدة وقلة المراعات في الفقر.
فتكون جميع أحواله عنده ناقصة على الدوام ويزداد فقرا والتجاء إلى الله في قصده وسيره.
ومن علا مات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها ودخول المعاصي عليك مع هربك منها.
وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء وإتباع الحسنة السيئات واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة والاستغفار ونسيانك لربك.
وقتل الوقت عند الملاهي والمنكرات ونسيان القرآن والاستبدال بقراءته قراءة الكتب الضارة والجرائد والمجلات والجلوس عند التلفاز والسينما والمذياع ويخشى على أهل هذه المنكرات من سوء الخاتمة وأن يكون آخر كلامهم من الدنيا التحدث بها نسأل الله العافية.
فينبغي لمن من الله عليه وعافاه من هذه البلايا والمنكرات والشرور أن(3/166)
يحمد الله دائمًا ويشكره ويكثر من ذكره ويسأله الثبات حتى الممات، وإذا رأيت من ابتلي بشيء من هذه المحدثات التي عمت وطمت وأفسدت الأخلاق فابذل له النصح جهدك فيما بينك وبينه واحذر من نصحه علنا بين الناس قال بعضهم:
تَعَمَّدَنِي بِنُصْحٍ فِي انْفِرَادِ ... وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَةْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ ضَرْبٌ ... مِنَ التَّوْبِيخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
فَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ أَمْرِي ... فَلا تَغْضَبْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَةْ
آخر:
فَيَا وَيْحَ أَهْلِ الظُّلْمِ وَاللَّهْوِ وَالْغِنَا ... إِذَا أَقْبَلَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ جَهَنَّمُ
وَرَاعَهُمُ مِنْهَا تَغَيُّظُ مُحْنَقٍ ... لِخَوْفْ عَذَابٍ فِي لَظَاهَا يُحَطِّمُ
إِذَا مَا رَآهَا الْمُجْرِمُونَ وَأَيْقَنُوا ... بِأَنَّ لَهُمْ فِيهَا شَرَابٌ وَمَطْعَمُ
ضَرِيعٌ وَزَقُّومٌ وَيَتْلُوه مَشْرَبٌ ... حَمِيمٌ لأَمْعَاءِ الشَّقِّيينَ يَهْذِمُ
وَمِنْ قَطْرَانٍ كِسْوَة قَدْ تَسَرْبَلُوا ... وَسِيقُوا لِمَا فِيهِ الْعَذَابُ الْمُخَيِّمُ
آخر:
قُلْ لِلْمُؤَمِّلِ إِنَّ الْمَوْتَ فِي أَثَرِكْ ... وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكَ الْمَوْتُ فِي نَظَرِكْ
فِيمَنْ مَضَى لَكَ إِنْ فَكَّرْتَ مُعْتَبَرٌ ... وَمَنْ يَمُتْ كُلَّ يَوْمٍ فَهُوَ مِنْ نَذُرُكْ
دَارٌ تُسَافِرُ عَنْهَا فِي غَدٍ سَفَرًا ... وَلا تَؤُبُ إِذَا سَافَرْتَ مِنْ سَفَرِكْ
تُضْحِي غَدًا سَمَرًا لِلذَّكِرِينَ كَمَا ... كَانَ الَّذِينَ مَضَوْا بِالأَمْسِ مِنْ سَمَرِكْ
اللهم أمنن علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/167)
(فَصْلٌ)
ثم أعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عته.
ويقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أرع وعشرين خزانة فيرى في كل خزائنه أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.
فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عليه.
ومن كلن وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. أ. هـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا الذي نوادر العلماء.
قال الله جلا وعلا وتقدس {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال تبارك وتعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} وقال {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات.(3/168)
وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من اجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال جلا وعلا وتقدس {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .
فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح.
يفوته من السعادة بقدره ولا عوض لها منه.
فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة.
وللأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصرف أوقاتهم.
تَبْغِي الْوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيهِ تَقْصِيرُ ... لا شَكَّ أَنَّكَ فِيمَا رُمْتَ مَغْرُورُ
قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ... هَذَا وَفِي سَيْرِهِمْ جَدٌّ وَتَشْمِيرُ
قال بعضهم: أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذالك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات.
بَقِيَّةُ الْعُمْرِ عِنْدِي مَا لَهُ ثَمَنٌ ... وَإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الزَّمَنِ
يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيهَا كُلَّ فَائِتَةٍ ... مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوءَ بِالْحَسَنِ
آخر:
لا يَحْقِر الرَّجُلُ الرَّفِيعُ دَقِيقَةً ... فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ
فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرُ صَغِيرَةٌ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ
رأى أحد الزهاد إنسان يأكل فطوره وهو يحتاج إلى مضغ فقال هذا(3/169)
يستغرق وقتًا طويلاً فلما اخرج فطوره وإذا هو ما سيستغرق إلا وقتًا يسيرًا.
فقال له: ما حملك على هذا فقال: إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة.
لله دره على هذه الملاحظة ولقد بلغنا أن أحد علماء السلف كان يأكل باليمنى والكراس باليسرى.
وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كل هذا محافظة على الوقت.
بلغ يا أخي قتالة الأوقات عند الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وقال ونحو ذلك.
ويا أخي أن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره وأسأله الثبات حتى الممات.
وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عم ضياع الأوقات فلعلك أن تكون سببًا لهدايتهم.
وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمُرُ مِنْكَ سَبَهْللا ... وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
فََفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ
ثم أعلم أيها الأخ إن الوقت ليس من ذهب كما يقول الناس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرة إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذلك وحافظ عليه واقتد بالسلف الصالح الذين عرفوا قيمة الوقت.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه من عمري ولم يزد فيه عملي.
وقال آخر كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علما يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.(3/170)
شِعْرًا:
لا تُعْطِ عَيْنَكَ إِلا غَفْوَةَ الْحَذَر ... وَاسْهَرْ لِنَيْلِ عُلُومِ الدِّينِ تَغْتَنِمِ
وَلا تَكُنْ فِي طِلابِ الْعِلْمِ مُعْتَمِدًا ... إِلا مُوجِدِ الأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ
وقال آخر: من أمضى يومًا في عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمدٍ حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.
وإذا كان هذا حرص السلف على الوقت والمحافظة عليه وتقديره عندهم فإن مما يحزن المسلم ويجرحه ويدمي القلب ويمزق الكبد أسى وأسفًا ما نشاهده عند كثيرين من المؤمنين من إضاعة للوقت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد.
وبالحقيقة أن السفينة هو مضيع الوقت لأن المال له عوض أما الوقت فلا عوض له.
فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عليه كالجلوس عند الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدمات إن من أخسر الناس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله عز وجل وتقدس {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} . وقال عز من قائل {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .
شِعْرًا: ... مَا أَسْرَعَ الأَيَّامِ فِي طَيِّنَا ... تَمْضِي عَلَيْنَا ثُمَّ تَمْضِي بِنَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ أَمَلٌ قَدْ نَأَى ... مَرَامُهُ عَنْ أَجَلِ قَدْ دَنَا
أَنْذَرْنَا اللهَ وَمَا نَرْعَوِي ... فَلَيْتَ إِنْذَارَهُ أَثَّرْ بِنَا
تَعَاشِيًا وَالْمَوْتُ فِي جَدِّهِ ... مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ وَمَا أَبْيَنَا
وَالنَّاسُ كَالأَجْمَالِ قَدْ قُرِبَتْ ... تَنْتَظِرُ الْحَيَّ لأَنْ يَظْعَنَا
تَدْنُو إِلَى الْعُشْبِ وَمِنْ خَلْفِهَا ... مُقَامِرٌ يَطْرُدُهَا بِالْقَنَا(3/171)
أَيْنَ الأُولَى شَادُوا مَبَانِيهِمْ ... تَهَدَّمُوا قَبْلَ انْهِدَامِ الْبِنَا
لا مُعْدِمٌ يَحْمِيهِ إِعْدَامُهُ ... وَلا يَقِي نَفْسَ الْغَنِيَّ الْغِنَى
كَيْفَ دِفَاعُ الْمَرْءِ أَحْدَاثَهَا ... فَرْدًا وَأَقْرَانُ اللَّيَالِي ثُنَى
حَطَّ رِجَالٌ وَرَكِبْنَا الذُّرَى ... وَعُقْبَةُ السَّيْرِ لِمَنْ بَعْدَنَا
وَالْحَازِمُ الرَّأْيَ الَّذِي يَغْتَدِي ... مُسْتَقْلِعًا يُنْذِرُ مُسْتَوْطِنَا
لا يَأْمَنُ الْمَوْتَ عَلَى غِرَّةٍ ... وَعَزَّ لَيْثُ الْغَابِ أَنْ يُؤْمِنَا
كَمْ غَارِسٍ أَمَّلَ فِي غَرْسِهِ ... فَأَعْجَلَ الْمِقْدَارُ أَنْ يَجْتَنَى
اللهم اسلك بنا سبل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، ومنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَوائِدُ وَموَاعِظُ وَحِكِمٌ ونَصَائحُ وآدابٌ بَيْنَ السَّابقِ واللاَّحِقِ
ثلاثة يثبتن الود في قلب أخيك المسلم أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه.
صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار.
البر شيء هين وجه طلق ولسان لين.
الصديق الكامل مفقود لذا قد يجد الإنسان في مجموع الأصدقاء الكمال المنشود قال - صلى الله عليه وسلم - إن الله يحب السهل الطلق» .
لا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يترك بينك وبين حبيب صلحا. سوء الظن برهان على سوء أفعال صاحبه.
إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ(3/172)
وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عُدَاتِهِ ... وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ
قال أحدهم: صحبت المروزي في سفر فقال لي: لا بد في السفر من أمير أتحب أن تكون الأمير أو أنا فقلت بل أنت فأخذ مخلاة عباها وحملها على عاتقه.
فقلت: أنا أحملها قال لا أنا الأمير وعليك الطاعة وسرنا حتى المساء ولما أردنا النوم غطاني بكسائه وسهر يدفع عني المطر وكانت ليلة ماطرة.
فلما أصبحت قلت في نفسي ليتني للم أقل له أنت الأمير لأني كلما طلبت منه أن أحمل رفض وقال أنا الأمير وهكذا أما هو فقال لي إذا صحبت أحدًا في سفر فكن هكذا.
من أمثلة الإخلاص لله عز وجل في الأعمال أن جيشًا مسلمًا حاصر مدينة ذات سور منيع يستدعي شهورًا طويلة.
وفي أحدى الليالي جاء إلى القائد أحد الجنود يقول له لقد نقبت في السور نقبًا يمكننا أن ندخل منه لداخل المدينة ونفتح باب السور فأرسل معي من يدخل النقب فإذا فتحنا الباب أدخل الجيش.
فأرسل معه رجالاً دخلوا مع النقب وفتحوا الباب فدخله القائد واستولوا على المدينة ليلاً.
وفي اليوم الثاني نادى المنادي صاحب النقب ليعطى جائزته على عمله وطلبه القائد فلم يأته أحد.
وفي الثاني والثالث نادى المنادى يطلب حضور صاحب النقب فلم يأته أحد.
وفي اليوم الرابع أتى الجندي صاحب النقب إلى القائد فقال له أنا أدلك على صاحب النقب.(3/173)
فقال أين هو قال بثلاثة شروط.
الشرط الأول أن لا تكافئه على عمله.
والشرط الثاني أن لا تدل أحدًا عليه.
والثالث أن لا تطلبه ثانية.
فقال وافقنا على ذلك فقال الجندي: أنا صاحب النقب نقبته ابتغاء رضوان الله.
ثم ذهب فتعجب القائد وكان إذا صلى ربما دعا الله أن يجعله مع صاحب النقب.
شِعْرًا:
يَا رَبِّ مَا لِي غَيْرَ لُطْفِكَ مَلْجًا ... وَلَعَلَّنِي عَنْ بَابِهِ لا أُطْرَدُ
يَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا ... دِينًا عَليَّ بِهِ جَلالُكَ يَشْهَدُ
أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ ... بِسَلاسِلِ الْوِزْرِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ
أَسَفًا عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ ... تَحْتَ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ
يَا رَبِّ قَدْ ثَقَلُتْ عَليَّ كَبَائِرٌ ... بَإِزَاءِ عِينِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ
يَا رَبِّ إِنْ أَبْعَدتُ عَنْكَ فَإِنَّ لِي ... طَمعًا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لا تُبْعِدُ
أَنْتَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ دَاعٍ يَلْتَجِي ... أَنْتَ الْمُجِيرُ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ
مِنْ أَيِّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَسْتَقِي ... وَلأَيِّ بَابٍ غَيْرَ بَابِكَ نَقْصُدُ
جمع أحد العلماء بعض علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، وقورًا صدوق اللسان، قليل الكلام إلا في ذكر الله وما ولاه.
كثير العمل للآخرة أو ما هو وسيلة إليها، قليل الفضول، برًا، وصولاً صبورًا، رضيًا شكورًا، حليمًا، رفيقًا، لينًا، عفيفًا شفيقًا.(3/174)
لا لعان ولا سباب، ولا نمام، ولا مغتاب، ولا جاسوس، ولا عجول، ولا حقود، ولا حسود، ولا بخيل ولا غضوب.
هشاشًا بشاشًا، لطيفًا، ورؤوفًا، وعطوفًا على المؤمنين يحب في الله ويبغض في الله.
حكي عن بعض الزهاد في صفة المؤمن والمنافق وفيه تنبيه على حسن الخلق وسوء الخلق.
فقال المؤمن مشغول بالذكر والعمل، والمنافق مشغول بالحرص والأمل.
والمؤمن آيس من كل احدٍ إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحدٍ إلا من الله.
والمؤمن يقدم ماله دون دينه والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن عمله ويبكي والمنافق يسيء ويضحك.
والمؤمن يحب الوحدة إذا لم ترجح مصلحة الخلطة عليها والمنافق يحب الخلطة والملاء.
والمؤمن يزرع ويخشى الفساد والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يامر بالمعروف وينهى عن المنكر فيصلح والمنافق يأمر وينهى للرئاسة فيفسد.
وأحسن ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى احتمال الجفاء.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غاية الاحتمال لكل أذى والصبر لله وقد شرح الله له صدره. وأساء بمن قبله من الأنبياء بقوله جل وعلا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وقال جل وعلا {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}
شِعْرًا: ... فِعَالِي قَبِيحٌ وَظَنِّي حَسَنٌ ... وَرَبِّي غَفُورٌ كَثِيرُ الْمِنَنْ
تُبَارِزْ مَوْلاكَ يَا مَنْ عَصَى ... وَتَخْشَى مِنَ الْجَارِ لِمَا فَطِنْ
رَكِبْتُ الْمَعَاصِي وَشَيْبِي مَعِي ... فَوَاللهِ يَا نَفْسُ مَاذَا حَسَنْ(3/175)
فَقُومِي الدِّيَاجِي لَهُ وَارْغَبِي ... وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الْمِنَنْ
وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الرَّجَا ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْفُ عَنِّي فَمَنْ
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
(فَصْلٌ)
? جاء ثلاثة إلى الحسين بن علي واشتكى الأول قلة المطر والغيث فقال له: أكثر من الاستغفار.
واشتكى الثاني العقم فقال له: أكثر الاستغفار.
واشتكى الثالث جدب الأرض وقلة النبات فقال له: أكثر الاستغفار.
فقال له أحد جلسائه يا ابن رسول الله كل الثلاثة مختلف الشكاية وأنت وحدت الجواب بينهم.
فقال رضي الله عنه: أما قرأتم قول الله جل وعلا {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .
خطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة ثم قطعها وبكى ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة وإن قليل عفوك أعظم منها.
اللهم فاصفح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك الحسن البصري فبكى. وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.
قيل لخالد بن يزيد وكان رجل زاهد وصلاح فيما يظهر ما أقرب الأشياء قال: الأجل، قيل فما أبعد الأشياء؟ قال: الأمل. قيل: فما أوحش الأشياء؟ قال: الميت.
قال أحد العلماء: ازهد الناس في الدنيا وإن كان عليها حريصًا من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب مع حفظ الأمانات.(3/176)
وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضًا من لم يبال من أين ما كسبه منها حلالاً كان أو حرامًا.
وإن أجود الناس بالدنيا من جاد بحقوق الله عز وجل وحقوق خلقه وإن رآه الناس بخيلاً فيما سوى ذلك.
وإن ابخل الناس من بخل بحقوق الله عز وجل وما عليه من حقوق الخلق وإن رآه الناس كريمًا جوادًا فيما سوى ذلك.
وقال بعضهم إن امرئ أذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة.
وقال آخر إذا سألت رجلاً كريمًا حاجًة فأمهله يفكر فإنه في الغالب لا يفكر إلا بخير.
وإذا سألت لئيمًا حاجة فلا تمهله لأنه إلى الردى أقرب وطبعه إلى المنع أحرى.
من كثرت نعم الله عنده كثرت حوائج الناس إليه.
فإن قام بشكر الله وأدى ما يجب لله فيها عليه عرضها للبقاء وإن لم يقم بذلك عرضها للزوال وعرض نفسه للذم.
قال بعضهم موصيًا ابنه يا بني إذا مر بك يوم وليلة قد سلم فيهما دينك وجسمك ومالك فأكثر من الشكر لله تعالى.
فكم من مسلوب دينه ومنزوع ملكه ومهتوك ستره ومقصوم ظهره في ذلك اليوم وأنت في عافية.
قيل لبعضهم أي الكنوز أعظم قدرًا قال العلم الذي خف محمله فثقلت مفارقته وكثرت مفارقته وخفي مكانه وأمن عليه من السرقة.
فهو في الملاء جمال وفي الوحدة أنيس ويرأس به الخسيس ولا يقدر حاسدك نقله عنك.
قيل فالمال قال ليس كذلك محمله ثقيل والهم به طويل إن كنت في ملاء شغلك الفكر فيه وإن كنت في خلوة أتعبتك حراسته.(3/177)
قيل لبعضهم من أضعف الناس قال من ضعف عن كتمان سره، قيل فمن أقواهم، قال من قوي على غضبه، قيل فمن أصبرهم قال من ستر فاقته، قيل فمن أغناهم قال من قنع بما يسره الله له.
وقال آخر من توفيق الله للقاضي أن يكون فيه خمس خصال الحلم والنزاهة عن الطمع، وجودة العقل، والاقتداء بالعلماء المتبعين للكتاب والسنة، ومشاورة أهل الرأي من ذوى العقول الراجحة.
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
قال بعض العلماء: اعلم أن بني آدم طائفتان طائفة نظروا إلى شاهد خيال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير.
وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها سالم إيمانهم.
وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم ويبقى عليهم وباله ونكاله.
وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيرًا ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب.
فان لله ملكا يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته.
وكل موكلي ملوك الدنيا يأخذون جعلهم ذهبًا وفضًة وطعامًا.
وملك الموت لا يأخذ سوى الروح.
وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا إذا جاء لقبض الروح لا تنفع عنده الشفاعة.
وكثير من الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة.(3/178)
وهذا الموكل لا يهمل ولا نفسًا واحدًا قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} .
ويروي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيمًا وأحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من الدنيا ليرفه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعمًا طائلة وبني قصرًا عاليًا مرتفعًا ساميًا يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركب عليه بابين محكمين.
وأقام عليه الغلمان والحراسة والأجناد والبوابين كما أراد وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده.
وجلس على سرير مملكته واتكأ على وسادته وقال: يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن افرغي لذلك وكلي هذه النعم مهنأةً بالعمر الطويل، والحظ الجزيل.
فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر وتزعزع السرير.
وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا يا ضيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر إلى أن نأكل ونعطيك مما يفضل.
فقال لهم قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم وأمر ملم فقالوا له: تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك.
فقال: أنتم عرفوه ما ذكرت لكم فلما عرفوه قال: هلا نهرتموه وجردتم عليه وزجرتموه.
ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصى والسلاح وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة.(3/179)
وقال: الزموا أماكنكم فأنا ملك الموت فطاشت حلومهم وارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم.
فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضًا عني فقال: ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حوتها وخزنتها.
فتنفس الصعداء وقال لعن الله هذا المال الذي غرني وأبعدني ومنعني من عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي.
فأنطق الله تعالى المال حتى قال لأي سبب تلعني العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدق بي على الفقراء وتزكي بي على الضعفاء.
ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون عونا لك في اليوم الآخر فجمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر الله في حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك وبلائك.
فأي ذنب لي فتسبني وتلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام فسقط عن سريره صريع الحمام.
وقال يزيد الرقاشي: كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالسًا على سرير مملكته فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري.
فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبارٌ ولا لأحدٍ من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده.(3/180)
وقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال أقسم عليك بالله إلا أمهلتني يومًا واحدًا لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأورد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا تحمل مشقة عذابها.
فقال: كيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مكتوبة فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وأنقصت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحدٌ.
فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل؟ فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار.
وقبض روحه فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكائهم عليه أكثر وعويلهم أوفر.
مَا لِنَفْسِي عَنْ مَعَادِي غَفَلَتْ ... أَتَرَاهَا نَسِيتَ مَا فَعَلَتْ
أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي لَهْوِ الْهَوَى ... كُلُّ نَفْسٍ سَتَرَى مَا عَمِلَتْ
أُفٍّ لِلدُّنْيَا فَكَمْ تَخْدَعْنَا ... كَمْ عَزِيزٍ فِي هَوَاهَا خَذَلَتْ
رُبَّ رِيحٍ بِأُنَاسٍ عَصَفَتْ ... ثُمَّ مَا إِنْ لَبَثَتْ أَنْ سَكَنَتْ
أَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَفْلَتِهِ ... فِي سُرُورٍ وَمُرَادَاتِ خَلَّتْ
أَصْبَحَتْ آمَالُه قَدْ خَسِرَتْ ... وَدِيَارُ لَهْوِهِ قَدْ خَرِبَتْ
فَغَدَتْ أَمْوَالُهُ قَدْ فُرِّقَتْ ... وَكَانَ دَارَهُ مَا سَكَنَتْ
جُزْ عَلَى الدَّارِ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ ... ثُمَّ قُلْ يَا دَارُ مَاذَا فَعَلَتْ
أَوْجهٌ كَانَتْ بُدُورًا طُلِّعَا ... وَشُمُوسًا طَالَمَا قَدْ أَشْرَقَتْ
قَالَتْ الدَّارُ تَفَانُوا فَمَضُوا ... وَكَذا كُلُّ مُقِيمٍ إِنْ ثَبَتْ
عَايَنُوا أَفْعَالَهُمْ فِي تُرْبِهِمْ ... فَاسْأَلِ الأَجْدَاثَ عَمَّا اسْتُودِعَتْ
اللهم أحي قلوبنا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك(3/181)
وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال بعض العلماء ليس في العالم منذ كان إلى يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرحه عن نفسه.
فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم.
بحثث عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.
وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم.
وإنما طلب الصيت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها.
وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل.
وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه.
وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب واكتنز من اكتنز وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من تودع.
ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها.(3/182)
وقال رحمه الله وجدت العمل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدرٍ موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة.
ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر.
إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون على ما يطلب وزائد في الغرض الذي إياه يقصد.
ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤآخذًا بذلك فهو غير مؤثر يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر.
وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصلٍ أبدًا وغيره بخلاف ذلك أبدًا.
وقال رحمه الله تعالى: ولو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسليط الجهال.
ومن الهم بمغيب الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره.
لزاد حمدًا وشكرًا وذكرًا لله عز وجل وغبطة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه.
أجل العلوم ما قربك إلى خالقك جل وعلا وما أعانك على الوصول إلى رضاه.
العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد الضعيفة.
وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفيه من كل آفة وتهلك ذا العقل الضعيف.(3/183)
العاقل في الدنيا متعب ومن جهة أخرى مستريح.
ووجه ذلك أنه متعبٌ ومتكدرٌ فيما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يخال بينه من إظهار الحق.
وأما وجه راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.
إذا حققت أمر لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل بين زمانين فقط.
وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن.
فمن أضل ممن يبيت باقيًا خالدًا بمدة هي لأقل من كر الطرف.
من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كغارس الأثل والسدر في الأرض التي يجود ويزكوا فيها النخيل والتين والموز والعنب.
نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والسكر والتمر من به مرض السكر ومن به احتراق وحمى.
وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع الصفراء، أو به شقيقة وهو وجع نصف الرأس.
من أراد الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأعمال والأخلاق والآداب كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتدي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وليستعمل أخلاقه وسيره.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وقال رحمه الله منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الردى فينفر منه.
شِعْرًا: ... لا تَيْأَسَنَّ أَخَا الإِخْلاصِ فِي الْعَمَلِ ... عَلَى خُمُولِكَ أَنْ تَرْقَى عَلَى الْفَلَكَ
بَيْنَا تَرَى الذَّهَبَ الإِبْرِيزِ مُطَّرَّحًا ... فِي الأَرْضِ إِذْ صَارَ إِكْلِيلاً عَلَى الْمَلِكِ(3/184)
آخر: ... لا تَحْسَبَنْ حَسَبَ الآبَاءِ مكرمَةً ... لِمَنْ يُقْصِّرُ عَنْ أَعْلا الْمَقَامَاتِ
حُسْنُ الرِّجَالِ بِتَقْوَاهم وَطَاعَتِهِمْ ... للهِ لا بِجَمَالِ الْوَجْهِ وَالذَّاتِ
آخر: ... لا تَحْقِرِ الْمَرْءَ إِنْ رَأَيْتَ بِهِ ... دَمَامَةً أَوْ رَثَاثَةَ الْحُلَلِ
فَالنَّحْلُ لا شَيْءَ مِنْ ضُؤولَتِهِ ... يَشْتَارُ مِنْهُ الْفَتَى جَنَى الْعَسَلِ
آخر: ... دَعِ التَّكَاسُلَ فِي الْخَيْرَاتِ تَطْلُبُهَا ... فَلَيْسَ يَسْعَدُ فِي الْخَيْرَاتِ كَسْلانِ
آخر: ... الْعِلْمُ زَيْنٌ وَتَقْوَى اللهَ حَلْيتُهُ ... فَمَنْ خَلا مِنْهُمَا فَاعْدُدْهُ فِي البَقَرِ
آخر: ... وَمَا أَدْرَاكَ الْمَطْلُوبَ فِي كُلِّ وَجْهَةٍ ... مِنَ النَّاسِ إِلا مَنْ أَجَدَّ وَشَمَّرَا
فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة.
وقال وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى مالا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليلٌ جدًا.
ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة.
وفساد العلانية والسيرة شرار الخلق وهذا كثير جدًا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى.
وقال من جالس الناس لم يعدم إثمًا وهما يؤلم نفسه وغيظًا ينضج كبده وذلا ينكس همته.
فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم واندمج معهم.
وإنما يندم ويحزن ويتحسر على ذلك في معاده.
فالعز والسرور والأنس والراحة والسلامة في الانفراد عنهم.
ولكن اجعلهم كالنار تدفأ بها ولا تخالطها.
وقال آخر من مضار مجالسة الناس ومخالطتهم الانهماك في الغيبة.
ثانيًا: ضياع الوقت في الآثام.(3/185)
ثالثاً: فوات الأعمال النافعة في الآخرة أو الأعمال الدنيوية التي يعود نفعها في الآخرة ولا سبيل إلى السلامة من ذلك إلا بالانفراد عن مجالستهم جملة.
من جنب الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان
وقال: لا تحقرن شيئًا من عمل غدٍ بأن تخففه وتعجله اليوم وإن قل فان من قليل الأعمال يجتمع كثيرها.
لا تحقرن من الأمور صغارها ... فالقصر منه تدفق الخلجان
وربما أن الأعمال إذا لم تخفف يعجز أمرها فيبطل الكل.
ولا تحقر شيئًا مما تثقل به ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قل.
فإنه يحط عنك كثيرًا لو اجتمع لقذف بك في النار.
اجتهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد منها لنفسك.
أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك لأنه نبه على نقصك.
وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك ولقد انتصر لك من نفسك بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.
ولو علم الناقص نقصه لكان كاملاً إذا عدله.
من عيب حب الذكر أنه ربما يحبط الأعمال إذا أحب أن يذكر بها لأنه يعمل لغير الله عز وجل.
وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حبًا للخير لكن ليذكر به.
من أفضل نعم الله على العبد أن يجيب إليه العدل يوفقه للعمل به ويجيب إليه الحق وإيثاره والعمل به.
ومن قلة توفيق العبد وخذلانه أن يطبع على الجور واستسهاله وعلى الظلم واستخفافه.
ومن كان كذلك فلييئس من أن يصلح نفسه أو يقوم طباعه أبد إلا أن يشأ الله.(3/186)
إذا حضرت مجلس علم فلا يكون حضورك إلا حضور مستزيدٍ علمًا وأجرًا لا طالبًا لعثرةٍ أو زلةٍ تشيعها أو غربيةٍ تشيعها.
فإن تتبع العثرات والزلات أفعال الأراذل والسفل الذين لا يفلحون في العلم فإذا حضرتها على طلب الاسترشاد فقد حصلت خيرًا.
إن لم تحضرها على نية صالحة فجلوسك في منزلك أحسن وأروح لبدنك واكرم لخلقك وأسلم لدينك.
فإذا حضرتها فالتزم أحد ثلاثة أوجه أحدها إما أن تسكت فتحصل على أجر النية بالمشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة فضول الكلام وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس.
وإذا سألت فاسأل سؤال المتعلم عما لا تدري فإن السؤال عما تدري سخف وقلة عقل ولا تخلو من العجب.
وفيه شغل عما هو أولى وفيه قطع لزمانك بما لا فائدة لا لك ولا لغيرك وربما ترتب عليه مفسدةٌ أو مفاسد.
وإذا أردت أن ترجع فراجع مراجعة العالم.
وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضًا بينًا فإن لم يكن عندك إلا تكرار قولك أو لمعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك.
لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجرٍ زائدٍ ولا على تعليم بل ربما حصلت على ما يسؤك من الغيظ والعداوة.
واحذر سؤال التعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقًا سوء دليلان على قلة الدين وضعف العقل وقوة السخف وكثرة الفضول. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
صلاح القلب بتقوى الله وطاعته والتوكل عليه وتوحيده وإخلاص العمل لوجهه الكريم.(3/187)
وفساد القلب بعدم التقوى والتوكل والطاعة والتوحيد والإخلاص.
ومما يورث فساد القلب وانتكاسه وفساد الأخلاق مجالسة أموات القلوب وأهل الآراء الفاسدة وأهل البدع كالأشاعرة والمعتزلة والرافضة والفسقة كأهل الملاهي والمنكرات.
عليك بمجالسة أهل الدين والصلاح فإنهم هم الناس لأن أعقل خلق الله من امتثل أمره واجتنب نهيه.
وأجهل خلق الله من عصى الله.
العلماء العاملون المخلصون هم السالكون طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
الذين لا يطلبون من الناس أجرًا على أعمالهم بل يريدون وجهه عز وجل قال الله جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقال جل وعلا {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} .
قلوب صافية طاهرة معرضة عن الخلق مقبلة على الخالق ذاكرة له ناسية للدنيا ذاكرة للآخرة.
الجلوس مع الذين يطيعون الله نعمة من الله على عبده والجلوس مع المنافقين والمكذبين نقمة على العبد نعوذ بالله من مجالسة أهل الضلال والبدع والأخلاق المنحرفة وأهل الملاهي والمنكرات.
فالواجب هجرانهم والابتعاد عنهم والتحذير عنهم.
واهجر أيضًا أقران السوء واقطع المودة والصلة بينك وبينهم وواصلها بينك وبين الصالحين.
قال بعضهم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة فلقي فيها آدم ما لقي ولا تغتر بكثرة العباد فإن إبليس لعنه الله بعد طول تعبده لقي ما لقي.(3/188)
ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن الاسم الأعظم فانظر ماذا لقي.
ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولم ينتفع بلقائه أعداؤه وبعض أقاربه.
وقال: إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على الخطر ولا تدري ماذا يكون من العاقبة وماذا سبق لك في حكم الغيب.
ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات.
آخر: ... أَلا بلغن عَنِّي لِحَيٍّ رِسَالَةً ... تَعِيهَا رِجَالٌ أَوْ نِسَاء صَوَالِحُ
لِعَالِمِهِمْ أَوْ طَالِبِ الْعِلْمِ رَائِمٍ ... لإِظْهَارِ دِينِ اللهِ فِيهِ يُنَاصِحُ
أَقُولُ لَهُ قُمْ وَادْعُ لِلدِّينِ دَعْوَةً ... تُجِبْهَا عَوَامٌ أَوْ خَوَاصٌ جَحَاجِحُ
وَلا تَخْشَ تَكْذِيبًا وَإِنْكَارَ جَاحِدٍ ... وَهُزْءِ جَهُولٍ ضَلَّ وَالْحَقُّ صَابِحُ
وَغِيبَةً هَمَّازٍ وَضَغْنِ مُشَاحِن ... يُسَاعِدُهُ مَن لِلْعَوَائِدِ رَاكِحُ
وَلَيْسَ لِمَا تَبْنِي يَدُ اللهِ هَادِمٌ ... وَلَيْسَ لأَمْرِ اللهِ إِنْ جَاءَ ضَارِحُ
وَبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّ الْعَوَائِدَ بَهْرَجَتْ ... وَسُنَّتُنَا لاحَتْ عَلَيْهَا لَوَائِحُ
وَلَهْوُ الشَّبَابِ الْيَوْمَ قَدْ بَارَ سُوقُهُ ... وَقَامَتْ عَلَى سُوقِ الصَّلاحٍ الْمَدَائِحُ
وَأَهْلُ الدُّنَا الْيَوْمَ انْزَوَى ظَلَّ جَاهِهِ ... وَسُنَّتُنَا قَدْ ظَلَلَتْهَا الدَّوَائِحُ
وَمُنْكِرُ هَذَا الدِّينِ قَدْ خَفَّ وَزْنُهُ ... وَمَظْهَرُهُ مِيزَانُهُ الْيَوْمَ رَاجِحُ
وَنَاصُرُهُ قَدْ صَارَ فِي النَّاسِ عَالِيًا ... وَمُنْكِرُهُ لِلْخَاصِ وَالْعَامِ دَانِحُ
وَإِنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ قَدْ مَنَّ مِنَّةً ... عَلَيْنَا وَمَنْ يَشْكُرْ فَذَلِكَ رَابِحُ(3/189)
وَمَنْ كَفَرَ الأَنْعَامَ وَاتَّبَعَ الْهَوَى ... فَفِي بِدْئِهِ بَلْهَ الْقِيَامَةِ طَائِحُ
وَذَاكَ بِأَنْ قَدْ بين الدِّين فِي امْرِئ ... لَنَا نَسُبًا نَعْلُو بِهِ وَنُطَامِحُ
فَإِنْ نَحْنُ آوَيْنَاهُ نَنْصُرُ قَوْلَهُ ... نَفُزْ وَنَحْزُ نَعْمَاهُ وَالْكُلُّ فََالِحُ
وَأَنْ قَدْ أَضَعْنَاهُ أَفَادَ بِغَيْرِنَا ... مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ مَصَالِحُ
وَلَوْ نَفَعَتْ قرُبَى فَقَطْ فِيهِ مَا رَدَى ... أَبُو طَالِبٍ عَمُّ النَّبِي وَتَارِحُ
وَمَا ضَرَّ شَمْسًا أَنْ نَفَى الْعَيْنَ ضَوءَهَا ... وَمَا ضَرَّ حَوْضًا أَنْ أَبتهُ الْقَوَامِحُ
أَطَايِبُ أَرْضٍ تُخْرِجُ النَّبْتَ رَئِعًا ... بِإِذْنِ الإِلِهِ إِنْ أَفَاضَتْ دَوَائِحُ
وَلَوْ هَمَعْتْ دِيمًا لَمَا أَنْبَتَتْ وَلَوْ ... بَسَابِسَ نَبْتٍ في الأرْاضِي المَوَالِحُ
فَلا يَمْنَعُ الإِرْشَادَ عُدْمُ قُبُولِهِمْ ... فَمَدْخَلُهُمْ مَوْلاهُمْ أَنْتَ فَاتِحُ
فَإِنَّكَ إِنْ بَلَّغْتَهمُ ضَاعَ عُذْرُهُمْ ... فَسَاقِيهِمُ الْمَولَى فَإِنَّكَ جَادِحُ
مُطِيعُ لِمَا قَدْ قَالَهُ سَيِّدُ الْوَرَى ... بِهِ بَلِّغُوا عَنِّي أَتَتْهُ صَحَائِحُ
وَأَمْرُ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌّ لِمُنْكَرٍ ... عَلَى شَرْطِه لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ قَارِحُ
وَفَهمهُمُوا مَا يَلْزِمُ الْمَرْءَ عَقْدُهُ ... مِن الدِّينِ مِمَّا سَهَّلَتْهُ الْقَرَائِحُ
وَغُسْلاً وَضُوءًا أَوْ صَلاةً زَكَاتُهُمْ ... وَصَوْمًا وَبَيْعًا ثُمَّ كَيْفَ يُنَاكِحُ
وَوَاجِبُهَا مَسْنُونُهَا مُسْتَحَبّهَا ... وَمَنْهِيُّهَا فَالْكُلُّ فِي الْكُتْبِ وَاضِحُ
وَكَيْفَ تُرَاعَى نِيَّةٌ فِي جَمِيعِهَا ... لِيَرْعَاهُ ذُو فَهْمٍ يُطِيعُكَ لائِحُ
وَكَيْفَ التَّخَلِّي عَنْ صِفَاتٍ ذَمِيمَةٍ ... وَكَيْفَ التَّحَلِّي بِالْحَمِيدَةِ نَاصِحُ
بِنَفْسِكَ فَابْدَأْ حَائِدًا عَنْ هَوَى الْهَوَى ... لَدَى سَوْمِهَا تَرْعَى وَإِنَّكَ كَابِحُ
أَضَرَّ عَدُوٍّ مَنْ بِدَارِكَ سَاكِنٌ ... مُطِيعٌ لِشَيْطَانِ وَلِلدِّينِ قَابِحُ
سَلامَةُ عَيْبِ النَّفْسِ عَزَّتُ لِمَالِهَا ... يَكُونُ خِلالُ الْمُنْكَرَاتِ الْمَسَارِحُ
فَلا تَسْتَطِيعُ التَّرْكَ عَنْ شَهَوَاتِهَا ... وَلَمْ تَحْتَمِلْ ذُلاً كَذَاكَ السَّبَادِحُ(3/190)
.. لِجَاؤُكَ بِالْمَوْلَى وَتَقْلِيلَ مَطْعَمٍ ... دَوَاءٌ لأَدْوَاءِ النُّفُوسِ مَطَحْطِحُ
وَبِالأَصْغَرَيْنِ احْفَظْ وَبِالأَجْوَفَيْنِ والْ ... جَوَاسِيسَ صُنْ دَوْمًا تُطِعْكَ الْجَوَارِحُ
تِبَاعٌ لِقُرْآنِ النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ ... وَتَابِعِهِمْ تِرْيَاقُ مَنْ هُوَ صَالِحُ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ ثُمَّ عَلَيْهِمْ ... كَذَاكَ سَلامٌ بِالرَّيَاحِينِ فَائِحُ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة لأيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لمصالحنًا واعصمنًا من قبائحنًا وذنوبنًا ولا تؤاخذنًا بما انطوت عليه ضمائرونًا واكنته سرائرونًا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
كتب أبو حامد الغزالي إلى أبي الفتح بن سلامة فقال: قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلامًا وجيزًا في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلاً له.
فإن الوعظ زكاة نصابه الاتعاض فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج.
وقد أوصى الله جل وعلا عيسى بن مريم عليهما السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.
وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - تركت فيكم ناطقًا وصامتًا فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ فمن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره.(3/191)
ولقد وعظت بهما وقبلت وصدقت قولاً وعلمًا وأبت وتمت تحقيقًا وفعلاً.
فقلت لنفسي أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ وأنه كلام الله المنزل الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فقالت بلى فقلت لها قد قال الله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
فقد وعد الله جل وعلا بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها.
ولو أن طبيبًا نصرانيًا وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتها وأنفت منها وجنبتها أفكان النصراني عندك أصدق من الله جل وعلا.
فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار فإن كان كذلك فما أجهلك فصدقت ثم ما انتهت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت.
ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد قال الله جل وعلا {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعًا عليك ما أنت متمسكة به وسالبًا منك كل ما أنت راغبة فيه.
وأن كل ما هو آت قريب وقد قال جل جلاله {فَرَأَيْتَ إِن(3/192)
مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
وقال مخبرًا عن نفسه عندما وعظها ولم تجتهد في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضا الله كاجتهادها في طلب رضاها وطلب رضا الحق.
ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر للاستعداد للآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع أن الموت ربما يخيطفها والشتاء لا يدركها.
فقلت لها ألست تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين له آلة الصيف بقدر صبرك على الحر قالت نعم.
ثم استمرت على سجيتها ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بموعظة الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة.
فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا ذا موص نفسي وإياك بالحذر منه فهو الداء العظيم وهو سبب الداعي إلى الغرور والإهمال.
وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت بعد أسبوعٍ أو شهرٍ لاستقام واستوى على الصراط المستقيم.
فانكشف لي تحقيقًا أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف.
فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «صل صلاة(3/193)
مودعٍ» . ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به.
ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاة حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه.
بخلاف من لم يخطر بخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتورٍ مستمر وتسويفٍ متتابعٍ إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت.
فعلى الإنسان العاقل أن يحذر مواقع الغرور ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم.
والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها واجمعها وقد قال الله جل وعلا وتقدس {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} فما أسعد من قبل وصية الله وعمل بها وادخرها ليجدها يوم مردها ومنقلبها.
? اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
روى عن الحسن أنه قيل له إن فلانًا مات بغتًة قال: ما يعجبكم من ذلك لو لم يمت بغتة مرض ثم مات.
وقال غيره عليك باجتناب طول الأمل فإنه إذا طال هاج أربعة أشياء.
الأول ترك الطاعة والكسل فيها يقول سوف أفعل والأيام بين يدي.(3/194)
والثاني ترك التوبة وتسويفها يقول سوف أتوب وفي الأيام سعة وأنا شاب والتوبة بين يدي وأنا قادرٌ عليها متى أردتها وربما اغتاله الموت وهو مصرٌ واختطفه الأجل قبل التوبة وإصلاح العمل.
والثالث الحرص على جمع المال والاشتغال بالدنيا عن الآخرة يقول أخاف الفقر في الكبر وربما ضعفت عن الاكتساب ولا بد لي من شيءٍ فاضل أدخره لمرضٍ أو هرمٍ أو فقرٍ هذا ونحوه يحرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها.
والرابع القسوة في القلب والنسيان للآخرة لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الموت والقبر في الغالب.
وعن علي رضي الله عنه قال: أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأمل وإتباع الهوى لأن طول الأمل ينسي الآخرة وإتباع الهوى يصدك عن الحق.
فإذا يصير فكرك في حديث الدنيا وأسباب العيش في صحبة الخلق فيقسو القلب.
ويغلب عليه الحرص. كما قيل:
وَالْمَرْءُ يُدْرِكُ أَنَّ الْمَرْءَ مُخْتَلَسٌ ... مِنَ الْحَيَاة وَلَكِنْ يَغْلِبُ الطَّمَعُ
وبسبب طول الأمل تقل الطاعة وتتأخر التوبة وتكثر المعصية ويشتد الحرص وتعظم الغفلة فتذهب الآخرة إن لم يرحم الله.
فأي حال أسوء من هذه وأي آفة أعظم من هذه وإنما رقة القلب وصفوته بذكر الموت ومفاجأته والقبر وظلمته والثواب والعقاب وأحوال الآخرة.
وقال رحمه الله: اعلم أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب عليها غير متيسر.(3/195)
فالإناء إذا كان مملوءًا بشيءٍ لا يكونٌ لشيء آخر محلٌ فيه ولأن الدنيا والآخرة كضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
وكالمشرق والمغرب بقدر ما تقرب من أحداهما تبعد عن الآخر قال الله جل وعلا وتقدس {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} .
شِعْرًا: ... رَجِوْتَ خُلُودًا بَعْدَ مَاتَ آدَمٌ ... وَنُوحٌ وَمَنْ بَعْدِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَرَنِ
وَسَوَّفَتْ بِالأَعْمَالِ حَتَّى تَصَرَّمَتْ ... سُنُوكَ فَلا مَالٌ وَلا وَلَدٌ يُغْنِي
فَشَمِّرْ لِدَارِ الْخُلْدِ فَازَ مُشَمِّرٌ ... إِلَيْهَا وَنَالَ الأَمْنَ فِي مَنْزِلِ الأَمْنِ
لَقَدْ شَغَلَتْنَا أُمُّ دفْرٍ بِزُخْرُفٍ ... شُغِلْنَا بِهِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ذِي الْمِنِّ
عَجِبْتُ لِدُنْيًا لا تَسُرُّ وَإِنَّمَا ... تَشُوبُ عَلَى تِلْكَ الْمَسَرَّةِ بِالْحُزْنِ
قال ابن الجوزي: عجبت من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرابة وجيرانه كيف يطيب عيشه خصوصًا إذا علت سنة.
وأعجبًا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه ثم في كل يوم يزيد الناقص.
ففي نظر العاقل على نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان وإن كان ذلك مزعجًا.
ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران.
قلت: ومثله من في بيته لص يلهيه عن اللصوص التي في بيوت الجيران.
وإنه لِمَمَّا يسلي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تكره فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون وفقراء كانوا يصبرون ومحاسبين لأنفسهم يتورعون.
فاستبدل السفهاء عن العقلاء والبخلاء عن الكراماء فيا سهولة الرحيل لعل النفس تلقى من فقدت فتلحق بمن أحبت.
شِعْرًا: ... وَلا تَغُرنكَ أَثْوَابٌ لَهُمْ حَسُنَتْ ... فَلَيْسَ مِنْ تَحْتِهَا فِي حُسْنِهَا حَمَدَا
فَالْقِرْدُ قِرْدٌ وَلَوْ حَلَّيْتَهُ ذَهَبًا ... وَالْكَلْبُ كَلْبٌ وَلَوْ سَمَّيْتَهُ أَسَدَا(3/196)
شِعْرًا: ... فَإِنْ تَكُنْ عَبِثَتْ أَيْدِي النُّذُولِ بِنَا ... وَنَالَنَا مِنْ تَمَادِي بِأْسِهِمْ ضَرَرُ
فَكَمْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ خَضْرَاءِ مُورقَةٌ ... وَلَيْسَ يُرْجَمُ إِلا مَالَهُ ثَمَرُ
آخر: ... عَرِفْتُ أُمُورَ الْوَقْتِ أَمَّا شُرُورُهُ ... فَنَقْدٌ وَأَمَّا خَيْرُهُ فَوُعُودُ
إِذَا كَانَتْ الدُّنْيَا كَذَاكَ فَخَلِّهَا ... وَلَوْ أَنَّ كُلَّ الطَّالِعَاتِ سُعُودُ
آخر: ... تَغَيَّرَ إِخْوَانُ هَذَا الزَّمَانِ ... وَكُلُّ صَدِيق عَرَاهُ خَلَلْ
قَضَيْتُ التَّعَجُّبَ مِنْ بَابِهِمْ ... فَصِرْتُ مُنْتَظِرً لِبَابِ الْبَدَلْ
آخر: ... مََضى الْجُودُ وَالإِحْسَانُ وَاجْتُثَّ أَصْلُهُ
وَأُخْمِدْنَ نِيرَانُ الْوَغَى وَالْمَكَارِمِ
وَصِرْتُ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ النَّاسِ آخَرٍ
يَرَوْنَ الْعُلا وَالْمَجْدَ جَمْعَ الدَّرَاهِمِ
كَأَنَّهُمُوا كَانُوا جَمِيعًا تَعَاقَدُوا
عَلَى الْبُخْلِ وَالإِمْسَاكِ فِي صُلْبِ آدَمِ
اللهم أيقظ قلوبنا ونورها بنور الإيمان وثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا المعرفة بك عن بصيرة وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
في ذِكْرِ المَوْتِ وَالاسْتِعْدَادِ لَهُ
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن مما يتأكد الاستعداد له واستشعار
قربه الموت فإنه أقرب غائب ينتظر وما يدري الإنسان لعله لم يبق من أجله إلا اليسير وهو مقبل على دنياه ومعرض عن آخرته.
ولو لمن يكن بين يديه كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت لكان جديرًا بأن يتنكد ويتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته.(3/197)
إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلا ... وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا
فَاغْتَنِمْ خَصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا ... صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا
وحقيق بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده وهو محتمل أن يقع على الإنسان بغتة كما قيل سهم بيد سواك لا تدري متى يغشاك.
قال لقمان لابنه يا بني أمر لا تدرى متى يلقاك استعد له قبل أن يفجاك.
تُؤَمِّل فِي الدُّنْيَا طَوِيلاً وَلا تَدْرِي ... إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الْفَجْرِ
فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ... وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ عَاشَ دَهْرًا إِلَى دَهْرِ
وقال الآخر:
قَصَّر الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فَدَلِيلُ الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلِ
إِنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ الْمَوْتُ عَلَى ... غِرَّةٍ مِنْهُ جَدِيرٌ بِالْوَجَلْ
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي تلذ له ويأنس بها مع الأولاد وأصدقائه وأقربائه وأخبر أن جنديًا أتى ليحضره ويدعوه إلى أمر الأمور لتنكد وتكدرت عليه لذته وفسد عليه عيشه.
وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع وهو عنه في سهو وغفلة وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور واشتغال القلب بالدنيا.
وقيل في الاستعداد للموت هو أن يتوب الإنسان توبة طاهرة عن الذنوب والخطايا بأن لو قيل له إنك تموت الساعة ما وجد عنده ذنبا يحتاج إلى توبةٍ منه فيسأل النظرة من أجله.
فإن كان يجد ذنبًا يحتاج إلى توبةٍ منه فيسأل النظرة من أجله. كسرقةٍ وغصب مالٍ أو أرض أو غيبة أو معاملة لا تجوز أو يأكل من حرام أو مشتبه.
أو مصرًا على زكاة أو على بعضها أو كاتمًا لأمانة أو لا يشهد الجمعة(3/198)
والجماعة أو عنده من آلات اللهو شيء في بيته أو دكانه كتلفزيون أو سينما أو مذياع أو فيديو.
أو يبيع ويشتري بها أو له أسهم فيما يستمد منه أهل المعاصي تنويرًا أو لتصليح آلات اللهو أو نحو ذلك أو مصرًا على التشبه بالكفرة كحلق لحية أو جعل خنافس أو مصرًّا على شرب خمر أو دخان أو يصور أو يبيع ويشتري بها أو مجالس للفسقة أو الكفرة أو ساكنًا معهم أو في بلادهم أو عنده كفار كخدامين وسواقين ومربين وخياطين.
فإنه لم يستعد للقاء الله عز وجل لأنه لا يستشار ولا يؤخذ رأيه في إخراج روحه والموت يأتيه فجأةً فإن جاءه الموت وذلك الذنب عنده لم يأمن من أن يغضب الله عليه.
وكيف يكون مستعدًا للقاء الله من هو مقيم على ما يغضب الله من المعاصي ولا يأمن أن يأتيه الموت أغفل ما كان والموت آتيه لا محالة صدق الله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} .
شِعْرًا: ... يَا مَنْ تَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّتَهَا ... وَلا تَنَامُ عَنِ اللَّذَاتِ عَيْنَاهُ
شَغَلْتَ نَفْسَكَ فِيمَا لَيْسَ تَدْرِكُهُ ... تَقُولُ للهِ مَاذَا حِينَ تَلْقَاهُ
آخر: ... النَّاسُ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ لا بَقَاءَ لَهُمْ ... لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوا
وقال جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقال جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} إلا أنه ليس للموت وقت معلوم عند الناس فيخاف في ذلك الوقت ويؤمن منه في سائر الأوقات.
شِعْرًا: ... تَغَنَّمْ مِنَ الدُّنْيَا بِسَاعَتِكَ الَّتِي ... ظَفِرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكَ الْعَوَائِقُ
فَلا يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِرَاجِعٍ ... وَلا يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقُ(3/199)
شِعْرًا:
مَنْ كَانَ لا يَطَأ التُّرَابَ بِنَعْلِهِ ... وَطِيءَ التُّرَابُ بِصَفْحَةِ الْخَدِّ
مَنْ كَانَ بَيْنَكَ فِي التُّرَابِ وَبَيْنَهُ ... شِبْرَانِ فَهُوَ بِغَايَةِ الْبُعْدِ
لَوْ كُشِفَتْ لِلنَّاسِ أَغْطِيَةُ الثَّرَى ... لَمْ يُعْرَفِ الْمَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ
فليس يأتي في الشتاء دون الصيف فيخاف من الشتاء ويؤمن في الصيف ولا بالعكس ولا في النهار فيؤمن بالليل ولا بالعكس.
وليس وقت من العمر معلوم عند الناس فيأخذ أبناء الخمسين فيأمنه من دون ذلك وليس له علة دون علة كالحمى والسل فيأمنه من لم يصبه ذلك.
فحق على العالم بأمر الله عز وجل وأنه الذي انفرد بعلم ذلك الوقت أن لا يأمنه في وقت من الأوقات وأن يكون مستعدًا له أتم الاستعداد.
فمن ذكر الموت بفراغ قلب من كل شيء مع ذكره عظيم ما يأتي البشر من العذاب أو بالرحمة مع الاعتبار بالذين مضوا قبله ممن فوقه ودونه وأشكاله وأمثاله من أقارب وأصدقاء وزملاء وأقران وجيران ومشايخ وملوك وأساتذة وإخوان.
ومن فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملوءة بالأكدار والأنكاد والهموم والغموم.
ويحثك ذكر الموت عن حالتي ضيق وسعة ونعمة ومحنة.
فإن كان في حال ضيقه ومحنة فذكر الموت سهل عليه بعض ما هو فيه إذ لا مصيبة إلا الموت أعظم منها وهو ذائقة ولا بد.
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وإن كان في حال سعة ونعمة.
شِعْرًا: ... عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالِهِ ... وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُوَ مُضَيّعُ
وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِ ثَنِيَّةٍ ... مُلْقَى لَهُ بَطْنُ الصَّفَائِحِ مُضَيّعُ
أَتَرَاهُ يَحْسَبُ أَنَّهُمْ مَا أَسَأَرُوا ... وَمِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافْ مَا يَتَجَرَّعُ(3/200)
فذكر الموت يمنعه من الاغترار بالدنيا والركون إليها لتحقق عدم دوامها وتحقق ذهابها عنه وانصرامها.
قال الله جل وعلا وتقدس: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
شِعْرًا: ... أيَا صَاحِ كنْ في شأنْ دُنْيَاكَ هَذِهِ ... غَرِيبًا كَئِيبًا عَابِرًا لِسَبِْيلِ
وعُدَّ مِن أهْلِ القَبْرِ نَفْسَكَ إِنَّمَا ... بَقَاؤُكَ فِيهَا مِنْ أَقَلِّ قَلِيْلِ
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته: أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بغَّض إليك كل فان.
وقال بعض العلماء: الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق ويستكمل جميع أجزائك فكيف تبقى سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعات بك ولكن تدبير الله فوق كل تدبير.
قال بعضهم يرثي أخًا له:
يَا صَاحِبِيْ إِنَّ دَمْعِيْ اليَوْمَ مُنْهَمِلٌ ... عَلى الخُدُوْدِ حَكَاهُ العَارِضُ الهَطِلُ
وَفِي الْفُؤادِ وَفِي الأَحْشَاءِ نَارُ أَسىً ... إِذَا أَلَمَّ بِهَا التِّذْكَار تَشْتَعِلُ
عَلى الأَحِبَّةِ والإِخْوَانِ إِذْ رَحَلُوْا ... إِلَى المقَابِرِ والألْحَادِ وانْتَقَلُوْا
كُنَّا وَكَانُوْا وَكَانَ الشَّمْلُ مُجْتَمِعًا ... وَالدَّارُ آهِلَةٌ َوَالحَبْلُ مُتَّصِلُ
حَدَا بِهِمْ هَادِمُ اللَّذَّاتِ في عَجَلٍ ... فَلَمْ يُقِْيمُوا وَعَنْ أَحْبَابِهِمْ شُغِلُوا
وَلَمْ يَعُوْجُوا عَل أَهْلٍ وَلاَ وَلَدٍ ... كَأَنَّهمْ لَمْ يَكُوْنُوا بَيْنَهَمْ نَزَلُوْا
إِنِّي لأَعْجَبُ لِلدُّنْيَا وَطَالِبهَا ... وَلِلْحَرِيْصِ عَلَيْهَا عَقْلُهُ هَبَلُ
وَغَافِلِ لَيْسَ بالْمَغْفُولِ عَنْهُ وَإِنْ ... طَالَ المَدَى غَرَّهُ الإمْهَالُ وَالأَمَلُ
نَاسٍ لِرِحْلَتِهِ ناَسٍ لِنُقْلَتِهِ ... إِلَى القُبُور التيْ تَعْيَا بِهَا الحِيَلُ(3/201)
فِيْهَا السؤال وَكَمْ هَوْلٍ وَكَمْ فِتَنٍ ... لِلْمُجْرِمِينَ اَلأُلَى عَنْ رَبِّهِمْ غَفَلُوا
وَفِي القُبُوْرِ نَعِيْمٌ لِلتَّقيّ كَمَا ... فِيْهَا العَذَابُ لِمَنْ في دِينِهِ دَخَلُ
قُلْ لِلْحَزِيْنِ الذِيْ يَبْكِي أَحِبَّتَهُ ... ابْكِ لِنَفْسِكَ إِنَّ الأَمْرَ مُقْتَبِلُ
فَسَوْفَ تَشْرَبُ بالكَأْسِ الذِي شَرِبُوا ... بِهَا إِنْ يَكُنْ نَهلٌ مِنْهَا وَإِنْ عَلَلُ
فَاغْنَمْ بَقِيَّةَ عُمْرٍ مَرَّ أَكْثَرُهُ ... فِي غَيْرِ شَيءٍ فَمَهْلاً أَيُّهَا الرَّجُلُ
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل: ثم اعلم ألهمنا الله وإياك الرضا بقضائه وقدره ورزقنا وإياك وجميع المسلمين الاستعداد لما أمامنا أنه ما من مخلوقٍ مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به وخاضع لسلطانه.
ولو جعل الله الخلود لأحد من الخلق لكان الأولى بذلك الأنبياء والرسل المطهرين المقربين.
وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه وخيرته من خلقه سيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.(3/202)
قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} .
فالموت حتم لا محيص ولا مفر منه يصل إلينا في أي مكان كنا قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} .
ولو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه أو قوة في بدنه أو وفرةٍ في ماله أو سعةٍ في سلطانه وملكه لنجا من الموت كثير من الناس.
وإلا فأين عاد وثمود وفرعون ذو الأوتاد أين الأكاسرة وأين القياصرة والصناديد الأبطال ذهبوا في خبر كان.
شِعْرًا: ... سَلِ المَدائِن عَمَّنْ كَانَ يَمْلِكُهَا ... هَلْ أَنَسِتْ مِنْهُمْ مِن بَعْدِهمْ خَبَرا
فَلَوْ أَجَابَتْكَ قَالَتْ وهيَ عَالمةٌ ... بِسِيْرَة الذاهِبِ الماضِي ومَنْ غَبَرَا
أَرَتْهُمْ العِبَرَ الدُنِْيَا فما اعْتَبَرُوا ... فصَيَّرتْهُمْ لِقَوْمٍ بَعْدَهُمْ عِبَرَا
آخر: ... نَبْكِي عَلى الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ ... جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَرَّقُوْا
أَيْنَ الأَكَاسِرَةُ الجَبَابِرَةُ الأُلَى ... كَنَزُوا الكُنُوزَ فمَا بَقَيْنَ وَلا بَقُوْا
مَنْ كُلِّ مَنْ ضَاقَ الفَضَاءُ بِجَيْشِهِ ... حَتَّى ثَوَى فَحَوَاهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ
فَالمَوْتُ آتِ وَالنُّفُوسُ نَفَائِسٌ ... وَالمُسْتَغَرُّ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ
فالموت لا يخشى أحدًا من الخلق ولا يبقي على أحدٍ منهم ويهجم على الكبير والصغير والقوي والضعيف والمعالج والمعالَج والغني والفقير والرئيس والمرؤوس وكل عنده على السوى كما قيل:
هُوَ الموتُ مُثْرٍ عِنْدَهُ مِثْلُ مُعْدِمٍ ... وَقَاصِدُ نَهْجٍ مِثْلُ آخَرَ نَاكِبِ
وَدِرْعُ الفَتَى في حُكْمِهِ دِرْعُ غَادَةٍ ... وَأَبْيَاتُ كَسْرَى مِن بُيُوتِ العَنَاكِبِ
آخر: ... إِذَا نَزَلَ المَقْدُوْرُ لم تُلْفِ لِلْقَطَا ... نُهُوضًا ولا لِلْمُخْدِرَاتِ إِبَاءُ(3/203)
فمتى لزم ذلك وداوم عليه بتدبرٍ وتفكرٍ بقلبٍ حاضرٍ في كل وقت عظمت معرفته بالموت وفجأته وأنه نازل به كما نزل بمن مضى قلبه لا محالة فإذا عظمت معرفته قصر أمله فإذا قصر أمله حذر قلبه من الموت ارتقب فإذا كان مرتقبًا له سارع إلى الاستعداد والاستباق إلى الخيرات قبل الفوات.
لا شَيْءَ يَبْقَى سِوَى خَيْرٍ تُقَدِّمَهُ ... مَا دَامَ مَلْكٌ لإِنْسَان ولا خَلَدَا
فأَمْهِدْ لِنَفْسَكَ وَالأَقْلامُ جَاريةٌ ... وَالتَّوبُ مُقْتَبِلٌ فَاللهِ قَدْ وَعَدَا
ولا بأس بالتداوي إذا وقع به المرض أو وجع بما هو مباح فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاءٍ إلا الهرم فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل شجر» .
وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد «إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت» . فإذا أراد الله الشفاء يسر ذلك للعبد ووفقه لاستعمال الدواء على وجهه وفي وقته فيبرأ بإذن الله.
قال القرطبي على قوله لم يضع له شفاء هذه الكلمة صادقة لأنها خبر عن الصادق المصدوق عن الخالق القدير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فالداء والدواء خلقه والشفاء والهلاك فعله وربط الأسباب بالمسببات حكمته وحكمه فكل بقدرٍ لا معدل عنه.
شِعْرًا:
تَوقِي الدَّاءِ خَيْرٌ مِنْ تَصَدٍّ ... لأَيْسَره وَإنْ قرُبُ الطَّبِيبُ
وقال ابن حجرٍ على قوله جهله من جهله ومما يدخل فيها ما يقع لبعضهم أنه يداوي من داءٍ بدواءٍ فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء فلا ينجح وسببه الجهل بصفةٍ من صفات الدواء فرب مريضين تشابها ويكون أحدهما مركبًا لا ينجح(3/204)
فيه ما ينجح غير المركب فيقع الخطأ وقد يكون متحدًا لكن يريد الله أن ينجح وهنا تخضع رقاب الأطباء ولهذه قال بعضهم:
إِن الَّطبِيْبَ لَذُو عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ ... مَا دَامَ في أَجَلِ الإِنْسَانِ تَأْخِيرُ
حَتىَّ إِذَا مَا انْقَضَتْ أَيَّامُ مُدَّتِِهِ ... حَارَ الطَّبِيبُ وَخَانَتْهُ العَقَاقِيرُ
ومما ورد في الحث على الاستعداد للموت ما يلي:
يا رَاِقدَ الليل مَسْرُوْرًا بأَوْلِه ... إِنَّ الحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقنَ أَسْحَارَا
كَمْ قَدْ أَبَادَتْ صُرُوْفُ الدَّهْرِ مِن مَلِكٍ ... قَدْ كَانَ في الدهرِ نَفَّاعًا وَضَرَّارَا
يَا مَن يُعَانِقُ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ في دُنْيَاهُ سَفَّارَا
هَلا تَرَكْتَ مِن الدُنْيَا مُعَانَقَةَ ... حَتَّى تُعَانِقَ في الفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الخُلْدِ تَسْكُنُهَا ... فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ لا تَأْمَنِ الدَّارَا
قال أبو الحسين الأهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب. ولا تبقي لصاحب. فخذ زادًا من يومك لغدك فلا يبقي يوم عليك ولا غد.
ويقال إنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوبًا هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه:
سَلامٌ على أَهِل القُبورِ الدَّوَارِس ... كَأَنَّهُمُ لَمْ يَجْلِسُوا فِي الْمَجَالِسِ
وَلَمْ يَشْرَبُوا مِن بَارد الْمَاءِ شربةً ... وَلَمْ يَأْكُلُوا مَا بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسِ
فَقَدْ جَاءَنِي الْمَوْتُ الْمَهُولُ بِسَكْرَةٍ ... فَلَم تُغْنِ عَنِّيِ أَلْفُ آلافِ فارِسِ
فَيَا زَائِرَ الْقَبْرِ اتَّعِظْ وَاعْتَبِرْ بِنَا ... وَلا تَكُ فِي الدُّنْيَا هُدِيْتَ بآنِسِ
خراسَانُ نَحْوِيها وأطرافَ فارِسٍ ... وما كُنْتُ عن مُلْكِ العِرَاقِ بآيِسِ
سَلامٌ على الدُنْيَا وطِيْبِ نَعِيمِها ... كَأَنْ لم يَكُنْ يَعُقوبُ فِيها بِجَالِسِ
وأقبل رجل من المقبرة فقيل له من أين جئت فقال من القافلة النازلة قيل له ماذا قلت لهم وماذا قالوا لك.(3/205)
قال: قلت لهم: متى ترحلون؟ قالوا: حين ينتهي القادمون. وقال آخر: أجالس قومًا إن حضرت وعظوني ولم يؤذوني وإن غبت لم يغتابوني يريد الموتى.
وَكَيْفَ أَشِيد فِي يَوْمِي بِنَائِي ... وَأَعْلمُ أَنَّ فِي غَدٍ عَنْهُ ارْتِحَال
فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ فِي مَحَلٍ ... فَإِنَّ الْقَاطِنِين عَلَى ارْتِحَال
آخر: ... زَيَّنْتْ بَيْتَكَ جَاهِدًا وعَمَرْتَهُ ... ولَعَلَّ غَيْرَكَ صَاحَبٌ لِلْبَيْتِ
وَالْمَرْءُ مُرْتَهَنٌ بِسَوفَ ولَيتَنِي ... وَهَلاكُهُ في سَوْفِهِ وَاللَّيْتِ
أَلا أَيُهَا المَغْرورُ في نَومِ غَفْلَةٍ ... تَيَقَّظْ فإنَّ الدَّهَر للناسِ ناصِحُ
فكَمْ نائِم في أوَّلِ الليلِ غَافِلٍ ... أَتَاهُ الرَّدَى في نَوْمِهِ وهو صَابِحُ
فَشْقَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جَيْبَ صَبَاحِهِ ... وقَامَتْ عَلَيْهِ لِلطُّيُورِ نَوَائِحُ
اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا وهب لنا موبقات الجرائر واستر علينا فاضحات السرائر ولا تخلنا في موقف القيامة من برد عفوك وغفرانك ولا تتركنا من جميل صفحك وإحسانك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ثم اعلم أن الإكثار من ذكر الموت مستحب مرغب فيه وله منافع وفوائد جليلة منها تقصير الأمل 2- الزهد في الدنيا 3- القناعة منها باليسير 4- الرغبة في الآخرة 5- التزود للآخرة بالأعمال الصالحة 6- الإعتناء بالوصية والمبادرة فيها 7- الابتعاد عن المعاصي.
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت» . وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: «أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه» .(3/206)
ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الأكياس من الناس من هم؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم له استعداد أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا ونعيم الآخرة» . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا ذكر هاذم اللذات» . يعني الموت فإنه ما كان في كثير إلا جزأه رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلس قوم وهم يضحكون فقال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» . أحسبه قال: «فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعةٍ إلا ضيقه» . رواه البزار بإسناد حسن والبيهقي باختصار.
وفي حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم عليه السلام قال: «كانت عبرًا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح عجبت لم أيقن بالقدر ثم هو ينصب عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لا يعمل» . رواه ابن حبان في صحيحه.
شِعْرًا: ... وجِيرَان صِدْقٍ لا تَزاوُرَ بَيْنَهُمْ ... على قُرْبِ بَعْضٍ التَّجاوُرِ مِنْ بَعْضِ
كَأنَّ خَوَاتِيمًا مِن الطِّينِ فوقهِمْ ... فَلَيْسَ لَهَا حَتَّى القِيَامةِ مِنْ فَضِّ
آخر: ... قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَاتِهَا ... مَنْ مِنْكُمْ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا
وَمَنْ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمْ فِي قَعْرِهَا ... قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوْعَاتِهَا
أَمَّا السُّكُونُ لِذِي الْعُيُونِ فَوَاحِدٌ ... لا يَسْتَبِيْن الْفَضْل فِي دَرَجَاتِهَا
لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخْبَرُوْكَ بِأَلْسُنٍ ... تَصِفُ الْحَقَائِقُ بَعْدَ مِنْ حَالاتِهَا
أمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ فِي رَوْضَةٍ ... يَفْضي إِلَى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا
وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلَّبٌ ... فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إِلَى حَيَاتِهَا
وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوحُهُ ... فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا
آخر: ... وَمَا زَالَتِ الدُّنْيَا طَرِيقًا لِهَالِكٍ ... تَبَايَنُ فِي أَحْوَالِهَا وَتُخَالِفُ
فَفِي جَانِبٍ مِنْهَا تَقُومُ مَآتِمٌ ... وَفِي جَانِبٍ مِنْهَا تَقُومُ مَعَازِفُ(3/207)
ج
فَمَنْ كَانَ فِيهَا قَانِطًا فَهُوَ طَاغِنٌ ... وَمَنْ كَانَ فِيهَا آمِنًا فَهُوَ خَائِفُ
ووجد مكتوب على جدار محلة قديمة بغربي بغداد:
هَذِي مَنَازِلُ أَقْوَامٍ عَهِدتهمُ ... فَي خَفْضِ عَيْشٍ وَعِزّ مَالِهِ خَطَرُ
صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتِ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا ... إِلَى الْقُبُورِ فَلا عَيْنٌ وَلا أََثَرُ
آخر:
تَرَى الَّذِي اتَّخَذَ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا ... لَمْ يَدْرِي أَنَّ الْمَنَايَا عَنْهُ تُزْعِجُهُ
مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مَدْرَجُهُ ... وَالْقَبْرَ مَنْزِلُهُ وَالْبَعْثُ مَخْرَجُهُ
وَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَّاتٍ سَتُبْهِجُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ نَارِ سَتُنْضِجُهُ
فَكُل شَيْءٍ سِوَى التَّقْوَى بِهِ سَمَجٌ ... وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَسْمَجُهُ
وعن أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس إلى قبر منها فقال: «ما يأتي على هذا القبر يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلقٍ طلقٍ يا ابن آدم نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه» . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» . رواه الطبراني في الأوسط.
ثم إن الناس في هذا المقام على أقسام منهم المنهمك في الدنيا المحب لشهواتها فهذا يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت وإن ذكر به كرهه ونفر واشمأز منه وتناساه وربما كره الذي ذكر الموت وتباعد عنه، وقسم منهمك أيضًا وغارق في بحور الدنيا ولا يذكر الموت وإن ذكره فذكره له تأسفًا على دنياه ومفارقتها.
وأقرب علاج لهذا القسم أن يطيلوا التفكر ليلهم ونهارهم في أجل هذه الحياة وهم إذا فكروا في ذلك عرفوا قطعًا أنهم تاركوها ولا بد وليس ذلك بعد مائة سنة بل هم في كل لحظة مهددين بفراق الدنيا مرغمين لا مختارين ويتركون كل شيءٍ وحينئذ يستوي من يملك الملايين والعمارات والقناطير(3/208)
المقنطرة من الذهب والفضة والأراضي والملايين البلايين مما ذكر.
ومن لا يملك منها إلا ثوبه فقط يستويان في أن كلا منهما كأنه لم ير هذا الوجود ولكنهما يختلفان اختلافًا عظيمًا في برزخهما وفي آخرتهما، ومن الدواء النافع لمن أصيب بمرض حب الدنيا أن ينظر بعينه إلى من في المستشفيات من المرضى الذين تنوعت أمراضهم وبود أحدهم لو ملك الدنيا وبذله لمن يشفيه من مرضه أو يخففه عنه.
شِعْرًا: ... مَنْ عَاشَ لَمْ يَخْل مِنْ هَمٍّ وَمِنْ حَزَنٍ ... بَيْنَ الْمَصَائِبِ مِنْ دُنْيَاهُ وَالْمِحَنِ
وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا عَلَى سَفَرٍ ... فَرَاحِلٌ خَلَّفَ الْبَاقِي عَلَى الظَّعَنِ
وَكُلُّنَا بِالرَّدَى وَالْمَوْت مُرْتَهَنٌ ... فَمَا نَرَى فِيهِمِا فَكًا لَمُرْتَهَنِ
آخر: ... وَقُلْ غنَاءٌ عَنْكَ مَالاً جَمَعْتَهُ ... إِذَا كَانَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لاحِدُ
وكذلك ينظر إلى الموتى الذين يموتون كل يوم في المستشفيات وغيرها من مثله في السن وأقل وأكبر وينظر إلى الذين يموتون حوله من أبنائه وإخوانه وأحبابه وجيرانه ومن تقع عليهم عينه قائلاً لنفسه أي فرق بينك وبين هؤلاء فإذا أذعنت واعترفت أنه لا فرق بادرها بقوله إذا ستكونين مثلهم.
فمع تكرار هذا تتبدل حاله بإذن الله وتهون عليه الدنيا ويسهل عليه إخراج الأعمال الخيرية مهما كثرت إن هذا المنظر تنصدع له القلوب انصداعًا لا تهون بها الدنيا فقط ولذلك كان بعض السلف إذا شيع جنازة رجع لا يعي وربما مكث أيامًا مريضًا من هذا الهول الذي نزل به وأذهله حتى عن نفسه قال الشاعر:
وَلَمْ أَرَى كَالأَمْوَاتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا ... وَلا وَاعِظِي جُلاسَهُمْ كَالْمَقَابِرِ
وكيف لا يكون وهو يرى أحد إخوانه جثة هامدة في منتهي(3/209)
الخضوع لمن يودعون في تلك الحفرة المظلمة لا ينازعهم عند إدخالهم له في أي تصرف يتصرفونه فيه وقد كان قبل ذلك تضيق عنه الدنيا على سعتها.
شِعْرًا: ... كُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَقَصْرُكَ الْمَوْت ... لا مَزْ حَلٌ عَنْهُ وَلا فَوْتُ
يَبْنَا غِنَى بَيْتٍ وَبَهْجَتُهُ ... زَالَ الْغِنَى وَتَقَوَّضَ الْبَيْتُ
آخر: ... وَقَبْلُكَ دَاوَى الْمَرِيضَ الطَّبِيبُ ... فَعَاشَ الْمَرِيضُ وَمَاتَ الطَّبِيبُ
فَكُنْ مُسْتَعِدًا لِدَار الْفَنَا ... فَإِنَّ الَّذِي هُوَ آتٍ قَرِيبُ
شِعْرًا: ... لَيْتَ شِعْرِي سَاكِن الْقَبْرِ الْمَشِيدْ ... هَلْ وَجَدْتَ الْيَوْمَ فِيهِ مِنْ مَزِيدْ
وَهَلِ الْبَاطِنُ فِيهِ مِثْل مَا ... هُوَ فِي الظَّاهِرِ تَزْوِيقًا وَشِيدْ
وَهَلِ الْمَضْجَع فِيْهِ لِيِّنٌ ... أَوْ سَعِيرٌ مَا لَهَا فِيهِ خُمُودْ
وَهَلِ الأَرْكَانُ فِيهِ بِالتُّقَى ... نَيِّرَاتٌ أَوْ بِأَعْمَالِكَ السُّودْ
لَيْتَ شِعْرِي سَاكِن الْقَبْرِ الْمَشِيدْ ... أَشْقِيٌّ أَنْتَ فِيهِ أَمْ سَعِيدْ
أَقَرِيب أَنْتَ مِنْ رَحْمَةِ مَنْ ... وَسِعَ الْعَالَمَ إِحْسَانًا وَجُودْ
أَمْ بَعِيدٌ أَنْتَ مِنْهَا فَلَقَدْ ... طُرِقَتْ دَارُكَ بِالْوَيْلِ الْبَعِيدْ
وَلَقَدْ حَلَّ بِأَرْجَائِكَ مَا ... ضَاقَ عَنْهُ كُلَّ مَا فِي ذَا الوُجُودْ
أَيُّهَا الْغَافِلُ مِثْلِي وَإِلَى ... كَمْ تَعَامَى وَتَلوِّي وَتَحِيدْ
أَُدْنُ فَاقْرَأْ فَوْقَ رَأْسِي أَحْرُفًا ... خَرَجَتْ وَيْحَكَ مِنْ قَلْبٍ عَمِيدْ
صَرَعَتْهُ فِكْرَةٌ صَادِقَةٌ ... وَهُمُومٌ كُلَّمَا تَمْضِي تَعُودْ
وَنَدَامَاتٌ لأَيَّامٍ مَضَتْ ... هُوَ مِنْهَا فِي قِيَامٍ وَقُعُودْ
وَغَدًا تَرْجِعُ مِثْلِي فَاتَّعِظْ ... بِي وَإِلا فَامْضِ وَاعْمَلْ مَا تُرِيدْ
قَدْ نَصَحْنَاكَ فَإِنْ لَمْ تَرَهُ ... سَيَرَاهُ بَصَرٌ مِنْكَ حَدِيدْ(3/210)
آخر: ... كَأَنِّي بِنَفْسِي وَهِيَ فِي السَّكَرَاتِي ... تُعَالَج أَنْ تَرْقَى إِلَى اللَّهَوَاتِي
وَقَدْ زُمَّ رَحْلِي وَاسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ... وَقَدْ آذَنَتْنِي بِالرَّحِيلِ حَدَاتِي
إِلَى مَنْزِلٍ فِيهِ عَذَابٌ وَرَحْمَةٌ ... وَكَمْ فِيهِ مِنْ زَجْرٍ لَنَا وَعِظَاتِي
وَمِنْ أَعْيُنٍ سَالَتْ عَلَى وَجَنَاتِهَا ... وَمِنْ أَوْجُه فِي التُّرَابِ مُنْعَفِرَاتِي
وَمِنْ وَارِدٍ فِيهِ عَلَى مَا يَسُرُّهُ ... وَمِنْ وَارِدٍ فِيهِ عَلَى الْحَسَرَاتِي
وقال آخر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْر
آخر: ... الْحَمْدُ للهِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ ... مَاذَا عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سَاهٍ وَمِنْ لاهِ
مَاذَا يَرَى الْمَرْءُ ذُو الْعَيْنَيْنِ مِنْ عَجَبٍ ... عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى اللهِ
آخر: ... إِذَا مَا صَارَ فَرْشِي مِنْ تُرَابٍ ... وَبِتُّ مُجَاوِرَ الرَّبّ الرَّحِيمِ
فَهَنُّونِي أَصيْحَابِي وَقُولُوا ... لَكَ الْبُشْرَى قَدِمْتَ عَلَى الْكَرِيمِ
وقسم تائب يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف فيفي بتمام التوبة وربما يكره الموت خشية أن يختطفه قبل تمام توبته وقبل إصلاح الزاد ولا يدخل هذا تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من كره لقاء الله كره الله لقاءه لأن هذا لا يكره لقاء الله بل يكره فوت لقاءه.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . فقلت: يا نبي الله أكراهية للموت فكلنا يكره الموت. قال: «ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه» .
وفي رواية شريح بن هانئ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من(3/211)
أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قال: فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا إن كان كذلك فقد هلكنا.
فقالت: إن الهالك من هلك بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وليس منا أحدًا إلا وهو يكره الموت» .
فقالت: قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بالذي نذهب إليه ولكن إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه رواه مسلم.
أخرج ابن المبارك وأحمد والطبراني في الكبير عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له.
قلنا: نعم يا رسول الله، قال: «فإن الله يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا ربنا فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك فيقول قد وجبت لكم مغفرتي» .
وأخرج ابن المبارك عن عقبة بن مسلم قال ما من خصلة في العبد أحب إلى الله من أن يحب لقاءه.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال: ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده، حتى إذا كان آخر مرض يمرضه العبد، أتاه ملك الموت عليه السلام.
فقال أتاك رسول بعد رسول ونذير بعد نذير فلم تعبأبه، وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
شِعْرًا: ... أَيْنَ الَّذِينَ عَلَى عَهْدِ الثَّرَى وَطِئُوا ... وَحُكِّمُوا فِي لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاحْتَكَمُوا(3/212)
وَمَلُكِّوا الأَرْضَ مِنْ سَهْلٍ وَمِنْ جَبَلٍ ... وَخَوَّلُوا نِعَمًا مَا مِثْلِهَا نِعَمُ
لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَلَى ظَنِّ الْقُلُوب بِهِمُ ... إِلا رُسُوم قَبُورٍ حَشْوُهَا رِمَم
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل: وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله» . قيل كيف يستعمله قال: «يوفقه بعمل صالح قبل الموت» .
وأخرج أحمد والحاكم عن عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أحب عبدًا عسله» .
قالوا: وما عسله؟ قال: «يوفق له عملاً صالحًا بين يدي أجله حتى يرضى عنه جيرانه» .
(وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ يَوْمًا عَبْدَهُ ... أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ)
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إذا أراد الله بعبد خيرًا بعث إليه قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يموت على خير أحايينه فيقول الناس مات فلان على خير أحايينه.
فإذا حضر ورأى ما أعد الله له جعل يتهوع نفسه من الحرص على أن تخرج فهناك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه» .
وإذا أراد الله بعبده شرا قيض له قبل موته بعامٍ شيطانًا يضله ويغويه حتى يموت على شر أحايينه فيقول الناس قد مات فلان على شر أحايينه.
فإذا حضر ورأى ما أعد الله جعل يتبلع نفسه كراهية أن تخرج فهناك كره لقاء الله وكره الله لقاءه.
وأخرج الطبراني في الكبير وأبو نعيم عن ابن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر تسيل كما تسيل نفس الحمار» .
وإن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه.
وإن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها» .(3/213)
وأخرج ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم قال: إذا بقى على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه من الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة.
وإن الكافر إذا كان قد عمل معروفًا في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم ليصير إلى النار.
وأخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في الكظ عند الموت» .
الكظ الهم الشديد الذي يملؤ الجوف وأخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم عن سلمان الفارسي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أرقبوا الميت عند موته ثلاثًا» .
إن رشحت جبينه وذرفت عيناه وانتشرت منخراه فهي رحمة من الله قد نزلت به.
وإن غط غطيط البكر المخنوق وخمد لونه وأزبد شدقاه فهو عذاب من الله قد حل به.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه والمروزى في الجنائز عن ابن مسعود قال إن المؤمن يبقى عليه خطايا يجازي بها عند الموت فيعرق لذلك جبينه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علقمة بن قيس أنه حضر ابن عمٍ له وقد حضرته الوفاة فمسح جبينه فإذا هو يرشح.
فقال الله أكبر حدثني ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «موت المؤمن يرشح الجبين وما من مؤمن إلا له ذنوب يكافأ بها في الدنيا ويبقى عليه بقية يشدد بها عليه عند الموت» .
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علقمة أنه حضر ابن أخ له لما حضر (أي حضره الموت) فجعل يعرق جبينه فضحك فقيل له ما يضحكك.(3/214)
قال سمعت ابن مسعود يقول: إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر أو الفاجر تخرج من شدقة كما تخرج نفس الحمار.
وإن المؤمن ليكون قد عمل السيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها وإن الكافر أو الفاجر ليكون قد عمل الحسنة فيهون عليه عند الموت.
وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن سفيان قال: كانوا يستحبون العرق للميت قال بعض العلماء إنما يعرق جبينه حياءً من ربه لما اقترف من مخالفته لأن ما سبق منه قد مات.
وإنما بقيت قوى الحياة وحركاتها فيما علا والحياء في العينين.
والكافر في عمى عن هذا كله.
والموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به.
وأخرج ابن أبي الدنيا إسحاق قال قيل لموسى كيف وجدت طعم الموت قال كسفودٍ أدخل في جزة صوف فامتلخ (أي جذب) قال يا موسى قد هون عليك.
وأخرج أحمد في الزهد والمروزي في الجنائز عن أبي مليكة أن إبراهيم لما لقي الله قيل له كيف وجدت الموت قال: وجدت نفسي كأنها تنزع بالسلاسل قيل له قد يسرنا عليك الموت.
وروي أن موسى لما صار روحه إلى الله تعالى قال له ربه يا موسى كيف وجدت ألم الموت قال وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلي لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.
وأخرج الديملي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت وأفضل العبادة التفكر فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة» .
وقال علي رضي الله عنه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ونظم هذا المعنى بعضهم فقال:
وَإِنَّمَا النَّاسُ نِيَامٌ مَنْ يَمُتْ ... مِنْهُمْ أَزَالَ الْمَوْتَ عَنْهُ وَسَنَهُ(3/215)
آخر: ... يَا نَفْسُ إِنِّي قَائِلُ فَاسْمَعِي ... مَقَالَةً مِنْ مُرْشِدٍ نَاصِحِ
مَا صَحِبَ الإِنْسَانَ فِي قَبْرِهِ ... غَيْرُ التُّقَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحِ
آخر: ... ثَنَاءُ الْفَتَى يَبْقَى وَيَفْنَى ثَرَاؤُهُ ... فَلا تَكْتَسِبْ بِالْمَالِ شَيْئًا سِوَى الذِّكْرِ
فَقَدْ مَاتَ أَهْلُ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى ... وَذِكْرُهُمْ غَضُّ جَدِيدُ إِلَى الْحَشْرِ
آخر: ... إِنَّ التُّقَى أَحْلَى الْمَلابِسِ كُلِّهَا ... يَكْسُوا الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَلالا
وَيَحِلُّ صَاحِبَهُ بِأَحْسَنِ مَنْزِلٍ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالأَنَامُ ذُهَالا
آخر: ... وَمَا اغْبِطُ الإِنْسَانِ إِلا أَخَا التُّقَى ... وَمَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ بِالْمَجْدِ أَجْدَرَا
(فَصْلٌ)
وأخرج ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت حتى يحسن ظنه بربه.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن رجاء بن حيوة قال: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الفرح والحسد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال من أكثر ذكر الموت قل حسده وقل فرحه.
وعن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كفى بالموت مزهدًا في الدنيا ومرغبًا في الآخرة.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: من قرب الموت من قلبه استكثر ما في يديه.
وعن الحسن قال: ما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده وهان عليه جميع ما فيها وعن قتادة قال: كان يقال طوبى لمن ذكر ساعة الموت وقال حكيم كفى بذكر الموت للقلوب حياة للعمل.
وقال سميط: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها.
وعن كعب قال من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا.(3/216)
وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقى ربه وهو حسن الظن بالله وإذا كان حيًا فخوفوه.
وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فإن في معالجة جسدٍ خاوٍ موعظة بليغة» .
وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله يتعرض لكل خير
شِعْرًا: ... إِذَا اللهُ لَمْ يُفَرِّجْ لَكَ الشَّكُ لَمْ تَزَلْ ... جَنِيبًا كَمَا اسْتَتْلَى الْجَنِيبَة قَائِدُ
آخر: ... وَمُجرر خَطِيَّة يَوْم الْوَغَى ... مُنْسَابَة مِنْ خَلْفِهِ كَالأَرْقَمِ
تَتَضَاءَلُ الأَبْطَالُ سَاعَة ذِكْرِهِ ... وَتَبِيتُ مِنْهُ فِي إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ
شَرِس الْمُقَادَاةِ لا يَزَالُ رَبِيئةً ... وَمَتَى يُحِسُّ بِنَارِ حَرْبٍ يَقدمِ
تَقَعُ الْفَرِيسَةُ مِنْهُ فِي فَوْهَاءِ إِنْ ... يَطْرَحُ بِهَا صُمُّ الْحِجَارَةِ يَحْطُمِ
ضَمَانَ الدَّمِ لا يَقُومُ بِرَيِّهِ ... إِلا الْمُرُوق فِي الْجُسُومِ مِنَ الدَّمِ
جَاءَتْهُ مِنْ قَبْلِ الْمَنُونِ إِشَارَةٌ ... فَهَوَى صَرِيعًا لِلْيَدِيْنِ وَلِلْفَمِ
وَرَمَى بِمُحْكَمِ دِرْعَهُ وَبِرُمْحِهِ ... وَامْتَدَّ مُلْقَىً كَالْبَعِيرِ الأَعْظَمِ
لا يُسْتَحَب لِصَارِخٍ إنْ يَدْعُهُ ... أَبَدًا وَلا يُرْجَى لِخَطْبٍ مُعَظَّمِ
ذَهَبت بَسَالَتُهُ وَمَرَّ غَرَامُهُ ... لَمَّا رَأَى خَيْلَ الْمَنِيَّةِ تَرْتَمِي
يَا وَيْحَهُ مِنْ فَارِسٍ مَا بَالَهُ ... ذَهَبَتْ فُرُوسَتُهُ وَلَمَّا يكلمِ
هَذِي يَدَاهُ وَهَذِهِ أَعْضَاؤُهُ ... مَا مِنْهُ مِنْ عُضْو غَدًا بِمِثْلمِ
هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَى مُحْتَاجَةٌ ... لِلْمُشِرفِي وَلا السِّنَان اللهذمِ
هِيَ وَيْحَكُمْ أَمْرُ الإِلَهِ وَحُكْمُهُ ... وَاللهُ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ الْمُحْكَمِ
يَا حَسْرَة لَوْ كَانَ يَقْدِرُ قَدْرُهَا ... وَمُصِيبَةٌ عَظُمَتْ وَلَمَّا تَعْظُمِ
خَبَرُ عِلْمِنَا كُلّنَا بِمَكَانِهِ ... وَكَأَنَّنَا فِي حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ(3/217)
اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل: أخرج ابن أبي الدنيا عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم» .
وأخرج أيضًا عن عطاءٍ الخرساني قال: مر رسول الله بمجلس قد استعلاه الضحك فقال: «شوبوا مجلسكم بمكدر اللذات» . قالوا: وما مكدر اللذات. قال: «الموت» .
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن زيد السلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آنس من أصحابه غفلة نادي فيهم بصوتٍ رفيع أتتكم المنية راتبه لازمة إما شقاوة وإما سعادة.
قال بعضهم: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة.
ومن نسى الموت عوقب بثلاث أشياء تسويف التوبة وترك الرضا بالكفاف والتكاسل في العبادة.
أخرج أبو نعيم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لي لا أحب الموت قال لك مال قال نعم.
قال قدمه فإن قلب المؤمن مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به.
وأخرج سعيد بن منصور عن أبي الدرداء قال موعظة بليغة وغفلة سريعة كفى بالموت واعظًا وكفى بالدهر مفرقًا اليوم في الدور وغدا في القبور.
وروى أن سعد بن أبي وقاص تمنى الموت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتمن الموت.
فإن كنت من أهل الجنة فالبقاء خير لك وإن كنت من أهل النار فما يعجلك إليها.(3/218)
وعن أم الفضل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليهم وعمه العباس يشتكي فتمنى الموت فقال له يا عم لا تتمنى الموت.
فإن كنت محسنًا فإن تؤخر وتزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئًا، فإن تؤخر وتستعتب من إسائتك خير لك، فلا تتمنين الموت.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنين أحدكم الموت من قبل أن يأتيه ولا يدع به إلا أن يكون قد وثق بعمله.
وعن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ألا أنبأكم بخياركم» قالوا بلى يا رسول الله قال «أطولكم أعمارًا في الإسلام إذا سددوا» .
وأخرج أحمد وابن زنجوية في ترغيبه عن أبي هريرة قال كان رجلان من حي قضاعة أسلما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة.
قال طلحة بن عبيد الله فرأيت الجنة ورأيت المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد فعجبت من ذلك.
فأصبحت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال «أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة صلاة سنةٍ» .
وأخرج أحمد والبراز عن طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ليس أحد أفضل عند الله تعالى من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله» .
وأخرج أبو نعيم عن سعيد بن جبير قال إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره.
وأخرج بن أبي الدنيا عن إبراهيم بن أبي عبدة قال بلغني أن المؤمن إذا مات تمنى الرجعة إلى الدنيا ليس ذلك إلا ليكبر تكبيرة أو يهلل تهليلة أو يسبح تسبيحية.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك منى السلام.
وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها(3/219)
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وعن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في الجنة قيعان فأكثروا من غراسها» . قالوا: يا رسول الله وما غراسها؟ قال: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» .
واعلم رحمك الله أن مما يعينك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرنك وزملائك وأساتذتك ومشايختك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك.
شِعْرًا: ... وَمُنْتَظِرٌ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... يُشَيِّدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ
لَهُ حِينَ تَبْلَوُه حَقِيقَة مُوِقِنٌ ... وَأَعْمَالُهُ أَعْمَال مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ
عِيَان كَإِنْكَارِ وَكَالْجَهْلِ عِلْمُهُ ... لَمَذْهَبِهِ فِي كُلِّ مَا يُتَيَقَّن
كَانُوا يَحْرِصُونَ حِرْصَكَ وَيَسْعَونَ سَعْيَكَ وَيَأْمَلُونَ أَمَلَكَ ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.
ويتذكر أيضًا ما كانوا عليه من الاعتناء بالملابس ونضافتها ونضرة بشرتهم، وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاءوا من محابهم يتنعمون.
وفي أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، قد خدعتهم الدنيا بزخرفها، وخلبتنم وخدعتنم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.
فلم تزل تقرب لهم بعيدها، وترفع لهم مشيدها، وتلبسهم غضها وجديدها، حتى إذا تمكنت منهم علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشفت لهم حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.(3/220)
فوثبت عليهم وثبت الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قتلة المختنق، فكم عليهم من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقلوب من الفرح والسرور لفقدهم خالية. وانشدوا في هذا المعنى:
وَرَيَّانَ مِنْ مَاءِ الشَّبَابِ إِذَا مَشَى
يَمِيدُ عَلَى حُكْمِ الصِّبَا وَيَمِيدُ
تَعَلَّقَ مِنْ دُنْيَاهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ
خَلُوبًا لأَلْبَابِ الرِّجَالَ تصيدُ
فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيدٍ وَقَائِمٍ
وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدُ
خَلا بِالأَمَانِي وَاسْتَطَابَ حَدِيثَهَا
فَيَنْقُصُ مِنْ أَطْمَاعِهِ وَيَزِيدُ
وَأَدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءَ وَهِيَ بَعِيدَةُ
وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيْءِ وَهُوَ بَعِيدُ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْتِ رَمْيَةٌ
فَرَاحَ بِهَا الْمَغْرُورُ وَهُوَ حَصِيدُ
وَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا
وَعَادَ حَدِيثًا يَنْقَضِي وَيَبِيدُ
كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ لَذَّةً
وَلا طَلَعَتْ فِيهِ عَلَيْهِ سُعُودُ
تَبَارَكَ مَنْ يُجْرِي عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ
فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْهُ مَحِيدُ(3/221)
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
تنبيه
قال القرطبي: لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان إحداهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم وليس ذلك نقصًا ولا عذابًا بل هو كما جاء أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
والثانية أن تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقًا ويرى سهولة خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه.
فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة قال: ألمه مع كرامتهم على الله تعالى قطع الخلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقًا لإخبار الصادقين عنه ما خلا الشهيد في سبيل الله. انتهى.
أخرج الطبراني عن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة» . أخرج ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات وابن منيع في مسنده من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار» .
قلت: بلى. قال: «لا إله إلا الله يحيي ويميت وهو حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والبلاد والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كل حال والله أكبر كبيرًا كبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكان.
اللهم إن كنت أمرضتني لتقبض روحي في مرضي هذا فاجعل روحي في أرواح من سبقت لهم منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الذين سبقت لهم منك الحسنى» .
فإن مت في مرضك ذلك فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قد اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك.
سَبِيلُ الْخَلْقِ كُلُّهُمَ الْفَنَاءُ ... فَمَا أَحَدٌ يَدٌومُ لَهُ الْبَقَاءُ(3/222)
يُقَرِّبُنَا الصَّبَاحُ إِلَى الْمَنَايَا ... وَيُدْنِينَا إِلَيْهِنَّ الْمَسَاءُ
فَلا تَرْكَبْ هَوَاكَ وَكُنْ مُعِدًّا ... فَلَيْسَ مَقْدَار لِكَ مَا تَشَاءُ
أَتَأْمَلُ أَنْ تَعِيشَ وَأَيُّ غُصْنٍ ... عَلَى الأَيْامِ طَالَ لَهُ النَّمَاءُ
تَرَاهُ أَخْضَرَ الْعِيدَانِ غَضًّا ... فَيُصْبِحُ وَهُوَ مُسْوَدٌ غثاءُ
وَجَدْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا غَرُورًا ... مَتَى مَا تَعِط يَرْتَجِعُ الْعَطَاءُ
فَلا تَرْكَنُ إِلَيْهَا مُطْمَئِنًا ... فَلَيْسَ بِدَائِمٍ مِنْهَا الصَّفَاءُ
وَاللهُ أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
قال ابن الجوزي رحمه الله: إخواني إن الذنوب تغطي على القلوب فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم.
يل من أعماله إذا تؤملت سقط، كم أثبت له عمل قلما عدم الإخلاص سقط، يا حاضر الذهن في الدنيا فإذا جاء الدين خلط، يجعل همه في الحساب فإذا صلى اختلط.
يا ساكنا عن الصواب فإذا تكلم لغط، يا قريب الأجل وهو يجري من الزلل على نمط.
يا من لا يعظه وهن العظم ولا كلام الشمط، يا من لا يرعوي ولا ينتهي بل على منهاج الخطيئة فقط، ويحك بادر هذا الزمان فالصحة غنيمة والعافية لقط.
فكأنك بالموت قد سل سيفه عليك واخترط، أين العزيز في الدنيا أين الغني المغتبط، خيم بين القبور، وضرب فسطاطه في الوسط، وبات في اللحد كالأسير المرتبط.
واستبلت ذخائره ففرغ الصندوق والسفط، وتمزق الجلد المستحسن وتمعط الشعر فكأنه ما رجله وكأنه ما امتشط ورضي وراثه بما أصابوه وجعلوا نصبه السخط.(3/223)
وفرقوا ما كان يجمعه بكف البخل والقنط ووقع في قفر لا ماء فيه ولا حنط وكم حدث أن سعد بن معاذٍ في القبر انضغط وكم حذر من المعاصي وأخبر أن آدم زل فهبط.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
آخر: موعظة لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقي فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
قال عمرو بن ذر لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم.
قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السهر وطول التهجد.
فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى الليل بربح وغبن.
فاعملوا في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن الدنيا والآخرة، كم من قائم لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمته حفرته.
قال بعض العارفين ما أحب أن حسابي يوم القيامة يجعل إلى أبوي لأني أعلم وأتيقن أن الله جل وعلا أرحم بي منهم.
شِعْرًا: ... أَفِقْ وَابْكِ حَانَتْ كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ ... أَمَا لِلتُّقَى وَالْحَقّ فِيكَ نَصِيبُ
أَيَا مَنْ لَهُ فِي بَاطِنِ الأَرْضِ مَنْزِلٌ ... أَتَأْنَسُ بِالدُّنْيَا وَأَنْتَ غَرِيبُ
وَمَا الدَّهْرُ إِلا مَرَّ يَوْم وَلَيْلَةٍ ... وَمَا الْمَوْت إِلا نَازِل وَقَرِيبُ
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة(3/224)
السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
أخرج الطبراني عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا: «من قال عند موته لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا تطعمه النار» .
وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم دعاء يونس (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) » .
فَأيما مسلم دعا بها في مرض موته أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد وإن برئ مغفورًا له.
وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» .
واخرج سعيد بن منصور في سنته والمروزى ومسلم وابن أبي شيبة عن أم الحسن قالت: كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال فلان بالموت.
فقالت انطلق فإذا رأيته احتضر فقل: سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وأخرج الترمذي والبيهقي من طريق ابن إسحاق عن ابن عمر رضي الله عنهما قال دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر سعد بن معاذ فاحتبس (أي تأخر في الخروج) فلما خرج قيل يا رسول الله ما حبسك قال ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله أن يكشف عنه.
وأخرج الحكيم الترمذي والبيهقي من طريق بن إسحاق حدثني أمية ابن عبد الله أنه سئل بعض أهل سعد ما بلغكم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في(3/225)
هذا فقالوا ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك فقال كان يقصر في بعض الطهور من البول.
وأخرج هناد بن السري في الزهد عن أبي مليكه قال ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد ابن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها.
وأخرج أيضا الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين دفن سعد بن معاذ: «إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله أن يرفعه عنه بأنه كان لا يستبرئ من البول» الاستبراء (استفراغ بقية البول) .
وأخرج ابن سعد المقبري قال: لما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ قال: «لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد ولقد ضم ضمة اختلف فيه أضلاعه من أثر البول» . قلت: ينبغي للإنسان أن يلاحظ نفسه من جهة الاستبراء من البول لما سمعت من خطره.
قال أبو القاسم السعدي في كتاب الروح لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح غير أن الفرق بين المسلم والكافر دوام الضغطة للكافر.
وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره ثم يعود إلى الأنفساح له فيه.
قال والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت وقال الحكيم الترمذي سبب هذه الضغطة أنه ما من أحدٍ إلا وقد ألم بخطيئة وإن كان صالحًا فجعلت هذه الضغطة جزاءً له ثم تدركه الرحمة ولذلك ضغط سعد بن معاذٍ في التقصير من البول.
وقال السبكي في بحر الكلام المؤمن المطيع لا يكون له عذاب القبر ويكون ضغطة القبر.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد التيمي قال كان يقال إن ضمة القبر(3/226)
إنما أصلها أنها أمهم ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة.
فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضم الوالدة غاب عنها ولدها ثن قدم عليها فمن كان لله مطيعًا ضمته برأفةٍ ورفق ومن كان عاصيًا ضمته بعنفٍ سخطًا عليه لربها.
وأخرج البيهقي وابن مندة والديلمي وابن النجار عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إنك منذ يوم حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني شيء.
قال «يا عائشة إن أصوات منكر ونكير في سماع المؤمنين كالإثمد في العين، وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز رأسه غمزًا رفيقًا.
ولكن يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يضغطون في قبورهم كضغطة الصخرة على البيضة» . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فوائد ومواعظ
قال بعضهم: من فعل سيئة فإن عقوبتها تدفع عنه بعشرة أسباب.
أحدها: أن يتوب فيتاب عليه.
ثانيًا: أن يستغفر فيغفر له.
ثالثًا: أن يعمل حسنات فتمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات.
رابعًا: أن يبتلى في الدنيا بمصائب فتكفر عنه.
خامسًا: الضغطة والفتنة فتكفر عنه.
سادسًا: دعاء إخوانه المسلمين واستغفارهم له.
سابعًا: أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه.
ثامنًا: أو يبتلى في عر صات القيامة بأهوال تكفر عنه.(3/227)
تاسعًا: أو تدركه شفاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
عاشرًا: أو رحمة ربه التي وسعت كل شيء.
موعظة: يخشى على أهل الملاهي والمنكرات والمجالسين لأصحابها من سوء الخاتمة.
أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وأبو نعيم عن مجاهد قال ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر وإن كان من أهل اللهو فمن لأهل اللهو.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن يزيد بن عجرة وهو صحابي رضي الله عنه قال ما من ميتٍ يموت حتى يمثل له جلساؤه عند موته إن كانوا أهل لهو فأهل لهو وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر.
وأخرج البيهقي في الشعب عن الربيع بن برة وكان عابدًا بالبصرة قال أدركت الناس بالشام وقيل لرجل قل: لا إله إلا الله قال: اشرب واسقني.
وقيل لرجل بالأهواز يا فلان قل لا إله إلا الله فجعل يقول ده يا زده.
وقيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل لا إله إلا الله فجعل يقول:
يَا رُبَّ قَائِلَة يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ ... أَيْنَ الطَّرِيق إِلَى حَمَّامِ منجَابِ
انتهى. أ. هـ.
والقائل رجل طلبت منه امرأة أن يدلها على حمام منجاب فدلها إلى منزله وذهب يأتي بشيء ونسي إغلاق بابه فخرجت وقد تعلق قلبه بها فجعل يدور في الأسواق ويردد هذا البيت فمر ببيتها فقالت من داخل بيتها وهو يسمع.
الرِّزْقُ إِذَا نَفَدَ لَهُ رُبٌّ يُخْلِفُهُ ... وَالْعِرْضُ إِذَا نَفَدَ مِنْ أَيْنَ يَنْجَابُ
فَمَاتَ وهو يردد هذا البيت نسأل الله حسن الخاتمة وأن يكون ختام الصحيفة شهادة إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأن محمد عبده ورسوله.(3/228)
شِعْرًا: ... كَمْ آيَةٍ للهِ شَاهِدَةٌ ... بِأَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي محمد علي قال ما من ميتٍ يموت إلا مثل له عند موته أعماله الحسنة وأعماله السيئة فيشخص إلى حسناته ويطرق عن سيئاته. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل: أخرج ابن أبي شيبة والمروزى عن جابر بن يزيد قال: يستحب إذا حضر الميت (أي حضره الموت) أن يقرأ سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه.
وكان يقال قبل أن يموت الميت بساعة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم اغفر لفلان بن فلان، ويرد عليه مضجعه، ووسع عليه قبره، وأعطه الراحة بعد الموت، وألحقه بنبيه.
وتول نفسه، وصعد روحه في أرواح الصالحين، واجمع بيننا وبينه في دار تبقى فيها الصحة ويذهب عنا فيها النصب واللغوب، ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكرر ذلك حتى يقبض.
وعن ابن أبي شيبة والمروزي عن الشعبي قال كانت الأنصار يقرؤن عند الميت سورة البقرة.
وأخرج أبو نعيم عن قتادة في قوله تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} قال مخرجا من شبهات الدنيا ومن الكرب عند الموت ومن مواقف يوم القيامة.
أخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن الورد قال بلغنا أنه ما من ميتٍ يموت حتى يتراءى له ملكاه اللذان كان يحفظان عليه عمله في الدنيا.
فإن كان صحبهما بطاعة الله قالا جزأك الله عنا من جليس خيرًا فرب مجلس صدق قد أجلستناه وعملٍ صالحٍ قد، أحضرتناه وكلام حسنٍ قد أسمعتناه فجزأك الله عنا من جليس خيرًا.(3/229)
وإن كان صحبهما بغير ذلك مما ليس لله فيه رضاه قلبا عليه الثناء فقالا لا جزأك الله عنا من جليس خيرًا.
فرب مجلس سوءٍ قد أجلستناه، وعمل غير صالح قد أحضرتناه، وكلام قبيح قد أسمعتناه.
فلا جزأك الله عنا من جليس خيرًا قال فذلك شخوص بصر الميت إليهما ولا يرجع إلى الدنيا أبدًا.
وأخرج عن سفيان قال بلغني أن العبد المؤمن إذا أحتضر قال ملكاه اللذان كانا معه يحفظانه أيام حياته عند رنة أهله دعونا فلنثن على صاحبنا بما علمنا منه.
فيقولان رحمك الله وجزأك الله من صاحب خيرًا إن كنت لسريعًا إلى طاعة الله بطيئًا عن معصية الله وإن كنت لمن نأمن غيبك فنعرج فلا تشغلنا عن الذكر مع الملائكة.
وإذا أحتضر العبد السوء فرن أهله وضجوا قام الملكان فقالا دعونا فلنثن بما علمنا منه فيقولان جزأك الله من صاحب شرًا.
إن كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصيته، وما كنا نأمن غيبك، ثم يعرجان إلى السماء.
وأخرج ابن جرير ولبن المنذر في تفسيرهما عم ابن جريج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة إذا عاين المؤمن الملائكة.
قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان قدمًا إلى الله (أي تقدموا بي تقدما إلى الله) .
وأما الكافر فيقولون له نرجعك إلى الدنيا فيقول {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} .
وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن الربيع بن خيثم في قوله تعالى {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} .(3/230)
قال هذا له عند الموت وتخبأ له في الآخرة الجنة.
وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ.
قال هذا عند الموت وتخبأ له في الآخرة النار.
أخرج أحمد والبراز والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا فأتي موسى فلطمه ففقأ عينيه» .
فأتى ربه فقال يا رب عبدك موسى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لشققت عليه. قال اذهب إلى عبدي فقل له فليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة وارت يده سنه.
فأتاه فقال ما بعد هذا قال الموت قال فالآن قال فشمه فقبض روحه ورد الله إليه عينيه، فكان يأتي الناس خفية.
أخرج ابن أبي الدنيا في القبور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من ميتٍ يوضع على سريره فيخطى به ثلاث خطوات إلا تكلم بكلام يسمعه من شاء الله إلا الثقلين الإنس والجن.
يقول يا أخوتاه ويا حملة نعشاه لا تغرنكم الدنيا كما غرتني، ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي.
خلفت ما تركت لورثتي، والديان يوم القيامة يخاصمني ويحاسبني، وأنتم تشيعوني وتدعوني (أي تتركوني) .
أخرج الترمذي وأبو النعيم وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من إنسان إلا له بابان في السماء، باب يصعد عمله فيه، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات العبد المؤمن بكيا عليه» .
وأخرج أبو النعيم عن عطاء الخرساني قال ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعةٍ من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا عن محمد بن قيس قال بلغني أن(3/231)
السموات والأرض يبكيان على المؤمن تقول السماء مازال يصعد إلى منه خير وتقول الأرض مازال يفعل علي خيرا.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} .
شِعْرًا:
أَلا إِنَّ السِّبَاقَ سِبَاقَ زُهْدٍ ... وَمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سِبَاقِ
وَيَفْنَى مَا خَوَاهُ الْمُلْكِ أَصْلاً ... وَفِعْلَ الْخَيْرِ عِنْدَ اللهِ بَاقِ
سَتَأْلَفُكَ النَّدَامَةُ عَنْ قَرِيبٍ ... وَتَشْهَقُ حَسْرَة يَوْم الْمَسَاقِ
أَتَدْرِي أَيُّ الْيَوْم فَكِّرْ ... وَأَيْقَنَ أَنَّهُ يَوْم الْفُرَاقِ
فُرَاقٌ لَيْسَ يَشْبَهُهُ فُرَاقٌ ... قَدِ انْقَطَعَ الرَّجَاءُ عَنِ التَّلافِي
شِعْرًا:
إِلَى كَمْ ذَا التَّرَاخِي وَالتَّمَادِي ... وَحَادِي الْمَوْتِ بِالأَرْوَاحِ حَادي
فَلَوْ كُنَّا جَمَادًا لاتَّعَظْنَا ... وَلَكِنَّا أَشَدُّ مِنَ الْجَمَادِ
تُنَادِينَا الْمَنِيَّةُ كُلَّ وَقْتٍ ... وَمَا نُصْغِي إِلَى قَوْلِ الْمُنَادِي
وَأَنْفَاس النُّفُوسِ إِلَى انْتِقَاصٍ ... وَلَكِنِ الذُّنُوب إِلَى ازْدِيَادِ
إِذَا مَا الزَّرْعُ قَارَنَهُ اصْفِرَارُ ... فَلَيْسَ دَوَاؤُهُ غَيْرَ الْحَصَادِ
كَأَنَّكَ بِالْمَشِيبِ وَقَدْ تَبَدَّى ... وَالأُخْرَى مُنَادِيهِ يُنَادِي
وَقَالُوا قَدْ مَضَى فَاقْروا عَلَيْهِ ... سَلامُكُمُوا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِي
آخر:
أَبَدًا تَفَهُّمُنَا الْخُطُوبُ كُرُورَهَا ... وَنَعُودُ فِي عَمَهٍ كَمَنْ لا يَفْهَمُ(3/232)
تَلْقَى مَسَامِعْنَا الْعِظَاتِ كَأَنَّمَا ... فِي الظِّلِ يَرْقَم وَعْظِهِ مَنْ يَرْقَمُ
وَصَحَائِفُ الأَيَّامِ نَحْنُ سُطُورُهَا ... يَقْرَأُ الأَخِيرُ وَيُدْرَجُ الْمُتَقَدِّمُ
لَحْدٌ عَلَى لَحْدٍ يُهَال ضَرِيحُهُ ... وَبِأَعْظُمٍ رَمَمٌ عَلَيْهَا أَعْظُمُ
مَنْ ذَا تَوَفَّاهُ الْمَنُونُ وَقَبْلَنَا ... عَادٌ أَطَاحَهُمْ الْحَمَامُ وَجَرَّهُمُ
وَالتَُّبَعَانِ تَلاحَقَا وَمُحَرِّقٌ ... وَالْمُنْذِرَانِ وَمَالِكٌ وَمُتَمِّمُ
آخر: ... مَا حَالَ مَنْ سَكَنَ الثَّرَى مَا حَالَهُ ... أَمْسَى وَقَدْ قَطَعَتْ هُنَاكَ حِبَالَهُ
أَمْسَى وَلا رُوحُ الْحَيَاةِ يُصِيبُهُ ... يَوْمًا وَلا لُطْف الْحَبِيبِ يَنَالُهُ
أَمْسَى وَحِيدًا مُوحِشًا مُتَفَرِّدًا ... مُتَشَتِّتًا بَعْدَ الْجَمِيعِ عِيَالُهُ
أَمْسَى وَقَدْ دَرَسَتْ مَحَاسِنُ وَجْهُهُ ... وَتَفَرَّقَتْ فِي قَبْرِهِ أَوْصَالُهُ
وَاسْتَبْدَلَتْ مِنْهُ الْمَجَالِسُ غَيْرَهُ ... وَتَقَسَّمَتْ مِنْ بَعْدَهُ أَمْوَالُهُ
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لمصالحنًا واعصمنًا من قبائحنًا وذنوبنًا ولا تؤاخذنًا بما انطوت عليه ضمائرنًا واكنته سرائرنًا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
(فَصْلٌ)
أخرج أبو نعيم وابن منده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء» .
وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذ مات لأحدكم الميت فأحسنوا(3/233)
كفنه وعجلوا بانجاز وصيته وأعمقوا له في قبره وجنبوه الجار السوء» .
قيل: يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؟ قال: «هل ينفع في الدنيا» . قال نعم. قال: «كذلك ينفع في الآخرة» .
أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس إلى قبرٍٍٍٍٍٍٍٍ.
فقال: ما يأتي على هذا القبر من يومٍ إلا وهو ينادي بصوت طلق ذلق.
يا ابن آدم كيف نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحدة، وبيت الغربة، وبيت الوحشة، وبيت الدود، وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» .
وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم والترمذي وأبو يعلي والحاكم في الكني والطبراني في الكبير وأبو نعيم عن أبي الحجاج الثمالي. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول القبر للميت حين يوضع فيه ألم تعلم ويحك أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود، يا ابن آدم ما غرك بي إذ كنت تمر علي فدادًا.
فإن كان مصلحًا أجاب عنه مجيب القبر فيقول: أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقول القبر إذا أتحول عليه خضرًا ويعود جسده نورًا وتصعد روحه إلى الله تعالى» .
أخرج البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا بلغت الجنازة القبر فجلس الناس فلا تجلس ولكن قم على شفير القبر فإذا دلي في قبره فقل:
بسم الله وعلى ملة رسول الله اللهم هذا عبدك نزل بك وأنت خير منزول به خلف الدنيا خلف ظهره فاجعل ما قدم عليه خيرًا مما خلف فإنك قلت {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} .(3/234)
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة قال: كانوا يستحبون إذا دفنوا الميت أن يقولوا بسم الله وعلى ملة رسول الله اللهم أجره من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن شر الشيطان الرجيم.
وأخرج ابن ماجه والبيهقي في سننه عن ابن المسيب قال: حضرت بن عمر رضي الله عنهما في جنازة إبنة له فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله فلما أخذ في تسوية اللحد قال اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر فلما سوي الكثيب عليها قام جانب القبر ثم قال: اللهم جاف الأرض عن جنبيها وصعد روحها ولقها منك رضوانا ثم قال سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أنه كان يقول بسم الله وفي سبيل الله اللهم افسح في قبره ونور له فيه وألحقه بنبيه.
وأخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن العلاء بن الجلاح قال: قال أبي يا بني إذا وضعتني في لحدي فقل بسم الله وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم سن على التراب سنًا ثم أقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك.
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا مات أحدكم فلا تحسبوه وأسرعوا به إلى قبره.
وليقرأ عند رأسه فاتحة الكتاب لفظ البيهقي فاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في قبره.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف على القبر بعد ما يسوى عليه فيقول:(3/235)
اللهم نزل بك صاحبنا وخلف الدنيا خلف ظهره اللهم ثبت عند المسألة منطقة ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به.
أخرج ابن ماجه عن البراء كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس على شفير قبره فبكى وأبكى حتى بل الثرى ثم قال «يا أخوتي لمثل هذا فأعدوا.
اللهم نجنا برجمتك من النار وعافنًا من دار الخزي والبوار وادخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
أخرج الديلمي والخطيب وأبو نعيم وابن عبد البر في التمهيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قال في كل يوم مائة مرة لا إله إلا الله الملك الحق المبين كان له أمانًا من الفقر وأنسًا في وحشة القبر وفتحت له أبواب الجنة» .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال من قرأ سورة الملك كل ليلة عصم من فتنة القبر ومن واظب على قول الله تعالى {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} سهل الله عليه سؤال منكر ونكير.
وأخرج أبو الفضل في عيون الأخبار بسنده عن عمر مرفوعًا «من نور في مساجد الله نور الله له في قبره، ومن أراح فيه رائحًة طيبًة أدخل الله عليه في قبره من روح الجنة.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ميمونة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا ميمونة تعوذي بالله من عذاب القبر، وإن من أشد عذاب القبر الغيبة والبول» .
شِعْرًا: ... أَمِنْ بَعْدِ مَثْوَى الْمَرْءِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... إِلَى ضَيْقِ مَثْوَاهُ مِنَ الأَرْضِ يُسْلَمُ
وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الضِّيقِ وَالضِّيق فُرْجَةُ ... إِلَى ذَاكَ إِنَّ اللهَ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ(3/236)
شِعْرًا:
قَدْ رَجَّلُونِي وَمَا بِالشَّعْرِ مِنْ شَعَثٍ ... وَأَلْبَسُونِي ثِيَابًا غَيْرَ أَخْلاقِ
وَرَفَّعُونِي وَقَالُوا أَيُّمَا رَجُلٍ ... وَأَدْرَجُونِي كَأَنِّي طَيُّ مِخْرَاقِ
وَأَرْسَلُوا فِتْيَةً مِنْ خَيْرِهِمْ حَسَبًا ... لِيُسْنِدُوا فِي ضَرِيحِ الْقَبْرِ أَطْبَاقِي
وَقَسَّمُوا الْمَالَ وَارْفَضَّتْ عَوَائِدَهُمْ ... وَقَالَ قَائِلُهُمْ مَاتَ ابْنُ حَذَّاقِ
هَوِّنْ عَلَيْكَ وَلا تُولَعْ بِإِشْفَاقِ ... فَإِنَّمَا مَالُنَا لِلْوَارِثِ الْبَاقِي
آخر: ... وَكَيْفَ أَشِيدُ فِي يَوْمِي بِنَاءً ... وَأَعْلَمُ أَنَّ فِي غَدٍ عَنْهُ ارْتِحَالِي
فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ فِي مَحَلٍّ ... فَإِنَّ الْقَاطِنِينَ عَلَى احْتِمَالِ
آخر: ... أَخِي مَا بَالُ قَلْبُكَ لَيْسَ يَنْقَى ... كَأَنَّكَ لا تَظُنُّ الْمَوْتَ حَقَّا
أَلا يَا ابْنَ الَّذِينَ فَنَوْا وَبَادُوا ... أَمَا وَاللهِ مَا ذَهَبُوا لِتَبْقَى
وَمَا لِلنَّفْس عِنْدَكَ مِنْ مُقَامٍ ... إِذَا مَا اسْتَكْمَلَتْ أَجَلاً وَرِزْقَا
وَمَا أَحَدٌ بِزَادِكَ مِنْكَ أَحْظَى ... وَلا أَحَدٌ بِذَنْبِكَ مِنْكَ أَشْقَى
وَلا لَكَ غَيْرَ تَقْوَى اللهِ زَادٌ ... إِذَا جَعَلَتْ إِلَى اللَّهَوَاتِ تَرْقَى
آخر: ... أَتَغْفُلُ يَا ابْنَ أَحْمَدَ وَالْمَنَايَا ... شَوَارِع يَخْتَر مِنْكَ عَنْ قَرِيبِ
أَغَرَّكَ أَنْ تَخَطَتْكَ الرَّزَايَا ... فَكَمْ لِلْمَوْتِ مِنْ سَهْمٍ مُصِيبِ
كُؤوسُ الْمَوْتِ دَائِرَاتٌ عَلَيْنَا ... وَمَا لِلْمَرْءِ بُدٌّ مِن نَّصِيبِ
إِلَى كَمْ تَجْعَل التَّسْوِيفَ دَأْبًا ... أَمَا يَكْفِيكَ أَنْوَارُ الْمَشِيبِ
أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّكَ كُلَّ حِينٍ ... تَمُرُّ بِقَبْرِ خِلٍّ أَوْ حَبِيبِ
كَأَنَّكَ قَدْ لَحِقْتَ بِهِمْ قَرِيبًا ... وَلا يُغْنِيكَ أَفْرَاحُ النَّحِيبِ
آخر:
إِذَا كَمَلتْ لِلْمَرْءِ سِتُّونَ حَجَّةً ... فَلَمْ يُحْضَ مِنْ سِتِّينَ إِلا بِسُدْسِهَا(3/237)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ النِّصْفَ بِالنَّوْمِ حَاصِلٌ ... وَتَذْهَبُ أَوْقَاتُ الْمَقِيلِ بِخُمْسِهَا
وَتَأْخُذُ أَوْقَاتُ الْهُمُومِ بِحِصَّةٍ ... وَأَوْقَاتِ أَمْرَاضِ تُمِيتُ بِمَيِّتِهَا
فَحَاصِلُ مَا يَبْقَى لَهُ سُدْسُ عُمْرِهِ ... إِذَا صَدَقَتْهُ النَّفْسُ عَنْ عِلْمِ حَدْسِهَا
آخر:
اسْعَدْ بِمَالِكَ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّمَا ... يَبْقَى وَرَاءَكَ مُصْلِحٌ أَوْ مُفْسِدُ
فَإِذَا تَرَكْتَ لِمُفْسِدٍ لَمْ يُبْقِهِ ... وَأَخُو الصَّلاحِ قَلِيلُهُ يَتَزَيَّدُ
فَإِنْ اسْتَطَعْتَ فَكُنْ لِنَفْسِكَ وَارِثًا ... إِنَّ الْمُوَرِّثَ نَفْسَهُ لِمُسَدَّدُ
آخر: ... كُلُّ مَالٍ لِلْبِرِّ مِنْ أَيْدِي بَاذِلِيه ... فَهُوَ لِلْوَارِثِ وَالْوِزْرُ عَلَى مُكْسِبِيهِ
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عذاب القبر من ثلاثة من الغيبة، والنميمة، والبول، فإياكم وذلك» .
وأخرج عن قتادة قال عذاب القبر ثلاثة أثلاث ثلث من الغيبة وثلث من النميمة وثلث من البول.
أخرج الطبراني وأبو يعلى والبيهقي وفي الشعب والاصبهاني في الترغيب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت، ولا في قبورهم، ولا في نشورهم» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أخبرني جبريل أن لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته، وفي قبره، وحين يخرج من قبره» .
وقال ابن رجب في كتاب أهل القبور قد يكرم الله بعض أهل البرزخ(3/238)
بأعمالٍ صالحة في البرزخ وإن لم يحصل له بذلك ثواب لانقطاع عمله بالموت.
لكنه يبقى عمله عليه، ليتنعم بذكر الله وطاعته كما تنعم بذلك الملائكة، وأهل الجنة بالجنة وإن لم يكن على ذلك ثواب.
لأن نفس الذكر والطاعة أعظم نعيم عند أهلها من جميع نعيم أهل الدنيا ولذتها فما تنعم المتنعمون بمثل طاعة الله وذكره.
وقال ابن رجب وحدثني المحدث أبو الحجاج يوسف بن محمد السريري وكان رجلاً صالحًا وأراني موضعًا من قبور سامرا فقال هذا الموضع لا نزال نسمع منه سورة «تَبَارَكَ الْمُلْكُ» .
وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده عن عيسى بن محمد الظوماري قال: رأيت أبا بكر بن مجاهد المقري في النوم كأنه يقرأ وكأني أقول له أنت ميت وتقرأ.
فكأنه يقول لي كنت أدعو الله في دبر كل صلاة وعند ختم القرآن أن يجعلني ممن يقرأ في قبره فأنا أقرأ في قبري.
وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نمت فرأيتني في الجنة» .
ولفظ النسائي دخلت الجنة فسمعت صوت قارئ يقرأ فقلت من هذا قال حارثة بن النعمان فقال رسول الله: «كذاك البر، كذاك البر، كذاك البر، وكان أبر الناس بأمه» .
واخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أراني في الجنة فبينما أنا فيها سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا قالوا حارثة بن النعمان» . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كذاك البر، كذاك البر، كذاك البر» .
شِعْرًا:
يَحُولُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ قُصُور ... مُزَخْرَفَةٍ إِلَى بَيْتِ التُّرَابِ(3/239)
فَيُسْلَمَ فِيهِ مَهْجُورًا فَرِيدًا ... أَحَاطَ بِهِ شَحُوبُ الاغْتِرَابِ
وَهَوْلُ الْحَشْرِ أَفْظَعُ كُلِّ أَمْرٍ ... إِذَا دُعِيَ ابْنُ آدمَ لِلْحِسَابِ
وَأَلْفَى كُلَّ صَالِحَةٍ أَتَاهَا ... وَسَيِّئَةٍ جَنَاهَا فِي الْكِتَابِ
لَقَدْ آنَ التَّزَوُّدُ إِنْ عَقَلْنَا ... وَأَخْذُ الْحَظِّ مِنْ بَاقِي الشَّبَابِ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعاتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب
في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مداواة مرض القلب واجبة وهي تأتي من وجوهٍ كثيرةٍ جدا نشير إلى بعضها.
أحدها وهي من أنفعها العزلة المصحوبة بالاشتغال بالعلوم النافعة.
فبالعزلة يتقيد الظاهر عن مخالطة من لا تصلح مخالطته ومن لا يأمن دخول الآفات عليه بصحبته.
فيتخلص من المعاصي التي يتعرض لها بالمخالطة مثل الغيبة والمداهنة والتملق والرياء والتصنع.
ويحصل له بذلك السلامة من مسارقة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة.
ويحصل بذلك أيضا صيانة دينه ونفسه عن التعرض للخصومات وأنواع الشرور والفتن.
فإن النفس تولعًا وتسرعًا إلى الخوض في مثل هذا.
فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن السؤال عن أخبار الناس وما هم(3/240)
مشغولون فيه وما هم منهمكون فيه ومنكبون عليه من القيل والقال مما لا فائدة فيه وضرره يزيد وربما أنه ضرر خالص.
وقال آخر وإذا هممت بالباطل وما لا فائدة فيه فاجعل مكانه تسبيحًا وتهليلاً.
وينبغي أن يصون سمعه عن الإصغاء إلى أراجيف البلدان وما شملت عليه من الأحوال التي تضر ولا تنفع.
وليحرص على أن لا يأتيه من شأنه التطلع والبحث عن شؤونه وأحواله كأصحاب المقابلات والمولعين بأكل لحوم الغوافل.
وليجتنب صحبة من لا يتورع في منطقه ولا يضبط لسانه عن الاسترسال في دقائق الغيبة والتعرض بالطعن على الناس والقدح فيهم.
فإن ذلك مما يكدر صفاء القلب ويؤدي إلى ارتكاب مساخط الرب.
فليهجره وليفر منه من الأسد ولا يجتمع معه في مكان البتة.
وفي الخبر «مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه» .
وفي الأخبار السالفة أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «يا ابن عمران كن يقظانًا وارتد لنفسك ‘خوانًا وكل أخٍ أو صاحب لا يؤازرك على مبرتي فهو لك عدو» .
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال له «يا داود مالي أرك منتبذًا وحدانيًا» فقال إلهي قليت الخلق من أجلك.
فقال «يا داود كن يقظانًا وارتد لنفسك أخدانًا وكل خدنٍ لا يوافقك على مبرتي فلا تصحبه فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني» .
قال الشاعر:
فَخِفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ ... كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ وَالسَّبنْتَا(3/241)
وَخَلاطُهُمْ وَزَايِلْهُمْ حِذَارًا ... وَكُنْ كَالسَّامِرِيِّ إِذَا لُمِسَْتَا
وروي عن عيسى عليه السلام «لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم» قيل من الموتى قال «المحبون للدنيا الراغبون فيها وبالابتعاد عن الناس إلا لضرورة أو حاجة ماسة ينكف بصر الإنسان عن النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها وزخرفها» .
وينصرف خاطره عن الاستحسان على ما ذمه الله منها فتمتنع بذلك النفس عن التطلع إلى الدنيا والاستشراف لها ومنافسة أهلها فيها.
قال جل وعلا وتقدس {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} الآية. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
قال بعض العلماء: من علامات إتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات وهذه حال كثير من الناس.
فترى الواحد منهم يهتم للنوافل ويكثر منها والفروض ما يهتم لها تجده يصوم مثلاً البيض والاثنين والخميس ولا تجده لسانه عن القذف والغيبة والكذب.
ولا يفتش على نفسه بدقةٍ فتجد عنده عقوق والدين أو قطيعة رحم أو أكل من مشتبه أو يعامل في الربا أو في شركات تتعامل مع البنوك في الربا أو يبيع ويشتري في المحرمات كآلات الملاهي وتصليحها.
ومن ناحية الزكاة تجده يخرجها إلى من يتقاضى منه خدمًه أو يدفعها إلى من تجب عليه نفقته أو لمن يهدي إليها أو يتسامح معه في المعاملة أو نحو ذلك.
ومن قبل الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي التي إذا صلحت وأديت تماما صلح سائر الأعمال فلا تجده يعتني بها.
ويحرص على تحضير قلبه لها وطرد الأفكار التي تخل بأدائها ولا يعني بمعرف معني ما يتلو.(3/242)
المهم أنه مع ذلك لا تجده مستدركا لما فرط فيه ولا لما أهمله وما ذاك إلا أنهم لم يشتغلوا بالتفتيش والتفقد لأنفسهم التي خدعتهم ولم يحلفوا بمجاهدة أهوائهم التي استرقتهم وملكتهم.
ولو اشتغلوا في تصليح ذلك لكان لهم فيه أعظم شغلٍ ولم يجدوا فسحًة واسعًة لشيء من النوافل.
قال بعض العلماء من كانت النوافل والفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع.
وقال آخر: هلاك الناس في اثنين اشتغال بنافلة وتضييع فريضة.
وعمل بالجوارح بلا مواطاة القلب وإنما حرموا الوصول بتضييع الأصول.
وقال آخر: «انقطع الخلق عن الله بخصلتين إحداهما أنهم طلبوا النوافل وضيعوا الفرائض» .
والثانية «أنهم عملوا أعمالاً بالظاهرة ولم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها والنصح لها ولا يقبل العمل إلا بالصدق وإصابة الحق» .
وقال آخر: أفضل شيء للعبد معرفته بنفسه ووقوفه على حده وإحكامه لحالته التي أقيم فيها وابتداؤه بالعمل بما افترض الله عليه واجتنابه لما نهى الله عنه بعلم يرشده في جميع ذلك.
وقال آخر: أنعم الله عليك فيما أمرك به من الطاعات المؤقتة بالأوقات بنعمتين عظيمتين.
إحداهما تقيدها لك بأعيان الأوقات لتوقعها فيها فتفوز بثوابها ولولا التوقيت لسوفت بها ولم تعمل بها حتى تفوت فيفوتك ثوابها.
والنعمة الثانية توسيع أوقاتها عليك ليبقى لك نصيب من الاختيار حتى تأتى الطاعات في حال سكون وتمهل من غير حرج ولا ضيق.
اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة معتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى(3/243)
وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
واعلم أن الله جل وعلا وتقدس غني عن خلقه لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم وأن التكاليف كلها إنما أوجبها عليهم لما يرجع إليهم من مصالحهم لا غير.
فمن وفقه الله ونور بصيرته وشرح صدره وكتب في قلبه الإيمان وبغض إليه العصيان لم يقتصر على الفرائض واجتناب النواهي.
بل يضيف إلى ذلك المبادرة إلى أعمال الطاعات والمسارعة إلى نوافل العبادات وفعل الخيرات.
وقال: واعلم رحمك الله أنا تلمحنا الواجبات فرأينا الحق جل وعلا جعل في كل ما أوجبه تطوعًا من جنسه في أي الأنواع كان.
ليكون ذلك التطوع من الجنس جابرًا لما عسى أن يقع من خلل في قيام العبد بالواجبات.
وكذلك جاء في الحديث «أنه ينظر في مفروض صلاة العبد فإن نقص منها شيء كمل من النوافل» .
فافهم رحمك الله هذا واجتهد ولا تكن مقتصرًا على ما فرض الله عليك بل لتكن عزيمة وناهضة قوية توجب اجتهادك وإكبابك على معاملة الله فيما يجب وفيما يسن.
ففي الحديث ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه (الحديث) .
ولو كان العباد لا يجدون في موازينهم إلا فعل الواجبات وثواب ترك المحرمات لفاتهم من الخير والمنة ما لا يحصره حاصر ولا يحرزه حارز.
فسبحان من فتح لعباده باب المعاملة وهيء لهم أسباب المواصلة(3/244)
فالموفقون أهل الفهم والمعرفة جعلوا الأوقات كلها وقتًا واحدًا والعمر كله نهجًا إلى الله تعالى قاصدًا.
وعلموا أن الوقت كله لله فلم يجعلوا منه شيئًا لغيره.
جعلوا أوقاتهم في طاعة الله فعلاً ونية. وقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
علموا أن الأنفاس أمانات عندهم وودائع لديهم.
وعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا همهم لحفظها وأدائها.
قال بعضهم إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ حمق وجهل ووجه ذلك: أولاً أنه إيثار للدنيا على الآخرة، وليس هذا من شأن عقلاء المؤمنين وهو خلاف ما طلب منك قال الله جلا ولعلا وتقدس {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
والثاني أن تسويف العمل إلى آوان الفراغ غلط لأنه قد لا يجد مهلة بأن يختطفه الموت قبل ذلك.
أو يزداد شغله لأن أشغال الدنيا يتداعى بعضها إلى بعضه كما قيل:
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَلا انْتَهَى أربٌ إِلا إِلَى أَرَب
والثالث أنه ربما يفرغ منها إلى الذي لا يرضيه من تبدل عزمه وضعف نيته.
المهم أن الواجب عليه المبادرة إلى الأعمال الصالحة على أي حالٍ كان.
شِعْرًا:
مَنْ كَانَ يُوحِشَهُ تَبْدِيلُ مَنْزِلِهِ ... وَأَنْ تَبَدَّلَ مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبِهَا ... عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِنْ هَا هُنَا وَهُنَا
مَاذَا يَقُولُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَته ... فَرْدًا وَقَدْ فَارَقَ الأَهْلِينَ وَالسَّكَنَا
هُنَاكَ يَعْلَمُ قَدْرَ الْوَحْشَتَيْنِ وَمَا ... يَلْقَاهُ مَنْ بَاتَ بِاللَّذَاتِ مُرْتَهَنَا(3/245)
يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ ... وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا
وَلَمْ أَعِدُّ مَكَانًا لِلنُّزُولِ وَلا ... أَعْدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غِرَّةً وَمُنَا
إِنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوَالَى جُودُهُ أَبَدَا ... وَيَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِنْ طَالِبِيهِ دَنَا
فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الْجُودِ وَاكِفَةٌ ... سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ وَالْمِنَنَا
آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وِحْشَتَنَا ... وَأَلْطُفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا
نَحْنُ الْعُصَاةَ وَأَنْتَ اللهَ مَلْجَؤُنَا ... وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا
فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأْسِهَا وَشِدَّتِهَا ... أَوْلَى فَمْنَ ذَا الَّذِي فِيهَا يَكُونُ لَنَا
فائدة: قال بعض العلماء أصل كل معصية وشهوة الرضا عن النفس لأنه أصل جميع الصفات المذمومة وعدم الرضا عن النفس أصل الصفات المحمودة وذلك لأن الرضا عن النفس يوجب تغطية عيوبها ومساويها وقبائحها فيصير قبيحها حسنا كما قيل:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
آخر: ... وَنَفْسُكَ أَكْرِمْ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ ... فَمَا لَكَ نَفْسُ بَعْدَ مَا تَسْعِيرُهَا
وَلا تَقْربِ الأَمْرَ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ ... حَلاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا
آخر: ... تَوَّقْ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوَائِلهَا ... فَالنَّفْس أَخْبَثْ مِنْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا
وعدم الرضا عن النفس على العكس من هذا لأن العبد إذ ذاك يتهم نفسه ويتطلب عيوبها ولا يغتر بما يظهر من الطاعة والانقياد
شِعْرًا: ... أَلا أَيًّهَا السَّؤُومُ تَنَبَّهِي ... وَأَلْقِي إِلَيَّ السَّمِعَ إِلْقَاءَ جَازِمَهْ
ضَلال لأَذْهَان وَظَنّ مُكَذبٌ ... رَجَاؤُكَ أَنْ تَبْقَى عَلَى الدَّهْرَ سَالِمَهْ
وَقَدْ غَصَّ بِالْكَأْسِ الْكَرِيهة أَحْمَدٌ ... وَمَاتَ فَمَاتَ الْحَقُ إِلا مَعَالِمَهْ
آخر: ... إِذَا مَا أَجَبْتَ النَّفْسَ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ ... دَعَتّكَ إِلَى الأَمْرِ الْقَبِيحِِ الْمُحَرَّمِ(3/246)
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يا رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من رضي عن نفسه استحسن حالها وسكن إليها ومن استحسن حال نفسه وسكن إليها استولت عليه الغفلة.
وبالغفلة ينصرف قلبه عن التفقد والمراعاة لخواطره فتثور حينئذٍ دواعي الشهوة على العبد.
وليس عنده من المراقبة والملاحظة والتذكير ما يدفعها به ويقهرها.
فتصير الشهوة غالبة له بسبب ذلك ومن غلبته شهوته وقع في المعاصي.
وأصل ذلك كله رضاه عن نفسه ومن لم يرض عن نفسه لم يستحسن حالها ولم يسكن إليها.
ومن كان بهذا الوصف كان متيقظًا منتبهًا للطوارئ وبالتيقظ والنبيه يتمكن من تفقد خواطره ومراعاتها.
وعند ذلك تخمد نيران الشهوة فلا يكون لها غلبة ولا قوة فيضعف العبد حينئذ بصفة العفة.
فإذا صار عفيفًا كان مجتنبًا لكل ما نهاه الله عنه محافظًا على جميع ما أمره به هذا هو معنى الطاعة لله عز وجل وأصل هذا كله عدم الرضا عن نفسه.
فإذا يجب على الإنسان أن يعرف نفسه ويلزم من ذلك عدم الرضا عنها وبقدر تحقق العبد في معرفة نفسه يصلح له حاله ويعلوا مقامه.(3/247)
وكان العلماء المخلصون يذمون نفوسهم ويتهمونها ولا يرضون عنها.
قال بعضهم من لم يهتم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروها فهو مغرور ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
وكيف يرضى عنها عاقل وهي الأمارة بالسوء وقال بعض العلماء لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها لك في طاعة الله.
وقال آخر: ما رضيت عن نفسي طرفة عين.
وقال آخر: إن من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما أنزجر النصف الآخر ولا أحسبني إلا منهم.
وقال آخر: فائدة الصحبة إنما هي للزيادة في الحال وعدم النقصان فيها فإياك وصحبة من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.
فصحبة من يرضى عن نفسه وإن كان عالمًا شر محض ولا فائدة فيها لأن علمه في الغالب غير نافع له.
وجهله الذي أوجب رضاه عن نفسه صار غاية الضرر لأنه فاته العلم الذي يريه عيبه حتى لا يرضى عن نفسه الأمارة بالسوء.
وقال ابن القيم رحمه الله لما ذكر النفس الامارة بالسوء قال منها أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قولٍ وعملٍ قبيح.
ومن وصفه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها.
فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها وأن لا يكله إليها طرفة عين فإنه إن(3/248)
وكله إليها هلك فما هلك من هلك إلا حيث وكل إلى نفسه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحصين بن المنذر «قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي» وفي خطبة الحاجة «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» وقد قال تعالى {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} .
فمن عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها ففضل من الله من به عليها لم يكن منها كما قال تعالى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} .
وقال تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا في النفس ولا بها.
ولكن هو الذي من بهما بسببهما من الراشدين {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بمن يصلح لهذا الفضل ويزكوا عليه وبه ويثمر عنده حكيم فلا يضعه عند غير أهله انتهى بتصرف يسير.
فعلى العاقل اللبيب محاسبة نفسه دائمًا والمحاسبة هي مطالعة القلب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.
فأجعل ذنوبك نصب عينيك فإن غفلت عنها اجتمعت بسرعةٍ وكثرت.
وتأمل وفكر فلو أنك وضعت في كل معصيةٍ تحدثها حجرًا في دارك لامتلأ بيتك في مدة يسيرةٍ.
فمثلاً عندك غيبة أو عندك كذب أو عندك رياء أو عندك عقوق أو قطيعة رحم أو ظلم لمسلم أو لنفسك أو لأهلك أو لأولادك أو الجيران أو تعامل معاملة لا تجوز.(3/249)
أو عندك كفار خدام أو سواقين أو عندك ملاهي كالتلفاز والفيديو أو عنك صور أو تشرب الدخان أو حلق لحية أو إسبال أو تشبه بكفار أو سفر لبلادهم.
أو لك أولاد يدرسون عندهم برضا منك أو أكلك وشربك ولبسك من شركاتٍ تتعامل بالربا أو أن عملك لا تؤديه كاملاً مكملاً وتأخذ ما عليه كاملاً.
أو لا تتنسخ من الزكاة أو نحو ذلك مما لا يحصره العد.
فتيقظ وحاسب نفسك وفتش عليها بدقةٍ وأسأل الله الحي القيوم أن يتجاوز عنك.
فَإِنْ تَنْجَ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ ... وَإِلا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيا
قال تبارك وتعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} قيل إن هذه الآية أعظم آية في المؤاخذة.
ولما نزلت بكى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس يرحم أبا عبد الرحمن وإن الله تبارك وتعالى يقول {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} .
وقال ابن القيم رحمه الله: فمن له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يبق له نظره في سيئاته حسنًة البتة فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف.
لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تشترى بها النجاة من عذاب الله فضلاً عن الفوز بعظيم ثوابه.
فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفًا له معه وقت شاهد منة الله عليه ومجرد فضله وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك.(3/250)
فهو دائمًا مشاهد لمنة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلبها رآها وهذا من أجل أنواع المعارف وأنفعها للعبد.
ولذلك كان سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» .
فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه العالم به إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه والاعتراف بأنه عبده الذي ناصيته بيده وفي قبضته لا مهرب له منه ولا ولي له سواه.
ثم التزم الدخول تحت عهده وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن ذلك بحسب استطاعتي لا بحسب أداء حقك فإنه غير مقدور للبشر إنما جهد المقل وقدر الطاقة.
ومع هذا فأنا مصدق بوعدك ثم انزع إلى الاستعاذة والاعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك وأنا أقر لك والتزم وأبخع بذنبي.
فمنك المنة والإحسان والفضل ومني الذنب والإساءة فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي وأن تعفيني من شره إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلهذا كان هذا الدعاء سيد الاستغفار.
وهو متضمن لمحض العبودية فأي حسنة تبقى للبصير الصادق مع مشاهدته عيوب نفسه وعمله ومنة الله عليه فهذا هو الذي يعطيه نظره إلى نفسه ونقصه. أ. هـ.
قال بعض الزهاد: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل.
شِعْرًا: ... النَّاسُ كُلُّهمُ لِلْعِيدِ قَدْ فَرِحُوا ... وَقَدْ فَرِحْتُ أَنَا بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ(3/251)
النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلْعِيدِ قَدْ صَبَغُوا ... وَقَدْ صَبَغْتُ ثِيَابَ الذُّلِّ وَالْكَمَدِ
النَّاسُ كُلُّهُمُ لِلْعِيدِ قَدْ غَسَلُوا ... وَقَدْ غَسَلْتُ أَنَا الدَّمْعِ لِلْكَبَدِ
وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله تعالى وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
وفي الحديث أبي طلحة أنه لما شغله الطين في صلاته فتدبر شغله فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندمًا ورجاءً لعوض مما فاته وتأديبًا لنفسه.
المهم أن يعلم العبد أن أعدى عدو له نفسه التي بين جنبيه وقد خلقت أمارة بالسوء أمارة بالشر فرارة من الخير.
والإنسان مأمور بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن لذتها وشهواتها المهلكة.
فإن أهملها شردت وجمحت ولم يظفر بها ذلك وإن لازمها بالتوبيخ والتقريع والمعاتبة والعذل والملامة ولم عن تذكيرها وعتابها اعتدلت بإذن الله تعالى.
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وَرَاعِهَا وَهِيَ فِي الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ الْمَرْعَى فَلا تُسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِي أَنَّ السُّمِ فِي الدَّسَمِ
فالعاقل اللبيب من يوبخ نفسه ويعاتبها ويوضح لها عيوبها كلها ويقرر عندها جهلها وحماقتها فإنها إذا أراد الله تعذر وترعوي وترجع.
فيقول لها: ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والفطنة وأنت من أجهل الناس وأحمقهم.
وأكبر برهان على ذلك إهمالك واستهانتك أما تعرفين ما بين يديك من الأهوال والعظائم والمزعجات والمخاوف.
أما تقرئين وتسمعين قول القائلين وأوفى الواعدين وأقدر القادرين: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} .(3/252)
.. يَوْم الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانٍ
يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِق الْوِلْدَانِ
وقوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} . الآية.
وقوله عز من قائل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} . الآية وقوله جل وعلا: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} .
وقوله تبارك وتعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} .
وقوله جل وعلا: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} .
ونحو هذه الآيات المخوفة ثم يقول لنفسه: فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم وبين يديك إحدى منزلتين الجنة أو النار فكيف يهنؤك نوم أو يلذ لك مأكول أو مشروب وأنت لا تدرين في أي الفرقين تكونين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}
وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَكَانَيْنِ تَنْزِلُ
وقل لها: أما تعلمن أن كل ما هو آت قريب وأن العيد ما ليس آت.
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة وأنه لا يأتي في الشتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتي في الصبا دون الكبر ولا في الكبر دون الصبا.
بل كل نفس يمكن أن يأتيها الموت بغتة فإن لم يأت الموت بغتة جاءه المرض لا محالة ثم المرض يفضي إلى الموت.
فمالك يا نفس لا تستعدين والموت أقرب إليك من حبل الوريد.
فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء.(3/253)
فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها.
وختامًا فالعاقل من بذل وسعه في التفكير التام وعلم أن دار الدنيا رحلة فجمع للسفر رحلة.
فمبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية.
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا الدُّنْيَا بِدَائِمَةٍ ... وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثْلَ النَّاسِ مَغْرُورُ
وَلَوْ تَصَوَّرَ أَهْلُ الدَّهْرِ صُورَتَهُ ... لَمْ يُمْسِ مِنْهُمْ لَبِيب وَهُوَ مَسْرُورُ
فدار الإقامة للمؤمن هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا منها إلى دار الدنيا.
فالواجب علينا الاجتهاد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى وفي مثل هذا قيل:
فَحَيَّ عَلَى عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
آخر: ... تَرَكْتُ هَوَى لَيْلَى وَسُعْدَى بِمَعْزِل ... وَعُدْتُ إِلَى تَصْحِيحِ أَوْلَ مَنْزِلِ
وَنَادَتْ بِي الأَشْوَاقُ مَهْلاً فَهَذِهِ ... مَنَازِلُ مَنْ تَهْوَى رُوَيْدَكِ فَانْزِلِ
ثم اعلم أن مقدار السير في الدنيا ويقطع بالأنفاس كما قيل:
وَمَا نَفْسُ إِلا يُبَاعد مَوْلِدًا ... وَيُدْنِي الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ فَتَقْرَبُ
ويسير الإنسان في هذه الدنيا سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل:
وَإِنَّا لِفِي الدُّنْيَا كَرَكْبِ سَفِينَةٍ ... تَظُنُّ وَقُوفًا وَالزَّمَانُ بِهَا يَجْرِي
ويقول آخر:
نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
آخر: ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَرْكَبُ كَارِهًا ... عَلَى النَّعْشِ أَعْنَاقَ الْعِدَا وَالأَقَارِبَ(3/254)
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فَصْلٌ: اعلم أيها الأخ أن جميع مصيبات الدنيا وشرورها وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل.
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.
وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل: (من سره زمن ساءته أزمان) .
وقال بعض العلماء لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط به فيها وأعطي حاجته منها.
لأنه يتوقع أفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده.
أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه.
فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت.
بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره.
وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه.
وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد.
تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا.
سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفًا وترضى بكل بدلاً.
شِعْرًا: ... بِأَمْرِ دُنْيَاكَ لا تَغْفَلْ وَكُنْ حَذِرًا ... فَقَدْ أَبَانَتْ لأَرْبَابِ النُّهَى عِبرا
فَأَيُّ عَيْشٍ بِهَا مَا شَابَهَ غَيْرٌ ... وَأَيُّ صَفْوٍ تَنَاهَى لَمْ يَصِرْ كَدَرا
كَمْ سَالَمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى ... حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّتِهَا وَطَرا(3/255)
وَمُتْرَف قَلَبْت ظَهْرا الْمَجَنِّ لَهُ ... فَعَادَ بَعْدَ عُلُو الْقَدْرِ مًحْتَقَرا
فَأَبَعْدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفْهَا ... وَغُضْ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرا
فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ ... كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقِي لَهُ أَثَرَا
وَاصْحَبْ وَصِلّ وَوَاصِلْ كُلَّ أَونَةٍ ... عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطِرا
وَصَحْبِهِ وَمَنِ اسْتَهْدِي بِهَدْيِهُمُوا ... فَهُمْ أَئِمْة مِنْ صَلَى وَمَنْ ذَكَرا
ثم علم أيها الأخ أن من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة.
فبركة العمر أن يرزق الله العبد من الفطنة واليقظة ما يحمله على الجد والاجتهاد على اغتنام أوقات عمره وانتهاز فرصة إمكانه.
فيبادر إلى الأعمال القلبية والأعمال البدنية ويستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية وكل ذلك في عمره قصير وزمن يسير.
والخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إلى الله جل وعلا.
ومن الخذلان أيضًا أن تصدق العوائق والشواغل عن التوجه إلى الله تعالى.
والواجب عليك أن تبادر إلى التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة وأن ترمي بالعوائق والشواغل خلف ظهرك.
شِعْرًا:
مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ مُعَدِّلا ... وَأَصْبَحْتَ فِي يَوْمٍ عَلَيْكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنْتَ بِالأَمْسِ اقْتَرَفْتَ جِنَايَةً ... فَثَنِّي بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
وَلا تَرْجُ فَعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
وقد قيل سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة والعاقل من بادر إلى الأعمال الصالحة قال الشاعر حاثًا على اغتنام الوقت:(3/256)
وَخُذْ مِنْ قَرِيبٍ وَاسْتَجِبْ وَاجْتَنِبْ غَدًا ... وَشَمِّرْ عَنْ السَّاقِ اجْتِهَادًا بِنَهْضَةِ
وَكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فَالْمَقْتُ فِي عَسَى ... وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهِيَ أَخْطَرُ عِلَّةِ
وَسِرْ زَمَنًا وَانْهَضْ كَسِيرًا فَحَظُّكَ الْ ... بَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْمًا لِصِحَّةِ
وَجُذَّ بِسَيْفِ الْعَزْمِ سَوْفَ فَإِنْ تَجُدْ ... تَجِدْ نَفْسًا فَالنَّفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ
ثم أعلم أيها الأخ الحريص على حفظ وقته عن الضياع أنه إن قلت أشغالك وقلت عوائقك ثم قعدت عن الجد والاجتهاد فيما يقربك إلى الله من أنواع الطاعات أن هذا هو الخذلان أعاذنا الله منه.
ففراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة لمن وفقه الله اغتنامها فصرفها في الباقيات الصالحات والويل لمن كفر هذه النعمة بان فتح على نفسه باب الهوى وانجر في قياد الشهوات.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرون إلا فقرا منسيَا أو غني مضغيَا أو مرضًا مفسدا أو هرمًا مفندَا أو موتًا مجهزَا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» .
وقال بعضهم: الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له فالقلب الخالي من الفكرة خالي من النور مظلم بوجود الجهل والغرور.
ففكر الزاهدين في فناء الدنيا واضمحلالها وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدًا فيها.
وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطًا عليه ورغبة فيه.
وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون نشاطًا في جميع أنواع العبادة ويذدادون محبة لله وشكرًا له وحمدًا على نعمه التي لا تعد ولا تحصى قال جل وعلا وتقدس: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا}
شِعْرًا: ... مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبَا ... أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا
لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى ... وَلَعَلَّ عُمْرُكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا
وَمَضَى الْحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا ... وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا(3/257)
وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ ... وَبَدَا بِغَسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا
فَغُسلْتَ ثُمَّ كُسِتْتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى ... وَدَعُوا لِحَمْلِ سَرِيرَكِ الإِخْوَانَا
وَأَتَاكَ أَهْلَكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدّعُوا ... وَجَتْ عَلَيْهِمَ دُمُوعَهُمْ غُدْرَانَا
فَخَفِ الإِلَهَ فَإِنَّهُ مَنْ خَافَهُ ... سَكَنَ الْجِنَانُ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا
جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبِيدُ نَعِيمُهَا ... أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا
وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى ... تَشْوِي الْوُجُوهَ وَتُحْرِقُ الأَبْدَانَا
نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا ... كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا
(فَصْلٌ)
ثم اعلم أنه ليس ذكر الموت النافع هو أن يقول الموت فقط فإن هذا قليل الفائدة بل لا بد مع ذلك من تفكر بقلب فارغ عن الشهوات واستحضار لحاله عند الموت وأهواله وشدائده وسكراته ويتفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن أعاننا الله على ذلك وجميع المسلمين.
حتى قالوا: إنه أشد من الضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من المفرق إلى القدم ليستل الروح منها.
فلا تسأل عن كربه وألمه ولذلك لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الكرب حيث قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة أما العقل فقد غشيه وشوشه.
وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه والأطراف فقد ضعفها ووهنها وخدرها فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خوارًا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه واربد وجهه حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله.
وقد جذب منه كل عرق على حدته فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى(3/258)
ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه. وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان وتخضر أنامله فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه.
ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجًا فتبرد أولاً قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم فعند ذلك ينقطع عن الدنيا وأهلها وتعظم حسرة المفرط ويندم حيث لا ينفعه الندم.
هَوُ الْمَوْتُ لا مَنْجَى مِنَ الْمَوْتِ وَالَّذِي ... نُحَاذِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَدْهَى وَأَفْظَعُ
آخر: ... دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ كَانَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ... وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَابْكِهَا يَا مُذْنِبٌ
وَاذْكُرْ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ ... لا بُدَّ يُحْصِي مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ
لَمْ يَنْسَهُ الْمَلَكَانِ حِيْنَ نَسِيتَهُ ... بَلْ أَثْبَتْاهَ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ
وَالرُّوحُ فِيكَ وَدِيعَةٌ أَوْدَعْتَهَا ... سَتُرْدِهَا بِالْغُرْمِ مِنْكَ وَتُسْلَبُ
وَغَرُورُ دُنْيَاكَ الَّتِي تَسْعَى لَهَا ... دَارٌ حَقِيقَتُهَا مَتَاعٌ يَذْهَبُ
وَالليْلُ فَاعْلَمْ وَالنَّهَارُ كِلاهُمَا ... أَنْفَاسُنَا فِيهَا تُعَدُّ وَتُحْسَبُ
وَجَمِيعُ مَا خَلَّفْتُهُ وَجَمَعْتُهُ ... حَقَّا يَقِينًا بَعْدَ مَوْتِكَ يُنْهَبُ
تَبًا لِدَارٍ لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... وَمُشَيِّدُهَا عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ
وَعَوَاقِبُ الأَيَّام فِي غُصَاتِهَا ... مَضَضٌ يذلُّ لَهَا الأَعَزُّ الأَنْجَبُ
فَعَلَيْكَ تَقْوَى اللهِ فَالْزَمْهَا تَفُزْ ... إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْبَهِيُّ الأَهْيَبُ
وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا ... إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهُ مُقَرَّبُ
وَاقْنَعْ فِفِي بَعْضِ الْقَنَاعَةِ رَاحَةٌ ... وَالْيَأْسُ مِمَّا فَاتَ فَهُوَ الْمَطْلَبُ
وَاخْتَرْ قَرِينَكَ وَاصْطَفيه تَفَاخُرًا ... إِنَّ الْقَرِينَ إِلَى الْمُقَارِنُ يُنْسَبُ
َدَعْ الْكَذُوبَ فَلا يَكُنْ لَكَ صَاحِبًا ... إِنَّ الْكَذُوبَ لَبِئْسَ خَلا يَصْحَبُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ ... فَالْمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانُ وَيُعْطَبُ
وَزِنِ الْكَلامَ إِذَا نَطَقْتَ وَلا تَكُنْ ... ثِرْثَارَةً فِي كُلِّ نَادٍ تَخْطُبُ(3/259)
وَارْعَ الأَمَانَةَ وَالْخِيَانَةَ فَاجْتَنِبْ ... وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطِيبُ الْمَكْسَبُ
وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةِ اللَّئِيم فَإِنَّهُ ... يُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الأَجْرَبُ
وَاحْذَرْ مِنْ الْمَظْلُومِ سَهْمًا صَائِبًا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُ لا يُحْجَبُ
فَاحْفَظْ هُدِيتَ نَصِيحَةً أَوْلاكَهَا ... بَرٌّ نَصُوحٌ لِلأَنَامِ مُجَرَّبٌ
صَحِبَ الزَّمَان وَأَهْلهُ مُسْتَبْصِرًا ... وَرَأَى الأُمُورَ وَمَا تَؤُوبُ وَتَعْقَبُ
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومما يعين على الاستعداد للموت ذكر مرارته كما فهمته مما سبق ومما يأتي وقد سماه - صلى الله عليه وسلم - هاذم اللذات وتفكر في الموتى الذين حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة ولا على زيادة حسنة.
ولو قلت لهم: تمنوا وأنطقهم الله لقالوا: نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعة الله لا يريدون ذهبًا ولا فضةً ولا بستانًا ولا فلةً ولا عمارة. ولتعجب منا ومن حالنا وتفريطنا وانهماكنا في الدنيا.
ومما يعين على الاستعداد للموت أيضًا ذكر الموت من فتنة القبر وعذابه أو نعيمه والبعث والحشر والحساب والصراط والميزان والحوض والشفاعة والجنة والنار وما أعد الله لأهلهما أجمالاً وتفصيلاً.
مر رجل على رجل جالسًا في المقابر فقال ما أجلسك هنا فقال:
يَشْتَاقُ كُلُّ غَرِيبٍ عَنْدَ غُرْبَتِهِ ... وَيَذْكُرُ الأَهْلَ وَالْجِيرَانَ وَالسَّكَنَا
وَلَيْسَ لِي وَطَنٌ أَمْسَيْتُ أَذْكُرُهُ ... إِلا الْمَقَابِرَ إِذْ كَانَتْ لَهُمْ وَطَنًا
شِعْرًا: ... مَا زِلْتُ أَفْجَعُ بِالأَحِبَّةِ كُلُّهُمْ ... وَفَنَاءُ نَفْسِي فِي الْحَقِيقَةِ أَفْجَعُ
فَوَدِّعْ خَلِيلَ النَّفْسِ قَبْلَ فُرَاقِهِ ... فَمَا النَّاسُ إِلا ظَاعِن وَمُوَدَّعُ(3/260)
آخر: ... أَبْقَيْتُ مَالَكَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ ... فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أُبْقِي لَكَ الْمَال
الْقَومُ بَعْدَكَ فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ ... فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ حَالَتْ بِكَ الْحَالُ
مَالُوا لِبُكَاءٍ فَمَا يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ ... وَاسْتَحْكَمْ الْقِيلَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَال
آخر: ... اشَتْاقُ أَهْلِي وَأَوْطَانِي وَقَدْ مَلَكْتُ ... دُونِي وَأَفْنَى الرَّدَى أَهْلِي وَأَحْبَابِي
فَاسْتَرِيحُ إِلَى رُؤْيَا الْقُبورِ فَفِي ... أَمْثَالِهَا حَلَّ إِخْوَانِي وَأَتْرَابِي
وَلَسْتُ أَحْيَا حَيَاةً أَسْتَلَذُّ بِهَا ... مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِحَاقُ الْقَوْمِ أَوْلَى بِي
آخر: ... خَلَتْ دُورُهُمْ مَنْهُمْ وَأَقْوت عراصهم ... وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِر
وَخَلُوا عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا ... وَضَمَّهُمْ تَحْتَ التُّرَاب الْحَفَائِر
آخر: ... وَفِي ذَكْرِ هَوْلِ الْمَوْت وَالْقَبْرِ وَالْبَلَى ... عَنِ اللَّهْوِ وَاللَّذَاتِ لِلْمَرِءِ زَاجِرُ
أَبَعْدَ اقْتِرَابُ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصُ ... وَشَيْبُ قَذَالٍ مُنْذِرٌ لِلأَكَابِرُ
كَأَنَّكَ مَعْنِيٌّ بِمَا هُوَ ضَائِرُ ... لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِرُ
آخر: ... إِنَّ اللَّيَالِي مِنْ أَخْلاقِهَا الْكَدَرُ ... وَإِنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا مَنْظَرُ نَظَر
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مَمَّا تَغُر بِهِ ... إِنْ كَانَ يَنْفَعُ مِنْ غَرَّاتِهَا الْحَذَرُ
قَدْ أَسْمَعْتُكَ اللَّيَالِي مِنْ حَوَادِثِهَا ... مَا فِيهِ رُشْدُكَ لَكِنْ لَسْتَ تَعْتَبِرُ
يَا مَنْ يَغُرُّ بِدُنْيَاهُ وَزُخْرُفِهَا ... تالله يُوشِكُ أَنْ يُودِي بِكَ الْغَرَرُ
وَيَا مُدلا بِحُسْنِ رَاق مَنْظَرُهُ ... لِلْقَبْرِ وَيْحَكَ هَذَا الدَّالُ وَالْفَخَرُ
تَهْوَى الْحَيَاةَ وَلا تَرْضَى تُفَارِقُهَا ... كَمَنْ يُحَاوِلُ وردًا مَا لَهُ صَدَرُ
كُلُّ امْرِئٍ صَائِرٌ حَتْمًا إِلَى جَدَثٍ ... وَإِنْ أَطَالَ مَدَى آمَاله الْعُمُرُ
آخر:
قُلْ لِلَّذِي فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَانْثَنَى ... يَسْقِي دِيَارَهُمْ دُمُوعًا تَسْجُمُ
مَاذَا وُقُوفُكَ فِي الدِّيَارِ مُسَائِلاً ... عَنْ أَهْلِهَا وَمَتَى يُجِيبُ الأَبْكَمُ(3/261)
سَلْ عَنْهُمْ صَرْفَ الزَّمَان فَإِنَّهُ ... بِهِمْ مِنَ الدَّارِ الْمُحِيلَة أَعْلَمُ
أَفْنَاهُمْ رَيْبَ الزَّمَان وَهَذِهِ ... آثَارَهُمْ عِظَةٌ لَمَنْ يَتَوَسَّمُ
وَإِذَا رَأَيْتَ مُحَسَّدَيْنَ فَقَلَّمَا ... تَرْجِيهُمْ الأَحْدَاثُ حَتَّى يَرْحَمُوا
وَتَرَى تَقَلُّبُ هَذِهِ الدًّنْيَا بِنَا ... وَكَأَنَّنَا فِيهَا سُكَارَى نَوَّمُ
آخر: ... وَلَمَّا مَرَرْنَا بِالدِّيَارِ الَّتِي خَلَتْ ... فَهُنَّ لِفُقْدَانِ الأَنِيسِ نَوَاحِلُ
فَإِشْرَاقُهَا بَعْد الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... ظَلامَ وَضَحْوَاتُ النَّهَارِ أَصَائِلُ
أَثَارَ الْجَوَى عِرْفَانَهَا وَتَبَادَرَتْ ... عَلَى أَهْلِهَا مِنَّا الدُّمُوع الْهَوَامِلُ
أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد بن حنبل وهناد بن السري في الزهد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وصححه والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» . مرتين أو ثلاثًا.
ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر.
ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض.(3/262)
فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله؟ فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر.
قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى لأرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح.
ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان(3/263)
ابن فلان بأقبح أسمائه التي مكان يسمي بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} .
فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحًا ثم قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة» .
شِعْرًا: ... لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبِلَى ... لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهْ
كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنَّ ذَا ... أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ لِجَحْدِهِ اللهْ
آخر: ... وَإِنِّي وَأَهْلِي وَالَّذِي قَدَّمَتْ يَدِي ... كَدَاعٍ إِلَيْهِ صَحْبَهُ ثُمَّ قَائِلِ
لأَصْحَابِهِ إِذْ هُمْ ثَلاثَةُ إِخْوَةٍ ... أَعِينُوا عَلَى أَمْرٍ بِيَ الْيَوْمَ نَازِلِ
فِرَاقٌ طَوِيلٌ غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... فَمَاذَا لَدَيْكُمْ بِالَّذِي هُوَ غَائِلِ
فَقَالَ امْرِئٌ مِنْهُمْ أَنَا الصَّاحِبُ الَّذِي ... أَطَعْتُكَ فِيمَا شِئْتَ قَبْلَ التَّزَايُلِ
فَأَمَّا إِذَا جَدَّ الْفِرَاقُ فَإِنَّنِي ... لِمَا بَيْنَنَا مِنْ خُلَّةٍ غَيْرُ وَاصِلِ
أَمُدُّكَ أَحْيَانًا فَلا تَسْتَطِيعُنِي ... كَذَلِكَ أَحْيَانَا صُرُوفُ التَّدَاوُلِ
فَخُذْ مَا أَرَدْتَ الآنَ مِنِّي فَإِنَّنِي ... سَيُسْلِكُ بِي مِنْ مَهِيلٍ مِنْ مَهَايِلِ
وَإِنْ تُبْقِنِي لا تَبْقَ فَافْهَمْ مَقَالَتِي ... وَعَجِّلْ صَلاحًا قَبْلَ حَتْفِ مُعَاجِلِ(3/264)
وَقَالَ امْرِؤٌ قَدْ كُنْتُ جِدًّا أُحِبُّهُ ... فَأُوثِرُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالتَّفَاضُلِ
غِنَائِيَ أَنِّي جَاهِدٌ لَكَ نَاصِحٌ ... إِذَا جَدَّ جِدُّ الْكَرْبِ غَيْرَ مُقَاتِلِ
وَلَكِنَّنِي بَاكٍ عَلَيْكَ وَمَعُولٌ ... وَمُثْنٍ بِخَيْرٍ عِنْدَ مَنْ هُوَ سَائِلِ
وَمُتَّبَعُ الْمَاشِينَ أَمْشِي مُشَيِّعًا ... أَعِينُ بِرِفْقٍ عُقْبَةً كُلَّ حَامِلِ
إِلَى بَيْتِ مَثْوَاكَ الَّذِي أَنْتَ مُدْخَلٌ ... وَحِينَئِذٍ أَرْجِعْ بِمَا هُوَ شَاغِلِ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ خُلَّةٌ ... وَلا حُسْنُ وُدٍّ مَرَّةً فِي التَّبَادُلِ
وَذَلِكَ أَهْلُ الْمَرْءِ ذَاكَ غِنَاؤُهُمْ ... وَلَيْسُوا وَإِنْ كَانُوا حِرَاصًا بِطَائِلِ
وَقَالَ امْرِؤٌ مِنْهُمْ أَنَا الأَخُّ لا تَرَى ... أَخًا لَكَ مِثْلِي عِنْدَ جَهْدِ الزَّلازِلِ
لَدَى الْقَبْرِ تَلْقَانِي هُنَالِكَ قَاعِدًا ... أُجَادِلُ عَنْكَ فِي رِجَاعِ التَّجَادُلِ
وَأَقْعُدُ يَوْمَ الْوَزْنِ فِي الْكَفَّةِ الَّتِي ... تَكُونُ عَلَيْهَا جَاهِدًا فِي التَّثَاقُلِ
فَلا تَنْسَنِي وَاعْلَمْ مَكَانِي فَإِنَّنِي ... عَلَيْكَ شَفِيقٌ نَاصِحٌ غَيْرَ خَاذِلِ
وَذَلِكَ مَا قَدَّمْتَ مِنْ صَالِحٍ غَدًا ... تُلاقِيهِ إِنْ أَحْسَنْتَ يَوْمَ التَّفَاضُلِ
اللهم اجعلنا بتذكيرك منتفعين ولكتابك ورسولك متبعين وعلى طاعتك مجتمعين وتوفنا ربنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
في صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فهو قائل ما كان يقول.(3/265)
فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقولان له: كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له فيه.
ويقال له: نم فيقول: أرجع إلى أهلي ومالي فأخبرهم. فيقولان له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.
وإن كان منافقًا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله. فيقولان له: كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا احتضر المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: أخرجي أيتها الروح الطيبة راضية مرضيًا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان.
فتخرج كأطيب من ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا حتى يأتون به السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض.
فيأتون به أرواح المؤمنين، فهم أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعل فلان قال: فيقولون دعوة يستريح فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال: أما أتاكم قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: أخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله عز وجل فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون بها باب الأرض فيقولون: فما أنتن هذه الريح حتى يأتون بها أرواح الكفار.
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: إن المؤمن إذا حضره الموت حظرته(3/266)
ملائكة الرحمة، فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء، فينطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه. فيقال: ما فعل فلان ما فعلت فلانة، فيقال: دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا.
وأما الكافر إذا قبضت نفسه، ذهب بها إلى الأرض، فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتن من هذه. فيبلغ به إلى الأرض السفلى.
وروى النسائي في سننه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألفًا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» . قال النسائي: يعني سعد بن معاذ.
وقال هناد بن السري: حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة، قال: ما أجير أحد من ضغطة القبر، ولا سعد ابن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها.
قال: وحدثنا عبده بن عبيد الله بن عمر عن نافع قال: لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك، لم ينزلوا إلى الأرض قط، ولقد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة» . وقيل فيه رضي الله عنه شِعْرًا:
وَمَا اهْتَزَّ عَرْشُ اللهِ مِنْ أَجْلِ هَالِك ... سَمِعْنَا بِهِ إِلا لِسَعْد أَبِي عَمْرِو
وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دفن ابنته جلس عند القبر فتربد وجهه.
ثم سري عنه فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفًا ثم سري فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها ويم الله لقد ضمت ضمة سمعها من بين الخافقين» .
وروي عن إبراهيم الغني عن رجل قال: كنت عند عائشة رضي الله(3/267)
عنها فمرت جنازة صبي فبكت فقلت لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.
شِعْرًا: ... وَتَقْبِضُ كَفَّ الطِّفْل عِنْدَ وِلادَةٍ ... دَلِيلٌ عَلَى الْحِرْصِ الْمُرَكَّب فِي الْحَيِّ
وَبَسْطُ يَدَا الإِنْسَانُ عِنْدَ مَمَاتِهِ ... دَلِيلٌ عَلَى أَنِّي خَرَجْتُ بِلا شَيْءِ
يَا بَاكِيَ الأَمْوَات إِنَّكَ مَيِّتٌ ... فَاجْعَلْ بُكَاءَكَ إِنْ بَكِيتَ عَلَيْكَا
لا تَبْكِ غَيْرَكَ وَابْكِ نَفْسَكَ إِنَّهَا ... أَوْلَى النُّفُوسِ بِذَاكَ مِنْ عَيْنَيْكَا
آخر: ... تَمُرُّ لَدَاتِي وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ... وَأَعْلَمُ أَنِّي بَعْدُهُمْ غَيْرَ خَالِدِ
وَأَحْمِلُ مَوْتَاهُمْ وَأَشْهَدُ دَفْنَهُمْ ... كَأَنِّي بَعِيدٌ مِنْهُمْ غَيْرَ شَاهِدِ
فَهَا أَنَا فِي عِلْمِي بِهِمْ وَجَهَالَتِي ... كَمُسْتَيْقِظُ يَرْنُو بِقلة رَاقِدِ!
آخر: ... طَوَى الْمَوْتُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ... وَلَيْسَ لَمَا تَطْوِي الْمَنِيَّةِ نَاشِرُ
لَئِنْ أَوْحَشْتَ مِمَّنْ أُحِبُّ مَنَازِلُ ... لَقَدْ أنست ممن أحب الْمَقَابِرُ
وَكُنْتُ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ ... فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ عَلَيْهُ أُحَاذِرُ
آخر: ... أَيَا آمَن الأَقْدَارُ صَرْفَهَا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الطَّالِبِينَ حَثاث
خُذْ مِنْ تُرَاثِكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا ... شُرَكَاؤُكَ الأَيْام وَالْوَارِثُ
مَالِي إِلَى الدُّنْيَا الْغَرُورَة حَاجَة ... فَلْيخز سَاحِرُ كَيْدِهَا النَّفَاثُ
طَلَّقْتُهَا أَلْفًا لأَحْسِمَ دَاءَهَا ... وَطَلاق مِنْ عَزَمَ الطَّلاقَ ثَلاثُ
سَكَنَاتُهَا مَحْذُورَة وَعُهُودَهَا ... مَنْقُوضَة وَحِبَالُهَا أَنْكَاثُ
إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ رِجَالٍ امْسَكُوا ... بِحَبَائِل الدُّنْيَا وَهُنَّ رِثَاثُ
كَنَزُوا الْكُنُوزَ وَأَغْفَلُوا شَهَوَاتَهُمْ ... فَالأَرْضُ تَشْبَعُ وَالْبُطُونُ غِرَاثُ
أَتَرَاهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ التُّقَى ... أَزْوَادُنَا وَدِيَارُنَا الأَجْدَاثُ؟
اللهم سلمنا شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك(3/268)
واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
عباد الله اغتنموا الطاعات فأيام المواسم معدودة وانتهزوا فرض الأوقات فساعات الإسعاد محدودة وجدوا في طلب الخيرات فمناهل الرضوان مورودة وقوموا على قدم السداد واتقوا الله الذي إليه تحشرون.
وكونوا من الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ينفقون قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ * َمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
فيا سعادة أولى الطاعات الذين اجتباهم مولاهم لدار السلام واصطفاهم لحظيرة قدسه وأوردهم مناهل الإنعام وأولاهم حلاوة الأنس ووالاهم بمواهب الإكرام وسقاهم من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ويا مسرة من شاهد معالم الرشد فسلك مسالكه وكان من المستبشرين الذين يوم القيامة وجوهم مسفرة ضاحكة لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
فتدبروا عباد الله الأمر وانظروا بعين الناقد البصير وتذكروا العرض يوم الفزع الأكبر بين يدي رب العالمين العليم الخبير واعلموا أن الظالمين ما لهم(3/269)
من ولي ولا نصير (يوم يقال) : {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
أَلا يَا نَفْسُ هَلْ لَكَ فِي صِيَامٍ ... عَنِ الدُّنْيَا لَعَلَّكَ تَهْتَدِينَا
يَكُونُ الْفِطْرِ وَقْتُ الْمَوْتِ مِنْهَا ... لَعَلَّكِ عِنْدَهُ تَسْتَبْشِرِينَا
أَجِبِينِي هُدِيتَ وَأَسْعِفِينِي ... لَعَلَّكِ فِي الْجَنَانِ تُخَلَّدِينَا
شِعْرًا:
لا تَبْكِ لِلدُّنْيَا وَلا أَهْلِهَا ... وَابْكِ لِيَوْمٍ تَسْكُنِ الْحَافِرَةْ
وَابْكِ إِذَا صِيحَ بِأَهْلِ الثَّرَى ... فَاجْتَمِعُوا فِي سَاعَةِ السَّاهِرَةْ
وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ ... آمَالُ مَنْ يَسْكُنُكِ الآخِرَةْ
آخر: ... وَاذْكُرْ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ ... لا بُدَّ يُحْصَى مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ
لَمْ يَنْسَهُ الْمَلَكَانِ حِينَ نَسِيتَهُ ... بَلْ أَثْبَتَاهُ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدرنا ويسر أمورنا وألهمنا ذكرك وشكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
إذا فهمت ذلك فاعلم أنه ينبغي لمن آيس من حياته بل يستحب له بتأكد أن يكثر من قراءة القرآن والأذكار ويكره له الجزع وسوء الخلق والشتم والمخاصمة والمنازعة في غير الأمور الدينية في الدفاع عنها ويستحب أن يكون شاكرًا لله تعالى بقلبه ولسانه ويستحضر في ذهنه أن هذا آخر أو فاته من الدنيا فيجتهد على ختمها بخير ويكثر من قول لا إله إلا الله.(3/270)
ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها من رد المظالم والعواري والودائع والغصوب ويستحل أهله وزوجته ووالديه وأولاده وغلمانه وجيرانه وأصدقائه وزملاءه وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة في سفر أو غيره أو له تعلق بشيء.
وأخرج البيهقي وابن عساكر عن عبادة بن محمد بن عبادة ابن الصامت قال: لما حضرت عبادة رضي الله عنه الوفاة قال: أخرجوا إلي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا وأول ليلة من الآخرة.
وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء وهو والذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة وأحرج إلى أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني من قبل أن تخرج نفسي فقالوا: بل كنت والدًا وكنت مؤدبًا. قال: وما قال لخادم سواء قط فقال: أعفوتم ما كان من ذلك. قالوا: نعم. قال: اللهم أشهد ... الخ.
وورد أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال: انظروا فلانًا فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق فأشهدكم أني قد زوجته.
وينبغي أن يوصي بأمور أولاده إن لم يكن جد يصلح للولاية ويوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال من قضاء الديون ونحو ذلك وأن يكون حسن الظن بالله تعالى راجيًا عفوه ومغفرته ورحمته وإحسانه.
ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات الله تعالى وأن الله تعالى غني عن عذابه وعن طاعته وأنه عبده ولا يطلب العفو والإحسان والصفح والامتنان إلا منه جل وعلا وتقدس ويحث أولاده على الدعاء له والصدقة عنه.
شِعْرًا: ... وَإِذَا رَأَيْتَ بِنِيكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ... قَطَعُوا إِلَيْكَ مَسَافَة الآجَال
وَصَلَ الْبَنُونَ إِلَى مَحَلِّ أَبِيهِمْ ... وَتَجَهَّزَ الآبَاءُ لِلترْحَال(3/271)
آخر:
لِي خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةْ ... فَإِذَا قُدْوَتُهَا كَانَتْ سَنَةْ
إِنَّ عُمْرَ الْمَرْءِ مَا قَدْ عَمَّرَهْ ... فِي التُّقَى وَالزُّهْدِ طُولَ الأَزْمِنَةْ
ويستحب أن يكون مُتَعَاهِدًا نفسه بقراءة آيات من القرآن العزيز في الرجاء وكذلك أحاديث الرجاء يقرؤها أو يجعل من يقرؤها عليه وأن يكون خيره متزايدًا ويحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.
ويجتنب النجاسات ويحرص على التطهر ويصبر على مشقة ذلك وكذا باقي وظائف الدين يحرص على أدائها كاملة مكملة وليحذر من التساهل في ذلك فإنه أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه.
وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال ويستحب أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه واحتمال عما يصدر منه ويوصيهم أيضًا بالصبر على مصيبتهم به ويوصيهم بالرفق بمن يخفه من طفل وغلام وجارية ويوصيهم بالإحسان إلى أصدقائه ويعلمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهله ود أبيه» .
وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرم صواحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها.
ويوصيهم بتعاهده بالدعاء وفعل ما يقرب إلى الله وينوي الثواب له وذلك كالحج والصدقة والأضحية وطبع المصاحف والكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية والإعانة على بناء المساجد.
وكالعين الجارية ونحو ذلك ويوصيهم بأن لا ينسوه بل تعاهدوه بالدعاء له ولوالديه.
شِعْرًا: ... يَا مَنْ سَيَنْأَى عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلهُمْ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِهُوهْ
وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ(3/272)
آخر: ... إِنِّي لأَشْكُو خَطْوبًا لا أُعِيِّنُهَا ... لِيَبْرَأُ النَّاسُ مِنْ عُذْرِي وَمِنْ عَذْلِي
كَالشَّمْعِ يَبْكِي فَمَا يَدْرِيِ أَعِبْرَتُهُ ... مِنْ صُحْبَةِ النَّارِ أَمْ مِنْ فُرْقَةِ الْعَسَلِ
ويستحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت: متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إِلَيَّ النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف.
شِعْرًا: ... وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلَّرِحِيلِ وَقَدْ دَنَا ... وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٍ مُسَافِرُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوْبَتِي ... وَعُمْرِي فَانٍ وَالرَّدَى لِي نَاظِرُ
وَكُلُّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ ... يُجَازِي عَلَيْهِ عَادِلُ الْحُكْمِ قَادِرُ
آخر: ... لَهْفِي عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ ... فِي كُلِّ مَا أَرْضَى وَيُسْخِطُ مَالِكِي
وَيْلِي إِذَا عَنَتِ الْوُجُوهُ لِرَبِّهَا ... وَدُعِيتُ مَغْلُولاً بِوَجْهٍ حَالِكَ
وَرَقِيبُ أَعْمَالِي يُنَادِي قَائِلاً ... يَا عَبْدَ سُوءٍ أَنْتَ أَوَلَ هَالِكَ
لَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدِ الْغِوَايَةَ مَنْزِلٌ ... إِلا الْجَحِيم وَسُوء صُحْبَةِ مَالِكِ
آخر: ... تُخَرِّبُ مَعْمُورًا وَتُعَمِّرُ فَانِيًا ... فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ
وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً ... وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لِدَى اللهِ عَاذِرُ
أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةَ وَتَنْقَضِي ... وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ
آخر: ... كَمْ ضَاحِك وَالْمَنَايَا فَوْقَ هَامَتِهِ ... لَوْ كَانَ يَعْلَمُ غَيْبًا مَاتَ مِنْ كَمَدِ
مَنْ كَانَ لَمْ يُؤْت عِلْمًا فِي بَقَاءِ غَدٍ ... مَاذَا تفكره فِي رِزْقٍ بَعَدَ غَدِ
آخر: ... كَفَى حَزَنًا أَنْ لا حَيَاةَ هَنِيَّةٍ ... وَلا عَمَلٌ يَرْضَى بِهِ اللهُ صَالِحٌ
فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ وَالأَقْلامُ جَارِيَةٌ ... وَالتوب مُقْتَبَلٌ فَاللهُ قَدْ وَعَدَا(3/273)
لا تَفْخَرَنَّ بِدُنْيَا أَنْتَ تَارِكُهَا ... عَمَا قَلِيل تَزُورُ الْقَبْرَ واللَّحْدَا
وإذا حضره النزعة فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فياله من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» .
ويستحضر أحاديث الرجال مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» . الحديث متفق عليه.
وحديث ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . الآيتين _ ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} . الآية ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت.
شِعْرًا:
إِذَا أَتَى اللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي ظُلَلٍ ... وَجِيءَ بِالأُمَمِ الْمَاضِينَ وَالرُّسُلِ
وَحَاسَبَ الْخَلْق مَنْ أَحْصَى بِقُدْرَتِهِ ... أَنْفَاسُهُمْ وَتَوَفَّاهُمْ إِلَى أَجَلِ
وَلَمْ أَجِدْ فِي كِتَابِي غَيْرَ سَيِّئَةٍ ... تَسُوءُنِي وَعَسَى الإِسْلام يَسْلَمُ لِي
رَجَوْتُ رَحْمَةَ رَبِّي وَهِيَ وَاسِعَة ... وَرَحْمَةُ اللهِ أَرْجَى لِي مِنَ الْعَمَلِ
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي(3/274)
بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل: اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن في الجنائز عبر للبصير، وفيها تنبيه، وتذكير لأهل الغفلة، وأكثرهم لا تزيده مشاهدتها إلا قسوة، لأنهم يظنون أنهم أبدًا إلى جنائزهم ينظرون ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون أو يحسبون ولكنهم على القرب لا يقدرون ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا مثلهم يحسبون فبطل حسبانهم وانقرض على القرب زمانهم.
والبصير لا ينظر إلى الجنائز وإلا ويقدر نفسه محمولاً عليها فإنه محمول عليها على القرب.
الغز بعضهم في النعش الذي يحمل عليه الميت إلى المقبرة:
أَتَعْرِفُ شَيْئًا فِي السَّمَاءِ يَطِيرُ ... إِذَا طَارَ هَاجَ النَّاسُ حَيْثُ يَسِيرُ
فَتَلَقَّاهُ مَرْكُوبَا وَتَلَقَّاهُ رَاكِبًا ... وَكُلُّ أَمِيرٍ يَعْتَرِيهِ أَسِيرُ
يَحُثُّ عَلَى التَّقْوَى وَيَكْرَهُ قُرْبُهُ ... وَتَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَهَوَ نَذِيرُ
وَلَمْ يَسْتَزْرِ عَنْ رَغْبَةٍ فِي زِيَارَةٍ ... وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ الْمَزُورِ يَزُورُ
شِعْرًا: ... (كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءِ مَحْمُولُ)
آخر: ... فَلِلْمَوْتِ تَغْدُو وَالْوَلِدَاتُ سِخَالهَا ... كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تَبْنِي الْمَسَاكِنُ
آخر: ... (أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَازَةً ... فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ
وكان بعضهم إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول. والآخر لا عقل له. وقال آخر: ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه.(3/275)
وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزي لحزن الجميع.
وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا مقنعًا باكيًا.
هذا حال السلف والآن انظر إلى مشيعي الجنائز بعضهم يبحث بالعقار وبعضهم يتكلم ويضحك وبعضهم يعدد مخالفاته وينذر أن ترى المتفكر في جنازته إذا وصله الدور وحمل لقب المظلم بيت الوحدة بيت الدود والصديد والهوام.
يَا بَاكِيًا مِنْ خِيفَةِ الْمَوْتِ ... أَصَبْتَ فَارْفَعْ مِنْ مَدَى الصَّوْتِ
وَنَادِ يَا لَهْفِي عَلَى فُسْحَةٍ ... فِي الْعُمْرِ فَاتَتْ أَيّمَا فَوْتِ
ضَيَّعْتَهَا ظَالِمٌ نَفْسِي وَلَمْ ... أُصْغِ إِلَى مَوْتٍ وَلا مَيِّتِ
يَا لَيْتَهَا عَادَتْ وَهَيْهَاتَ أَنْ ... يَعُودُ مَا قَدْ فَاتَ يَا لَيْتِ
فَخَلِّ عَنْ هَذِي الأَمَانِي وَدَعْ ... خَوْضُكَ فِي هَاتٍ وَفِي هِيتِ
وَبَادِرْ الأَمْرَ فَمَا غَائِبٍ ... أَسْرَعُ إِتْيَانًا مِنَ الْمَوْتِ
كَمْ شَائِدٍ بَيْتًا لَيْغَنَى بِهِ ... مَاتَ وَلَمْ يَفْرُغْ مِنَ الْبَيْتِ
اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: يا فلان لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به لو رأيت بيتًا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثياب ثم شهق شهقة خر مغشيًا عليه.(3/276)
وكان يزيد الرقاشي يقول: أيها المقبور في حفرته والمتخلي في القبر بوحدته المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت، وبأي إخوانك اغتبطت، ثم بكي حتى يبل عمامته.
ثم يقول: استبشر والله بأعماله الصالحة، واغتبط بإخوانه المتعاونين على طاعة الله تعالى وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على المقابر يقول: ما أحسن ظواهرك إنما الدواهي في بواطنك.
وكان عطاء السلمي إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة ثم يقول: غدًا عطاء في القبور فلا يزال عطاء ذلك دأبه حتى يصبح ويروى أن فاطمة بنت الحسين نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسين فغطت وجهها وقالت:
وَكَانُوا رَجَاءً ثَمَّ أَمْسُوا رَزِيَّةً ... لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتٍ
وَقَالَ مَيمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل عليَّ فقال: يا ميمون هذه قبور أبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشم أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلاث واستحكم فيهم البلى وأصابتهم الهوام مقيلاً في أبدانهم ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله، ووجد مكتوب على قبر:
وَقِفْتُ عَلَى الأَحِبَّةِ حِينَ صَفَّتْ ... قُبُورُهُمْ كَأَفْرَاسِ الرِّهَانِ
فَلَمَّا أَنْ بَكِيتُ وَفَاضَ دَمْعِي ... رَأَتْ عَيْنَايَ بَيْنَهُمْ مَكَانِي
آخر: ... وَنَاءٍ عَنِ الدُّنْيَا وَعَنْ أَعْيُنِ الْوَرَى ... وَحِيد لأَصْحَابِ الْقُبُورِ مُجَاوِرُ
آخر: ... أَبَا غَانِمٍ أَمَا ذراك فَوَاسِعٌ ... وَقَبْرُكَ مَعْمُورُ الْجَوَانِبُ مُحْكَمُ(3/277)
وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْبُورُ عُمْرَانُ قَبْرِهِ ... إِذَا كَانَ فِيهِ جِسْمُهُ يَتَهَدَّمُ
شِعْرًا: قصيدة زهدية وعظية سقط بعضها وعوضناها عنه ما بين الأقواس:
لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ... فَالْمَوْتُ لا شَكَّ يَفْنِينَا وَيَفْنِيهَا
وَمَنْ يَكُنْ هَمَّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعُهَا ... فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيهَا
لا تَشْبَعُ النَّفْس مِنْ دُنْيَا تُجَمِّعُهَا ... وَبُلْغَهٌ مِنْ قَوَامِ الْعَيْشِ تَكْفِيهَا
اعْمَلْ لِدَارِ الْبَقَا رِضْوَانٌ خَازِنُهَا ... الْجَارُ أَحْمَدُ وَالرَّحْمَنُ بَانِيهَا
أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ وَالْمِسْكُ طِينَتُهَا ... وَالزَّعْفَرَان حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا
أَنْهَارُهَا لَبَنٍ مَحْضٍ وَمِنْ عَسَلٍ ... وَالْخَمْرُ يَجْرِي رَحِيقًا فِي مَجَارِيهَا
وَالطَّيْرُ تُجْرِي عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةً ... تُسَبِّحُ اللهَ جَهْرًا فِي مَغَانِيهَا
مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً فِي الْعَدْنِ عَالِيَةً ... فِي ظِلِّ طُوبَى رَفِيعَاتٌ مَبَانِيهَا
دَلالُهَا الْمُصْطَفَى وَاللهُ بَائِعُهَا ... وَجِبْرَئِيلُ يُنَادِي فِي نَوَاحِيهَا
مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ فَي الْفِرْدَوْسَ يَعْمُرُهَا ... بِرَكْعَةٍ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيهَا
أَوْ سَدَّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشَبْعَتِهِ ... فِي يَوْمِ مَسْبَغَه عَمّ الغَلا فِيهَا
النَّفْسُ تَطْمَعُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا
وَاللهِ لَوْ قَنَعَتْ نَفْسِي بِما رُزِقَتْ ... مِنَ الْمَعِيشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيهَا
واللهِ وَاللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ ... ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِينٍ بَعْدَ ثَانِيهَا
لَوْ أَنَّ فِي صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ ... فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةً مَلْسٌ نَوَاحِيهَا
رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ ... حَتَّى تُؤَدَّى إِلَيْهِ كَلّ مَا فِيهَا
أَوْ كَانَ فَوْقُ طِبَاقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا ... لَسَهَّلَ اللهُ فِي الْمَرْقَى مَرَاقِيهَا
حَتَّى يَنَالُ الَّذِي في اللَّوْحِ خَطّ لَهُ ... فَإِنَّ أَتَتْهُ وَإِلا سَوْفَ يَأْتِيهَا
أَمْوَالُنَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدَارَنَا لِخَرَابِ الْبُومِ نَبْنِيهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْت يَبْنِيهَا(3/278)
فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَمَنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا
وَالنَّاسُ كَالْحَبِّ وَالدُّنْيَا رَحَى نَصَبَتْ ... لِلْعَالَمِينَ وَكَفّ الْمَوْتِ يُلْهِيهَا
فَلا الإِقَامَةَ تُنْجِي النَّفْسَ مِنْ تَلَفٍ ... وَلا الْفِرَارُ مِنْ الأَحْدَاثِ يُنْجِيهَا
وَلِلنُّفُوسِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ ... مِنَ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ تُقَوِّيهَا
فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا ... وَالْبِشْرُ يَنْشُرُهَا وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا
وَكُلُّ نَفْسٍ لَهَا زَوْرٌ يُصَبِّحُهَا ... مِنْ الْمَنِيَّةِ يَوْمًا أَوْ يُمَسِّيهَا
تِلْكَ الْمَنَازِلُ فِي الآفَاقِ خَاوِيَةٌ ... أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ الْمَوْتُ بَانِيهَا
كَمْ مِنْ عَزِيزٍ سَيَلْقَى بَعْدَ عِزَّتِهِ ... ذُلاً وَضَاحِكَةٌ يَوْمًا سَيَبْكِيهَا
وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَلِلْحِسَابِ بَرَى الأَرْوَاحَ بَارِيهَا
لا تَبْرَحُ النَّفْسُ تَنْعِي وَهِيَ سَالِمَةٌ ... حَتَّى يَقُومُ بِنَادِ الْقَوْمِ نَاعِيهَا
وَلَنْ تَزَالُ طِوَالَ الدَّهْرِ ظَاعِنَةٌ ... حَتَّى تُقِيمُ بِوَادٍ غَيْرَ وَادِيهَا
أَيْنَ الْمُلُوكِ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ ... حَتَّى سَقَاهَا بِكَأْسِ الْمَوْتِ سَاقِيهَا
أَفْنَى الْقُرُون وَأَفْنَى كُلّ ذِي عُمْرٍ ... كَذَلِكَ الْمَوْتُ يُفْنِي كَلَّ مَا فِيهَا
فَالْمَوْتُ أَحْدَقُ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ... وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ كُلِّ مَا فِيهَا
لَوْ أَنَّهَا عَقِلَتْ مَاذَا يُرَادُ بِهَا ... مَا طَابَ عَيْشٌ لَهَا يَوْمًا وَيُلْهِيهَا
نَلْهُوا وَنَأْمَلُ آمَالاً نَسُرُّ بِهَا ... شَرِيعَةُ الْمَوْتِ تَطْوِينَا وَتَطْوِيهَا
فَاغْرِسْ أُصُولَ التُّقَى مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَ الْمَوْت لاقِيهَا
(تَجْنِي الثِّمَارَ غَدًا فِي دَارٍ مُكَرَّمَةٍ ... لا مَنْ فِيهَا وَلا التَّكْدِيرُ يَأْتِيهَا)
(فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ دَائِمًا أَبَدًا ... بِلا انْقِطَاعٍ وَلا مَنْ يُدَانِيهَا)
(الأُذُنُ وَالْعَيْنُ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَرَهُ ... وَلَمْ يَدْرِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مَا فِيهَا)
(فَيَا لَهَا مِنْ كَرَامَاتٍ إِذَا حَصَلَتْ ... وَيَا لَهَا مِنْ نُفُوسٍ سَوْفَ تَحْوِيهَا)
(وَهَذْهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا ... فَعَنْ قَرِيبٍ تَرَى مُعْجِبُكَ ذَاوِيهَا)(3/279)
.. (فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ لا يَخْدَعَكَ لامِعُهَا ... مِنْ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيهَا)
(خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ ... وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيهَا)
(فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوِي طيشٍ ... وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْمِ الْمَوتِ أَهْلِيهَا)
اعْتَزَّ قَارُونُ فِي دُنْيَاهُ مِنْ سَفَهٍ ... وَكَانَ مِنْ خَمْرِهَا يَا قَوْمَ ذَاتِيهَا
يَبِيتُ لَيْلَتَهُ سَهْرَانٌ مٌنْشَغِلاً ... فِي أَمْرِ أَمْوَالِهِ فِي الْهَمِّ يَفْدِيهَا
وَفِي النَّهَارِ لَقَدْ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ ... تَحُزُّ فِي قَلْبِهِ حَزًّا فَيُخْفِيهَا
فَمَا اسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَلا قَبِلَتْ ... مِنْهُ الْوِدَادَ وَلَمْ تَرْحَمْ مُحِبِّيهَا
(ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمَعْصُومِ سَيِّدِنَا ... أَزَكَى الْبَرَيَّةَ دَانِيهَا وَقَاصِيهَا)
(موعظة)
قال الله جل وعلا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء من غير جنسها، والأبصار: العقول والمعنى تدبروا.
إخواني: الدنيا دار عبرة ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا، أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا، أين من ذكرناه بالمحاسن ووصفنا ما نعرفهم لو عنهم كشفنا، ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا.
وسنصير كما صاروا فليتنا أنصفنا، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا، كم ذكرتنا مصارع من فنِيَ من يفنى، كم عزيز أحببنا دفنَّاه وانصرفنا، كم مؤنس أضجعناه في اللحد وما وقفنا، كم كريم علينا إذا مررنا عليه انحرفنا.
ما لنا نتحقق الحق فإذا أيقنا صدفنا، أما ضر أهله التسويف، وها نحن قد سوفنا، أما التراب فلماذا منه أنفنا، ألام ترغنا السلامة وكأن قد تلفنا.
أين حبيبنا الذي كان وانتقل، أما غمسه التلف في بحره وارتحل أما(3/280)
خلا في لحده بالعمل أين من جر ذيل الخيلاء غافلاً ورفل أما سافر عنا وإلى الآن ما قفل.
أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل، فكأنه بالدار ما كان وفي اللحد لم يزل، أين الجبابرة الأكاسرة الأول الذين كنزوا العتاة الأول، ملك الأموال سواهم والدنيا دول.
شِعْرًا:
تَنَامُ وَقَدْ أَعَدَّ لَكَ السّهَادُ ... وَتُوقِنُ بِالرَّحِيلِ وَلَيْسَ زَادُ
وَتُصْبِحُ مِثْلِ مِا تُمْسِي مُضَيِّعًا ... كَأَنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي مَا الْمُرَادُ
أَتَطْمَعُ أَنْ تَفُوزَ غَدًا هَنِيًا ... وَلَمْ يَكُ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا اجْتِهَادُ
إِذَا فَرَّطْتَ فِي تَقْدِيمِ زَرْعٍ ... فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ عَدَمٍ حَصَادُ
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالأعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ويسن توجيه الميت ومن في النزع إلى القبلة على جنبه الأيمن لأن حذيفة قال: (وجهوني إلى القبلة) . واستحبه مالك وأهل المدينة والأوزعي وأهل الشام وقال - صلى الله عليه وسلم - عن البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا. روه أبو داود.(3/281)
وقول باسم الله وعلى وفاة رسول الله لما روى البيهقي عن بكر بن عبد الله المزني ولفظه وعلى ملة رسول الله ولا بأس بتقبيل الميت والنظر إليه لحديث عائشة وابن عباس أن أبا بكر قبَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته. رواه البخاري والنسائي.
وقالت عائشة قبَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه. رواه أحمد والترمذي وصححه.
وغسل الميت فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي وقصته راحلته: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه» . متفق عليه وشرط في الماء الذي يغسل فيه الميت الطهورية والإباحة كباقي الاغسال.
وشرط في المغسل للميت الإسلام والعقل والتمييز لأن هذه شروط لكل عبادة شرعية إلا التمييز في الحج والأكمل أن يكون الغاسل للميت ثقة يعرف أحكام الغسل ليحتاط فيه ولقول ابن عمر: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون.
والأولى بغسل الميت وصية العدل لأن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل.
وإذا شرع في غسله ستر عورته وجوبًا لحديث: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» . رواه أبو داود.
ويحرم مس عورة من بلغ سبع سنين ويستحب أن لا يمس سائره إلا بحائل، أدسوس يدين أو نحوها لما روى أن عليًا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيده خرقة يمسح بها تحت القميص. ذكره المروزي عن أحمد.(3/282)
وللرجل أن يغسل زوجته وأمته لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» . رواه ابن ماجة. وغسل عليٌّ فاطمة رضي الله عنهما ولم ينكره منكر فكان إجماعًا.
وللمرأة تغسيل زوجها وابن دون سبع سنين قاله ابن المنذر إجماعًا لحديث أبي بكر السابق وقالت عائشة رضي الله عنها: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه. رواه أحمد وأبو داود.
ولما مات إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله النساء. وحكم غسل الميت كغسل الجنابة لقوله - صلى الله عليه وسلم - للنساء اللاتي غسلن ابنته: «ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها» . ولا يدخل في فم الميت الماء ولا في أنفه بل يأخذ خرقة مبلولة فيمسح بها أسنانه ومنخريه ليقوم مقام المضمضة والاستنشاق قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . ويكره الاقتصار على غسله واحدة لقوله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر» .
فإن خرج من الميت المغسل شيء زيد في الغسلات وجوبًا إلى السبع فإن خرج بعد السبع حشي المحل بقطن فإن لم يستمسك فبطن حر ثم يغسل المحل ويوضأ وجوبًا.
وإن خرج بعد التكفين لم يعد الغسل ولا الوضوء لما فيه من الحرج والمشقة ولا يغسل شهيد المعركة ولا يكفن ولا يصلى عليه لحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلوا عليهم رواه البخاري.(3/283)
شِعْرًا:
أَلا ذَكَّرَانِي قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْتُ ... وَيُبْنَى لِجُثْمَانِي بِدَارِ الْبِلَى بَيْتُ
وَعَلَّمَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلامَتِي ... وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْتُ
وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُوا إِلَى الْبَلَى ... فَقُلْتُ أَرَانِي قَدْ قَرُبْتُ فَأُدْنِيتُ
وكذا لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى على المقتول ظلمًا لحديث سعيد بن زيد مرفوعًا من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصحح.
وقيل يغسل ويصلى عليه لأن ابن الزبير غسل وصلى عليه وهذا القول يترجح عندي لأنه أحوط والله سبحانه أعلم.
فأن قتل وعليه ما يوجب الغسل من نحو جنابة فهو كغيره يجب أن يغسل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحدٍ ما بال حنظلة بن الراهب إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة وهو جنب ولم يغتسل. رواه الطيالسي.
وإن سقط من دابته أو وجد ميتًا ولا أثر به أو تردى من محل رفيع أو حمل فأكل أو شرب أو طال بقاؤه عرفًا غسل وصلى عليه وكذا – لو تكلم أو بال أو عطس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدًا وصلى المسلمون على عمر وعلي وهما شهيدان والسقط لأربعة أشهر كالمولود حيًا يغسل ويصلى عليه لحديث المغيرة مرفوعًا، والسقط يصلى عليه رواه أبو داود والترمذي وصححه.
ولا يغسل مسلم كافرًا ولو ذميًا ولا يكفنه ولا يصلي عليه ولا يتبع جنازته لأن في ذلك تعظيمًا له وقد قال تعالى {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بل يدفن إن لم يدفنه الكفار كما فعل بأهل القليب يوم بدر. وعن علي رضي الله(3/284)
عنه قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: «اذهب فواره» . رواه أبو داود.
شِعْرًا:
كَيْفَ احْتِيَالِي إِذَا جَاءَ الْحِسَابُ غَدًا ... وَقَدْ حُشِرْتُ بِأَثْقَالِي وَأَوْزَارِي
وَقَدْ نَظَرْتُ إِلَى صُحْفِي مُسَوَّدَةٍ ... مِنْ شُؤْمِ ذَنْبٍ قَدِيمٍ الْعَهْدِ أَوْ طَارِي
وَقَدْ تَجَلَّى لِبَسْطِ الْعَدْلِ خَالِقُنَا ... يَوْمَ الْمَعَادِ وَيَوْمَ الذُّلِّ وَالْعَارِ
يَفُوزُ كُلُّ مُطِيعٍ لِلْعَزِيزِ غَدًا ... بِدَارِ عَدْنٍ وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارِ
لَهُمْ نَعِيمٌ خُلُودٌ لا نَفَادَ لَهُ ... يُخَلَّدُونَ بِدَارِ الْوَاحِدِ الْبَارِي
وَمَنْ عَصَى فِي قَرَارِ النَّارِ مَسْكَنُهُ ... لا يَسْتَرِيحُ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي النَّارِ
فَابْكُوا كَثِيرًا فَقَدْ حَقَّ الْبُكَاءُ لَكُمْ ... خَوْفَ الْعَذَابِ بِدَمْع وَاكِفٍ جَارِي
آخر:
يَا عَجَبًا لِلنَّاسِ كَيْفَ اغْتَدَوْا ... فِي غَفْلَةٍ عَمَّا وَرَاءَ الْمَمَاتْ
لَوْ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ لَمْ يَكُنْ ... لَهُمْ عَلَى إِحْدَى الْمَعَاصِي ثِبَاتْ
مَنْ شَكَّ فِي اللهِ فَذَاكَ الَّذِي ... أُصِيبَ فِي تَمْيِيزِهِ بِالشَّتَاتْ
يُحْيِيهِمُ بَعْدَ الْبَلَى مِثْلَ مَا ... أَخْرَجَهُمْ مِنْ عَدَمٍ لِلْحَيَاةْ
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وتكفين الميت فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي مات اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه والواجب ثوب يستر جميع الميت لقول أم عطية فلما فرغنا(3/285)
ألقى إلينا حقوه فقال: «أشعرنها» . ولم يزد على ذلك رواه البخاري.
ولا يستر رأس المحرم ولا وجه المحرمة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي مات: «ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» . متفق عليه. والسنة تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن لحديث عائشة كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس بها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجًا متفق عليه.
والمسنون في حق الأنثى خمسة أثواب إزار وخمارٌ وقميصٌ ولفافتين لحديث ليلى بنت قائف الثقفية قالت كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر. رواه أبو داود.
والصبي في ثوبٍ واحد لأنه دون رجل ويباح في ثلاثةٍ، ما لم يرثه غير مكلف، ولصغير قميص ولفافتان، ولخنثى كالأنثى في خمسة أثواب، وأما صفة تهيئة اللفائف ووضع الميت عليها فإنا تبسط بعضها فوق بعض وتجعل اللفافة الظاهرة وهي السفلى من الثلاث أحسنها وذلك بعد تبخيرها بعودٍ ونحوه بعد رشها بما ورد لتعلق رائحة البخور بها ما لم يكن محرما.
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاة الْبِين فِي خِرَقِ
وَغَيْرُ نَفْحَةُ أَعْوَادٍ تَشُبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلَكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
وَيَجْعل الحنوط وهو أخلاط من طيب فيما بين اللفائف وذلك بأن يذر بين اللفائف ثم يوضع الميت على اللفائف مستلقيًا ويجعل منه في قطن بين إليتيه ومثانته.
ويجعل الباقي من القطن المحنط على منافذ وجهه ومواضع سجوده جبهته ويديه وركبته وتحت إبطه وسرته لأن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقته بالمسك وإن طيب كله فحسن لأن أنسًا وطُلِيَ بالمسك وطَلَى ابن عمر ميتًا بالمسك.(3/286)
ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الأيمن على الأيسر ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه ثم يعقدها وتحل في القبر، لقول ابن مسعود إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد. رواه الأثرم.
شِعْرًا:
إِنَّ الَّذِي كَانَ بَعْضُ الأَرْضِ يَمْلِكُهُ ... أَمْسَى مِنْ الأَرْضِ قَدْ يَحْوِيهِ مِتْرَانِ
وَغَابَ عَنْ مُلْكِهِ الْمِسْكِينُ وَاقْتَسَمُوا ... أَمْوَالَهُ فَاعْتَبِرُوا وَاقْتَدِ بِيَقْظَانِ
آخر:
وَعُري عَنْ ثِيَابٍ كَانَ فِيهَا ... وَأُلْبِسَ بَعْدَ أَثْوَابَ انْتِقَالِ
وَبَعْدَ رُكُوبِهِ الأَفْرَاسَ تِيهًا ... يُهَادَى بَيْنَ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ
إِلَى قَبْرٍ يُغَادَرُ فِيهِ فَرْدًا ... نَأَى مِنْهُ الأَقَارِبُ وَالْمَوَالِي
تَخَلَّى عَنْ مُوَرِّثِهِ وَوَلَّى ... وَلَمْ تَحْجُبه مَأْثَرَةُ الْمَعَالِي
موعظة: عباد الله ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد.
خَلَتِ الْقُلُوبِ مِنَ الْمَعَادِ وَذِكْرِهِ ... وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ وَالأَطْمَاعِ
صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثَهُمْ ... فِي الصُّحُفِ وَالتِّلْفَازِ وَالْمِذْيَاعِ
آخر: ... تَزَوَّدْ لِلَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيقَاتُ الْعِبَادِ
يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
عباد الله أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .(3/287)
يا من مشيبه أتى وشبابه أضمحل وخبي، متى تتضرع إلى مولاك وتقف بالباب، أما اعتبرت بالراحلين من الأقارب والجيران والزملاء والأحباب؛ أما قرع سمعك {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} الآية.
كيف حالك إذا بلغت الروح التراق وقطعت الحسرات والندم علائق الأكباد ووضعت في بيت الظلمة والدود والوحدة ولا ولي لك من الله ولا ناصر وضوعف العذاب وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون.
كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور وحرر الحساب بين يدي سريع الحساب عالم السر والخفيات والجاليات ونصب الميزان {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} . وقال تعالى {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}
شِعْرًا:
وَلا بَأْسَ شَرْعًا أَنْ يَطَّبِكَ مُسْلِمٌ
وَشَكْوَى الَّذِي تَلْقَى وَبِالْحَمْدِ فَابْتَدِ
وَتَرْكُ الدَّوَا أَوْلَى وَفِعْلُكَ جَائِزٌ
بِمَا لَمْ تَيَقَّنْ فِيهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ
وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِهِ
وَلاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّكَ تَسْعَدِ
وَيُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ
تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ(3/288)
فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلائِكَةِ الرِّضَا
تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ مُمْسًى إِلَى الْغَدِ
وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلَ الْيَوْمِ وَاصَلَتْ
عَلَيْهِ إِلَى اللَّيْلِ الصَّلاةَ فَاسْنِدِ
فَمِنْهُمْ مُغِبًّا عُدْ وَخَفِّفْ وَمِنْهُمْ الَّذِي
لَذِي يُؤَثِّرُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَدِّدِ
فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ
تَعُودُ وَلا تُكْثِرْ سُؤَالاً تُنَكِّدِ
وَذَكِّرُ لِمَنْ تَأْتِي وَقَوِّ فُؤَادِهُ
وَمُرْهُ بِأَنْ يُوصِي إِذَا خِفْتَ وَارْشُدِ
وَنَدِّ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ لِسَانَهُ
وَلَقِّنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ قَوْلَ الْمُوَحَّدِ
وَلا تُضْجِرَنْ بَلْ إِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَهُ
فَعَاوِدْ بِلَفْظٍ وَاسْأَلْ اللُّطْفَ وَاجْهَدِ
وَيَس إِنْ تُتْلَى يُخَفَّفُ مَوْتُهُ
وَيُرْفَعُ عَنْهُ الإِصْرَ عِنْدَ التَّلَحَّدِ
وَوَجِّهْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ تِلْقَاءَ قِبْلَةٍ
فَإِنْ مَاتَ غَمِّضْهُ وَلَحْيَيْهِ فَاشْدُدِ
وَمَلْبُوسَهُ فَاخْلَعْ وَلَيِّنْ مَفَاصِلاً
وَضَعْ فَوْقَ بَطْنِ الْمَيِّتِ مَانِعَ مُصْعِدِ
وَوَفِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ شَرْعًا وَفَرِّقَنْ
وَصِيَّةَ عَدْلٍ ثُمَّ تَجْهِيزَهُ أُقْصُدِ(3/289)
ج
إِذَا بِانْخِسَافِ الصُّدْغِ أَيْقَنْتَ مَوْتَهُ
وَمَيْلَ أَنْفِهِ مَعْ فَصْلِ رِجْلَيْهِ وَالْيَدِ
وَلا بَأْسَ فِي إِعْلامِ خِلٍّ وَصَاحِبٍ
وَأَنْسَابِهِ وَاكْرَهْ نِدَاءً وَشَدِّدِ
وَسَارِعْ إِلَى التَّجْهِيزِ فَرْضَ كِفَايَةٍ
فَقَدِّمْ وَصِيًّا بَعْدَهُ الأَبِ فَاعْدُدِ
فَجَدٌّ فَأَدْنَى ثُمَّ أَدْنَى مُنَاسِبٍ
فَمَوْلَى فَأَدْنَى أَقْرِبَيْهِ كَمَا ابْتَدِي
وَمُسْتَتِرًا لِلْغُسْلِ ضَعْهُ مُوَجِّهًا
وَمُنْحَدِرًا تِلْقَاءَ رِجْلَيْهِ فَاعْمِدِ
وَصُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَوْقَ قَمِيصِهِ
بِالأُخْرَى بِلا مَسِّ وَحَيْزٍ بِأَبْعَدِ
وَيَخْتَارُ مَجْدُ الدِّينَ لَفَّةَ غَاسِلٍ
عَلَى يَدِهِ ثَوْبًا لِغُسْلِ مُعَوُّدِ
وَيُشْرَعُ سَتْرُ الْمَيِّتِ عَنْ أَعْيُنِ الْوَرَى
وَغَسْلُكَ تَحْتَ السَّقْفِ أَوْ سِتْرًا اشْهَدِ
وَقَرِّبْهُ مِنْ حَالِ الْجُلُوسِ بِرَفْعِهِ
وَلِلْبَطْنِ فَأَعْصُرْ وَأرْفِقَنْ لا تُشَدِّدِ
وَكَثَّرْ لِصَبِّ الْمَاءِ لِيَذْهَبَ بِالأَذَى
وَفِي وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ غَسِّلْ بِأَبْعَدِ
وَلُفَّ لِتَنْضِيفِ النَّجَاسَةِ خِرْقَةٍ
بِكَفٍّ وَنَجِّيهِ وَعَنْ عَوْرَةٍ حُدِ(3/290)
وَتَعْمِيمُهُ بِالْمَا اشْتَرِطْ وَبِخَرَقَةٍ
بِيُمْنَ وَسَمِّ وَانْوِ شَرْطًا بِأَجْوَدِ
وَلا تُدْخِلَنَّ الْمَاءَ فَاهُ وَأَنْفَهُ
وَنَظِّفْهُمَا وَاتْمِمْ وُضُوءَ التَّعَبُّدِ
وَمِنْ رُغْوَةِ السِّدْرِ اغْسِلَنْهُ جَمِيعَهُ
وَبِالأَيْمَنِ ابْدَأْ ثُمَّ لِلأَيْسَرِ أُقْصدِ
ثَلاثًا فَإِنَّ لَمْ يُنْقِ أَوْ بَانَ جَمِيعِهُ
فَغَسِّلْ إِلَى الأَنْقَى وَبِالْوِتْرِ جَدِّدِ
إِلَى مُنْتَهَى سَبْعٍ وَفِي كُلِّ غَسْلَةٍ
فَقَلِّبْهُ وَأرْفِقْ وَامْسَحْ الْبَطْنَ بِالْيَدِ
وَفِي الآخِرِ الْكَافُورَ ضَعْهُ فَإِنْ بَدَا
إِذَا بَعْدَ سَبْعٍ مَخْرَجَ الْمَيِّتِ فَأسْدُدِ
بِقُطْنٍ فَإِنْ يَخْرُجِ فَطِينٍ وَقِيلَ لا
تُغَسِّلْ وَوَضِّ بَعْدَ غُسْلِ الأَذَى قَدِ
وَيُكْرَهُ تَسْرِيحُ الشُّعُورِ بَأَوْطَدٍ
وَشَارِبَهُ وَالظِّفْرُ وَالإِبْطَ فَأجْدُدِ
وَغَسِّلْ وَكَفِّنْ بَعْضَ مَيِّتٍ مُغَيَّبٍ
وَصَلِّ عَلَيْهِ مِثْلَ رِجْلٍ بِأَوْكَدِ
وَيُخْتَارُ لِلْغُسْلِ الأَمِينُ وَعَالِمٌ
بِأَحْكَامِ تَغْسِيلٍ وَلَوْ بِتَقَلُّدِ
وَلا تُفْشِ سِرًّا يُؤَثِّرُ الْمَيْتُ كَتْمَهُ
سِوَى ذِي فُجُورٍ وَابْتَدَاعٍ مُعَوَّدِ(3/291)
وَتَجْهِيزُ مَيِّتٍ خُذْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ
وَقَدِّمْ عَلَى كُلِّ الْحُقُوقِ وَأَكِّدِ
وَوَاجِبُهُ ثَوْبٌ يَلُفُّ جَمِيعَهُ
وَقِيلَ ثَلاثٌ بَلْ مَعَ الدِّينِ أَفْرِدِ
وَيُشْرَعَ فِي بَيْضٍ ثَلاثٍ بَسَطَّتَهَا
طِبَاقًا بِطَيْبٍ وَالدِّثَارَ فَجَوِّدِ
وَحَنِّطْهُ فِيمَا بَيْنَهَا وَاجْعَلَنْ عَلَى
مُلَفَّفِ قُطْنٍ بَيْنَ أَلْيَيْهِ وَاشْدُدِ
وَكَفِّنْهُ وَابْدَأْ بِالْيَسَارِ وَفَوْقَهَا الْـ
يَمِينُ كَذَا الأَطْرَافُ مِنْهَا فَعَقِّدِ
وَمَا عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَفِّرو حُلَّهَا
بِلَحْدٍ وَدَعَ أَكْفَانَهُ لا تُقَدِّدِ
وَيَكْفِي لِفَافٌ مَعَ قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ
وَالأُنْثَى خِمَارٌ مَعَ لِفَافَةٍ ازْدَدِ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
والصلاة على الميت فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الغال صلوا على صاحبكم وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا على(3/292)
أطفالكم فإنهم أفراطكم» . وقوله: «إن صاحبكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه» . وقوله صلوا على من قال لا إله إلا الله.
وتسقط الصلاة عليه بمكلف، لأنها صلاة ليس من شروطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد، وشروط الصلاة على الميت ثمانية النية والتكليف واستقبال القبلة وستر العورة واجتناب النجاسة وإسلام المصلي والمصلي عليه وطهارتهما ولو بالتراب وحضور الميت إن كان في البلد.
وأركان الصلاة على الميت سبعة، القيام في فرضها والتكبيرات الأربع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على النجاشي أربعًا. متفق عليه، وقراءة الفاتحة، لعموم حديث لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن وقال: لتعلموا أنها سنة، أو قال: من تمام السنة. رواه البخاري.
والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء للميت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» . رواه أبو داود والترتيب، والسلام لعموم حديث تحليلها التسليم، وصفة الصلاة على الميت أن ينوي.
ثم يكبر أربعًا يرفع يديه مع كل تكبيرةٍ يحرم بالتكبيرة الأولى ويتعوذ ويسمي ويقرأ الفاتحة ولا يستفتح لأن مبناها على التخفيف، ويكبر التكبيرة الثانية، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي عليه في التشهد، ويكبر في الثالثة ويدعو للميت بأحسن ما يحضر.(3/293)
وسن بما ورد، ومنه: اللهم اغفر لحينًا وميتنًا وصغيرنًا وكبيرنًا وذكرنًا وأُنْاثنًا إنك تعلم منقلبنًا ومثوانًا وأنت على كل شيء قدير اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه عليهما.
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره وزوجًا خيرًا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر وأفسح له في قبره ونور له فيه.
وإن كان الميت المصلى عليه صغيرًا أو مجنونًا واستمر قال: اللهم اجعله ذخرًا لوالديه وفرطًا وشفيعًا مجابًا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم بع أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفاية إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم وإن لم يعلم إسلام والديه دعا لمواليه.
ويؤنث الضمير على أنثى فيقول: اللهم اغفر لها إلى آخر الدعاة ويشير بما يصلح لهما على خنثى، وما جهل هل هو ذكر أم أنثى فيقول في دعائه اللهم اغفر لهذا الميت ونحوه كهذه الجنازة لأنه يصلح لهما.
ويكبر التكبيرة الرابعة ويقف بعدها قليلاً ولا يدعو ويسلم تسليمة واحدًة عن يمينه ويجوز أن يسلمها تلقاء وجهه ويجوز أن يسلم ثانية.
وتسن الصلاة على الميت جماعة كفعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه واستمر عليه الناس وسن أن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة صفوف ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى عليه ثلاثة صفوف من الناس فقد أوجب» . رواه الترمذي وحسنه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.(3/294)
ويجوز أن يصلى على الميت من دفنه إلى شهر وشيء قليل كيوم ويومين يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستة وجوه كلها حسان قاله أحمد. وقال: ومن يشك في الصلاة على القبر وقال أكثر ما سمعت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سعد بن عبادة بعد شهر.
ويصلى على الغائب بالنية لصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي والأولى بالصلاة على الميت وصية العدل فسيد برقيقه فالسلطان فنائبه الأمير فالحاكم فالأولى بغسل رجل فزوج بعد ذوي الأرحام.
ومع تساو يقرع بينهم ومن قدمه ولي لا وصي بمنزلته والسنة أن يقف الإمام والمنفرد عند رأس الرجل الميت المصلى عليه وعند وسط الأنثى لما ورد عن أنس أنه صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام وسطها فقال العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم قال: نعم وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة فقام وسطها متفق عليه.
ويسن أن يلي الإمام من كل نوع أفضلهم فأسن فأسبق ثم يقرع فإن كان رجلاً وصبيًا وامرأة وخنثي قدم إلى الإمام الرجل ثم الصبي ثم الخنثي ثم المرأة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة.
ويقضي المسبوق ما فاته من التكبيرات إذا سلم إمام على صفتها فإن خشي رفع الجنازة تابع التكبير رفعت أو لم ترفع وإذا سلم ولم(3/295)
يقض شيئًا صحت ويجوز دخوله بعد التكبيرة الرابعة ويقضي الثلاث التكبيرات استحبابًا لينال الأجر.
وإن وجد بعض ميت كرجل أو يدٍ فحكمه ككله فيغسل ويصلى عليه بعد ما يكفن وجوبًا لأن أبا أيوب صلى على رجل إنسان قاله احمد وصلى عمر على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس رواهما عبد الله بن أحمد بإسناده.
قال الشافعي ألقى طائر يدًا من وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عتاب بن أسيد وصلى عليها أهل مكة فإن كانت الميت قد صلى عليه غسل ذلك البعض وكفن وجوبًا وصلى عليه استحبابًا لأن الفرض سقط بالصلاة على أكثر الميت.
وكذا إن وجد الباقي من الميت فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن بجنبه ولا يصلى على ما بان وانفصل من حي كيد وسارق وقاطعٍ طريقٍ ما دام الإنسان حيًا.
ولا يصلى على من في أحد جانبي البلد وان كان البلد كبيرًا ولو لمشقة مطرٍ أو مرضٍ لأنه يمكن حضور الميت للصلاة عليه في البلد ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر.
قال الشيخ تقي الدين وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة ولا يصلي على كل غائب قال الشيخ تقي الدين لأنه لم ينقل ومن صلى على ميتٍ كره له إعادة الصلاة كالعيد إلا من صلى عليه بالنية إذا حضر.
وكذا إذا وجد بعض ميتٍ صلى على جملته فتسن الصلاة على ذلك البعض.(3/296)
شِعْرًا:
يَا غَافِلِينَ أَفِيقُوا قَبْلَ مَوْتِكِمْ
وَقَبْلَ يُؤْخَذُ بِالأَقْدَامِ بالأقدام وَاللَّمَمِ
وَالنَّاسُ أَجْمَعُ طَرًّا شَاخِصُونَ غَدًا
لا يَنْطِقُونَ بِلا بُكْمٍ وَلا صَمَمِ
وَالْخَلْقُ قَدْ شُغِلُوا وَالْحَشْرُ جَامِعُهُمْ
وَاللهُ طَالِبُهُمِ بِالْحِلِّ وَالْحَرَمِ
وَقَدْ تَبَدَّى لأَهْلِ الْجَمْعِ كُلِّهِمْ
وَعْدَ الإِلَهِ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالنِّقَمِ
وَكُلُّ نَفْسٍ لَدَى الْجَبَّار شَاخِصَة
لا يَنْطِقُونَ بِلا رُوحٍ مِنَ الزَّحَمِ
اللهم إنا نسألك أن ترفع ذكرنا وأن تضع وزرنا وتصلح أمرنا وتطهر قلوبنا وتنور قبورنا وتغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ولا يصلي الإمام على الغالٍ ولا على قاتل نفسه أما ألغال وهو من كتم شيئًا مما غنمه المسلمون من الكفار ليختص به فلأنه عليه الصلاة والسلام امتنع عن الصلاة على رجل من جهينة غل يوم خيبر وقال: «صلوا على صاحبكم» . رواه الخمسة إلا الترمذي احتج به أحمد وأما قاتل نفسه فلحديث جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاؤه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصلى عليه. رواه مسلم وغيره.(3/297)
وللمصلي على الجنازة قيراط من الأجر وهو أمر معلوم عند الله تعالى وله بتمام دفنها قيراط آخر لما ورد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهد حتى تدفن فله قيراطان» . قيل: وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين» . متفق عليه.
ولمسلم حتى توضع في اللحد وللبخاري من حديث أبي هريرة من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقراطين كل قيراط مثل قيراط أحدٍ وحمل الميت لمحل دفنه فرض كفاية.
ويسن التربيع في حمل الجنازة لما ورد عن ابن مسعود قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع. رواه ماجه وصفته أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه اليمنى.
ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم اليمنى المقدمة على كتفه اليسري ثم ينتقل إلى المؤخرة ولا يكره الحمل بين العموديين وهو ما بين القائمتين المقدمتين أو المؤخرتين أو يجعل كل عمودٍ على عاتقٍ.
لما روي أنه عليه الصلاة والسلام حمل جنازة سعد بن معاذ بين العموديين ويسن الإسراع بالجنازة لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى خير وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» . رواه الجماعة.
شِعْرًا: ... إِنِّي أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... وَالْحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ
غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي ... لَيْلاً فَنَافَرَنِي السُّكُونْ
قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ ... فِي الْقَبْرِ كَيْفَ تَرَى تَكُونْ(3/298)
شِعْرًا: ... نُرَاعِ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا ... وَنَسْكُنُ حِينَ تَخْفَى ذَاهِبَات
كَرَوْعَةِ ثُلَّة لِظُهُورِ ذِئْبٍ ... فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ
ولا يكره الحمل على دابة لغرض صحيح كبعد المقبرة ومثل البعير السيارة ونحوها ويستحب كون الماشي قدام الجنازة قال ابن المنذر: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. رواه أحمد. عن ابن عمر ولأنهم شفعاء والشفيع يتقدم المشفوع له.
وسن كون راكب خلف الجنازة لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها. رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح لأنه إذا سار أمامها الراكب أذى المشاة والقرب من الجنازة أفضل كالإمام في الصلاة.
ويكره جلوس تابعها حتى توضع بالأرض لحديث أبي هريرة قال فيه حتى توضع بالأرض ورفع الصوت مع الجنازة مكروه لحديث لا تتبع الجنازة بصوتٍ ولا نارٍ رواه أبو داود وقول القائل مع الجنازة استغفروا بدعة وروى سعيد أن ابن عمر وسعيد بن جبير قالا لقائل ذلك لا غفر الله لك.
وكره أن تتبع الجنازة امرأة لحديث أم عطية: نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا وحرم أن يتبعها مع منكر يعجز عن إزالته ويلزم القادر على إزالته أن يزيله ولا يترك إتباعها.
ويستحب القيام للجنازة لما ورد عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع» . رواه الجماعة ولأحمد.
وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه وله أيضًا عنه أنه ربما(3/299)
تقدم الجنازة فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام حتى توضع واختار هذا القول الشيخ تقي الدين وعن جابر قال مرت بنا جنازة فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها» .
وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما إنها من أهل الأرض أي من أهل الذمة فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال: «أليست نفسًا» . متفق عليهما.
اللهم وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك ووفقنا للعمل بما يرضيك وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شِعْرًا:
سِهَامُ الْمَنَايَا فِي الْوَرَى لَيْسَ تُمْنَعُ
فَكُلٌّ لَهُ يَوْم وَإِنْ عَاشَ مَصْرَعٍ
وَكُلٌّ وَإِنْ طَالَ الْمَدَى سَوْفَ يَنْتَهِي
إِلَى قَعْرِ لَحْدٍ فِي ثَرَى مِنْهُ يُوَدّع
فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرِينُهُ
إِلَى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيلٍ سَتَدْفَعُ
فَكُلُّ ابْن أُنْثَى سَوْفَ يُفْضِي إِلَى الرَّدَى
وَيَرْفَعُهُ بَعْدُ الأَرَائِكِ شرجعُ(3/300)
ج
وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ بُرْهَةً
قَضَاءً تُسَاوَى فِيهِ عَوْد وَمُرْضِعُ
فَلا يَفْرَحَنَّ يَوْمًا بِطُولِِ حَيَاتِهِ
لَبِيبٍ فَمَا فِي عَيْشِهِ الْمَرْءُ مَطْمَعُ
فَمَا الْعَيْشُ إِلا مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ
وَمَا الْمَوتُ إِلا مِثْل مَا الْعَيْنُ تُهْجَعُ
وَمَا النَّاسُ إِلا كَالنَّبَاتِ فَيَابِسٌ
هَشِيمٌ وَغَضَّ إِثْر مَا بَادَ يَطْلَعُ
فَتَبَّا لِدَارٍ مَا تَزَالُ تُعُلُّنَا
أَفَاوِيقَ كَأْسٍ مَرَّةً لَيْسَ تَقْنَعُ
سِحَابُ أَمَانِيهَا جِهَامٌ وَبَرْقُهَا
إِذَا شِيمَ بَرْقٌ خَلْبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ
تَغُرُّ بَنِيهَا بِالْمُنَى فَتَقُودُهُمْ
إِلَى قَعْرٍ مَهْوَاةٍ بِهَا بِالْمُنَى فَيُمْتَعُ
فَكَمْ أَهْلَكْتُ فِي حُبِّهَا مِنْ مُتَيِّمٌ
وَلَمْ يَحْظَ مِنْهَا بِالْمُنَى فَيُمْتِعُ
تُمَنِّيه بِالآمَالِ فِي نَيْلِ وَصْلِهَا
وَعَنْ غَيَّهِ فِي حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ
أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا
وَلَمْ يَنَلْ الأَمْرُ الَّذِي يُتَوَقَّعُ
فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعِ حُطَامِهَا
وَلَمْ يَهِنْ فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَجْمَعُ(3/301)
وَلَوْ كَان ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ
مِنَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُ يَجْشَعُ
إِلَى أَنْ تُوَافِيهُ الْمَنِيَّة وَهُوَ بَالْ
قَنَاعَةِ فِيهَا آمِنًا لا يُرَوَّعُ
مَصَائِبُهَا عَمَّتْ فَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ
شُجَاعُ وَلا ذَوُ ذِلَّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ
وَلا سَابِحٍ فِي قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرٌ
يَدُومُ فِي بَُوحِ الْفَضَاءِ وَيَنْزِعُ
وَلا ذُو امْتِنَاعٍ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
لَهَا فِي ذَرَى جَوِّ السَّمَاءِ تَرْفَعُ
أَصارته مِنْ بَعْدِ الْحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ
لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آخِرُ الدَّهْرِ مَضْجَعٍ
تَسَاوَى بِهَا مِنْ حِلٍّ تَحْتَ صَعِيدِهَا
عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالْمَمِاتِ وَتُبَّعُ
فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذُووا الْغِنَى
وَذُو لَكِنْ عِنْدَ الْمَقَالِ وَمِصْقَعُ
وَمَنْ لَمْ يَخْفَ عِنْدَ النَّوَائِبِ حَتْفَهُ
وَذَو جُبْنٍ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ يَسْرَعُ
وَذُو جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابٍ وَخَلَبٍ
وَكُلّ بُغَاثٍ ذَلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ
وَمَنْ مَلَكَ الآفَاقِ بَأْسًا وَشِدَّةً
وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بالضَّرُورَةِ يَقْنَعُ(3/302)
وَلَوْ كَشَفَتْ الأَجْدَاثِ مُعْتَبِرًا لَهُمْ
لِيَنْظُرَ آثَار الْبَلَى كَيْفَ يَصْنَعُ
لَشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيلُ وَأَوْجُهًا
مُعَفَّرَة فِي التُّرْبِ شُوْهًا تَفْزِّعُ
غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً
عَبُوسًا وَقَدْ كَانَتْ مِنْ الْبِشْرِ تَلْمَعُ
فَلَمْ يَعْرَف الْمَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ فِيهِمْ
وَلا خَامِلاً مَنْ نَابِهِ يَتَرَفَّعُ
وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا
تَبَيَّنَ مِنْهُمْ مَا لَهُ الْعَيْن تَدْمَعُ
رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْف مِنْهُمْ وَطَالَمَا
رَأَى مَا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَيَمْتِعُ
رَأَى أَعْظُمًا لا تَسْتَطِيعَ تَمَاسُكَا
تَهَافَتْ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ
مُجَرَّدَةً مِنْ لَحْمِهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ
لِذِي فِكْرَةٍ فِيمَا لَهُ يَتَوَقَعُ
تَخُونُهَا مَرَّ اللَّيَالِي فَأَصْبَحَتْ
أَنَابِيبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تُسْمَعُ
إِلَى حَالَةٍ مُسَوَّدَةٌ وَجَمَاجِمٍ
مُطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلَّةٍ لَيْسَ تَرْفَعُ
أُزِيلَتْ عَنِ الأَعْنَاقِ فَهِيَ نَوَاكِسٌ
عَلَى التُّرَابِ مِنْ بَعْدِ الْوَسَائِدِ تُوضَعُ
جج(3/303)
.. عَلاهَا ظَلامٌ لِلْبَلَى وَلَطَالَمَا
غَدًا نُورُهَا فِي حِنْدسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ
كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلا مِفْرقًا لَهَا
نَفَائِسُ تِيجَانٍ وَدُرٍّ مُرَصَّعُ
تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَحْشَةً كُلُّ وَامِقٍ
وَعَافَهُمْ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أَجْمَعُ
وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ
بِوَصْلِهِمْ وِجْدًا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ
يَبْكِيهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ
وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًّا وَيَجْزَعُ
فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ غَرَّهُ طُولُ عُمْرِهِ
وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفٍ تَخْدَعُ
أَفِقْ وَانْظُرُ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ
تَجِدُ كَلَّ مَا فِيهَا وَدَائِعُ تَرْجِعُ
فَأَيْنَ الْمُلُوكَ الصَّيْد قَدْمًا وَمَنْ حَوَى
مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتِ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ
حَوَاه ضَرِيحٌ مِنْ فَضَاءِ بَسِيطِهَا
يَقْصُرُ عَنْ جُثْمَانِهِ حِينَ يَذْرَعُ
فَكَمْ مَلِكْ أَضْحَى بِهَا ذَا مَذَلَّةٍ
وَقَدْ كَانَ حَيًّا لِلْمَهَابَةِ يُتْبَعُ
يَقُودُ عَلَى الْخَيْلِ الْعِتَاقِ فَوَارِسًا
يَسُدُّ بِهَا رَحْبَ الْفَيَافِي وَيُتْرَعُ(3/304)
فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعْمِ فِي ثَرَى
تُوَارِي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ
بَعِيدًا عَلَى قُرْبِ الْمَزَارِ إِيَابُهُ
فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ مَرْجِعُ
غَرِيبًا عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا
بِأَقْصَى فَلاةٍ خِرْقَةٍ لَيْسَ يُرْقَعُ
تَلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتِ بِمَنْزِلٍ
جَدِيبٍ وَقَدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تُمْرِعُ
رَهِينًا بِهِ لا يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً
وَلا يَسْتَطِيعَنَّ الْكَلامَ فَيَسْمَعُ
تَوَسَّدْ فِيهِ التُّرْبَ مِنْ بَعْدِ مَا اغْتَدَى
زَمَانًا عَلَى فُرْشٍ مِنْ الْخِزِّ يَرْفَعُ
كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ فِي الْخَلْقِ لَنْ تَرَى
مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلَهُ لَيْسَ يُصْدَعُ
اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفًا من كل داء واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/305)
(فَصْلٌ)
ثم اعلم الأخ وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لحسن الخاتمة أنه إذا حل بالإنسان الأجل المحتوم ووافته المنية وفاضت روحه وخرجت من الجسد الذي تعمره في الدنيا.
فإن رأيت الناس عامة ومن يلوذون به خاصة كأقربائه وجيرانه وأنسابه وإخوانه وزملائه ومعامليه ما بين شاكٍ وباكٍ ومثنٍ عليه بخيرٍ وداعٍ له وسائلٍ له النجاة من المخاوف وسائلٍ الله له أن يدخله الجنة.
وقد أجمعوا يطلبون له المسامحة والمغفرة من الله لما كان يتجلى لهم من خلق ودينٍ ومعاملةٍ وإحسانٍ ومعروفٍ وسيرةٍ حسنةٍ وكان المثنون عليه من أهل الصلاح والعدالة والورع والتقى والصدق والفضل.
فاعلم أن ثناءهم دليل قوي وبرهان جلي على حسن حال الميت الراحل عن الدنيا إلى الآخرة وإن رأيتهم بالعكس خلاف ما ذكرنا فبدل الثناء والمدح قدح ومكان الترحم والدعاء له الطعن والسب والشتم والاستياء فتجد جيرانه من أهل الصلاح فرحين لانقطاع شره وكذلك من أساء إليهم بمعاملةٍ أو نميمةٍ أو كذبٍ أو أكل حقوقهم أو لما يعلمون عنه من الفسق والفجور والاعتداء والاستطالة على عباد الله بغير حق.
فهذا أيضًا برهان ساطع ودليل واضح على سوء حاله خبث أعماله وفي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(3/306)
«وجبت» . ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا. فقال: «وجبت» .
فقال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذه أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة وهذه أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض» . وفي الحديث الآخر عند الحاكم: «أن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المؤمن من الخير والشر، قلت: ولا يبعد أن الشياطين تنطق على ألسنة الذين يكتبون للفسقة والمجرمين حسن سير وسلوك.
وفي الحديث الذي في المسند: «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» . قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن والثناء السيئ» .
وقال النووي على حديث أنس أنه مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليه خيرًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليه شرًا فقال وجبت الحديث قال الصحيح أنه على عمومه وأن من مات فألهم الله الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة.
ومما يؤيد ما قاله النووي رحمه الله حديث أنس عند أحمد وابن حبان والحاكم مرفوعًا: «ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلموا منه إلا خيرًا إلا قال الله تعالى قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون» .
وفي حديث البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» . فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة؟ فقلنا: واثنان. قال: «واثنان» . ثم لم نسأله عن الواحد.(3/307)
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: ولا يشهد لأحدٍ بالجنة إلا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو اتفقت الأمة على الثناء عليه.
وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم.
وكان أبو ثورٍ يشهد لأخمد بن حنبل بالجنة وبالتالي فإذا شهد عامة المؤمنين ممن تقبل شهادتهم ويوثق بدينهم وأمانتهم وكلامهم من أهل الصدق والفضل والورع لرجل بالخير فهو برهان ودليل على حسن حاله والله أعلم ولا عبرة بثناء الفسقة والفجرة لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم ولا من كان بينه وبين الميت عداوة. لأن شهادة العدو لا تقبل على عدوه.
قال ابن القيم رحمه الله:
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان، وقيادة النفوس، رأوا الدولة للنفس الأمارة، لجئوا إلى حصن التضرع والإلجاء، كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده.
شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهى، فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خبط الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوبوا إلى الرحيل الثاني (يا ليت قومي يعلمون) .
تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وشمروا للسير في سواء السبيل، فالناس مشتغلون بالفضلات، وهم في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح.
«وقع ثعلبان في شبكة. فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة» . تالله ما كانت الأيام إلا منامًا فاستيقظوا.(3/308)
وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما.
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عم معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مرد، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستول عليه.
فإن تولاه الله وجذبه إليه، انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه، اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
شِعْرًا:
أَلا أَخْبِرْ بِمُنْتَزِجِ النَّوَاحِي ... أَطَيرُ إِلَيْهِ مَنْشُورَ الْجِنَاحِ
فَأَسْأَلُهُ وَأَلْطفه عَسَاهُ ... سَيَأْسُو مَا بِدِينِي مِنْ جِرَاحِ
وَيَجْلُو مَا دَجَا مِنْ لَيْلِ جَهْلِي ... بِنُورِ هُدًى كَمُنْبَلِجَ الصَّبَاحِ
فَأَبْصَقَ فِي مُحَيَّا أُمّ دَفْرٍ ... وَأهْجُرُهَا وَأَدْفَعُهَا بِرَاحِي
وَأَصْحُو مِنْ حُمَيَّاهَا وَأَسْلُوا ... عَفَافًا عَنْ جَاذِرهَا الْمِلاحِ
وَاصْرِفْ هِمَّتِي بِالْكُّلِ عَنَهَا ... إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ
أَفِي السِّتِين اهْجِعْ فِي مَقِيلِي ... وَحَادِي الْمَوْتِ يُوقِظُ لِلرَّوَاحِ
وَقَدْ نَشَرَ الزَّمَانُ لِوَاءَ شَيْبِي ... لَيَطْوِينِي وَيَسْلُبُنِي وِشَاحِي
وَقَدْ سَلّ الْحَمَامُ عَلَيَّ نَصْلاً ... سَيَقْتُلُنِي وَإِنْ شَاكَتْ سِلاحِي
وَيَحْمِلُنِي إِلَى الأَجْدَاثِ صَحْبِي ... إِلَى ضِيقٍ هُنَاكَ أَو انْفِسَاحٍ
فَأُجْزَى الْخَيْرَ إِنْ قََدَّمْت خَيْرًا ... وَشَرًّا إِنْ جُزِيتَ عَلَى اجْتِرَاحِي
وَهَا أَنَا ذَا عَلَى عِلْمِي بِهَذَا ... بِطِيءُ الشَّأْوِ فِي سُنَنِ الصَّلاحِ
فَلَوْ أَنِّي نَظَرْتُ بِعَيْنِ عَقْلِي ... إِذَنْ لَقَطَعْتُ دَهْرَي بِالنِّيَاحِ
وَلَمْ أَسْحَبْ ذُيُولِي فِي التَّصَابِي ... وَلَمْ أُطْرَبُ بِغَانِيَةٍ رَدَاحٍ(3/309)
وَكُنْتُ الْيَومَ أَوَّابًا مُنِيبًا ... لَعَلِّي أَنْ تَفُوزُ غَدًا قُدَاحِي
إِذَا مَا كُنْتُ مَكْبُول الْخَطَايَا ... وَعَانِيهَا فَمَنْ لِي بِالْبَرَاحِ
فَهَلْ مِنْ تَوْبَةٍ مِنْهَا نَصُوحٍ ... تُطَيِّرُنِي وَتَأْخُذْ لِي سَرَاحِي
فَيَا لَهْفِي إِذَا جَمَعَ الْبَرَايَا ... عَلَى حَرْبِي لَدَيْهُمْ وَافْتِضَاحِي
وَلَوْلا أَنِّي أَرْجُو إِلَهِي ... وَرَحْمَتُهُ يَئِسْتُ مِنَ الْفَلاحِ
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وسن أن يعمق القبر بأن ينزل للأرض لقوله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» . رواه أبو داود والترمذي وصححه. وقوله للحافر: «أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين» . رواه احمد وأبو داود.
قال أحمد: يعمق إلى الصدر لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك ويكفي ما يمنع السباع والرائحة لأنه يحصل به المقصود وسن أن يسجى قبر لأنثى وخنثي وكره لرجلٍ إلا لعذر.
وسن أن يدخله قبره من عند رجليه إن سهل عليهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - سل من قبل رأسه وعبد الله بن زيد أدخل الحارث من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة. رواه أحمد. ويسن قول مدخله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله.
ويجب أن يستقبل به القبلة إذا وضع في القبر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة(3/310)
قبلتكم أحيًاء وأمواتًا ولأنه طريق المسلمين بنقل الخلف عن السلف.
ويحرم دفن غيره معه إلا لضرورة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن كل ميت في قبرٍ واحدٍ. وأما عند الضرورة فيجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كثر القتلى يوم أحد كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ثم يسأل أيهم أكثر للقرآن فيقدمه في اللحد حديث صحيح.
وسن حثو التراب عليه ثلاثًا ثم يهال عليه التراب لحديث أبي هريرة قال فيه: فحثي عليه من قبل رأسه ثلاثًا. رواه ابن ماجه ويستحب الدعاء للميت بعد الدفن لما ورد عن عثمان رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» . رواه أبو داود.
وسن رفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنمًا لقول جابر أن النبي إذا فرغ رفع قبره عن الأرض قدر شبر. رواه الشافعي ويكره رفعه أكثر لقوله لعلي: «لا تدع تمثالاً ألا طمسته ولا قبرًا مشرفًا ألا سويته» . رواه مسلم.
وسن رش القبر بماء لما ورد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع الحصباء. رواه الشافعي.
قال بعض العلماء: ويستحب الدفن فيما كثر فيه أهل الخير والصلاح فيدفنه معهم وينزله بإزائهم ويسكنه بجوارهم وأن يجنبه قبور من يخاف التأذي بهم كما جاء في أثر أن امرأة دفنت في قبر فاتت أهلها ليلاً أي في النوم فجعلت تعتبهم وتقول ما وجدتم أن تدفنوا إلا إلى فرن الخبز.
فلما أصبحوا لم يجدوا بقرب القبر فرن خبز لكن وجدوا رجلاً سافًا لابن عامر دفن بقربها ورأى بعضهم ولده بعد موته فقال: ما فعل الله بك؟ قال: ما ضرني إلا أني دفنت بإزاء فلانٍ وكان فاسقًا فروعني ما يعذب به. أ. هـ.(3/311)
قصيدة تحتوي على الثناء والشكر والحمد والتضرع على الله عز وجل.
يَا مُلَبِّسِي بِالنُّطْقِ ثَوْبَ كَرَامَةٍ ... وَمَكْمَلِي جُودًا بِهِ وَمُقَوِّمِي
خُذْنِي إِذَا أَجَلِي تَنَاهَى وَانْقَضَى ... عُمْرِي عَلَى خَطٍ إِلَيْكَ مُقَوِّمِي
وَاكْشِفْ بِلُطْفِكَ يَا إِلَهِي غُمَّتِي ... وَاجْل الصَّدَأَ عَنْ نَفْسِ عَبْدِكَ وَارْحَمْ
فَعَسَايَ مِنْ بَعْدِ الْمَهَانَةِ اكْتَسَى ... حُلَلِ الْمَهَابَةَ فِي الْمَحَلِّ الأَكْرَمِ
وَأَبُوءُ بِالْفِرْدَوْسِ بَعْدَ إِقَامَتِي ... فِي مَنْزِلٍ بَادِ السَّمَاحَةَ مُظْلِمٌ
فَقَدْ اجْتَوَيْتَ ثَواي فِيهِ وَمَنْ تَكُنْ ... دَارُ الْغُرُورِ لَهُ مَحَلاً يَسْأَمُ
دَارٌ يُغَادِرُ بُؤْسَهَا وَشَقَاءَهَا ... مِنْ حِلِّهَا وَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَمْ
وَيَعُودُ صَافِي عَيْشَهُ وَحَيَاتُهُ ... كَدْرًا فَلا تَجْنَحْ إِلَيْهَا تَسْلَمُ
فَبِكَ الْمُعَاذُ إِلَهَنَا مِنْ شَرِّهَا ... وَبِكَ الْمَلاذُ مِنَ الْغِوَايَةِ فَاعْصِمِ
وَعَلَيْكَ مُتَّكِلِي وَعَفْوُكَ لَمْ يَزَلْ ... قَصْدِي فَوَاخُسْرَاهُ عَنْ لَمْ تَرْحَمِ
يَا نَفْسُ جِدِّي وَادْأَبِي وَتَمَسَّكِي ... بِعُرَى الْهُدَى وَعُرَى الْمَوَانِعِ فَافْصُم
لا تُهْمِلِي يَا نَفْسُ ذَاتِكِ إِنَّ فِي ... نِسْيَانِهَا نِسْيَانُ رَبِّكِ فَاعْلَمِي
وَعَلَيْكِ بِالتَّفْكِيرِ فِي آلائِهِ ... لِتَبُوئِي جَنَّاتِهِ وَتَنَعَّمِي
وَتَيّمَّمِي نَهْج الْهِدَايَةِ إِنَّهُ ... مُنْجٍّ وَعَنْ طُرُقِ الضَّلالَةِ أحْجُمِي
لا تَرْتَضِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّة مَوْطِنًا ... تُعْلَى عَلَى رُتَبِ السَّوَارِي الأَنْجُمِ
وَتَعَايَنِي مَا لا رَأَتْ عَيْنٌ وَلا ... أُذُن إِلَيْهِ وَعَتْ فَجُدِّي تَغْنَمِي
وَتُشَاهِدِي مَا لَيْسَ يُدْرِكُ كُنْهُهُ ... بِالْفِكْرِ أَوْ بِتَوَهُّم الْمًتَوَهِمِ
قُدْسٌ يَجُلُّ بِأَنْ يَحُلَّ جَنَابَهُ ... يَا نَفْسُ إِلا كُلُّ شَهْمٍ أَيْهَمِ
وَتَجَاوُرِي الأَبْرَار فِي مُسْتَوْطِن ... لا دَاثِرٍ أَبَدًا وَلا مُتَهَدِّمِ
يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ شَبّتْ وَلَمْ تَعُدْ ... عَمَّا لَهِجْتَ بِهِ وَلَمْ تَتَنَدَّمِ
وَاعْكُفْ عَلَى تَمْجِيدِ مُوجِدُكَ الَّذِي ... عَمَرَ الْوُجُودِ الْجُودِ مِنْهُ وَعَظّمِ(3/312)
فَبِذِكْرِهِ تُشْفَى النُّفُوسُ مِنْ الْجَوَى ... فَعَلَيْهِ إِنْ آثَرْتَ بُرْؤُكَ صَمِّمِ
أَكْرِمْ بِنَفْسِ فَتَىً رَأَى سُبُلَ الْهُدَى ... تَهْوِي فَمَالَ إِلَى الصِّرَاطِ الأَقْوَمِ
ذَاكَ الَّذِي يَحْظَى بِيَوْمِ مَعَادُهُ ... ملكا سَجِيسَ الدَّهْرِ لَمْ يَتَصَرَّم
يَا جَابِرَ الْعَظْمِ الْكَسِيرِ وَغَافِر الْـ ... جُرْمَ الْكَبِيرِ لِكُلِّ عَبْدٍ مُجْرِمِ
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ وَذَرِيعَةٌ ... أَنْجُو بِهَا إِلا اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِ
فَاقْبَلْ بِمَنِّكَ تَوْبَتِي مِنْ حَوْبَتِي ... فَعَسَى سَعَادَةُ أَوْبَتِي لَمْ أُجْرَمِ
حَمْدًا لَكَ اللَّهُمَّ يُنْمَى مَا جَلا ... وَضْحُ الصَّبَاحُ سَوَادَ لَيْلٍ أَسْحَمِ
وَعَلَى نَبِيِّكَ ذِي الثَّنَاءِ وَآلِهِ ... السَّادَةِ الأُمَنَاءِ صَلَّ وَسَلِّمِ
وَعَلَى صَحَابَتِهِ الَّذِينَ بِنَصْرِهِ ... قَامُوا وَنَارَ الْكُفْرِ لَمْ تَتَضَرَّمِ
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ويحرم إسراج القبر واتخاذ مسجد عليه وتجصيصه وتزويقه والبناء عليه والاستشفاء بترابه وتخليقه وتبخيره وتقبيله والجلوس عليه والوطء عليه والكتابة(3/313)
عليه والتخلي عليه والطواف به والتمسح به والتخلي بين القبور والصلاة عنده لأجل الدعاء والاتكاء إليه.
ويكره المشي بالنعل إلا لخوف شوك ونحوه وإليك أدلة ما سبق منها حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الخمسة إلا ابن ماجة وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . متفق عليه.
وعن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي ولفظه نهى أن تجصص القبور أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر» . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي وعن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا على قبر فقال: «لا تؤذ صاحب القبر أو لا تؤذه» . رواه أحمد.
وعن بشير بن الخصاصية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» . رواه مسلم وعن عقبة بن عامر قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن أطأ على جمرةٍ أو سيفٍ أحب إليَّ من أن أطأ على قبر مسلم» . رواه الخلال وابن ماجة.
ويحرم دفن في ملك الغير وينبش ما لم يأذن له المالك للأرض.
ويحرم نبش ميت باق لميت آخر لما في النبش من هتك حرمة الميت ومتى علم أن الميت بلي وصار رميمًا جاز نبشه ودفن غيره فيه.
وإن شك في أنه بلي وصار رميمًا رجع إلى قول أهل الخبرة والمعرفة بذلك فإن حفر فوجد في الأرض عظامًا دفنها موضعها وأبقاها في مكانها وأعاد(3/314)
التراب عليها كما كان أولاً ولم يجز دفن ميت آخر عليه وحفر في مكان آخر.
شِعْرًا:
محمدُ مَا أَعْدَدْتَ لِلْقَبْرِ وَالْبَلَى ... وَلِلْمَلَكَيْنِ الْوَاقِفَينَ عَلَى الْقَبْرِ
وَأَنْتَ مُصِرٌّ لا تُرَاجِعُ تَوْبَةً ... وَلا تَرْعَوِي عَمَّا يُذَمُّ مِنَ الأَمْرِ
سَيَأْتِيكَ يَوْمٌ لا تُحَاوِلُ دَفْعَهُ ... فَقَدِّمْ لَهُ زَادًا إِلَى الْبَعْثِ وَالنَّشْرِ
آخر: ... أَبْقَيْتَ مَالَكَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ ... فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أَبْقَى لَكَ الْمَالُ
الْقَوْمُ بَعْدَكَ فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ ... فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ دَارَتْ بِكَ الْحَالُ
مَلَّوُا الْبُكَاءَ فَمَا يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ ... وَاسْتَحْكَمَ الْقِيلَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَالُ
مَالَتْ بِهِمْ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمْ ... وَأَدْبَرَتْ عَنْكَ وَالأَيَّامُ أَحْوَالُ
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
تسن زيارة قبر مسلم لرجل وأن يقف الزائر أمامه قريبًا منه لما ورد عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها» . رواه مسلم زاد الترمذي: «فإنها تذكر الآخرة» . زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود وتزهد في الدنيا.
ويقول الزائر للقبور والمار بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم.
لما ورد عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية. رواه مسلم.(3/315)
شِعْرًا:
مَحَلَّةُ سَفَرٍ كَانَ آخِرُ زَادَهُمْ ... إِلَيْهِ مَتَاعٌ مِنْ حَنُوطٍ وَمِنْ خِرَقْ
إِلَى مَنْزِلٍ سُوَى الْبَلَى بَيْنَ أَهْلِهِ ... فَلَمْ تَسْتَبِينَ فِيهِ الْمُلُوكَ وَلا السُّوَقْ
آخر: ... أَتَيْتَ إِلَى خَالِقِي خَاضِعًا ... وَخَدِّي فِي الثَّرَى يُوضَعُ
وَإِنْ كُنْتَ وَافِيتَهُ مُجْرِمًا ... فَإِنِّي فِي عَفْوِهِ أَطْمَعُ
وَكَيْفَ أَخَافُ ذُنُوبًا مَضَتْ ... وَعَفْوُه عَمَّ الْوَرَى أَجْمَعُ
وعن بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة فاقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنت سلفنا ونحن بالأثر. رواه الترمذي.
شِعْرًا:
قِفْ بِِالْقُبُورِ بِأَكْبَادِ مُصَدَّعَة ... وَدَمْعَة مِنْ سُوَيْدا الْقَلْبِ تَنْبَعِثُ
وَسَلْ بِهَا عَنْ رِجَالٍ طَالَ مَا رَشَفُوا ... ثَغْرَ النَّعِيمِ وَمَا فِي ظِلِّهِ مَكَثُوا
مَاذَا لَقُوا فِي خَبَايَاهَا مَا قَدِمُوا ... عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا مِنْ أَجْلِهِ ارْتَبَثُوا
وَعَنْ مَحَاسِنِهِمْ إِنْ كَانَ غَيْرِهَا ... طُولُ الْمُقَامُ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَاللَّبْثُ
وَمَا لَهُمْ حَشَرَاتِ الأَرْضِ تَنْهِشُهُمْ ... نَهْشًا تَزُولُ بِهِ الأَعْضَاء وَالْجُثَثُ
وَإِنْ يُجِبْكَ بِمَا لاقَا مُجِيبُهُمْ ... وَلَنْ يُجِيبَ وَأَنَّي يَنْطِقُ الْجَدَثُ
فَانْظُرْ مَكَانَكَ فِي أَفْنَاءِ سَاحَتِهِمْ ... فَإِنَّهُ الْجَدُّ لا هَزِل وَلا عَبَثْ
وتحرم زيارة القبور للنساء لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه واحتج شيخ الإسلام رحمه الله على تحريمه بلعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زورات القبور وصحح الحديث.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين إذا كان طريق على حد المقبرة هل يكره(3/316)
للنساء المرور معه فأجاب إذا كان للناس طريق على المقبرة ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس لأنها لا تسمى زائرة. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
شِعْرًا:
وَلَمَّا حَلَلْنَا مِنْ بِجَايَةَ جَانِبًا ... تُصَانُ بِهِ تِلْكَ الْجُسُوم وَتُكْرَمُ
وَجَدْتُ لَهَا طِيبًا وَرُوحًا وَرَاحَةً ... كَأَنِّي لأَنْفَاسِ الصِّبَا أَتَنَسَّمُ
فَقُلْتُ لَصْحِبِي مَا الَّذِي أَمْرَجْتُ لَهُ ... مَقَابِرُ مِنْهَا لا طِىءٌ وَمُسَنَّمُ
فَأَوْهَمْتُهُمْ أَنّي جَهِلْتُ وَأَنَّنِي ... لأَدْرِي بِذَاكَ الأَمْر مِنْهُم وَأَفْهَمُ
فَقَالُوا طَلَبْنَا عِلْمَ ذَاكَ فَلَمْ نَجِدْ ... سِوَى رِمَمٍ مِمَّنْ تُحِبُّ وَتُعْظِمُ
تَضَوَّعَ بَطْنُ الأَرْضِ مِنْهَا كَأَنَّمَا ... تَفَتَّقَ مِنْ دَارَيْنِ مِسْكٌ مُخَتَّمُ
فَفَاضَتْ دُمُوعِي عِنْدَك ذَاكَ وَرُبَّمَا ... تَشْهر بِالدَّمْعِ السّرَارِ الْمُكْتَمُِ
خَلِيلِي مَا بَالِي وَبَالَ مَصَائِبُ ... يراع لذاكرَاهَا فؤادِي وَيَكْلَمُ
وَمِمَّا شَجَانِي وَهُوَ أَعْظَمُ أَنَّنِي ... قَذَفْتُ بِهَا مُسْوَدَّةَ الْجَوْفِ تَلْطِمُ
وَلَمْ أَدْرِ مَا كَانَتْ تَحِيَّةَ خِصْمِهِ ... لَهُ هَلْ بِبُشْرَى أَمْ بِشَعْنَاءِ تَقْصِمُ
وَأَعْظَمُ مِنْهُ مَوْقِعًا وَأَشَدُّهُ ... وَمَا خَصَّنِي أَدْهَى عَلَيَّ وَأَعْظَمُ
بِأَنِّي فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ سَالِكٌ ... أُسَاقُ إِلَيْهَا إِنْ أَبَيْت وَأُرْغَمُ
وَمَا أَنَا أَدْرِي مَا أُلاقِي وَمَا الَّذِي ... عَلَيْهِ إِذَا مَا كَانَ ذَلِكَ أَقْدَمُ
فَهَلْ مِنْ دَمٍ ابْكِيهِ صرفنا فَإِنَّمَا ... يَبْكِي عَلَى هَذَا مِنْ الْمُقْلَةِ الدَّمُ
اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/317)
(فَصْلٌ)
تسن تعزية المسلم المصاب بالميت لما ورد عن الأسود عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عزى مصابًا فله مثل أجره» . رواه ابن ماجة والترمذي وحديث عمرو بن حزم مرفوعًا: «ما من مؤمن يعزى أخًا بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الجنة» . رواه ابن ماجه
واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب المصيبة ويخفف حزنه ويهون مصيبته.
وهي مستحبه لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي داخلة قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} .
وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية ثم التعزية التي هي الأمر بالصبر والرضا بما قدر الله مستحبة قبل دفن الميت وبعده وهو أفضل لأن أهل الميت مشغولون قبل دفنه بتجهيزه ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر هذا إذا لم يظهر منهم جزع فإن تبين له منهم جزع قدم التعزية ليسكنهم.
قال العلماء ويكره الجلوس للتعزية وذلك بان يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية لما في ذلك من استدامة الحزن وقد حدث في زمننا هذا أناس يقبلون المصاب بالميت مع تعزيتهم له ولا أدري ما مسندهم ولا اعلم أن أحدًا من الصحابة أو التابعين فعل ذلك ولا الذين بعدهم على منتصف هذا القرن الرابع عشر.
اللهم اعصمنا عن البدع وأحسن ما يعزى به ما روي في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال أرسلت إحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرسول الله تدعوه وتخبره أن ابنًا لها في الموت فقال عليه الصلاة والسلام للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب» . وذكر الحديث.(3/318)
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - أن لله ما أخذ أن العالم كله ملك لله ولم يأخذ ما هو لكم بل هو آخذ ما هو له عندكم في معنى العارية وقوله وله ما أعطى أي ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه بل سبحانه يفعل فيه ما يشاء وكل شيءٍ بأجلٍ مسمى.
فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى فمحال تأخيره أو تقديمه قال تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} فإذا علمتم ذلك فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ويقال للمصاب بمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاؤك أو يقول غير ذلك قال الموفق لا أعلم في التعزية شيئًا محدودًا إلا أنه يروى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزى رجلاً فقال: «رحمك الله وأجرك» . رواه أحمد. ويقول المعزى: استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك ويحرم تعزية الكافر سواء كان الميت مسلمًا أو كافر لأن فيها تعظيمًا للكافر.
وعزى بعضهم أخًا له في ابنه فقال: أحسن عزاهم فيه وأعظم لهم الأجور والهمهم التسليم للمقدور نقول جميعًا كما قال الصابرون {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فالله الله أوصيك أخي إن تتدرع بِالرِّضا وتسلم للقضاء فالمصاب من حرم الثواب.
واذكر آية في كتاب الله تشرح للمؤمن صدره وتجلب له صبرة وتهون خطبة وتذكره ربه قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إلى قوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} وفي الصحيح عن(3/319)
صهيب مرفوعًا: " عجبًا لأمر المؤمن إن أمره خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ".
وقال آخر يعزى بعض إخوانه: المأمول فيكم الصبر والاحتساب والتعزي بعزاء الله فقد قال بعض العلماء إنك لن تجد أهل العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجًا عند المصائب وأحسنهم طمأنينة واقلهم قلقًا عند النوازل وما ذاك إلا لما أتوا مما حرمه الجاهلون.
قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبة لأن العبد وأهله وماله ملك لله يتصرف فيه حيث جعله عند عبده عارية.
والمعير مالك قاهر قادر والعبد محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده وملك العبد متعة معارة الثاني أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق الذي له الحكم والأمر ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره ويأتي فردًا بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ ولكن بالحسنات والسيئات.
ومن هذا حاله لا يفرح بموجود ولا يأسف على مفقودٍ وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة وأطمأن بأذن الله وقد قيل:
مَا قَدْ قضي يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ ... وَلَكَ الأَمَان مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْدَرِ
وَتَعَلَّمِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ كَائِنٌ ... يَجْرِي عَلَيْكَ عَذِرْتَ أَمْ لَمْ تُعْذَرِ
ومن صفات المؤمن أنه عند الزلازل وقور وفي الرخاء شكور ومما يخفف المصائب برد التأسي فانظروا يمينًا وشمالاً وأمام وَوَراء فإنكم لا تجدون إلا من(3/320)
قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت أعوذ بالله من الخسران.
ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه لم يرى إلا مبتلي إما لفوت محبوبٍ أو حصول مكروهٍ وإن سرور الدنيا أحلام ليلٍ أو كظلٍ زائلٍ إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أساءت دهرًا جمعها على انصداع ووصلها على انقطاع.
إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها حالها انتقال وسكونها زوال غرارة خدوع معطية منوع نزوع ويكفي في هوانها على الله أن لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته كما قال بعض السلف لو مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه ولا ليعذبه ولكن امتحانًا لصبره ورضاه عنه واختبارًا لإيمانه وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابة منكسر القلب بين يديه فهذا من حيث المصائب الدنيوية وأما ما جرى عليكم فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية.
ولعمر الله إن من سلم له دينه فالمحن في حقه منح والبلايا عطايا والمكرهات له محبوبات وأما المصيبة العظمى والخطب الأكبر والكسر الذي لا يجبر والعثار التي لا تقال فهي المصيبة في الدين كما قيل:
(وَكُلُّ كَسْرٍ فِإِنَّ اللهَ يَجْبِرَهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّين جُبْرَانُ)
آخر:
الدِّينُ رَأْسُ الْمَالِ فَاسْتَمْسِكْ بِهِ ... فَضِيَاعُهُ هُوَ أَعْظَمُ الْخُسْرَانِ
آخر:
لَعَمْرِيَ مَا الرَّزِيَّة فَقْدُ قَصُرٍ ... فَسِيحٍ مُنْيَةٍ لِلسَّاكِينِنَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِين ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا(3/321)
آخر:
لَعَمَرْيَ مَا عُمْرٌ يُعَدُّ بِضَائِعِ ... إِذَا كَانَ بِالتَّهْلِيلِ وَالذِّكْرِ يُعْمَرُ
آخر:
إِذَا الْمَرْء لَمْ يُدْرِكْ رِضَى خَالِقُ الْوَرَى ... فَمَا حَظُّهُ فِي أَنَّ يَطُولَ بِهِ الْعُمْرُ
آخر:
لِمَنْ تَطْلُبُ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا ... رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُوس رَبِّ الْبَرِيّةِ
آخر:
(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنْ الله عَن ضَيْعَتِهِ عِوَضُ)
وقد مضت سنة احكم الحاكمين لمن أراد به خيرا أن يقدم الابتلاء بين يديه ومن أسباب السلو عن المصائب وأقوى الأدوية بإذن الله تعالى لفاقد الحبيب العلم بأن الدنيا فانية وزائلة وأنها مخلوقة للذهاب والأفول وأن ما فيها يتغير ويتحول ويضمحل ويفنى لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة.
روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كان لسليمان بن داود عليهما السلام ابن يجد به وجدًا شديدًا فمات الغلام فحزن عليه حزنًا شديدًا وروي ذلك في قضائه ومجلسه فبعث الله إليه ملكين في هيئة البشر فقال: ما أنتما؟ فقالا خصمان قال: اجلسا بمجلس الخصوم فقال أحدهما: إني زرعت زرعًا فأتى هذا فأفسده.
قال سليمان عليه السلام: ما يقول هذا؟ قال: أصلحك الله إنه زرع في الطريق وإني مررت به فنظرت يمينًا فإذا الزرع ونظرت شمالاً فإذا الزرع ونظرت قارعة الطريق فإذا الزرع فركبت قارعة الطريق فكان في ذلك فساد زرعه.
فقال سليمان عليه السلام: ما حملك على أن تزرع بالطريق أما علمت أن الطريق سبيل الناس ولابد للناس أن يسلكوا سبيلهم فقال له أحد الملكين أو ما علمت يا سليمان أن الموت سبيل الناس ولابد للناس من أن يسلكوا سبيلهم.
قال: فكأنما كشف عن سليمان الغطاء وهذا من لطيف التعزية لمن حلت به رزية.(3/322)
أَرَى الدَّهْرَ أَغْنَى خُطْبَة عَنْ خُطَّابُهُ ... بِوَعْظٍ شَفَى الْبَابَنَا بِلُبَابِهِ
لَهُ قَلْبٌ تَهْدِي الْقُلُوب صَوَادِيًا ... إِلَيْهَا وَتَعْمَى عَن وَشِيكِ انْقِلابِهِ
هُوَ اللَّيْثُ إِلا أَنَّهُ وَهُوَ خَادِرٌ ... سَطَا فَأَغَابَ اللَّيْثَ عَنْ أَنْسِ غَابِهِ
وَهَيْهَاتَ لَمْ تَسْلَمْ حَلاوَةَ شَهْدِهِ ... لِصَابٍ إِلَيْهِ مِنْ مَرَارَةِ صَابِهِ
مُبِيدٌ مَبَادِيهِ تَغُرُّ وَإِنَّمَا ... عَوَاقِبَهُ مَخْتُومَةٌ بِعِقَابِهِ
أَلَمْ تَرَ مَنْ سَاسَ الْمَمَالِكِ قَادِرًا ... وَسَارَتْ مُلُوكُ الأَرْضِ تَحْتَ رِكَابِهِ
وَدَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَكَادَتْ تُحِلُّهُ ... عَلَى شُهْبِهَا لَوْلا خُمُودُ شِهَابِهِ
لَقَدْ أَسْلَمْتُهُ حَصْنَهُ وَحُصُونُهُ ... غَدَاة غَدا عَنْ كَسْبِهِ بِاكْتِسَابِهِ
فَلا فِضَّةٌ أَنْجَتْهُ عِنْدَ انْفِضَاضِهِ ... وَلا ذَهَبٌ أَغْنَاهُ عِنْدَ ذَهَابِهِ
سَلا شَخْصِه وَرَّاثُهُ بِتُرَاثِهِ ... وَأَفْرَدَهُ أَتْرَابَهُ بِتُرَابِهِ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فَصْلٌ)
قيل لرجل: إنك تموت؟ قال: وإلى أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله. قال: ما أكره أن يذهب بي إلى من لم أرى الخير إلا منه ولو قال أنا افرح وأسر وأستبشر بذهاب إلى الله.
وعزى رجل آخر بابنٍ له فقال: كان لك من زينة الحياة الدنيا وهو اليوم من الباقيات الصالحات.
ولما احتضر المنصور قال: اللهم إن كنت تعلم أني قد ارتكبت الأمور العظام جرأة مني عليك فإنك تعلم أني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مَنًّا منك لا منًّا عليك.
ومات عبد الله بن مطرف فخرج مطرف في ثياب حسنة فأنكر عليه(3/323)
فقال: أفأستكين لها وقد وعدني عليها ربي ثلاثًا إحداها أحب إلي من الدنيا وما فيها {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
قيل إنه دخل ملك الموت على داود عليه وعلى نبينا السلام، قال: من أنت؟ قال: الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشى.
قال: فإذا أنت ملك الموت ولم استعد بعد قال: يا داود أين جارك فلان أين قريبك فلان، قال: مات. قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد للموت.
عن عائشة رضي الله عنها لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب عن وجهه فقبل ما بين عينيه وبكى طويلاً: فلما رفع على السرير قال: «طوباك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها» .
ودخل على المأمون في مرضه وهو يجود بنفسه فإذا هو قد فرش له جل الدابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ عليه ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه.
وقال عمرو بن العاص لابنه حضره الموت من يأخذ هذا المال بما فيه قال: من جدع الله أنفه فقال: احملوه إلى بيت مال المسلمين.
ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه» . ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إنك أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك فأهل العفو أنت.
وإن تعاقب فبما قدمت يداي «سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين» فمات وهو مغلول مقيد فبلغ الحسن بن علي فقال: استسلم الشيخ حين أيقن بالموت ولعلها تنفعه.(3/324)
قالت عائشة رضي الله عنها: لا أغبط أحدًا بهوان الموت بعد الذي رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسمع أو الدرداء رجلاً يقول في جنازة: من هذا؟ قال: أنت وإن كرهت فأنا.
وسمع الحسن امرأة تبكي خلف جنازة وتقول: يا أبتاه مثل يومك لم أره. فقال لها: بل أبوك مثل يومه لم يره.
وقيل: إنه لما احتضر إبراهيم عليه السلام قال: هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله. قال: اقبض روحي الساعة.
ونعيت إلى ابن عباس بنت له في طريق مكة، فنزل عن دابته فصلى ركعتين ثم رفع يديه وقال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله. ثم ركب ومضى.
وقال رجل لأويس القرني أوصيني. قال: توسد الموت إذا نمت واجعله نصب عينيك إذا قمت. وقال الثوري: ينبغي لمن كان له عقل إذا عقل إذا أتي عليه عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهيئ كفنه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عمرو بن عبيد يعزيه أما بعد فإنا أناس من أهل الآخرة أسكنا في الدنيا أموات أباء أموات أبناء أموات فالعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميتٍ.
وقيل للحسن فلان في النزع. قال: وما معنى النزع؟ قالوا: القرب. قال: هو في ذلك منذ خلق.
وتوفيت أم قاضي بلخ فقال له حاتم الأصم: إن كانت وفاتها عظة لك فعظم الله أجرك على موت أمك وإن لم تتعظ بها فعظم الله أجرك على موت قلبك.(3/325)
وقال له: أيها القاضي منذ كم تحكم بين عباد الله؟ قال منذ ثلاثين سنة قال: هل رد الله عليك حكمًا؟ قال: لا قال فإن الله لم يرد عليك أحكامك في ثلاثين وترد حكمًا واحدًا حكم عليك.
وعزى آخر بأخيه فقال له: انظر مصيبتك في نفسك تنسك فقد غيرك واذكر قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} وخذ بقول الشاعر:
تَعز فَكُلُّ سَالِكٍ لِسَبِيلِهِ ... وَكُلُّ امْرِئٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ جَازِعٌ
وَنَحْنُ سَوَاءٌ فِي الْمُصَابُ وَإِنْ نَأَتْ ... بِنَا الدَّار فَالأَرْحَامُ مِنَّا جَوَامِعُ
وَلا شَكَّ مِنَّا بِالتَّعَزِي وَإِنَّمَا ... نُعَزِّيكَ إِذَا جَاءَتْ بِذَاك الشَّرَائِعُ
آخر: ... تَفَكَّرْ فَإِنْ كَانَ الْبُكَا رَد هَالِكًا ... عَلَى أَحَدٍ فَاجْهَدْ بُكَاء عَلَى عَمْرو
وَلا تَبْكِ مَيِّتًا بَعْدَ مَيِّتٍ أَجِنَّه ... عَلي وَعَبّاس وَآل أَبِي بَكْرٍ
آخر: ... وَيَبْكِي عَلَى الْمَوْتَى وَيَتْرُكُ نَفْسَهُ ... وَيَزْعُمُ أَنْ قَدْ قَلَّ عَنْهُمْ عَزَاؤُهُ
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلاً وَرَأْيٍ وَفِطْنَة ... لَكَان عَلَيْهِ لا عَلَيْهُمْ بُكَاؤُهُ
شِعْرًا: ... إِلَهِي عَفْوًا مِنْ ذُنُوبٍ تَثَاقَلَتْ ... عَلَى ظَهْرِ عَبْدٍ لا يُطِيقُ لَهَا حِمْلاً
عَصَاكَ فَيَا مَوْلاهُ مِنْ دُونِ رَقَبَةٍ ... وَيَخْشَى إِذَا تُبْلَى السَّرَائِرُ أَنْ يُبْلَى
فَإِمَّا إِلى نَارٍ وَإِمَّا لِجَنَّةٍ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِفِعْلَتِهِ قُبُلا
وَيَرْكَنُ لِلراحَات قَبْلَ بُلُوغِهَا ... وَكَمْ ضَاحِكٍ كَانَ الْبُكَاءُ بِهِ أَوْلاً
فَمَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا لِنَعْصِرَ وَجْهَنَا ... وَلا لِنَرَى غَيْرَ اعْتِبَارٍ بِهَا شُغْلاً
فَيَا رَبّ وَفِّقْ للرَّشَادِ مَطَالِبِي ... وَيَسِّرْ لِمَا تَهْوَاهُ لِي مِنْ هُدَى فِعْلاً
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(3/326)
(فَصْلٌ)
وكتب ابن السماك إلى هارون الرشيد يعزيه بولده فقال أما بعد فإن استطعت أن يكون شكرك لله عز وجل حيث قبضه كشكرك له حيث وهبه لك فافعل فإنه حيث قبضه أحرز لك هبته.
ولو بقي لم تسلم من فتنة أرأيت جزعك على ذهابه وتلهفك على فراقه أرضيت الدار لنفسك فترضاها لأبيك أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت متعلقًا بالخطر والسلام.
وان شاء قال إذا كان صغيرًا عظم الله أجرك وجبر مصيبتك وأذهب عنك الحزن وجعله لك فرطًا وذخرًا ووسيلة لاكتساب الأجر في الأخرى وأنت خبير بأن الموت مصير كل العباد قال الله جل وعلا وتقدس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
ومثلك ولله الحمد لا يحتاج إلى التسلية والنصيحة لأنه ليس بخاف عليك أن الصبر قد حث الله عليه ووعد بكثرة الأجر وأنه أولى ما تمسك به مؤمن واعتصم به محتسب فالتسليم لأمر الله بما قدره وقضاه في سابق علمه يستوجب الثواب الجزيل وحسبنا الله ونعم الوكيل.
شِعْرًا:
كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرّ عَلَى الْفَتَى ... وَتَهُونُ غَيْر مُصِيبَةِ فِي الدِّينِ
آخر:
رَأَيْتُ بَنِي الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا ... تَرَحَّلُ وَفْد حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدٌ
وَكُلٌّ يَحُثُّ السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا ... فَيَمْضِي بِذَا نَعْش وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ
آخر:
وَتَأْكُلُنَا أَيَّامُنَا فَكَأَنَّمَا ... تَمُرُّ بِنَا السَّاعَاتُ وَهِيَ أُسُودُ
آخر:
وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلُ ... يَحُثُّ بِهَا حَاد مِنَ الْمَوْتُ قَاصِدٌ(3/327)
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا ... مَنَازِلُ تُطْوَى وَابْن آدَم قَاعِدُ
أو تقول: بلغني وفاة الأخ العزيز تغمده الله في رحمته التي وسعت كل شيء ووفقنا وإياكم للصبر والاحتساب.
وعلى كل حال فالأخ أولى من يتلقى أمر الله بالقبول والتسليم ويلقى الخطوب الصادعة بقلب سليم وهو أدرى بأن هذه الدار ليست بدار قرار وأن المفقود نزل في جوار الكريم وشتان بين ذاك الجوار وهذا الجوار.
وليس إلا الصبر واحتساب الأجر من المولى الأجل هذا وكل منا يعلم أن الموت منهل لا بد من وروده ومحضر لا بد من شهوده ورسول لا بد منه وأمر لا محيص ولا مفر عنه وما مات أحد قبل أجله الذي قدر له ولا تقدم عنه ولا تأخر قال تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .
وعن معاوية بن أياس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فقد رجلاً من أصحابه فسأل عنه فقالوا يا رسول الله ابنه الذي رأيته هلك.
فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال: «يا فلان أيما أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدًا بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك» . فقال: يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي هو أحب إلي. قال: «فذلك لك» .
فقيل: يا نبي الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة قال: بل للمسلمين عامة. وبلغ الشافعي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا فبعث إليه الشافعي
يقول يا أخي عز نفسك بما تعز به غيرها واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك.
واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا(3/328)
مع اكتساب وزر فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك أن تطلبه وقد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبرًا وأحرز لنا ولك بالصبر أجرًا وكتب إليه يقول:
إِنِّي مُعَزِّيَكَ لا أَنِّي عَلَى ثِقَةٍ ... مِنَ الْحَيَاةِ وَلَكن سُنَّةُ الدِّينِ
لَيْسَ الْمُعَزِي بِبَاقٍ بَعْدَ مَيْتِهِ ... وَلا الْمُعَزِي وَإِنْ عَاشَا إِلَى حِينٍ
وَعَزَّى رَجُلٌ عُمر بن عبد العزيز فقال:
تَعَزَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ ... لَمَّا قَدْ تَرَى يُفْدى الصَّغِير وَيُولَدُ
هَلْ ابْنَكَ مِنْ سُلالَةِ آدَم ... لَكُلّ عَلَى حَوْضِ الْمَنِيَّةِ مُورِدُ
فقال: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك.
وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: أما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة فإذا قدمه فصلاة ورحمة فلا تحزن على ما فاتك من حزنه وفتنته ولا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته ورحمته.
وقال محمد بن المهدي لإبراهيم بن سلمة وعزاه بابنه: أسرك وهو بلية وفتنة وأحزنك وهو صلاة ورحمة واعلم يا أخ إن كل المصائب التي تمر على الإنسان تهون إلا مصيبة الدين لا ينجبر كسرها كما قيل:
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانٍ
وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه وألهمنا وإياك الرضا بقضائه وقدره ويحرم الندب وهو تعداد محاسن الميت بلفظ النداء مع زيادة ألف وها في آخره واسيداه واجبلاه وانقطاع ظهراه والنياحة هي رفع الصوت بذلك برنة وهي محرمة أيضًا قالت أم عطية: أخذ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيعة أن لا ننوح. متفق عليه.(3/329)
شِعْرًا:
إِذَا مَاتَ ابْنَهَا صَرَخَتْ عَلَيْهَ ... وَمَاذَا تَسْتَفِيدُ مِنَ الصُّرَاخِ
سَتَتْبَعُهُ كَعَطْفِ الْفَاءِ لَيْسَتْ ... بِمُهْل أَوْ كَثْم عَلَى التَّرَاخِي
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن النائحة والمستمعة ويحرم شق الثوب ونحوه ويحرم لطم الخد والصراخ ونتف الشعر ونشره لما ورد عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» .
وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطيع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة.
وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنه: «من ينح عليه يعذب بما نيح عليه» . وفي صحيح البخاري عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه. فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه.
وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا اكسياه جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها» . رواه أحمد.
وسن أن يصلح لأهل الميت طعامًا يبعث به إليهم ويكره لهم فعله للناس لما ورد عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي أبي حين قتل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم» . رواه الخمسة إلا النسائي قال الزبير: فعمدت سلمى مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شعير وأدمته بزيت جعل عليه وبعثت به إليهم.
ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت السنة فينا حتى تركها(3/330)
من تركها وسواء كان الميت حاضرًا أو غائبًا وأتاهم نعيه وينوى فعل ذلك لأهل الميت لا لمن يجتمع عندهم فيكره لأنه إعانة على مكروه وهو اجتماع الناس عند أهل الميت نقل المروزي عن أحمد هو من أفعال الجاهلية.
يَسُرُّ الْفَتَى بِالْعَيْشِ وَهُوَ مُبِيدُهُ ... وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَمَا هِيَ دَارَهُ
وَفِي عِبَرِ الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظٌ ... إِذَا صَحَّ فِيهَا فِكْرهُ وَاعْتِبَارُهُ
فَلا تَحْسَبَنَّ يَا غَافِلَ الدَّهْرِ صَامِتًا ... فَأَفْصِحُ شَيْءٍ لَيْلَهُ وَنَهَارُهُ
اصْخِ لِمُنَاجَاةِ الزَّماَنِ فَإِنَّهُ ... سَيُغْنِيكَ عَنْ جَهْرِ الْمَقَالِ سِرَارُهُ
أَدَارَ عَلَى الْمَاضِينَ كَأْسًا فَكُلُّهُمُ ... أبيحتْ مَغَانِيهُ وَأَقْوَتُ دِيَارِهِ
وَلْمْ يَحْمِهِمْ مِنْ أَنْ يَسْقُوا بِكَأسِهِمْ ... تَنَاوُشْ أَطْرَافِ الْقَنَا وَاشْتِجَارِهِ
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا من عبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ويجوز البكاء على الميت لما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت بنتًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدفن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عند القبر فرأيت عينيه تدمعان. رواه البخاري.
وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود.
فلما دخل عليه وجده في غشية فقال: «قد قضي» . فقالوا: لا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاءه بكوا فقال: «ألا تستمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم» . وأشار إلى لسانه. متفق عليه.(3/331)
وأخبار النهي محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة. وعن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها في الموت.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب» . فعاد الرسول فقال: إنها أقسمت لتأتينها.
قال: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال: فانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . متفق عليه.
شِعْرًا:
إِنْ كُنْتَ تَرْجُو مِنَ الرَّحْمَنِ رَحْمَتُهُ ... فَارْحَمْ ضِعَافَ الْوَرَى يَا صَاحِ مُحْتَرِمًا
وَأَقْصِدْ بْذَلِكَ وَجْه اللهِ خَالِقُنَا ... سُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ قَدْ بَرَى النَّسَمَا
وَاطْلُبْ بِذَلِكَ مِنْ مَوْلاكَ رَحْمته ... فَإِنَّمَا يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ مِنْ رَحِمَا
آخر:
اصْبِرْ لِمُرّ حَوَادِثٍ تَجْرِي ... فَلْتَحْمِدَنَّ مَغَبَّةَ الصَّبْرِ
واجْهَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَيْتَتِهَا ... وَاذْخَرْ لِيَوْمِ تَفَاضُلَ الذُّخْرِ
فَكَأَنَّ أَهْلَكَ قَدْ دَعَوْكَ فَلَمْ ... تَسْمَعْ وَأَنْتَ مُحَشْرِجَ الصَّدْرَ
وَكَأَنَّهُمُ قَدْ قَلَّبُوكَ عَلَى ... ظَهْرِ السَّرِيرِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي
وَكَأَنَّهُمْ قَدْ زَوَدُوَكَ بِمَا ... يَتَزَوَّدُ الْهَلْكَى مِنَ الْعِطْرِ
يَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ إِذَا ... غُسِلْتَ بِالْكَافُورِ وَالسِّدْرِ
أَوْ لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ عَلَى ... نَبْشِ الضَّرِيحِ وَظُلْمَةِ الْقَبْرِ
يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا أَقُولُ إِذَا ... وَضِعَ الْكِتَاب صَبِيحَةِ الْحَشْرِ
مَا حُجَّتِي فِيمَا أَتَيْتُ عَلَى ... عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَمَا عُذْرِي(3/332)
ج
يَا سَوْأَتَا مِمَّا اكْتَسَبْتُ وَيَا ... أَسَفِي عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عُمْرِي
أَلا أَكُونُ عَقِلْتُ شَأْنِي فَاسْتَقْبَلْتُ ... مَا اسْتَدْبَرْتُ مِنْ أَمْرِي
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ولما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت: فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه. فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلما مات صلى الله عليه وسلم قالت: يا أبتاه أجاب رب دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فاطمة رضي الله عنها: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب.
ولما بلغت أبا بكر وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان نائمًا عند ابنه خارجة بالسنخ جاء حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه وخنقه البكاء ثم خرج للناس وعمر يكلمهم فقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر أما بعد:
من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} .
قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. ويقول حافظ إبراهيم في عمر حول هذه(3/333)
الآية وبيعة أبي بكر وإسراع عمر رضي الله عنه في مبايعة أبي بكر يوم السقيفة وَلَمِّهِ شَعَثَ المسلمين عند الاختلاف.
وَمَوْقِفٍ لَكَ بَعْد الْمُصْطَفَى افْتَرَقَتْ
فِيهِ الصَّحَابَةُ لَمَّا غَابَ هَادِيهَا
بَايَعْتُ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ فَبَايَعُهُ
عَلَى الْخِلافَةِ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا
(وَأَطْفَئْتُ فِتْنَة لَوْلا إِلَهُ غَشّتْ)
بَيْن الْقَبَائِل وَانْسَابَتْ أَفَاعِيهَا
بَاتَ النَّبِيُ مُسَجَّى فِي حَظِيَرِتِهِ
وَأَنْتَ مُسْتَعر الأَحْشَاءِ دَامِيهَا
تَهِيمُ بَيْنَ عَجِيجِ النَّاسِ فِي دَهَشٍ
مِنْ نَبَأة قَدْ سَرَى فِي الأَرْضِ سَارِيَهَا
تَصِيحُ مِنْ قَال نَفْس الْمُصْطَفَى قُبِضَتْ
عَلَوْتَ هَامَتَهُ بِالسَّيْفِ أَبْرِيهَا
أََنْسَاكَ حُبُّكَ طَهَ أَنَّهُ بَشَرٌ
يَجْرِي عَلَيْهِ شُؤُونَ الْكَوْنِ مُجْرِيهَا
وَأَنَّهُ وَارِدٌ لا بُدَّ مَوْرِدَهُ
مِنَ الْمَنِيَّةِ لا يَعْفِيهِ سَاقِيهَا
نَسِيتَ فِي حَقِّ طَهَ آيَةً نَزَلَتْ
وَقَدْ يُذَّكَرُ بِالآيَاتِ نَاسِيهَا(3/334)
ذَهَلْتُ يَوْمًا فَكَانَتْ فِتْنَةً عَمَمٌ
وَثَابَ رُشْدُكَ فَانْجَابَتْ دَيَاجِيهَا
فَلِسَقِيفَةِ يَوْمًا أَنْتَ صَاحِبُهُ
فِيهِ الْخِلافَة قَدْ شِيدَتْ أَوَاسِيهَا
مَدَّتْ لَهَا الأَوْسُ كَفًا كَي تَنَاوَلَهَا
فَمَدَّتِ الْخَزْرَجُ الأَيْدِي تُبَارِيهَا
وَظَنَّ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ صَاحِبَهُمْ
أَوْلَى بِهَا وَأَتَى الشَّحْنَاء آتِيهَا
حَتَى انْبَرَتْ لَهُمْ فَارْتَدَّ طَامِعُهُمْ
عَنَهَا وَآخَى أَبُو بَكْرٍ أَوَاخِيهَا
وَقَوْلُهُ لِعَلِيٍّ قَالَهَا عُمَرُ
أَكْرِمْ بِسَامِعِهَا أَعْظِمْ بِمُلْقِيهَا
حَرَّقْتَ دَارَكَ لا أُبْقِي عَلَيْكَ بِهَا
إِنْ لَمْ تُبَايِعْ وَبِنْت الْمُصْطَفَى فِيهَا
مَا كَانَ غَيْرُ أَبِي حَفْصٍ يَفُوهُ بِهَا
أَمَامَ فَارِسِ عَدْنَانٍ وَحَامِيهَا
كِلاهُمَا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ عَزْمَتُهُ
لا تَنْثَنِي أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ ثَانِيهَا
اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين. اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا(3/335)
ججولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
عباد الله إن القلوب إذا قست واستولى عليها حب الدنيا دواؤها النافع بإذن الله ذكر الله جل وعلا وتلاوة كتابه العزيز وزيارة المقابر لترى فيها بعينك ما صار أليه الأكابر والأصاغر ترى فيها الملوك والوزراء والوجهاء والجبابرة والظلمة والمتكبرين والفسقة صرعى في ضيق تلك الحفائر وقد كانت الدنيا على سعتها تضيق عما لهم من آمال وأماني.
وترى هناك أحباء الله وأولياءه وعباده الصالحين الكل حكم عليه العزيز الحكيم القهار بالموت فلبوا طائعين أو مكرهين وأصبح الكل منفردًا لا أنس له إلا ما قدمه من الأعمال فالمطيع لله الذي امتثل ما أمر الله به وانتهى عما نهى الله عنه في روضة من رياض الجنة وعنده عمله الصالح.
وأما الآخر فلو أنطقه الله لقال لك كلامًا تقطع له القلوب حسرات يقول: إن الحكم العدل جازاني بما استحق وإني بعذاب لا تحتمله الجبال الراسيات وإني مستحق لذلك لأني اغتررت بالدنيا وزخارفها فلم اعبأ بأوامر ربي ولا نواهيه واقتحمت الموبقات لذا صرت إلى ما لو رأيته لصعقت وذهلت وغشي عليك، وملئت رعبًا واشتعل شعرك شيبًا ولم تنتفع بعد قوله بأكل وشرب ورأيت أحداقًا على الخدود سائلة، ورأيت أعظمًا غير متماسكة وأوصالاً متقطعة ورأيت جماجمًا قد علاها الدود(3/336)
والخشاش كأنها الأنابيب، ورأيت ما كان مجتمعًا متفرقًا رميمًا ورأيت الصديد والقيح يجري فيا له من منظر ما أفزعه ويا له من سفر ما أطوله.
والعجب ممن يزور القبور ويسمع ذلك ويصدق به ويأكل ويشرب وينام مطمئنًا ما كأنه سيساكنهم عن قريب، ماتت القلوب فأصبحت لا تنتفع بالوعظ والتذكير ولا بزاجر الموت وهو أبلغ زاجر للأحياء، فزر يا أخي القبور معتبرًا وانتبه من هذه الغفلة، الموت مهما مد في عمرك لابد أن يأتيك فكن منه على حذر فإنه لا يؤمن أن يفجأك وأنت سارح في أودية الدنيا. وما أكثر موت الفجأة في زمننا بواسطة السيارات والقز والكهرباء والطائرات ونحو ذلك.
شِعْرًا: ... تَحُومُ عَلَيْنَا لِلْمَنَايَا حَوَائِمُ
كَأَنَّا حُبُوبُ وَالْحَمَامُ حَمَائِمَ
وَلَمْ أَرَ كَالدًّنْيَا حِبَالَة صَائِدٍ
تَرَى النَّمْلَ فِي إِشْرَاكِهَا وَالضَّرَاغِمُ
وَلَوْ عَلِمَتْ مِنْهُ الْبَهَائِمُ عِلْمَنَا
إِذَا هَزَلَتْ خَوْف الْمَنُونِ الْبَهَائِمُ
حَيَاةٌ وَمَوْتٌ ذَا لِذَاكَ مُبَايِنٌ
وَبَيْنَهُمَا لِلنَّائِبَاتِ تَلازُمُ
فَيَا صَاحِبِي رَافِقْ رَفِيقًا يَمَانِيًّا
فَإِنَّكَ لِلْبَرْقِ الشَّامِي شَائِمُ
وَنَادِمْ نَدَامَاكَ التُّقَا وَصِحَابَهُ
فَإِنَّكَ يَوْمًا لِلْمَنَايِا مُنَادِمُ(3/337)
آخر:
هُوَ الْمَوْتُ فَاحْذَرْ أَنْ يَجِيئَكَ بِغْتَةً
وَأَنْتَ عَلَى سُوءٍ مِنَ الْفِعْلِ عَاكِفُ
وَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرَكَ مِنَ الدَّهْرِ سَاعَةً
وَلا لَحْظَةً إِلا وَقَلْبُكَ وَاجِفُ
وَبَادِرْ بِأَعْمَالٍ يَسُرُّكَ أَنْ تَرَىَ
إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابْ الصَّحَائِفُ
آخر:
فَمَا مِنْ صَبَاحٍ جَاءَ إِلا مُؤَدِّبًا
لأَهْلِ الْعُقُولِ النَّافِذَاتِ الْبَصَائِرُ
أُبِيدَتْ قُرُونُ قَبْلُ قَدْ كُنْتَ بَعْدَهَا
وَأَنْتَ عَلَى لَهْوِ الْقُرُونِ الأَصَاغِرُ
كَأَنَّكَ لَمْ تَدْفِنْ حَمِيمًا وَلَمْ تَكُنْ
لَهُ فِي حِيَاظِ الْمَوْتِ يَوْمًا بِحَاضِرِ
نَسِيتَ لَظَى عِنْدَ ارْتِكَابِكَ لِلْهَوَى
وَأَنْتَ تُوَقَّى حَرَّ شَمْسِ الْهَوَاجِرِ
آخر:
كَأَنَّكَ قَدْ رَحِلْتَ عَنِ الْمَبَانِي ... وَوَارَتْكَ الْجَنَادِلُ وَالصَّعِيدُ
وَنَادَاك الْحَبِيبُ فَلَمْ تُجِبْهُ ... وَقُرْبُكَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا بَعِيدُ
وَأَصْبَحَ مَالُكُ الْمَجْمُوعُ نَهْبًا ... وَعَطَّلَ بعداك القصر المشيد
وَصَارَ بَنُوكَ أَيْتَامًا صِغَارًا ... وَعَانَقَ عِرْسَكَ الْبَعَلُ الْجَدِيدُ
وَأَكْبَرَ مِنْهُ أَنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي ... شَقِيٌ أَنْتَ وَيْحَكِ أَمْ سَعِيدُ(3/338)
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم في دار القرار. اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فَصْلٌ)
وروي أنه لما قبض أبو بكر رضي الله عنه وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستعجلاً مسترجعًا حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر.
فقال: رحمك الله يا أبا بكر فلقد كنت ألف رسول صلى الله عليه وسلم وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره، وكنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم إيمانًا وأشدهم لله يقينًا وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأحسنهم صحبة وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابقًا وأرفعهم درجة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقًا وفضلاً وهديًا وسمتًا وأكرمهم عليه فجزاك الله عن رسوله وعن الإسلام والمسلمين خيرًا.
صَدَّقْتَ رسول الله حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا وقمت معه حين قعدوا وكنت عنده بمنزله السمع والبصر وسماك الله في كتابه صديقًا فقال {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} .
وصحبته في الشدة أكرم صحبة ثاني اثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة.(3/339)
وخلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتدوا فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي نهضت حين وهن أصحابه وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا.
ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت خليفة رسول الله حقًا لن تنازع ولن تضارع برغم المنافقين وكبت الحاسدين قمت بالأمر حين فشلوا واتبعوك فهدوا كنت أخفضهم صوتًا وأقلهم كلامًا وأصدقهم منطقًا وأبلغهم قولاً وأشجعهم نفسًا وأشرفهم عملاً.
كنت للمؤمنين رحيمًا حين صاروا عليك عيالاً، حملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وعلمت ما جهلوا، وصبرت إذا جزعوا ورجعوا برأيك رشدهم فظفروا ونالوا برأيك ما لم يحتسبوا.
كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك وكنت كما قال ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله عز وجل متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله عز وجل جليلاً في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء.
وأقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم، شأنك الحق وبالصدق والرفق اعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان فسبقت والله سبقًا بعيد واتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا رضينا عن الله قضاءه وقدره وسلمنا له أمره.
والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/340)
بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا وحرزًا وكهفًا فألحقك الله بنبيك صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك. فسكت الناس حتى قضى كلامه ثم بكوا حتى علت أصواتهم. وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما مرض أبو بكر رضي الله عنه ترك التطبب تسلمًا لأمر الله تعالى فعاده الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: ألا ندعوا لك طبيبًا ينظر إليك فقال: نظر إلي. قالوا: وما قال؟ قال: إني فعال لما أريد. واستخلف في مرضه عمر بن الخطاب بمشاورة جماعه من الصحابة.
شِعْرًا:
لِلْمَوْتِ فَاعْمَلْ بِجِدٍّ أَيُّهَا الرَّجُلُ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ مُرْتَحِلِ
إِلِى مَتَى أَنْتَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ
تُمْسِي وَتُصْبِحُ فِي اللذَاتِ مُشْتَغِلُ
كَأَنَّنِي بِكَ يَا ذَا الشَّيْبِ فِي كُرَبٍ
بَيْنَ الأَحِبَّةِ قَدْ أَوْدَى بِكَ الأَجَلُ
لَمَّا رَأَوْكَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ جَزَعُوا
وَوَدَّعُوكَ وَقَالُوا قَدْ مَضَى الرَّجُلُ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ
مَا دَامَ يَنْفَعُكَ التِّذْكَارُ وَالْعَمَلُ
إِنَّ التَّقِيَّ جِنَانُ الْخُلْدِ مَسْكَنُهُ
يَنَالُ حُورًا عَلَيْهَا التَّاجُ وَالْحُلَلُ(3/341)
ج
وَالْمُجْرِمِينَ بِنَارٍ لا خُمُودَ لَهَا
فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ تَشْتَعِلُ
روي أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله باع دارًا بمأتيين ألف درهم فقيل له لو اتخذت من هذا المال ذخرًا فقال أنا أجعل هذا المال ذخرًا لي عند الله واجعل الله سبحانه ذخرا لولدي ثم تصدق بالمال كله.
شِعْرًا:
تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَا فِإِنَّنِي ... أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءَ غِطَاؤء
وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا فِإِنَّمَا ... يُزَيِّنُ وَيَزْرِي بِالْفَتَى قناؤه
وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرُءِ فِي النَّاسِ بُخْلَهُ ... وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤه
آخر:
وَقَائِلَةٌ مَا بَالَ مالك نَاقِصًا ... وَأَمْوَال كُلّ الْعَالَمِينَ تَزِيد
فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي أَجُودُ بِمَا حَوَتْ ... يَدِي وَبَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ يَجُودُ
آخر:
الْمَالُ يَغْشَى رِجَالاً لا سَمَاحَ لَهُمْ ... كَالسَّيْلِ يَغْشَى أُصُولَ الدَّمْدَمِ الْبَالِي
أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لا أُدَنِّسُهُ ... لا بَارَكَ الله بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمالِ
أَحْتَالُ لِلْمَالِ إِنْ أَوْدَى فَأَكْسَبُهُ ... وَلَسْتُ لِلْعِرْضِ إِنْ أَوْدَى بِمُحْتَالٍ
جاءت امرأة إلى الليث بن سعد بإناء صغير تطلب منه عسلاً وقالت: إن زوجي مريض فأمر لها بقربة ملآنة عسلاً فقيل له إنها طلبت قدحًا صغيرًا فقال إنما طلبت على قدرها ونحن أعطيناها على قدرنا. وجاء رجل إلى سعيد بن العاص يسأله شيئًا فأمر له بخمسمائة وأطلقه فقال الرجل مستفهمًا من سعيد هذه دنانير أو درهم فقال سعيد ما أردت إلا الدراهم ولكن حيثما ترددت أنت في ذلك فغيرها دنانير فجلس الرجل يبكي فقال سعيد: ما يبكيك. فقال: أبكي على رجل مثلك ينزل تحت التراب.(3/342)
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال أبو بكر رضي الله عنه نعم الولي عمر أما أنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن عمر رآى لينًا فاشتد ولو كان واليًا للان لأهل اللين ثم دعا بعثمان بن عفان رضي الله عنه.
فقال له: اكتب هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ثم أغمي عليه فكتب عثمان عمر بن الخطاب لما سمع منه قبل ذلك ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فقال: جزاك الله عن الإسلام وأهله خيرًا.
ثم رفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني وليت خيرهم ولم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة وفعلت فيهم ما أنت أعلم وقد حضرني في أمري ما قد حضر فاجتهدت لهم والرأي ووليت عليهم خيرهم، هو أقواهم عليهم وأحرصهم على رشدهم ولم أرد محاباة عمر وأنا خارج من الدنيا وداخل في الآخرة فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك.
أصلح لهم واليهم عمر، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبيه نبي الرحمة وهدى الصالحين بعده وأصلح له أمر رعيته، وكتب بهذا العهد إلى أمراء الأجناد إني قد وليت عليكم خيركم ولم آل نفسي ولا المسلمين خيرًا(3/343)
ثم دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني مستخلفك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر إن لله حقًا في الليل لا يقبله في النهار وحقًا في النهار لا يقبله في الليل وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بأتباعهم الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً.
وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا فلا ترغب فتتمنى على الله فيها ما ليس لك ولا ترهب رهبة تلقى فيها ما بيدك.
يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوء أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون من هؤلاء.
وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أي عمل من أعمالهم أعمل فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه.
وكان رضي الله عنه يقول: اعلموا عباد الله إن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم وأخذ على ذلك مواثيقكم واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ولا يطفئ نوره فصدقوا قوله واستنصحوا كتابه واستضيئوا منه ليوم الظلمة.
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما مرض أبو بكر مرضه(3/344)
الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فنظرنا فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه وإذا ناضج كان يسقي بستانًا فبعثناهما إلى عمر فبكى عمر.
وقال: رحمة الله على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أكيس الكيس التقوى فذكر الحديث وفيه فلما أصبح غدا إلى السوق فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق قد جاءك ما يشغلك عن السوق.
قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي. قال: نفرض بالمعروف. قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا. قال: فانفق في سنتين أخرى ثمانية آلاف درهم.
فلما حضره الموت قال: قد كنت قلت لعمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا فغلبني فإذا أنا مت فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال قال فلما أتى عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا.
وأخرج بن سعد عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت بهذا البيت:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءَ عَنِ الْفَتَى
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
آخر:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَمْ تُثْنِهَا ... خَيْلٌ مُطَهَّمَةٌ وَلا أَمْوَالُ
فنظر إليها ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين ولكن:
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} إني كنت(3/345)
نحلتك حائطًا في نفسي منه شيئًا فرديه إلى الميراث. قالت: نعم. فرددته. فقال: إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا ولكننا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندي من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضج وجرد هذه القطيفة فإذا مت فابعثي بهن على عمر وابرئي منهن. ففعلت.
فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده يا غلام ارفعهن. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر حبشيًا وبعيرًا ناضحًا وجرد قطيفة ثمن خمسة دراهم.
قال: فما تأمر؟ قال: تردهن على عياله. فقال: لا والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق:- أو كما حلف - لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا خرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله، الموت أقرب من ذلك
آخر:
تِلْكَ الرِّجَالُ وَغَبَنٌ أَنْ يُقَالُ لِمَنْ ... لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفُهُمْ رَجُلٌ
والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم.
موعظة
ابن آدم كأنك بالموت وقد فجأك وألحقت بمن قد سبقك من الأمم ونقلك من الفلل والعمائر إلى بيت الوحدة والوحشة والظلم ومن ذلك(3/346)
إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقًا من مالك ما اجتمع ومن شملك ما انتظم وليس لك قدرة فتدفعه بكثرة الأموال ولا بقوة الخدم وندمت على التفريط ولات ساعة ندم.
فيا عجبًا لعين تنام وطالبها مجد في طلبها لم ينم، متى تحذر مما توعد وتهدد، ومتى تضرم نار الخوف في قلبك وتتوقد، إلى متى حسناتك تضمحل وسيئاتك تتجدد، وإلى متى لا يهو لك زجرًا الواعظ وإن شدد وإلى متى وأنت بين الفتور والتواني تردد متى تحذر يومًا تنطق فيه الجلود وتشهد ومتى تقبل على ما يبقى وتترك ما يفنى وينفد.
متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف والرجا متى تكون في الليل قائمًا إذا سجى أين الذين عاملوا مولاهم بالإخلاص وانفردوا وقاموا في الدجى فركعوا وسجدوا وقدموا إلى بابه في الأسحار ووفدوا وصاموا هواجر النهار فصبروا واجتهدوا، لقد ساروا وتخلفت وفاتك ما وجدوا وبقيت في أعقابهم وإن لم تسرع وتجتهد بعدوا.
فتنبه وتيقظ يا مسكين قبل أن يفاجئك هادم اللذات فلا تقدر على استدراك لما فات، قال الله جلا وعلا {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
وَمُسْنَدُونَ تَعَاقَرُوا كَأْسَ الرَّدَى ... وَدَعَا بِشُرْبِهِمْ الْحَمَامُ فَأَسْرَعُوا
بَرَكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمُوا بِجُرَّانِه ... وَهَفَتْ بِهِمْ رِيحُ الْخُطُوبِ الزَّعْزَعُ
خُرْسٌ إِذَا نَادَيْتَ إِلا أَنَّهُمْ ... وَعَظُموا بِمَا يَزعُ اللَّبِيبِ فَأْسَمَعُوا
وَالدَّهْر يَفْتِكُ بِالنُّفُوسِ حَمَامُهُ ... فَلِمَنْ تُعَدُّ كَرِيمةٌ أَوْ تُجْمَعُ
عَجَبًا لَمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالَهُ ... وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُوَ مُضَيِّعُ
وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِّ ثَنِيّةِ ... مُلْقًى لَهُ بَطْنُ الصَّحَائِفِ مَضْجَعُ
أَتَرَاهُ يَحْسُبُ أَنَّهُمْ مَا أَسْأَرُوا ... مِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَجَرَّعُ
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم،(3/347)
ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وقال ابن القيم: أعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، وقال الله تعالى (39: 22) {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} .
وقال {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} .
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر.
ومنها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من القلب ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصبعه.
وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» . قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .(3/348)
فنصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النور الحسي والظلمة الحسية، هذه تشرح الصدر وهذه تضيقه.
ومنها العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع.
وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم وأطيبهم عيشًا.
قلت ولله در القائل:
اجْعَلْ جَلِيسَكَ دَفْتَرًا فِي نَشْرِهِ
لِلْمَيِّتِ مِنْ حُكْمِ الْعُلُومِ نُشُورُ
فَكِتَابُ عِلْمِ لِلأَدِيبِ مُؤَآنِسٌ
وَمُؤَدَّبٌ وَمُبَشِّرُ وَنَذِيرُ
وَمُفِيدَ آدَابَ وَمُؤْنِس وَحْشَة
وَإِذَا انْفَرَدْتَ فَصَاحِبٌ وَسَمِيرٌ
وَمِنْهَا الإِنَابَة إلى الله تعالى، ومحبته بكل القلب والإقبال عليه، والتنعم بعبادته فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك حتى ليقول أحيانًا إن كنت في الجنة في مثل هذه الحال فإني إذا في عيش طيب.
وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم لا يعرفه إلا من له حس به.
وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح، ولا(3/349)
يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن فرؤيتهم قذى عينه، ومخالتطهم حمى روحه.
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر، الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئًا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير.
فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشًا ولا أتعب قلبًا.
فهما محبتان محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ونعيم الروح وغذاؤها، ودواؤها، بل هي حياتها، وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، بكل القلب، وانجذاب قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلها إليه.
ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سوى الله سبحانه.
ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه، وحبسه وعذابه.
ومنها الإحسان على الخلق ونفعهم، بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا وأنكدهم عيشًا وأعظمهم همًا وغمًا.
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلاً للبخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، حتى يجر ثيابه ويعفي أثره(3/350)
وكلما هم البخيل بالصدقة لزقت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه.
فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق، وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل، وانحصار قلبه.
ومنها الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان، أضيق الناس صدرًا واحصرهم قلبًا، لا فرحة ولا سرور، ولا لذة، ولا نعيم، إلا جنس الحيوان البهيم.
ومنها اخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، التي توجب ضيقه، وعذابه، وتحول بينه وبين البرء.
ومنها ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب تحصره، وتحبسه، وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها.
فلا إله إلا الله، ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم، وما أنكد عيشه، وما أسوء حاله، وما أشد حصر قلبه، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها.
فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى (83: 13) : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وبينهما مراتب متفاوتة، ولا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب وقرة العين، وحياة الروح فهو أكمل الخلق في هذا الشرح وقرة العين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/351)
فائدة عظيمة النفع
وقال رحمه الله: ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى.
وهي أمور ذاتية للرب وذات الرب سبحانه، مستلزمة للحكمة والخير والجود.
وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه.
فمن أراد الله به خيرًا أعطاه هذا الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة.
ومن أراد به شرًا أمسكه عنه وخلاه، ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح.
وليس منعه لذلك ظلمًا منه سبحانه فإنه فضله وليس من منع فضله ظالمًا لاسيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به.
وأيضًا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلي بينه وبين نفسه وهذا محض فعله وفضله.
وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر به ويزكو. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الأنعام (35) .
فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر النعمة ويشكره عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع والذل(3/352)
والمحبة. فمن لم يعرف النعمة. بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
ومن عرفها لم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها.
ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضي به وعنه لم يشكرها أيضًا.
ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته هو الشكر لها.
فلا بد في شكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل على المنعم ومحبته والخضوع له.
كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة» .
فقوله: «أبوء لك بنعمتك علي» . يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته. فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه.
فهو معبوده وهو مستعانه لا صلاح له إلا بعبادته ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته.
ومن العلوم أن أجل نعمه على عبده نعمة الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته.(3/353)
ومن المعلوم أيضًا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه ومنها الطيب. وبين ذلك وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي والقلب الخسيس الخبيث.
وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم وإبداعها عندها ويزكو بذرها فيها فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر.
فليس من الحكمة أن يبذر البذر في الصخور والرمال والسباخ وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال. فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثًا.
فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه. ومن لا يصلح لذلك.
وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوارثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم.
فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته وتوحيده حبب إليه ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك.
ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه.
فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلاً. ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه.(3/354)
وهذا هو الذي عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها في مرضاته.
اقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر في هذا القلب نور الإيمان والمعرفة وسقاه بالعلم النافع والعمل الصالح وأطلع عليه من نوره شمس الهداية وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.
فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم فمن لم ينبت قلبه شيئًا من الخير البتة فهذا من أشقى الأشقياء.
فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله.
والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه ومن يصلح لها ومن لا يصلح وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.
وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحًا وجعله أهلاً وقابلاً فمنه الإعداد والإمداد ومنه السبب والمسبب.
وقال رحمه الله كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين إما أن تكون طبيعته يابسة غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها.
وإما أن تكون لينة منقادة سلسلة القيادة لكنها غير ثابتة على ذلك بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب.
فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال: صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها(3/355)
وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته.
واستحدثت همة أخرى وعلومًا أخر وولد أخرى نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد قلبه ولادة حقيقة وكما أن بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.
فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أن قال: يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا من ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.
ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها فضلاً عن أن يصدقوا بها فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة إذا كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.
والمقصود أن صدق التأهب لقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية مقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعماله القلوب والجوارح.
فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله المفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه
شِعْرًا:
وَأَهْوَى مِنَ الشُّبَّانِ كُلَّ مُجَنَّبٍ ... عَنِ اللَّهْوِ مِقْدَمًا عَلَى كُلِّ طَاعَةِ
لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحَرَّمٌ ... وَذَوُ رَغْبَةٍ فِيمَا يَقُودُ لِجَنَّةِ(3/356)
تَمَسَّكَ بِهِ أَنْ تَلْقَهُ يَا أَخَا لِتَلْقَى ... تَمْسُّكَ ذِي بُخْلٍ بِتِبْرٍ وفضَّةِ
وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
(فَصْلٌ)
وقال رحمه الله: طوبى لمن أنصف فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته.
فإن أخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤخذه رأى فضله.
وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فإن قبلها فمنه وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به.
وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلان له، وإمساك عصمته، وذلك من عدله فيه.
فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.
ونكتة المسألة وسرها أنه لا يرى ربه إلا محسنًا ولا يرى نفسه إلا مسيئًا ومفرطًا أو مقصّرًا.
فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوءه من ذنوبه.
وقال من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن الله خلق في صدرك بيتًا وهو القلب. ووضع في صدره عرشًا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على سرير القلب، وعلى سرير بساط من الرضا. ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه بابًا من جنة رحمته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.
وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه من أصناف الرياحين والأشجار(3/357)
المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل وللتسبيح والتحميد والتقديس.
وجعل في وسط البستان شجرة معرفته، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة، والخشية والفرح به، والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة، ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه، والعمل بوصاياه.
وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته، وإيمان به وتوحيده، فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.
ثم أحاط عليه حائطًا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان، فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرسًا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه.
ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائمًا همه إصلاح السكن ولَمَّ شعثه ليرضاه الساكن منزلاً.
وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه، خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين.
كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب، وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلاً لإلقاء الأنتان، والقاذورات فيه.
فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن ولا حافظ لها. وهي معدة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتة الرائحة، وقد عمها الخراب، وملأتها القاذورات. فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام.(3/358)
الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط الجهل وتخفق فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات.
وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة، والركون إلى الدنيا، والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة.
وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع، ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل، والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والانتدابات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات، والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات، وتزهد في الطاعات.
وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح، وإتباع كل شهوة.
ومن ثمرها الهموم والغموم، والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها. فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق، ومعيشة ضنك.
وأجري إلى هذه الشجرة ما يسقيها من إتباع الهوى، وطول الأمل والغرور.
ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان، ولا مؤذ ولا قذر.
فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه، وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه(3/359)
ومن جهل ذلك، جهل نفسه وأضاع سعادته. والله الموفق.
وقال: أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع فاقترفوا فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.
وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.
فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا على النعيم المقيم، وقرة الأعين كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة الدنيا.
فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما، ومن تقابل؛ إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين، فأنت مع أحدهما لا محالة.
فقسم استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا وجوارحهم للعمل بما أمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة.
واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال وسكنوا الدينا وقلوبهم مسافرة عنها.
واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها.(3/360)
فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها، أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوقهم على لقائه، ونعمهم بقربه.
وفرغ قلوبهم مما ملأ به قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها.
فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم.
فائدة: قال رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته.
وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله على نفسه.
فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره.
فكل من أعرض عن عبوديته الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.
قال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} .
قال سفيان بن عيينة: لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن.(3/361)
فقال له قائل فأين في القرآن أعط أخاك تمرة فإن أبى فجمرة.
فقال في قوله تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية.
شِعْرًا:
وَفِي السِّقَمِ وَالآفَاتِ أَعْظَمُ حِكْمَةٍ
مُيَقَّظَةٍ ذَا اللُّبِّ عِنْدَ التَّفَقُّدِ
يُنَادِي لِسَانُ الْحَالِ جِدُّوا لِتَرْحَلُوا
عَنِ الْمَنْزِلِ الْغَثِّ الْكَثِيرِ التَّنَكُّدِ
أَتَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ بِالسِّقَمِ مُخْبِرًا
بِأَنَّكَ تَتْلُو الْقَوْم فِي الْيَوْمِ أَو غَدِ
فَخُذْ أُهْبَةً فِي الزَّادِ فَالْمَوْتُ كَائِنٌ
فَمَا مِنْهُ مِنْ مَنْجَا وَلا عَنْهُ عُنْدَدِ
فَمَا دَارُكُمْ هَذِهِ بِدَارِ إِقَامَةِ
وَلَكِنَّهَا دَارُ ابْتِلا وَتَزَوُّدِ
أَمَا جَاءَكُمِ مِنْ رَبِّكُمْ وَتَزَوَّدُوا
فَمَا عُذْرُ مَنْ وَافَاه غَيْرَ مُزَوَّدِ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ
تُقَرِّبُ مِنْ دَارِ اللِّقَا كُلّ مُبْعَدِ
وَمَنْ سَارَ نَحْوَ الدَّارِ سِتِّينَ حِجَّةً
فَقَدْ حَانَ مِنْهُ الْمُلْتَقَى وَكَأَنَ قَدْ
وَمَا النَّاسُ إِلا مِثْلَ سَفْرٍ تَتَابَعُوا
مُقِيمٌ لِتَهْوِيمٍ عَلَى إثْرِ مُغْتَدِي(3/362)
وَمَنْ يَكُ عِزْرَائِيلُ كَافِلَ رُوحِهِ
فَإِنْ فَاتَهُ فِي الْيَوْمِ لَمْ يَنْجُ مِنْ غَدِ
وَمَنْ رُوحُهُ فِي الْجِسْمِ مِنْهُ وَدِيعَةٌ
فَهَيْهاتَ أَمْنٌ يُرْتَجَى مِن مُرَدِّدِ
فَمَا حَقُّ ذِي لُبٍّ يَبِيتُ بِلَيْلَةٍ
بِلا كَتْبِ إِيصَاءِ وَإِشْهَادِ شُهَّدِ
وَوَاجِبُ الإِيصَا عَلَى الْمَرْءِ إِنْ يَكُنْ
عَلَيْهِ حُقُوقٌ وَاجِبَاتُ التَّرَدُّدِ
وَلا بَأْسَ أَنْ يَخْبَا الْفَتَى كَفَنًا لَهُ
لِحِلٍّ وَآثَارِ الرِّضَى وَالتَّعَبُّدِ
فَبَادِرْ هُجُومَ الْمَوْتِ فِي كَسْبِ مَا بِهِ
تَفُوزُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاجْهَدِ
فَكَمْ غَبْنُ مَغْبُونٍ بِنَعْمَةِ صِحَّةِ
وَنِعْمَةِ إِمْكانِ اكْتِسَابُ التَّعَبُّدِ
فَنَفْسُكَ فَاجْعَلْهَا وَصِيَّكَ مُكْثِرًا
لِسَفْرَةِ يَوْمِ الْحَشْرِ طِيبَ التَّزَوُّدِ
وَمِثْلُ وُرُودِ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتُهُ
لِنَفْسِكَ نَفَّاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَدِ
فَمَا نَفَعَ الإِنْسَانُ مِثْلُ اكْتِسَابِهِ
بِيَوْمٍ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ كُلِّ مُحْتَدِ
كَفَى زَاجِرًا لِلْمَرْءِ مَوْتٌ مُحَتَّمٌ
وَقَبْرٌ وَأَهْوَالٌ تُشَاهَدُ فِي غَدِ(3/363)
وَنَارٌ تَلَظَّى أَوْعَدَ اللهُ مَنْ عَصَى
فَمِنْ خَارِجٍ بَعْدَ الشَّقَا وَمُخَلَّدِ
وَيُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ الْفَتَى عَنْ نَبِيِّهِ
وَعَنْ رَبِّهِ وَالدِّينِ فِعْلَ مُهَدِّدِ
فَمَنْ ثَبَّتَ اللهُ اسْتَجَابَ مُوَحِّدًا
وَمَنْ لَمْ يُثَبَّتْ فَهُوَ غَيْرَ مُوَحِّدِ
وَتِلْكَ لَعَمْرِي آخِرُ الْفِتَنِ الَّتِي
مَتَى تَنْجُو مِنْهَا فُزْتَ فَوْزَ مُخَلَّدِ
فَنَسْأَلُهُ التَّثْبِيتَ دُنْيَا وَآخِرًا
وَخَاتِمَةَ تَقْضِي بِفَوْزٍ مُؤَبَّدِ
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
في الحياء
الحياء هو انقباض النفس عن القبائح وهو صفة من صفات النفس الممدوحة لن اشمئزاز النفس عن القبائح يستلزم تركها والانصراف عنها وهو من أفضل صفات النفس وأجلها قدرًا.
وسئل بعضهم عن الحياء فقال: شيء يتولد بين رؤية النعماء ورؤية التقصير.
وقال الفضيل: علامة الشقاوة خمسة، قلة الحياء، وقسوة(3/364)
القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل. أ. هـ.
فالحياء خلق الكرام وسمة أهل المروءة والشرف، وعنوان الفضل والنبل، ولقد صدق أهل اللغة حيث قالوا الاستحياء من الحياة، واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب والذم.
والحياء باعثه إحساس رقيق، وشعور دقيق في العين مظهره وعلى الوجه أثره، ومن حرمه حرم الخير كله، ومن تحلى به ظفر بالعزة والكرامة، ونال الخير أجمع وهو زينة النفوس يصدها عن فعل ما يشينها ويحملها على التحلي بجميل الخصال فهو أبدًا لا يأتي إلا بخير، وكفى خيرًا أن يكون على الخير دليلاً وكفى بضده البذاء أن يكون على الشر دليلاً وإليه سبيلاً ومن الحكم قولهم: من كساه الحياء ثوبه لم يرى الناس عيبه:
وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي
وَبَيْنَ رُكُوبِهَا إِلا الْحَيَاءُ
ويقول الآخر:
وَعَقْلُ الْمَرْءِ أَحْسَنُ حِلْيَتَيْهِ
وَزِينُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا الْحَيَاءُ
آخر:
وَإِنِّي لأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أُرَى ... حَلِيفَ غَوَانٍ أَوْ أَلِيفَ أَغَانِي
إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ ... وَلا أَدَبُ فَذَاكَ هُوَ الْحِمَارُ
تَرَاهُ فِي ذَوِي الأَلْبَابِ ضَجْرًا ... وَمُلْتَجِئًا إِلَى جَنْبِ الْجِدَارِ
أما انقباض النفس عن الفضائل فلا يسمى حياء بل هو خور وجبن فإذا كان الإنسان عند أحد العظماء من الناس الذين يتركون الصلاة ويأتون المنكرات، أو عند من يتركون صلاة الجماعة وانقبضت نفسه عن(3/365)
فعل الخير وانبسط معهم لفعل الشر مجازاة ومطايبة لهم كان فعله جنبًا وخورًا ومداهنة ونفاقًا لا حياء ومثل ذلك ما يفعله بعض الناس من مجاملة بعضهم بعضًا في سماع المنكرات ورؤيتها وسماع الغيبة ونحوها فهذا جبن مذموم كل الذم وصاحبه شريك في الإثم عن لم ينكر أو يفارقهم.
والحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه فعندما ترى الإنسان يشمئز ويتحرج من فعل ما لا ينبغي أو ترى حمرة الخجل في وجهه صابغة إذا بدر منه ما لا يليق فاعلم أنه حي الضمير نقي المعدن زكي العنصر وإذا رأيت الرجل لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه فهو امرؤ لا خير فيه وليس وازع يمنعه من ارتكاب الجرائم، واقترف الآثام الدنايا.
وينقسم الحياء على قسمين حياء من الله عز وجل لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «استحيوا من الله حق الحياء» . قالوا: إنَّا نستحي يا نبي الله والحمد لله.
قال: «ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» . رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث غريب.
والقسم الثاني: الحياء من الناس وهو بقسيمه رأس الفضائل وأساس مكارم الأخلاق لأنه يترتب عليه ما يترتب على العدل والعفة ولذا ورد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» . متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «الحياء خير(3/366)
كله» . أو قال: «الحياء كله خير» .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن الحياء من الإيمان» . متفق عليه.
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» . متفق عليه. وكان صلى الله عليه وسلم أرق الناس طبعًا وأنبلهم سيرة وأعمقهم شعورًا بالواجب ونفورًا عن المحارم.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. متفق عليه. وعن زيد بن طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء» . رواه مالك مرسلاً ورواه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس وابن عباس.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» . وفي رواية ابن عباس: «فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر» . رواه البيهقي في شعب الإيمان. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت رواه البخاري.(3/367)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» . رواه أحمد والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «الحياء والعي من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» . رواه أحمد والترمذي وقال صلى الله عليه وسلم: «الحياء نظام الإيمان» .
هذا بعض ما قاله صلى الله عليه وسلم في الحياء وهو كما ترى يتضمن وعد من اتصف بالحياء بالجنة ووعيد من اتصف بضده من البذاء والجفاء بالنار. ولا شك في أن ذلك من أجل الحكم وأفضل المواعظ فما من أحد يستمسك بالحياء ولا يحيد عنه إلا عاش في دنياه عيشة سعيدة حميدة راضية مرضية وظفر في آخرته بالسعادة الدائمة إذا وفقه الله لذلك.
وقد علمت أن الحياء ينقسم إلى قسمين حياء من الناس فأما الحياء من الله فإنه يترتب عليه كل الفضائل، التي يسعد بها الناس في دنياهم وآخرتهم فإن الذي يستحي من الله لا يفعل المعاصي بل يحفظ جوارحه كلها عنها ولا يترك واجبًا ما دام يؤمن بأن الله مطلع عليه لا تخفى عليه خافية من أمره.
وأنه لا بد أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال تعالى {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وأنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وسواه كما قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} وأنه الذي أمده بنعمه كما قال تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}(3/368)
وقال {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} وقال {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} .
وأنه الذي فضله على كثير من خلقه كما قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وأنه مدين لله في وجوده وبقائه وفنائه وبعثه وأنه محتاج إلى الله في جميع حركاته وسكناته بل مضطر إليه ضرورة مستمرة.
وأنه إذا فكر في نفسه وأدرك ما انطوت عليه من دقيق الصنع وبديع التركيب كما أشار إليه قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} وعلم أنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فلا بد أن يستحي من عصيان ذلك الخالق العظيم الحكيم ولا بد أن يفعل ما أمره الله به وينتهي عما نهاه عنه وذلك هو الخير كله كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق.
وهذا واضح لأن الذي يطيع الله فيما أمر يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات فلا يظلم ولا يتكبر ولا ينافق ولا يكذب ولا يرابي ولا يرائي ولا يخون ويتجنب جميع سفساف الأمور، ويعمل بمعالي الأخلاق من العدل والتواضع والحلم والصدق والصبر والعفة ونحو ذلك.
ومن يفعل ذلك فهو ذو فضل عظيم وخير كثير على نفسه وعلى غيره يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية ويحيا حياة هنية طيبة في الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
وقال صالح بن عبدوس:(3/369)
إِذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ
وَلا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إِذَا قَلّ مَاؤُهُ
حَيَاؤُكَ فَاحْفَظْ عَلَيْكَ فَإِنَّمَا
يَدُلّ عَلَى فِعْلَ الْكَرِيمِ حَيَاؤُهُ
اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وأما الحياء من الناس فهو قسمان: الأول أن يستحي المرء من الناس وهو جازم بأنه لا يأتي هذا المنكر ولا يفعل هذه الرذيلة خوفًا من الله تعالى وحياء منه أيضًا ولو لم يطلع عليه أحد من خلق الله وهذا هو الحازم الذي عرف كيف يستفيد من صفة الحياء، ويأخذ أجرها كاملاً لأن الحياء إنما يمدح من جميع جهاته إذا ترتب عليه الكف عن القبائح التي لا يرضاها الدين الإسلامي في جميع الأحوال.
وروي أن حذيفة بن اليماني أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس وقال لا خير فيمن لا يستحي من الناس.
إِذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا
وَتَسْتَحِي مَخْلُوقًا فَمَا شِئْتَ فَاصْنَعْ
ويقال خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف قلة الحياء في ذوي الأحساب والحدة في السلطان، والبخل في ذوي الأموال، والفتوة في(3/370)
الشيوخ، والحرص في العلماء والقراء.
الثاني: أن يترك القبيح حياء من الناس بحيث لو لم يطلع عليه أحد لفعله، وهذا يحتاج إلى علاج لأنه ما دام عنده شيء من الحياء وهو حياؤه من الناس فقط فما دام لا يفعل القبائح بينهم فإنه يسهل تذكيره بعظمة ربه وجلاله وأنه أحق أن يستحيا منه لأنه القادر المطلع الذي بيده ملكوت كل شيء ويبين له لنه لا يليق بالمؤمن أن يستحي من الناس ولا يستحي من الله وليس من العقل ولا من المروءة أن يضيع ثواب ترك القبيح بانصرافه عن ملاحظة خالقه ومراقبة ربه.
أما الذي يجاهر بالمعاصي ولا يستحي من الله ولا من الناس، فهو من شر ما منيت به الفضيلة لأن المعاصي داء الانتقال لا تلبث أن تسري إلى النفوس الضعيفة فيعم شر معصية المجاهر ويتفاقم خطبها ويصعب علاجها فضلاً عما في المجاهرة من انتهاك حرمة الفضيلة والقضاء عليها فشره على نفسه وعلى الناس عظيم وخطره على الفضائل كبير.
شِعْرًا: ... إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبَهَمْ ... فَلا عَيْبَ إِلا دُونَ مَا مِنْكَ تُذْكَرُ
مَتَى تَلْتَمِسْ لِلنَّاسِ عَيْبًا تَجِدْ بِهِمْ ... عُيُوبًا وَلَكن رُبَّمَا فِيكَ أَكْثَرُ
شِعْرًا: ... إِذَا حَرَّمَ الْمَرْءُ الْحَيَاءَ فَإِنَّهُ ... بِكُلِّ قَبِيحٍ مِنْهُ كَانَ جَدِير
لَهُ قِحْة فِي كُلِّ أَمْرٍ وَسِرُّهُ ... مُبَاح وَخِدنَاهُ خنًا وغرُورُ
يَرَى الشَّتْمَ مَدْحًا وَالدَّنَاءَةَ رِفْعَةً ... وَلِلسَّمْعِ مِنْهُ فِي الْعَطَاءِ نُفُورُ
فَرَجِ الْفَتَى مَا دَامَ حَيًّا فَإِنَّهُ ... إِلَى خَيْرِ حَالاتِ الْمَبِيتِ يَصِيرُ
آخر: ... إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلا وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ... وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ ُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بَخَيْرٍ ... وَيَبْقَى الْعَوْد مَا بَقي الْحَيَاءُ(3/371)
آخر: ... إِذَا الْمَرْءُ وَافَى الأَرْبَعِين وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ دُونَ مَا يَهْوَى حَيَاء وَلا سِتْرُ
فَدَعْهُ وَلا تنفس عَلَيْهِ الَّذِي أَتَى
وَإِنْ جَرَّ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ لَهُ الدَّهْرِ
ومن الناس من يتلذذون بذكر فسوقهم ومعاصيهم ويتبجحون بتعداد جرائمهم وجناياتهم فيذيعون لجلسائهم ما ستره الله عليهم فيعرضون أنفسهم لعقوبة الدنيا وللحرمان من عفو الله ورحمته، وفي هؤلاء وأمثالهم يقول صلى الله عليه وسلم كل أمتي معافي إلا المجاهرون فيجب أن لا يتركوا أولئك الذين يجاهرون بارتكاب الموبقات يعيشون بينهم بل يجب على كل واحد أن يبذل مجهودًا في ردهم عن غيهم بكل ما يستطيع من النصيحة والإرشاد وغيرها.
وخير علاج للقضاء على هؤلاء مقاطعتهم وعدم مخالتطهم وعدم إجابة دعوتهم والابتعاد عنهم واحتقارهم في مجالسهم والانصراف عن حديثهم عن ابتلى بهم حتى يرجعوا عن غيهم ويكفوا عن المجاهرة بجرائمهم.
ومن الأسف أن المجاهرة بالمعاصي قد فشت في زماننا بدون حياء من الله ولا من الناس فلا شاب ينزجر ولا شيخ يرعوي ولا رجل تدركه الغيرة ولا امرأة يغلب عليها الحياء فتتحفظ وتتستر، وهذا مؤذن بعقوبة، والله أعلم لأن الأمم تحيا حياة طيبة بالتمسك بالفضائل، وتعيش عيشة سعيدة باجتناب الرذائل فإذا انتهكت المحارم، وغلبت الشهوات، وضاع الحياء فماذا يرتجى بعد ذلك من عيش وراءه سخط الله وعقابه ومقته وعذابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
شِعْرًا: ... فَشَرُّ الْعَالَمِينَ ذَوُو نِفَاقٍ ... وَإِشْرَاكٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَا
وَخَيْرُ النَّاسِ ذَوُ دِينٍ مَتِينٍ ... وَتَعْظِيمٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَا(3/372)
موعظة
عباد الله إن الحياء كما علمتم من الإيمان وإنه لا يأتي إلا بخير وأنه خلق الإسلام وذلك أنه يجر إلى الكمالات وإلى الفضائل فمن لم يكن من أهل الحياء حقيقة فليقتدي بهم وليتشبه بهم لأنهم خاصة الفضلاء.
فذو الحياء الخلقي يمنعه حياؤه من العدوان على المخلوقات ذو الحياء لا تبدر بادرة بينها وبين الفضائل تنافي ذو الحياء لا يقدم على الزنا بل ولا على مغازلة النساء التي هي مفتاح الفسوق ولا يقدم على معاملة في الربا لعلمه أن متعاطي الربى العالم بتحريمه محارب لله ورسوله.
ذو الحياء لا يغش أخاه المؤمن لعلمه بتحريم الغش وأن من غشنا فليس منا، ذو الحياء لا يعثو في لحوم الغوافل، ذو الحياء لا ينقل كلام مؤمن على أخيه لقصد الإفساد بينهم، ذو الحياء لا يعق والديه ولا يقطع ما أمر الله به أن يوصل ولا يشهد بالزور ولا يؤذ جيرانه.
صاحب الحياء يبتعد عن أكل الحرام وعن المجاهرة بالمعاصي فلا يحلق لحيته لأنه يعلم أنه بذلك عاص لله ولرسوله ولا يخنفس ولا يجعل تواليت لعلمه أن ذلك تشبه بالإفرنج ولا يستعمل الملاهي بأنواعها من تلفزيون أو سينما أو مذياع أو كرة أو بكم أو عود أو فيديو أو نحو ذلك من البدع المحرمات التي حدثت في زماننا كالمذكورات.
صاحب الحياء لا يشرب الدخان أو إن بلي به فلا يشربه في(3/373)
الأسواق ومجامع الناس لعلمه أنه إذا جاهر به في ذلك ازداد إثمه وعظم جرمه، ذو الحياء لا يخلو بأمره لا محرم معها لا في بيت ولا في سيارة ولا في أي محل لعلمه أن خلوة بالأجنبية محرم للأحاديث الواردة في ذلك.
صاحب الحياء لا يبيع ويشتري في صور ذوات الأرواح مجسدة أو غير مجسدة ولا يبيع آلات اللهو كالتلفزيون والسينما والمذياع لعلمه أن ذلك محرم وأنه بتعاطيه ذلك يكون معينًا على نشر المعاصي في أرض الله بل ولا يصلحها لأن ذلك مساعدة على المعاصي.
والأجرة حرام التي تأتي مقابل تصليح آلات اللهو والفسوق وقس على ذلك باقي المحرمات فصاحب الحياء الخلقي يستحي من الله، ومن استحيا من الله لم يغضبه. صاحب الدين والحياء لا يعمر قصور للأعراس ولا يشارك في عمارتها لعلمه أن ذلك يصادم تخفيف الصداق الذي هو سبب لتكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين عن عمارتها والمشاركة فيها اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء؛ فإذا نزع منه الحياء لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلفه إلا خائنًا مخونًا، فإذا لم تلفه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلفه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه رِبْقَةِ الإسلام. رواه ابن ماجه.
قال العلماء على هذا الحديث: وهذا ترتيب دقيق في وصفه لأمراض النفوس وتتبعه لأطوارها وكيف تسلم كل مرحلة خبيثة على أخرى أشد نُكرًا فإن الرجل إذا مزق جلباب الحياء عن وجهه ولم يتهيب على علمه حسابًا ولم يخش في سلوكه لومة لائم مد يد الأذى للناس(3/374)
وطغى على كل من يقع في سلطانه.
ومثل هذا الشخص الشرس لن تجد له قلبًا يعطف عليه بل يغرس الضغائن في القلوب وينميها وأي شخص جريء على الله وعلى الناس ولا يرده عن الآثام حياء فإذا صار الشخص بهذه المثابة لم يؤتمن على شيء قط إذ كيف يؤتمن على أموال لا يخجل من أكلها أو على أعراض لا يستحي من فضحها أو على موعد لا يهمه أن يخلفه أو على واجب لا يبالي أن يفرط فيه أو على بضاعة لا يتنزه عن الغش فيها.
فإذا فقد الشخص حياءه وفقد أمانته أصبح وحشيًا كاسرًا ينطلق معربدًا وراء شهواته ويدوس في سبيلها أزكى العواطف فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة وينظر إلى المنكوبين والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويغريه بالمزيد.
ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام، وللحياء مواضع يستحب فيها، فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش وأن ينزه لسانه عن العيب وأن يخجل من ذكر العورات فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها ومن الحياء أن يقتصد المسلم في الكلام في تحدثه في المجالس. انتهى.
شِعْرًا: هذه قصيدة مملوءة حكمًا رائعة لا يستغني عنها اللبيب:
أَحْسِنْ جَنَى الْحَمْد تَغْنَمُ لَذَّةَ الْعُمْرِ
وَذَاكَ فِي بَاهِرِ الأَخْلاقِ وَالسِّيَرِ(3/375)
ج
همُ الْفَتَى الْمَاجِدُ الْغَطْرِيفِ مَكْرمةٌ
يَضُوع نَادِي الْمَلا مِنْ نَشْرِهَا الْعِطْر
وَحِلْيَة الْمَرْءِ فَي كَسْبِ الْمَحَامِد لا
فَي نَظْمِ عَقْدٍ مِنَ الْعِقْيَانِ وَالدُّرَرِِ
تَكْسُو الْمَحَامِدُ وَجْه الْمَرْءِ بَهْجَتهَا
كَمَا اكْتَسَى الزَّهْرُ زَهْرَ الرَّوْضِ بِالْمَطَرِ
يَخْلُدُ الذِّكْر حَمْدًا طَابَ مَنْشؤه
وَلَيْسَ يَمْحُو الْمَزَايا سَالِفَ الْعَصْرِ
تَميز النَّاس بِالْفَضْلِ الْمُبِينِ كَمَا
تَمَيَّزُوا بَيْنَهُمْ فِي خَلْقِهِ الصُّورِ
بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الإِنْسَان قِيمَتُهُ
وَبِالْفَضْلِ كَانَ الْفَرْقُ فِي الْبَشَرِ
مَا الْفَضْلُ فِي بَزّةِ تَزْهُو بِرَوْنَقِهَا
وَأَيُّ فَضْلٍ لا برِيزٍ عَلَى مَدَرِ
وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي عِلْمٍ وَفِي أَدَبٍ
وَفِي مَكَارِمٍ تَجْلُو صِدْق مُفْتَخَرِ
فَلا تَسَاو بِأَخْلاقٍ مُهَذَّبَة
أَخْلاق سُوءٍ أَتَتْ مِنْ سَارِحِ الْبَقَرِ
وَخُذْ بِمَنْهَجِ مَنْ يَعْصِي هَوَاهُ وَقَدْ
أَطَاعَ أَهْلَ الْحِجَا فِي كُلِّ مُؤْتَمَرِ
إِنَّ الْهَوَى يُفْسِدُ الْعَقْلَ السَّلِيمِ وَمَنْ
يَعْصِي الْهَوَى عَاشَ فِي أَمْنٍ مِنَ الضَّرَرِ(3/376)
وَجَاهِدِ النَّفْسَ فِي غَيٍ يُلَمُّ بِهَا
كَيْلا تُمَاثِل نَذْلاً غَيْر مُعْتَبَرٍ
وَفِي مُعَاشَرَةِ الأَنْذَالِ مَنْقَصَةٌ
بِهَا يَعُمُّ الصَّدَا مِرْآة ذِي فِكْرٍ
وَلَيْسَ يَبْلُغُ كُنْهَ الْمَجْد غَيْرَ فَتَى
يَرَى اكْتِسَابَ الْمَعَالِي خَيْرَ مُتَّجَرِ
إِنَّ الْكَرِيمَ يَرَى حَمْلَ الْمَشَقَّة فِي
نَيْلِ الْعُلَى مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاصْطَبِرِ
فَالصَّبْرُ عَوْنُ الْفَتَى فِيمَا تَجَشَّمَهُ
إِنَّ السِّيَادَةَ نَهْجٌ وَاضِحُ الْوَعِرِ
وَأَفْضَلُ الصَّبْرِ صَبْرَ عَنْ مُهْيَأَةٍ
مِنَ الْمَعَاصِي لِخَوْفِ اللهِ فَازْدَجِرِ
وَاصْبِرْ عَلَى نَصْبِ الطَّاعَاتِ تُحْظَ بِمَا
أَمَّلْتَهُ مِنْ عَظِيمِ الصَّفْحِ مُغْتَفَرٍ
نَيْفٌ وَسَبْعُونَ مِنْ آيِ الْكِتَاب أَتَتْ
فِي الصَّبْرِ فَاعْمَلْ بِهَا طُوبَى لِمُصْطَبَرِ
وَعِشْ مَحَلاً بِأَخْلاقٍ مَحَاسِنُهَا
تُجْلِي عَلَى أَوْجُهِ الأَيَّامَ كَالْغُرَرِ
دِينٌ بِهِ عِصْمَةٌ مِنْ كُلِّ فَاحِشَة
وَكُلّ مَا اسْتَطَعْتَ مِنْ بِرٍّ فَلا تَذَرِ
إِنَّ الْعَفَافَ حِمَى لِلنَّسْلِ صُنْهُ بِهِ
إِذَا أَضعت الْحِمَى يَرْعَاهُ كُلَّ جَرِي(3/377)
قَدْ قِيلَ عُفُّوا تَعُفنَّ النِّسَاء وَفِي
مِثْقَالِ خَيْرٍ فَشَرّ أَوْضَحُ النّذرِ
وَمِنْ جَمَالِ الْفَتَى صِدْقُ الْعَفَافِ فَكُنْ
بِهِ مُحَلًّى خَلِيقًا مُنْتَهى الْعُمْرِ
وَالْزَمْ فَوَائِد تَقْوَى اللهِ تَعْلُ بِهَا
إِنِّي سَأُورِدُهَا عَنْ مُحْكَمِ الزّبر
فَبِالتُّقَى مَخْرَجُ مِنْ كُلِّ حَادِثَةٍ
وَالْحِفْظِ مِنْ صَوْلَةِ الأَعْدَا مَعَ الظَّفَر
وَالرِّزْق فِي دِعَةِ بِالْحِلّ مُقْتَرِن
وَحُسْنُ عَاقِبَة فِي خَيْر مُدَّخَر
وَجَاءَ نُورٌ بِهِ تَمْشِي وَمَغْفِرَةٌ
مِنَ الذُّنُوبِ وَمَنْجَاةٌ مِنَ الْحَذَر
بِهِ الْبُشَارَة فِي الدُّنْيَا وَضُرَتُهَا
بِهِ النَّجَاة مِنَ الأَهْوَالِ وَالشَّرَرِ
وَرَحْمَةُ اللهِ تَغْشَى الْمُتَقِي وَلَهُ
قُبُولُهُ وَلَهُ الإِكْرَامُ فَاعْتَبِر
وَبِالتُّقَى تَغْنَمْ الإِصْلاحُ فِي عَمَلٍ
وَتَسْتَفِيدُ بِهِ عِلْمًا بِلا سَهَرْ
وَنَفْعُ ذَلِكَ لا يُحْصَى لَهُ عَدَدٌ
وَنَصُّ ذَلِكَ فِي آيِ الْكِتَابِ قُري
وَخَيْرُ مَا يَقْتَنِي الإِنْسَانُ إِنْ كَرُمَتْ
أَخْلاقُهُ وَاسْتَفَادَتْ رِقَةُ السّحرِ(3/378)
وَمِنْ مَكَارِمِهَا عَشْرٌ عَلَيْكَ بِهَا
فَإِنَّهَا حِكَمٌ تُرْوَى عَنِ الأَثَرِ
صِدْقُ الْحَدِيثِ فَلا تَعْدِلْ بِهِ خُلُقًا
تَبْلُغُ مِنَ الْمَجْدِ أَبْهَى بَاذِخُ السُّرَرِ
وَكُنْ خَلِيقًا بِصِدْقِ الْبَأْسِ يَوْم وَغَى
فَشَرُّ عَيْبِ الْفَتَى بِالْجبْنِ وَالْخُورِ
أَجِبْ مُنَادِي الْعُلَى فِي خَوْضِ غَمْرَتِهَا
فَالْعِزّ تَحْتَ ظِلالِ الْبِيضِ وَالسّمرِ
بِالصَّبْرِ يَكْتَسِبُ الْمِقْدَامُ نُصْرَتُهُ
وَيَلْبِسُ الضِّدَّ مِنْهُ ثَوب مُنْذَعِرِ
وَلا يُدْنِّي لَهُ الإِقْدَامُ مِنْ أَجَلٍ
يَكْفِي حِرَاسَتُهُ مُسْتَأْخِرُ الْقَدَرِ
وَاحْرِصْ عَلَى عَمَلِ الْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا
فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْجَى كُلّ مُنْتَظِر
وَلَيْسَ مِنْ حَالَةْ تَبْقَى كَهَيْئَتِهَا
فَاغْنَمْ زَمَان الصَّفَاء خَوْفًا مِنَ الْكَدَرِ
وَلا يَضِيعُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ
مَعْرُوف مُسْتَبْصِرٍ أُنْثَى أَوْ الذَّكَرِ
إِنْ لَمْ تُصَادِفْ لَهُ أَهْلاً فَأَنْتَ إِذًا
كُنْ أَهْلُهُ وَاصْطَنِعْهُ غَيْر مُقْتَصَر
أَغِثْ بِإِمْكَانِكَ الْمَلْهُوفِ حَيْثُ أَتَى
بِالْكَسْرِ فَاللهُ يَرْعَى حَالَ مُنْكَسِر(3/379)
وَكَافِئْنَ ذَوِي الْمَعْرُوفِ مَا صَنَعُوا
إِنَّ الصَّنَائِعَ بِالأَحْرَارِ كَالْمَطَر
وَلا تَكُنْ سَبخًا لَمْ يِجِدْ مَاطِرَهُ
وَكُنْ كَرَوْضٍ أَتَى بِالزَّهْرِ وَالثَّمَرِ
وَاذْكُرْ صَنِيعةَ حُرٍّ حَازَ عَنْكَ غِنَى
وَقَدْ تَقَاضَيْتَهُ فِي زِيّ مُفْتَقَرِ
وَاحْفَظْ ذِمَام صَدِيقٍ كُنْتَ تَأْلَفُهُ
وَذِمَّةَ الْجَارِ صُنْهَا عَنْ يَدِ الْغَيْرِ
وَصْلْ أَخا رَحِمٍ تَكْسَبْ مَوَدَّتُهُ
وَفَي الْخُطُوبِ تَرَاهُ خَيْر مُنْتَصِر
وَوَصْلُهُ قَدْ يَجُرُّ الْوَصْلَ فِي عَقِبٍ
وَقَدْ يَزْادُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ
وَجُدْ عَلَى سَائِلٍ وَافَى بِذِلَّتِهِ
وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلِ النَّفْع مُحْتَقَر
وَاحْفَظْ أَمَانَة مَنْ أَبْدَى سَرِيرَتُهُ
مَالاً وَحَالاً لِحُسْنِ الظَّنِ وَالنَّظَرِ
وَاقرِ الضُّيُوفَ وَكُنْ عَبْدًا لِخِدْمَتِهِمْ
وَهُشُّ بِشَّ وَلا تَسْأَلْ عَنِ السَّفَرِ
وَبَادِرْنَ إِلَيْهِمْ بِالَّذِي اقْتَرَحُوا
عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِلا مَنٍّ وَلا كَدَرِ
وَخُضْ بِهِمْ فِي فُنُونٍ يَأْنَسُونَ بِهَا
مِنْ كُلِّ مَا طَابَ لِلأَسْمَاعِ فِي السَّمَر(3/380)
لِكُلِّ قَوْمٍ مَقَامٍ فِي الْخِطَابِ فَلا
تَجْعَلْ مُحَادَثَةَ الأَعْرَابِ كَالْحَضَرِ
وَاعْرِفْ حُقُوقَ ذَوِي الْهَيْئَاتِ إِذَ وَرَدُوا
وَلِلصَّعَالِيكَ فَاحْذَرْ حَالَةَ الضَّجَرِ
وَالْزَمْ لِدَى الأَكْلِ آدَابًا سَأُورِدُهَا
تَعِشْ حَمِيدَ الْمَسَاعِي عِنْدَ كُلَّ سَرِي
كُنْ أَنْتَ أَوَّلُ بَادٍ بِامْتِدَادِ يَدٍ
إِلَى الطَّعَامِ وَسَمِّ اللهَ وَابْتَدِرَا
وَاشْرَعْ بِأَصْفَى حَدِيثٍ فِي مُنَاسَبَةٍ
بِالزَّادِ أُنْسًا وَتَرْغِيبًا بِلا هَذَرِ
لا تُؤْثِرَنَّ بِشَيْءٍ لَذَّ مَطْعَمُهُ
نَفْسًا وَلا وَلَدًا فَالضَّيْفُ فِيهِ حَرِي
وَكُنْ إِذَا قَامَ كُلُّ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ
وَغُضَّ عَنْ مَدِ أَيْدِي الْقَومَ بِالبَّصَرِ
وَمَنْ أَقَامَكَ أَهْلاً لِلضِّيَافَةَ قُمْ
بِشُكْرِهِ وَاسْتَزِدْ إِنْعَامَ مُقْتَدِرِ
وَرَأْسُ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ الْحَيَاءِ فَكُنْ
مِنَ الْحَيَاءِ بِأَوْفَى بَاهِرِ الْحِبَرِ
لا دِينَ إِلا لِمَنْ كَانَ الْحَيَاءُ لَهُ
إِلْفًا قَرِينًا فَيَسْمُو كُلّ مُسْتَتِرِ
فَاسْتَحِي مِنْ خَالِقٍ يَرْعَاكَ فِي مَلأٍ
وَفِي خَلاءٍ وَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرِ(3/381)
وَالْعَاقِلُ الشَّهْمُ مَنْ يَأَبَى الرَّذَائِلُ بَلْ
يَخْتَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَطْيَبَ الْخَبَرِ
بِالْعَقْلِ تُدْرِكُ غَايَاتِ الْكَمَالِ كَمَا
بِهِ تُمَيِّزُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ
لَوْلاهُ لَمْ نَعْرِفُ اللهَ الْكَرِيمَ وَلا
نَمْتَازُ يَوْمًا عَنِ الأَنْعَامِ فِي الْفِطْرِ
فَاسْتَعْمِلِ الْعَقْلَ فِي كُلِّ الأُمُورِ وَلا
تَكُنْ كَحَاطِبِ لَيْلٍ أَعْمَشَ الْبَصَرِ
دَلِيلُ عَقْلِ الْفَتَى بَادِي مُرُوَءَتِهِ
فَمَنْ تَجَنَّبَهَا فَالْعَقْلُ مِنْهُ بَرِي
عَارِي الْمُرُوءَةِ نَكْسٌ لا خَلاقَ لَهُ
وَذُو الْمُرُوءَةِ مَحْبُوبٌ لَدَى الْبَشَرِ
أَخُو الْمُرُوءَةِ يَأْبَى أَنْ يَرُدَّ ذَوِي ال
آمَالِ مِنْ فِضْلِهِ فِي حَالِ مُنْكَسِرِ
والْجُودُ أَشْرَفُ مَا تَسْمُو الرِّجَالُ بِهِ
وَقَدْ يَنَالُ بِهِ مُسْتَجْمَعُ الْفَخْرِ
وَبِالسَّخَاءِ لِحِفْظِ النِّعْمَةِ اعْتَمَدُوا
يَا حَبَّذَا عَمَلٍ بِالْحِفْظِ صَارَ حَرِي
لا يَصْلُحُ الدِّينُ إِلا بِالسَّخَاءِ أَتَى
إِنَّ السَّخَاءَ مِنَ الإِيمَانِ فَاعْتَبِرِ
وَالْجُودُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّاتِ فَاحْظَ بِهِ
وَخُذْ بَغِصْنٍ أَتَى مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ(3/382)
يُحِبُّ مَوْلاكَ حُسْنُ الْخُلُقِ مُقْتَرِنًا
بِالْجُودِ لَمْ يَبْقِيَا لِلذَّنْبِ مِنْ أَثَرِ
إِنَّ السَّخِيَّ حَبِيبٌ لِلإِلَهِ لَهُ
قُرْبٌ مِنَ اللهِ هَذَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ
وَلا تَرُحْ بِلَئِيمٍ سَرْحَ عَارِضَةٍ
تَرِدْ بِهِ فِي ظَمَا مِنْ حَافَةِ النَّهْرِ
وَلا تَغُرَّنْكَ مِنْهُ طُولَ مِكْنَتِهِ
حَلْفَاءَ عَارٍ بِلا ظِلٍّ وَلا ثَمَرِ
بَذْلُ النَّفِيسِ عَلَى نَفْسِ الْخَسِيسِ عَنًا
فِعْلُ الْجَمِيلِ لَدَيْهُ مُوجِبُ الضَّرَرِ
وَمَنْ يَؤُمُّ لَئِيمًا عِنْدَ حَاجَتِهِ
يَعُضُّ كَفَّيْهِ كَالْكُسْعِي وَسْطَ قرِي
وَاسْلُكْ سَبِيلَ كِرَامٍ أَصْفِيَاءٍ مَضَوْا
بِكُلِّ حَمْدٍ عَلَى الآفَاقِ مُنْتَشِرِ
وَاحْذَر طَبَائِعَ أَهْلِ اللَّوْمِ إِنَّ لَهُمْ
ذَمًا يُدُومُ عَلَى الآصَالِ وَالْبُكْرِ
وَاغْنَمْ مَكَارِمَ تُبْقِيهَا مُخَلَّدَةٌ
فِي أَلْسُنِ النَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرِ
فَخَيْرُ فِعْلِ الْفَتَى فِعْلٌ يُبَلِّغُهُ
مِنَ الْمَحَامِدِِ مَا يُبْقَى عَلَى الأَثَرِ
فَالْمَرْءُ يَفْنَى وَيَبْقَى الذِّكْرُ مِنْ حَسَنٍ
وَمِنْ قَبِيحٍ فَخُذْ مَا شِئْتَهُ وَذَرِ(3/383)
وَهَذِهِ حِكَمٌ بِالنُّصْحِ كَافِلَةٌ
بِالنَّقْلِ جَاءَتْ وَعَنْ مَصْقُولَةِ الْفِكَرِ
اللهم أنظمنا في سلك عبادك المخلصين ووفقنا للقيام بأركان دينك القويم ونجنا من لفحات الجحيم وأسكنا في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال في مختصر منهاج القاصدين: واعلم أنا قد ذكرنا جملة من نعم الله على خلقه ونعمة البدن واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئًا من الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التدريج لا على سبيل الاستقصاء.
فنقول: من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس التي هي آلة للإدراك.
فأولها حاسة اللمس وهو أول حس يخلق للحيوان وأنقص دراجات الحس أن يحس بما يلاصقه فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد ولكن لا تدري من أي ناحية جاءت الرائحة فتحتاج أن تطوف أي تدور كثيرًا، حتى تعثر على الذي شممت رائحته وربما لم تعثر عليه.
فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصدها(3/384)
بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصًا إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب وقرب منك قبل أن ينكشف الحجاب فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من الحجرات عند جريات الحركات ولا يكفي ذلك لو لم يكن لك حسن ذوق إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك بخلاف الشجرة فإنه يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه وربما يكون ذلك سبب جفافها وتلافها.
ثم أكرمك تعالى بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها وما يضر في المال وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك وهي أدنى فوائد العقل والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى.
وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الإدراكات ولا تظن أننا استوفينا شيئًا من ذلك فإن البصر واحد من الحواس والعين آلة له وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية مختلفة.
ولكل واحدة من الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وتدبير وتركيب لو اختلفت طبقة واحدة منها أو صفة واحدة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء كلهم فهذا في حس واحد وقس حاسة السمع وسائر الحواس ولا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات فكيف في جميع البدن.
ثم انظر بعد ذلك في خلق الإرادة والقدرة وآلات الحركة من أصناف النعم وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به(3/385)
الطعام ولم يخلق لك في الطبع شوقًا إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البصر معطلاً فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له ولا يقدر على تناوله لعدم الشهوة له فخلق الله لك شهوة الطعام وسلطها عليك كالمتقاضي الذي يضطر إلى تناول الغذاء.
ثم هذه الشهوة لو لم تكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام لأسرفت وأهلكت نفسك فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القوة في الشهوة للوقاع لحكمة بقاء النسل.
ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره، منها اليدان وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني ولا تكون كخشبة منصوبة.
ثم جعل رأس اليد عريضًا وهو الكف وقسمة خمسة أقسام وهي الأصابع وتمد الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر ووضعها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور على الأصابع البواقي ولو كانت مجتمعة متراكمة لم يحصل تمام الغرض.
ثم خلق لها أظفارًا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتقوى بها ولتلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها إلا الأصابع ثم هب أنك أخذت الطعام باليد فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك فجعل لك الفم واللحيين خلقهما من عظمين وركب فيهما الأسنان وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام فبعضهما قواطع كالرباعيات وبعضها يصلح للكسر كأنياب وبعضها طواحن كالأضراس.
وجعل اللحي الأسفل متحركًا حركة دورية واللحي الأعلى ثابتًا لا يتحرك فانظر على عجيب صنع الله تعالى الذي أتقن كل شيء وأن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذه الرحى التي هي صنع الله سبحانه وتعالى فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء الشريفة التي يحتوي عليها.
ثم انظر كيف أنعم عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى هذا مع ما فيه من عجائب(3/386)
قوة النطق ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته فما تقدر على الابتلاع إلا بأن يتزلق على الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينًا يفيض منها اللعاب وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام.
ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم فإنه لا يمكن إيصاله باليد فهيأ لك المريء والحنجرة وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام فيهوي في دهليز المريء على المعدة فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحمًا وعظمًا ودمًا على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخًا تمامًا فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة.
وهي الكبد من جانبها الأيمن والطحال من جانبها الأيسر والثرب من أمامها ولحم الصلب من خلفها فينضح الطعام بإذن الله ويصير مائعًا متشبهًا يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ثم ينصب الطعام من العروق(3/387)
إلى الكبد فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثفل ثم يندفع.
فانظر إلى نعم الله عليك لتقوى على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل وهي أبسطها ثم لا تعرفه منها إلا أنك تجوع فتأكل والبهيمة أيضًا تعرف أنها تجوع وتأكل وتتعب فتنام وتشتهي فتجامع وإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر الله تعالى.
قال: واعلم أن الأطعمة كثيرة مختلفة ولله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى وهي تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها فنتكلم على بعض الأغذية فنقول إذا كان عندك شيء من الحنطة فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعًا فما أحوجك إلى عمل ينمو به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفيء بتمام حاجتك وهو زرعها وهو أن تجعل في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها فيصير طينًا.
ثم لا يكفي الماء والتراب إذ لو تركت في أرض ندية صلبة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح يحرك الهواء ويصرفه بقهر على الأرض حتى ينفذ فيها ثم كل ذلك وحده لا يغني فيحتاج على حرارة الربيع والصيف فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت.
ثم انظر إلى الماء الذي تحتاج إليه هذه الزارعة كيف خلقه الله تعالى فجر العيون وأجرى منها الأنهار ولما كان بعض الأرض مرتفعًا لا يناله(3/388)
الماء أرسل إليه الغيوم وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم وهي سحب ثقال ثم يرسله على الأرض مدرارًا في وقت الحاجة.
وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء تتفجر منها العيون تدريجًا، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره، وانظر كيف سخر الشمس وخلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إليه والحر عند الحاجة إليه، وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء فهو لنوع فائدة.
ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم الحرص على جمع المال مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون الأموال فإما أن تغرق بها السفن أو تنتهبها قطاع الطريق أو يموتون في بعض البلاد فتأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا.
فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح في ركوب البحار وركوب الأخطار فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك فأكثر من حمد الله وشكره.
سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبٌ ... فَمَا تَبيْنُ ولا يَعْتَاقهَا نَصَبُ
كَيْفَ النَّجَاءُ وَأَيْدِيهَا مُصَمَّمَتٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدًّى لَيْسَتْ لَهَا نُصُبُ
وَهَلْ يُؤْمَلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عَجَبُ
وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزِلٍ هَتَفَتْ ... فِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنا رِبْعةُ نُوَبُ
وَآذَنَتْنَا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ
أَزَرْتَ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ
هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ ... وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلُّهُ نُصُبُ
وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعَ الْبَلاءِ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌّ وَمُرْتَقِبُ
أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي ابْتِنَائِهِمْ ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا(3/389)
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين. وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
واعلم أن الخلق لم يقصروا عن شكر نعمة الله إلا للجهل والغفلة فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم ولا يتصور شكر النعمة بدون معرفتها ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه الحمد لله والشكر لله ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكم التي أريدت بها وهي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
شِعْرًا: ... تَعَلَّمْتُ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا ... وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا
آخر: ... (وَلَوْ أَنَّ لِي فِي كُلِّ عُضْوٍ وَشَعْرَةٍ ... لِسَانًا يُؤَدِّي الشُّكْر للهِ قَصَّرَا)
آخر: ... دَعِينِي أَجُدُ السَّعْيَ فِي شُكْرِ مَنْ لَهُ ... عَلَيَّ بِأَصْنَافِ النَّعِيم تَفَضُّلا
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب: أحدها أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكر من نعم الله التي تفضل بها على خلقه لأنها عامة للخلق مبذولة لهم في جميع أحوالهم فلا يرى منهم اختصاصًا به فلا يعده نعمة.
ولذلك لا تجدهم يشكرون الله على روح الهوا ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا في بئر أو حمام ماتوا غمًا(3/390)
فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها.
وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفًا على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد إليهم في بعض الأحوال فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر فلا ترى البصير يشكر نعمة البصر وصحته إلا أن يعمى فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها وعدها نعمة وهو مثل عبد السوء يضرب دائمًا فإذا ترك ضربه ساعة شكر وتقلد ذلك منه وإن ترك ضربه أصلاً غلبه البطر وترك الشكر فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله عليهم.
شِعْرًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَبْقَى من الله نِعْمَة ... عَلَيْكَ فَأَكْثِرْ حَمْدَهُ مَعَ شُكْرِهِ
وَلا تَعْصِيَنَّ اللهَ فِيمَا رَزَقْتُهُ ... فَيَنْزِعْ عَنْكَ اللهُ وَاسِعَ رِزْقَهُ
آخر:
مَا أَحْسَنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالُهَا ... إِذَا أَطَاعَ اللهَ مَنْ نَالَهَا
مَنْ لَمْ يُؤَالِي شُكْرَ إِلَهَهُ ... عَرَّضَ لِلإِدْبَارِ إِقْبَالَهَا
فَاحْذَرْ زَوَالَ الْفَضْلِ يَا مَانِعًا ... زَكَاةَ أَمْوَالٍ لَهُ نَالَهَا
كما روي أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة وأظهر شدة اغتمامه بذلك فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم قال لا قال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف قال لا قال أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفًا قال لا قال أيسرك أنك ومجنون ولك عشرة آلاف درهم قال: لا قال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفًا.
ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة فبكى ودعا بماء في قدح فقال: يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها أكنت(3/391)
تفديها قال: نعم. قال: فاشرب ريًا بارك الله فيك فلما شرب قال له يا أمير المؤمنين. أرأيت لو منعت أخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتدي ذلك قال نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه. وهذا يبين أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة عند العطش أعظم من ملك الأرض ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة.
ثم اعلم أنه ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى عليه من نعم الله نعمًا كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس بل قد يشاركه في ذلك يسير منهم من ذلك العقل فما من عبد إلا وهو راض عن الله سبحانه في عقله يعتقد أنه أعقل الناس وقلما يسأل الله العقل وإذا كان ذلك اعتقاده فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك.
ومن ذلك الخلق فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوبًا يكرهها وأخلاقا يذمها ويرى نفسه بريئًا منها فينبغي أن يشكر الله على ذلك حيث أحسن خلقه وابتلى غيره.
شِعْرًا:
أَيَا ابْنُ آدَمَ وَالآلاء سَابِغَةٌ ... وَمُزْنَهُ الْجُودِ لا تَنْفَكُّ عَنْ دِيَمِ
هَلْ أَنْتَ ذَاكِرٌ مَا أُولِيتَ مِنْ حَسَنٍ ... وَشَاكِرٌ كُلَّ خُوِّلْتَ مِنْ نِعَمِ
بَرَاكَ بَارِئُ هَذَا الْخَلْق مِنْ عَدَمٍ ... بَحْتٍ وَلَوْلاهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْعَدَمِ
أَنْشَأَكَ مِنْ حَمَأ وَلا حِرَاكَ بِهِ ... فَجِئْتَ مُنْتَصِبًا تُمْسِي عَلَى قَدَمِ
مُكَمَّلُ الأَدَوَاتِ آيَةً عَجَبًا ... مُوَفَّرَ الْعَقْلِ مِنْ حَظٍّ وَمِنْ فَهْمِ
تَرَى وَتَسْمَعْ كُلا قَدْ حُبِيتَ بِهِ ... فَضْلاً وَتَنْطِقُ بِالتَّبْيِينِ وَالْكَلم
هَدَاكَ بِالْعِلْمِ سُبُلَ الصَّالِحِينَ لَهُ ... وَكُنْتُ مِنْ غَمَرَاتِ الْجَهْلِ فِي ظلمِ
مَاذَا عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ غَمَرَتْ ... كُلَّ الْجِهَاتِ وَلَمْ تَبْرَحْ وَلَمْ تَرِمِ
غَرَّاءُ كَالشَّمْسِ قَدْ أَلْقَتْ أَشِعَّتهَا ... حَتَى لَيُبْصِرهَا عَلَيْكَ كُلُّ عَمِيْ(3/392)
فَاشْكُرْ وَلَسْتَ مُطِيقًا شُكْرهَا أَبَدًا ... وَلَوْ جَهِدْتَ فَسدِّدْ وَيْكَ وَالْتَزِمِ
رِزْقٌ وَأَمْن وَإِيمَانٌ وَعَافِيَةٌ ... مَتَى تَقُومُ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ
آخر: ... إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
عَلَى نِعَمٍ مِنْهَا الْهِدَايَةُ لِلْحَمْدِ
صَحِيحًا خَلَقْتَ الْجِسْمَ مِنِّي مُسَلَّمًا
وَلُطْفُكَ بِي مَا زَالَ مُذْ كُنْتُ فِي الْمَهْدِ
وَكُنْتُ يَتِيمًا قَدْ أَحَاطَ بِي الرَّدَى
فَأَوَيْتَ وَاسْتَنْقَذْتَ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِي
وَهَبْتَ لِي الْعَقْلَ الَّذِي بِضِيَائِهِ
إِلَى كُلِّ خَيْرٍ يَهْتَدِي طَالِبُ الرُّشْدِ
وَوَفَّقْتَ لِلإِسْلامِ قَلْبِي وَمَنْطِقِي
فَيَا نِعْمَةً قَدْ جَلَّ مَوْقِعُهَا عِنْدِي
وَلَوْ رُمْتُ جُهْدِي أَنْ أُجَازِي فَضِيلَةً
فَضَلْتَ بِهَا لَمْ يَجُزْ أَطْرَافُهَا جَهْدِي
أَلَسْتَ الَّذِي أَرْجُو حَنَانَكَ عِنْدَمَا
يُخَلِّفُونَ الأَهْلُونَ وَحْدِي فِي لَحْدِي
فَجُدْ لِي بِلُطْفِكَ مِنْكَ يَهْدِي سَرِيرَتِي
وَقَلْبِي وَيُدْنِينِي إِلَيْكَ بِلا بُعْدِ
ومن ذلك أنه ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به ولو كشف الغطاء عنه حتى اطلع عليه أحد(3/393)
من الخلق لا افتضح فكيف لو اطلع عليه الناس كافة فَلِمَ لا يشكر الله على ستر مساويه أظهر الجميل وستر القبيح.
وأيضًا ما من عبد إلا وقد رزقه الله في صورته وأخلاقه أو صفاته أو جاهه أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو سائر محابه أمورًا لو سلب ذلك منه وأعطى ما خصص به من ذلك غيره لكان لا يرضى وذلك مثل أن الله جعله مؤمنًا لا كافرًا وحيًا لا ميتًا وإنسانًا لا بهيمة وذكرًا لا أنثى وصحيحًا لا مريضًا وعاقلاً لا مجنونًا وسليمًا لا معيبًا فإن هذه خصائص فعليه أن يشكر الله جل وعلا في كل ساعة ولا يغفل.
شِعْرًا:
إَذَا أَنَا لَمْ أَشْكُرْ لِرَبِي دَائِمًا ... وَلَمْ أُصْفِ مِنْ قَلْبِي لَهُ الْوُدَّ أَجْمَعَا
فَلا سَلَمَتْ نَفْسِي مِنَ السُّوءِ سَاعَة ... وَلا نَظَرَتْ عَيْنِي مِنَ الشَّمْسِ مَطْلَعَا
شِعْرًا:
تَبَارَكَ مَنْ لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ
وَمَنْ لَمْ يَزَلْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيُذْكَرُ
عَلا فِي السَّمَواتِ الْعُلَى فَوْقَ عَرْشِهِ
إِلَى خَلْقِهِ فِي الْبِرِّ وَالْبَحْرِ يَنْظُرُ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ وَمُدَبِّرٌ
وَمَنْ دُونُهُ عَبْدٌ ذَلِيلٌ مُدَبَّرُ
يَدَاهُ لَنَا مَبْسُوطَتِانِ كِلاهُمَا
يَسِحَّانِ وَالأَيْدِي مِنَ الْخَلْقِ تَقْتُرُ
وَإِنْ فِيهِ فَكَّرْنَا اسْتَحَالَتْ عُقُولُنَا
وَأُبْنَا حَيَارَى وَاضْمَحَلَّ التَّفْكُّرُ(3/394)
وَإِنْ نُقِرُ الْمَخْلُوقَ عَنْ عِلْمِ ذَاتِهِ
وَعَنْ كَيْفَ كَانَ الأَمْرُ تَاه الْمُنَقِّرُ
وَلَوْ وَصَفَ النَّاسُ الْبَعُوضَةَ وَحْدَهَا
بِعِلْمِهُمُوا لَمْ يُحْكِمُوهَا وَقَصَّرُوا
فَكَيْفَ بِمَنْ لا يَقْدِرُ الْخَلْقُ قَدْرُهُ
وَمَنْ هُوَ لا يَفْنَى وَلا يَتَغَيَّرُ
اللهم اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار ووفقنا للتوبة والاستغفار واحطط عنا ثقل الأوزار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا عزيز يا غفار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال في كتاب التوحيد المسمى الأدلة على الحكمة والتدبير:
تأمل هذه القوى التي في النفس وموقعها في الإنسان أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الحفظ وحده كيف تكون حاله وكم من خلل يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجارته إذا لم يحفظ ماله وما عليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ولا يحفظ علمًا ولو درسه عمره ولا يعتقد دينًا ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى بل كان حقيقًا خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية فانظر إلى الإنسان في هذه الخلال وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع.
وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فلولاه لما سلا أحد عن مصيبة ولا تَقَضَّتْ له حسرة ولا مات له حقد ولا(3/395)
استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجا غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان وجعل في كل واحد منها قسمًا من المصلحة.
ثم انظر إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعنى الحياء فلولا هذا الحياء الذي خص الله به الإنسان لم يقر ضيفًا ولم يوف بالعدة ولم تقض الحوائج ولم ينجز الجميل ولم ينكب القبيح في شيء من الأشياء حتى إن كثيرًا من الأمور المفروضة أيضًا إنما تفعل للحياء فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة أفلا ترى كيف وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره.
وتأمل ما أنعم الله جل وعلا وتقدست أسماؤه على الإنسان به من هذا المنطلق الذي يعبر به عمَّا في ضميره وما يخطر بباله وفي قلبه وينتجه فكره به يفهم عن غيره ما في نفسه ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئًا.
وكذلك الكتابة التي بها تعيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات ولولاها لانقطع بعض الأزمنة عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم وما روي لهم مما لا يسعهم جهله.
وانظر لو لم يكن للإنسان لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور(3/396)
لم يكن ليتكلم أبدًا ولو لم يكن له كف مهيأة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدًا واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل وعلا وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب ومن كفر إن الله غني عن العالمين.
وفكر فيما أعطي الإنسان علمه وما منع منه فإنه أعطى علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فأما صلاح دينه فهو معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة وزكاة وصيام وحج ومن العدل بين الناس كافة وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك.
وكذلك أعطي ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراسة واستخراج ما في الأرضيين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط الماء ومعرفة العقاقير التي يستشفي بها بإذن الله من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار.
فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وعلم ما في السماء وما تحت البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب على الناس علمه فانظر كيف أعطى علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيه صلاحه.
ثم تأمل ما ستر عنه علمه من مدة حياته فأنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع رقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه(3/397)
وأيقن به وإن كان طويل العمر وعرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمد أن يبلغ من شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله.
قلت: ومما يستعان به على معرفة قدر نعم الله على العبد التفكر فيها وبالتفكر في حال نفسه قبل وجودها فينظر إذا كان غنيًا إلى حال فقره المتقدم حسًا أو معنًى وينظر إذا كان صحيحًا إلى حاله حينما كان مريضًا وينظر إذا كان مطيعًا لله وقت عصيانه لله حيث من الله عليه بضد تلك الحالة.
وينظر إذا كان ذاكرًا لله على الدوام أيام كان غافلاً لاهيًا وينظر إذا كان قارئًا أيام أن كان لا يقرأ ولينظر إذا كان عالمًا إلى وقت جهله وينظر إذا كان له أولاد صالحين أيام إن لم يكن له أولاد وينظر إذا كان في مسكن واسع مناسب أيام أن كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه.
وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها الذي كان موجودًا قبل ذلك فلا شك أن من عمل بهذا يعرف قدرها فيشكرها فتدوم عليه بإذن الله تعالى لأن الله جل وعلا يقول وهو أصدق قائل {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} فمن شكر نعمة الله زاده الله منها وقيل الشكر قيد الموجود وصيد المفقود.
شِعْرًا: ... تَعْصِي الإلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا مُحَالٌ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ يَبْتَدِيكَ بِنَعْمَةٍ ... مِنْهُ وَأَنْتَ لِشُكْرِ ذَاكَ مُضَيِّعُ
وفي أثر إلهي: يقول الله عز وجل أهل ذكري أهل مجالسي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم(3/398)
من رحمتي إن تأبوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب وقيل من كتم نعمة فقد كفرها ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده» .
قلت: وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب الناسك النظيف» . فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر كما يحب أن يرى عليه الجمال الباطن بالتقوى ونظافة الظاهر مع نظافة الباطن نور على نور قال بعضهم لمن انتقده في تحسين ثيابه:
حَسِّنْ ثِيَابَكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهَا
زِينُ الرِّجَالٍ بِهَا تَعُزُّ وَتُكْرَمُ
فَرَثَاثُ ثَوْبِكَ لا يَزِيدَكَ رِفْعَةً
عِنْدَ الإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمُ
وَجَدِيدُ ثَوْبِكَ لا يَضُرُّكَ بَعْدَ أَنْ
تَخْشَى الإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ
آخر:
تَجَمَّلْ بِالثِّيَابِ تَعِشْ حَمِيدًا
فَإِنَّ الْعَيْنَ قَبْلَ الاخْتِبَارِ
فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ
لَقَالَ النَّاسُ يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ
وتأمل حكمة عدم تشابه الناس بخلاف سائر الحيوان فإنك ترى السرب من الظباء والقطا يتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها وبين الآخر وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صورة واحدة والعلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا(3/399)
بأعيانهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه.
ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئًا وليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأمان تشابهًا شديدًا فتعظم المؤنة على الناس في معاملتها حتى يؤخذ أحدهما بذنب الآخر فتبارك الله أحسن الخالقين.
وتأمل لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطف على الناس أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في العافية وبسط يده في الصدقة. انتهى.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد والحقد والبغض لعبادك المؤمنين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة: عباد الله لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وجاد علينا بخيرات وفيرة غفلنا عنها، وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، أعطانا جل وعلا العقل، وميزنا به عن الحيوانات، وأرسل إلينا الرسل، يرشدوننا للحق وخالص الإيمان، منحنا القوة والعافية، وصحة البدن، وسلامة الأعضاء.
وجعل لنا السمع، والبصر، واللسان، والشفتين، وعلمنا البيان والإفصاح، عن ما نقصد بالكلام، خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا الأرض فراشًا، والسماء بناء، وأنبت لنا في الأرض النخيل، والأعناب والزرع وسائر ما نحتاج إليه من الثمار، ونستخرج منها المعادن، والخامات.
وأجرى لنا فيها الأنهار، وأنبع لنا الماء الزلال، وخلق الشمس والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره تمدنا بالأنوار، والمنافع، للأبدان(3/400)
والثمار، والنباتات، وفيها من الإتقان، والجمال، والاتزان فِي سيرها مدى الليالي والأيام، مَا تشهد لله بالوحدانية، والحكمة، والقدرة الباهرة، والعلم، وسائر صفات الكمال.
ولله نعم أخرى لا تعد، ولا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إذًا يجب علينا شكره تعالى عَلَى نعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه، كما قال جل وعلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وليس لله فِي شكرنا منفعة تعود إليه، وليس فِي كفر نعمه ضرر عليه، إنما تعود منفعة الشكر إِلَى الشاكر كما قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .
إنما الذي ينتظر الشكر مخلوق مثلنا وأنت إذا شكرت الله إنما تبرهن عَلَى فهمك لنعمة الله، وتقديرك له إن شكرت فقد وجهت النعمة وجهة الخير، والنفع، واستعملتها فيما يسعدك فِي الدنيا والآخرة، وإن كفرت فقد برهنت على سوء فهمك، وعدم تقديرك لربك، وعَلَى تعمقك فِي اللؤم والرداءة.
وإذا تأملت الكثير من الناس وجدته مهملاً للشكر الذي هو صرف النعم فيما خلقت له، واستعمالها فيما شرعت لأجله، لتظهر فائدتها وتتم حكمتها، ويجني العباد منافعها، فالشاكر بلسانه وقلبه، وعمله من الفائزين، ولكنه قليل، كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} الأكثر كما تقدم صروفها فيما يعود عليهم، وعَلَى أولادهم، وأهلهم، وأمتهم بالضرر.
أنعم عليهم بالمال فقسم خزنوه ومنعوا حقوقه فلم يخرجوا زكاته،(3/401)
ولم يساهموا فِي مشاريع دينية، كبناء مساجد، وقضاء دين عن مدين ومساعدة فقير، وإجراء مياه للمسلمين، والمساعدة على نشر الإسلام وطباعة مصاحف طباعة جيدة وتوزيعها عَلَى التالين لكتاب الله، وطباعة الكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية، وبناء بيوت لمن لا مساكن لهم، ونحو ذلك.
وقسم أنفقوا المال فِي الملاذ والملاهي، والمنكرات، وسائر المحرمات، أذهبوها فِي الحياة الدنيا، واستمتعوا بها، ولم يراقبوا الله فيها، أنعم عليهم فِي الصحة والفراغ المفروض أن تغتنم فِي طاعة الله.
ولكن يا للأسف صرفت فِي السهر، وفي الفساد، وفي المجون والكسل والتكسع، والخمول أو التطاول بالقوة عَلَى الضعفاء، والمساكين، وإعانة الظلمة والفاسقين، ونحو ذلك، من المفاسد والشرور.
وقس عَلَى ذلك باقي النعم من السمع والبصر واللسان والرجل فلم يبق نعمة إلا وقلبوها، ولا هبة من الله إلا وجحدوها فنزلوا بعد الرفعة وذلوا بعد العزة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال بعضهم فِي مدح اللطيف الخبير جل وعلا وذكر بعض ألطافه:
أَحَاطَ بِتَفْصِيلِ الدَّقَائِقِ عِلْمُهُ
فَأَتْقَنَهَا صُنْعًا وَأَحْكَمَهَا فِعْلا
فَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظَ الْجَنِينِ وَصَوْنُهُ
بِمُسْتَوْدَعٍ قَدْ مَرَّ فِيهِ وَقَدْ حَلا
تَكَنَّفَهُ بِاللُّطْفِ فِي ظُلُمَاتِهِ
وَلا مَالَ يُغْنِيهِ هُنَاكَ وَلا أَهْلا(3/402)
وَيَأْتِيهِ رِزْقٌ سَابِغٌ مِنْهُ سَائِغٌ
يَرُوحُ لَهُ طَوْلاً وَيَغْدُو لَهُ فَضْلا
وَمَا هُوَ يَسْتَدْعِي غِذَاءً بِقِيمَةٍ
وَلا هُوَ مِمَّنْ يُحْسِنُ الشُّرْبَ وَالأَكْلا
جَرَى فِي مَجَارِي عِرْقِهِ بِتَلَطُّفٍ
بِلا طَلَبٍ جَرْيًا عَلَى قَدْرِهِ سَهْلا
وَأَجْرَى لَهُ فِي الثَّدْيِ لُطْفَ غِذَائِهِ
شَرَابًا هَنِيئًا مَا أَلَذَّ وَمَا أَحْلا
وَأَلْهَمَهُ مَصًّا بِحِكْمَةِ فَاطِرِ
لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ الْجَزِيلُ بِمَا أَوْلا
وَأَخَّرَ خَلْقَ السِّنَّ عَنْهُ لِوَقْتِهَا
فَأَبْرَزَهَا عَوْنًا وَجَاءَ بِهَا طَوْلا
وَقَسَّمَهَا لِلْقَطْعِ وَالْكَسْرِ قِسْمَةً
وَلِلطَّحْنِ أَعْطَى كُلَّ قِسْمِ لَهَا شَكْلا
وَصَرَّفَ فِي لَوْكِ الطَّعَامِ لِسَانَهُ
يُصَرِّفُهُ عُلْوًا إِذَا شَاءَ أَوْ سُفلا
وَلَوْ رَامَ حَصْرًا فِي تَيَسُّرِ لُقْمَةٍ
وَأَلْطَافِهِ فِيمَا تَكَنَّفَهَا كَلا
فَكَمْ خَادِمٍ فِيهَا وَكَمْ صَانِع لَهَا
كَذَلِكَ مَشْرُوبٌ وَمَلْبَسُهُ كلا
وَكَمْ لُطْفٍ مِنْ حَيْثُ تَحْذَرُ أَكرَمَتْ
وَمَا كُنْتَ تَدْرِي الْفَرْعَ مِنْهَا وَلا الأَصْلا(3/403)
وَمِنْ لُطْفِهِ تَكْلِيفُهُ لِعَبَادِهِ
يَسِيرًا وَأَعْطَاهُمْ مِن النِّعِمِ الْجَزْلا
وَمِنْ لُطْفِهِ تَوْفِيقُهُمْ لإِنَابَةٍ
تُوَصَّلُ لِلْخَيْرَاتٍ مِنْ حَبْلِهِمْ حَبْلا
وَمِنْ لُطْفِهِ بَعْثُ النَّبِي مُحَمَّدًا
لِيَشْفِعَ فِي قَوْمِ وَلَيْسُوا لَهَا أَهْلا
وَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظُ الْعَقَائِدِ مِنْهُمُوا
وَلَوْ خَالَفَ الْعَاصِي الْمُسِيءُ وَإِنْ زَلا
وَمِنْ لُطْفِهِ إِخْرَاجُهُ عَسَلاً كَمَا
تُشَاهِدُ مِمَّا كَانَ أَوْدَعَهُ النَّحْلا
وَإِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ مُجَاوِرٍ
دَمًا لَبَنًا صِرْفًا بِلا شَائِبٍ رِسْلا
وَإِخْرَاجُهُ مِنْ دُودَةٍ مَلْبَسًا لَهُ
رُوَاقًا عَجِيبًا أَحْكَمَتْهُ لَنَا غَزْلا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا خَلْقُهُ الْقَلْبَ عَارِفًا
بِهِ شَاهِدًا أَنْ لا شَبِيهِ وَلا مِثْلا
وَأَلْطَافُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فَخُذْ بِمَا
بَدَا لَكَ وَأَشْهَدْهَا وَإِيَّاكَ وَالْجَهْلا
وَصَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ
على خَالِصِ الْعِرْفَانِ بِاللهِ قَدْ دَلا(3/404)
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
في المروءة
المروءة بمعنى الإنسانية لأنها مأخوذة من المرء وهي تعاطي مَا يستحسن وتجنب مَا يسترذل قال بعضهم: حد المروءة رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم.
وقيل: هي آداب نفسية تحمل مراعاتها الإنسان عَلَى الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. وقيل: هي قوة للنفس مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها المستتبعة للمدح شرعًا وعقلاً وفرعًا وكلها قريبة المعنى. وقيل: هي الصدق والشرق والاستقامة والشجاعة والحمية.
وقال بعضهم: المروءة كلمة لفظها كمعناها حلو جميل إن قرعت السمع فعظمة وجلال وإن نفذت عَلَى القلب فنبل وسمو وشعور بالكرامة والكمال ولست أعدل عن الحق إن قلت إن المروءة هي جماع الفضائل ورأس المكارم وعنوان الشرف بها يسمو المرء ويرتفع ذكره وبفقدها يفقد كل كرامة وفضل.
فهي ميزان الرجال وأصل الجمال وحد المروءة تجمل النفس بما يزينها وتحصينها مما يشينها بحيث تكون للمحامد أهلاً وعن المذام# بمنأى ولا يكون إلا لمن راض نفسه عَلَى التخلف بالخلق الحسن من الصفات والتجمل بجميل العادات حتى يصبح التطبع جبلة والتعود غريزة وليس يستطيع ذلك إلا من جاهد نفسه ونازع هواه رغبة فِي حسن الأحدوثة والذكرى الجميلة. كما قيل:
لَقَدْ أَسْمَعُ الْقَوْلَ الذِّي كَادَ كُلَّمَا ... تُذَكِّرُنِيْهِ النَّفْسُ قَلْبِيْ يُصَدَّعُ
فَأُبْدِي لِمَنْ أَبْدَاهُ مِنِّي بَشَاشَةٍ ... كَأَنِّي مَسْرُورٌ بِمَا مِنْه أَسْمَعُ(3/405)
ج
وَمَا ذَاكَ مِنْ عُجْبٍ بِهِ غَيْرَ أَنَّنِي ... أَرَى أَنْ تَرَكَ الشَّرِ لِلْشَّرِ أَقْطَع
آخر: ... وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيْثٌ بَعْدَهُ
فَكُنْ حَدَيْثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ
وَالْمَرْءُ يَبْقَى بَعْدَهُ حُسْنُ الثَّنَا
وَقَدْ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كلمت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته» . وقال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة المروءة تجنب الدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال.
فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه، واجتباه الثمار مِنْه بسهولة ويسر، ومروءة الخلق سعته وبسطه للحبيب والبغيض.
ومروءة المال الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا.
ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذل.
وأما مروءة الترك، فترك الخصام والمعاتبة والممارات، والإغضاء عن عيب مَا يأخذه من حقك وترك الاستقصاء فِي طلبه والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد مِنْهُمْ عثرة، والتوقير للكبير، وحفظ حرمة النظير، ورعاية أدب الصغير قال: وهي عَلَى ثلاث درجات الدرجة الأولى مروءة الإنسان مع نفسه، وهي أن يحملها قسرًا عَلَى مَا يجمل ويزين وترك مَا يدنس ويشين، ليصير لها ملكة فِي جهره وعلانيته.
شِعْرًا: ... وَهَلْ يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوْهِهِمْ ... إِذَا كَانَتِ الأعْرَاضُ غَيْرُ حِسَانِ
فَلا تَجْعَلِ الْحُسْنَ الدَّلِيْلَ على الْفَتَى ... فَمَا كُلُّ مَصْقُوْلِ الْحَدِيْدِ يَمَانِي(3/406)
آخر: ... كَالثُّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفَةً ... فَلا يُفْرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْفَنَدِ
الْجَهْلُ شَخْصُ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ ... لا تَسْألَ الرَّبْعَ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أحَدِ
آخر: ... خَلِيْلَيَّ كَمْ ثَوْبٍ وَكَمْ مِنْ عَبَاءَةٍ ... عَلَى جَسَدٍ مَا فِيهِ عِلْمٌ وَلا عَقْلُ
وَكَمْ لِحْيَةٍ طَالَتْ عَلَى خَدِّ جَاهِلٍ ... فَأَزَرَى بِهَا مِنْ بَعْدَمَا طَالَتَ الْجَهْلُ
وَكَمْ رَاكِبِ بَغْلاً لَهُ عَقْلُ بَغْلَهِ ... تَأَمَلْ تَرَى بَغْلاً عَلَى ظَهْرِهِ بَغْلُ
آخر: ... كُلُّ الأنَامِ بَنُوْأَبٍ لَكِنَّمَا ... بِالْفََضْلِ تَعْرِفُ قِيْمَةُ الإنْسَانِ
فلا يكشف عروته فِي الخلوة، ولا يتجشأ بصوت مزعج مَا وجد إِلَى خلافه سبيلا، ولا يخرج الريح بصوت ولا يجشع وينهم عند أكله وحده وبالجملة فلا يفعل خاليًا مات يستحي من فعله فِي الملإ إلا مَا يحظره الشرع والعقل إن وافق الشرع ولا يكون إلا فِي الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك.
الدرجة الثانية المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم مَا يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس المتمشين مع الشريعة المطهرة فِي أقوالهم وأفعالهم مرآة لنفسه فكل مَا كرهه ونفر عنْه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله.
وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه، وعديم المروءة وغزيرها، وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق.
وكان لآخر زوجة حمقاء بذيئة اللسان تشتمه بل وتلعنه باستمرار وتدعو عليه من دون داع فقيل له: كيف تصبر عليها وهذه سيرتها معك غفر الله لك.
فقال: أدرس عليها مكارم الأخلاق وبالأخص الحلم والصبر وأريد أن تبرز زلاتي فأتجنبها وكان كثيرًا مَا يتمثل بهاذين البيتين:(3/407)
عُدَاتِيَ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةٌ ... فَلا أَذْهَبَ الرَّحْمَنُ عَنِّيَ الأعَادِيَا
هَمُّوْا بَحَثُوْا عَنْ زُلَتِيْ فَأَجْتَنَبْتُهَا ... وَهَمْ نَافِسُوْنِي فَاكتَسَبْتُ الْمَعَالِيَا
وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق فِي ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس عَلَى مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه ولكن مَا يفعل ذلك إلا القليل الذين قَدْ وطنوا أنفسهم.
كما قيل:
النَّاسُ مِثْلُ بُيُوتِ الشَّعْرِ كَمْ رَجُلٍ ... مِنْهُمْ بِأَلْفٍ وَكَمْ بَيْتٍ بِدِيوَانِ
آخر:
وَكَمْ للهِ مِنْ عَبْدٍ سَمِيْنٍ ... كَثِيْرَ اللَحْمُ مَهْزُوْلِ الْمَعَالِي
كَشِبْهِ الطَّبْلِ يُسْمَعُ مِنْ بَعِيْدٍ ... وَبَاطِنُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ خَالِي
الدرجة الثانية المروءة مع الحق بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك فِي كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان إنه قَدْ اشتراها منك وأنت ساع فِي تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة تسليمه عَلَى مَا فيه من عيوب وتقاضي الثمن كاملاً أو رؤية منته فِي هذا الإصلاح وأنه المتولي له لا أنت.
والاشتغال بإصلاح عيوبك نفسك عن التفاتك إِلَى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحه. أ. هـ.
عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعَايِبِهَا ... وَخَلِّي مِنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ لِلنَّاسِ
ومما تقدم يتبين لنا أن مراعاة النفس عَلَى أكمل الأحوال وأفضلها هي المروءة وإذا كانت فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها إلا من وفقه الله وسهل عليه المشاق ويود كل أحد لو حصلت له المروءة ولكن كما قيل:
وَكُلَّ يَرَى طُرُقَ الشَّجَاعَةِ وَالنَّدَى ... وَلَكِنْ طَبْعُ النَّفْسِ لِلنَّفْسِ قَائِدُ(3/408)
آخر: ... فَلا تَحْسَبُوْا أَنَّ الْمَعَالِي رَخِيْصِةً ... وَلا أَنَّ إِدْرَاكَ الْعُلَى هَيِّنٌ سَهْلُ
فَمَا كُلُّ مَنْ يِسْعَى إِلَى الْمَجْدِ نَالَهُ ... وَلا كُلُّ مِنْ يَهْوَى الْعَلا نَفْسُهُ تَعْلُو
قال العلماء: والداعي إِلَى استسهال المشاق شيئان علو الهمة وشرف الله فأما علو الهمة فيدعو إِلَى التقدم وَقَدْ ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره دنيها وسفسافها» . قال المناوي: معالي الأمور وأشرافها هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية. أ. هـ.
وأما سفساف الأمور فهو حقيرها ورديؤها، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تصغرن هممكم فإني لَمْ أر
اقعد عن المكرمات من صغر الهمم.
حَاوِلْ جَسِيْمَاتِ الأمُوْرِ وَلا تَقُلْ ... إنَّ الْمَحَامِدَ وَالْعُلَى أَرْزَاقُ
آخر: ... يَسْتَقْرَبُ الدَّارَ شَوْقًا وَهْيَ نَازِحَةٌ ... مَنْ عَالَجَ الشَّوْقُ لَمْ يَسْتَبْعِدَ الدَّارَا
آخر: ... فَإِنَّ عَلِيَّاتِ الأمُوْرِ مَشُوْبَةٌ ... بِمُسْتَوْدَعَاتٍ فِي بُطُوْنِ الأسَاوُدِ
آخر: ... بَصُرْتَ بِالْحَالِةِ الْعُلْيَا فَلَمْ تَرْهَا ... نُتَنَالُ إلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
آخر: ... وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوْبٍ النَّاسَ شَيْئًا ... كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ على التَّمَامِ
ويقول:
تُرِيْدِيْنَ لُقْيَانَ الْمَعَالِي رَخِيْصَةً ... وَلا بُدَّ دُوْنَ الشَّهْدِ مِنْ إبَرِ النَّحْلِ
وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمرًا ظفر به أعظمهما مروءة لكثرة وجاهته ووسائطه عند ذوي الأمر، وأما شرف النفس فيدعو إِلَى الشهامة وهي الحرص عَلَى مَا يوجب الذكر الجميل، والاحتمال وهو إتعاب النفس فِي الحسنات كما قيل:
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيْلُ
فباتعا بها يكون التأديب واستقرار التقويم والتهذيب لأنها ربما تركت الأفضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأنيب وهي له مستحسنة،(3/409)
لأنها عليه غير مطبوعة غير ملائمة، وَقَدْ قيل: مَا أكثر من يعرف الحق ولا بطبعه، وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة فإذا خالط شرف النفس الآداب صادف طبعًا ملائمًا فنما واستقر بإذن الله تعالى.
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوْسُ كِبَارًا ... تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجْسَامُ
اللهم احمنا عن الميل والركون إِلَى أعدائك وارزقنا بغضهم وسأعوانهم والمؤيدين لهم اللهم شتت شملهم ودمرهم أجمعين وانصر من نصر الإسلام والمسلمين وأحب فيك وأبغض فيك يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال العلماء: وللمروءة شروط فِي نفس المرء وشروط فِي حق غيره فأما شروطها فِي حق نفسه بعد التزام مَا أوجبه الشرع من أحكامه فيكون بثلاثة أمور وهي العفة والنزاهة والصيانة.
فأما العفة فنوعان أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المآثم.
شِعْرًا:
فَيَا نَفْسُ صَبْرًا إِنَّمَا عِفَّةُ الْفَتَى ... إِذَا عَفَّ عَنْ لَذَّاتِهِ وَهُوَ قَادِرُ
فأما العفة عن المحارم فنوعان، أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام كالزنا واللواط.
والثاني: كف اللسان عن الأعراض كالقذف والسعاية والنميمة والغيبة والكذب والاستهزاء ونحو ذلك. مما قَدْ كثر فِي زماننا بسبب التلفزيون والفيديو والتلفون المذياع فلهذا ينبغي الابتعاد عن الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح قال بعضهم:
لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيْدُ شَيْئًا ... سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيْلَ وَقَالَ
فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إِلا ... لأخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَالِ(3/410)
آخر: ... النَّاسِ دَاءٌ دَفِيْنٌ لا دَوِاءَ لَهُ ... الْعَقْلَ قَدْ حَارَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُنْذَهِلُ
إِنْ كُنْتَ مُنْبَسِطًا سُمِّيتَ مَسْخَرَةً ... أَوْ كُنْتَ مُنْقَبِطًا قَالُوْا بِهِ ثِقَلُ
وَإِنْ تُوَاصُلِهُمْ قَالُوا بِهِ طَمَعٌ ... وَإِنْ تُقَاطِعَهُمْ قَالُوْا بِهِ مَلَلُ
وَإِنْ تَهَوَّرَ يَلَقُوْهُ بِمَنْقَصَةٍ ... وَإِنْ تَزْهَدْ قَالُوْا زُهْدُهُ حِيَلُ
آخر: ... لِقَاءُ أَكْثَرُ مَنْ تَلْقَاهُ أَوْزَارُ ... فَلا تُبَالِ أَصَدُّوا عَنْكَ أَوْزَارُوْا
لَهُمْ لَدَيْكَ إِذَا جَاؤُكَ أَوْ طَارُ ... فَإِنْ قَضَوْهَا تَنَحُّوْا عَنْكَ أَوْ طَارُوا
فأما ضبط الفرج عن الحارم فلأن عدمه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة فاضحة وإثم واضح، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من وقي شر ذبذبة ولقلقة وقبقبة فقد وقي» . وفي رواية: «فقد وجبت له الجنة» . والمراد بالذبذب الفرج وبلقلقه لسانه، وبقبقبة بطنه.
والداعي إِلَى الوقوع فِي الحرام شيئان إرسال الطرف والثاني إتباع الشهوة وَقَدْ تقدم الكلام عَلَى النظر المحرم فِي (ص 209) :
شِعْرًا: ... لَيْسَ الظَّرِيْف بِكَامِلٍ فِي ظُرْفِهِ ... حَتَى يَكُونَ عَنْ الْحَرَامِ عَفِيفَا
فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمَ رَبِّهِ ... فَهُنَاكَ يُدْعَى فِي الأنَامِ ظَرِيْفَا
ومن ذلك ترغيب النفس فِي الحلال عوضًا عن الحرام وإقناعها بالمباح بدلاً من المحرم فإن الله مَا حرم شيئًا إلا وأغنى عنه بمباح ليكون ذلك الإغناء عونًا عَلَى الطاعة، وحاجزًا عن المخالفة، قال عمر رضي الله عنه: مَا أمر بشيء إلا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه.
مَا أَقْبَحَ الْعِرْضُ مَدْنُوسًا بِفَاحَشَةٍ ... يَخُطُّهَا اللَّوْحُ أَوْ يَجْرِي بِهَا الْقَلَمُ
وَالْحُسْنُ لا حُسْنَ فِي وَجْهٍ تَأَمَّلُهُ ... إِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ الأخْلاقُ وَالشِّيَمُ
وَلِلْشَّبِيْبَةِ بُنْيَانُ تُكَمِّلُهُ ... لَكَ الثَّلاثُوْنَ عَامًا ثُمَّ يَنْهَدِمُ(3/411)
ومن ذلك إشعار النفس تقوى الله فِي أوامره، واتقاؤه فِي زواجره وإلزامها مَا ألزم من طاعته، وتحذيرها مَا حذر من معصيته وإعلامها أنه لا يحفى عليه فِي الأرض ولا فِي السماء ولا بينهما كما قال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
وأنه يجازي المحسنين بإحسانه كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وأنه يجزي المسيء بما عمل كما قال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وبذلك نزلت الكتب وبلغت الرسل.
وَقَدْ ورد أن آخر مَا نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} قال فِي مِنْهاج اليقين شرح أدب الدنيا والدين: فإذا أشعر صاحب الشهوة مَا وصفت من الأمور انقادت أي النفس إِلَى الكف وأذعنت بالاتقاء فسلم دينه من دنس الريبة وظهرت مروءته.
وأما كف اللسان عن الوقوع فِي الأعراض، فالوقوع فيها ملاذ السفهاء، وانتقام أهل الغوغاء والسفلة. قلت: وإلى هذا أشار أبو الطيب فِي قوله: مع أنه لَمْ يعمل بقوله فقد اغتاب وقذف الأبرياء.
وَأَكْبِرَ نَفْسِي عَنْ جَزَاءٍ بِغِيبَةٍ ... وَكُلُّ اغْتِيَابٍ جُهْدُ مَنْ لا لَهُ جُهْدُ
وهو مستسهل الكلف إذا لَمْ يقهر نفسه عنه برادع كاف وزاجر ساد تلبط بمعارة وتخبط بمضاره فهلك وأهلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِي الحرمة بين سفك الدم، وهتك العرض، لما فيه من إيغار الصدور بالحقد وإبداء الشرور وإظهار البذاء.
قال بعض الحكماء: إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال.(3/412)
وأما العفة عن المأثم فنوعان: أحدهما الكف عن المجاهرة بالظلم والثاني: زجر النفس عن الأسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك، وطغيان متلف للمجاهر.
قال الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله تعالى يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا فإن الله يقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} » .
والباعث عَلَى المجاهرة بالظلم الجرأة والقسوة، والصاد عن ذلك رؤية آثار غضب الله تعالى فِي الظالمين، وأن يتصور عواقب ظلمهم وأما الاستسرار بالخيانة فدناءة ولآمة.
وأما النزاهة فنوعان أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية. والثاني: زجر النفس عن الإسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو وطغيان.
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا
وَبِرِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَبِرِّ الأبَاعِدِ
وَلا تَصْحَبَنْ إِلا تَقِيًّا مُهَذَّبًا
عَفِيفًا زَكِيًّا مُنْجِزًا لِلْمَوَاعِدِ
وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا مُؤْدَّبًا
فَتَى مِنْ بَنِي الأحْرَارِ زَيْنِ الْمَشَاهِدِ
وَكُفَّ الأذَى وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاتَقِي
فَدِيَّتُكَ فِي وُدِ الْخَلِيْلِ الْمُسَاعِدِ
وَغُضَّ عَنْ الْمَكْرُوْهُ طَرْفَكَ وَاجْتَنِبْ
أَذَى الْجَارِ وَاسْتَمْسِكْ بِحَبْلِ الْمَحَامِدِ(3/413)
ج
وَكُنْ وَاثِقًا بِاللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ
يَصُنْكَ مَدَى الأيَامِ مِنْ شَرِّ حَاسِدِ
وَبِاللهِ فَاسْتَعْصِمْ وَلا تَرْجُ غَيْرَهُ
وَلا تَكُ لِلنَّعْمَاءِ عَنْهُ بِجَاحِدِ
وَنَافِسْ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْعُلَى
بِهِمَّةِ مَحْمُودِ الْخَلائِقِ مَاجِدِ
وَلا تَبْنِ فِي الدَّنْيَا بِنَاءَ مُؤَمِّلٍ
خُلُودًا فَمَا حَيٌّ عَلَيَهَا بخَالِدِ
وَكُلُّ صَدِيقٍ لَيْسِ للهِ وُدُّهُ
فَنَادِ هَلْ بِهِ مِنْ مُزَايِدِ
اللهم استر مَا بدا منا من العيوب وأمنا يوم الشدائد والكروب، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
فِي بر الوالدين وتحريم عقوقهما
البر: الصلة والحسنة والخير، وفي المطالع فِي قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الصدق يهدي إِلَى البر» . البر اسم جامع للخير، وعق الولد أباه إذا آذاه وعصاه وخرج عليه: بر الوالدين فريضة لازمة وعقوقهما حرام، ولا ينكر فضل الوالدين إلا المتوغل فِي النذالة والآمة.
ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات عَلَى مَا قاموا به نحوهم من الطفولة إِلَى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالد مملوكًا فيشتريه فيعتقه كما فِي حديث أبي هريرة قال(3/414)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» . رواه مسلم.
فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه عَلَى العباد نعم، لا تحصى كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الايلاد والتربية الصالحة، والعناية التامة بالأولاد، وأكبر الخلق وأعظمهم نعمة عَلَى الإنسان بعد رسل الله والده اللذان جعلهما الله سببًا لوجوده واعتنيا به منذ كان حملاً إِلَى أن كبر.
فأمه حملته شهورًا تسعًا قي الغالب تعاني به فِي تلك الأشهر مَا تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل فإذا آن وقت الوضع وأجاءها المخاض، شاهدت الموت، وقاست من الآلام مَا الله به عليم فتارة تموت، وتارة تنجو ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع كان الأمر سهلاً ولكن يكثر النصب ويشتد بعده قال الله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ثم ترضعه حولين كاملين غالبًا فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، تضيق أحشاؤها وقت حمله بالطعام والشراب. وتضعف عند الوضع أعضاؤها.
ثم بعد ذلك صياح بالليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما، ويتعب قلبيهما، ويذرف دموعهما، ومرض يعتري الولد من وقت لآخر، تنخلع له قلوبهما انخلاعًا وتنهد به أبدانهما هدًّا.
وتعهد من الأم لجسمه بالغسل، ولثيابه بالتنظيف، ولإفرازاته بالإزالة، لا يومًا ولا يومين، ولا شهرًا ولا شهرين ولا سنةً ولا سنتين هي به ليلها ونهارها فِي متاعب ومشاق، تصغر بجانبها متاعب المؤبدين فِي الأعمال الشاقة.(3/415)
يضاف إِلَى ذلك امتصاصه دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لك يكن مِنْه لهدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها إلا هذا الامتصاص لكفى.
فإذا شب وبرزت أسنانه، وقويت معدته عَلَى قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له، انفتح لوالديه باب الفكر والكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شؤونه، وبرما احتملا ألم الغربة والسفر إِلَى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد.
وكثيرًا مَا يضحي الوالدان براحتهما فِي سبيل راحة الأبناء والبنات، والطفل يعرف أمه ويحبها قبل كل أحد فإذا غابت صاح حتى تأتيه وإذا أعرضت عنه دعاها وناحها بما يقدر عليه من كلام أو غيره وإذا أصابه شيء يؤلمه استغاث وناداها، يظن أن الخير كله عندها وأن الشر لا يخلص إليه مَا دامت تضمه عَلَى صدرها وترعاه بعينها وتذب دونه بيديها.
ولذلك هي مقدمة فِي الحضانة إذا فراقها زوجها ولم تتزوج حتى يميز ويختار من شاء مِنْهمَا كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: يا رسول الله أن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له جواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينتزعه مني فقال: «أنت أحق به مَا لَمْ تنكحي» . رواه أحمد وأبو داود.
ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به أن خرج تعلق به وإذا حضر قعد عَلَى حجره، مستندًا عَلَى صدره، وإذا غاب سأل عنه وانتظره، يرى أنه إذا رضي أعطاه مَا يريد وإذا غضب ضربه وأدبه، يخوف من يؤذيه بأبيه، وأي حب واحترام بعد هذا،(3/416)
ولكن يا للأسف سرعان مَا ينسى الجميل وينكر المعروف ويلتفت إِلَى زوجته وأولاده.
ولذلك لا يحتاج الآباء إِلَى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأولاد إِلَى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب والديهم نحوهم.
شِعْرًا:
قَضَى اللهُ أَنْ لا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ حَتْمًا
فَيَا وَيْحَ شَخْصٍ غَيْرَ خَالِقِهِ أَمَّا
وَأَوْصَاكُمُوا بِالْوَالِدَيْنِ فَبَالِغُوا
بِبِرِّهِمَا فَالأجْرَ فِي ذَاكَ وَالرَّحْمَا
فَكَمْ بَذَلا مِنْ رَأْفَةٍ وَلَطَافَةٍ
وَكَمْ مَنَحَا وَقَتْ احْتِيَاجِكَ مِنْ نُعْمَا
وَأُمُّكَ كَمْ بَاتَتْ بِثِقْلِكَ تَشْتَكِي
تُوَاصِلُ مِمَّا شَقَّهَا الْبُؤْسَ وَالْغَمَّا
وَفِي الْوَضْعِ كَمْ قَاسَتْ وَعِنْدَ وِلادِهَا
مُشَقًّا يُذِيْبُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَالْعِظْمَا
وَكَمْ سَهِرَتْ وِجْدًا عَلَيْكَ جُفُونِهَا
وَأَكْبَادُهَا لَهْفًا بِجَمْرِ الأسَا تَحْمَى
وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِيْنِهَا
حُنُوًّا وَإشْفَاقًا وَأَكْثَرَتِ الضَّمَّا
فَضَيَّعْتَهَا لَمََّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً
وَضِقْتَ بِهَا زَرْعًا وَذَوَّقْتُهَا سُمَّا
وَبِتَّ قَرِيْرَ الْعَيْنِ رَيَّانَ نَاعِمًا
مُكِبًّا عَلَى اللَّذَاتِ لا تَسْمَعُ اللَّوْمَا(3/417)
وَأُمُّكَ فِي جُوْعٍ شَدِيْدٍ وَغُرْبَةٍ
تَلِيْنُ لَهَا مِمَا بِهَا الصَّخْرَةُ الصَّمَا
أَهَذَا جَزَاهَا بَعْدَ طُوْلِ عِنَائِهَا
لأَنْتَ لَذُوْ جَهْلِ وَأَنْتَ إِذًا أَعْمَى
آخر: ... فَلا تُطِعْ زَوْجَةً فِي قَطْعِ وَالِدَةٍ
عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَخِيْ قَدْ أَفْنَتِ الْعُمُرَا
فَكَيْفَ تُنْكِرُ أُمًّا ثُقْلُكَ احْتَمَلَتْ
وَقَدْ تَمَرَّغْتَ فِي أَحْشَائِهَا شُهُرَا
وَعَالَجَتْ بِكَ أَوْجَاعَ النِّفَاسِ وَكَمْ
سُرَّتْ لَمَّا وَلَدَتْ مَوْلُدِهَا ذَكَرَا
وَأَرْضَعَتْكَ إِلَى حَوْلَيْنِ مُكْمِلَةً
فِي حَجْرِهَا تَسْتَقِيْ مِنْ ثَدْيِهَا الدُّرَرَا
وَمِنْكَ يُنْجِسُهَا مَا أَنْتَ رَاضِعُهُ
مِنْهَا وَلا تَشْتَكِي نَتْنًا وَلا قَذَرَا
وَقُلْ هُوَ اللهُ بِالآلافِ تَقْرَؤُهَا
خَوْفًا عَلَيْكَ وَتُرْخِي دُوْنَكَ السُّتُرَا
وَعَامَلَتْكَ بِإِحْسَانٍ وَتَرْبِيَةٍ
حَتَى اسْتَوَيْتَ وَحَتَى صِرْتَ كَيْفَ تَرَى
فَلا تُفَضِّلْ عَلَيْهَا زَوْجَةً أَبَدًا
وَلا تَدَعْ قَلْبُهَا بِالْقَهْرِ مُنْكَسِرَا
وَالْوَالِدُ الأصْلُ لا تُنْكِرْ لِتَرْبِيَةٍ
وَاحْفَظْهُ لاسِيَّمَا إِنْ أَدْرَكَ الْكِبَرَا(3/418)
فَمَا تُؤَدِّيْ لَهُ حَقًّا عَلَيْكَ وَلَوْ
على عُيُوْنِكَ حَجُ الْبَيْتِ وَاعْتَمَرَا
اللهم وفقنا لحبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إِلَى حبك وألهمنا ذكرك وشكرك وأعمر أوقاتنا بطاعتك وحل بيننا وبين معاصيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَدْ أمر الله جل شانه بالإحسان عَلَى الوالدين فِي آيات من القرآن الكريم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
وَقَدْ فضل سبحانه وتعالى مَا يجب من الإحسان إِلَى الوالدين بقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} الآيتين المعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إِلَى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك فِي آخر العمر كما كنت عندهما فِي أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه على أن الفضل للمتقدم.
ويتجلى ذلك بأن تتبع معها أمورًا خمسة أولاً تتأفف من شيء تراه وتشمه من أحدهما أو مِنْهمَا مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك فِي(3/419)
صغرك واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ثانيًا: أن لا تنغض ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول عَلَى سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما.
ثالثًا: أن تقول لهما قولاً كريمًا أي حسنًا طيبًا مقرونًا بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة كأن تقول: يا أبتاه أو يا والدي ويا أماه أو يا والدتي ولا تدعهما بأسمائهمَا ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يتل القرآن من لَمْ يعمل به، ولم يبر والديه من أحد النظر إليهما فِي حال العقوق أولئك برآء مني وأنا مِنْهُمْ بريء» . رواه الدارقطني.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة فِي قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: إن أغضباك فلا تنظر إليهما شزرًا، فإنه أول مَا يعرف به غضب المرء شدة نظره إِلَى من غضب عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قيل له: إِلَى مَا ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحد النظر إليهما. واعلم أن النظر إليهما بعين الحنو والعطف والشفقة والتفقد لما يكرهان فهذا لا بأس به كما أن غض الطرف عنهما كراهة عقوق قال الشاعر فِي ابنه:(3/420)
يَوَدُّ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ
وَلَوْ مُتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ مَقَاتِلُهْ
إِذَا مَا رَآنِيْ مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ
كَأْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِيْ يُقَابِلُهُ
رابعًا: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتها لك وجميل شفقتهما عليك.
خامسًا: أن تتواضع لهما وتذلل وتطيعهما فيما أمراك به مَا لَمْ يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إِلَى بذل مَا يطلبان منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما إذ هما قَدْ احتاجا إِلَى من كان أحوج الناس إليهما أيام كان فِي غاية العجز عن أي مصلحة من مصالحه بحيث لو غفل عنه والده قليلاً من الزمن لهلك.
وعَلَى الجملة فقد أكد جل وعلا التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاها أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما فِي سلك القضاء بهما معًا، وَقَدْ ورد فِي بر الوالدين أحاديث كثيرة، من ذلك أن رجلاً جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه فِي الجهاد معه فقال: «أحيٌّ والداك» ؟ قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» .
ومن ذلك مَا رواه مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ومن ذلك مَا روي عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إِلَى الله ورسوله قال: «الصلاة عَلَى وقتها» . قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» . قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد فِي سبيل الله» .(3/421)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة» . رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك عَلَى الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال: «فهل من والديك أحد حي» ؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى» ؟ قال: نعم. قال: «فارجع إِلَى والديك فأحسن صحبتهما» . متفق عليه.
وأخرج ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله مَا حق الوالدين عَلَى ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك» .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يمد له فِي عمره ويزاد فِي رزقه فليبر والديه وليصل رحمه» . رواه أحمد والبيهقي بسند رجاله رجال الصحيح، وأصله فِي الصحيحين باختصار.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك عَلَى الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» . رواه أبو داود.
قال الناظم:
وَيَحْسُنُ تَحْسِيْنٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ
وَلاسِيَّمَا لِلْوَالِدِ الْمُتَأَكْدِ(3/422)
وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ
سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لأمْرٍ مُؤَكَّدِ
كَتِطْلاب عِلْمٍ لا يَضُرُّهُمَا بِهِ
وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ
وَأَحْسِنْ إِلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» . وعن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى إِلَى موسى صلوات الله وسلامه عليه يا موسى وقر والديك، فإن من وقر والديه مددت فِي عمره، ووهبت له ولدًا يوقره ومن عق والديه قصرت فِي عمره ووهبت له ولدًا يعقه.
وذكر فِي الآداب الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما رد الله عقوبة سليمان عن الهدد لبره كان بأمه. وقال عكرمة: إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد إنه كان بارًا بوالديه ينقل إليهما الطعام فيرزقهما. انتهى.
وقصة الهدهد على مَا قيل عنها هي أنه لما توعده سليمان بقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وذلك أنه لما فقده لأجل الماء، فدعا سليمان عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه.(3/423)
ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليَّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك عليّ إلا رحمتيني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إن نبي الله حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى. قال: {لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .
فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا فلما دنا مِنْه أخذ رأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان عليه السلام وعفا عنه. انتهى.
والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم.
(فَصْلٌ)
وبر الأم مقدم على بر الأب لما سيأتي من الأحاديث، وذلك أنها تنفرد عن الأب بأشياء مِنْهَا مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع وكثرة الشفقة والخدمة والحنو.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أبوك» .
وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني اشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. قال: «هل بقي من والديك أحد» ؟ قال: أمي. قال: «قابل الله فِي برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . رواه
أبو يعلى والطبراني فِي الصغير والأوسط وإسناد هما جيد.(3/424)
وعن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أريد الجهاد فِي سبيل الله قال: «أمك حية» ؟ قلت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألزم رجلها فثم الجنة» . رواه الطبراني.
وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وَقَدْ جئت أستشيرك، فقال: «هل لك من أم» ؟ قال: نعم. قال: «فألزمها فإن الجنة عند رجلها» . رواه ابن ماجة والنسائي واللفظ له والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
ورواه الطبراني بإسناد جيد ولفظه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره فِي الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألك والدان» ؟ قلت: نعم. قال «ألزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما» .
وعن أبي الدرداء أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع هذا الباب أو احفظه» . رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلقها» . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن حبان فِي صحيحه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
شِعْرًا: ... زُرْ وَالَدَيْكَ وَقِفْ لي قَبْرَيْهِمَا ... فَكَأَنَّنِيْ بِكَ قَدْ نُقِلْتَ إِلَيْهِمَا
مَا كَانَ ذَنْبَهُمَا إِلَيْكَ فَطَالَمَّا ... مَنَحَاكَ مَحْضَ الْوِدِّ مِنْ نَفْسَيْهِمَا
كَانَا إِذَا مَا أَبْصَرَا بِكَ عِلَّةً ... جَزَعًا لِمَا تَشْكُوْهُ شَقَّ عَلَيْهِمَا
كَانَا إِذَا سَمِعَا أَنِيْنَكَ أَسْبَلاَ ... دَمْعَيْهِمَا أَسَفًا على خَدَّيْهِمَا(3/425)
ج
وَتَمَنَّيَا لَوْ صَادَفَا لَكَ رَاحَةً ... بِجَمِيْعِ مَا يَحْوِيِهِ مُلْكُ يَدَيْهِمَا
أَنَسِيْتَ حَقَّهُمَا عَشِيَّةَ أُسْكِنَا ... دَارَ الْبَلا وِسَكَنْتَ فِي دَارَيْهِمَا
فَلَتَلْحَقَّهُمَا غَدًا أَوْ بَعْدَهُ ... حَتْمًا كَمَا لَحِقَا هُمَا أَبَوَيْهِمَا
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله فِي رضا الوالد وسخط الله فِي سخط الوالد» . رواه الترمذي ورجح وقفه وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقالا: صحيح على شرط الشيخين.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك» . رواه البخاري ومسلم.
قال بعضهم:
لَئِنْ كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُقَدَمًا
فَمَا يَسْتَوِيْ فِي بِرِّهِ الأبُ وَالأمُ
وَهَلْ يَسْتَوِي الْوَضْعَانِ وَضْعُ مَشَقَةٍ
وَوَضْعُ التِّذَاذٍ ذَاكَ بُرْءٌ وَذَا سُقْمُ
إِذَا التَّفَتَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ بِطَرْفِهَا
فَكُنْ حَذِرًا مِنْ أَنْ يُصِبْ قَلْبَكَ السَّهْمُ
وَفِي آيَةِ التَّأْفِيفِ لِلْحُرِّ مُقْنِعٌ
وَلَكِنَّهُ مَا كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فَهْمُ
وروى وهب بن منبه فِي حديث طويل أن فتى كان برًا بوالديه وكان يحتطب على ظهره فإذا باعه تصدق بثلثه وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه(3/426)
ثلثه، فقالت له أمه: إني ورثت من أبيك بقرة فتركتها فِي البقر على اسم الله، فإذا أتيت البقر فادعها باسم إله إبراهيم.
فذهب فصاح بها، فأقبلت فانطقها الله، فقالت: اركبني يا فتى. فقال الفتى: إن أمي لَمْ تأمرني بهذا فقالت: أيها البر بأمه لو ركبتني لَمْ تقدر عليّ فانطلق فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله معك لانقلع لبرك بأمك.
فلما جاء بها قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني فبعث الله ملكًا فقال: بكم هذه؟ قال بثلاثة دنانير على رضىً من أمي، قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى وعاد إِلَى أمه فأخبرها فقال: بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولا تستأمرها فأبى وعاد إِلَى أمه فأخبرها فقالت: يا بني ذاك ملك فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل فِي بني إسرائيل.
وفي رواية فقال له الملك: اذهب إِلَى أمك وقل لها امسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل فِي بني إسرائيل فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصفت لهم تلك البقرة مكافأة على بره بوالدته فضلاً من الله ورحمة.
وعن أسير بن جابر رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه إذ أتى أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى عليه(3/427)
فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت مِنْه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ مِنْه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» . فاستغفر لي، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال ألا أكتب لك إِلَى عاملها؟
قال: أكون فِي غبراء الناس أحب إلي. فانظر المنزلة التي بلغها هذا البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يقول لعمر: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل إذا أتى» . ثم حرص عمر رضي الله عنه على السؤال عن أويس ليطلب مِنْه الاستغفار له.
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قَدْ حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت والله يثيبك على القليل كثيرًا.
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إِلَى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجل مِنْهم:(3/428)
اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا مَا نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج معه قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها. فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا مَا نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج مِنْها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت مِنْه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلّي أجري فقلت: كل مَا ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك مِنْه شيئًا.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا مَا نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» . والشاهد من الحديث لما نحن فيه قصة الأول الذي هو البار بوالديه.(3/429)
قال بعضهم:
لأمِّكَ حَقٌّ لَوْ عَلِمْتَ كَبِيْرُ
كَثِيْرُكَ يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيْرُ
فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثُقْلِكَ تَشْتَكِي
لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّهُ وَزَفِيرُ
وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْكَ مَشَقَّةٌ
فَكَمْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ
وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِينِهَا
وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَدَيْكَ نَمِيرُ
وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْكَ قُوْتِهَا
حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ
فَضَيَّعْتَهَا لَمَّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً
وَطَالَ عَلَيْكَ الأَمْرُ وَهُوَ قَصِيرُ
فَآهًا لِذِيْ عَقْلٍ وَيَتَّبِعُ الْهَوَى
وَوَاهًا لأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُوْنَكَ فَارْغَبْ فِي عَمِيْمِ دَعَائِهَا
فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُوْ إِلَيْهِ فِقِيرُ
اللهم علمنا مَا ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا وتمعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.(3/430)
(فَصْلٌ)
وليس بر الوالدين مقصورًا على الحياة فقط فقد ورد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما.
قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» . رواه أبو داود وابن حبان فِي صحيحه، وزاد فِي آخره، قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه. قال: «فاعمل به» .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وهو يرضون باليسير فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» . رواه مسلم.
وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لَمْ أتيتك؟ قال: قلت لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصل أباه فِي قبره فليصل إخوان أبيه بعده» . وإنه كان بين عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك. رواه ابن حبان فِي صحيحه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت(3/431)
الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان كذلكم البر كذلكم البر» . وكان أبر الناس بأمه. رواه فِي شرح السنة والبيهقي فِي الشعب شعب الإيمان.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح مطيعًا لله فِي والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وإن كان واحدًا فواحدًا ومن أمسى عاصيًا لله فِي والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار وإن كان واحدًا فواحدٌ» . قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: «وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه» .
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من ولد بار ينظر إِلَى والديه نظر رحمة إلا كتب له بكل نظرة حجة مبرورة» . قالوا: وإن نظر كل يوم مائة مرة؟ قال: «نعم الله أكبر وأطيب» . رواهما البيهقي فِي شعب الإيمان (فوائد) .
ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها فقيل له فِي ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إِلَى الجنة فغلق أحدهما وكان رجل من المتعبدين يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يومًا على أصحابه فسألوه فقال: كنت أتمرغ فِي رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات.
وقيل لعلي بن الحسين: إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك فِي صحفة فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إِلَى مَا تسبق إليه عيناها فأكون قَدْ عققتها. ويا للأسف نحن فِي جيل أكثر أهله لا يرى للوالدين حقًّا بل يستهين بهما وينتقصهما وربما شتمها أو مَا هو أعظم من ذلك من فلذلك(3/432)
إذا رأيت الوالدين فِي هذا الوقت المظلم ورأيت خدمتها لولدهما رحمتها وربما ذرفت عيناك وتألم قلبك.
وتجد هذا المخدوم ربما أنه لا يصلي أصلاً أو لا يشهد الجماعة أو من أهل الفساد والأسكار وشرب الدخان أو ممن يشتبه باليهود والنصارى والمجوس بحلق لحيته أو يجعل خنافس أو تواليت أو ممن يعكف عند المحرمات والملاهي وسائر المنكرات طوال ليله عبد فم وفرج.
شِعْرًا:
هَذَا الزَّمَانُ الذِّيْ كُنَّا نُحَاذِرُهُ
فِي قَوْلِ كَعْبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُوْدِ
دَهْرٌ بِهِ الْحَقُّ مَرْدُوْدٌ بِأَجْمَعِِهِ
وِالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ فِيهِ غَيْرُ مَرْدُوْدِ
إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ غَيْرٌ
لَمْ يُبْكِ مَيْتٌ وَلِمْ يَفْرَحْ بِمَوْلُوْدِ
آخر: ... إِلَى اللهِ أَشْكُوْ وِحْدَتِي فِي مَصَائِبِي
وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ لَوْ كُنْتَ حَازِمَا
عَلَيْكَ بِالاسْتِرْجَاعِ إِنَّكَ فَاقِدٌ
حَيَاةَ الْعُلَى وَابْغِ السُّلُوَّ مُنَادِمَا
قال أحمد رضي الله عنه: بر الوالدين كفارة الكبائر وكذا ذكر ابن عبد البر عن مكحول، ويشهد لهذا مَا رواه الترمذي واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا فهل لي(3/433)
من توبة؟ فقال: «هل لك من أم» . وفي رواية ابن حبان والحاكم «هل لك والدان» ؟ قال: لا. قال: «فهل لك من خالة» . قال: نعم، قال: «فبرها» . ومن الفوائد أن أبا هريرة رأى رجلاً يمشي خلف رجل فقال: من هذا؟ قال: أبي قال: لا تدعه باسمه، ولا تجلس قبله، ولا تمشي أمامه.
وذكر فِي الحديث فِي تفسير قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} عنه صلى الله عليه وسلم قال: «المصاحبة بالمعروف أن يطعمهما إذا جاعا ويكسوهما إذا عريا» .
ومن حقوقهما خدمتهما إذا احتاجا أو أحدهما على خدمة وإجابة دعوتهما، وامتثال أمرهما مَا لَمْ يكن معصية لله فلا طاعة لمخلوق فِي معصية الخالق. ومن حقوقهما التكلم معهما باللين واللطف، ومن ذلك أن لا يدعوهما باسمهما، وأن يمشي خلفهما، وأن يدعو الله لهما بالمغفرة والرحمة. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(موعظة)
عباد الله أحسنوا إِلَى الوالدين مَا أمكن لكم الإحسان، وإن حسبتم أنكم كافأتموهم فِي ذلك الإحسان، وكنوا معهما فِي غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما وإلا هويتم فِي هوة شقاء مَا لها من قرار وكونوا معهما فِي إجلال واحترام، وتقدير تام وإن حصل منهما لك ظلم.
لأنهما اللذان لولا الله ثم لولاهما لَمْ تخرج على هذا الوجود ولأنهما اللذان سخرهما الله لك فصبرًا على مَا رأيا من الأهوال، وسخرهما لتربيتك والعناية بك فِي هذه الحياة. تذكر زمن حمل أمك(3/434)
بك وأنت فِي بطنها علة من أكبر العلل، وتذكر وقت أن كانت تلدك وهي مما بها من الأحياء ولا من الأموات وتذكر مَا خرج عقب ولادتك من النزيف الدم الذي هو نفسها.
وتذكر أنك تمص دمها مدة الرضاع، وسرورها بك تقصر عن شرحه العبارات. وتذكر تنظيفها لبدنك وملابسك من الأقذار، وتذكر فزعها عندما يعتريك خوف أو مرض أو نحو ذلك، وتذكر دفاعها عنك إذا اعتدى عليك معتدي.
وتذكر حرصها الشديد على أن تعيش لها ولو حرمت لذة الطعام والشراب وتذكر سهرها عليك عندما يؤلمك شيء من جسدك، وتذكر كد والدك عليك فِي تحصيل مَا به تحيا بإذن الله، لا يهدؤ عن ذلك والدك مدى الليالي والأيام، وكلما خشِيَ أن تجوع تقحم الشدائد وهام على وجهه في الدنيا لا يرده إلا يرده إلا أن يراك فِي يسارٍ.
وتذكر عنايته بك فِي تعليمك وتوجيهك إِلَى مَا فيه صلاح دينك ودنياك وتذكر حياطته ونصحه لك ومقاسات الشدائد لراحتك، وتذكر فرحه واستبشاره بمحبتك ونجاحك، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك فِي مظنة أوقات الإجابة أن يصلحك الله ويوفقك.
وتذكر قلقهما والأدلاج فِي البحث عنك إذا تأخرت عن وقت المجيء، وتأمل وتذكر بشاشتها فيمن يعز عليك لسرورهما بما يسرك، من أجل ذلك أكد الله وشدد عليك بالوصية بهما.
وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنهما جنتك ونارك، وقدم برهما(3/435)
على الجهاد، ودعا أن يرغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، وأخبر بأكبر الكبائر فذكر عقوقهما بعد الإشراك بالله.
شِعْرًا:
فَكَمْ وَلَدٍ لِلْوَالِدَيْنِ مُضَيَّعٌ
يُجَازِيْهِمَا بُخْلاً بِمَا نَحْلاهُ
طَوَى عَنْهُمَا الْقُوتَ الزَّهِيدَ نَفَاسَةً
وَجَرَّاهُ سَارَا الْحُزْنَ وَارْتَحَلاهُ
وَلامَهُمَا عَنْ فَرْطِ حُبِّهِمَا لَهُ
وَفِي بُغْضِهِ إِيَاهُمَا عَذْلاهُ
أَسَاءَ فَلَمْ يَعْدِلْهُمَا بِشِرَاكِهِ
وَكَانَا بِأَنْوَارِ الدُّجَى عَدَلاهُ
يُعِيْرُهُمَا طَرَفًا مِنْ الْغَيْظِ شَافِنًا
كَأَنَّهُمَا فِي مَا مَضَى تَبِلاهُ
يَنَامُ إِذَا مَا ادْنَفَا وَإِذَا سَرَى
لَهُ الشَّكُوْبَاتَ الْغُمْضَ مَا اكْتَحَلاهُ
إِن ادَّعَيَا فِي وُدِّهِ الْجُهْدَ صُدِّقَا
وَمَا اتُّهِمَا فِيْهِ فَيَنْتَحِلاهُ
يَغُشُّهُمَا فِي الأَمْرِ هَانَ وَطَالَمَا
أَفَاءَا عَلَيْهِ النُّصْحَ وَانْتَحَلاهُ
يَسُرُّهُمَا أَنْ يَهْجُرَ الْقَبْرَ دَهْرَهُ
وَأَنَّهُمَا مِنْ قَبْلِهِ نَزَلاهُ(3/436)
وَلَوْ بِمُشَارِ الْعَيْنِ يُوْحِيْ إِلَيْهِمَا
لَوْ شَكْ اعْتِزَالِ الْعَيْشِ لاعْتَزَلاهُ
يَوَدَّانِ إِكْرَامًا لَوْ انْتَعَلَ السُّهَا
وَإِنْ حَذِيَا السَّلاءَ وَانْتَعَلاهُ
يَذُمُّ لِفَرْطِ الْغَيِّ مَا فَعَلا بِهِ
وَأَحْسِنْ وَأَجْمِلْ بِالذِّي فَعَلاهُ
يَعُدَّانِهِ كَالصَّارِمِ الْعَضْبِ فِي الْعِدَا
بِظَنِّهِمَا وَالذَّابِلَ اعْتَقَلاهُ
وَيُؤْثِرُ فِي السِّرِّ الْكَنِينِ سَوَاءَهُ
فَيَنْقُلُهُ عَنْهُ وَمَا نَقَلاهُ
اللهم اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
في تحريم العقوق
اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وجنبنا وإياك متا يسخطه ولا يرضاه، أن العقوق من كبائر الذنوب وحده بعضهم بأنه صدور مَا يتأذى به الوالد من قول أو فعل.
وقال بعضهم: ضابط العقوق هو أن يحصل للوالدين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفًا فسبهما وعصيانهما والتلكؤ فِي قضاء شؤونهما،(3/437)
ومد اليد بالسوء إليهما، ولعنهما وغيبتهما، والكذب عليهما.
كل ذلك عقوق ونكران للجميل، وكذلك نهرهما وقهرهما وتوبيخهما والتأفف منهما والدعاء عليهما، كقوله: أراحنا الله مِنْه، أو أخذه الله أو عجل الله بزوالكم والتكبر عليهما.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر الناس، ثلاثة متكبر على والديه يحقرهما، ورجل سعى بين الناس بالكذب حتى يتباغضوا، ورجل سعى بين رجل وامرأته بالكذب حتى يغيره عليها بغير حق حتى فرق بينهما ثم يخلفه عليها من بعد» . رواه أبو نعيم.
وأخرج البخاري فِي الأدب المفرد قال: حدثنا زياد بن مخراق قال: حدثني طيسلة بن مياس قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر فذكر ذلك لابن عمر قال: مَا هي؟ قلت: كذا وكذا.
قال: ليس هذه الكبائر هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم وإلحاد فِي المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق، قال لي ابن عمر: أتفر من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: أي والله. قال: أحي والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة مَا اجتنبت الكبائر. وأخرج فيه أيضًا قال: حدثنا موسى حدثنا حماد بن سلمة عن زياد بن مخراق عن طيسلة: أنه سمع ابن عمر يقول: بكاء الوالدين من العقوق والكبائر.(3/438)
وبعض الناس لا يكتفي بالتقصير فِي الواجب فِي حق أبويه بل يسمع والديه مَا يسوؤهما، وتضيق به صدورهما، وينكد عليهما معيشتهما، فتجد الوالد يكره معه الحياة، ويتمنى لأجله أنه لَمْ يكن له ولد وربما تمنى أنه كان عقيمَا.
فكلام الابن العاق تئن له الفضيلة، ويبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتدين، لأن فعله منكر عظيم، وَقَدْ لا يسب العاق أباه مباشرة، ولكن يسب أبا هذا وأم هذا، فيسبون أمه وأباه، ويصبون على والديه من اللعنات أضعاف مَا صدر مِنْه، والبادي هو الظالم وما أكثر السب والشتم واللعن فِي وقتنا هذا، وما أسهله عندهم.
وما أكثر الاحتقار للآباء والأمهات فِي البيوت والأسواق وفي كل محل، ونسأل الله العافية.
ومما جاء فِي العقوق وجرمه وقبحه وإثمه مَا رواه البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال» .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ؟ ثلاثًا قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين» . وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور» . فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.(3/439)
وللبخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس» . وللبخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين» . متفق عليه.
شِعْرًا:
إلى اللهِ أُهْدِي مِدْحَتِيْ وَثَنَائِيَا
وَقَوْلاً رَصِينَا لا يَنَيْ الدَّهْرَ بَاقِيَا
إلى اِلمَلِكِ الأَعَلَى الذي لَيْسَ فَوْقَهُ
إِلهٌ ولا رَبٌ يَكُوْنُ مُدَانِيا
ألا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِيَّاكَ والرَّدَى
فَإِنَّكَ لاَ تَخْفَى مِنْ اللهِ خَافِيا
وَإِيَّاكَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ
فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا
إلى أن قال:
وَأَنْتَ الذِي مِنْ فََضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ
بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولاً مُنَادِيَا
فَقَلْتَ لَهُ فَاذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوا
إلى اللهِ فَرْعَوْنُ الَّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ
بِلاِ وَتَدٍ حَتَّى اطَمَأنَّتْ كَمَا هِيَا(3/440)
وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ رَفَعْتَ هَذه
بِلاَ عَمَدٍ أرْفُقْ إِذَا تَكُ بَانِيَا
وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا
مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلَ هَادِيَا
وَقُولاَ لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشَّمْسَ غَدْوَةً
فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنْ الأَرْضَ ضَاحِيَا
وَقُولاَ لَهُ مَنْ يَنْبِتُ الحَبَّ فِي الثَّرَى
فَيُصْبِحَ مِنْه البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا
وَيُخْرِجُ مِنْه حَبَّهُ فِي رُؤُسِه
فَفِي ذَاكْ آيَاتُ لِمنْ كَانَ وَاعِيا
وَأَنْتَ بِفَضَلِ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا
وَقَدْ بَاتَ فِي بَطْنِ لِحُوتِ لَيَالِيَا
اللهم إنا نسألك الثبات فِي الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إِلَى أهل اليمن وبعث به مع عمرو بن حزم «وأن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار فِي سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة وتعلم السحر، وأكل الربا،(3/441)
وأكل مال اليتيم» . الحديث رواه ابن حبان فِي صحيحه.
وأخرج النسائي والبزار واللفظ له بإسناد جيدين والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء» .
وأخرج أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق، والديوث الذي يقر الخبث فِي أهله» .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله عز وجل مِنْهُمْ صرفًا ولا عدلا، عاق ومنان ومكذب بقدر» . رواه ابن أبي عاصم فِي كتب السنة بإسناد حسن. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» . رواه الطبراني فِي الكبير.
وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان، وأديت الزكاة، وحججت البيت، فماذا لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل ذلك كان مع(3/442)
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه» . رواه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان فِي صحيحهما.
وعن علي عليه رضوان الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله ثم تولى غير مولاه، ولعن الله العاق لوالديه، ولعن الله من نقص منار الأرض» . رواه الحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله سبعة من فوق سبع سمواته وردد اللعنة على واحد مِنْهُمْ ثلاثًا ولعن كل واحد مِنْهُمْ لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمَل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله ملعون من عق والديه، ملعون من أتى شيئًا من البهائم، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غير حدود الأرض ملعون من ادعى إِلَى غير مواليه» . رواه الطبراني فِي الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا محرز ويقال محرر بالإهمال ابن هارون أخي محرر، وقال: صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة الساخط عليه أبواه غير ظالمين له» . رواه أبو الحسن ابن معروف فِي كتاب فضائل بني هاشم.
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه(3/443)
وسلم: «كل الذنوب يؤخر الله مِنْهَا مَا شاء إِلَى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه فِي الحياة قبل الممات» . رواه البخاري فِي الأدب المفرد والطبراني فِي الكبير والحاكم فِي المستدرك والأصبهاني فِي الترغيب.
وذكر أن شابًا كان مكبًا على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين كثيرًا مَا يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته فإن لله سطوات ونقمات مَا هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد فِي العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام ألح على ابنه بالنصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده فخرج حتى انتهى إِلَى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وانشأ يقول:
يَا مَنْ إِلَيْهِ أَتَى الحُجَّاجُ قَدْ قَطَعُوا
عَرْضَ المَهَامِهِ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعُدِ
إنِّي أَتَيْتُكَ يَا مَنْ لا يُخَيِّبُ مَنْ
يَدْعُوهُ مُبْتَهِلاً بالوَاحِدِ الصَّمدِ
هَذَا مُنَازِلُ لاَ يَرْتَدُّ مِنْ عَقَقِي
فَخُذْ بِحَقِي يَا رَحْمَنُ مِنْ وَلَدِي
وَشُلَّ مِنْه بِحَوْلٍ مِنْكَ جَانِبُهُ
يَا مَنْ تَقَدَّسَ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَلِدِ
وقيل: إنه استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن. نعوذ بالله(3/444)
من العقوق، ومن قساوة القلوب، ومن جميع المعاصي والذنوب وكان يقال: كدر العيش فِي ثلاث الولد العاق والجار السوء والمرأة السيئة الخلق لأنك لا تنفك فِي عناء وشغب وتعب فإن سكن العاق برهة من الزمن مَا سكن الجار السوء وأهله وأولاده وإن سكنا لَمْ تسكن العلة الداخلية المرأة السوء سيئة الخلق فأنت فِي هذه الحال غرض لثلاثة سهام موجهة إليك فِي أربع وعشرين ساعة نسال الله العافية مِنْها.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ولا تتركن صلاة متكوبة متعمدًا فإن من ترك صلاة متكوبة متعمدًا فقد برئت مِنْه ذمة الله، ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن المعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وإذا أصاب الناس موت، وأنت فيهم فاثبت.
وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا وأخفهم فِي الله» . رواه أحمد والطبراني فِي الكبير وإسناد أحمد صحيح إلا أن فيه انقطاعًا لأنه من رواية عبد الرحمن ابن جبير عن معاذ وهو لَمْ يسمع مِنْه.
وعن عمرو بن ميمون قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل عنه، فقالوا: نخبرك بعمله، لا يحسد الناس على مَا آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه، قال: أي رب ومن يعق والديه؟ قال: يتسبب لهما حتى يسبا. رواه أحمد فِي الزهد.
شِعْرًا:
صَافِي الكَرْيَمِ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتَهُ ... مَنْ كان ذا دَاينٍ وكان عَفِيفَا(3/445)
وَاحْذَرْ مُؤاخَاةَ اللَّئْيمِ فإنَّهُ ... يُبْدي الَقبِيحَ وَيُنِكّرُ المَعْرُوفَا
آخر: ... تَمسَّكْ بَوَصْلِ الْمُمْسِكِ الدِّينِ واجْتَنِبْ ... وصَالَ سِوَاهُ مِنْ قَرِيبٍ وشاسِعِ
فَذُو الدِّينِ أَدْنَى النَاسِ مِنْكَ قَرابةً ... فَصِلْهُ فَمَا وَصْلُ البَعِيدِ بِضَائعِ
آخر: ... أَخُو الفِسْقِ لا يَغْرُرْكَ مِنْه تَوَدُدٌ ... فَكُلُ حِبَالُ الفاسِقِينَ مَهِينُ
وَصَاحِبْ إِذَا مَا كُنْتَ يَوْمًا مُصَاحبًا ... أَخَا الدِينِ مِن بالغِيْبِ مِنْكَ أَمِينُ
آخر: ... وَلَيْسَ خَلِيلِي بالملُولِ ولا الَّذِي ... إِذَا غِبْتُ عَنْهُ باعَنِي بِخَلِيلِ
ولكنْ خَلِيلِي مَنْ يِدُومُ وِصَالُهُ ... وَيَحْفَظُ سِرِّي عندْ كُلِّ خَلِيلِ
آخر: ... يَمْضِي أَخُوكَ فلا تَلْقَى لَهُ عِوَضٌ ... والمالُ بَعْدَ ذَهَابِ المالِ يُكْتَسَبُ
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وفيما ذكرنا من الأدلة على تحريم العقوق كفاية ولو لَمْ يكن للعاق من العقوق إلا مَا يرى من سوء حاله لكفى فإنك تراه غالبًا فِي أبأس الحالات وآلامها وأشدها وتراهم بعيدين عن عطف القلوب عند من علموا حالهم(3/446)
لا يحنو عليهم صديق ولا شفيق ولا قريب، ولا يأخذ بيدهم كريم فِي كربة، ولا يرغبون فِي مصاهرته خشية أن يجذبوا أولادهم فيكونوا مثلهم عاقين.
بخلاف البارين فإنك تراهم ونراهم محببين إِلَى القلوب يتمنى كل من يعرفهم ويفهم برهم وصلتهم أن يتقدم إليهم بما يحبون وتجدهم إذا وقعوا فِي شدة يترحم الناس عليهم، ويدعون لهم بالخروج مِنْهَا على أيسر الأحوال وأقربها، هذا حالهم فِي الدنيا التي ليست هي دار الجزاء فكيف فِي الآخرة دار الجزاء؟
ومن أقبح مظاهر العقوق أن يتبرأ الولد من والديه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما كأن يكونا فلاحين أو نجارين أو صناعيين وهو يعيش فِي ترف ويتسنم بعض الوظائف الكبار فيخجل من وجودهما فِي بيته عند زملائه برثاثتها وزيهما القديم.
وربما سئل بعضهم عن أبيه من هذا الذي يباشر فقال: هذا خادم عندنا مستأجر لشئون البيت لأنه يتوهم أن هذه الهيئة واللباس تتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير وهذا بلا شك برهان على سخافة عقله وقلة دينه والنفس العظيمة الشريفة تفتخر وتعتز بمنيتها وأصلها أبيها وأمها مهما كانت حياتهما ونشأتهما وبيئتهما وهيئتهما.
ولا يبعد أن يوجد من النساء اللاتي يقال لهن متعلمات إذا سئلت عن أمها من هذه أن تقول هذه فراشة عندنا أو طباخة أو خدامة نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وذكر بعضهم أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة يتمنى أن يرزق ولدًا،(3/447)
وينذر عليه حتى ولد له فسر به غاية السرور وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إِلَى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد ولم يؤخر ممكنا من الإحسان عنه، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره.
فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة فقال الشيخ وهو يضرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان.
وأراد بالاستغفار أن الله تعالى حذره فلم يحذر من ابنه وبقوله: صدق الله قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فجمع فِي هذه الكلمات كل مَا يحتاج إليه فِي هذه الحال.
قال بعضهم ممن تضرر بأقربائه ومعارفه:
جَزَى اللهُ عَنَّا خَيْرَ مِن لَيْسَ بَيْنَنَا ... ولا بَيْنَهُ وَدٌ بِهِ نَتَعرَّفُ
فما سَامَنَا ضَيْمًا ولا شَفَّنًا أذَى ... مِن الناس إلاَّ مَن نَوَدُّ وَنأْلَفُ
آخر: ... أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ ... أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ
وَمَا مَدْحِي لَهَا حُبًّا وَلَكِنْ ... عَرَفْتُ بِهَا عَدْوِّي مِن صَدِيقِي
أَرَانِي وقَوْمِي فَرَّقَتْنَا مَذَاهِبُ ... وإنْ جَمَعَتْنَا فِي الأَصُوُّل المَنَاسبُ
فأقصَاهُمُ أَقصَاهُم عَنْ مَسَاءَتِي ... وَأَقْرَبُهُمْ مِمَّا كَرِهْتَ الأَقَارِبُ
نَسِيبُكَ مَن نَاسَبْتَ بالود قَلْبَهُ ... وجَارُكَ مَن صَافَيْتَهُ لاَ المُصَاقِبُ
وأعَظَمُ أَعْدَاء الرِّجَالِ ثِقَاتُهَا ... وأَهْونُ مَن عَادَيْتَهُ مِنْ تُحَاربُ
وقال آخر:
وما زِلْتُ مُذْ نَمَّ العِذَارُ بِوَجْنَتي ... أُفَتِّشُ عن هَذَا الوَرَى وأُكَشِّفُ
فَمَا سَاءَنِي إِلاَّ الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ ... جَزَا الله خَيرَا كُلَّ مَن لَيْسَ نَعْرِفُ
وقال بعض الآباء الذين ذاقوا عقوق الأولاد لابن له:(3/448)
.. غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعِلْيُكَ يَافِعًا ... تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتُنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ نَابَتْكَ بالسُّقْم لَمْ أَبِتْ ... لِذِكْرِكَ إِلاَّ سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أنَا المَطْرُوقُ دُونْكَ بِالَّذِي ... طُرِقْتَ بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تُهْمِلُ
تَخافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا ... لَتَعْلَمُ أَنَّ المَوْتَ حَتْمٌ مُؤًَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالغَايَةَ الَّتِي ... إليَها مَدَى مَا كُنتُ فِيكَ أُؤُمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي مِنْكَ جَبْهًا وَغِلْظَةً ... كَأَنَكَ أَنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ
وَسَمْيَّتَنِي بِاسْمِ المُفَنَّدِ رَأَيُه ... وَفِي رَأْيِكَ التَّفْنِيدُ لَوْ كُنْتُ تَعْقِلُ
تَراهُ مُعدًّا لِلْخَلافِ كَأَنَّه ... بردٍّ على أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ
فَلَيْتَكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المُجَاوِرُ يَفْعَلُ
فَأَوَلَيْتَنِي حَقَّ الجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ ... عَليَّ بِمَالِي دُونَ مَالَكَ تَبْخَلُ
وقال آخر ممن ذاق وتجرع ألم العقوق:
يَوَدُ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأيهِ ... وَلو مُتُّ بَانتْ لِلعْدُوِّ مَقَاتِلُه
إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ ... كَانَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِي يُقَابِلُه
(مواعظ وفوائد)
رب مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وَقَدْ حق له فِي كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار. من الغرور ذكر الحسنات ونسيان السيئات.
وقال بلال بن سعد: يا أولي الألباب ليتفكر متفكر فيما يبقى له وينفعه. أما مَا وكلكم الله عز وجل به فتضعونه. وأما مَا تكفل لكم به فتطلبونه مَا هكذا نعت الله عباده المؤمنين.
أذووا عقول فِي طلب الدنيا ويله عما خلقتم له فكما ترجون الله بما تؤذون من طاعته فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصيه.(3/449)
وقال: عباد الله اعلموا أنكم تعملون فِي أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد.
ومن لَمْ يعمل على اليقين فلا يتعن.
عباد الله هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئًا من أعمالكم تقبل منكم أو شيئًا من أعمالكم غفر لكم.
قال أبو عمرو الأوزعي: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومَا وساعةً فساعة.
ولا تمر به ساعة لَمْ يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسه عليها حسرات فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم إِلَى يوم لَمْ يذكر الله فيها فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا له من أسف وحزن طويل.
ابن آدم اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا الله ثم عمله، وتوكل رجل لا يصيبه إلا مَا كتبه الله له.
شِعْرًا:
ومن يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي غَيرِ طَاعَةٍ ... لِخَالِقِهِ فَهْوَ السَّفيه الْمُضِيِّعُ
اللهم يا منور قلوب العارفين، يا قاضي حوائج السائلين يا قابل توبة التائبين ويا مفرجًا عن المكروبين والمغمومين، تب علينا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
فِي صلة الرحم
الرحم القرابة، سميت بذلك لأنها داعية التراحم بين الأقرباء وصلة الرحم موجبة لرضا الرب عن العبد وموجبة لثواب الله للعبد فِي الآخرة، وَقَدْ ورد أنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه وسبب لطول العمر، وهذه الأشياء من الأمور المحبوبة على العبد.(3/450)
وذلك حق فإن الله تعالى هو الخالق للأسباب والمسببات، وَقَدْ جعل لكل مطلوب سببًا وطريقًا ينال به، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته ورحمته جعل الجزاء من جنس العمل فكما أن الإنسان وصل رحمه بالبر والإحسان، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره وبسط فِي رزقه ووسعه وفتح له من أبواب الرزق مَا لَمْ يكن له على بال وبارك له.
فكم من إنسان وهبه الله قوة فِي جسمه ورزانة فِي عقله ومضاء فِي عزيمته وبركة فِي علمه وعمله كانت حياته حافلة بالأعمال الطيبة، فهذا حياته حياة طويلة وإن كانت فِي الحساب قصيرة، لأن المقياس الحقيقي للحياة المباركة هي جلائل الأعمال، وكثرة الآثار ليس الشهور والأعوام كما قال بعضهم:
فَتًى عَاشَ أَعْمَالاً جِسَامًا وَإِنَمَا ... تُقَدَّرُ أَعْمَارُ الرِّجَالِ بِأَعْمَالِ
وقال آخر:
الْعِلْمُ أَنْفَسُ شَيْءٍ أَنْتَ ذَاخِرُهُ ... مَنْ يَدْرُسُ الْعِلْمَ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُهُ
أَقْبِلْ على الْعِلْمُ وَاسْتَقْبِلْ مَبَاحِثَهُ ... فَأَوَّلُ الْعِلْمِ إِقْبَالُ وَآخِرُهُ
وانظر إِلَى من مضى من العلماء والمصلحين الذين عاشوا زمنًا قليلا كأنهم لبثوا قرونًا كثيرة لكثرة مَا عملوا وعظم مَا خلفوا بينما ترى آخرين يعيشون زمنًا طويلاً ويذهبون ولا يبقى لهم أثر ولا ذكر كما قيل:
كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا كَانُوا وَمَا خُلِقُوا
وَمَاتَ ذِكْرُهُمُوا بَيْنَ الْوَرَى وَنُسُوا
ومن أسباب البركة فِي العمر والله أعلم التفرغ من الشواغل والشواغب فمن كثرت شواغله، وشواغبه قليل البركة فِي العمر أو معدومها لأنه منع من تصريفه فِي طاعة الله بمتابعة شعواته وملذاته وتحصيل مناه(3/451)
من دنياه ومن تفرغ من الشواغل ولم يقبل على طاعة الله فهو أيضًا مخذول ومصروف عن طريقة الاستقامة والهدى ولا بركة فِي عمره.
وإذا تأملت أكثر الناس وجدت الذي حبسهم عن طاعة الله والإقبال عليه وتصريف أعمارهم فِي التوجه إليه بأنواع الطاعات هو كثرة أشغالهم فاشتغلت جوارحهم بخدمة الدنيا ليلاً ونهارًا شهورًا وأعوامًا حتى انقرض العمر كله فِي اللهو والبطالة والتقصير.
ومن الناس من قلت شواغلهم فِي الظاهر لوجود من قام بها عنهم لكن كثرة علائقهم وتفكراتهم فِي الباطن لكثرة مَا تعلق بهم من الشواغب فهم مستغرقون دائمًا فِي التفكير والتدبير والاختيار والتقديرات والاهتمام بأمور من تعلق بهم من الأنام.
لاسيما من كان له جاه ورياسة وخطة أو سياسة فهذا بعيد عن تصريف العمر واستغراقه فِي أنواع طاعة الله والإقبال عليه بقلبه وقالبه والحاصل أن الخير يكون غالبًا بإذن الله فِي التخفيف من الشواغل والعوائق التي تجذبه وتحفظه عن الطاعة إذا هم بها ويكون لا بركة فِي عمره أو قليل البركة فيه.
وإنما رتبت البركة فِي العمر على صلة الرحم لأن المرء إذا وصل رحمه أرضى ربه فأجله أقرباؤه واحترموه، فامتلأت نفسه سرورًا وشعر بمكانة عالية من أجل مَا وفقه الله له من صنيعه الذي صنع، والسرور منشط، كما أن الحزن مثبط، والشعور بالتعظيم عن أعمال مجيدة داع للإكثار مِنْهَا، وبذل الجهد فِي سبيلها.
وإن لَمْ يفعل لَمْ يحصل له ذلك كما قيل:
وَكَيْفَ يَسُودُ الْمَرْءُ مَنْ هُو مِثْلُهُ
بِلا مِنْةٍ مِنْه عَلَيْهِ وَلا يَدِ(3/452)
آخر: ... أَخُو ثِقَةٍ يُسَرُّ بِحُسْنِ حَالِي ... وَإِنْ لَمْ تُدْنِهِ مِنِّي قَرَابَةْ
أَحَبُّ إِلَى مِنْ أَلْفَى قَرِيبٍ ... تَبِيْتُ صُدُورُهُمْ لِي مُسْتَرَايَهْ
وقال بعض من تضرر بالأقارب:
يَقُولُونَ عِزُّ فِي الأقَارِبِ إِنْ دَنَتْ ... وَمَا الْعِزُّ إِلا فِي فُرَاقِ الأقَارِبِ
تَرَاهُمْ جَمِيْعًا بَيْنَ حَاسِدِ نِعْمَةٍ ... وَبَيْنَ أَخِي بُغْضٍ وَآخَرَ عَائِبِ
وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر، فكذلك صلة الرحم جعلها الله سببًا ربانيًا من أسباب طول العمر.
قال البلباني: والمراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة إِلَى صلحهم عند عداوتهم والاجتهاد فِي إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم والإسراع إِلَى مساعدتهم ومعاونته عند حاجتهم.
ومراعاة جبر قلوبهم مع التعطف والتلطف بهم وتقديمهم فِي إجابة دعوتهم والتواضع معهم فِي غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ومداومة مودتهم ونصحهم فِي كل شؤنهم والبداءة بهم فِي الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم فِي الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة.
وفي معناها الهدية ونحوها ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح المبغض عساه أن يعود ويرجع عن بغض إِلَى مودة قريبة ومحبته انتهى.
وفي النهاية: قَدْ تكرر فِي الحديث صلة الرحم وهي كناية عن الإحسان إِلَى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم والرعاية لأحوالهم وكذلك إن بعدوا وأساءوا، وقطع الرحم ضد ذلك كله.
وفي الفتح قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة فالعامة رحم الدين، وتجب مواصلتها بالتودد والتناصح والعدل والإنصاف(3/453)
والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وأما الرحم الخاصة فتزيد النفقة على القريب، وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم وتتفاوت مراتب استحقاقهم فِي ذلك كما فِي الحديث الأقرب فالأقرب.
آخر: ... مَاذَا عَلَيَّ وَإِنْ كُنْتُمْ ذَوِي رَحمِي ... أَنْ لا أحُبُّكُمُوا إنْ لَمْ تُحِبُونِي
لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ظَمَائِرِهُمْ ... مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ مِنْ ذَاكَ يَكْفِينِي
آخر: ... مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْشَى الأبَاعِدَ نَفَعُّهُ ... وَيَشْقَى بِهِ حَتَى الْمَمَاتِ أَقَارِبُهُ
فِإِنْ كَانَ خَيْرًا فَالْبَعِيدُ يَنَالُهُ ... وِإِنْ كَانَ شَرًا فَابْنُ عَمِّكَ صَاحَبُهُ
آخر: ... وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا ... وَإِذَا يُحَاخسِ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ
هَذَا لَعَمْرُ كُمُوا الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ ... لا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلا أَبُ
وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة.
وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة فإن كانوا كفارًا أو فجارًا فمقاطعتهم فِي الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد فِي وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا بأن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا على الطريق المثلى.
شِعْرًا: ... وَلَقَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ ثَمَّ خَبَرْتُهُمْ ... وَعَلِمْتُ مَا مِنْهُمْ مِنْ الأسْبَابِ
فَإِذَا الْقَرَابَةُ لا تُقَرِّبُ قَاطِعًا ... وَإِذَا الدِّيَانَةُ أَقْرَبُ الأسْبَابِ
ومن اللطائف أن ابن المقري كتب لوالده حين امتنع عن النفقة عليه:
لا تَقْطَعَنَّ عَادَةَ بِرٍ وَلا
تَجْعَلْ عِتَابَ الْمَرْءِ فِي رِزْقِهِ(3/454)
فَِإنْ أَمْرَ الإِفْكِ مِنْ مِسْطَحٍ
يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِنْ أُفْقِهِ
وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الذِّي قَدْ جَرَى
وَعُوتِبَ الصَّدِيقُ فِي حَقِّهِ
فأجابه والده مبينًا له السبب لذلك المنع:
قَدْ يُمْنَعُ الْمُضْطَرُّ مِنْ مَيْتَةٍ
إِذَا عَصَى فِي السِّيْرِ فِي طُرْقِهِ
لأَنَهُ يَقْوَى على تَوْبَةٍ
تُوْجِِبُ إِيْصَالاً إِلَى رِزْقِهِ
لَوْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ مِسْطَحٌ
مَا عُوتِبَ الصَّدِيقُ فِي حَقَّهِ
ومما يدخل فِي صلتهم تعهدهم بالتربية والتوجيه حين يكونون صغارًا محتاجين على توجيههم إِلَى الدين الحنيف والأخلاق الفاضلة ومما يدخل المبادرة فِي علاجهم عندما يمرضون وزيارتهم إذا غابوا عنه، وعيادتهم عندما يمرضون، وإشعارهم أنه معهم دائمًا.
اللهم هب لنا مَا وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راض عنا وَقَدْ قبلت اليسير منا واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَدْ ورد فِي الحث على صلة الرحم والتحذير عن قطيعتها آيات وأحاديث كثيرة، نذكر طرفًا مِنْهَا، قال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي قرابتك من أبيك وأمك والمراد بحقهم برهم وصلتهم.(3/455)
وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} المراد الرحم والقرابة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» .
وأخرج أبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو فِي نفر من أصحابه فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: «نعم» . قلت: يا رسول الله أي الأعمال أحب إِلَى الله؟ قال: «الإيمان بالله» . قلت: يا رسول الله ثم مه.
قال: «ثم صلة الرحم» . قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أبغض إِلَى الله؟ قال: «الإشراك بالله» . قال: يا رسول الله ثم مه؟ قال: «ثم قطيعة الرحم» . قال: قلت ثم مه قال: «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابًا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فِي سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر فِي أصحابه ثم قال: «لقد وفق أو لقد هدي» . قال: كيف قلت؟ قال: فأعادها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» .
وفي رواية: «وتصل ذا رحمك» . فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تمسك بما أمرته دخل الجنة» . وأخرجا أيضًا عن عائشة(3/456)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» .
وأخرج أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق خلقًا حتى إذا فرغ مِنْهُمْ قامت الرحم» . زاد رواية البيهقي «فأخذت بحقوَى الرحمن فقال: مه؟ فقالت: هذا مقام العائد بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال فذاك لك» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} .
وعن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهيرًا عليهم مل دمت على ذلك» . رواه مسلم.
وعن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب.
فلما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ ذلك مال رابح، وَقَدْ سمعت مَا قلت، وإني أرى أن تجعلها فِي الأقربين» . فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة فِي أقاربه وبني عمه متفق عليه.(3/457)
وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنه أنها أعتقت وليده ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال: «أو فعلت» ؟ قلت: نعم. قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» . متفق عليه.
وفي حديث أبي سفيان فِي قصة هرقل أنه قال لأبي سفيان مَا يأمركم به يعني النبي صلى الله عليه وسلم قلت يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة» . متفق عليه.
وأخرج الإمام أحمد بإسناد جيد قوي وابن حبان فِي صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قطعت إني أسيء إليَّ يا رب إني ظلمت يا رب يا رب فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك» .
وَذِي رَحِمٍ قَلَّمْتُ أَضْفَارَ ضِغْنِهِ
بِحِلْمِي عَنْهُ وَهْوَ لَيْسَ لَهُ حُلْمُ
يُحَاوِلُ رَغْمِي لا يُحَاوِلُ غَيْرَهُ
وَكَالْمَوْتِ عِنْدِي أنْ يَحِلَّ بِهِ الرَّغْمُ
فَإِنْ أَعْفُ عَنْهُ أَغْضِ عِيْنًا على قَذَى
وَلَيْسَ لَهُ بِالصَّفْحَ عَنْ ذَنْبِهِ عِلْمُ
وَإِنْ انْتَصِرْ مِنْه أَكُنْ مِثْلَ رَائِشٍ
سِهَامَ عَدُوٍّ يُسْتَهَاضُ بِهَا الْعَظْمُ
صَبَرْتُ على مَا كَانَ بَيْنِي وِبَيْنَهُ
وَمَا تَسْتَوِي حَرْبُ الأَقَارِبُ وَالسِّلْمُ(3/458)
وَبَادَرْتُ مِنْه النَّأَيَ وَالْمَرْءُ قَادِرٌ
عَلَى سَهْمِهْ مَا دَامَ فِي كَفِّهِ السَّهْمُ
وَيَشْتِمُ عِرْضِي فِي الْمَغَيَّبِ جَاهِدًا
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي هَوَانٌ وَلا شَتْمُ
إِذَا سُمْتُهُ وَصْلَ الْقَرَابَةِ سَامَنِي
قَطِيعَتَهَا تِلْكَ السَّفَاهَةُ وَالإِثْمُ
وَإِنْ أَدْعُهُ لِلنِّصْفِ يَأْبَى وَيَعْصِنِي
وَيَدْعُو لِحُكْمِ جَائِر غَيْرُهْ الْحُكْمُ
فَلَوْلا اتِّقَاءُ الله وَالرَّحِمِ اللَّتِي
رِعَايَتُهَا حَقٌّ وَتَعْطِيلُهَا ظُلْمُ
إِذَا لِعُلاهُ بَارِقِي وَخَطْمَتُهُ
بِوَسْمِ شِنَارٍ لا يُشَابِهُهُ وَسْمُ
وَيَسْعَى إِذَا أَبْنِي لِهَّدْمِ مَصَالِحِي
وَلَيْسَ الذِّي يَبْنِي كَمَنْ شَأْنُهُ الْهَدْمُ
يَوَدُّ لَوْ أَنِّي مُعْدِمٌ ذُوْ خَصَاصَةٍ
وَأَكْرَهُ جُهْدِي إِنْ يُخَالِطَهُ الْعُدْمُ
وَيَعْتَدُ غَنْمًا فِي الْحَوَادِثِ نَكْبَتِي
وَمَا إِنْ لَهُ فِيْهَا سَنَاءٌ وَلا غُنْمُ
وَمَا زِلْتُ فِي لَيْنِي لَهُ وَتَعَطُفِيْ
عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو على الْوَلَدُ الأُمُّ
وَخَفْضٍ لَهُ مِنِّي الْجَنَاحَ تَأَلُفًا
لِتُدْنِيَهُ مِنّي الْقَرَابَةُ وَالرَّحْمُ(3/459)
.. وَقُولِي إِذَا أَخْشَى عَلَيْهِ مُلِمَّةً
أَلا اسْلَمْ فِدَاكَ الْخَالُ ذُوْ الْعَقْدِ وَالْعَمُ
وَصَبْرِي على أَشْيَارَ مِنْه تُرِيْبُنِي
وَكَظْمِ على غَيْظِي وَقَدْ يَنْفَعُ الْكَظْمُ
لأَسْتَلَّ مِنْ الظَّعْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُهُ
وَقَدْ كَانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيْقُ بِهِ الْجَرْمُ
رَأَيْتُ إِنْثَلامًا بَيْنَنَا فَرَقَعْتُهُ
بِرِفْقِي وَإِحْيَائِي وَقَدْ يُرْقَعُ الثَّلْمُ
وَأَبْرَأْتُ غِلَّ الصَّدْرِ مِنْهُ تَوَسُّعًا
بِحِلْمِي كَمَا يُشْفَى بِالأَدْوِيَةِ الْكَلْمُ
فَدَوَايْتُهُ حَتَى ارْفَأَنَّ نِفَارُهُ
فَعُدْنَا كَأَنَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا جُرْمُ
وَأطْفَأَ نَارَ الْحَرْبِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
فَأَصْبَحَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَهُوَ لَنَا سِلْمُ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فَصْلٌ) : وأخرج الأمام أحمد أيضًا بإسناد رواته ثقات والبزار عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من أربى الربا الاستطالة فِي عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل فمن قطعها حرم الله عليه الجنة» .
وأخرج البزار بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرحم شجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان ذلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تبارك وتعالى أنا الرحمن الرحيم وإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بكتها بكته) .(3/460)
شِعْرًا: ... إِنِي لَيَمْنَعُنِي مِنْ قَطْعِ ذِي رَحِمٍ ... مَا جَاءَ فِي الذِّكْرِ مَعْ مَا جَاءَ فِي السُّنَنِ
إِنْ لانَ لِنْتُ وَإِنْ دَبَّتُ عَقَارِبُهُ ... إِلَيَّ جَازَيْتُهُ بِالصَّفْحِ لا الظَّغْنِ
إِذَا هَجَرُوا عِزًا وَصَلْنَا تَذَلُلاً
وَإِنْ بَعُدُوا يَأْسًا قَرَبْنَا تَعَلُلا
وَإِنْ أَغْلَقُوا بِالْهَجْرِ أَبْوَابَ وَصْلِهِمْ
وَقَالُوا أُبْعُدُوا عَنَّا طَلَبْنَا التَّوَصَلا
وَإنْ مَنَعُونا أنْ نجُوزَ بأَرْضِهِم
وَلم يَسْمَعُوا الشكوى وَرَدُّوا التَّوَسُّلاَ
أَشَرْنا بِتَسْلِيمٍ وَإنْ بَعُدَ المَدَى
إلَيْهِمْ وَهَذا مُنْتَهَى الوَصْل أكْمَلاَ
وأخرج الطبراني وابن خزيمة فِي صحيحه والحاكم وقال: على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» . يعني أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة وهو فِي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وتصل من قطعك» .
قال الناظم:
وَكُنْ وَاصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لِكَاشِحِ
تُوَفَّرُ فِي عُمٍْر وَرِزْقٍ وَتَسْعَدُ
وَلاَ تَقْطِعِ الأَرْحَامَ أنَّ َقِطِيعَةً
لِذِي رَحِمٍ كُبْرَى مِنْ اللهِ تُبْعِدُ
فَلاَ تَغْشَى قَوْمًا رَحْمَةُ اللهِ فَيهِمُ
ثَوَى قَاطِعِ قَدْ جَاءَ ذَا بِتَوَعُّدِ(3/461)
وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواصل الأعمال فقال: «يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك» . وفي لفظ: «واعف عمن ظلمك» .
وأخرج الطبراني عن علي رضوان الله عليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وأن تعفو عمن ظلمك» . ورواه البزار عن عبادة بن الصامت مرفوعًا بلفظ: «ألا أدلكم على مَا يرفع الله به الدرجات» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له رزقه وينسأ له فِي أثره، فليصل رحمه» . وللبخاري عن أبي هريرة: «من سره أن يبسط له فِي رزقه، وينسأ له فِي أثره، فليصل رحمه» .
ورواه الترمذي بلفظ: «تعلموا من أنسابكم مَا تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة فِي الأهل، مثراة فِي المال منساة فِي الأثر» . ومعنى (مثراة فِي المال) أي زيادة فيه ومعنى (منسأة فِي الأثر) النسأ أي زيادة فِي عمره أي يؤخر له فِي أثره وهو الذكر الحسن فيه يكتسب صاحبه حسنات وهو فِي القبر بالدعاء الصالح له أو الإقتداء به فِي صالح عمله.
ذِكْرُ الفَتَى عُمْرهُ الثانِي وحَاجَتُهُ ... ما قَاتَهُ وفُضُولُ العَيْشِ أَشْغَالُ
آخر: ... دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ ... إنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعدْ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا ... فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي(3/462)
وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد فِي زوائده والبزار بإسناد جيد والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يمد له فِي عمره، ويوسع له فِي رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» .
وأخرج البزار بإسناد لا بأس به والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مكتوب فِي التوراة من أحب أن يزاد فِي عمره، ويزاد فِي رزقه فليصل رحمه» .
وأخرج الطبراني بإسناد حسن والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضًا لهم» . قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «بصلتهم لأرحامهم» .
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ: ثم اعلم أن لصلة الرحم فوائد جمة وثمرات محققة ونتائج حسنة فِي حياة المسلم ويعد وفاته وَقَدْ رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلة الرحم أمرين محققين هما بسط الرزق وسعته والإنساء فِي الأثر ومساعدة ذوي القربى وصلتهم واجب ديني ندب الله إليه وجاءت الأحاديث مبينة أنه من آكد واجبات المرء فِي حياته يدعوك له الشفقة والحنان والعطف والرحمة على ذوي قرباك.
وليس من البر مساعدة الخامل الكسلان وتشجيعه على البطالة والكسل وإنما البر والصلة فِي مساعدة من فقد أسباب العمل ولم تتهيأ له طرق المكاسب وعليك أن تعاملهم معاملة الرفق واللين فتحترم كبيرهم وتجله وتحسن إِلَى صغيرهم وتتجاوز عن هفواتهم وتغض الطرف عن زلاتهم وتقابل المسيء مِنْهُمْ بالإحسان لا بالاستكبار والاستنقاص لأنهم أقاربك وأولى الناس بمودتك وعطفك ورحمتك ومما يولد المحبة والحنان الهدايا قال بعضهم:
هَدَايَا الناسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ ... تُوُلِّدُ فِي قُلُوبِهِمُ الوِصَالاَ(3/463)
.. وتَزْرَعُ فِي الضَّمِيرِ هَوَي وَوُدًا ... وَتَكْسُوكَ المَهَابَةَ والجَلاَلاَ
آخر: ... فَلاتَكُ مِنَّانًا بِخَيْرٍ فَعَلْتَهُ ... فَقَدْ يُفْسِدُ المَعْرُوفَ بِاْلمَّنِ صَاحِبُهْ
وهم لأقرب الناس بعد أصولك وفروعك وحواشيك يتمنون سعادتك هناءك ويرجون لك الخيرات فجدير بك أن تسارع إِلَى مواساتهم وعيادتهم إذا مرضوا والسلام على من قدم مِنْهُمْ وتوديعه إذا سافر ومشاركتهم فِي أفراحهم وإظهار السرور لهم ومشاطرتهم فِي أتراحهم وتخفيف آلام الحزن عنهم والإسراع فِي قضاء حوائجهم ونحو ذلك من الأعمال الطيبة والمظاهر الشريفة تضيف قوتك على قوتهم فيسرعون على إجابتك ودفع الأذى عنك فِي ملماتك. أ. هـ.
وأخرج ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد فِي العمر إلا البر» .
وروى الإمام أحمد عن عائشة مرفوعًا: «صلة الرحم، وحسن الجوار، أو حسن الخلق، يعمران الديار، ويزيدان فِي الأعمار» .
وأخرج الطبراني وابن حبان فِي صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير أوصاني أن لا انظر إِلَى من هو فوقي، وأن انظر إِلَى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين والدنو مِنْهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأوصاني أن لا أخاف فِي الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كَانَ مرًا، وأوصاني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة.
شِعْرًا:
الذِّكْرُ أَصْدَقُ مِنْ سَيْف ومِنْ كُتُبِ ... فاعْمَلْ بِهِ تُحْرِزْ الأعَلَى من الرُّتَبِ
فيه جَمِيعُ الذِي يَحْتَاجُه البَشَرُ ... وَسُنّةُ المُصْطَفَى من بَعْدِه تُصِبِ(3/464)
آخر: ... العِلْم فيما أَتَى بِالذِكرِ مَطْلَبُهُ ... وَمَا عن المُصْطَفَى قَدْ جَاءَ فِي الكُتُبِ
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» .
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فِي الدنيا مع مَا يدخر له فِي الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر» . رواه ابن حبان وغيره.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم» . رواه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم» . رواه أحمد ورواته ثقات.
وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال: «يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحماكم فإنه ليس ثواب أسرع من صلة الرحم وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة بغي وإياكم وعقوق(3/465)
الوالدين، فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار أزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين» .
شِعْرًا:
خَفِّضْ هُمُومَكَ فَالحَيَاةُ غَرُورُ
وَرَحَى المَنُونِ على الأنَامِ تَدُورُ
وَالْمَرْءِ فِي دَارِ الفَنَاءِ مُكَلَّفٌ
((لاَ مُهْمَلٌ فِيْهَا وَلاَ مَعْذُورُ))
وَالنَّاسُ فِي الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلِ
كُلُّ إِلَى حُكْمِ الْفَنَاءِ يَصِيرُ
فَالنَّكْسُ وَالمَلِكُ المُتَوَّجُ وَاحِدٌ
لا آمِرٌ يَبْقَى وَلاَ مَأْمُورُ
عَجَبًا لِمَنْ تَرَكَ التَّذَكُّرَ وَانْثَنَى
في الأمْرِ وَهُوَ بِعَيْشِهِ مَغْرُورُ
وَإِذَا الْقَضَاءُ جَرَى بَأَمْرٍ نَافِذِ
غَلِطَ الطَّبِيبُ وَأَخْطَأَ التَّدْبِيرُ
إِنْ لُمْتُ صَرْفَ الدَّهْرِ فيه أجَابَنِي
أبَتِ النُّهَى أنْ يُعْتَبَ الْمَقْدُورُ
أَوْ قُلْتَ لَهْ أيَنْ المُؤْيَّدُ قَالَ لِي
أَيْنَ الْمُظفَّرُ قَبْلَ وَالمَنْصُورُ(3/466)
أَمْ أَيْنَ كِسْرَى أَزْدَ شِيرُ وَقَيْصَرٌ
وَالهُرْمُزَانُ وَقَبْلَهُمْ سَابُورُ
أَيْنَ ابْنُ دَاوُدَ سُلَيْمَانُ الذِي
كَانَتْ بِجَحْفَلِهِ الْجِبَالُ تَمُورُ
وَالرِّيحُ تَجْرِي حَيْثُ شَاءَ بأَمْرهِ
مُْنَقادَةً وَبِهِ البِسَاطُ يَسِيرُ
فَتَكَتْ بِهِمْ أَيْدِي الْمَنُونِ وَلَمْ تَزَلْ
خَيْلُ الْمَنُونِ على الأَنَامِ تُغِيرُ
لَوْ كَانَ يَخْلُدُ بالفَضَائِل مَاجِدٌ
مَا ضَمَّتِ الرُّسُلَ الكِرَامَ قُبُورُ
إِنَي لأَعْلَمُ وَاللَّبِيبُ خَبِيرُ
أَنَّ الحَيَاة وَإنْ حَرِصْتَ غَرُورُ
وَرَأَيْتُ كُلاًماً يُعَلِّلُ نَفْسَهُ
بِتَعِلَّةِ وَإلى الفَنَاءِ يَصِيرُ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
موعظة
عباد الله إن النصيحة غالية ذات أهمية عظيمة عند ذوي الألباب والفهوم لأنها إرشاد إلى الصواب وتوجيه نحو العمل الصالح والأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة وهداية إِلَى مَا يعود نفعه وفائدته على المنصوح. بالسعادة والعز والنصيحة تبصير بالمضار حتى لا يقع فيها من لا يعرفها.(3/467)
ولذلك ينبغي أن الناصح ذا رأي ثاقب وعقل راجح قَدْ جرب الأمور وعركته الأيام والليالي وذاق حلوها ومرها وانتفع بما رآه فيها من عسر ويسر وفرح وسرور وخلص قلبه من هم قاطع وغم شاغل ليسلم رأيه وتخلص نصيحته من الشوائب المكدرة.
فيا عباد الله إن الدين هو النصيحة يسدها المؤمن لإخوانه بل يبغي عليها جزاء ولا شكورَا إلا من ربه وخالقه يبذلها خالصة لوجه الله قاصدًا بها نفع عباد الله والأخذ بأيديهم إِلَى طرق السداد سار على ذلك الأنبياء والمؤمنون والاتقاء.
قال تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} وعن هود: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وعن صالح: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وعن شعيب: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وعن مؤمن آل فرعون ينصح قومه: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} الآيات فالنصيحة علامة الحب والإخلاص والوقار.
فإذا علمت أن شرًا سينزل بمؤمن غافل عنه فواجب عليك أن تنبهه وتحذره ليأخذ حذره من الكائدين وأسرع بأخباره كما حذر رجل موسى عليه السلام قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وإن رأيت إنسانًا تردى فِي المعاصي وانغمس فِي الموبقات وأتبع شيطانه وهواه وركب رأسه وخالف مولاه فخذ بيده على طريق الرشاد(3/468)
وادعه بالتي هي أحسن إِلَى المتاب وطاعة رب العباد وذكره بالموت وسكراته والقبر والحساب ومناقشاته والصراط وعثراته والنار وعذابها وما أعد الله لأهلها من ألوان العذاب وذكره بالضريع والزقوم وويل وغساق وغسلين.
وذكره بالجنة ونعيمها وما أعد الله لأهلها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلعل الله أن يهديه بسببك.
وان استنصحك أخوك المسلم فِي زواج من كنت تعرف فوضح له وبين مَا تعرف من العيوب فإن كتمت العيوب وأظهرت المحاسن فأنت من الخائنين وان استنصحك فِي مساهمة أو شراء عقار أو بيت أو شراء سلعة فأحب له مَا تحب لنفسك وشر عليه بما تحب أن يشار عليك به لو كنت فِي مكانه.
فان غررت به فأنت من المنافقين. وإن طلب منك مشورة فِي دين أو دنيًا فرجح له مَا ترى فيه الصلاح ولا تنتظر حتى يطلب منك النصح فإذا رأيت فِي خطأ فوجهه وابذل النصيحة لكل مسلم.
ابذله للأب كما فعل الخليل ابذله لأبنائك وكن كما كَانَ لقمان الحكيم لابنه وقل له مثل مَا قاله له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
انصحهم عن قرناء السوء وعن مجالس اللهو والفسوق والعصيان كمجالس التلفزيون والسينما والكورة ومجالس الغيبة والكذب والسخرية(3/469)
والاستماع إِلَى الغناء من المذياع والبكمات والمطربين والمطربات وانصحهم عن تعاطيها وشراء وأجرة وإعارة وحذرهم من مخالطة متعاطيها ومقاربته ومجاورته ومشاركته ومصاهرته.
شِعْرًا:
احْفَظْ نَصِيحَةَ مَنْ بَدَا لَكَ نُصْحُهُ
وِلرَأْي أَهْلِ الخَيْرِ جَهْدَكَ فاقْبَلِ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم
(فَصْلٌ)
فِي الإحسان إِلَى اليتيم والأرملة والمسكين
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن فِي كفالة اليتيم والإحسان إليه والسعي على الأرملة والمسكين فضل عظيم يجده من وفقه الله للقيام به {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
واليتيم هو من مات أبوه ولم يبلغ، والجمع أيتام وهم الذين فقدوا أباهم الذي كَانَ يرعاهم بنفسه وماله ويحبهم من أعماق قلبه ويؤثر مصلحتهم على مصلحته.
وإن مما يذرف الدمع من العين ساخنًا ساعة الموت صبية صغارًا وذرية ضعفاء يخلفهم الميت وراءه يخشى عليهم من مصائب الدنيا وصروفها ويتمنى وصيًّا مرشدًا يقوم مقامه يرعاهم كرعايته ويسوسهم كسياسة يعزيهم بره ولطفه عن أبيهم الراحل ويجدون عنده من العناية والقيام بمصالحهم مَا يكون بإذن الله سببًا لإخراجهم رجالاً فِي الحياة(3/470)
يملئون العيون ويشرحون الصدور.
فالذي يكفل اليتيم ويتعهده ويلاحظه ويؤدبه ويهذب نفسه وتطمئن قلوب أقاربه إذا رأوه وكأن والده حي لا يفقد من والده إلا جسمه، فلا غرو أن كَانَ مكانه عند الله عظيمَا، وكان حريًّا أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبًا فِي الجنة يتمتع بما فيها من النعيم المقيم، كما قام بما وفقه الله له من رعاية اليتيم.
ففي هذا ترغيب فِي كفالة الأيتام والعناية بأمورهم فلهم حق على المسلمين سواء كَانَوا أقارب أو غيرهم، يكون ذلك بكفالتهم وبرهم وجبر قلوبهم وتأديبهم أحسن تربية فِي مصالح دينهم ودنياهم.
ولذلك أوصى جل وعلا بالإحسان إليهم ليصيروا كمن لَمْ يفقد والديه، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مسح رأس يتيم لَمْ يمسحه إلا لله كَانَ بكل شعرة تمر عليها يده حسنات» .
وأما الأرملة فهي التي مات زوجها، فهي فِي حاجة إِلَى الملاحظة لأنها ضعيفة وحاجات النساء كثيرة دقيقة وجليلة يرفعها المسكن والمأكل والملبس وهناك أشياء كثيرة من ذلك الدهن والطيب والمشط والمكحلة وأواني لشؤونها فِي حال طبخها وفي حال الحلي وأمور أخرى يطول ذكرها وتعدادها.
والمهم أن الذي يكدح وينصب ليكفي تلك الأرملة حاجاتها أو بعضها بعد أن فقدت زوجها الذي كَانَ يرعاها ويؤنسها وينفق عليها(3/471)
ويسكنها معه، فهو بذلك الإحسان يخفف عنها من ألم المصيبة، ويسلبها عن الفجيعة، ويكف يدها عن السؤال والنظر لما فِي أيدي الناس، ويصون وجهها، فهذا كالمجاهد فِي سبيل الله، له أجر عظيم عند الله عز وجل.
وكذلك الساعي على المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة فلا يجدون مَا يكفيهم فِي قوتهم وكسوتهم وسكناهم، إما لفقد المال، وإما لعجز عن الكسب لمرض أو لصغر أو لزمانة أو لعمى، أو الذي تقطعت به الأسباب، وأظلمت على عينه الدنيا وانغلقت فِي وجهه الأبواب، يستحف السعي عليه ممن وفقه الله لذلك، والأخذ بيد.
ويعان على العمل بالقرض والإيجار أو مَا يستعين به على نفقة نفسه وأهله بأي عمل يحسنه من تعليم أو صنعة أو زراعة أو تجارة أو وظيفة يكف بها وجهه، وَقَدْ يكون المسكين من الأقارب أو ذا رحم يجب وصلها فيعظم حقه، ويكون السعي عليه برًا وصلة يكتب أجره عند الله أضعافًا مضاعفة، وهذه فرصة ثمينة لمن وفقه الله للقيام بها!
والخلاصة:
أن الذي يجمع المال بعرق جبينه لا لينفقه فِي السرف والبذخ واللذة والسمعة، ولكن ليسد به جوعة المسكين واليتيم ويغنيه عن السؤال فيحفظ على وجهه ماء الحيا وعَلَى نفسه خلق العفاف يكون حريًّا بمرتبة المجاهدين ومنزلة المقربين، فاخدم بمالك ووقتك وقوتك وسعيك وجاهك ذوي الحاجات وأرباب العاهات تنل بإذن الله المنزلة العالية الخالدة. تنبه: بشرط أن يكونوا من المؤمنين بالله.
ذَكَرَ الوَعِيدَ فَطرفُهُ لا يَهْجَعُ ... وجَفَا الرُقاَدَ فَبَان عَنْهُ المُضْجَعُ
مُتَفَرّدًا بِقَلِيلهِ يَشْكُو الَذِي ... مِلْءَ الجَوَانِحِ وَالحَشَا يَسْتَوْجِعُ
لَمَّا ئَيْقَّنَ صِدقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الَ ... آياتُ صَارَ إِلَى الإِنَابِة يُسْرِعُ(3/472)
ج
فَجَفَا الأَحِبَّةُ فِي مَحَبَةِ رَبِّهِ ... وَسَما إِليهِ بِهِمَّةٍ مَا يُقْلِعُ
وَتَمَتَّعَتْ بِودَادِهِ أَعْضَاؤُهُ ... إِذَ خَصَّهَا مِنْهُ بِوِدِ يَنفَعُ
كَمْ فِي الظَّلامِ لَهُ إِذَا نَامَ الوَرَى ... مِنْ زَفْرُةٍ فِي إِثْرِهَا يَتَوَجَّعُ
وَيقُولُ فِي دَعَوَاتِهِ يَا سَيّدِي ... العُيْنُ يُسْعِدُهَا دَمُوعٌ رُجَّعُ
إِنّي فَزِعْتُ إليكَ فارْحَمْ عَبْرَتِي ... وَإِليكَ مِن ذُلِّ الْخَطِيئَةِ أَفْزَعُ
مَنْ ذَا سِوَاكَ يُجِيْرُنِي مِن زَلّتِي ... يَا مَنْ لِعزَّتِهِ أَذِلُّّّّّّّّّّّّ وَأَخْضَعُ
فَامْنُنْ عَلِيَّ بتَوْبَةً أَحْيَا بِهَا ... إِنّي بِمَا اجْتَرَأَتْ يَدَاي ََمُرَدَّعُ
موعظة: عباد الله - الدنيا ملأى بالمصائب والآلام، والأحزان والأسقام غناها فقر وعزها ذل. والآجال فيها معدودة والأعمار محدودة، قال تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} .
نعيمها إِلَى فناء وعيشها إلى انقضاء متاعها قليل، وحسابها طويل - الخلود فيها لا يكون لإنسان والبقاء الدائم لا يكون إلا للديان الذي يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
فالسعيد من استعد ليوم الرحيل، وجهز نفسه بالعمل الصالح لسفر طويل، وتفكر فيمن سبقوه إِلَى دار القرار، وعلم أنه لا حق بهم مهما حاول الفرار، والأمر بعد ذلك إما نعيم مقيم أو شقاوة وعذاب أليم.
فيا من بنيت الآمال وقصرت فِي الصالح من الأعمال، تنبه للموت، فإن نسيانه ضلال مبين، كم من صديق لك مات فِي ريعان شبابه، وكم شيعت إِلَى الدار الآخرة من أحبابه، تذكر يا مغرور ساعة الاحتضار وخروج الروح.
والأولاد حولك يبكون والنساء تنوح، يناديك ولدك، أبتي إني بعدك مسكين، وتصرخ الزوجة يا زوجي إِلَى أين الرحيل وهل من رجعة أو غيابك طويل.
فتغرغر عيناك بالدموع ويلجم منك اللسان، وتحاول النطق فيعتذر(3/473)
عليك الكلام، وتطلب النجاة ولكن {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
إذا علمت هذا يا أخا الإسلام، فكيف يكون حال أبنائك من بعدك. ذل بعد عز، وحرمان بعد حنان ينظرون إِلَى الأبناء مع آبائهم فيحزنون، ويذكرون عطف أبيهم فيبكون، ليلهم نهار، ونهارهم ليل.
أعيادهم أتراح وأحزان، وأفراحهم هموم وأشجان، يتلفتون على أحباب أبيهم وأصدقائه، علهم يجدون عندهم الحنان ويشتهون ضمة أو قبلة كما يفعل الآباء بالغلمان والوالدان.
فإن كنتم يا مسلم فِي حياتك بارًا بمن فقدوا آبائهم، عطوفًا على اليتامى تمسح دموعهم بخيرك، وتعاملهم كولدك تدخل السرور على قلوبهم الحزينة بما تقدمه لهم من الهدايا والإحسان، وما تظهره لهم من حب وعطف ورعاية وحنان، إن فعلت هذا فِي حياتك فأبشر.
فإن أولادك بعدك فِي أمان، تحنوا عليهم القلوب، ويرعاهم علام الغيوب. قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} .
أيها المسلمون: إن رعاية اليتيم من واجبات الدين، وإن إهمال شأنه وإذلاله وقهره مَا ينبغي للإنسان وأكل ماله يغضب الديان، ويوجب الحرمان. قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .
إن من رعاية اليتيم تنمية ماله، وإصلاح حاله بالتربية والتعليم والتهذيب والتقويم قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} .(3/474)
وإن احتاج اليتيم أو الأرملة إِلَى مساعدة تعود على مصلحته فينبغي لوليه أن يستعين بأهل الفضل والكرم ممن لهم قدم ثابت فِي ذلك وعرق أصيل لألانهم أحرى من غيرهم فِي النفع. واحذر اللئام والبخلاء.
شِعْرًا: ... وَإِنِّي لأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إِذَا غَدَا ... عَلَى حَاجَةٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ
وَأَرْثِي لَهُ مِنْ وَقْفَةٍ عِنْدَ بَابِهِ ... كَمَرِّ سَنِّي وَالْعِلْجُ رَاكِبُهْ
شِعْرًا: ... سَلِ الفَضْلَ أَهْلَ الفضلِ قِدْمًا ولا تَسَلْ
عَلَى مَنْ نَشَأَ فِي الفقرِ ُثمَّ تَمَوَّلاَ
فَلَو مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا بأسْرِها
تُذَكِّرُهُ الأَيَامُ مَا كَانَ أَوَّلا
آخر: ... بَعْضُ الرِّجَال كَقَبْرِ المَيْتِ تَمَنَحُهُ ... أعَزَّ شَيَءٍ وَلا يُعْطِيكَ تَعْوِيضَا
آخر: ... تَجَنَّبْ بُيُوتَا شُبِّعَتْ بَعد جُوعِهَا
فإنَّ بَقَاءَ الجُوعِ فيها مُخَمَّرُ
وَآوِي بُيُوتًا جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبْعِهَا
فإنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ لاَ يَتَغَيَّرُ
آخر: ... إيَّاكَ إيَّاكَ أَنَ تَرجُو امْرًأ حَسُنَتْ ... أَحْوَالُهُ بَعْدَ ضُرِّ كَانَ قَاسَاهُ
فَنَفْسُهُ تِبْكَ مَا زَادَتْ ومَا نَقَصَتْ ... وذلِكِ الفقرُ فَقْرٌ َما تَنَاسَاهُ
قال فِي الفتح: قال شيخنا فِي شرح الترمذي: لعل الحكمة فِي كون كافل اليتيم يشبه فِي دخوله الجنة أو شبهت منزلته فِي دخول الجنة بالقرب من منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إِلَى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلاً لهم ومعلمًا ومرشدًا.
وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه(3/475)
ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه. انتهى. قلت: وكثيرًا مَا يفعل بعض الناس ذلك الإحسان زمنًا ويتركه ولا يتمم إحسانه وبعضهم يرحب بذلك أول الأمر ولا يثبت على ذلك وقليل من يتمم كلامه ويثبت على جميله وإحسانه والتوفيق بيد الله وقديمًا قيل:
وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجِمْيلِ بِفَاعِلٍ ... وَمَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ
آخر:
فأكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُكَ قوله ... وَلَكِنْ قليلٌ مَنْ يُسُركَ فِعْلُهُ
آخر:
وَفي النَّاسٍ مَنْ أَعْطَى الجَمِيلَ بَدِيهَةً ... وَظَنَّ بِفِعْلِ الخَيْرِ لَمَّا تَفَكَّرَا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد فِي سبيل الله» . رواه البخاري ومالك وغيرهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه» . متفق عليه.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال ثلاثة من الأيتام كَانَ قام ليلة وصام نهاره وغدا وراح شاهرًا سيفه فِي سبيل الله، وكنت أنا وهو فِي الجنة أخوين كما أن هاتين أختان» . وألصق أصبعيه السبابة والوسطى رواه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين» . رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.(3/476)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين فِي الجنة» . وأشار مالك بالسبابة والوسطى. رواه مسلم ورواه مالك عن صفوان بن مسلم مرسلاً.
ورواه البزار متصلاً ولفظه قال: «من كفل يتيمًا له ذا قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو فِي الجنة كهاتين» . وضم إصبعه «ومن سعى على ثلاث بنات فهو فِي الجنة وكان له كأجر المجاهد فِي سبيل الله صائمًا قائمًا» .
والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
موعظة
عباد الله لقد تفضل الله علينا ورزقنا من الطيبات، وجعلنا آمنين مطمئنين، وأغنانا عن الحاجة، وصان وجوهنا عن المسألة التي وقع فيها الكثير من الناس، فالواجب علينا إذا إزاء هذه النعم العظام أن نكثر شكره وحمده والثناء عليه.
وبذلك يحفظ عليكم نعمته ويزيدكم مِنْهَا ويبارك لكم فيها قال تعالى وهو أصدق قائل وأوفى واعد. {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} وليس الشكر قول اللسان فقط، وإنما الشكر مع ذلك امتثال أوامر الله بالطاعة والإحسان فِي عبادة الله وإلى عباد الله البؤساء من يتيم ومسكين وأرملة ممن أصابتهم الشدة والفقراء من أرباب العيال المتعففين الذين لا يسألون ولا يفطن لهم فيتصدق عليهم.
وفي الدرجة الأولى من ليس لهم موارد أصلاً لا أولاد يدرسون ولا أولاد موظفين يدرون عليهم ولا عقار ولا غيره، وأن من القسوة أن يمنع الإنسان رفده ومعونته عن إخوانه المحتاجين.
شِعْرًا:
أحْسِنْ إذا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إمْكَانُ(3/477)
أمن الرحمة والشفقة أن يكون الإنسان فِي رغد من العيش ورفاهية تامة وسعة من الرزق وإخوانه من المسلمين فِي ضنك وبؤس لا يعلم به إلا الله أو من أعلمه الله بحاله، أمن المروءة أن يتمتع الإنسان بأصناف المآكل والمشارب والملابس وأخوه المسلم المدقع فقرًا يتألم من الجوع ويتألم من البرد.
فالذي يرى من هذه صفتهم ولا يتألم ويتوجع لهم ويعمل مَا فِي وسعه لهم قاسي القلب خال من الشفقة والرحمة والرأفة نسأل الله أن يمن علينا بإتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ونسأله أن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم فِي الجنة هكذا» . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قبض يتيمًا من بين المسلمين إِلَى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة إلا أن يعمل ذنبًا لا يغفر» . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت فِي المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت فِي المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» . رواه ابن ماجة.(3/478)
وروي عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة» . وأومأ بيده يزيد بن زريع الوسطى والسبابة «امرأة آمت زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها #حتى بانوا أو ماتوا» . رواه أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه رفعه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً قال ليعقوب عليه السلام: مَا الذي أذهب بصرك وحنى ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي حنى ظهري فالحزن على أخيه بنيامين فآتاه جبريل عليه السلام فقال: أتشكو الله عز وجل؟ قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} قال جبريل عليه السلام: الله أعلم بما قلت منك.
قال: ثم انطلق جبريل عليه السلام ودخل يعقوب عليه السلام بيته فقال: أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وحنيت ظهري، فاردد عليّ ريحانتي فأشمهما شمة واحدة ثم اصنع بي بعد مَا شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول: أبشر فإنهما لو كَانَ ميتين لنشرتهما لك لأقر بهما عينك.
ويقول لك: يا يعقوب أتدري لَمْ أذهبت بصرك وحنيت ظهرك؟ ولم فعل إخوة يوسف بيوسف مَا فعلوه؟ قال: لا. قال: إنه أتاك يتيم، مسكين وهو صائم جائع وذبحت أنت وأهلك شاة فأكلتموها ولم تطعموه.
ويقول: إني لَمْ أحب شيئًا من خلقي حبي اليتامى والمساكين فاصنع طعامًا وادع المساكين» . قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكان يعقوب كلما أمسى نادى مناديه من كَانَ صائمًا فليحضر طعام ...(3/479)
يعقوب وإذا أصبح نادى مناديه من كَانَ مفطرًا فليفطر على طعام يعقوب» . رواه الحاكم والبيهقي والأصبهاني واللفظ له.
شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أنَّ النَّفْسَ يُرْدِيكَ شَرُّهَا ... وَأَنَّكَ مَأْخوُذُ بِمَا كُنَتَ سَاعِيَا
فَمَنْ ذا يُرِيُد اليومَ لِلنَّفْسِ حِكْمَةً ... وعِلْمًا يَزِيدُ العقلَ لِلصَّدرِ شَافِيا
هَلُمَ إِليَّ الآنَ إنْ كُنْتَ طَالِبًا ... سَبِيْلَ الهُدَى أوْ كُنْتَ لِلْحقِ باغِيا
فعندي مِن الأنباءِ عِلمٌ مجرَّبٌ ... فَمِنه بإلهامٍ ومِنهُ سَمَاعِيا
أخَبِرُ أخْبارًا تَقَادَمَ عَهْدُها ... وكَيفَ بَدأ الإسلام إذْ كانَ بادِيًا
وكَيفَ نَمىَ حتَّى اسْتَتَمَّ كَمالُه ... وكَيفَ ذَوَى إذْ كالثَّوبِ بَالِيَا
ومِن بعدِ ذا عندي مِنَ الِعلمِ جَوْهرٌ ... يُفيِدُك عِلْمًا إنْ وَعَيْتَ كَلامِيَا
فأحْوَجُ مَا كُنَّا إلى وَصِفْ دِيِننَا ... وَوَصْف دَلالاتِ العُقُولِ زَمَانِيَا
فَقَدْ نَدَبَ الإسلامُ أحْمدَ نَدْبَهً ... كَمَا نَدَبَ الأمواتَ ذُو الشَّجْوِ شِاجيَا
فأولُ مَا أبْدأُ فِبالحَمْدِ لِلَّذِي ... بَرَانى للإسلامِ إذْ كَانَ بَارِيَا
وصَيَّرِني إذْ شَاءَ مِن نَسْلِ آدمَ ... ولَمْ أكُ شَيطانًا مِن الجِنَّ عَاتِيَا
ولو شاءَ مِن إبليسَ صَيَّر مَخْرَجِي ... فَكُنتُ مُضِلاً جَاحِدَ الحقَّ طَاغِيَا
ولَكِنَّهُ قَدْ كَانَ بَاللُّطِف سَابِقًا ... وإذا لَمْ أكُنْ حَيًا على الأرضِ مَاشِيَا
وصَيَّرني مِنْ بَعْدُ فِي دِينِ أحمدَ ... وعَلَّمَنِي مَا غَابَ عنْهُ سُؤَالِيَا
وَفَهَّمَنِي نُورًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً ... فَشُكْرِي لَهُ فِي الشَّاكِرِينَ مُوَازِيَا
فَمِنْ أَجْلِ ذَا أَرْجُوهُ إِذْ كَانَ نَاظِرًا ... لِضَعْفِي وَجَهْلِي فِي الْمَلاِئِم حَالِيَا
وَمِنْ أَجْلِ إِذَا أَرْجُوهُ إِذَا كَانَ غَافِرًا ... وَمِنْ أَجْلِ ذَا قَدْ صَحَّ مِنِّي رَجَائِيَا
وَلَوْ كُنْتُ ذَا عَقْلٍ لَمَا قَدْ رَجَوْتُهُ ... لَقَدْ كُنْتُ ذَا خَوْفٍ وَشُكْرِي مُحَاذِيَا
وَلَوْ كُنْتُ أَرْجُوهُ لِحُسْنِ صَنِيعِهِ ... شَكَرْتُ فَصَحَّ الآنَ مِنِّي حَيَائِيَا
فَشُكْرِي لَهُ إذْ صَبِرْتُ بِالْحَقِّ عَالِمًا ... وَلِلشَّرِّ وَصَّافًا وَلِلْخَيْرِ وَاصِيَا(3/480)
.. وَمِنْ بَعْدِ ذَا وَصفِي لِنَفْسِي وَطَبْعِهَا ... وَوَصْفِي غَيْرِي إِذْ عَرَفْتُ ابْتِدَائِيَا
فَهَذَا مِنَ الأَنْبَاء وَصْفُ غَرَائِبٍ ... فَمَنْ كَانَ وَصْف لَكَانَ يجَالِيَا
وَذَاكَ لأَنَّ النَّاسَ قَدْ آثَرُوا الْهَوَى ... عَلَى الْحَقِّ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا عَلانِيَا
فَهَذَا زَمَانُ الشَّرِّ فَاحْذَرْ سَبِيلَهُ ... فَإِنَّ سَبِيلَ الشَّرِّ يُرْدِي الْمَهَاوِيَا
سَيَأْتِيكَ مِنْ أَنْبَائِهِ وَصْفُ خَابِرٍ ... كَلامٌ بِتَحْبِيرٍ وَوَصْفُ قَوَافِيَا
يَقُولُونَ لِي اهْجُرْ هَوَاكَ وَإِنَّمَا ... أَكدُّ وَأَسْعَى أَنْ أُقِيمَ هَوَائِيَا
وَنَفْسَكَ جَاهِدْهَا وَإِنِّي لَمَائِلٌ ... إِلَيْهَا فَمَا أَنْ دَارَ أَلا تَنَائِيَا
وَكَيْفَ أَطِيقُ الْهَوَى أَنْ أَهْجُرَ الْهَوَى ... وَقَدْ مَلَّكَتْهُ النَّفْسُ مِنِّي زِمَامِيَا
تَقُودُنِي الأَيَّامُ فِي كُلِّ مُحْنَةٍ ... لَدَى طَبْعٍ يَبْدُو يَهِيجُ ذَاتِيَا
فَأَصْبَحْتُ مَأْسُورًا لَدَى النَّفْسِي وَالْهَوَى ... يَشُدَّانِ مِنِّي مَا اسْتَطَاعَا وَثَاقِيَا
اللهم اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فائدة جليلة)
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده يحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل مَا أهمه، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إِلَى نفسه فشغل محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش فِي خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه فِي نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . أ. هـ.
دَارك فَمَا عُمْرُكَ بِالْوَانِي ... وَلا تَثِقْ بِالْعُمْرِ الْفَانِي(3/481)
.. يَأْتِي لَكَ الْيَوْمُ بِمَا تَشْتَهِي ... فِيهِ وَلا يَأْتِي لَكَ الثَّانِي
وَيَأْمَلُ الْبَانِي بَقَاءَ الَّذِي ... يَبْنِي وَقَدْ يُخْتَلِسُ الْبَانِي
تَصْبَحُ فِي شَأْنِ بِمَا تَقْتَنِي الآ ... مَالُ وَالأَيَّامُ فِي شَانِ
فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِّ مُسْتَبْصِرًا ... إِنْ كُنْتَ ذَا عَقْلٍ وَعُرْفَانِ
هَلْ نَالَ مَنْ جَمَّعَ أَمْوَالَهُ ... يَوْمًا سِوَى قَبْرٍ وَأَكْفَانِ
أَلَيْسَ كِسْرَى بَعْدَ مَا نَالَهُ ... زُحْزِحَ عَنْ قَصْرٍ وَإِيوَانِ
وَعَادَ فِي حُفْرَتِهِ خَالِيًا ... بِتُرْبَةٍ يُبْلَى وَدِيدَانِ
كَمْ تَلْعَبُ الدُّنْيَا بِأَبْنَائِهَا ... تَلاعُبَ الْخَمْر بِنَشْوَانِ
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(موعظة)
عباد الله إن الشفقة والرأفة على خلق الله وخصوصًا اليتيم والمسكين والأرملة أثر من آثار الرحمة التي يجعلها الله فِي قلوب بعض عباده، فقل لي أيها الأخ مَا الذي عندك مِنْهَا فإن كنت رحيمًا بعباد الله فلك البشرى والهناء بهذا الخلق الكريم الذي هو سبب لسعادتك فِي يوم الحسرة والندامة، ذلك أن الرحيم يعامله المولى جل وعلا برحمته قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} فالراحمون يرحمهم الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» . وإن كنت قاسيًا عوملت بالقسوة {جَزَاء وِفَاقاً} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} والله سبحانه وتعالى لا يغفل عن أعمال عباده، وتظهر دلائل رحمتك فِي معاملتك لليتيم والمسكين والأرملة، وفي معاملتك مع أهلك، فإنهم يعيشون طول حياتهم عندك أن كنت رحيمًا أو قاسيًا.
وتظهر رحمتك أيضًا فِي معاملتك إخوانك فإنهم يجدونك إن كنت رحيمًا لين الجانب سهلاً بشوشًا لحوائجهم وتظهر فِي معاملتك لبهائمك(3/482)
فِي عدم تكليفها فوق الطاقة وفي ملاحظتها دائمًا فِي طعامها وشرابها ومكانها فِي الشتاء والصيف.
وتظهر رحمتك فِي معاملتك مع الخلق كلهم فِي حسن الخلق والصدق والحنو عليهم وزيارتهم وعيادتهم وقضاء مَا سهل عليك من حوائجهم، أما من قسا على الخلق وعاملهم معاملة ليس فيها شيء من الحنان والشفقة فهذا هو الجبار القاسي الذي لا يعامله مولاه إلا بما يناسب معاملته من الجبروت.
وكم فِي الدنيا من جبابرة نزعت الرحمة من صدورهم لا يعرفون معاملة الخلق بالرحمة بل بالقسوة والشدة والغلظة، لا فرق عندهم بين الآدمي والكلب العقور وغيره.
ومثل أولئك لو سمعوا كلمة لا تعجبهم ربما أعدموا القائل وأيتموا أولاده وأيموا نساءه، ولو رأوا من فِي أشد المصائب مَا بالوا ولا اهتموا وكأنه شيء عادي، وترى أحدهم يخرج مع الجنائز لتعزية رفيقه فِي مصائبه وهو يضحك ويتفكه.
ولو رأى إنسانًا مصدومًا أو ساقطًا فِي محل يريد إنقاذه تركه ولا همة له إلا فيما يتعلق بنفسه فقط ومثل أولئك تنشب بينهم وبين البهائم كل يوم حروب لأنها عملت عملاً في نظرهم أنه إجرام وربما قتلوا البهائم أو قريبًا من الهلاك.
فأين هؤلاء من الرحمة، بينهم وبينها بون، كما بين الحركة والسكون، ومن هؤلاء من ليس له إلا امرأة واحدة وهو جبار عليها كل مَا بين حين وحين يجلدها جلد الزاني، وبعضهم تجد أخته أو ابنته أو ربيبته كل يوم تشتكي من سوء معاملته لها. وربما حصل مِنْه على أبيه أو أمه أو كلاهما أذية.(3/483)
وفي الأرض كثير من هذه البليات، فعود نفسك الرحمة أيها المؤمن، فإنك فِي حاجة شديدة إِلَى رحمة الله، وعالج نفسك فِي تهذيبها وتمرينها على الرحمة وإذهاب القسوة، واحرص على مقارنة الرحماء لتكسب مِنْهُمْ هذه الصفة وتسلم من ضدها قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» .
الرَّاحِمُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمُهمْ
مَنْ فِي السَّمَاءِ كَذَا عَنْ سَيِّدِ الرُّسُلِ
فَارْحَمْ بِقَلْبِكَ خَلْق اللهِ وَارْعَهُمُ
بِهِ تَنَالُ الرِّضَا وَالْعَفْوُ عَنْ زَلَلِ
اللهم وفقنا لسلوك سبيل أهل الطاعة وارزقنا الثبات عليه والاستقامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة وأمنا من فزع يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة أن الرحمة بالناس بل وبالحيوان عاطفة نبيلة وخلق شريف من أفضل الأعمال وأزكاها وأرفعها وأعلاها وناهيك بها أنها خلق الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.
ولقد مدح الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه فِي وصف رسوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وضدها القسوة التي عاقب الله بها اليهود لما نقضوا العهود إذ يقول جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} .(3/484)
فالرحمة فضيلة والقسوة رذيلة، فكان مجيء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته من عند الله رحمة لناس يتخبطون فِي بحر الأوهام والجهالات ومساوئ الأخلاق وسيء العادات وقبيح الأعمال يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار والأوثان والشمس والقمر، آلهتهم شتى وأربابهم متفرقة.
وَقَدْ فشي وعم الفساد وأظلم الجو وشمل الظلم العباد فالقوي يأكل الضعيف ولا مراقب له ولا مخيف، يئدون البنات ويقتلون الأولاد، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذهم الله به وأخرجهم به من الظلمات إِلَى النور من عبادة الأصنام وتعظيمها إِلَى معرفة الله وتوحيده، والتفكير فِي الإله وتمجيده وتقديسه.
وانتشلتم من أوهامهم وجهالاتهم وضلالاتهم ومساوئهم إِلَى الاهتداء بنور القرآن وتعاليمه عليه الصلاة والسلام فبعد أن كَانَوا قابعين فِي عقر دارهم قانعين فِي جزيرتهم إذا بهم يحملون إِلَى العالم أجمع رسالة النور والأمان والحق والسلام فيفتحون البلاد ويسوسون العباد بفضل مَا وهبهم الله من مَا تمكن فِي نفوسهم وقوي فِي أفئدتهم من حب الرحمة وابتغاء للرأفة بخلق الله ورغبته فِي العدل.
فكان مولده صلى الله عليه وسلم نعمة وبعثته رحمة لا تدانيها رحمة والرحمة صفة من صفات الله الذاتية الفعلية فهو رحمن الدنيا والآخرة وحدث جل وعلا عن رحمته فِي كتابه فقال {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الآية.
والنبي صلى الله عليه وسلم يرغبنا فِي الرحمة واللين والرفق والمسامحة بقوله وفعله فهو يقول: «من لا يرحم لا يرحم» . وهو القائل: «لا(3/485)
تنزع الرحمة إلا من شقي» . أي ولا تسكن إلا فِي قلب تقي فالرحمة فضيلة والقسوة والغلظة رذيلة وعمل منكر والرحمة لا تختص بالإنسان بل تعم الحيوان وكل ذي روح وإحساس.
فمن آثارها مَا يجده الوالد لولده وآثرها تقبيله ومعانقته وشمه وضمه وحنوه عليه كما صنع الله عليه وسلم بالحسين والحسن رضي الله عنهما ومن أثرها تأديبه وتربيته وإجابة رغائبه مَا دامت فِي سبيل المصلحة وإبعاده من الشر.
وتكون الرحمة بالآباء والأمهات وأثرها اللطف بهما والعطف عليهما والقول الكريم لهما وصنع الجميل فيهما والذب عنهما والحنو عليهما والشفقة عليهما وإظهار البشر لهما قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
ومن آثارها جريان الدمع مع العين وذرفها عند المصيبة كما كَانَ صلى الله عليه وسلم حال وفاة ولده جعلت عيناه تذرفان الدمع فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» .
ولذا أجاب الأعرابي الذي قال: أتقبلون صبيانكم فما نقبلهم قال له: «أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» ومن آثار الرحمة بالقريب والصديق أن تخصه بمزيد من البر والإحسان فتنفس كربه وتخفف ألمه وتفرج همه وتسعى لإزالة الشحناء ورفع البغضاء ويواسي فقره ويرشده عند الحيرة وينبهه عند الغفلة وينصحه إذا استنصحه ويعين العاجز ويعود(3/486)
المريض وينفس له فِي أجله ويشيع جنازته ونحو ذلك من الأعمال الصالحة النافعة والطريقة المجدية.
وتكون الرحمة بالأقرباء وأثرها وصلتهم وزيارتهم ومودتهم والسعي فِي مصالحهم ودفع مَا يضرهم وتكون الرحمة بين الزوجين وأثرها المعاشرة بالمعروف والإخلاص والوفاة المتبادل وأن لا ترهقه بالطلبات ولا يكلفها بالمرهقات بل يعاون على شؤون المنزل وتربية الأولاد بنفسه أو ماله أن كَانَ ذا سعة.
وتكون الرحمة بأهل دينك ترشدهم إِلَى الخير وتعلمهم مَا تقدر عليه مما ينفعهم وتأخذ بهم عن اللمم إِلَى سبيل الأمم وتعمل لعزهم ودفع المذلة عنهم وتكون رحيمًا بالمؤمنين جميعًا فتحب لهم مَا تحب لنفسك وتكره لهم مَا تكره لها.
ومن أثرها بالحيوان مَا جاء فِي حديث مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذ ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» .
وذلك بأن يرفق بها ولا يصرعها ويزعجها بغتة ولا يجرها من موضع إِلَى موضع بسرعة ترهقها وترهبها بل بلطف ولا يسرع بقطع الرأس ويسرع بقطع الحلقوم والمري والودجين ويتركها إِلَى أن تبرد لتخفيف ألمها بقدر الاستطاعة.
ومن الرحمة مَا يحدثنا به صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل(3/487)
يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب مِنْهَا ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» . قالوا: يا رسول الله وإن لنا فِي البهائم أجر؟ قال: «فِي كل كبد رطبة أجر» . والله أعلم. وصلى الله على محمد.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن للجار على جاره حق عظيم فِي الأديان كلها والشرائع والأوضاع كافة، والعرب كَانَوا يعظمون حق الجار ويحترمون الجوار فِي الجاهلية قبل الإسلام، ويعتزون بثناء الجار عليهم ويفخرون بذلك، والضعيف إذا جاور القوي صار قويًّا بإذن الله، له مَا لهم وعليه مَا عليهم، وحين جاء الإسلام أعزه الله وأكد حق الجوار وحث عليه وجعله بعد القرابة وكاد يورثه.
والجار يطلق ويراد به الداخل فِي الجوار ويطلق على المجاور فِي الدار، وعَلَى الساكن مع الإنسان فِي البلد، وعَلَى أربعين دارًا من كل جانب وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار والإسلام، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب، له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم» .
إذا عرفت ذلك فتعلم أن من توفيق الإنسان وسعادته أن يكون فِي بيته يشعر بالعطف واللطف عليه والتقدير له والمحبة له، ومن قلة توفيقه(3/488)
أن يكون بين جيران يضمرون الشر له والعداوة، ويدبرون له المكائد ويذمرون عليه خصومه.
فالشخص الذي بجانبه جيران سوء يعملون للإضرار به فِي نفسه أو ماله أو عرضه، ويحوكون له العظائم والدواهي، منغص عيشه، لا يهنأ له بال، غير مرتاح، تجده قلقًا مِنْهُمْ إن دخل أو خرج، ولا ينعم بمال، تراه مقطب الوجه، محزون النفس مكلوم الفؤاد.
وتجد أهله معهم فِي لجاج، كل ذلك من جار السوء، إما من قبل التسلط على أهله أو على أولاده، وإما بوضع أذية فِي طريقه أو فِي بيته، وأبتعد على ملكه أو بتجسس عليه بدون مبرر وإما بنظر وتطلع عليهم من نافذة أو باب أو سطح أو رمي حصا ونحوه عليهم أو نحو ذلك من أنواع الأذايا.
وربما اضطر إِلَى بيع منزله من أجل جار السوء، كما ذكر بعض من ابتلى بجار سوء اضطره إِلَى بيع ملكه قال فِي ذلك:
يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي ... وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغَّصُ
فَقُلْتُ لَهُمْ كُفُّوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا ... بِجِيرَانِهَا تَغْلُوا الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
آخر:
أَرَى دَارَ جَارِي عَنْ تَغَيَّب حُقْبَةً ... عَليَّ حَرَامًا بَعْدَهُ إِنْ دَخَلْتُهَا
قَلِيلٌ سَؤَالِي جَارَتِي عَنْ شُؤونِهَا ... إِذَا غَابَ رَبُّ الْبَيْتِ عَنْهَا هَجَرْتُهَا
أَلَيْسَ قَبِيحًا أَنْ يُخَبَّرَ أَنَّنِي ... إِذَا غَابَ عَنْهَا شَاحِطَ الدَّارِ زرْتُهَا
آخر:
اطْلُبْ لِنَفْسِكَ جِيرَانًا تُسَرُّ بِهِمْ ... لا تَصْلُحُ الدَّارُ حَتَّى يَصْلُحَ الْجَارُ
آخر:
شِرَى جَارَتِي سِتْرًا فُضُول لأَنَّنِي ... جَعَلْتُ جُفُونِي مَا حَيِيتُ لَهَا سِتْرَا(3/489)
وَمَا جَارَتِي إِلا كَأُمِّي وَإِنَّنِي ... لأَحْفَظُهَا سِرًّا وَاحْفَظُهَا جَهْرَا
بَعَثْتُ إِلَيْهَا انْعَمِي وَتَنَعَّمِي ... فَلَسْتُ مُحِلاً مِنْكِ وَجْهًا وَلا شَعْرَا
ويقول الآخر:
دَارِ جَارَ السُّوءِ بِالصَّبْرِ وَإِنْ
لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النُّقَلْ
آخر: ... إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْلُصْ عِبَادَةَ رَبِّهِ ... فَلا خَيْرَ فِيهِ وَابْتَعِدْ عَنْ جِوَارِهِ
وبعض الجيران يكون فيه خير وشر فهذا ربما تقابل منافعه مضاره وتتحمل مِنْه ذلك النقص لما فيه من الكمال وأما الآخر فهو شر مضرة بلا منفعة ونقصان بلا فائدة فكيف يعذر وهو بهذه الحالة.
عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي إِبْدَاءِ شَوْكٍ ... يَرِدْ بِهِ الأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ
فَمَا لِلْعَوْسَجِ الْمَذْمومِ يُبْدِي ... لَنَا شَوْكًا بِلا ثَمَرٍ نَرَاهُ
آخر: ... مَرِضْتُ وَلِي جِيرَة كُلُّهُمْ ... عَنِ الرُّشْدِ فِي صُحْبَتِي حَائِدُ
فَأَصْبَحْتُ فِي النَّقْصِ مِثْلَ الَّذِي ... وَلا صِلَةَ لِي وَلا عَائِدُ
آخر: ... وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ لا عَهْدَ عِنْدَهُمْ ... صَدَفتُ وَرَبِّ الْخَلْقِ صُحْبَة النَّاسِ
وَصِرْتُ جَلِيسُ الْكُتُبِ مَا عِشْتُ فِيهِمُ ... وَأَعْمَلْتُ حُسْنَ الصَّبْرِ عَنْهُمْ مَعَ الْيَأْسِ
آخر: ... وَزَهَّدَنِي فِي النَّاسِ مَعْرَفَتِي بِهِمْ ... وَطُولُ اخْتِبَارِي صَاحِبًا بَعْدَ صَاحِبِ
فَلَمْ أَرَى فِي الأَيَّامِ خَلا تَسُرُّنِي ... بِوَادِيهِ إِلا سَاءَنِي فِي الْعَوَاقِبِ
وَلا قُلْتُ أَرْجُوهُ لِدَفْعِ مُلِمَّةٍ ... أَتَتْنِي إِلا كَانَ إِحْدَى الْمَصَائِبِ
آخر: ... أَنْتَ فِي مَعْشَرٍ إِذَا غِبْتَ عَنْهُمْ ... جَعَلُوا كُلَّ مَا يَزِينُكَ شِينَا
وَإِذَا أَمَا رَأَوْكَ قَالُوا جَمِعيًا ... أَنْتَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيْنَا(3/490)
وعن أبي شريح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» . قيل من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» . رواه البخاري ومسلم فبين صلى الله عليه وسلم أن من هذا خلقه، وتلك دخيلته مع جاره غير مؤمن، وأكد ذلك بالحلف والتكرار ثلاث مرات.
وهل المؤمن إلا من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم وهل الإيمان إلا من الأمن؟ فإذا كَانَ الجار لجاره حربًا وعليه ضدا فكيف يكون من المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله لقد كَانَ الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره، ويساعده بكل مَا استطاع، ويعمل على جلب الخير له ودفع مَا يضره، حتى يكون فِي عيشة راضية وحياة طيبة، كما يعمل بعض الجيران المحسنين الذين يألفون ويؤلفون.
فقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب فيحسن التعاون بينهما، وتكون الرحمة والإحسان بينهما، فإذا لَمْ يحسن أحدهما لصاحبه فلا خير فيهما لسائر الناس.
أَعِينُ أَخِي أَوْ صَاحِبِي فِي بَلائِهِ ... أَقُومُ إِذَا عَضَّ الزَّمَانُ وَأَقْعُدُ
وَمَنْ يُفْرِدُ الإِخْوَانَ فِيمَا يَنْوبُهُمْ ... تَنْبِهُ اللَّيَالِي مَرَّةً وَهُوَ مُفْرَدُ
فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء مَا تيسر والصدقة والدعوة واللطافة به وإعانته والتوسيع عليه فِي معاملته وإقراضه، وعيادته وتعزيته عند المصيبة وتهنئته بما يفرحه، ويستر مَا انكشف له من عورة، ويغض بصره عن محارمه ويمنع أولاده وأهله من أذية أولاد جاره وأهلهم.
وإن بدا لهم حاجة قام بها، ولا يرفع على المذياع أو التلفزيون إن كَانَ يضرهم ويسهرهم وهو ممن ابتلى بهذا المنكر المحرم، ويعمل(3/491)
كل مَا فيه لهم ويقدر عليه ويدفع عنهم مَا يضرهم مَا استطاع فبهذه الأشياء تقع بإذن الله الألفة والمحبة.
وبها تحصل المودة، ويصبح المرء بين جيرانه محبوبًا موقرًا يتفقدونه إذا غاب ويسألون عنه ويعدونه إذا حضر مرغوبًا مرموقًا بالعناية مِنْهُمْ آمنًا مِنْهُمْ مطمئنًا إليهم يتبادلون المنافع.
روي أن إبراهيم بن حذيفة باع داره فلما أراد المشتري أن يشهد عليه قال: لست أشهد عليَّ ولا أسلمها حتى يشتروا مني جوار سعيد بن العاص وتزايدوا فِي الثمن قالوا: وهل رأيت أحدًا يشتري جوار أو يبيعه قال: ألا تشتري جوار من إن أسأت إليه أحسن وإن جهلت عليه حلم وإن أعسرت وهب لا حاجة لي فِي بيعكم ردوا عليَّ داري.
فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث غليه بمائة ألف درهم وروى المدائني أنه باع جار لفيروز داره بأربعة آلاف درهم فجيء بها فقال البائع: هذا ثمن داري فأين ثمن جاري قال: ولجارك ثمن قال: لا أنقصه والله عن أربعة آلاف درهم.
فبلغ ذلك الفيروز فأرسل إليه بثمانية آلاف درهم وقال: هذا ثمن دارك وجارك وألزم دارك لا تبعها. أين هؤلاء من أكثر جيران زمننا لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجرتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولادًا كَأنَهم فِي معزل عن الآيات والأحاديث الواردة فِي الجوار وحقوقه ولبعضهم ممن بلي بجاره السوء:
أَلا مَنْ يَشْتَرِي جَارًا نَؤُومًا ... بِجَارٍ لا يَنَامُ وَلا يُنِيمُ
وَيَلْبِسُ بِالنَّهَارِ ثِيَابَ نُسْكٍ ... وَشَطْرُ اللَّيْلِ شَيْطَانٌ رَجِيمُ
وقيل ابن المقفع كَانَ بجوار داره دار صغيرة وكان يرغب فِي شرائها(3/492)
ليضيفها إِلَى داره وكان جاره يمتنع من بيعها ثم ركبه دين فاضطر إِلَى بيعها وعرضها على جاره بن المقفع فقال: مَا لي بها حاجة. فقيل له: ألست طلبت مِنْه شرائها. فقال: لو اشتريتها الآن مَا قمت بحرمة الجوار لأنه الآن يريد بيعها من الفقر ثم دفع إِلَى جاره ثمن الدار وقال: ابق بدارك وأوف دينك لله دره.
قال علي بن أبي طالب للعباس: مَا بقي من كرم إخوانك قال: الأفضال على الإخوان وترك أذى الجيران قال الشاعر:
شِعْرًا: ... سَقْيًا وَرَعْيًا لِجِيرَانٍ نَزَلْتُ بِهِمْ ... كَأَنَّ دَارَ اغْتِرَابِي عِنْدَهُمْ وَطَنِي
إِذَا تَأَمَّلْتُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ خُلُقًا ... عَلِمْتُ أَنَّهُمُوا مِنْ حِلْيَةِ الزَّمَنِ
آخر: ... إِذَا خِفْتَ الْمَوَّدَةَ وَاسْتَقَامَتْ ... فَلا تَجْزَعَ وَإِنَّ بَعْدَ اللِّقَاءُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبِعَادُ أَغَابَ وَجْهِي ... فَلَمْ تَغِبْ الْمَوَدَّةُ وَالصَّفَاءُ
وَلَمْ يَزَلْ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ مِنِّي ... مَعَ السَّاعَاتِ يَتْبَعُهُ الدُّعَاءُ
آخر: ... أَحْبَابُنَا مَا غِبْتُمْ مُذْ بِنْتُمُوا ... فَأَبُثُّكُمْ شَوْقِي وَأَسْأَلُ عَنْكُمْ
بِنْتُمْ على حُكْمِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ فِي ... حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَنَّكُمْ قَدْ بِنْتُمُوا
أَنْتَمْ إِذَا اطَّرَدَ الْقِيَاسُ أَنَا وَإِنْ ... عُكِسَ الْقِيَاسُ فَإِنَّنِي أَنَا أَنْتُمُوا
آخر: ... تَطَاوَلَ لَيْلِي بِالرِّيَاضِ وَلَمْ يَكُنْ ... عَلَى بحَارَاتِ الْقَصِيمِ يَطُولُ
فَهَلْ لِي إِلَى أَرْضِ الْقَصِيمِ بِرَجْعَةٍ ... أُقِيمُ بِهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ قَلِيلُ
وَلاسِيَّمَا فِي حَارَةٍ قَدْ سَكَنْتُهَا ... ثَلاثِينَ عَامًا أَوْ تَزِيدُ قَلِيلُ
آخر: ... إِذَا أَنَا لا أَشْتَاقُ أَوَّلَ مَنْزِلٍ ... غُذِيتُ بِخَفْضٍ فِي ذُرَاهُ وَلِينِ
مِنَ الْعَقْلِ أَنْ اشْتَاقُ أَوَّل مَنْزِلٍ ... غُذِيتُ بِخَفْضٍ فِي ذُرَاهُ وَلِينِ
آخر: ... يَقِيمُ الرِّجَّالُ الْمُوسِرُونَ بِأَرْضِهِمْ ... وَتَرْمِي النَّوَى بِالْمُفْتَرِين الرَّامِيَا
وَمَا تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ عَنْ مَلالَةٍ ... وَلَكنْ حِذَارًا مِنْ شَمَاتِ الأَعادِيَا
يَا مَنْ تَحَوَّلَ عَنَّا وَهُوَ يَأْلَفُنَا ... بَعُدْتَ عَنَّا أَبَعْدَ الآنَ تَلْقَاَنَا(3/493)
.. فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مُذْ فَارَقْتَ جِيرَنَنَا ... بُدِلْتَ جَارًا وَمَا بُدِّلْتَ جِيرَانَا
فكتب إليه جاره:
بَعُدْتُ عَنْكُمْ بِدَارِي دُونَ خَالِصَتِي ... وَمَحْضُ وُدِّي وَعَهْدِي كَالَّذِي كَانَا
وَمَا تَبَدَّلَتُ مُذْ فَارَقْتُ قُرْبُكُمْ ... إِلا هُمُومًا أُعَانِيهَا وَأَحْزَانَا
وَهَلْ يُسَرُّ بِسُكْنَى دَارِهِ أَحَدٌ ... وَلَيْسَ أَحْبَابُهُ لِلدَّارِ جِيرَانَا
آخر: ... أَقُولُ لِجَارِي إِذْ أَتَانِي أَحَدٌ ... وَلَيْسَ أَحْبَابُهُ لِلدَّارَ جَيرَانَا
إِذَا لَمْ يَصَلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُخَاصِمًا ... يَدُلُّ بِحَقّ أَوْ يَدل بِبَاطِلِ
إِذَا لَمْ يَصَلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرِي ... إِلَيْكَ فَمَا شَرِّي إِلَيْكَ بِوَاصِلِ
آخر: ... إِنِّي لأَحْسِدُ جَارَكُمْ لِجِوَارِكُمْ ... طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى لِدَارِكَ جَارَا
يَا لَيْتَ جَارَكَ بَاعَنِي مِنْ دَارِهِ ... شِبْرًا فَأُعْطِيهِ بِشِبْرٍ دَارَا
آخر: ... يَا حَبَّذَا وَطَنُ كُتَّابِهِ زَمَنًا ... فِيهِ السُّرُورُ على يُسْرٍ وَإِعْسَارِ
وَحَبَّذَا نَاعِم مِنْ تُرْبِه عَبِقٌ ... هَبَّتْ عَلَيْهِ رِيَاحُ غِبَّ أَمْطَارِ
أَحِبُّهُ وَبِلادُ اللهِ وَاسِعَةٌ ... حُبَّ الْبَخِيلِ غِنَاهُ بَعْدَ إِقْتَارِ
وَلَسْتُ أَوَّلَ مُشْتَاقٍ إِلَى وَطَنٍ ... مَعَ الأَقَارِبَ وَالأَصْحَابِ وَالْجَارِ
آخر: ... سَقَى اللهُ نَجْدًا وَالْقَصِيمَ أَخُصُّهُ ... سَحَابَ غَوَادٍ خَالِيَاتٍ مِنَ الرَّعْدِ
آخر: ... يَا حَبَّذَا أَزَمُنٌ فِي مَنْزِل سَلَفْتَ ... مَا أَقْصَرَ وَقْتَهَا عُمْرًا وَأَحْلاهَا
أَوْقَاتُ أُنْس قَضَيْنَاهَا فَمَا ذُكِرَتْ ... إِلا وَقَطَّعَ قَلْبَ الْمَرْءِ ذِكْرَاهَا
آخر: ... وَمِنْ مَذْهَبِي حُبُّ الدِّيَا الَّتِي بِهَا ... وُلِدتُ وَحُبُّ الْمُتَّقِينَ بِأَرْضِهَا
آخر: ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْعَ الْعُهُودَ الَّتِي مَضَتْ ... فَلَسْتَ بِرَاع عَهْدَ أَهْلِ الْمَنَازِلِ
وَلاسِيَّمَا دَارًا وُلِدَتَ بِرَبْعِهَا ... وَكُنْتُ بِهَا جَدْلا فِي خَيْرِ آهِلِ يُرِيدُ الْقَصِيمِ
آخر: ... إِذَا زُرْتَ أَرْضِي بَعْدَ طُولِ تَغَرُّبٍ ... فَقَدْتُ صَدِيقِي وَالْبِلادُ كَمَا هِيَا
فَأَكْرِمْ أَخَاكَ الْمُخْلِصَ الْوِدَّ إِنَّمَا ... كَفَى بِالْمَمَاتِ فُرْقَةً وَتَنَائِيَا(3/494)
آخر: ... بِذَيَّالِكَ الْمَنْزِلْ أَهِيمُ وَلَمْ أَقُلْ ... بِذَيَّالِكَ الْمَنْزِلْ وَذَيَّاكَ مِنْ زُهْدِ
وَلَكِنْ إِذَا مَا حَبَّ شَيْء تَوَلَّعَتْ ... بِهِ أَحْرُفُ التَّصْغِيرِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجْدِ
سَقَى اللهُ نَجْدًا وَالْقَصِيمَ أَخُصُّهُ ... سِحَابُ غَوَادٍ خَالِيَاتٍ مِنَ الرَعْدِ
آخر: ... بِلادٌ بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ نُحِبُّهَا ... إِذَا النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلادُ بِلادُ
آخر من يهوى التنقل تبع المصالح الدنيوية:
نَقْلِ رِكَابَكَ فِي الْفَلا ... وَدَعِ الْغَوَانِي فِي الْقُصُورْ
لَوْلا التَّغَرُّبُ مَا ارْتَقَى ... درَرُ الْبُحُورِ إِلَى النُّحُورْ
فَمُحَا لِفُوا أَوْطَانِهِمْ ... أَمْثَالُ سُكَّانِ الْقُبُورْ
آخر: ... كُلُّ الْمَنَازِلِ وَالْبِلادِ عَزِيزَةً ... عِنْدِي وَلا كَمَوَاطِنِي وَبِلادِي
آخر: ... مَا مِنْ غَرِيبٍ وَلَنْ أَبْدَى ... تَجَلَّدَهُ إِلا تَذَكَّر عِنْدَ الْغُرْبَةِ الْوَطَنَا
آخر: ... إِنَّ الْوَدَاع مِنَ الأَحْبَابُ نَافلة ... لِلظَّاعِنِينَ إِذَا مَا يَمَّمُوا بَلَدَا
وَلَسْتُ أَدْرِي إِذَا شَطَّ الْمَزَارُ بِهِمْ ... هَلْ تَجْمَعُ الدَّارُ أَمْ لا نَلْتَقِي أَبَدَا
دَارُ سَكَنَا بِهَا مُذْ كَانَ نَشَأَتُنَا ... فِيهَا الْقَرِيبُ وَأَصْحَابُ لَنَا سَنَدَا
آخر: ... كَمْ مَنْزِلٍ فِي الأَرْضِ يَأْلَفُه الفْتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لأَوَّلِ مَنْزِلِ
آخر: ... وَلا تَيْأَسَا أَنْ يَجْمَع اللهَ بَيْنَنَا ... كَأَحْسَنِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ تَصَافِيَا
فَقَدْ يَجْمَعُ اللهَ الشَّتْيتينِ بَعْدَمَا ... يَظُنَّانِ كُلُّ الظَّنِّ أَنْ لا تَلاقِيَا
قال ابن عبد البر: ثلاث إذا كن فِي الرجل لَمْ يشك فِي عقله وفضله إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه وإليك طرف فِي الحث على الإحسان إِلَى الجار والبعد عن أذيته.
وَقَدْ جاء فِي الحديث النبوية التحذير من إيذاء الجار، والترغيب فِي الإحسان إليه، فعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه» . متفق عليه.(3/495)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» . متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» . رواه مسلم.
وفي رواية له عن أبي ذر قال إن خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم مِنْهَا بمعروف» .
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «مَا تقولون فِي الزنا» ؟ قالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فهو حرام إِلَى يوم القيامة. قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» .
قال «مَا تقولون فِي السرقة» ؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من جاره» . رواه أحمد واللفظ له، ورواته ثقات والطبراني فِي الكبير والأوسط.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه» . رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وإسناد أحمد جيد.
لِلْجَارِ حَقُّ إِذَا أَدَّيْتَ وَاجِبَهُ ... جَازَاكَ رَبُّكَ بِالإِحْسَانِ إِحْسَانَا
فَأَوَّلْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَاثْنِينَّ بِهِ ... وَإِنْ أَتَى سَبَّهُ جَازَيْتَ غُفْرَانَا
آخر: ... وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ عَوْرَاتِ مَنْزِلِهِ ... وَأَوْلِهِ مِنْكَ لُطْفًا حَيْثُمَا كَانَا
جَارِي أَرَى حِفْظَهُ حَقًّا وَنُصْرَتَهُ ... فَلَسْتُ أُسْلِمُ جَارِي عَزَّ أَوْهَانَا
إِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَنَا نَزَحَتْ ... فَأَنْتُمُوا فِي سُوَيْدَا الْقَلْبِ سُكَّانُ
وَاللهِ مَا غَيَّرَتْنِي سَلْوةً عَرَضَتْ ... وَلا انْطَوَى لِي على الْهجْرَان جُثْمَانُ
وَكَيْفَ أَنْسَاكُمْ وَالْقَلْبُ عِنْدَكُمْ ... وَفِي الْحَشَا مِنْكُمْ وَجْدَ وَأَشْجَانُ
لا تَهْجُروا وَافِيًا يَرْعَى ذِمَامَكُمْ ... فَيَبْلُغُ الْغَرضَ الْحُسَّادُ لا كَانَوا(3/496)
قال بعضهم على لسان من فارقه من يألفه ويحبه:
كََيْفَ السَّبِيلُ وَقَدْ شَطَّتْ بِنَا الدَّارُ ... أَمْ كَيْفَ أَصْبرُ وَالأَحْبَابُ قَدْ سَارُوا
وَمَنْزِلُ الأُنْسُ أَضْحَى بَعْدَ سَاكِنِهِ ... مُسْتَوْحِشًا حِينَ غَابَتْ عَنْهُ أَقْمَارُ
مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالدَّارُ تَجْمَعُنَا ... وَالْعَيْشُ مُتَّصِلٌّ وَالْوَصْلُ مِدْرَارُ
يَا سَاكِنِينَ بِقَلْبِي أَيْنَمَا رَحَلُوا ... وَرَاحِلِينَ بِقَلْبِي أَيْنَمَا سَارُوا
غِبْتُمْ فَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا لِغَيْبَتِكُمْ ... وَضَاقَ مِنْ بَعْدِكُمْ رَحْبٌ وَأَقْطَارُ
لَيْتَ الْغَرَابُ الَّذِي نَادَى بِفْرِقَتِكُمْ ... عَارٍ مِن الرِّيشِ لا تَحْوِيهِ أَوْكَارُ
بَعْدَ النَّعِيمِ بَعُدْنَا عَنْ مَنَازِلِنَا ... وَبَعْدَ أَحْبَابِنَا شَطَّتْ بِنَا الدَّارُ
وقال آخر:
دَعُونِي على الأَحْبَابَ أَبْكِي وَأَنْدُبُ ... فَفِي الْقَلْبِ مِنْ نَارِ الْفُرَاقِ تَلَهُّبُ
وَلا تَعْتِبُونِي إِنْ جَرَتْ أَدْمُعِي دَمًا ... فَلَيْسَ لِقَلْبٍ فَارَقَ الإِلْفَ مَعْتَبُ
دَعُونِي على الأَحْبَابَ أَبْكِي وَأَنْدُبُ ... فَفِي الْقَلْبِ مِنْ نَارِ الْفُرَاقِ تَلَهُّبُ
وَلا تَعْتِبُونِي إِنْ جَرَتْ أَدْمُعِي دَمًا ... فَلَيْسَ لِقَلْبٍ فَارَقَ الإِلْفَ مَعْتَبُ
لَقَدْ جَرَحَ التَّفْرِيقُ قَلْبِي بِنَبْلِهِ ... فَمِنْ دَمِّهِ دَمْعِي على الْخَدِّ يَسْكُبُ
أَأَحْبَابُنَا مَا بِاخْتِيَارِي فُرَاقُكُمْ ... وَلَكِنْ قَضَاءَ اللهِ مَا مِنْه مَهْرَبُ
وَمَا كَانَ ظَنِّي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَنَا ... وَسُرْعَةَ هَذَا الْبَيْنِ مَا كُنْتُ أَحْسِبُ
أَجُولِ بِطَرْفِي بَعْدَكُمْ فِي دِيَارِكُمْ ... فَارْجَعْ وَالنِّيرَانِ فِي الْقَلْبِ تَلْهَبُ
آخر: ... بَكَيْتُ عَلَى الأَحِبَّةِ حِينَ سَارُوا ... وَأَزْعَجَنِي الرَّحِيلُ فَلا قَرَارُ
أُنَادِيهِمْ بِصَوْتِي أَيْنَ حَلُّوا ... وَفِي قَلْبِي مِنَ الأَشْوَاقِ نَارُ
يَقُولُ لِي الْعَذُولُ وَقَدْ رَآنِي ... وَفِي حَالِي لِمَنْ عَشَقَ اعْتِبَارُ
أَتَجْهَرُ مَنْ تُحِبُّ وَأَنْتَ جَارُ ... وَتَطْلُبُهُ وَقَدْ شَطَّ الْمَزَارُ
وَتَبْكِي عِنْدَ فُرْقَتِهِ اشْتِيَاقا ... وَتَسْأَلُ فِي الْمَنَازِلِ أَيْنَ سَارُوا(3/497)
.. لِنَفْسِكَ لَمْ وَلا تَلم الْمَطَايَا ... وَمُتْ كَمَدًا فَلَيْسَ لَكَ اعْتِذَارُ
موعظة: عباد الله لقد تباعدت القلوب فِي هذا الزمان تباعدًا ينبغي أن يبكي له أشد البكاء، وأصبحنا بهذا التباعد لا أخاء بيننا، والسبب الوحيد فِي ذلك أن عشقنا الدنيا قضى نهائيًا على كل محبوب، وأصبح الهدف الوحيد هو الحصول عليها من أي طريق كَانَ، فالقلب واللسان والجوارح مشغولة ليلاً ونهارًا فِي طلب الدنيا، فهي المنتهى والمشتهى على حد قول الشاعر فيها وهي تلقب أم دفر والدفر النتن:
أَبَى الْقَلْبُ إِلا أُمَّ دَفْرٍ كَمَا أَبَى ... سِوَى أُمَّ عَمْروٍ مُوجَعُ الْقَلْبِ هَائِمُ
هِيَ الْمُنْتَهَى وَالْمَشْتَهَى وَمَعَ السُّهَى ... أَمَانِي مِنْهَا دُونُهُنَّ الْعَظَائِمُ
وَلَمْ تَلْقَنَا إِلا وَفِينَا تَحَاسُدٌ ... عَلَيْهَا وَإِلا فِي الصُّدُورِ سَخَائِمُ
آخر: ... نَعَمْ إِنَّهَا الدُّنْيَا إِلَى الْغَدْرِ دَعْوَةً ... أَجَابَ إِلَيْهَا عَالِمٌ وَجَهُولُ
فَفَارَقَ عَمْرُو بن الزُّبَيْرِ شَقِيقَهُ ... وَخَلَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَقِيلُ
آخر: ... عَجِبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَذَمِّي نَعِيمَهَا ... وَحُبِّي لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ بَاطِنُ
وَقَوْلِي أَعِذْنِي رَبِّ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ ... وَأُكْلَفُ مِنْهَا بِالَّذِي هُوَ فَاتِنُ
آخر: ... أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لا يَسْأَمُونَهَا ... عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَت تُحَبّ كَأَنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيب تَقَشَّعُ
آخر: ... لِسَانُكَ لِلدُّنْيَا عَدُوٌ مُشَاحِنٌ ... وَقَلْبُكَ فِيهَا لِلسَانِ مُبَايِنُ
وَمَا ضَرَّهَا مَا كَانَ مِنْكَ وَقَدْ صَفَا ... لَهَا مِنْكَ وَدٌ فِي فَؤُادِكَ كَامِنُ
فللدنيا يعق الولد أباه ويقاطع أخاه، وهو يعرف تمامًا أنه شقيقه وللدنيا المشاغبات بين الجيران والمتعاملين فللدنيا مكانة اليوم أنست الخلق خالقهم ورازقهم فإن حضروا للصلاة فالأبدان حاضرة والقلوب مع الدنيا، فعلت الدنيا بالناس اليوم أفاعيل كنت تخطر على البال، ومن أجل الدنيا ترى الخلق فِي قلاقل وأهوال.
زر المحاكم وانظر ترى العجب العجاب، كل ذلك وأعظم مِنْه(3/498)
سببه حب الدنيا والانهماك فيها فأين نحن من سلفنا الصالح الذين قال الله تعالى فِي وصفهم: {أَشِدَّاء على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} فانظر شهادة الله لهم أنهم رحماء بينهم وهل تقتضي الرحمة إلا عطفًا مِنْهُمْ على إخوانهم وإحسانًا، وانظر إِلَى قوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
هكذا يكون المؤمنين، لذلك كَانَت هيبتهم فِي نفوس أعدائهم ترتعد مِنْهَا فرائض الشجعان وكانوا سادة الدنيا يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فإن كنت فِي شك مما ذكرنا لك فانظر إلى مَا ذكره المحققون من المؤرخين.
اللهم اجمع قلوب المؤمنين على محبتك وطاعتك، وأزل عنهم مَا حدث من المنكرات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» .
قلت: يا رسول الله وما بوائقه؟ قال: «غشمه وظلمه ولا يكسب مالا ًمن حرام فينفق مِنْه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيقبل مِنْه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كَانَ زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ(3/499)
ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبث لا يمحو الخبيث» . رواه أحمد.
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره قال: «أطرح متاعك على الطريق» . فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقيت من الناس، قال: «وما لقيت مِنْهُمْ» ؟ قال: يلعنوني.
قال: «قَدْ لعنك الله قبل الناس» . فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارفع متاعك فقد كفيت» . رواه الطبراني، والبزار بإسناد حسن بنحوه إلا أنه قال: «ضع متاعك على الطريق» . فوضعه فكان كل من مر به قال: مَا شأنك قال: جاري يؤذيني، قال: فيدعون عليه، فجاء جاره فقال: رد متاعك فإني لا أؤذيك أبدَا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال: «اذهب فاصبر» . فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك فِي الطريق» . ففعل فجعل الناس يمرونه ويسألونه فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه، فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه. رواه أبو داود واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وعن مطرف بن عبد الله قال: كَانَ يبلغني عنك حديث وكنت أشتهي لقائك قال: لله أبوك قَدْ لقيتني فهات. قلت: حديث بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثك، قال: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» . قال فلا أخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/500)
قال: فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل قال: رجل غزَا فِي سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قتل وأنتم تجدونه عندكم فِي كتاب الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .
قلت: ومن؟ قال: (ورجل كَانَ له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت) . فذكر الحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده واحد إسنادي أحمد رجالهما محتج بهم فِي الصحيح ورواه الحاكم وغيره بنحوه وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعن نافع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهني والمسكن الواسع» . رواه أحمد ورواته رواة الصحيح.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني. وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» . رواه ابن حبان فِي صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أن فلانة تكثر من وصلاتها وصدقتها وصيامها غير إنها تؤذي جيرانها بلسانها.
قال: «هي فِي النار» . قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي فِي الجنة» . رواه أحمد والبزار وابن حبان فِي صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضًا ولفظه وهو لفظ(3/501)
بعضهم قالوا: يا رسول الله فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، قال: «هي فِي النار» . قالوا: يا رسول الله فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي فِي الجنة» .
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من الفواقر، إمام إن أحسنت لَمْ يشكر وإن أسأت لَمْ يغفر، وجار سوء إن رأى خيرًا دفنه، وإن رأى شرًّا أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك» . رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.
وفي حديث أنس: «اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة قاطع رحم وجار سوء» . وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
عباد الله لقد كَانَ سلفنا فِي محبة بعضهم بعضًا آية من الآبيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كَانَوا فِي محبة الخير لبعضهم على أرقى مَا يتصور فِي الدرجات.
وهل يتصور أن يكون فِي أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه» .
وإن الخجل ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار فِي نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل(3/502)
بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما مَا ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كَأنَه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب مَا هو السبب فِي ذلك فألق سمعك وأحضر قلبك.
فأقول: لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل مَا سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لَمْ يبق فِي القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد فِي هذا الزمان.
فالقلوب فِي سرور مَا دام المال سالمًا وإن انهار بناء الشرف والدين والنفوس فِي هدوء وطمأنينة مَا ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم فِي تواصل مَا لَمْ يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.
وهذا من ثمرات البخل قال بعضهم: البخيل يستعجل الفقر الذي هرب مِنْه ويفوته الغنى الذي يطلبه فيعيش فِي الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فالبخيل هو الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته وتجده ليله ونهاره مستغرق فِي جمع المال لا يفتر خوفًا من الفقر وهذا هو الفقر كما قيل:
وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ
آخر: ... يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ
كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِييهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرِهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
آخر:
وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ
كَكَلْبِ الصَّيْدِ يَمْسِكَ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ(3/503)
أما علم هؤلاء أن المال الذي كَانَ بأيدينا كَانَ قبلنا بيد إخواننا فِي الإنسانية الذين سبقونا إِلَى الدنيا ثم انتقل على من بعدهم من جيل إِلَى جيل إِلَى أن وصل سعد به صرفه مراضي الله وشقي به من صرفه فِي مَا يغضب الله.
ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينتقل عنك فِي أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك وأعلم أنك والله ميت وموروث عنك مَا جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسأل عنه هللة وقرشًا قرشًا.
وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاءً تستغيث فلا تغاث وتتمنى لو كَانَت الدنيا بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.
الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك فِي طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الأوان وبقي الندم والحرمان.
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} .
لقد أنسى حب هذا المال مَا لهم من شرف ومروءة ودين(3/504)
وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله:
وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا
فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتُ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا
أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كَانَ نكبة على أصحابه وكذاك الأولاد إن كَانَوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعَلَى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كَانَ يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون عليَّ عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وان رأى شرًا أفشاه) .
وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال: لا خير فيه. قيل: ولم يا نبي الله؟ قال: لأنه يجمع من غير حل. قيل: فإن جمع من حل؟ قال: لا يؤدى حقه. قيل: فإن أدى حقه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء. قيل: فإن سلم؟ قال: يشغله عن ذكر الله. قيل: فإن لَمْ يشغله. قال: يطيل عليه حسابه يوم القيامة.
فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا وورد عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال: كَانَ بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام فِي المسجد فقال عمار: أسأل الله تعالى إن كنت كاذبًا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطئ عقبك. وورد عن حذيفة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم فِي المائتين كل خفيف الحاذ» . قالوا: يا رسول الله وما الخفيف الحاذ؟ قال: «الذي لا أهل له ولا ولد» .
شِعْرًا: ... يَقُولُ الَّذِي يَرْجُو مِنَ اللهِ عَفْوَُه
وَيَرْجُوهُ نَصْرًا عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ
لِمَنْ يَتَّقِي الْمَوْلَى وَيَرْجُو لِقَاءَهُ
وَعَمَّا يَقُولُ النَّاسُ لَيْسَ بِسَائِلِ(3/505)
أَقُولُ بِحَمْدِ اللهِ قَوْلاً مُنَقَّحًا
وَلَوْ أَنَّ فَهْمِي قَاصِر فِي الْمَسَائِلِ
عَلَيْهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ شَوَاهِدٌ
إِذَا قُلْتُهُ يَهْوِي لَهُ كُلَّ عَاقِلِ
أَسِرُّ بِمَا بِي وَالْعُيُونُ عَوَابِرٌ
بِدَمْعٍ على الْخَدَّيْنِ ثَجًّا بِوَابِلِ
وَفِي مُدَّعِي الإِسْلامِ قَلْبِي كََأَنَّهُ
عَلَى الْمُهْلِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنْهُمْ بِذَاهِلِ
فَمَا بَيْنَ دَهْرِي وَمَا بَيْنَ مُشْرِكٍ
وَلَمْ يَعْرِفِ الإِسْلامَ غَيْرُ الْقَلائِلِ
وَلَوْ بَذَلُوا الأَمْوَالَ نَفْلاً لِرَبِّنَا
إِذَا الْفَرْضُ ضَاعَ لا غِنَى بِالنَّوَافِلِ
تَرَكْنَا الْكِتَابَ وَالْحَدِيثَ وَرَاءَنَا
لأَجْلِ مَجَلاتٍ أَتَتْ بِالتَّهَازُلِ
لَقَدْ حَصَّلَ الْمَقْصُودَ مِنَّا عَدُوَّنَا
وَمَقْصُودُنَا مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِحَاصِلِ
مَشَيْنَا جَمِيعًا فِي فَسَادِ صَلاحِنَا
وَرُمْنَا مَرَامًا خَاسِرًا غَيْرَ طَائِلِ
وَتَسْتَعْجِبُ الأَعْدَاءُ مِنَّا لأَنَّنَا
كَمِثْلِ الْقَطَا تَصْطَادُنَا بِالْحَبَائِلِ
أَحَاطَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
كَأَنَّا طَعَامٌ قَدَّمُوهُ لآكِلِ
ج(3/506)
وَصَارُوا بِحَارًا يُغْرِقُ الْفُلْكَ مَوْجُهَا
وَنَحْنُ لَهُمْ صِرْنَا كَمِثْلِ الْجَدَاوِلِ
وَنَخْتَرِعُ الأَعْدَاءِ لِلْحَرْبِ قُوَّةً
وَقَدْ هَدَّدَتْ مَنْ لَمْ يُطِعُ بِالْقَنَابِلِ
وَلَيْسَ لَنَا مِنَّا زَعِيمٌ مُصَادِمٌ
أَتَتْ تَتَمَطَّى مَا لَهَا مِنْ مُقَابِلِ
وَنَحْنَ هَبَطْنَا لِلتُّرَابِ تَوَاضُعًا
نُرِيدُ نَجَاحًا مِنْ خَفِيفِ الْقَسَاطِلِ
(فَتَبًّا لِعَبْدٍ الدَّنَانِيرِ كُلُّهُمْ
وَتَبًّا لِخَبٍّ جَاهِلٍ مُتَعَاقِلِ)
وَتَبًّا لِقَوْمٍ عَزَّ فِيهِمْ سَفِيهُهُمْ
وَصَارَ ذَلِيلاً عِنْدَهُمْ كُلُ فَاضِلِ
وَمِنْ أَعْظَمِ الْخُسْرَانِ عِزُّ عَدُوِّهِمْ
وَذُلِّهُمْ مِنْ بَعْدَ عِزِّ الأَوَائِلِ
فَيَا لَيْتَ لِلإِسْلامِ فِي الْحَالِ شَوْكَةً
ذُووا نَجْدَةٍ يَخْشَاهُمُ كُلَّ جَاهِلِ
رِجَالٌ يَرَوْنَ الْمَوْتَ مَجْدًا وَجَنَّةً
عَنِ الذُّلِّ مِنْ فِعْلِ الصُّقُورِ الْحِلاحِلِ
تَذُودُ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ بِسَيْفِهَا
وَمِنْ أَرْضِهَا تَنْفِي جَمِيعَ الأَرَاذِلِ
اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا(3/507)
وآصالنا واجعل إِلَى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومما حث الشارع عليه وهو من سنن المرسلين إكرام الضيف قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} .
ويذكر أنه كَانَ لا يأكل طعامه إلا مع ضيف وإن لَمْ يأته أحد خرج يلتمس ضيفَا وقال صلى الله عليه وسلم: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . ورغب فيها صلى الله عليه وسلم وقال: «من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وقرى الضيف دخل الجنة» .
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو رضي الله عنهما: «فإن لجسدك عليك حقَّا وإن لعينك عليك حقَّا وإن لزورك عليك حقَّا» . والحديث رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إِلَى بعض نسائه فقالت: لا والذي بعثك بالحق مَا عندي إلا ماء ثم أرسل إِلَى الأخرى فقالت: مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق مَا عندي إلا ماء.(3/508)
فقال: «من يضيف هذا الليلة رحمه الله» . فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إِلَى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني قال: فعلليهم بشيء فإذا أرادوا العشاء فنوميهم فإذا دخل ضيفا فأطفئي السراج ورأيه أنا نأكل.
وفي رواية فإذا أهوى ليأكل فقومي إِلَى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَدْ عجب الله من صنيعكما بضيفكما» . زاد فِي رواية فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وعن أبي شريح خويلد بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كَانَ بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه» . رواه مالك والبخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه» . رواه أحمد ورواته ثقات والحاكم.
وعن شهاب بن عباد أنه سمع بعض وفد عبد القيس وهم يقولون: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد فرحهم فلما انتهينا إِلَى القوم أوسعوا لنا فرحب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لنا.
ثم نظر إلينا فقال: «من سيدكم وزعيمكم» . فأشرنا جميع إِلَى المنذر بن عائد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهذا الأشج فكان أول يوم وضع عليه الاسم لضربة كَانَت فِي وجهه بحافر حمار» . قلنا: نعم يا رسول الله فتخلف بعد القوم فعقل رواحلهم وضم متاعهم.(3/509)
ثم أخرج عيبته فألقى عنه ثياب السفر ولبس من صالح ثيابه ثم أقبل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بسط النبي صلى الله عليه وسلم رجله واتكأ فلما دنا مِنْه الأشج أوسع القوم له وقالوا: ها هنا يا أشج فقال النبي صلى الله عليه وسلم واستوى قاعدًا وقبض رجله: «ها هنا يا أشج» . فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحب به وألطفه وسأله عن بلادهم وسمى لهم قرية الصفا والمشقر وغير ذلك من قرى هجر.
فقال: بأبي وأمي يا رسول الله لأنت أعلم بأسماء قرانا منا فقال: «إني وطئت بلادكم وفسح لي فيها» ثم أقبل على الأنصار فقال: «يا معشر الأنصار أكروما إخوانكم أشباهكم فِي الإسلام شيء بكم أشعارًا وأبشارًا أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين إذ أبى قوم أن يسلموا حتى قتلوا» .
قال: فلما أصبحوا قال: «كيف رأيتم كرامة إخوانكم وضيافتهم إياكم» . قالوا: خير إخوان ألانوا فرشنا وأطابوا مطعمنا وباتوا وأصبحوا يعلمونا كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرح. رواه أحمد بإسناد صحيح.
وإكرام الضيف يكون بحسن استقباله ويقابله بوجه ويهش به ويبش ويرحب به ويؤهل ويظهر له من السرور مَا تطيب به نفسه ويطمئن به قلبه من حسن حديث مما يناسب حاله ومقامه وابتسام ومداعبة فِي حشمه واحترام وقديمًا قيل:
إِذَا الْمَرْءُ وَافَى مَنْزلاً لَكَ قَاصِدًا ... قَرَاكَ وَأَرْمَتْهُ لَدَيْكَ الْمَسَالِكُ
فَكُنْ بَاسِمًا فِي وَجْهِهِ مُتَهَلِّلاً ... وَقُلْ مَرْحَبًا أَهْلاً وَيَوْمٌ مُبَارَكُ
وَقَدِّمْ لَهُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الْقِرَا ... عَجُولاً وَلا تَبْخَلْ بِمَا هُوَ هَالِكُ
فَقَدْ قِيلَ بَيْتٌ سَالِفٌ مُتَقَدِّمٌ ... تَدَاوَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرُو وَمَالِكُ
(بَشَاشَةُ وَجْهِ الْمَرْءِ خَيْرَ مِنْ الْقِرَا ... فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَهُوَ ضَاحِكُ)(3/510)
ج
آخر: ... أَمِتْ ذِكْرَ مَعْرُوفٍ تُرِيدُ حَيَاتُهُ ... فَإِحْيَاؤُهُ حَقًّا أَمَانَةُ ذِكْرِهِ
وَصَغِّرْهُ يَعْظُمْ فِي النُّفُوسِ مَحَلُّهُ ... فَتَصْغِيرُهُ فِي النَّاسِ تَعْظِيمٌ قَدْرِهِ
آخر: ... وَمَا لِي وَجْهٌ فِي اللِّئَامِ وَلا يَدٌ ... وَلَكِنَّ وَجْهِي لِلْكَرِيمِ عَرِيضُ
أَحِنُّ إِذَا لاقَيْتُهُمْ وَكَأَنَّنِي ... إِذَا أَنَا لاقَيْتَ اللَّئِيمَ مَرِيضُ
آخر: ... وَمَا اكْتَسَبَ الْمَحَامِدَ طَالِبُوهَا ... بِمِثْلِ الْبِشْرِ وَالْوَجْهِ الطَّلِيقِ
آخر: ... وَمَا اكْتَسَبَ الْمَعَالِي طَالِبُوهَا ... بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ الْجَلِيلُ
آخر: ... أَخُو الْبِشْرِ مَحْمُودٌ على حُسْنِ بِشْرِهِ ... وَلَنْ يَعْدِمِ الْبَغْضَاءَ مَنْ كَانَ عَابِسَا
آخر: ... يَقُولُونَ لِي هَلْ لِلْمَكَارِمِ وَالْعُلَى ... قَوَامٌ فَفِيهِ لَوْ عَلِمَتَ دَوَامُهَا
فَقُلْتُ لَهُمْ قَوْلاً صَحِيحًا مُحَقَّقًا ... نَعَمْ طَاعَةُ الرَّحْمَنِ فَهِي قَوَامُهَا
آخر: ... لا يُدْرِكُ الْمَجْدُ مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلا ... لِخَالِقِ ذِي الْفَضْل الَّذِي شَمَلا
وَلا يَنَالُ الْعُلا إِلا الَّذِي شَرُفَتْ ... أَخْلاقُهُ وَلأَمْرِ اللهِ مُمْتَثِلا
آخر: ... جِيء بِالسَّمَاحِ إِذَا مَا جِئْتَ فِي غَرَض ... فَفِي الْعُبُوسِ لَدَى الْحَاجَاتِ تَصْعِيبُ
سَمَاحَةُ الْمَرْءِ تُنْبِي عَنْ فَضِيلَتِهِ ... فَلا يَكُنْ لَكَ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ تَقْطِيبُ
آخر: ... أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ ... وَيُخْصِبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ جَدِيبُ
وَمَا الْخَصْبِ لِلأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقُرَى ... وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ
ولا يريه من فقره وسوء حاله وقلة ذات اليد فإنه ربما ضاق بذلك ذرعًا ويتنكد عليه المقام ويتكدر لتلك الشكوى ثم إن كَانَ عاقلاً صاحب دين رَقَّ(3/511)
له ورحمة وقدم مَا عنده له وانعكست المسألة فأصبح ضيفًا عليه صاحب المنزل بعد أن كَانَ ضيفًا له.
وإن كَانَ جاهلاً غير دين شتمك وذمك وخرج من عندك ساخطًا يقول: مَا لا ينبغي وينسب إليك أشياء ربما أنك بريء مِنْهَا ولا تحتقر مَا عندك بل قدم له مَا تيسر من الطعام والشراب كما هي طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم فإنهم كَانَوا يقدمون للضيف ولو كَانَ شيئا يسيرًا ويقولون: هو أحسن من العدم.
وَقَدْ دخل ضيف على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقدم له نصف رغيف ونصف خيارة وقال له: كل فإن الحلال فِي هذا الزمان لا يحتمل السرف. وأخرج سلمان رضي الله عنه إِلَى ضيف خبزًا وملحًا وقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التكلف لتكلفت لك. وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه: إن الإنسان لا يبخل بما تيسر ظانًا أنه لا يليق بضيفه وأنها لا تتم الضيافة به وأنه لا يذكر معه بخير فخير له أن يقال: جاد بما لديه. من أن يقال فيه: أغلق بابه وغيب وجهه عن ضيف نزل به.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه دخل عليه نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم إليهم خبزًا وخلاً فقال: كلوا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نعم الإدام الخل» . إنه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر مَا فِي بيته أن يقدمه إليهم وهلاك بالقوم أن يحتقروا مَا قدم إليهم وفي رواية: كفى بالمرء شرًا أن يحتقر مَا قدم إليهم. وفي رواية: كفى بالمرء شرًا أن يحتقر مَا قدم إليه.
ولا ينبغي أن يستأثر بخير مَا عنده من البر واللحم والسمن والعسل والفاكهة ونحو ذلك ويقدم لضيفه الرديء والجاف والناشف أو مَا يكرهه هو وأهله من رديء الطعام والشراب ولا يجب عليه إنزال الضيف فِي بيته لما فيه(3/512)
من الحرج والمشقة إلا أن لا يجد الضيف مسجدًا ولا رباطًا ولا محلا فيه ولا يخاف مِنْه ضررًا على نفسه أو ماله أو أهله فليلزم إنزاله فِي بيته للضرورة فإن خاف فلا يلزمه.
ويجوز للضيف الشرب من كوز صاحب البيت والاتكاء على وسادة موضوعة وقضاء حاجته فِي الصهروج أو الكنيف من غير استئذان بالفظ لأنه مأذون فيه عرفَا كقرع الباب عليه هذا إذ كَانَ قريبًا من محل الضيف وإلا فلا بد من تنبيه.
شِعْرًا:
وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... يُلاقِي كَمَا لاقَى مُجِيرُ أُمُّ عَامِرِ
سَقَاهَا وَرَوَّاهَا فَلَمَّا تَضَلَّعَتْ ... فَرَتْهُ بِأَنْيَابٍ لَهَا وَأَظَافِرِ
فَقُلْ لِذَوِي الْمَعْرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ ... يُوَصِّلُ مَعْرُوفًا إِلَى غَيْرِ شَاكِرِ
والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وينبغي أن يخرج مع الضيف إذا خرج ويدخل معه إذ دخل ويحفظ له دابته ومتاعه ويقضي له حاجته ويحمل معه مَا يشريه لنفسه ويسعى فِي تسهيل الطريق له مَا أمكن من مساعدته على رخصة أمتعته وجواز سفر ونحوه.
وينبغي للضيف أن يكون خفيف النفس لطيفًا يفهم بالإشارة، يباشر أعماله بنفسه ولا يكلف مضيفه ويشغله عن شئونه ولا يكلفه فوق طاقته ولا يتأفف ويتكره من طعام قدم إليه ولا يترفع عن مكان أعد له وأنزل فيه ولا يعيب شيئًا مما يراه ويغض بصره ويكف سمعه ولا يتجسس أخبار أهل البيت ولا يتحكم بالحاشية ولأطفال والخدم.
ولا يطيل الإقامة حتى يحرج صاحب المنزل كما يفعله الثقلاء ولا يقول(3/513)
إلا خيرًا ولا يفعل إلا فعل الكرام الذين يشكرون الصنيع ويكافئون على الإحسان وعَلَى المضيف أن يحتسب الأجر من الله على فعله المعروف ويغتنم مثل هذه الأعمال ولا يأل جهدًا فِي اصطناع المعروف مهما أمكنه ذلك فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «صناع المعروف تقي مصارع السوء» . وقال علي رضي الله عنه: لا يزهدك فِي المعروف كفر من كفره فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر وقال الشاعر:
مَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لا يَعْدَمُ جَوَازِيَهُ ... لا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسُ
آخر: ... إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ تَجُودُ بِهِ ... فَجُدْ بِجَاهِكَ إِنَّ الْجَاهَ إِحْسَانُ
آخر: ... وَمَا نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ قَدْ صَنَعْتُهَا ... إِلَى غَيْرِ ذِي شُكْرٍ بِمَانَعَتِي أُخْرَى
سَآتِي جَمِيلاً مَا حَيَيْتُ فَإِنَّنِي ... إِذَا لَمْ أُفِدْ شُكْرًا أَفَدْتُ بِهِ أَجْرَا
قالوا: وينبغي لمن قدر إسدائه للمعروف أن يعجله حذرًا من فواته ويبادر به خيفة عجزه ويتحرى الأخيار الكرام كما يتحرى لزراعته الرياض الطيبة وليحذر من بذر المعروف باللئام الأنذال فإنهم كالأرض السبخة تمرر الماء العذب وتفسد البذر ولا تأمن مِنْهُمْ أن ينالك جزاء إحسانك إليهم سوء وقديمًا قيل:
وَلا تَصْطَنِعْ إِلا الْكِرَامَ فَإِنَّهُمْ ... يُجَازُونَ بِالنَّعْمَاءِ مَنْ كَانَ منْعِمَا
وَمَنْ يَتَّخِذْ عِنْدَ اللِّئَامِ صَنِيعَةً ... يَظَلُّ على آثَارِهَا مُتَنَدِّمَا
آخر: ... إِذَا شِئْتَ أَنْ تُعْطِي الأُمُورَ حُقُوقِهَا ... وَتُوقِعَ حكْمَ الْعَدْلِ أَحَْسَن مَوْقِعِهِ
فَلا تَصْنَعِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... فَظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ
آخر: ... لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي يُعْطِي عَطِيَّتَهُ ... عَنِ الثَّنَاءِ وَإِنْ أَغْلَى بِهِ الثَّمَنَا
إِنَّ الْكَرِيمُ الَّذِي يُعْطَى عَطِيَّتَهُ ... يَقْصُدْ رِضَى رَبِّهِ لا يَبْتَغِي ثَمَنَا
وَلا يُرِيدُ بِبَذْلِ الْعُرْفِ مُحْمَدَةً ... وَلا يَمُنُّ إِذَا مَا قَلَّدَ الْمِنَنَا(3/514)
آخر: ... كَمْ طَامِعَ بِالثَّنَا مَنْ غَيْر بَذْلِ يَدٍ ... وَمُشْتَهٍ حَمْدَهُ لَكِنْ بِمَجَّانِ
وَالنَّاسُ أَكْيَسُ مِنْ أَنْ يَحْمَدُوا رَجُلاً ... حَتَّى يَرَوْا عِنْدَهُ آثَارَ إِحْسَانِ
آخر: ... إِذَا كُنْتُمُو لِلنَّاسِ فِي الأَرْضِ قَادَةً ... فَسُوسُوا كَرَامَ النَّاسِ بِالْحلم وَالْعَدْلِ
وَسُوسُوا لِئَامُ النَّاسِ بِالذُّلِّ وَحْدَهُ ... صَرِيحًا فَإِنَّ الذُّلَّ أَصْلَحُ لِلنَّذْلِ
آخر: ... أَمَرُّ وَأَمْضَى مِنْ سُمُومِ الأَرَاقَمَ ... وَأَوْجَعُ مِنْ ضَرْبِ السُّيُوفِ الصَّوَارِمِ
وُقُوفُ فَتَىً حُرِّ تَقِيٍّ مُهَذَّبٍ ... عَلَى بَابِ نَذْلٍ لارْتِيَادِ الْمَطَاعِمِ
أَلا إِنَّ قَصْدَ الْحُرِّ لِلنَّذْل هُجْنَةٌ ... عَلَيْهِ وَلَوْ أَعْطَاهُ مُلْكَ الأَعَاجِمِ
آخر: ... مَتَى تَحْمَدْ صَدِيقَ السُّوءِ فَاعْلَمْ ... بِأَنَّكَ بَعْدَ ُمَحْمَدَةٍ تَذُمُّهْ
كَطِفْلٍ رَاقَةُ تَرْقِيشُ صِلّ ... فَلَمَّا مَسَّهُ أَرَادَهُ سُمَّهْ
آخر: ... مَتَى تُسْدِ مَعْرُوفًا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ... رُزئْتَ وَلَمْ تَظْفُرْ بِحَمْدِ وَلا أَجْرِ
آخر: ... مَدَحْتُكُمْ طَعَمًا فِيمَا أَؤمِّلُهُ ... فَلَمْ أَنَلْ غَيْرَ حَظَّ الإِثْمِ وَالتَّعَبِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ صِلَةٌ مِنْكُمْ لِذِي أَدَبٍ ... فَأُجْرَةُ الْخَطِّ أَوْ كَفَّارَةُ الْكَذِبِ
آخر: ... وَاخْشَ الأَذَى عِنْدَ إِكْرَامِ اللَّئِيمِ كَمَا ... تَخْشَى الأَذَى إِنْ أَهَنْتَ الْحُرَّ ذَا النُّبلِ
وقال آخر:
وَمَنْ يَجْعَلِ الضِّرِغَامِ لِلصَّيْدِ بَازَهُ ... تَصَيَّدُه الضِّرْغَامُ فِيمَا تَصَيَّدَا
وَمَا قَتَلَ الأَحْرَارَ كَالْعَفْوُ عَنْهُمْ ... وَمَنْ لَكَ بِالْحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ الْيَدَا
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَّكْتَهُ ... وَإِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا
فَوَضْعُ النِّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ باِلْعُلا ... مُضِر كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَا
آخر: ... إِذَا افْتَقَرَ الْكَرِيمَ فَمِلْ إِلَيْهِ ... فَشَمُّ الْوَرْدِ بَعْدَ الْقَطْفِ عَادَهْ
وَإِنْ أَثْرَى اللَّئِيمُ فَصُدَّ عَنْهُ ... فَبَيْتُ الْمَاءِ تُفْسِدُهُ الزِّيَادَهْ
آخر: ... إِذَا مَا أَتَيْنَاهُ فِي حَاجَةٍ ... رَفَعْنَا الرِّقَاعَ لَهُ بالْقَصَبْ
لَهُ حَاجِبٌ دُونَهُ حَاجِبُ ... وَحَاجِبُ حَاجِبِهِ يَحْتَجِبْ(3/515)
.. النَّاس بِالنَّاسِ مَا دَامَ الْحَيَاةُ بِهِمْ ... وَالسَّعْدُ لا شَكَّ تَارَاتٌ وَتَارَاتٌ
وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَا بَيْنَ الْوَرَى رَجُلٌ ... تُقْضَى على يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجَاتُ
لا تَمْنَعَنَّ يَدَ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ ... مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا فَالسَّعْدُ تَارَاتُ
وَاشْكُرْ فَضَائِلَ صُنْعِ اللهِ إِذْ جُعِلَتْ ... إِلَيْكَ لا لَكَ عِنْدَ النَّاسِ حَاجَاتُ
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ ... وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ
ولا يهمله ثقة مِنْه بظن القدرة عليه فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندمًا وكم من معول على مكنة فأورثت خجلاً كما قيل:
مَا زِلْتَ أَسْمَعُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ خَجَلٍ ... حَتَّى ابْتُلِيتُ فَكُنْتُ الْوَاثِقَ الْخَجِلا
ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مدخورة ومغارمه محبورة فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه» . وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح» . أي التعجيل وقال بعضهم: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها.
شِعْرًا: ... جُودُ الكريم إذا مَا كَانَ عَن عِدَةٍ ... وَقَدْ تَأَخَّرَ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْكَدَرِ
إِنَّ السَّحَائِبَ لا تُجْدِي بِوَارِقُهَا ... نَفْعًا إِذَا هِيَ لَمْ تُمْطِحر على الأَثَرِ
يَا دَوْحَةَ الْجُودِ لا عَتْبٌ على رَجُلٍ ... يَهُزُّهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الثَّمَرِ
شِعْرًا: ... إِنَّ الْعَطِيَّةَ رُبَّمَا أَزى بِهَا ... عِنْدَ الَّذِي تُقْضَى لَهُ تَطْوِيلهَا
فَإِذَا ضَمِنْتَ لِصَاحِبٍ لَكَ حَاجَةً ... فَاعْلَمْ بِأَنَّ تَمَامَهَا تَعْجِيلُهَا
آخر: ... إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ
وَلا تَغْفَلْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيهَا ... فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ
آخر: ... أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فَلَنْ يَدُومَ على الإِحْسَانِ إِمْكَانُ
فعَلَى الإنسان العاقل أن يساعد أخاه المسلم على فعل معروف أو دفع ملمة بماله وجاهه ولا يقتدي بمن لا خير فيه لا فِي جاه ولا مال يهمه إلا نفسه(3/516)
فقط قال الشاعر:
إِذَا كُنْتَ لا تُرْجَى لِدَفْعِ مُلِمَّةِ ... وَلَمْ يَكُ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَكَ مَوْضِعُ
وَلا أَنْتَ ذُو جَاهٍ يُعَاشِ بِرَئْيِهِ ... وَلا أَنْتَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَشْفَعُ
فَعَيْشُكَ فِي الدُّنْيَا وَمَوْتُكَ وَاحِدُ ... وَعُودُ خِلالٍ مِنْ حَيَاتِكَ أَنْفَعُ
وليحرص فاعل المعروف على ضيف أو غيره على مجانبة الامتنان وترك الإعجاب بفعله لما فِي من إسقاط الشكر وإحباط الأجر فإنه قَدْ روي عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر» . ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - آية البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} فالمان بالمعروف والإحسان غير محمود وفي ذلك يقول الشاعر:
إِذَا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلاصًا مِن الأَذَى ... فَلا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلا الْمَال بَاقِيَا
وقال العباس: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال تعجيله وتصغيره وستره فإذا عجلته هنأته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته تممته على أن ستر المعروف من أقوى أسباب ظهوره وأبلغ دواعي نشره لما جلبت عليه النفوس من إظهار مَا خفي وإعلان مَا كتم قال الشاعر:
خَلٌّ إِذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلُهُ ... أَعْطَاكَ مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا
يُخْفِي صَنَائِعُهُ وَاللهُ يَعْلَمُهَا ... إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتُهُ ظَهَرَا
آخر: ... لا تَسْأَلِ النَّاسَ وَالأَيَّامُ عَنْ خَبَرٍ ... هَمَا يَبُثَّانِكَ الأَخْبَارُ تَطْفِيلا
وَلا تُعَاتِبْ على نَقْصِ الطِّبَاعِ أَخَا ... فَإِنَّ بَدْرَ السَّمَا لَمْ يَعْطِ تَكْمِيلا
شِعْرًا: ... إِذَا الْمَرْءُ أَبْدَى الْخَيْرَ مُكْتَتِمًا لَهُ ... فَلا بُدَّ أَنَّ الْخَيْرَ يَوْمًا سَيَظْهَرُ
وَيكْسَى رِدَاءً بِالَّذِي هُوَ عَامِلٌ ... كَمَا يَلْبِسُ الثَّوْبَ التَّقِيُّ الْمُشَهَّرُ
آخر: ... وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنْ خَالََهَا تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ(3/517)
اللهم هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راض عنا وَقَدْ قبلت اليسير منا واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
عباد الله إن الصلاة من أعظم الأمانات عندكم، مطلوب، منكم أن تؤدوها وتقيموها قال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فالله سبحانه أمرنا بالمحافظة على الصلاة فِي أوقاتها والقيام فيها خاشعين خاضعين لجلالته وعظمته، وجعلها طريق الفوز والسعادة فِي العاجل والآجل قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
ذلك أن الصلاة الكاملة تنير القلب وتهذب النفس وتعلم العبد آداب العبودية لله وواجبات الربوبية، بما تغرسه فِي قلب العبد المؤمن من إجلال الله وتعظيمه وتقديره، والتجلي بمكارم الأخلاق كالصديق والأمانة والقناعة والوفاء والحلم والحياء والتواضع والعدل والصبر والإحسان.
وتوجهه إِلَى مولاه، فتكثر له مراقبته وخدمته حتى تعلو بذلك همته، وتقوى عزيمته وتزكو نفسه، فيبتعد عن الكذب والخيانة، والأيمان الكاذبة، والشر والغدر والغضب والكبر والرياء، ويترفع عن البغي والعدوان، ودناءة الفسوق والعصيان والفساد قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .
فبالمحافظة على الصلاة تقوى النفس على احتمال الشدائد، وتثبت عند نزول البلايا والمحن، ويسهل عليه البذل حالة الغنى واليسار، قال الله(3/518)
تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}
شِعْرًا: ... إِذَا أُلْهِمَ الإِنْسَانُ ذِكْرًا لِرَبِّهِ ... وَكَانَ بِمَا يَأْمُرْ بِهِ اللهُ آتِيَا
فَهَذَا الْفَتَى لا مَنْ يَكُونُ مُضَيِّعًا ... لأَمْرِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا
ثم انظروا عباد الله ماذا كَانَ من آثار ترك الصلاة، كَانَ من آثاره كثرة الشر ووسائل الشر، وانتشار الفواحش والمنكرات، من سفور وآلات لهو وحلق لحية علنًا وشرب دخان علنًا وصور مجسدة وغير مجسدة، وغش وتدليس وربا وعقوق والدين وقطيعة رحم وشهادة زور وقذف ولعن وغية ونميمة وأغاني من مذياع وفديو وتلفزيون ونحو ذلك من البدع المحرمة وتشبه بأعداء الإسلام بجعل خنافس وإسبال ثوب وجعل شنبات مع حلق لحية وتشبه بالنساء ومغازلة لهن وتسمية لأعداء الإسلام بسيد ومعلم وأستاذ ونحو ذلك مما يقشعر مِنْه جلد المسلم وتفتت له كبده فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الأمانة من الأخلاق الفاضلة وأصل من أصول الديانات، وهي ضرورية للمجتمع الإنساني، لا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر وزارع ولا بين غني وكبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير وواجب الموظف ورأس مال التاجر وسبب شهرة الصانع، وسر نجاح العامل والزارع، ومفتاح كل تقدم بإذن الله، ومصدر كل سعادة ونجاح بإذن الله.
وليست الأمانة مقصورة على الودائع التي تؤمن عند الناس من غال(3/519)
وثمين كالنقدين وما ناب عنهما من أوراق، وكالجواهر والحلي والأموال بل الأمانة أوسع من هذا كله، فهي عمل لكل ما لله فيه طاعة، وامتثال واجتناب كل ما لله فيه مخالف وعصيان، سواء كَانَ ذلك فِي عبادة الله أو فِي معاملة عباده.
فالصلاة أمانة عندك مطلوب منك أن تؤديها فِي وقتها إن لَمْ يكن عذر شرعي كاملة غير منقوصة مستوفية لفرائضها وشروطها وأدائها بقلب مملوءة من الخشوع والخضوع، وجسم مملوء من الطمأنينة والاتزان.
والزكاة أمانة عندك مطلوب أن تصوم وأن تصون صيامك عن مَا يفسده، وأن تتحرى الحلال للسحور والفطور، وأن لا يفكر عقلك إلا فِي خير ولا ينطق لسانك إلا حسنًا، ولا تسمع أذنيك إلا طيبًا ولا تنظر عينك إلا مباحًا ولا تمد يدك إلا إِلَى إصلاح ولا يسعى قدمك إلا طاعة ومعروف.
والحج أمانة لله فِي عنقك إن كنت ممن توفرت لديه الشروط وهي الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والاستطاعة وتزيد المرأة شرطًا سادسًا وهو وجود محرم لها، وتؤدي مَا عليك من حقوق لله ولعباده.
وتنتظر ذلك المال الذي ستحج به أهو حلال أم حرام، وهل جمعته مع عرق جبينك أو إرثًا أو من دماء الناس وسرقة مَا لهم بغش ونحوه، وهل تريد حج رياء وسمعة أو ابتغاء وجه الله، والمهم أن تفتش على نفسك قبل العمل لئلا تخسر الدنيا والآخرة.
وبقدر مَا يكون الإنسان مقصرًا فِي عبادة من هذه العبادات يكون غير موف لأمانته تمامًا، فينبغي للإنسان أن يستحضر فِي كل ساعة وفي كل نظرة(3/520)
ولفتة وفي كل إشارة وفي كل حركة وسكون أنه مطالب بالأمانة فلسانك أمانة عندك إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله والقذف والفحش ونحو ذلك مما نهى عنه الشرع واستعملته فِي تلاوة كلام الله والباقيات الصالحات، فقد حفظت هذه الأمانة.
والأذن أمانة، إن جنبتها استماع المحرمات من الغيبة والملاهي والغناء وكلام من لا يرضون باستماعك ويكرهون ذلك واستعملتها في استماع ما يعود نفعه إليك فِي الدنيا والآخرة فقد حفظت هذه الأمانة.
ورجلك أمانة عندك إن استعملتها بالمشي إِلَى مَا أمر الله به، وحجزتها عن السير إِلَى مَا نهى الله عنه فقد حفظتها.
وكذلك الفرج إن جنبته الزنا واللواط والاستمناء باليد وكل مَا نهى الله عنه، واستعملته فيما أباحه لك الشرع فقد حفظته قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
وكذلك العقل إن استعملته فيما يعود عليك بالسعادة دنيا وأخرى ولم تستعمله في المكر والدهاء وخداع المسلمين والكيد لهم ونحو ذلك فقد حفظته.
ومن معاني الأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به والجدير له فلا يسند منصب إلا لمن ترفعه كفايته له، أما من يعجز عن القيام به فلا يجوز له فلا إسناده إليه، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» . والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
عباد الله تمر الحياة بأحدنا وهو منهمك فِي ملذاته وشهواته(3/521)
ومطاعمه، لا يفكر فِي مآله ولا فِي يوم حسابه وكأنه خالد فِي الدنيا لا يموت أبدا، أو كَانَ عنده يقين أنه لا يحاسب على مَا جناه.
ومن العجيب أنه لا يمر يوم بل ولا ساعة إلا وفي ذلك نذير لابن آدم بالرحيل عن هذه الدار، يشاهد الموت يتخطف الناس من حوله فلا يزدجر، وتقوم الحوادث الجسام من حروب تفني آلافًا من البشر وتهدد الأحياء بالالتحاق بمن مات، وبالمجاعات والخراب، فلا يتعظ ولا يعتبر.
ويرى الحرائق مَا بين آونة وآونة تتلف النفوس والأموال والمساكين، وكيف تكون حالة الناس ومطافيهم، فلا يذكر جهنم وأهوالها وأنكالها وما فيها من أنواع العذاب الذي لا تصمد له الجبال الصم الصلاب، قست القلوب، وتحجرت الضمائر {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} {ِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
أيها الغافلون، دنياكم دار غرور وهموم وأحزان، وهي بلا شك فانية، وأخراكم دار قرار باقية، وأجهل الناس من باع آخرته بدنياه والتقوى مفتاح السعادتين الدنيوية والأخروية، ضمان ضمنه الله لعباده، ووعد لا يتخلف، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
أما المعاصي والغفلة والنسيان والطغيان، فليس من ورائها إلا ضنك المعيشة فِي الدنيا بالهموم المبرحة والأحزان المجرحة مع العذاب الأليم فِي الآخرة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الآيات.
أيها العاقلون كلكم تعلمون أن الغفلة تنسي العبد ربه وآخرته، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، فلا تتعرضوا بذلك لسخطه وكونوا دائمًا ذاكرين للآخرة، فإن(3/522)
ذلك يبعث على الخوف من الله، ومن خاف ربه استقام بإذن الله، قال الله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} والله أعلم وصلى الله على محمد وآله.
شِعْرًا: ... وَصِيَّتِي لَكَ يَا ذَا الْفَضْلِ وَالأَدَبِ
إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْكُنَ الْعَالِي مِنَ الرُّتَبِ
وَتُدْرِكَ السَّبْقَ والْغَايَاتِ تَبْلُغُهَا
مُهَنَّأًَ بِمَنَالِ الْقَصْدِ وَالأَدَبِ
تَقْوَى الإِلَه الَّذِي تُرْجَى مَرَاحِمُهُ
الْوَاحِدُ الأَحَدُ الْكَشَّافُ لِلْكُرَبِ
أَلْزَمْ فَرَائِضَهُ وَاتْرُكْ مَحَارِمَهُ
وَاقْطَعْ لَيَالِيكَ وَالأَيَّامِ فِي الْقَرْبِ
وَأَشْعِرِ الْقَلْبَ خَوْفًا لا يُفَارِقُهُ
مِنْ رَبِّهِ مَعَهُ مِثْلٌ مِنْ الرَغَبِ
وَزَيِّنِ الْقَلْبَ بِالإِخْلاصِ مُجْتَهِدًا
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّيَا يُلْقِيكَ فِي الْعِطَبِ
وَنَقِّ جَيْبَك مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ وَلا
تَدْخُلْ مَدَاخِلَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالرِّيبِ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنْ طَعْنٍ على أَحَدٍ
مِن الْعِبَادِ وَمِنْ نَقْلٍ وَمِنْ كَذِبِ
وَكُنْ وَقُورًا خَشُوعًا غَيْرَ مُنْهَمِكٍ
فِي اللَّهْوِ وَالضِّحْكِ وَالأَفْرَاحِ وَاللَّعَبِ
وَنَزِّهِ الصَّدْرَ مِنْ غِشٍّ وَمِنْ حَسَدٍ(3/523)
.. وَجَانِبْ الْكِبْرَ يَا مِسْكِينُ وَالْعُجُبِ
وَارْضَ التَّوَاضُعَ خُلَقًا إِنَّهُ خُلُقُ الـ
أَخْيَارِ فَاقْتَدْ بِهِمْ تَنْجُو مِنْ الْوَصَبِ
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَاسْتَشْعِرْ عَدَاوَتَهَا
وَارْفُضْ هَوَاهَا وَمَا تَخْتَارُهُ تُصِبِ
وَإِنْ دَعَتْكَ إِلَى حَظٍّ بِشَهْوَتِهَا
فَاشْرَحْ لَهَا غِبَّ مَا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ
وَازْهَدْ بِقَلْبِكَ فِي الدَّارِ الَّتِي فَتَنَتْ
طَوَائِفًا فَرَأَوْهَا غَايَةَ الطَّلَبِ
تَنَافَسُوهَا وَأَعْطَوْهَا قَوَالِبَهُمْ
مَعَ الْقُلُوبِ فَيَا للهِ مِنْ عَجَبِ
وَهِيَ الَّتِي صَغُرَتْ قَدْرًا وَمَا وَزَنَتْ
عِنْدَ الإِلَهِ جَنَاحًا فَالْحَرِيصُ غَبِي
وَخُذْ بَلاغَكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَاسْعَ بِهِ
سَعْيَ الْمَجْدِ إِلَى مَوْلاكَ وَاحْتَسِبِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الَّذِي يَبْتَاعَ عَاجِلَهُ
بِآجِلٍ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ يَخِبِ
وَإِنْ وَجَدْتَ فَوَاسِ الْمَعْوِزِينَ تَفِضْ
عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الأَرْزَاقُ فَاحْتَسِبِ
وَإِنْ بُلِيتَ بِفَقْرٍ فَارْضَ مُكْتَفِيًا
باللهِ مِنْ رَبِّكَ الْفَضْلَ وَارْتَقَبِ
وَاتْلُ الْقُرْآنَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ وَجَلٍ(3/524)
.. عَلَى الدَّوَامِ وَلا تَذْهَلْ وَلا تَغِبِ
وَاذْكُرْ إِلَهَكَ ذِكْرًا لا تُفَارِقُهُ
وَادْعُ الإِلَهَ وَقُلْ يَا فَارِجِ الْكُرَبِ
يَا رَبِّ إِنَّكَ مَقْصُودِي وَمُعْتَمَدِي
وَمُرْتَجَايَ بِدُنْيَايَ وَمُنْقَلَبِي
فَاغْفِرْ وَسَامِحْ عُبَيْدًا مَا لَهُ عَمَلٌ
بِالصَّالِحَاتِ وَقَدْ أَوْعَى مِنَ الْحُوبِ
اللهم قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
فالولاية شروطها الحفظ والعلم والقوة والأمانة، فالواجب أن يختار للعمل أحن الناس قيامًا به، فإن عدل عنه إِلَى غيره لهوىً أو رشوة أو قرابة فهذه خيانة ممن ولاه أو تسبب فِي الولاية، قال صلى الله عليه وسلم: «من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . رواه الحاكم.
وعن أبي يعلي معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» . وفي رواية لمسلم: «مَا من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة» .
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل يوم القيامة مغلولة يده إِلَى عنقه ففكه بره أو أوبقة إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة» .
وعن أبي هريرة مرفوعًا «ويل للأمناء ويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم(3/525)
القيامة أن ذوائبهم كَانَت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء» .
وفي أفراد مسلم من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» . وفي لفظ آخر: «يا أبا ذر إني أحب لك مَا أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم» .
وفي الحديث الآخر: «أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن فِي العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله ورسوله وغش جماعة المسلمين» . قلت: وفي زماننا المظلم بالمنكرات والمعاصي كثير من الأعمال يتولاها أناس لا يصلون كفرة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» . رواه الحاكم.
والأمة التي لا أمانة لها هي التي تنتشر فيها الرشوة وتعمل على إهمال الأكفاء وإبعادهم وتقديم الذين ليسول أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة الذي وقع. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله متى تقوم الساعة فقال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» . فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة» . رواه البخاري.
ومن معاني الأمانة أن يحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً فِي العمل الذي يناط به وأن يستنفد جهده فِي تكميله وتحسينه وأن يفي بجميع مَا اتفقا عليه عملاً ووقتًا، والخيانة تتفاوت، فما أصاب الدين وجمهور(3/526)
المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه أشد إثمًا ونكرًا وشناعة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فقال: هذه غدرة فلان» . رواه البخاري.
وفي رواية: «لكل غادر لواء عنه إسته يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة» .
ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه لجر منفعة له أو إِلَى قريبه فأخذ زيادة على مَا رتب له من بيت المال بطرق ملتوية.
إما بتناول رشوة وإما بتناول رشوة باسم هدية أو تحفة يتناولها هذا الخائن بتأويلات باطلة أو بمحاباة أو مجاملة صديق أو رفيق أو جارٍ بما فيه ضرر على عموم المسلمين أو بأية ذريعة ووسيلة من وسائل الاستغلال النفوذي، فكل ذلك غش وخيانة، وما أخذ فهو سحت لأنه ثمرة خيانة وغدر وخداع ومكر، قال تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وعن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتما مخيطًا فما فوقه كَانَ غلولاً يأتي به يوم القيامة» . فقام إليه رجل أسود من الأنصار كَأنَي انظر إليه فقال: يا رسول الله أقبل عني عملك قال: «ومالك» . قال: سمعتك تقول كذا وكذا قال: «وأنا أقول الآن من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي مِنْه أخذ وما نهي عنه» . انتهى رواه مسلم.
شِعْرًا: ... يَغْدُ إِلَى كَسْبِ قِيرَاط أَخُو عَمَل ... لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا
وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: «أما بعد فإني استعمل رجالاً منكم على أمور ولاني الله فيأتي(3/527)
أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي فهلا جلس فِي بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدي له أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ مِنْه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كَانَ بعيرًا له رغا أو بقرًا له خوارٌ أو شاة تيعر» .
ثم رفع يديه حتى رأينا عَفْرَتَيْ إبطيه ثم قال: «اللهم هل بلغت» . متفق عليه، قال الخطابي: وفي قوله: «هلا جلس فِي بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدي إليه أم لا» . دليل على أن كل أمر يتذرع به إِلَى محظور فهو محظور.
وكل داخل فِي العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا.
أما الذي يلتزم حدود الله فِي وظيفته ولا يخون الواجب الذي طوقه فهو من المجاهدين قال صلى الله عليه وسلم: «العامل إذا استعمل فأخذه الحق وأعطى الحق لَمْ يزل كالمجاهد فِي سبيل الله حتى يرجع إِلَى بيته» .
شِعْرًا: ... فَلِلَّهُ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ
تَسِحُّ لِفَرْطِ الْوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا
يَقِيمُ إِذَا مَا اللَّيْلُ مَدَّ ظَلامَهُ
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا
فَصِيحًا بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ
وَفِيمَا سِوَاهُ فِي الْوَرَى كَانَ أَعْجَمَا
وَيَذْكُرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ
وَمَا كَانَ فِيهَا بِالْجَهَالَةِ أَجْرَمَا
فَصَارَ قَرِينَ الْهَمِّ طُولَ نَهَارِهِ
وَيَخْدِمُ مَوْلاهُ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
يَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ سُؤلِي وَبُغْيَتِي
كَفَى بِكَ لِلرَّاجِينَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا(3/528)
عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زِلَّتِي
وَيَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدَّمَا
اللهم أذقنا عفوك وأسلك بنا طريق مرضاتك. وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا مَا يبعد عن طاعتك الله وثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ويسر لنا مَا يسرته لأوليائك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن معاني الأمانة حفظ الأسرار التي لا يرضى أهلها أن تذاع فكم من أضرار على الأبدان والأموال والأعراض حصلت بإفشاء الأسرار إلا إذا كَانَت الأسرار فيها على المسلمين فليس لها حرمة ولا يجوز كتمها وعَلَى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليلحقوا به الأذى أن يسارع إِلَى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته فإن ذلك خطر عظيم وفساد كبير، وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «المجلس بالأمانة إلا مجلس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق، ومما يتعين كتمه وستره مَا يجري بين الرجل وامرأته مما يفضي به أحدهما إِلَى الآخر فإن التحدث به خيانة لهذه الأمانة» .
إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ ... وَلامَ عَلَيْهِ غَيْرَه فَهُوَ أَحْمَقُ
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ... فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرِّ أَضْيَقُ
فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إِلَى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» . والثرثارون من أحلى وألذ مَا يتسامرون به فِي مجالسهم منكر من أقبح المنكرات، ألا وهو مَا يقع بينهم وبين أزواجهم فِي الخلوات الخاصة من كلام وأفعال، وما يكون من الرجال قليل من مَا يكون من النساء فإن الكلام فِي هذا الموضوع عادتهن(3/529)
الوحيدة وهذه معصية من أفحش المعاصي ووقاحة محرمة.
وعن أسماء بنت يزيد أنها كَانَت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرجال والنساء قعود عنده، فقال: «لعل رجلاً يقول مَا فعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها» . فأزم القوم - أي سكتوا وجلين - فقلت: أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن قال: «فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون» . رواه أحمد.
شِعْرًا:
إِنَّ الْكَرِيمَ الَّذِي تَبْقَى مَوَدتُه ... وَيَحْفَظُ السِّرَ إِنْ صَافَا وَإِنْ صَرَمَا
لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي إِنْ زَلَّ صَاحِبُه ... بَثَّ الذي كَانَ مِن أَسْرَارِهِ عَلْمَا
روى عن بعض الورعين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: مَا الذي يريبك مِنْهَا. فقال: العاقل لا يهتك سترَا. فلما طلقها قيل له: الآن طلقتها. فقال: مَا لي ولا مرأة غيري (المعنى عليَّ وعليها ستر الله) . وهكذا الرجال الذي يعرفون قدر الأمانة والغالب أن إخبار الناس بالأسرار يترتب عليه أضرار فلذلك قيل حول هذا الكلام:
احْفَظْ لِسَانَكَ لا تَبُحْ بثلاثةٍ ... سِنٍّ ومالٍ إِنْ سُئِلْتَ ومَذْهَب
فَعَلَي الثلاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلاثةٍ ... بِمَُكَفِّرٍ وبِحَاسِدٍ ومُكَذِّبِ
ومن الأمانة الوضوء فإن أداه كاملاً بدون مجاوزة للحد فقد حفظ هذه الأمانة وإن أداها وإن فرط فيها وأهمل بعض الأعضاء أو بعض الجسم فِي الغسل أو تعدى إِلَى الوسواس وفاتت لمولاه فقد خان أمانته.
وكذلك الكيل والوزن أمانة إن أداه على الوجه المطلوب بلا بخس ولا غش فقد حفظها وأداها، وإن بخس أو غش أو دلس فقد خان أمانته.
وكذلك أولادك أمانة عندك إن أحسنت فيهم وربيتهم تربية صالحة(3/530)
ووجهتهم توجيهًا حسنًا فقد أديت أمانتك وإن أهملهم ولَمْ يبال بهم فقد خان أمانته.
وكذلك الودائع التي تدفع إِلَى الإنسان ليحفظها حينًا ثم يردها إِلَى أصحابها حين يطلبونها أو إِلَى الحاكم إن فقدوا ومن يخلفهم وتعذر عليه إيصالها إليهم وأيس من مجيء صاحبها، فهذه من الأمانات التي يسأل عنها، وَقَدْ استخلف - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إِلَى ترك وطنه فِي سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: ثلاثة مؤدبين إِلَى البر والفاجر الأمانة والعهد وصلة الرحم.
وكذلك التلميذ أمانة يجب على الأستاذ أن يوجهه إِلَى العلوم النافعة والعقائد السليمة ويحذره من البدع وما يضره فِي دينه ويحذره من أهل البدع ويبين مَا يعرفه من الكتب المظل دراستها والعلماء المنحرفين عن الصراط المستقيم ليجتنبهم وكتبهم، ويذكر له العلماء المحققين المستقيمين وكتبهم ليقتنيها فيتأثر بها بإذن الله وتحل العقيدة السليمة فِي قلبه ويسعد فِي حياته وبعد مماته بإذن الله تعالى.
ويحذره من كتب الأشاعرة والشيعة والمعتزلة ومن علمائهم ومن أضر مَا على المسلمين اليوم الأشاعرة وكتبهم والرافضة وكتبهم عصمنا الله وجميع المسلمين مِنْهُمْ ومن كتبهم وبدعهم التي عمت وطمت وصرفت كثيرًا من الناس عن طريقة السلف الخالصة من شوائب البدع.
ويكون هذا المعلم المخلص هو السبب الوحيد لاستقامة هذا التلميذ وهدايته فيا لها من تجارة ويا له من ربح، ويا لها من نصيحة فنجد التلميذ إن كَانَ وافيًا شكورًا يدعوا لمواجهة دائمًا وإن لَمْ يكن كذلك فأجر المعلم والموجه(3/531)
المخلص لا يضيع عند الله، قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} والناس يختلفون فيهم روض وسبح.
قال بعضهم:
لَعَمْرُكَ مَا المَعْرُوفُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... وفي أَهْلِهِ إِلاَّ كَبَعْضِ الوَدَائِعِ
فََمُسْتَودٌع ضَاعَ الذِي كَانَ عِنْدَهُ ... وَمُسْتَوْدَعٌ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ ضَائِعِ
وَمَا النَّاسُ فِي كُفْرِ الأَيَادِي وَشُكْرِهَا ... إلى أَهْلِهَا إِلاَّ كَبَعْض المَزارِعِ
فَمَزْرَعَةُ أَجْدَتْ فَأَضْعَفْ زَرْعُهَا ... وَمَزْرَعَةٌ أَكْدَتْ على كُلِّ زَارِعِ
وكذلك العمل أمانة فِي عنق العالم يسأل عنه يوم القيامة إذا لَمْ سنشره بين الناس وينور به قلوبهم يكون خائنًا لأمانته وغاشًّا لإخوانه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} .
قال بعض المفسرين على هذه الآية: والتنديد بكتمان مَا أنزل الله من الكتاب المقصود به أولاً أهل الكتاب ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة يكتمون الحق الذي يعلمونه ويشترون به ثمنًا قليلاً إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ويخشون عليها من البيان وإما هو الدنيا كلها وهي ثمن قليل حين تقاس على مَا يخسرونه من رضى الله ومن ثواب الآخرة. انتهى.
وقال آخر: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كَانَت أو مستنبطة وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على مَا يجب فعله بلغ يا أخي الذين يأكلون بالكتب الدينية ويحتكرونها باسم تحقيق أو نشر نسأل الله العافية.(3/532)
وَقَدْ روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد، وأيم لولا آية فِي كتاب الله مَا حدثت بشيء أبدًا، ثم تلا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس فِي أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . رواه ابن ماجة ومن الأمانة فِي العلم إنك إذا أبديت رأيًا ثم أراك الدليل القاطع أو الراجح أن الحق فِي غير مَا أبديت أن تصدع بما استبان لك أنه الحق.
ولا يمنعك من الجهر به أن تنسب إِلَى سوء النظر فيما رأيته أولاً، والأمانة حملت كثيرًا من العلماء على أن يظهروا رجوعهم عن كثير من آراء علمية أو اجتهادية دينية تبين لهم أنهم غير مصيبين فيها.
ولا يكترثون بما قال فيهم من الاعتراضات التي فِي غير محلها لعلمهم أن الناس مَا مِنْهُمْ سلامة أبدَا مهما استقاموا ولهذا الرسل لَمْ يسلموا مِنْهُمْ قولاً وفعلاً، بل الله جل وعلا الذي أوجدهم ورباهم ورزقهم وفضلهم على كثير ممن خلق جعلوا له ولدا وقالوا: لا يعيدنا، فلا مطمع فِي السلامة مِنْهُمْ، وهم كما قال الشاعر معربًا عن صفاتهم:
وَإِنْ تُبْدِي يَوْمًا بالنَّصِيحَةِ لامْرئٍ
بِتُهْمَتِهِ إِيَّاكَ كَانَ مُجَازِيَا(3/533)
ج
وَإِنْ تَتَحَلَّى بِالسَّمَاحَةِ وَالسَّخَاء
يُقَالُ سَفِيهٌ أَخْرَقٌ لَيْسَ وَاِعِيَا
وَإِنْ أَمْسَكْت كفَّاكَ حَالَ ضَرُورَةٍ
يُقَالُ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ لا مُسَاوِيَا
وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْ فِيكَ يَنْبُوعُ حِكْمَةٍ
يَقُولُونَ مِهْذَارًا بَذِيًّا مُبَاهِيَا
وَعَنْ كُلِّ مَا لاَ يَعْنِ أَنْ كُنْتَ تَارِكًا
يَقُولُونَ عَنْ عِيٍ مِن العَجْزِ صاَغِيَا
وَإِنْ كُنْتَ مِقْدَامًا لِكُلِّ مُلِمَّةٍ
يُقَالُ عَجُولٌ طَائِشُ العًقْلَ وَاهِيَا
وَإِنْ تَتَغَاضَى عَنْ جَهَالَةِ نَاقِصٍ
يَعُدُّوكَ خَوَارًا جَبَانًا وَلاهِيا
وَإِنْ تَتَقَاصَى بِاعْتِزالِكَ عَنْهُمُو
يَخَالُوكَ مِنْ كِبْرٍ وَتِيهٍ مُجَافِيَا
وَإِنْ تَتَدَانَى مِنْهُمْ الِتَأَلُّفٍ
يَظُنُّوكَ خَدَّاعًا كَذُوبًا مُرَائِيَا
تَرى الظُّلْمَ مِنْهُمْ كَامِنًا فِي نُفُوسِهم
كذَا غَدْرُهُم فِي طَبْعِهِمْ مُتَوَارْيَا
فَفِي قُوَّةِ الإِنْسَانِ يَظْهَرُ ظُلْمُهُ
وَفِي عَجْزِهِ يَبْقَى كَمَا كَانَ خَافِيَا
وَهَيْهَاتَ تَنْجُو مِنْ غَوَائِلِ فِعْلِهم
وَأَقْوَالِهِمْ مَهْمَا تَكُنْ مُتَحَاشِيَا(3/534)
فَمَنْ رَامَ إِرْضَاءَ الأَنامِ بِقَوْلِهِ
وَفِعْلٍ غَدَا لِلْمُسْتَحِيلِ مُعَانِيَا
وَمَنْ ذَا الذِي أَرْضَى الخَلاَئِقِ كُلَّهُم
رَسُولاً نَبِيَّا أَمْ وَلِيًّا وَقَاضِيَا
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَا خَالِقُ الخَلْقُ هَلْ تَرَى
جَمِيعَ الوَرَى فِي قِسْمَةٍ مِنْه رَاضِيَا
إِذَا كَانَ رَبُّ الخَلْقِ لمْ يُرْضِ خَلْقَهُ
فَكيْفَ بِمَخْلُوقٍ رِضَاهُمْ مُرَاجِيا
فَلازِمْ رِضَى رَبِّ العِبَادِ إِذاً وَلاَ
تُبَالِ بِمَخْلُوقِ إذَا كُنْتَ زَاكِيَا
وَسَدِّدْ وَقَارِبْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا
يُكَلَّفُ عَبْدٌ فِعْلَ مَا كَانَ قَاوِيَا
اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدنيا ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن الأمانة فِي العلم أنك إذا سئلت عن مسألة خافيًا عليك حكمها أن تقول: لا أدري غير مستنكف ولا مبال بما يكون لها من أثر عند السائلين والمستمعين ولأن يقال سئل فقال: لا أدري خير من أن يقال سئل فأجاب خطأ أو روى مَا لَمْ يكن واقعًا.(3/535)
وسأل رجل بن عمر عن مسألة فقال: لا علم لي بها. ثم قال السائل بعد أن ولى: نِعْمَ مَا قال بن عمر قال: لما لا يعلم لا أعلم.
وقال سفيان بن عيينة: كنت فِي حلقة رجل من ولد عبد الله بن عمر فسئل عن شيء فقال: لا أدري. فقال له يحي بن سعد: العجب منك كل العجب تقول: لا أدري وأنت ابن إمام هُدَى؟ فقال: أولا أخبرك منى عند الله وعند من عقل عن الله من قال بغير علم أو حدث عن غير ثقة.
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس عن ثمان وأربعين مسألة، فقال فِي اثنين وثلاثين مِنْه: لا أردي.
وعن أبي سليمان بن بلال: قال شهدت بن محمد بن أبي بكر الصديق والناس يسألونه، فقال: يا هؤلاء بعض مسائلكم فإنا لا نعلم كل شيء.
وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلاً مِنْه فِي أيديهم إذا سئل أحدهم عما لا يعلم قال: لا أدري.
عَلَيْكَ بِلاَ أَدْريْ إِذََا كُنْتَ جَاهِلاً ... لِتَسْلَمَ مِن شَرِّ الخَطَا فِي الإِجَابَةِ
آخر: ... وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا ... وَيَكْرَهُ لا أَدْرِي أَصِيْبَتْ مَقَالِتُهْ
آخر: ... يَمُدُوْنَ فِي الإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً ... وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْجَوَابِ يُكَذْلِكُ
آخر: ... حِذَارَكَ أَنْ تَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... كَفَى بِالشَّكِ عِنْدَ النَّاسِ جَهْلاً
آخر: ... وَبِالصِّدْقِ فَاسْتَقْبِلْ حَدِيْثَكَ إِنَّهُ ... أَصَحُّ وَأَدْنَى لِلسَّدَادِ وَأَمْثَلُ(3/536)
آخر: ... تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُوْلَدُ عَالِمًا ... وَلَيْسَ أَخُوْ عِلْمٍ هُوَ جَاهِلُ
وَإِنْ كَبِيرَ الْقَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ ... صَغِيرٌ إِذَا التَّقَتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ
ومن الأمانة فِي العلم أن لا يفتي بما يراه باطلاً. إلا إن سأله عن مَا يراه فلان بأن قال: مَا رأي الشافعي أو أحمد فيها، أو مَا هو اختيار شيخ الإسلام فيها، إن كنت عالمًا بالحكم تقول له: يرى كذا وكذا ولا بأس.
وبالتالي فما من إنسان منا إلا وعلمه أمانة لله فِي عنقه، فالشعب أمانة فِي يد الولاة للأمور، والدين أمانة فِي يد العلماء وطلبة العلم والعدل أمانة فِي يد القضاة والحق أمانة فِي يد المجاهدين، والصدق أمانة فِي يد الشهود، والمرضى أمانة فِي يد الأطباء، والمصالح أمانة فِي يد المستخدمين، والتلميذ أمانة فِي يد الأستاذ، والولد أمانة فِي يد أبيه، والوطن أمانة فِي يد الجميع، وهكذا باقي الأمانات.
وَقَدْ ورددت آيات وأحاديث فِي عظم شأن الأمانة والأمر بحفظها وأدائها والتحذير من الخيانة فيها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: القتل فِي سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل فِي سبيل الله فيقال: أد أمانتك فيقول: أي رب كيف وَقَدْ ذهبت الدنيا، فيقال: انطلقوا به إِلَى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي فِي أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي فِي أثرها أبد الآبدين.
ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد(3/537)
ذلك الودائع، قال: راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إِلَى مَا قال ابن مسعود قال: كذا وكذا قال: البراء صدق أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .
وفي حديث حذيفة فِي وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: «أن الأمانة نزلت فِي جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» .
وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا، وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة فيقال: إن فِي بني فلان رجلاً أمينًا ويقال للرجل: مَا أعقله وما أظرفه وما أجلده وما فِي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» . الحديث رواه البخاري.
وللأمير الصنعاني فِي الحث على تدبر كتاب الله والتفكر فِي آياته والثناء على الله قصيدة بليغة.
الْوَارِدَاتُ عَلَيْنَا كُلَّهَا مِنَنٌ
مِنْ رَبِّنَا فَلَهُ الإِحْسَانُ وَالْحَسَنُ
إِنَا لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ
مَا لا تُحِيْطُ بِهِ عَيْنٌ وَلا أُذُنُ(3/538)
فَشُكْرُ بَعْضِ أَيَادِيهِ الَّتِي شَمَلَتْ
عَنْ شُكْرِهَا يَعْجَزُ الْعَلامَةُ اللَّسِنُ
يَا عَالِمَ الْغَيْبِ لا يَخْفَاهُ خَافِيَةٌ
وَعِلْمُهُ يَتَسَاوَى السِّرُّ وَالْعَلَنُ
أَهْلُ الْبَسِيْطَةِ طُرًّا تَحْتَ قَبْضَتِهِ
وَكُلُّهُمْ بِالذِّي يِأْتِيهِ مُرْتَهَنُ
بِحِكْمَةٍ وَبِعِلْمٍ كَانَ مُبْتَدِئًا
هَذَا الْوُجُودَ الذِّي حَارَتْ لَهُ الْفِطَنُ
دَحَى الْبَسِيطَةَ فَرْشًا لِلأنَامِ وَقَدْ
عَلَتْ عَلَيْهَا الْجِبَالُ الشُّمُّ وَالْقُنَنُ
كَيْلا تَمِيْدَ بِأَهْلِهَا وَأَوْدَعَهَا
لَهُمْ مَنَافِعَ إِنْ سَارُوا وَإِنْ قَطَنُوا
بَنَى السَّمَاءَ بَأَيْدٍ فَوْقَهَا وَحَوَتْ
عَجَائِبًا أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا فَطَنُوا
فَفِي التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهَا عِبَرٌ
لَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَنْ أَفْكَارِنَا الرَّسَنُ
وَقَدْ حَكَى اللهُ إِعْرَاضَ الْعِبَادِ فَهَلْ
غَطَّى على الْعَيْنِ مِنْ أَفْكَارِنَا الْوَسَنُ
إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ خَالِقِنَا
عِبَادَةُ الْفِكْرِ فِيْهَا الْخَلْقُ قَدْ غُبِنُوا
تَزْدَادُ بِالْفِكْرِ إِيْمَانًا وَمَعْرِفَةً
فَلا يَفُوتُكَ شَيْءٌ مَا لَهُ ثَمَنُ(3/539)
.. مَنَّ الإِلَهُ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ فَقُلْ
يَا مِنَّةً قَصُرَتْ مِنْ دُونِهَا الْمِنَنُ
فَصَرِّفِ الْفِكْرَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ تَجِدْ
فِيْهِ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَحْوِهَا الْفَطِنُ
آيَاتُهُ أَعْجَزَتْ كُلاٌّ بَلاغَتُهَا
وَأَبْلَغُ الْخَلْقِ قَدْ أَوْدَى بِهِ اللَّكَنُ
أَدِلَّةٌ وَأَقَاصِيصٌ وَأَمْثِلَةٌ
لَفْظٌ بَلِيغٌ وَمَعْنَى فَائِقٌ حَسَنُ
غُصْ بَحْرَهُ تَلْقَ فِيْهِ الدُّرَّ مُبْتَذَلاً
وَفُلْكُ فِكْرِكَ فِي أَمْوَاجِهِ السُّفُنُ
كَمْ قِصَّةٍ وَصَفَتْ أَخْبَارَ مَنْ دَرَجُوا
مِنْ صَالِحٍ وَشَقِيٍّ رَبُّهُ الْوَثَنُ
قِفْ بِالْمَثَانِي تَرَى آيَاتِهَا عَجَبًا
أَوْ بِالْمَئِينِ فَفِيهَا كُلِّهَا الْمِنَنُ
أَوْ الطَّوَالِ فَفِيْهَا الْعِلْمُ أَجْمَعُهُ
خَزَاِئٌن هِيَ لِلأَحْكَامِ تَخْتَزِنُ
وَفِي الْمُفَصَّلِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ
قَوَارِعٌ لِقُلُوبٍ مَا بِهَا دَرَنُ
إِنَّ الذُّنُوبَ لأَوْسَاخُ الْقُلُوبِ فَلاَ
يَكُنْ فُؤَادُكَ بَيْتًا حَشْوُهُ الدِّمَنُ
وَدَاوِ قَلْبَكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ فَمَا
يُجْدِي الدَّوَاءُ بِمَيْتٍ بَعْدَ مَا دَفَنُوا(3/540)
بِمَرْهَمِ التَّوْبَةِ الصِّدْقِ النَّصُوْحِ فَذَا
هُوَ الدَّوَاءُ لِذَاكَ الدَّاءِ لَوْ فَطِنُوا
وَنَارُ ذَنْبِكَ تُطْفِيهَا الدُّمُوعِ إِذَا
أَثَارَهَا الْخَوْفُ مِنْ مَوْلاكَ وَالْحَزَنُ
بَادِرْ بِهَذَا الدَّوَا مِنْ قَبْلِ مِيْتَتِهِ
فَمَا لِسَهْمٍ الْقَضَا مِنْ دُوْنِهِ جُنَنُ
وَرُبَّ شَخْصٍ تَوَفَى قَبْلَهُ وَثَوَى
فِي صَدْرِهِ فَهُوَ قَبْرٌ وَالْحَشَا كَفَنُ
تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي حَامِلاً جَدَثًا
فَهَلْ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا أَتَى الزَّمَنُ
فَأَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيْقًا يَكُونُ بِهِ
حُسْنُ الْخِتَامِ فَفِيْهِ الْفَوْزُ مُرْتَهَنُ
فَفِي الصَّلاةِ على خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى ال
آلِ الْكِرَامِ مَعَ التَّسْلِيْمِ يَقْتَرِنُ
اللهم ثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن توثيق عرى المودة بين المسلمين وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد، والحرص على مَا يجلب المودة والتآلف: والتناصر والتعاضد، وتجنب مَا يوغر الصدور(3/541)
ويورث العداوة واجب تقتضيه الأخوة الإيمانية، والإيمان لا يكون تامًا إلا بذلك.
والله سبحانه وتعالى نهى عن التفرق فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} فأمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرق، وَقَدْ وردت أحاديث متعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.
ولما كَانَ الصالح بين المسلمين أفرادًا أو جماعات يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل وحقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة.
وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل وتوفير الرسوم والنفقات الأخرى وتجنب إنكار الحقائق التي تجر إليها الخصومات وترك شهادة الزور وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس وتفرغ النفوس للمصالح بدل جدالها وانهماكها فِي الكيد للخصوم إِلَى غير ذلك مما يثمره الصلح أمر الله به وحث عليه.
قال الله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .
وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .(3/542)
وحث صلى الله عليه وسلم على الصلح وأصلح بين كثير من أصحابه وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كَانَ بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم فِي أناس معه. الحديث متفق عليه.
ولقد بلغت العناية بالصلح بين المسلمين إِلَى انه رخص فيه بالكذب رغم قباحته وشناعته وشدة تحريمه، وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يكذب من نمى بين اثنين ليصلح بينهم» .
وفي رواية: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرًا أو نمى خيرًا» . رواه أبو داود، وفي رواية لمسلم قالت: ولم أسمعه يرخص فِي شيء مما يقوله الناس إلا فِي ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، أي قال خيرًا على وجه الإصلاح وليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي أثمه فالكذب كذب وإن قيل للإصلاح أو غيره وإنما نفي عن المصلح كونه كذابًا باعتبار قصده.
وهذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إِلَى الزيادة فِي القول ومجاوزة الصدق طلبًا للسلامة ودفعًا للضرر ورخص فِي اليسير فِي مثل هذا لما يؤمل فيه من الصلاح، والكذب بين اثنين فِي الإصلاح أن ينمي من أحدهما إِلَى صاحبه خيرًا ويبلغه جميلاً وإن لَمْ يكن سمعه بقصد الإصلاح، والكذب فِي الحرب أن يظهر فِي نفسه قوة ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه ويوهنه ويشتت فكره. والكذب للزوجة أن يعدها ويمنيها ويظهر لها أكثر مما فِي نفسه ليستديم صحبتها ويصلح به خلقها.(3/543)
وبلغت العناية بالصلح بين الناس إِلَى أن المصلح بين الناس يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء مَا تحمله من الديون فِي سبيل الإصلاح وإن كَانَ قادرًا على أدائها من ماله.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس تجارة وأنه مما يرضاه الله ورسوله، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة» ؟ قال: بلى. قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا» . رواه البزار والطبراني، وعنده «ألا أدلك على عمل يرضاه الله ورسوله» ؟ قال: بلى. قال: «صل بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا» .
وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصلح بين الناس أصلح الله أمره وأعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة ورجع مغفورًا له مَا تقدم من ذنبه» رواه الأصبهاني وهو حديث غريب جدًا.
اللهم يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا مَا ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
عباد الله لمن كَانَ الإنسان مكلفًا بالسعي والعمل لطلب الرزق من وجوهه المشروعة كَانَ حقًّا عليه أن يصون نفسه عن مسألة الناس.
وأن لا يمد يده لسؤالهم ولا يتقدم إليهم لطلب حطام الدنيا إلا عند(3/544)
الضرورة أو الحاجة الشديدة لأنه إذا قعد عن العمل ولزم البطالة والكسل ونظر لما فِي أيدي الناس من أوساخهم ساءت حاله، وضاعت آماله، وضعف توكله، وضاق عيشه، وانحطت نفسه، واعتاد السؤال الذي لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:
الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله عنه، وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو جعل يسأل وأنه مَا يجد شيئًا لكان سؤاله تشنيعًا على سيده ولا يرضى بذلك ولله المثل الأعَلَى.
ولاسيما إذا أتى إِلَى بيت الله يسأله من فضله، ثم قام من حين مَا يسلم الإمام وجعل يشرح حاله وفقره وأوقف الناس عن تهليلهم، وتسبيحهم، وتكبيرهم، والمساجد لَمْ تبن إلا لذكر الله، والصلاة فيها وقراءة القرآن. وهذا المنكر قل من ينتبه له.
الأمر الثاني: أن فِي سؤال الناس إذلال لنفس السائل، وليس للإنسان أن يذل نفسه ويخضعها إلا لله، الذي فِي إذلالها عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا يذل لهم نفسه.
ثالثًا: أن فيه ظلم لنفسه إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة وفيه أيضًا إيذاء للمسئول خصوصًا إذ كَانَ مع إلحاح، والإيذاء حرام، فأي عاقل يرضى لنفسه بهذه الحالة التعسة، بل كيف يرضى أن يكون عضوًا أشلاً فِي الهيئة الاجتماعية لا يقام له وزن ولا تقام له قيمة.
وَقَدْ أثنى الله على الذين لا يسألون الناس إلحافًا وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة(3/545)
والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس.
ففي زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار عندهم الحلال مَا وصل إِلَى اليد وذهب عنهم الورع والابتعاد عن الشبهات، على الإنسان أن يبذل جهده ويثبت ولا يبذل زكاته إِلَى كل من مد يده، بل يسأله بدقة، ويتحقق من الأوراق التي تعرض عليه، التي صارت تصور وتباع وتشتري وربما حصل المتسول على أضعاف مَا فيها ولو أن هؤلاء المتسولين الشحاذين استعملوا فِي طريق منتج من تجارة أو غيرها مَا يصل إلى أيديهم من الصدقات لما بقي فِي الأمة مِنْهُمْ متسول، ولكن هؤلاء قوم ألفوا هذا العيش وركنوا إليه لا يدفعهم إليه فقر ولا يردهم عنه غنى، وكم ممن اكتشف فصار عنده ثروة، وهذا سببه عدم التبيت وإجراء العادات بدون سؤال هل اغتنى أم لا.
وَقَدْ بين صلى الله عليه وسلم من يحل له السؤال وذلك فيما ورد عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها» . ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال -: سداد من عيش.
ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال -: سداد من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتَا» . رواه مسلم.(3/546)
وَقَدْ ذكرنا الأحاديث التي تتضمن التغليظ الشديد فِي السؤال من غير ضرورة وذلك فِي موضوع (من تحل له الصدقة) .
شِعْرًا:
غَفَلْتُ وَحَادِي الْمَوْتِ فِي أَثَرِي يَحْدُوْ
فَإِنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِي فَلا بُدْ أَنْ أَغْدُ
أُنَعِّمُ جِسْمِي بِاللَِبَاسِ وَلِيْنِهِ
وَلَيْسَ لِجِسْمِي مِنْ لِبَاسِ الْبِلَى بُدُّ
كَأَنِّي بِهِ قَدْ مَرَّ فِي بَرْزَخِ الْبِلَى
وَمِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ
وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْمَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ
وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ
أَرَى الْعُمْرَ قَدْ وَلَى وَلَمْ أُدْرِكْ الْمُنَى
وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وَفِي سَفَرِي بَعْدُ
وَقَدْ كُنْتُ َجَاهَرْتُ الْمُهَيْمِنَ عَاصِيًا
وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ
وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِنْ الْحَيَا
وَمَا خِفْتُ مِنْ سِرِّي غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو
بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ
وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الْحَمْدُ
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٍ سِوَى الْمَوْتِ وَالْبِلَى
عَنْ اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنِا الرُّشْدُ(3/547)
عَسَى غَافِرُ الزَّلاَّتِ يَغْفِرُ زَلَّتِِي
فَقَدْ يَغْفِرُ الْمَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ
أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلايَ عَهْدَهُ
كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسِ لَهُ عَهْدُ
فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقَتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي
وَنَارُكَ لاَ يَقْوَى لَهَا الْحَجَرُ الصَّلْدُ
أَنَا الْفَرْدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْفَرْدُ فِي الْبِلَى
وَأَبْعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الْفَرْدَ يَا فَرْدُ
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك فِي أعمالنا وأجزل لنا الأجر والمثابة وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن درجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟ قالوا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» . رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: حديث صحيح قال: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» .(3/548)
ولا غرو إذا ارتفعت درجة المصلح الباذل جهده المضحي براحته وأمواله فِي رأب الصدع وجمع الشتات وإصلاح فساد القلوب، وإزالة مَا فِي النفوس من ضغينة وحقد والعمل على إحكام الروابط للألفة والإخاء وإطفاء نار العداوة والفتن.
كما هي وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم من الطوائف ويجدون فِي إحباط كيد الخائنين.
ولو أننا تبعتنا الحوادث وراجعنا الوقائع لوجدنا أن مَا بالمحاكم من قضايا وما بالمراكز والنيابات من خصومات وما بالمستشفيات من مرضى، وما بالسجون من بؤساء يرجع أكثره إِلَى إهمال الصلح بين الناس حتى عم الشر القريب والبعيد وأهلك النفوس والأموال وقضى على الأواصر وقطع مَا أمر الله به أن يوصل من وشائج الرحم والقرابة وذهب بريح الجماعات وبعث على الفساد فِي الأرض.
ومن تأمل مَا عليه الناس اليوم وجد أن كثيرًا مِنْهُمْ قَدْ فسدت قلوبهم وخبثت نياتهم لأنهم يحبون الشر يتركون ويميلون إليه ويعملون على نشره بين الناس، ومن أجل ذلك يتركون المتخاصمين فِي غضبهم وشتائمهم وكيد بعضهم لبعض حتى يستفحل الأمر.
ويشتد الشر ويستحكم الخصام بينهم فينقلبوا من الكلام إِلَى القذف والطعن ومن ذلك إِلَى اللطم ومن اللطم إِلَى العصي ومن العصي على السلاح ثم بعد ذلك إِلَى المراكز ثم إِلَى السجون والناس فِي أثناء ذلك كله(3/549)
يتفرجون ويتغامزون ويتتبعون الحوادث ويلتقطون الأخبار، بل قَدْ يلهبون نار الفتنة والعداوة ولا يزالون كذلك حتى يقهر القوي ولو كَانَ ذلك بالباطل والزور والبهتان بدون خوف من الله ولا حياء من الناس.
وتكون النتيجة بعد ذلك ضياع مَا يملكون من مال أو عقار وَقَدْ كَانَ يكفي لإزالة مَا فِي النفوس من الأضغان والأحقاد والكراهة، كلمة واحدة من عاقل لبيب ناصح مخلص تقضي على الخصومات فِي مهدها فيتغلب جانب الخير ويرتفع الشر وتسلم الجماعة من التصدع والانشقاق والتفرق.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، إذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه فِي شيء وهو يقول: والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألي على الله لا يفعل المعروف» ؟ فقال: أنا يا رسول الله فله أي ذلك أحب. متفق عليه. فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر عمله عدل عن رأيه واستجاب لفعل الخير وَقَدْ قامت فِي نفسه دوافعه إرضاء لله ولرسوله.
والشاهد من ذلك خروجه صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهم فالدين الإسلامي الحنيف أوجب على العقلاء من الناس أن يتوسطوا بين المتخاصمين ويقوموا بإصلاح ذات بينهم ويلزموا المعتدي أن يقف عند حده درأ للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع ومنعًا للفوضى والخصام، وأقوم الوسائل التي تصفو بها القلوب من أحقادها أن يجعل كل امرئٍ نفسه ميزانًا بينه وبين إخوانه المسلمين فما يحبه لنفسه يحبه لهم وما يكرهه لنفسه يكرهه لهم.
شِعْرًا:
كَمْ مِنْ أَخِ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَا ... وَأَخٌ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَا
كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُمَا ... وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَا(3/550)
وبذلك تستقم الأمور بإذن الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه» . وهذه الطريقة هي التي كَانَ عليها السلف الصالح من المسلمين وكانوا بسبب ذلك مفلحين.
شِعْرًا:
إِنَّ الْمَكَارِمَ كُلَّهَا لَوْ حُصِّلَتْ ... رَجَّعْتُ جُمْلَتِهَا إِلَى شَيْئَيْنِ
تَعَظِيْمُ أَمْرِ اللهِ جَلَّ جَلالَهُ ... وَالسَّعِي فِي إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ
آخر:
(فَأَحْسِنْ إِذَا أُوْتِيْتَ جَاهًا فَإِنَّهُ ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيْلٍ تَقْشَّعُ)
(وَكُنْ شَافِعًا مَا كُنْتَ فِي الدَّهْرِ قَادِرًا ... وَخَيْرُ زَمَانِ الْمَرْءِ مَا فِيْهِ يَشْفَعُ)
والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فَصْلٌ)
العدل: ضد الجور وهو الاعتدال والاستقامة والميل إِلَى الحق. وشرعًا: هو الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا وفي اصطلاح الفقهاء العدالة استواء أحواله فِي دينه واعتدال أقواله وأفعاله.
ويعتبر لها شيئان الصلاح فِي الدين واجتناب المحرم، والعدالة تارة يقال لها هي الفضائل كلها من حيث لا يخرج شيء من الفضائل عنها، وتارة يقال لها هي أجمل الفضائل من حيث أن صاحبها يقدر أن يستعملها فِي نفسه وفي غيره.
وقيل فِي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} أي العدل والإنصاف، كما فِي قوله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} وقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} قال قتادة ومجاهد ومقاتل: العدل. وسمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، وعبر عن العدالة بالميزان إذ كَانَ من أثرها، ومن أظهر أفعالها للحاسة.(3/551)
ومن مزية العدل أن الجور الذي هو ضد العدل لا يتسبب إلا به فلو أن لصوصًا أو نحوهم تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه لَمْ ينتظم أمرهم. ومن فضلها أن كل نفس تتلذذ بسماعها وتتألم من ضدها ولذلك حتى الجائر يستحسن عدل غيره إذ رآه أو سمعه.
والعدل يدعو إِلَى الألفة والمحبة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمي به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان لحصول الأمن العادل وانبساط الآمال.
عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ إِنْ وُلِّيتَ مَمْلَكَةً ... وَاحْذَرْ مِنْ الْجورِ فِيْهَا غَايَةَ الْحَذَرِ
فَالْمَالُكْ يَبْقَى على عَدْلٍ الْكَفُورِ وَلاَ ... يَبْقَى مَعْ الْجَوْرِ فِي بَدْوِ وَلاَ حَضَرِ
وَقَدْ قال المرزبان رئيس المجوس لعمر رضي الله عنه لما رآه مبتذلاً لا حارس له: عدلت فأمنت فنمت.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا
بَيْنَ الرَّعِيَّةِ عُطْلاً وَهُوَ رَاعِيْهَا
وَعَهْدُهُ بِمُلُوْكِ الْفُرْسِ أَنَّ لَهَا
سُوْرًا مِنْ الْجُنْدِ وَالأَحْرَاسِ يَحْمِيهَا
رَآهُ مُسْتَرِقًا فِي نَوْمِهِ فَرَأَى
فِيْهِ الْجَلالَةَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهَا
فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلاً
بِبُرْدَةٍ كَادَ طُولُ الْعَهْدِ يُبْلِيهَا(3/552)
فَهَانَ فِي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْبِرُهُ
مِنْ الأَكَاسِرِ وَالدَّنْيَا بِأَيْدِيهَا
وَقَالَ قَوْلَةَ حَقٍّ أَصْبَحَتْ مَثَلاً
وَأَصْبَحَ الْجِيلُ بَعْدَ الْجِيلِ يَحْكِيهَا
أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمُوا
فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيرِ الْعَيْنِ هَانِيهَا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فالعدل فِي حالة الغضب والرضا وخشية الله تعالى فِي السر والعلانية والقصد فِي الغنى والفقر.
وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه،» . والذي يجب أن يستعمل الإنسان العدل معه أولاً بينه وبين رب العزة جل ولعلا بمعرفة أحكامه وتطبيقها بالعمل بها.
فأعظم الحقوق على الإطلاق حق الله تعالى على عباده وذلك بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وفي حديث معاذ المتفق عليه «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» . فمن قام بهذا الحق فعبد الله وحده. وأدى هذا الحق وقام بحقوقه مخلصًا لله، فقد قام بأعظم العدل، ومن صرفه لغير الله فقد جار وظلم، وعدل عن العدل واستحق العقوبة.
الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيْرَتِهِ
لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا(3/553)
الثاني: أن يعدل مع نفسه وذلك بحملها على مَا فيه صلاحها وكفها عن القبائح ثم بالوقوف فِي أحوالها جور على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فِي الأحوال جور على النفس والتقصير فيها ظلم لها لمنعها عن كمالها ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ومن جار على نفسه فهو على غيره أجور، لأن من لَمْ يراع حقوق نفسه فعدم مراعاته حقوق غيره أولى وأحرى.
الثالث: عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان فِي رعيته والرئيس مع صحابته، وذلك بأمور: الأول إتباع الميسور لهم وترك المعسور وحذفه عنهم وترك التسليط والقهر بالقوة وابتغاء الحق فِي الميسور ويقيم العدل فيهم قريبهم وبعيدهم غنيهم وفقيرهم وأن يكونوا عنده فِي هذا سواء.
ولا يقصر شيئًا من واجبه مع رعيته ولا يهمل شيئًا يرقي أدانهم وعقولهم وأخلاقهم ويحفظ عليهم أموالهم ودمائهم وأعراضهم ويكون لهم مثلاً أعلى فِي معاملة بعضهم بعضًا بالعدل والإنصاف، فالحاكم كالقلب من الجسد إذا صَلح صلح الجسد، فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت، فلهذا مسؤولية ولاة الأمور عظيمة فِي نظر الشريعة الإسلامية.
وَقَدْ حذر مِنْهَا النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» . رواه مسلم، وحقها فِي نظر الدين أن يقوم بكل شيء فيه مصلحة للمحكومين.(3/554)
قال عمر رضي الله عنه: والله لو عثرت بغلة فِي العراق لوجدتني مسئولاً عنها، فقيل: لماذا يا أمير المؤمنين، فقال: لأنني مكلف بإصلاح الطريق. هذا مثال الحاكم العدل، ولهذا جعل الله له فضلاً عظيمًا وميزة كما سيأتي فِي الأحاديث.
وروي أن يهوديًا شكا عليًا إِلَى عمر فِي خلافته رضي الله عنهما، فقال عمر لعلي بن أبي طالب: قف بجوار خصمك يا أبا الحسن، فوقف وَقَدْ علا وجهه الغضب فبعد أن قضى الخليفة بينهما بالعدل قال: أغضبت يا علي أن قلت لك قف بجوار خصمك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لكن من كونك كنيتني بأبي الحسن فخشيت من تعظيمك إياي أمام اليهودي أن يقول ضاع العدل بين المسلمين.
وجاء رجل إِلَى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ رزقه وكان جنديًا من جنود المسلمين ولكنه كَانَ فِي الجاهلية قَدْ قتل أخًا لعمر بن الخطاب فلما رآه عمر اربد وجهه، وقال له: يا هذا إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، فقال الرجل لعمر: أو مانعي ذلك عندك حقًّا من حقوق الله فقال عمر: اللهم لا.
فقال الرجل مَا يضيرني بغضك إياي إنما يأسى على الحب النساء. فقد عرف الرجل من ورع عمر ودينه أن شدة غضبه وغيضه وحنقه عليه وكراهية له لا تخرج به عن العدل إِلَى الظلم فهو لما علم من عدله وثقته بدينه أمن من بطشه.
ومما يجب عليه أن يستنيب لكل عمل الأكفأ الأمين وليحذر أن يولي عليهم رجلاً وفي رعيته خير مِنْه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه(3/555)
وسلم: «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . رواه الحاكم.
وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد أن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» . رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعَلَى الإمام أن يوصي من استنابه بإقامة العدل ويحذرهم من الجور وظلم العباد فِي الدماء والأموال والأعراض، ويذكرهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده» .
ويتفقدهم فِي ذلك الأمر الذي هو أساس الصلاح الديني والدنيوي فلا يصلح الدين إلا بالعدل ولا تصلح الدنيا وتستقيم الأمور إلا على العدل.
وقال الشيخ تقي الدين أمور الناس تستقم فِي الدنيا مع العدل الذي فيه اشتراك فِي أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم فِي الحقوق وإن لَمْ تشترك فِي إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كَانَت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كَانَت مسلمة ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لَمْ يكن لصاحبها فِي الآخرة من خلاق. أ. هـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه(3/556)
وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل نمن عبادة ستين سنة وحد يقام فِي الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحًا» . رواه الطبراني فِي الكبير والأوسط وإسناد الكبير حسن.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها، ويا أبا هريرة جور ساعة فِي حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة» . وفي رواية: «عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة» . رواه الأصبهاني.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إِلَى الله يوم القيامة وأدناهم مِنْه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إِلَى الله تعالى وأبعدهم مجلسًا إمام جائر» . رواه الترمذي والطبراني فِي الأوسط مختصرًا، وعد صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله «إمام عادل» .
اللهم ارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً ورزقًا واسعًا نستعين به على طاعتك، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وإيمانًا خالصًا، وهب لنا لإنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، وأعمال الصالحين، ويقين الصادقين، وسعادة المتقين، ودرجات الفائزين، يا أفضل من رجي وقصد، وأكرم من سئل، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ويجب على القضاء والحاكم بين الناس أن يتحروا العدل ويحكموا به بين الناس.(3/557)
وهم أهم ركن تقوم عليه سعادة المجتمع وينبني عليه أمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا جار القاضي ولم يقسط اختل الظلم وسادت الفوضى، ولهذا إذا عم العدل استغنت الأمة عن المحاكم وقضاتها ومحاميها والوكلاء والسماسرة، وانقطع دابر شهداء الزور أعدمهم الله عن الوجود أو أصلحهم، فأكثر الحكام وظيفتهم إقامة العدل، فإذا وجد العدل فلا حاجة إليهم، وبذلك يتوفر على الأمة عدد كبير يشتغل فِي مصالح أخرى، ويتوفر مقدار كثير من المال.
ولهذا السلف تمر المدة الكثيرة على القاضي لا يأتيه خصوم، وإليك حكاية حال تاريخية تنطبق تمامًا على المتصفين بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة. عيَّن أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لَمْ يختصم إليه اثنان فطلب من أبو بكر إعفاءه من القضاء فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟
فقال له عمر: لا يا خليفة رسول الله ولكن لا حجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل مِنْهُمْ مَا له من حق فلم يطلب أكثر مِنْه وما عليه من واجب فلم يقصر فِي أدائه، أحب كل مِنْهُمْ لأخيه ما يحب لنفسه وإذا غاب أحدهم تفقدوه وإذا مرض عادوه إذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيهم يختصمون إذًا.
وبالتالي فقد عنيت الشريعة بالعدل فِي القضاء عنايتها بكل مَا هو دعامة لسعادة الحياة فأتت بالعظات البالغات تبشر من أقامه بعلو المنزلة وحسن العاقبة، وتحذر من انحراف عنه بالعذاب الأليم.(3/558)
فمن الآيات المنبهة لما فِي العدل من فضل وكرامة قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فأمر بالعدل ونبه على أن الحاكم المقسط ينال خيرًا عظيمًا، هو محبة الله للعبد، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة فِي الدنيا والعيشة الراضية فِي الآخرة.
وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ومن الأحاديث الدالة على مَا يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله تعالى مَا ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فِي حكمهم وأهليهم وما ولوا» رواه مسلم والنسائي.
ففيه دليل على العناية بهم لكونهم عن يمينه جل وعلا ودليل على شدة قربهم مِنْه جل وعلا وفوزهم برضوانه وفي ذكر الرحمن تربية لقوة الرجاء والثقة بأن الحاكم العادل يجد من النعيم مَا تشتهيه نفسه وتلذ عينه قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} فالمقربون يحصل لهم من النعيم ما لا يحصل لغيرهم.
وَقَدْ وردت آيات وأحاديث تحذر من الجور فِي القضاء من ذلك قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور» . رواه البزار والطبراني فِي الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح.(3/559)
وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد فِي الجنة واثنان فِي النار فأما الذي فِي الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فِي الحكم فهو فِي النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فِي النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
فالقاضي الممدوح فِي نظر الدين هو الذي يعرف الحق ويقضي به فإما معرفة الحق فإنها تحتاج إلى مجهود عظيم وبحث فِي كل الظروف والأحوال المحيطة بالخصوم وأما الحكم بالحق فإنه يحتاج إِلَى مجاهدة عظيمة حتى يبعد القاضي عن الميل ويتنزه عن التحيز إِلَى أقربائه وأصدقائه وأصهاره وجيرانه أو من بينهم وبينه رابطة، أو تجمعهم معه جامعة أو يكون له فِي الميل غرض يناله من مال أو منصب أو شهوة.
فالقاضي لا ينجو إلا إذا كَانَ كالميزان المنضبط فلا يميل مثقال ذرة إِلَى أحد الخصمين إلا بالحق ومن لَمْ يفعل ذلك فإنه يتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» . على مَا فسره بعض العلماء من أن معناه أنه عرض نفسه للهلاك والعذاب الأليم وهذا أن لَمْ يقض بالحق.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي تمرة قط» . رواه أحمد وابن حبان فِي صحيحه ولفظه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدعى القاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب مَا يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي عمره قط» . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.(3/560)
(فَصْلٌ)
وكذلك العدل بين الأولاد والأقارب بالقيام بحقوقهم على اختلاف مراتبهم والقيام بصلتهم الواجبة والمستحبة به تتم الصلة وتقوى روابط المحبة والتعاطف، وبذلك يكسبون الشرف عند الله وعند خلقه وبه تنظر هذه البيوت التي قامت على ذلك بعين التقدير والتعظيم والإجلال.
وبذلك تحصل بإذن الله التكاتف والتساعد على مصالح الدنيا والدين وذلك راجع إِلَى العدل وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والمرأة راعية فِي بيت زوجها مسئولة عن رعيتها والخادم راع فِي مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته» . رواه البخاري ومسلم.
وأما المرأة فإنها مسئولة عن تدبير منزلها بما يوافق حال زوجها فلا ترهقه بالإنفاق ولا تطلب بطلب لا يقدر عليه ولا تخونه فِي عرضه ولا تفعل مَا يؤذيه وكذلك يجب عليها أن تعدل بين أبنائها فيما بين يديها من طعام وشراب فلا تفضل واحدًا على الآخر من غير حق بل تعطي كل واحد مَا يناسبه فلا تحرم من تبغض وتجزل العطاء لمن تحب فإن خانت زوجها فِي عرضها أو ماله أو آذته بعصيانها أو فضلت بعض أولادها على بعض كَانَت ظالمة تستحق العقاب.
وكذا الخادم والعامل مسئول عن العمل الذي وكل إليه وائتمن عليه فإذا أهمل العامل عملاً أو أداه ناقصًا فقد ظلم سيده واستحق العقاب وكذلك الخادم إذا خان سيده فِي ماله كَانَ كلفه بشرائه فزاد فِي ثمنه وأخذه لنفسه أو أهمل مساومة التاجر فغبه فِي السلعة أو رأى أحدًا يعتدي على مال سيده فلم يرده أو كلفه بالإنفاق على عمل فأسرف فيه بدون حق فانه يكون ظالمًا وآثمًا.(3/561)
ومن هؤلاء الصناع الذين يتعاقبون على عمل ثم لا يجيدون صنعه ويغشون الناس فإنهم ظالمون آثمون وكذلك النجارون والحدادون وسائر أهل الصنائع لأنهم مكلفون بالعدل فِي صنائعهم بان يجيدوها ولا يتركوا خللاً إلا أصلحوه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع استرعاه حفظ أم ضيع» . رواه ابن حبان فِي صحيحه وجاء فِي ترك العدل بين الزوجات أحاديث تدل على خطورة ذلك مِنْهَا مَا ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط» . رواه الترمذي.
ورواه أبو داود ولفظه: «من كَانَت له امرأتان فمال إِلَى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» . ورواه النسائي ولفظه: «من كَانَت له امرأتان يميل إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل» . ورواه ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه بنحو رواية النسائي هذه إلا أنهما قالا: «جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» . اللهم قو إيماننا بك وبكتبك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. اللهم ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وإذا تتبعت سيرة الخلفاء الراشدين ومن اقتدى بهم وجدتهم يعدلون(3/562)
ويأمرون بالعدل بل مِنْهُمْ من يطلب بنفسه من الأمة أن تحاسبه على كل عمل وتصرف وتقومه فِي كل خطأ قَدْ يصدر مِنْه ما داموا مخلصين يبتغون وجه الله فِي حكمهم وسلطانهم.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل يقول عندما استلم الحكم: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني مَا أطعت الله ورسوله فيكم. ويقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: من رأى منكم فِيَّ اعوجاجًا فليقومه.
وقال رجل لعمر: اتق الله يا عمر فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقولون هذا لأمير المؤمنين ولكن عمر نهره بتلك الكلمة وقال: لا خير فيكم إن لَمْ تقولوها ولا خير فينا إن لَمْ نسمعها.
وفي مرة كَانَت جملة من غنائم المسلمين أبراد يمانية فقام عمر رضي الله عنه يقسم هذه الغنائم بالعدل وَقَدْ أصابه مِنْهَا برد كما أصاب ابنه عبد الله مثل ذلك كأي رجل من المسلمين ولما كَانَ عمر بحاجة إِلَى ثوب طويل لأنه طويل الجسم تبرع له ابنه عبد الله ببرده ليصنع منهما ثوبًا يكفيه ثم وقف وعليه هذا الثوب الطويل يخطب فِي الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى على رسوله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. فوقف له سلمان الفارسي الصحابي المشهور الجليل فقال لعمر: لا سمع لك علينا ولا طاعة.
فقال عمر رضي الله عنه: ولم؟ قال سلمان: من أين لك هذا الثوب، وَقَدْ نالك برد واحد وأنت رجل طويل فقال: لا تعجل ونادى ابنه عبد الله فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: ناشدتك الله البرد الذي اتزرت له اهو رداؤك؟ فقال: اللهم نعم. قال سلمان: الآن مر نسمع ونطيع.(3/563)
وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المسجد ومعه الجارود فإذا امرأة برزة على ظهر الطريق فسلم عليها فردت عليه أو سلمت عليه فرد عليها فقالت: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرًا فِي سوق عكاض تصارع الصبيان فلم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله فِي الرعية واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فبكى عمر رضي الله عنه.
فقال الجارود: هيه قَدْ اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه. فقال عمر: دعها أما تعرف هذه هي خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سمواته فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها.
وقام مرة خطيبًا فقال: إن رأيتم فِيَّ اعوجاجًا فقوموني. فقام رجل من الحاضرين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر.
وكان رضي الله عنه إذا التبست عليه بعض الأمور يشاور الصحابة وقال رضي الله عنه: مَا تشاور قوم قط إلا هدوا لرشدهم.
وقال لقمان لابنه يا بني شاور من جرب فإنه يعطيك من رأيه مَا أقام عليه بالغلاء وأنت تأخذه بالمجان.
وقال الحسن: الناس ثلاثة فرجل ورجل نصف رجل ورجل لا رجل، فأما الرجل فذو الرأي والمشورة وأما نصف الرجل فالذي له رأي ولا يشاور، وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي لا رأي له ولا يشاور.
وقال ابن عيين كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أمرًا شاور فيه الرجال وكيف يحتاج إِلَى مشاورة المخلوقين من الخالق مدبر أمره ولكنه تعليم مِنْه ليشاور الرجل الناس.
وقال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تقطع أمرًا فلا تقطعه حتى تستشير مرشدًا.
شِعْرًا:
رُكُوبُكَ الأَمْرَ مَا لَمْ تَبْدُ مَصْلَحَةٌ ... جَهْلٌ وَرَأْيُكَ فِي الإِقْحَامَ تَغْرِيرُ(3/564)
.. فَاعْمَلِ صَوَبًا وَخُذْ بِالْحَزْمِ مَأْثَرَةً ... فَلَنْ يُذَمَّ لأَهْلِ الْحَزْمِ تَدْبِيرُ
وقال عمر رضي الله عنه: لا أمين إلا من يخشى الله فشاور فِي أمرك الذين يخشون الله.
شِعْرًا: ... إِذَا بَلَغَ الرَّأُي الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ
بِرِأْيِ نَصِيح أَوْ نَصِيحَةٍ حَازِمِ
وَلا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً
فَإِنْ الْخَوَافِي قَوةٌ لِلْقُوَادِمِ
آخر: ... شَاوِرْ سِوَاكَ إِذَا نَالِتْكَ نَائِبَةٌ ... يَوْمًا وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَاتِ
فَالْعَيْنُ تُبْصِرُ فِيْهَا مَا دَنَا وَنَأَى ... وَلا تَرَى نَفْسَهَا إِلا بِمِرْآتِ
آخر: ... إِذَا عَنَّ أَمْرٌ فَاسْتَشِرْ فِيهِ صَاحِبًا
وَإِنْ كُنْتَ ذَا رَأْيٍ تُشِيرُ على الصُّحَبِ
فَإِنِي رَأَيْتُ الْعَيْنَ تَجْهَلُ نَفْسَهَا
وَتدْرِك مَا قَدْ حَلَّ فِي مَوْضِعِ الشُّهْبِ
وقال سليمان بن داود: يا بني لا تقطع أمرًا حتى تأمر مرشدًا فإذا فعلت فلا تحزن.
وفي كتاب الإمام علي رضي الله عنه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر: ولا تدخل فِي مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانًا يضعفك عن الأمور ولا حريصًا يزين لك الشر بالجور فإن البخل والحرص والجبن غرائز وشتى يجمعن سوء الظن بالله.
وعنه من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها فِي عقولها.
شِعْرًا: ... إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمٍَة
فَإِنَ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَدًّا
وَإِنْ كُنْتَ ذَا عَزْمٍ فَأَنْفَذْهُ عَاجِلاً
فَإِنْ فَسَادَ الْعَزْمِ أَنْ تَتَقَيَّدَا(3/565)
ولما بويع بالخلافة فِي اليوم الذي مات فيه أبو بكر بوصية من أبي بكر إليه هابه الناس هيبة شديدة حتى إنهم تركوا الجلوس فِي الأفنية فلما بلغه ذلك جمع الناس ثم قام على المنبر حيث كَانَ يقوم أبو بكر يضع قدميه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي وقالوا: قَدْ كَانَ عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا فكيف الآن وَقَدْ صارت الأمور إليه.
ولعمري من قال ذلك فقد صدق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عنده وخادمه حتى قبضه الله تعالى وهو راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك ثم ولي أمر الناس أبو بكر رضي الله عنه فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه فأكون سيفًا مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله تعالى وهو عليَّ راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك.
ثم إني وليت هذا الأمر فاعلموا أن تلك الشدة قَدْ تضاعفت ولكنها تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين.
وأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لبعضهم من بعض ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه حتى يضع خده على الأرض وأضع قدمي على الآخر حتى يذعن للحق.
وإلى هذا أشار الشاعر فِي قوله:
فِي طِيِّ شِدَّتِهِ أَسْرَارُ رَحْمَتِهِ
لِلْعَالَمِينَ وَلِكْن لَيْسَ يُفْشِيهَا(3/566)
وَبَيْنَ جَنْبَيِهِ فِي أَوْفَى صَرَامَتِهِ
فُؤَادُ وَالِدٍَة تَرْعَى ذَرَارِيهَا
أَغْنَتْ عِنْ الصَّارِمِ الْمَصْقُوِلِ دُرَّتُهُ
فَكَمْ أَخَافَتْ غَوَي النَّفْسِ عَاتِيهَا
وقال: ولكم عليَّ أيها الناس أن لا اخبأ عنكم شيئًا من خراجكم وإذا وقع عندي أن لا يخرج إلا بحقه ولكم عليَّ أن لا ألقيكم فِي المهالك وإذا غبتم فِي البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وأخرج بن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إِلَى حذيفة رضي الله عنهما أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه قَدْ فعلنا ويبقى شيء كثير.
فكتب إليه عمر: إنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر ولا لآل عمر أقسمه بينهم.
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إِلَى أبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد فاعلم يومًا من السنة لا يبقى فِي بيت المال درهم حتى يكتسح حتى يعلم الله إني قَدْ أديت إِلَى كل ذي حق حقه.
وعند ابن عساكر عن سلمة بن سعيد قال: أتى عمر بن الخطاب بمال فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال فِي بيت المال لنائبه تكون أو أمر يحدث.
فقال كلمة مَا عرض بها إلا شيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها(3/567)
أعصي العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ولتكون فتنة من بعدي.
وقال سعيد بن المسيب: توفي والله عمر رضي الله عنه وزاد فِي الشدة فِي موضعها واللين فِي مواضعه وكان أبا العيال حتى إنه يمشي على المغيبات اللاتي غاب عنهن أزواجهن ويقول: ألكن حاجة حتى اشتري لكن فإني أكره أن تخدعن فِي البيع والشراء فيرسلن معه جواريهن.
فيدخل ومعه جواري النساء وغلمانهم ما لا يحصي فيشتري لهن حوائجهن فمن كَانَت ليس عندها شيء اشترى لها من عنده وكان يحمل حراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام فقال بعضهم له: دعني احمل عنك. فقال عمر: ومن يحمل عني ذنوبي يوم القيامة.
ويروى أنه مر بنوق قَدْ بدت عليها آثار النعمة تهف ذراها فسأل عن صاحبها فقالوا: عبد الله بن عمر فساقها إِلَى بيت مال المسلمين ظنًّا مِنْه أن ثروة ابنه لا تفي لها وأنه لولا جاهه بين الناس مَا قدر على إطعامها.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَمَا وَفَى ابْنُكَ عَبْدُ اللهِ أَيْنُقُهُ
لَمَّا اطَّلَعْتَ عَلَيْهَا فِي مَرَاعِيهَا
رَأَيْتَهَا فِي حِمَاهُ وَهِي سَارِحَةٌ
مِثْلَ الْقُصُورَ قَدْ اهْتَزَّتْ أَعَالِيهَا
فَقُلَت مَا كَانَ عَبْدُ اللهِ يُشْبِعَهَا
لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدِي أَوْ كَانَ يَرْوِيهَا(3/568)
قَدْ اسْتَعَانَ بَجَاهِي فِي تِجَارَتِهِ
وَبَاتَ بِاسْمِ أَبِي حِفْصٍ يُنَمِّيْهَا
رُدُّوا النِّيَاقَ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنَّ لَهُ
حَقَّ الزِّيَادَةِ فِيهَا قَبْلَ َشارِيهَا
وَهَذَهِ خُطَّةٌ للهِ وَاضِعُهَا
رَدَتَ حُقُوقًا فَأْغْنَتَ مُسْتَميحِيهَا
وروي أن طلحة رضي الله عنه خرج فِي ليلة مظلمة فرأى عمر رضي الله عنه قَدْ دخل بيتًا ثم خرج فلما أصبح طلحة ذهب إِلَى ذلك البيت فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة لا تقدر على المشي فقال لها طلحة: مَا بال هذا الرجل يأتيك. فقالت: إنه يتعاهدني من مدة كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى يعني القذر والنجاسة فرضي الله عنه أرضاه.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ولما رجع رضي الله عنه من الشام إِلَى المدينة انفرد عن الناس ليتعرف ويتفقد أحوال رعيته فمر بعجوز فِي خباء لها فقصدها فقالت: يا هذا مَا فعل عمر؟ قال: قَدْ أقبل من الشام سالمًا. فقالت: لا جزاه الله خيرًا.
قال: ولم قالت لأنه والله مَا نالني من عطائه منذ تولى أمر المسلمين دينار(3/569)
ولا درهم قال: وما يدري بحالك وأنت فِي هذا الموضع فقالت: سبحان الله والله مَا ظننت أن أحدًا يلي على الناس ولا يدري مَا بين مشرقها ومغربها فبكى عمر رضي الله عنه وقال: واعمراه كل أحد أفقه منك يا عمر حتى العجائز.
ثم قال لها: يا أمة الله بكم تبيعيني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله فقال: لست بهزاء فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه شتمت أمير المؤمنين فِي وجهه.
فقال لها عمر: يرحمك الله ثم طلب رقعة جلد يكتب بها فلم يجد فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم هذا مَا اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إِلَى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارًا فما تدعي عند وقوفه فِي الحشر بين يدي الله تعالى فعمر مِنْه بريء شهد على ذلك علي وابن مسعود دفع الكتاب إليَّ وقال: إذا أنا مت فاجعله فِي كفني ألقى به ربي عز وجل.
هكذا يكون العلماء العاملون قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} .
عَلَى قَدْرِ عِلْمِ الْمَرْءِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ
فَلا عَالِمٌ إِلا مِنَ اللهِ خَائِفُ(3/570)
فَآمِنْ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ جَاهِلٌ
وَخَائِفُ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ عَارِفُ
وأخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال: كَانَ بين عمر وبين أبي كعب رضي الله عنهما خصومة فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فقال له عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم.
فلما دخل عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين فقال له عمر:
هذا أول جور جرت فِي حكمك، ولكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبيّ وأنكر عمر فقال زيد لأبي: اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كَانَ للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما دار إِلَى جنب مسجد المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: بعينها فأراد عمر أن يزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يبيعها إياه فقال عمر: فهبها لي فأبي فقال: فوسعها أنت فِي المسجد فأبى.
فقال عمر: لا بد لك من إحداهن فأبى عليه فقال: خذ بيني وبينك رجلاً فأخذ أبيا رضي الله عنه فاختصما إليه فقال أبي لعمر: مَا أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا فِي كتاب الله وجدته أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/571)
فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدمًا فأوحى الله إليه أن لا تبني فِي حق رجل حتى ترضيه فتركه عمر فوسعها العباس رضي الله عنهما بعد ذلك فِي المسجد.
بلغ يا أخي هذه القصة للساكنين فِي بيوت المسلمين بغير رضاهم وقل لَمْ تصلون وتصومون وتنكحون فِي بيت مغصوب يدعو عليكم مالكه ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا. أما علمتم أن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا.
وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن سعيد بن المسيب قال: أراد عمر رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فيزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يعطيها إياه فقال عمر: لآخذنها فقال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب رضي الله عنه قال: نعم.
فأتيا أبيًّا فذكرا له فقال: أبيّ أوحى الله إِلَى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أن يبني بيت المقدس وكانت أرضًا لرجل فاشترى مِنْه الأرض فلما أعطاه الثمن قال: الذي أعطيتني خير أم أخذت مني قال: بل الذي أخذت منك قال: فإني لا أجيز ثم اشتراها مِنْه بشيء أكثر من ذلك فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا.
فاشترط سليمان عليه الصلاة والسلام أني أبتاعها منك على حكمك فلا تسألني أيهما خير قال: فاشتراها مِنْه بحكمه فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا فتعاظم ذلك سليمان عليه الصلاة والسلام أن يعطيه فأوحى الله إليه أن كنت تعطيه من شيء هو لك فأنت أعلم وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطيه حتى يرضى ففعل وأنا أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضى، بلغ يا(3/572)
أخي أيضًا هذه القصة الساكنين فِي بيوت المسلمين بغير حكم شرعي وقل لهم أما تتقون الله وتخشون عقوبته.
قال العباس: فإذا قضيت لي فإني أجعلها صدقة للمسلمين رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنة الفردوس مثوانا ومثواهم.
وروي أن عمر رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كَانَ فِي دار العباس بن عبد المطلب إِلَى الطرق بين الصفا والمروة فقال له العباس: قلعت مَا كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعه بيده فقال: إذا لا يرده إِلَى مكانه غيرك ولا يكون سلم غير عاتق عمر فأقامه وأعاده على عاتق عمر ورده إِلَى موضعه.
وساوم عمر رضي الله عنه رجلاً من رعيته فِي شراء فرس ثم ركبه عمر ليجربه فعطب فرده إِلَى صاحبه فأبى صاحب الفرس أن يأخذه فقال له: وهو خليفة المسلمين اجعل بيني وبينك حكمًا فرضي الرجل بقضاء شريح العراقي فتحاكما إليه.
فقال شريح: بعد أن سمع حجة كل مِنْهما: يا أمير المؤمنين خذ مَا اشتريت أو رده كما أخذته فأكبر عمر هذه العدالة والنزاهة من شريح وقال: وهل القضاء إلا هكذا ثم أقام شريحًا على القضاء فِي الكوفة تقديرًا لنزاهة وعدله رضي الله عنهما وأرضاهما الله يسر لنا أمثالها وأبعد عنا أضدادهما.
الله يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنا على القيام بطاعتك والانتهاء عن معصيتك اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإنا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسلبت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤمله من الخيرات معطيًا سواك ولا(3/573)
لكسره جابرًا إلا أنت يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وكان عمر رضي الله عنه فِي خلافة أبي بكر يتعهده امرأة عمياء بالمدينة ليقوم بأمرها فكان إذا جاءها ألفاها قَدْ قضيت حاجتها فترصد عمر يومًا فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مؤنتها لا تشغله عن ذلك الخلافة وتبعاتها، عندئذ صاح عمر حين رآه أنت هو لعمري. ولله در القائل يصف الصحابة رضي الله عنهم:
قَوْمٌ طَعَامُهُمُو دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ
يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْعُلا وَالسُّؤْدِدِ
ومن كلامه إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير مَا أعزنا الله به أذلنا الله.
وعن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبة صوف فيها اثنا عشر رقعة بعضها من جلد، ورآه رجل وهو يطلي بعيرًا من إبل الصدقة بالقطران فقال له: يا أمير المؤمنين لو أمرت عبدًا من عبيد الصدقة فكفاله فضرب عمر صدر الرجل وقال: عبد أعبد مني.
وروي أنه أتي بمال كثير فأتته ابنته حفصة فقالت: يا أمير المؤمنين حق أقربائك فقد أوصى الله بالأقربين فقال: لا يا حفصة إنما حق الأقربين فِي مالي(3/574)
فأما مال المسلمين فلا يا حفصة نصحت وغشيت أباك فقامت تجر ذيلها.
وروي أنه جيء بمال كثير من العراق، فقيل له: أدخله بيت المال فقال: لا ورب الكعبة لا يرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد، وغطى بالأنطاع، وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار.
فلما أصبح نظر إِلَى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدر يتلألأ، فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين مَا هذا بيوم بكاء ولكنه فِي قوم قط إلا وقع بأسهم بينهم.
قم أقبل إِلَى القبلة وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} .
وعن سنان الدولي أنه دخل على عمر وعنده نفر من المهاجرين الأولين فأرسل عمر رضي الله عنه لسفط أتي به من قلعة بالعراق، وكان فيه خاتم فأخذه بعض بنيه فأدخله فِي فيه فانتزعه مِنْه ثم بكى، فقال له من عنده: لَمْ تبكي يا أمير المؤمنين وَقَدْ فتح الله عليك، وأظهرك على عدوك، وأقر عينك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تفتح الدنيا على أحد حتى تلقى بينهم العداوة، والبغضاء، إِلَى يوم القيامة وأنا أشفق من ذلك» . رواه أحمد والبزار.
وروي أنه كَانَ يقسم شيئًا من بيت المال، فدخلت ابنة له صغيرة فأخذت درهمًا فنهض فِي طلبها حتى سقطت ملحفته عن منكبيه، ودخلت(3/575)
الصبية إِلَى بيت أهلها وهي تبكي، وجعلت الدرهم فِي فمها، فأدخل عمر إصبعه فِي فمها فأخرج الدرهم وطرحه على خراج المسلمين، وقال: أيها الناس إنه ليس لعمر ولا لآل عمر إلا مَا للمسلمين قريبهم وبعيدهم.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا عَلَى حرة واقم، فإذا نار توارى بضرام، فقال: يا ابن أسلم إني أحسب هؤلاء ركبًا يضربهم الليل والبرد، انطلق بنا إليهم، قال: فخرجنا نهرول حتى انتهينا إِلَى النار فإذا امرأة توَقَدْ تحت قدر، ومعها صبيان يتضاغون، فقال: السلام عليكم أصحاب الضوء أأدنو فقالت المرأة: أدن بخير أو دع. فقال: مَا بالكم؟ قالت: يضربنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فما هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به والله بيننا وبين عمر.
فقال: وما يدري عمر قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق فيه عكنة من شحم، فقال: أحمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك، احمله عليَّ فحملته عليه فخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها.
ثم أخرج الدقيق فجعل يقول ذري عليَّ وأنا أسوطه، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فجعلت أنظر إِلَى الدخان يخرج من تحت خلل لحيته حتى أنضج.
ثم أخذ من الشحم فأدمها به ثم قال: ائت بشيء فجاءته بصحفة، فأفرغ القدر فيها، ثم جعل يقول لها أطعميهم، وأنا أسطح لك، يعني(3/576)
أبرده، فأكلوا حتى شبعوا.
ثم ترك عندها فضل ذلك، فقالت: له جزاك الله خيرًا أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فقال: قولي خيرًا إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك.
ثم تنحى قريبًا فربض مربض السبع، فقلت له: إن لك شأنًا غير هذا، فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ويضحكون، ثم ناموا فقام وهو يحمد الله تعالى.
ثم أقبل عليَّ وقال: يا ابن أسلم إني رأيت الجوع أبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى مِنْهُمْ مَا رأيت. أ. هـ.
وفي ذلك يقول حافظ إبراهيم:
وَمَنْ رَآهُ أَمَامَ الْقِدَرِ مُنْصَهِرًا
وَالنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهْوَ يُذْكِيهَا
وَقَدْ تَخَلَّلَ فِي أَثَنَاءِ لِحْيَتِهِ
مِنْهَا الدُّخَانَ وَفُوْهُ غَابَ فِي فِيهَا
رَأَى هَنَاكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
حَالَ تَرُوْعُ لَعَمْرُ الله رَائِيْهَا
يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِي غَدِهِ
وَالْعَيْنُ مِنْ خَشَْيَةٍ سَالَتْ مَآقِيهَا
وعن الحسن البصري قال: بينما يعس بالمدينة ليلاً لقيته امرأة تحمل قربة، فسألها فذكرت له أن لها عيالاً وليس لها خادم، وأنها تخرج(3/577)
ليلاً فتسقي لهم الماء، وتكره أن تخرج نهارًا، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها.
ثم قال لها: أغدي إِلَى عمر غدوة يخدمك خادمًا، قالت: لا أصل إليه، قال: إنك ستجدينه إن شاء الله فغدت عليه، فإذا هي به فعرفت أنه الذي حمل عنها القربة، فاستحيت وذهبت فأرسل لها عمر بخادم ونفقة.
وكان إذا قدم الرسول من الثغور بكتب إِلَى أهليهم هو الذي يدور بها ويوصلها إِلَى بيوتهم بنفسه، ويقول: إذا كَانَ عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن إذا خرج الرسول دار عليهن بالقرطاس والدواة بنفسه فيقربن من الأبواب فيكتب لهن إِلَى رجالهن.
ثم يأخذ الكتب فيأمر به مع الرسول، وعن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال فِي خطبته: إني لَمْ ابعث عمالي ليضربوا أبشاركم - أي جلودكم - ولا ليأخذوا أموالكم.
فمن فعل به ذلك فليرفعه إِلَى أقصه مِنْه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته، أتقصه مِنْه، قال: أي والذي نفسي بيده لأقصه مِنْه، وَقَدْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه - أي مكن من القصاص مِنْه - أخرجه أبو داود.
وفي حديث أخرجه البخاري عن عمر أنه قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم ليعدلوا، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيأهم، ويرفعوا إلي مَا أشكل من أمرهم.(3/578)
وفي حديث أخرجه البخاري ومسلم أن عمر لما طعن قيل له: لو استخلفت، فقال: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا، عن استخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم وددت أن حظي مِنْهَا الكفاف، لا علي ولا لي، فقالوا: جزاك الله خيرًا، فقال: راغب وراهب.
اللهم رضنا بقضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعَلَى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وعن ابن عمر قال: تضرعت إِلَى الله أن يريني أبي فِي النوم، حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته عن حاله، فقال: لولا رحمة الله لهلك أبوك إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وعن حياض الإبل، فكيف الناس فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز فصاح وضرب بيده على رأسه، وقال: فعل هذا بالتقي الطاهر، فكيف بالمترف عمر بن عبد العزيز.
ولما أصاب الناس هول المجاعة والقحط فِي عهد عمر رضي الله عنه كَانَ لا ينام الليل إلا قليلاً، ولا يجد الراحة إلا قليلاً كَانَ كل همه أن يدفع خطر المجاعة عن شعبه، وما زال به الهم حتى تغير لونه وهزل(3/579)
وقال من رآه: لو استمرت المجاعة شهورًا أخرى لمات عمر من الهم والأسى.
وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسمن والطعام والكساء فوزعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئًا وقال لرئيس القافلة: ستأكل معي فِي البيت ومنى الرجل نفسه ممتازًا حيث ظن أن أمير المؤمنين يكون طعامه خيرًا من طعام الناس.
وجاء عمر والرجل على البيت جائعين بعد التعب ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسر يابس مع صحن من الزيت واندهش الرجل وتعجب من أن يكون هذا الطعام طعام أمير المؤمنين.
وقال: لماذا منعتني من أن آكل مع الناس لحمًا وسمنًا وقدمت هذا الطعام قال عمر: مَا أطعمك إلا مَا أطعم نفسي.
قال: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وَقَدْ وزعت بيدك اللحم والطعام عليهم قال عمر: لقد آليت على نفسي أن لا أذوق السمن واللحم حتى يشبع مِنْهَا المسلمون جميعًا، أسمعت مثل هذا الإيثار لغير الأنبياء والخلفاء الراشدين.
ومن ورعه وتقشفه مَا روي من أن امرأته اشتهت الحلوى فادخرت لذلك من نفقة بيتها حتى جمعت مَا يكفي لصنعها فلما بلغ عمر ذلك رد مَا ادخرته إِلَى بيت المال ونقص من النفقة بقدر مَا ادخرت وإلى هذا أشار الشاعر:(3/580)
إنْ جَاعَ فِي شَدَّةِ قَوْمٌ شَرَكْتَهُمُ
في الْجُوعِ أَوْ تَنْجَلِي عَنْهُم غَوَاشِيهَا
جُوعُ الخَلِيفَةِ وَالدُّنْيَا بِقَبْضَتِهِ
في الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبْحَانَ مُولِيهَا
فَمَنْ يُبَارِي أَبَا حَفْصٍ وَسِيْرَتَهُ
أَوْ مَنْ يُحَاوِلُ لِلْفَارُوقِ تَشْبِيهَا
يَوْمَ اشْتَهَتْ زَوْجُهُ الحَلْوَى فَقَالَ لَهَا
مِنْ أَيْنَ لِي ثَمَنُ الحَلْوَى فَأَِشْرِيهَا
لاَ تَمْتَطِي شَهَوَاتِ النَّفْسِ جَامِحَةً
فَكِسْرَةُ الْخُبْزِ عَنْ حَلْوَاكِ تُجْزِيهَا
قَالَتْ لَكَ اللهُ إَنِّي لَسْتَ أَرْزَؤهُ
مَالاً لِحَاجَةِ نَفْسٍ كُنْتُ أَبْغِيهَا
لَكِنْ أُجَنِّبُ شَيْئًا مِنْ وَضِيفَتِنَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى حَالٍ أُسَوِّيهَا
حَتَّى إذَا مَا مَلَكْنَا مَا يُكَافِئُهَا
شَرَيْتُهَا ثُمَّ إنِّي لاَ أُثنِّيْها
قَالَ اذْهَبِي وَاعْلَمِي إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً
أنَّ القَنَاعَةَ تُغْنِي نَفْسَ كاسِيهَا
وَأَقْبَلَتَ بَعْدَ خَمْسٍ وَهْيَ حَامِلَةٌ
دُرَيْهِمَاتٍ لِتَقْضِي مِنْ تَشَتِّهيَها
فَقَالَ نَبَّهْتِ مِنِّي غَافِلاً فَدَعِي
هَذِي الدَّرَاهِمَ إذْ لاَ حَقَّ لِي فِيهَا(3/581)
مَا َزادَ عَنْ قُوتِنَا فالمُسْلِمُونَ بِهِ
أَوْلَى فَقُومِي لِبَيْتِ المَالِ رُدِّيهَا
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أنفد عمالاً قال لهم: اشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إِلَى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج.
قال عبد الرحمن بن عوف: دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال: قَدْ نزل بباب المدينة قافلة وأخاف إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي: نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته.
وقال عمر رضي الله عنه: يجب عليَّ أن أسافر لأقضي حوائج الناس فِي أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرون عَلَى قصدي فِي حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال واسبر سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين، فلا يكون فِي سِنِي عُمَرَ أبرك من هذه السنة.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِلَى عامله أبي موسى الأشعري (أما بعد فان أسعد الولاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته فإياك والتبسط فان عمالك يقتدون بك وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضرًا فأكلت كثيرًا حتى سمنت لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كَانَ ذلك الظلم منسوبًا إليه وأخذ به وعوقب عليه.
وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحد غبنًا ممن باع دينه وآخرته بدينا غيره وأكثر الناس فِي خدمته شهوتهم فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إِلَى مرادهم من الشهوات وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه فِي النار ليصلوا إِلَى إغراضهم وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى فِي هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل عَلَى الرعية أن يرتب غلمانه وعماله(3/582)
للعدل ويحفظ أحوال العمال وينظر فيها كما ينظر فِي أحوال أهله وأولاده ومنزله ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولا من باطنه وذلك أن لا يسلط شهوته وغضبه عَلَى عقله ودينه ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه.
وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عنه عففت عنه وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وسئل يومًا عما يحل له من مال الله فقال: أنا أخبركم بما أستحل مِنْه يحل لي حلتان حلة فِي الشتاء وحلة فِي الصيف وما أحج عليه واعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني مَا أصابهم. رضي الله وأرضاه وجعل جنة الفردوس مثواه.
وروي أن معاوية - وهو عَلَى الشام بعث مرة إِلَى عمر بن الخطاب بمال وأدهم - أي قيد - وكتب إِلَى أبيه أبا سفيان أن يدفع ذلك إِلَى عمر فخرج رسول معاوية بالمال والأدهم حتى قدم عَلَى أبي سفيان بالمال والأدهم، فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إِلَى عمر واحتبس المال لنفسه فلما قرأ عمر الكتاب قال: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كَانَ علينا دين ومعونة ولنا فِي بيت المال حق فإذا أخرجت لنا شيئًا قاضيتنا به. فقال: اطرحوه فِي الأدهم أي فِي القيد حتى يأتي المال.
فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال فأمر عمر بإطلاقه من القيد فلما قدم رسول معاوية عَلَى معاوية قال له: أرأيت أمير المؤمنين أعجب بالأدهم قال: نعم وطرح فيه أباك قال: ولم؟ قال: إنه جاء بالأدهم وحبس المال. قال معاوية: أي والله والخطاب لو كَانَ لطرحه فيه يريد أن الخطاب أبا عمر مكان أبي(3/583)
سفيان فِي القصة حتى يأتي المال فرضي الله عن عمر وأرضاه مَا أنصفه وأعدله وأروعه.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَمَا أَقَلْتَ أَبَا سُفْيَانِ حِينَ طَوَى
عَنْكَ الْهَدِيَّةَ مُعْتَزًّا بِمُهْدِيهَا
لَمْ يُغْنِ عَنْهُ وَقَدْ حَاسَبْتَهُ حَسَبٌ
وَلاَ مُعَاوِيَةٌ بِالشَّامِ يَجْيِبهَا
قَيَّدْتِ مِنْهُ جَلِيلاً شَابَ مَفْرِقُهُ
فِي عِزَّةٍ لَيْسَ مِنْ عِزٍّ يُدَانِيهَا
قَدْ نَوَّهُوا فِي اسْمِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ
وَزَادَهُ سَيَّدُ الكَوْنَيْنِ تَنْوِيهَا
في فَتْحِ مَكَّةَ كَانَتْ دَارُهُ عُمَرٍ
قَدْ أَمَّنَ اللهُ بَعْدَ البَيْتَ غَاشِيهَا
وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَشْفَعْ لَدَى عُمَرٍ
في هَفْوَةٍ لأَبِي سُفْيَانَ يَأْتِيهَا
تَاللهِ لَوْ فَعَلَ الخَطَّابُ فِعْلَتَهُ
لَمَا تَرَخَّصَ فِيهَا أَوْ يُجَارِيهَا
فَلاَ الحَسَابَةُ فِي حَقٍّ يُجَامِلُهَا
وَلاَ القَرَابَةُ فِي بُطْلٍ يُحَابِيهَا
ويروى أن جبلة بن الأيهم أحد أبناء الغساسنة ملوك الشام قَدْ اعتنق(3/584)
الإسلام وبينما هو ذات يوم يطوف إذ وطئ أعرابي ثوبه فلطمه جبلة لطمة هشمت أنفه فشكاه الأعرابي إِلَى عمر فأمر أن يقتص من جبلة فأبى جبلة أن يمكنه من القصاص وهرب والتجأ إِلَى القسطنطينية وتنصر.
وفي ذلك يقول الشاعر:
كَمْ خِفْتَ فِي اللهِ مَضْعُوفًا دَعَاكَ بِهِ
وَكَمْ أَخَفْتَ قَوِيًّا يَنْثَنِي تِيهَا
وَفِي حَدِيثِ فَتَى غَسَّانَ مَوْعِظَةٌ
لِكُلِّ ذِي نَعْرَةٍ يَأْبَى تَنَاسِيهَا
فَمَا الْقَوِيُّ قَوِيًّا رَغْمَ عِزَّتِهِ
عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَالْفَارُوقُ قَاضِيهَا
وَمَا الضَّعِيفُ ضَعِيفًا بَعْدَ حُجَّتِهِ
وَإنْ تَخَاصَمَ وَالِيهَا وَرَاعِيهَا
ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إِلَى عمرو بن العاص إنه قَدْ فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لَمْ تكن حين وليت مصر فكتب إليه عمرو إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلاً عما نحتاج إليه لنفقتنا فكتب إليه إني خبرت من عمال السوء مَا كفى وكتابك إِلَى كتاب من أقلقه الأخذ بالحق وَقَدْ سؤت بك ظنًا وَقَدْ وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فأطلعه وأخرج إليه مَا يطالبك وأعفه من الغلظة عليك، فلم يسع عمرو بن العاص عَلَى دهائه وعلو مكانه وبعده عن أمير المؤمنين إلا الخضوع لما أمر به ومقاسمه محمد بن سلمة ماله وإلى هذه القصة يشير الشاعر:(3/585)
شَاطَرْتَ دَاهِيَةَ السُّوَّاسِ ثَرْوَتَهُ
وَلَمْ تَخَفْهُ بِمِصْرَ وَهْوَ وَالِيهَا
وَأَنْتَ تَعْرِفُ عَمْرًا فِي حَوَاضِرِهَا
وَلَسْتَ تَجْهَلُ عَمْرًا فِي بَوَادِيهَا
فَلَمْ يَرُغ حِيلَةً فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ
وَقَامَ عَمْروٌ إِلَى الأَجْمَالِ يُزْحِيهَا
وَلَمْ تُقِلْ عَامِلاً مِنْهَا وَإِنْ كَثُرَتْ
أَمْوَالهُ وَفَشا فِي الأرْض فاَشِيهَا
اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن ورعه رضي الله عنه مَا يتجلى فيما يلي مما روي عنه: كَانَ رضي الله عنه ممن يأخذون بالشورى فِي أمرهم عملاً بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وكان يقول: لا خير فِي أمر أبرم من غير شورى.
وهو أول من قرر قاعدة الشورى فِي انتخاب الخليفة فقد سئل عندما طعن عمن يوصي بعده فقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني فِي حفرتي فأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم(3/586)
وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم عَلَى رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحدًا فاضرب رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة ورضوا رجلاً مِنْهُمْ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما فإن رضي ثلاثةٌ رجلاً مِنْهُمْ فحكِّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً مِنْهم.
فإن لَمْ يرضوا بحكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ولم يذكر فِي الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه فخشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المبشرين فِي الجنة بل قيل إنه استثناه من بينهم وإلى هذه القصة يشير الشاعر فِي قوله:
يَا رَافِعًا رَايَةَ الشُّورَى وَحَارِسَهَا
جَزَاكَ رَبُكَ خَيْرًا عَنْ مُحِبِّيهَا
لَمْ يُلْهِكَ النَّزْعُ عَنْ تَأْيِيدِ دَوْلَتِها
وَلِلمَنِيَّةِ آلامٌ تُعَانِيهَا
لَمْ أَنْسَ أَمْرَكَ لِلْمِقْدَادِ يَحْمِلُُهُ
إِلَى الْجَمَاعَةِ إنْذَارًا وَتَنْبِيهَا
إنْ ظَلَّ بَعْدَ ثَلاَثٍ رَأْيُهَا شَعَبًا
فَجَرِّدِ السَّيْفَ وَاضْرِبْ فِي هَوَادِيهَا
فَأَعْجَبْ لِقُوَّةِ نَفْسٍ لَيْسَ يَصْرِفُهَا
طَعْمِ المَنِيَّةِ مُرًّا عَنْ مَرَامِيهَا
دَرَى عَمِيدُ بَنِي الشُّورَى بِمَوْضِعِهَا
فَعَاشَ مَا عَاشَ يَبْنِيهَا وَيُعَلِيهَا(3/587)
وَمَاَ اسْتَبَدَّ بِرَأْي فِي حُكُومَتِهِ
إنَّ الْحُكُومَةَ تغْرِي مُسْتَبِدِّيهَا
رَأْيُ الجَمَاَعَةِ لاَ تَشْقَى البِلاَدُ بِهِ
رَغْمَ الْخِلاَفِ وَرَأْيُ الفَرْدِ يُشْقِيهَا
ومن لطفه ورأفته برعيته وحرصه عَلَى العدل فيهم مَا يتجلى فِي وصيته لأبي موسى الأشعري وَقَدْ كتب له كتابًا قال فيه: فإذا جاء كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتزدحم عليك الأعمال فتضيع.
وإياك وإتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إِلَى الرضا والغبطة.
ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إِلَى الندامة والحسرة، آس بين الناس فِي وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف فِي حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك.
ولا يمنعك قضاء قضية اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إِلَى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي فِي الباطل والفهم الفهم فيما تلجلج فِي صدرك مما ليس فِي كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك بنظائرها.
واعمد إِلَى أقربها إِلَى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا(3/588)
أمدًا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحلت عليه القضية فإن ذلك أنفى للشك وأجلى وأبلغ فِي العذر، والمسلمون عدول بعضهم عَلَى بعض إلا مجلودًا فِي حد أو مجربًا عليه شهادة زور أو متهمًا فِي ولاءٍ أو نسبٍ فإن الله قَدْ تولى منكم السرائر. وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات.
فإن الحق فِي مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن صحت نيته وأقبل عَلَى نفسه كفاه الله مَا بينه وبين الناس.
ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب عند الله عز وجل وخزائن رحمته والسلام.
وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
مقتل عمر رضي الله عنه
لم يصب المسلمون فِي العصر الأول بمصيبة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفاة الصديق أعظم من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
جنى عليه غلام مجوسي اسمه أبو لؤلؤة كَانَ للمغيرة بن شعبة وها نحن نستوقف لك مَا رواه البخاري فِي صحيحه عن عمرو بن ميمون فِي هذا المصاب الجلل.
قال عمرو: إني لواقف مَا بيني وبينه (عمر) إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب.
وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لَمْ ير فيهن خللاً تقدم فكبر.(3/589)
وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك فِي الركعة الأولى حتى يجتمع الناس.
فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة فسار العلج بسكين ذا طرفين لا يمر عَلَى أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه طعن ثلاثة عشر رجلاً فمات مِنْهُمْ سبعة.
فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه.
وتناول (عمر) يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة.
فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع. قال: نعم. فقال: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا الحمد الله الذي لَمْ يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام فاحتمل إِلَى بيته.
فانطلقنا معه وكأن الناس لَمْ تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول: لا بأس عليه. وقائل يقول: أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه.
وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم فِي الإسلام مَا قَدْ علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة.
قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا الغلام قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.(3/590)
يا عبد الله بن عمر أنظر مَا علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه قال: إِنْ وَفَى بذلك مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل فِي بني عدى ابن كعب فإن لَمْ تف أموالهم فسل فِي قريش ولا تعدهم إِلَى غيرهم فادعني هذا المال.
انطلق إِلَى عائشة أم المؤمنين فقال: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا وقل يستأذن عمر ابن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه.
فقالت: كنت أريده لنفسي ولا أوثرنه به اليوم عَلَى نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قَدْ جاء فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: مَا لديك.
قال الذي يحب يا أمير المؤمنين: أذنت. قال: الحمد لله مَا كَانَ شيء أهم إلي من ذلك فإذا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت فأدخلوني وإن ردتني ردوني إِلَى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة (بنت عمر) والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل.
فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف. فقال كما فِي رواية مسلم: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا لوددت أني أحظى مِنْهَا الكفاف لا عليَّ ولا لي.
وإن استخلفت فقد استخلفت من هو خير منى يعني أبا بكر.
وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(3/591)
قال عبد الله بن عمر: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مستخلف ثم قال عمر: مَا أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم عنهم راض.
فسمى عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئته التعزية له.
شِعْرًا: ... في كُلِ عَصْرٍ لِلْجُنَاةِ جَرِيرَةٌ ... لَيْسَتْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ تَزُولُ
جَاوُرا عَلَى الْفَارُوق أَعْدَلُ مَنْ قَضَى ... بَعْدَ النَّبِي وزَكَّى رَأْيَهُ التَّنْزِيلُ
وَعَلَى عَلي وَهْوَ أطْهَرُنا فَمَا ... وَيَدًا وَسَيْفُ نَبِيِّنَا الْمَسْلُولُ
كَمْ دَوْلَةٍ شَهِدَ الصَّبَاحُ جَلاَلهَا ... وأَتَى عَلَيْهَا اللَّيْلُ وَهِيَ فَلُولُ
وَقُصُورُ قَوْمٍ زَاهِرَاتٍ فِي الدُّجَى ... طَلَعَتْ عَليهَا الشَّمْسُ وَهِيَ طُلُولُ
شِعْرًا: ... ولكِنَّنَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ... عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ نُعَوِّلُ
نُقرُّ بأنَّ اللهَ فَوْقَ عِبَادِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ لَكِنَّمَا الكَيْفُ يُجْهَلُ
وكُلُ مَكَانٍ فَهْوَ فِيهِ بِعِلْمِهِ ... شَهِيدٌ عَلَى كُلُّ الْوَرَى لَيْسَ يَغْفُلُ
وَمَا أثبتَ البَارِي تَعَالى لِنَفْسِهِ ... مِن الوَصْفِ أوْ أَبْدَاهُ مَن هُوَ مُرْسَلُ
فَنُثْبِتُهُ للهِ جَلَّ جَلاَلُهُ ... كَمَا جَاءَ لا نَنْفِي ولا نَتَأوَّلُ
هُوَ الْوَاحِدُ الْحَيُّ القَدِيرُ لَهُ البَقَا ... مَلِيكٌ يُوَلِّي مَن يَشَاءُ ويَعْزِلُ
سَميعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ ... عَلِيمٌ مُرِيدٌ آخِرٌ هو أَوّلُ
تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَوَلْدٍ وَوَالِدٍ ... وَصَاحِبَةٍ فَاللهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ
وَلَيْسَ كَمِثل اللهِ شَيْءٌ وَمَا لَهُ ... شَبِيهٌ ولا ندٌّ بِرَبِّكَ يَعْدِلُ
وإنِّ كِتَابَ اللهِ مِن كَلِمَاتِهِ ... ومِن وَصْفِهِ الأَعْلَى حَكِيمٌ مُنَزَّلُ
هو الذِكْرُ مَتْلوٌ بأَلْسِنَةِ الوَرَى ... وفي الصَّدْرِ مَحْفُوظٌ وفي الصُّحْفِ مُسْجَلُ
فألفَاظُهُ لَيْسَتْ بمَحْلوقَةٍ ولا ... مَعَانِيهِ فاتْرُكْ قَوْلَ مَن هُوَ مُبْطِلُ(3/592)
.. وَقَدْ أَسْمَعُ الرَّحْمَنُ مُوسىَ كَلاَمَهُ ... عَلَى طُورِ سِينَا والإِلهُ يُفَضِّلُ
ولِلِطُور مَوْلانَا تَجَلىَ بُنُوْرِهِ ... فَصَارَ لِخَوفِ اللهِ دَكًا يُزَلْزَلُ
وإنَّ عَلَيْنَا حَافِظِينَ مَلاَئِكًا ... كِرَامًا بسُكَّانِ البَسِيطةِ وكِّلُوا
فََيُحْصُونَ أَقْوالَ ابن آدَمَ كُلَّهَا ... وأَفْعَالَُ طُرًا فلا شَيءَ يُهْمَلُ
ولا حَيَّ غَيْرُ اللهِ يَبْقَى وكُلُ مَنْ ... سِواهُ لَهُ حَوضُ المنيةِ مَنْهَلُ
وإنَّ نُفُوسَ العَالمَيْنَ بقَبْضِهَا ... رَسولٌ مِن اللهِ العظيمِ مُوَكَّلُ
ولا نَفْسَ تَفْنَى قَيْلَ إكْمَالِ رِزْقِهَا ... ولَكِنْ إذَا تَمَّ الكِتَابُ المُؤَجَّلُ
وسِيَّانِ مِنْهُمْ مَن وَدي حَتْفَ أَنْفِه ... وَمَنْ بِالظُّبَا وَالسَّمْهَريَِّةِ يُقْتَلُ
وَإِنَّ سُؤَالَ الفَاتِنَيْنَ مُحَقَّقٌ ... لِكُلِّ صَرِيعٍ فِي الثَّرَى حِينَ يُجْعَلُ
يَقُولانِ مَاذَا كُنْتَ تَعْبُدُ مَا الذِّي ... تَدِيْنُ وَمَنْ هَذَا الذِّي هُوَ مُرْسَلُ
فَيَا رَبَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْحّقِّ وَرُوحُ مَنْ ... وَدَى فِي نَعِيْمٍ أَوْ عَذَابٍ سَتَجْعَلُ
فَأَرْوَاحُ أَصْحَابٍ السّعادةِ نُعِّمَتْ ... بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وَمَا هُوَ أَفْضَلُ
وَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّاتِ تَجْنِي ثِمَارِهَا ... وَتَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ المِيَاهِ وَتَأْكُلُ
وَلَكِنَ شَهِيْدَ الحَرْبِ حَي مُنَعِّمٌ ... فَتَنْعِيْمُهُ لِلرُّوْحِ وَالجِسْمِ يَحْصُلُ
وأرْواحُ أصْحَابِ الشَّقَاءِ مُهَانَةٌ ... مُعَذَّبَةٌ لِلْحَشْرِ واللهُ يَعْدِلُ
وَإِنَّ مَعَادَ الرُّوحُ وَالجِسْمِ وَاقِعٌ ... فَيَنْهَضُ مَن قَدْ مَاتَ حَيًا يُهَرُّولُ
وصِيحَ بِكُلِّ العَالمِيْنَ فَأُحْضِرُوا ... وقِيْلَ قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ لِيُسْأَلُوا
فَذَلِكَ يَوْمٌ لا تُحَدُّ كُرُوْبَهُ ... بِوَصْفٍ فَإِنََ الأَمْرَ أَدْهَى وَأَهْوَلُ
يُحَاسَبُ فِيْهِ المَرْءُ عَنْ كُلِّ سَعْيِهِ ... وَكُل يُجَازَى بِالذِّي كَانَ يَعْمَلُ
وَتُوْزَنُ أَعْمَالُ العِبَادِ جَمِيعُهَا ... وَقَدْ فَازَ مِنْ مِيزَانُ تَقْوَاهُ يَثْقُلُ
وَفِي الحَسَنَاتِ الأَجْرُ يُلْقَى مُضَاعَفًا ... وَبِالمِثْلِ تُجْزَى السَّيِئَاتُ وَتُعْدَلُ
وَلا يُدْرِكُ الغُفْرَانَ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا ... وَأَعْمَالُهُ مَرْدُوْدَةٌ لَيْسَ تُقْبَلُ(3/593)
.. وَيَغْفِرُ غَيْرَ الشِّرْكِ رَبِي لِمَنْ يَشَا ... وَحُسْنُ الرَّجَا وَالظَّنِ بِاللهِ أَجْمَلُ
وَإِنَّ جَنَانَ الْخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا ... مُقِيْمًا عَلَى طَوْلِ المَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ
أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي ... وَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ مُهَلِّلُ
وَيَنْظُر مَنْ فِيهَا إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ ... بِذَا نَطَقَ الوحِيُ المبينُ المنزُّلُ
وإن عَذَابَ النَّار حقٌّ وإنَّهَا ... أُعِدَّتْ ِلأَهْلِ الكُفْرِ مَثْوَى وَمَنْزِلُ
يُقِيمُوْنَ فِيْهَا خَالدِيْنَ عَلَى المَدَى ... إِذَا نَضِجَتْ تِلْكَ الجُلُودُ تُبَدَّلُ
وَلَمْ يَبْقَ بِإِجْمَاعِ فِيهَا مُوَحِدٌ ... ولَوْ كَانَ ذَا ظُلْمٍ يَصُولُ وَيَقْتُلُ
وإنَّ لِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةً ... لَدَى اللهِ فِي فَصْل القَضَاء فَيَفْصِلُ
وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ... فَيُخْرِجَهُمْ مِنْ نَارِهمْ وَهِي تُشْعِلُ
فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيُنْبُتُوا ... كَمَا فِي حَمِيل السَّيْلِ يَنْبُتُ سُنْبُلُ
وَإِنْ لَهُ حَوْضًا هَنِيْئًا شَرَابُهُ ... مِنْ الشَّهْدِ أَحْلَى فَهُوَ أَبْيَضُ سَلْسُلَ
يُقَدِّرُ شَهْرًا فِي المَسَافَةِ عَرْضُهُ ... كَأْيِلََةَ مِنْ صَنْعَا وَفِي الطَّوْلِ أَطْوَلُ
وَكِيْزَانُهُ مِثْلُ النُّجُوْمِ كَثِيْرَةٌ ... وَوُرَّادُهُ حَقًّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ
مِنْ الأُمَّةِ المُسْتَمْسِكِينَ بِدِينِهِ ... وَعَنْهُ يُنَحِّى مُحْدِثُ وَمُبَدِّلُ
فَيا ربِّ هَبْ لِي شَرْبةً مِن زُلاَلِهِ ... بِفَضْلِكَ يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَتَفَضَّلُ
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضي بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللهم اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمتت بنا أحدَا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه.(3/594)
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر مَا أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطل والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك عَلَى كل شيء قدير. وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
قال النبي: «من قال حين يصبح ويمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمد عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار. فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه. فمن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه. فمن قالها أربعًا أعتقه الله من النار» . رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح ثلاث: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات من ذلك اليوم مات شهيدًا. ومن قالها حين يمسي كَانَ بتلك المنزلة» . رواه أحمد والترمذي عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا عَلَى عهدك ووعدك مَا استطعت أعوذ بك من شر مَا صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فمات من يومه أو ليلته دخل الجنة» . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن بريدة رضي الله عنه.(3/595)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح: اللهم مَا أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر عَلَى ذلك. فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته» . رواه أبو داود وابن حبان وابن السني والبيهقي عن عبد الله بن غنام رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك مَا فاته فِي يومه ذلك، ومن قالها حين يمسي أدرك مَا فاته فِي ليلته» . رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا. كَانَ حقًّا عَلَى الله أن يرضيه يوم القيامة» . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم ورواه الترمذي عن ثوبان رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا عَلَى الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. إلا كفرت عنه خطاياه ولو كَانَت مثل زبد البحر» . رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. رضيت بالله ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا. غفر الله له مَا تقدم من ذنبه» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة(3/596)
التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة» . رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأم سامة «قولي عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك أسألك أن تغفر لي» . رواه الترمذي والطبراني والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صليت الصبح فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: «اللهم أجرني من النار. سبع مرات. فإنك إن مت من يومك. هذا كتب الله لك جوارًا من النار.
وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: اللهم جرني من النار سبع مرات. فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارًا من النار» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن الحارث التيمي رضي الله عنه.
كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي عَلَى دينك» . فقيل له قال: «ليس من آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» . رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو دعي بهذا الدعاء عَلَى شيء بين المشرق والمغرب فِي ساعة من يوم الجمعة لا تستجيب لصاحبه: لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام» .
رواه الخطيب عن جابر رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا سعد، لو دعوت على من بين السماوات والأرض لا ستجيب لك، فأبشر يا سعد» . يعني «سبحانك لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام» . رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما.(3/597)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم ورزقه من حيث لا يحتسب» . رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك وإن كنت مغفورًا لك؟ قل: لا إله إلا الله سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين» .
رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه.
وجاء رجل إِلَى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا أبا الدرداء، قَدْ احترق بيتك. فقال: مَا احترق. لَمْ يكن الله عز وجل ليفعل ذلك بكلمات سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ قلتهن اليوم. ثم قال: انهضوا بنا. فانتهوا إِلَى داره وَقَدْ احترق مَا حولها ولم يصبها شيء.
وهذه هي الكلمات: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح وحين يمسي: مَا شاء الله كَانَ وما لَمْ يشأ لَمْ يكن. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أعلم أن الله عَلَى كل شيء قدير. وأن الله قَدْ أحاط بكل شيء علمًا. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. إن ربي عَلَى صراط مستقيم. لَمْ يصبه فِي نفسه ولا أهله ولا ماله شيء يكرهه» . رواه ابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما لدنياك فإذا صليت الصبح فقل بعد صلاة الصبح: سبحان الله العظيم وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثلاث مرات يوقيك الله من بلايا أربع: من الجنون والجذام والعمى والفالج. وأما لآخرتك فقل: اللهم أهدني من عندك، وأفض عليَّ من فضلك، وانشر عليَّ من رحمتك وأنزل من بركاتك. والذي نفسي بيده من وافى بهن يوم(3/598)
القيامة لَمْ يدعهن ليفتحن له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء» . رواه السني عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا من رجل يدعو بهذا الدعاء فِي أول ليله وأول نهاره إلا عصمه الله من إبليس وجنوده: بسم الله ذي الشان، عظيم البرهان شديد السلطان. مَا شاء الله كَانَ. أعوذ بالله من الشيطان» . رواه الحاكم وابن عساكر عن الزبير بن العوام رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليك توكلت وهو رب العرش العظيم. سبع مرات كفاه الله تعالى مَا أهمه من أمر الدنيا والآخرة» . رواه ابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء فِي الأرض ولا فِي السماء وهو السميع العليم. ثلاث مرات لَمْ يصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لَمْ يصبه فجأة بلاء حتى يمسي» . رواه أبو داود وابن حبان والحاكم عن عثمان رضي الله عنه.
معارضة بدء الأمالي
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
بِحَمْدِ اللهِ نَبْدَأُ فِي المَقَال ... وَنَثْنِي بالمَدِيحَ لِذيِ الجَلال
إلهِ العَالِمَيْنَ وكُلِّ حيٍّ ... تَفَرَّد بالعُبُودَةِ والَكَمَالِ
ومَوْصُوفٍ بأوْصَافٍ تَعَالَتْ ... عن التَّشبيه أو ضَرْبِ المِثالِ
ومِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ عَلَى نَبِيٍّ ... هُوَ المَعْصُوم أحْمَدُ ذُو الجَمَالِ
زَكِيُّ النَّفْسِ مَنْبِعُ كُلِّ خَيْرٍ ... كَرِيمُ المُحتَدَى سَامِي المعَالي
فإنِّي قَدْ رَأَيْتُ نِظَامَ شَخْصٍ ... تَهوَّر فِي المَقَالَةِ لا يُبالِي(3/599)
نِظَامًا فِي العَقِيدَةِ لا سَدِيدًا ... ولا مَنْظُومُهُ مِثْلُ اللَّئَالِي
كَمَا قَدْ قَالَه فيما قَدْ نَمَاه ... وَخَالَ نِظَامَه عَالٍ وحَاِلي
وَقَدْ أَخْطَا بِمَا أَبْدَاهُ مِمَّا ... لَهُ قَدْ قَالَ فِي بَعضِ الأَمَالَي
فَبَعْضٌ قَدْ أَصَابَ القَولَ فِيهِ ... وبَعْضٌ جَاَءَ بالزُّورِ المُحَالِ
فهذا بعضُ مَا قَدْ قَالَ فِيهَا ... مِن الزُّورِ المُلَفَّقِ والضَّلالِ
صِفَاتُ الذَّات والأَفْعَالِ طُرًّا ... قَدِيمَاتٌ مَصُونَاتُ الزَّوالِ
فهذا بعضُ حَقُّ وبَعْضٌ ... فمِنْ قَوْلِ المُعَطِّلة الخَوالِي
صِفَاتُ الذَّاتِ لاَزِمَةٌ وحقُّ ... قَدِيمَاتٌ عَدِيمَاتٌ المِثَال
فَخُذْ مِنْهُنَّ أَمْثِلَةً وقُلْ لِي ... جُزِيتَ الخَيرَ مِنْ كُلِّ الخِصَالِ
عَليمٌ قَادِرٌ حيٌّ مُرِيدٌ ... بَصِيرٌ سَامعٌ لِذَوِى السُؤالِ
وأفْعَالُ الإلهِ فإنَّ فِيهَا ... لأِهْلِ الْحَقِّ مِن أهْلِ الكَمَالِ
كَلامًا فَاصِلاً لا رَيْبَ فِيهِ ... وَحَقًّا عَنْ أَمَاثِلَ ذِي مَعالِ
قَديمٌ نَوْعُها إِنْ رُمتَ حَقًّا ... وآحَادُ الْحَوَادِثِ بالْفِعَالِ
فَيَضْحَكُ ربُّنَا مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ ... وَيَفْرَحُ ذُو الجَلالِ وَذُو الجَمَالِ
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِمَّا جَنَاهُ ... وَيَسْخَطُ إِنْ جَنَى سُوءَ الفِعَالِ
وَمُنْتَقِمٌ بِمَا قَدْ شَاءَ مِمَّنْ ... تَعَدَى وَاعْتَدَى مِنْ كُلِّ غَالِ
وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ كَيْفٍ ... يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ذَوِي النَّوَالِ
وَيَغْضَبُ رَبُّنَا وَكَذَاكَ يَرْضَى ... وَأَفْعَالُ الإِلَهِ مِنَ الْكَمَالِ
وَيَخْلُقُ رَبُّنَا وَيَجِي وَيَأَتِي ... بِلا كَيْفٍ وَيَرْزُقُ ذُو التَّعَالِي
وَيَنْزِلُ رَبُّنَا مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ ... وَيَهْبِطُ ذُو الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ
وَيَقْهَرُ رَبُّنَا ويُرَى تَعَالَى ... وَذِي الأَوْصَافِ أَمْثِلةُ الْفِعَالِ
وَلَسْنَا كَالذِّينَ تَأَوَّلُوهَا ... بِأَنْوَاعٍ مِنْ القَوْلِ الْمُحَالِ(3/600)
.. وَلَكِنَّا سَنُجْرِيهَا كَمَا قَدْ ... أَتَى فِي النَّصِّ وَالسُّوَرِ العَوَالِي
وَأَهْلُ البَغْيِ مِنْ بَطْرٍ وَغَيٍّ ... يُسَمُّونَ الصِّفَاتِ لِذِي الْكَمَالِ
حُلُولَ حَوَادِثٍ بَغْيًا وَقَصْدًا ... لِتَنْفِيرِ الوَرَى عَنِ ذِي الفِعَالِ
وَمِمَّا قَالَ فِيمَا كَانَ أَمْلَى ... وَذَاتًا عَنْ جِهَاتِ السِّتِ خَالِي
تَعَالَى اللهُ عَمَّا قَالَ هَذَا ... فَذَا قَوْلٌ ِلأَرْبَابِ الضَّلالِ
فَإِنَّ اللهَ مِنْ غَيْرِ امْتِرَاءٍ ... عَلَى السَّبِعِ الْعُلَى وَالْعَرْشِ عَالِ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ ... فَإِنَّ اللهَ جَلَّ عَنِ الْمِثَالِ
وَعَنْهَا بَايِنٌ وَلَهُ تَعَالَى ... عُلُوُّ الذَّاتِ مِنْ فَوْقِ الْعَوَالِي
وَقَهْرٌ لِلْخَلائِقِ وَالْبَرَايَا ... وَقَدْرٌ وَالكَمَالُ لِذِي الْجَمَالِ
وَمَعْنَى بَاطِلٍ لا شَكَّ فِيهِ ... وَمِنْهِ اغْتَرَّ أَربَابُ الضَّلالِ
وَلابْنِ القَيِّمِ الثِّقَةِ الْمُزَكَّى ... بِإِتْقَانٍ وَحِفْظٍ وَاحْتِفَالِ
كَلامٌ فِي الْبَدَائِعِ مُسْتَبِينٌ ... بِتَفْصِلِ لِلَيْلِ الشَّكِّ جَالِ
وَيَعْسُرُ نَظْمُ مَا قَدْ قَالَ فِيهَا ... مِنْ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْمَجَالِ
فَقَوَّى قَوْلَ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ ... وَأَوْهَى قَوْلَ أَهْلِ الاعْتِزَالِ
فَرَاجِعْهُ تَجِدُ قَوْلاً سَدِيدًا ... مُفِيدًا شَافِيًا سَهْلِ الْمَنَالِ
وَأَنَّ اللهَ جَلَّ لَهُ صِفَاتٌ ... وَأَسْمَاءٌ تَعَالَتْ عَنْ مِثَالِ
وَتَكْفِي سُوْرَةُ الإِخْلاص وَصْفًا ... لِرَبِّي ذِي الْمَعَارِجِ وَالجَلالِ
وَمَا قَدْ جَاءَ فِي الآيَاتِ يَوْمًا ... عَنْ الْمَعْصُومِ صَحَّ بِلا اخْتِلالِ
وَفِيْمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ رَبِّي ... وَمَا أَبْدَى الرَّسُولُ مِنْ الْمَقَالِ
شِفَاءٌ لِلسِّقَامِ وَفِيْهِ بُرْءٌ ... وَمُقْنِعُ كُلِّ أَرْبَابِ الكَمَالِ
وَرُؤْيا الْمُؤْمِنِيْنَ لَهُ تَعَالَى ... أَتَتْ بِالنَّصِّ عَنّ صَحْبٍ وَآلٍ
عَنْ الْمَعْصُومِ عِشْرِينًا وَبِضْعًا ... أَحَادِيثًا صِحَاحًا كَاللَّئَالِي(3/601)
.. وَفِي القُرآنِ ذَلِكَ مُسْتَبِينٌ ... فَيَا بُعْدًا لأَهْلِ الاعْتِزَالِ
لَقَدْ جَاءُوا مِنْ الكُفْرَانِ أَمْرًا ... يَهُدُّ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الجِبَالِ
وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَفِي نَعِيمٍ ... نَعِيمٍ لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ
وَإِنَّ أَلَذَّ مَا يَلْقَوْنَ فِيهَا ... مِنْ الذَّاتِ رُؤْيَةُ ذِي الْجَمَالِ
وَتُؤْمِنُ بِالإِلَهِ الحَقِّ رَبًّا ... عَظِيمًا قَدْ تَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ
إِلَهًا وَاحِدًا صَمَدًا سَمِيعًا ... بَصِيرًا ذِي الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ
قَدِيرًا مَاجِدًا فَرْدًا كَرِيمًا ... عَلِيمًا وَاسِعًا حَكَمَ الْفِعَالِ
لَهُ الأَسْمَاءُ وَالأَوْصَافُ جَلَّتْ ... عَنْ التَّشْبِيهِ أَوْ ضَرْبِ الْمِثَالِ
وَنُؤْمِنُ أَنَّمَا قَدْ شَاءَ رَبِّي ... فَحَقٌّ كَائِنٌ فِي كُلِّ حَالِ
وَإِنَّ مَا شَاءَهُ أَحَدٌ وَمَا لَمْ ... يَشَأْهُ اللهُ كَانَ مِنْ الْمُحَالِ
وَأَقَسَامُ الإِرَادَةِ إِنْ تُرِدْهَا ... فَأَرْبَعَةٌ مُوَضَّحَةٌ لِتَالِ
فَمَا قَدْ شَاءَهُ شَرْعًا وَدِينًا ... مِنْ العَبْدِ الْمُوَفَّقِ لِلْكَمَالِ
بِمَا وَقَعَ الْمُقَدِّرُ مِنْ قَضَاءٍ ... بِذَلِكَ فِي الوُجُودِ بِلا اخْتِلالِ
مِنَ الطَّاعَاتِ فَهُوَ لَهَا مُحِبُّ ... إِلَهِي رَاضِيًا بالامْتِثَالِ
فَهَذَا قَدْ أَرَادَ اللهُ دِينًا ... وَشَرْعًا كَوْنَه فِي كُلِّ حَالِ
وَرَبُّ العَرْشِ كَوَّنَهَا فَكَانَتْ ... وَلَوْلا ذَاكَ مَا كَانَتْ بِحَالِ
وَثَانِيهَا الَّذِي قَدْ شَاءَ دِينًا ... مِنْ الكُفَّار أَصْحَابِ الوَبَالِ
مِنَ الطَّاعَاتِ لَوْ وَقَعَتْ وَصَارَتْ ... عَلَى وَفْقِ الْمَحَبَّةِ بِالفِعَالِ
وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ فَبَاءُوا ... لَعَمْرِي بِالْخَسَارِ وَبِالنَكَالِ
وَثَالُثهَا الذِّي قَدْ شَاءَ كَوْنًا ... بِتَقْدِيرِ الحَوَادِثِ لَلْوَبَالِ
كَفِعْلٍ لِلْمَعَاصِي أَوْ مُبَاحٍ ... فَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا رَبُّ العَوَالِي
وَلَمْ يَرْضَ بِهَا مِنْهُمْ وَكَانَتْ ... عَلَى غَيْرِ الْمَحَبَّةِ لِلْفِعَالَ(3/602)
.. فإنَّ الله لا يَرْضَى بِكُفْرٍ ... ولا يَرْضَى الفَوَاحِشَ ذُو الجَلالِ
فَلَولاَ أَنَهُ قَدْ شَاءَ هَذا ... وقَدَّرَ خلْقَهُ فِي كُلَّ حَالِ
لَمَا كَانَتْ ولَمْ تُوجَدْ عَيانًا ... فَمَا قَدْ شَاءَ كَانَ بلا اخْتِلالِ
ورَابعُهَا الَّذِي مَا شَاءَ رَبِّي ... لَهُ كَوْنًا ولا دِينَا بِحَالِ
فَذا مَا لَمْ يَكُن مِن نَوعِ هَذا ... ولا هَذَا وهَذَا فِي المِثَالِ
كأَنْواعِ المَعَاصِي أوْ مُباحٍ ... فهذا الحَقُّ عنْ أهْلِ الكَمَالِ
فَخُذْ بِالْحَقِّ وَاسْمُ إِلَى الْمَعَالِي ... ودَع قَوْلَ المُخبِّطِ ذَا الخَيَالِ
ولِلْعَبْدَ مَشِيئَةِ وَهِيَ حَقُّ ... أَتَتْ بالنَّصِّ فِي أيِّ لِتَالِ
وَبَعْدَ مَشِيئَةُ الرَّحْمَنِ فَاعْلَمْ ... هُدِيتَ الرُّشْدَ فِي كُلِّ الْخِلالِ
وَأَعْمَالُ الْعِِبَادِ لَهُمْ عَلَيْهَا ... لَعمْرِي قُدْرَةٌ بالافْتعَالِ
ومَا الأَفْعَالِ إلاَّ باخْتِيَارٍ ... ورَبِّي ذُو الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ
لِذَلِكَ خَالِقٌ ولَهمْ كَمَا قَدْ ... أَتَى فِي النَّصِّ فاسْمَعْ لِلْمَقَالَ
ونُؤْمِنُ بالكِتَابِ كَمَا أَتَانَا ... وبِالرُّسْلِ الكِرَامِ ذَوِي الكَمَالِ
ونُؤْمِنُ بالقَضَا خَيْرًا وشَرًا ... وبالقَدَرِ المُقَدَرِ لا نُبَالي
وأَمْلاَكِ الإلهِ وإنَّ مِنْهم ... لَعَمْرِي مُصْطَفَيْنَ لِذِي الجَلالِ
وإنَّ الجنَّةَ العلُياَ مَئَابٌ ... لأَهْلِ الخَيرِ مِنْ غَيرِ انْتِقَالِ
وإنَّ النَّارَ حَقَ قَدْ أُعِدَّتْ ... لأَهْلِ الكُفْرِ أصْحَابِ الوَبَالِ
وإنَّ شَفَاعَةَ المَعْصُومِ حَقُّ ... لأَصْحَابِ الكَبَائِرِ عَنْ نَكَالِ
وَنُؤْمنُ بالحِسَابِ وَذَاكَ حَقُ ... وَكُلُّ سَوْفَ يُجْزَى بانْتِحَالِ
وَكُلُّ سَوْفَ يُؤتَى يَوْمَ حَشْرٍ ... كِتَابًا بِالْيَمِينِ أوِ الشِّمَالِ
ونُؤْمِنُ أنَّ أعْمالَ البَرايَا ... سَتُوزَنُ غَيْرَ أصْحَابِ الضَّلالِ
فَلَيْستْ تُوزنُ الأَعْمَالُ مِنْهُم ... كَأَهْلِ الخَيْرِ مِنْ أهْلِ الكَمَالِ(3/603)
.. ولَكِنْ كَيْ لِتُحْصَى ثُمَّ يُلْقَى ... إلى قَعْرِ النُّهى بِذَوِي النّكَالِ
ونُؤْمِنُ أَنَّنَا لا شَكَّ نَجْرِي ... عَلَى مَتْنِ الصِّرَاطِ بكُلُّ حَالِ
فَنَاجٍ سَالٌم مِنْ كُلِّ شَرٍّ ... وهَاوٍ هَالِكٌ لِلنَّارِ صَالِ
وأنَّ البَعْثَ بَعْدَ الموتِ حَقُّ ... لِيَومِ الحَشْرِ مَوْعِدُ ذِي الجَلالِ
وَمِعْرَاجُ الرَّسُول إِلَيْهِ حَقُّ ... بِذَاتِ المُصْطَفَى نَحْوَ العَوَالِ
وَفِي الْمِعْرَاجِ رَدٌّ مُسْتَبِينٌ ... عَلَى الْجَهْمِيَّةِ المُغَلِ الغَوَالِي
وَمَنْ يَنْحُو طَرِيْقَتَُهْم بِبَغْيِ ... وَعُدْوَانٍ وَقَوْلٍ ذِي وَبَالِ
بِتَأْوِيلٍ وَتَحْرِيفٍ وَهَذَا ... هُوْ التَعْطِيلُ عِنْدَ ذَوِي الكَمَالِ
وَأَنَّ الْحَوْضَ لِلْمَعْصُومِ حَقُّ ... لأَهْلِ الْخَيْرِ لا أَهْلِ الضَّلالِ
وَنُؤْمِنُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ... سَيَأْتِي الْفَاتِنَانِ بِكُلَّ حَالِ
إِلَى الْمَقْبُورِ ثِمَّةَ يَسْألانِهِ ... فَنَاجٍ بِالثَّبَاتِ بِلا اخْتِلالِ
سِوَى مَنْ كَانَ يَوْمًا ذَا مَعَاصٍ ... سَيَلْقَى غِبَّهَا بَعْدَ السُّؤَالِ
إِذَا مَا لَمْ تُكَفَّرْ تِلْكَ عَنْهُ ... بِأَشْيَاء مُمَحَّصَةٍ بِحَالِ
وَآخَرُ بالشَّقَاوَةِ سَوِفَ يَلْقَى ... عَذَابَ القَبْرِ مِنْ سُوءٍ الفِعَالِ
ونُؤمِنُ بالَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ ... خِيارُ النَّاسِ مِنْ صَحْبِ وآلِ
كَذَاكَ التَّابُعونَ وتَابِعُوهُمْ ... عَلَى دِينِ الْهُدَى والانْتِحَالِ
وإِنَّ الفَضْلَ لِلْخُلَفَاءِ حَقُّ ... وتَقْدِيمَ الْخِلافَةِ بالتَّوَالِي
أَبُو بَكْرٍ فَفَارُوقُ البَرايَا ... فَذُو النُّورَينِ ثُمَّ عَليُّ عَالِ
عَلى مَنْ بَعْدَه وهُمُوا فَهُمْ هُمْ ... نُجُومُ الأَرْضِ كَالدُّرَرِ الغَوالِي
وكَالأَعْلامِ لِلْحَيْرَانِ بَلْ هُمْ ... هُدَاتٌ كَالرَّعَانِ مِنْ الجِبالِ
وكُلِّ كَرَامَةِ ثَبَتَتْ بِحَقٍّ ... فَحَقُّ لِلْولِّي بلا اخْتلالِ
نَوالٌ مِن كَرَيِمٍ حَيْثُ كَانُوا ... بِطَاعَةِ رَبِّهم أَهْلَ انْفِعَالِ(3/604)
.. ولَيْسَ لَهُمْ نَوالٌ أوْ حِبَاءٌ ... لِمَنْ يَدعُوهُموا مِن كُلِّ عَالِ
وإن الخَرْقَ لِلْعَادَاتِ فاعْلَمْ ... عَلَى نَوعَيْنِ واضِحَةِ المِثَالِ
فَنَوعٌ مِن شَيَاطِينٍ غُوِاةٍ ... لِمَنْ وَالاهُمُو مِنْ ذِي الخَيَالِ
ونَوعٌ وهُوَ مَا قَدْ كَانَ يَجْرِي ... لأَهْلِ الخَيرِ مِن أهْلِ الكَمَالِ
مِن الرَّحمنِ تَكْرِمَةً وفَضْلاً ... لِشَخْصٍ ذِي تُقَى سَامِي المَعَالي
وَلَكِنْ لَيْسَ يُوجِبْ أَنْ سَيُدْعَى ... وَيُرْجَى أَوْ يُخَافُ بِكُلِّ حَالِ
فَمَا فِي العَقْلِ مَا يَقْضِي بِهَذَا ... وَلا فِي الشَّرْعِ يَا أَهْلَ الوَبَالِ
وَفَارقُ ذَلِكَ الْمَعْصُوْمِ حَقًّا ... وَتَوْحِيدٌ بِإِخْلاصِ الفِعَالِ
فَمَنْ يَسْلُكَ طَرِيْقَتَهُ بِصِدْقٍ ... فَمِنْ أَهْلِ الوِلا لا ذِي الضَّلالِ
وَمَنْ يَسْلُكَ سِوَاهَا كَانَ حَتْمًا ... بِلا شَكٍّ يُخَالِجُ ذَا انْسِلالِ
وَنُؤْمِنُ أَنَّ عِيْسَى سَوْفَ يِأَتِي ... لِقَتْلِ الأَعْوَرِ البَاغِي الْمُحَالِ
وَيَقْتُلُ لِلْيَهُودِ وَكُلٌّ بَاغٍ ... وَيَحْكُمَ بِالشَّرِيعَةِ لا يُبَالِي
وَرَبِّي خَالِقٌ مُحْيٍ مُمِيتٌ ... هُوَ الْحَقُّ الْمَقدرُ ذُو التَّعَالِي
وَبِالأَسْبَابِ يَخْلُقُ لا كَقَوْلٍ ... لِقَوْمٍ عِنْدَهَا قَوْلُ الضَّلالِ
وَفِي الْقُرْآنِ ذَلِكَ مُسْتَبِينٌ ... فَأَنْبَأَنَا بِهِ وَالْحَقُّ جَالِ
لِرَيْبِ الشَّكِّ عَنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ ... صَحَيْحٍ عَنْ أَمَاثِلَ ذِي مَقَالِ
عَلَى هَذَا ابْنُ حَنْبَلَ وَهْوَ قَوْلٌ ... لأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ
وَمَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ غَيْرَ هَذَا ... فَقَدْ أَخْطَا خَطَاءً ذَا وَبَالِ
وَمِمَّا قَالَ فِيْمَا زَاغَ فِيهِ ... وَأَعْنِي فِي القَصِيْدَةِ ذَا الأَمَالِي
وَمَا أَفْعَالُ خَيْرٍ فِي حِسَابٍ ... مِنْ الإِيْمَانِ فَاحْفَظْ لِي مَقَالِي
يَزِيدُ بِطَاعَةِ الإِنْسَانِ يَوْمًا ... وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي ذِي الوَبَالِ
وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحَقِّ مِمَنْ ... هُمْ الأَعْلامُ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ(3/605)
.. وَدَعْنِي مِنْ خِرَافَاتٍ وَهَمْطٍ ... لأَرْبَابِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلالِ
وَإِنَّ السُّحْتَ رِزْقٌ لا حَلالٌ ... وَلَكِنْ مَنْ أَتَى كَفْرًا بَوَاحًا
وَتَكْفِيرٌ بِذَنْبٍ لا نَرَاهُ ... لأَهْلِ القِبْلَةِ الْمُثْلَى بِحَالِ
وَلَكِنْ مَنْ أَتَى كَفْرًا بَوَاحًا ... وَأَشْرَكَ فِي العِبَادَةِ لا نُبَالِي
وَإِنَّ الْهِجْرَةَ الْمُثْلَى لِفَرْضٌ ... عَلَى ذِي قُدْرَةٍ بِالانْتِقَالِ
وَلَمْ تُنْسَخْ بِحُكْمِ الفَتْحِ بَلْ ذَا ... بِذَاكَ الوَقْتِ والإِسْلامُ عَالِ
فَإِنْ عَادَتْ وَصَارَتْ دَارَ كُفْرٍ ... فَهَاجِرْ لا تَطفِّف بِاعْتِزَالِ
لأَنَ الْمُصْطَفَى قَدْ قَالَ مَا قَدْ ... رَوَى الإِثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ
بِذكْرٍ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مُقِيمٍ ... بِدَارِ الْكُفْرِ بَيْنَ ذَوِي الضَّلالِ
وَذَا مِنْ مُسْلِمٍ إِذْ جَاءَ ذَنْبٌ ... كَبِيرٌ بِالإِقَامَةِ لا يُبَالِي
رَوَى ذَا التِّرْمِذِيُّ كَذَاكَ جَاءَتْ ... بِهِ الآيَاتُ وَاضِحَةُ لِتَالِ
وَجُمْلَةُ كُلِّ مُعْتَقَدٍ صَحِيحٌ ... رَوَاهُ النَّاسِ عَنْ صَحْبٍ وَآلِ
وَعَنْ سَلَفٍ رَوَى خَلَفٌ ثِقَاتٌ ... لَنَا بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ بِاحْتِفَالِ
فَإِنَّا بَاعْتِقَادٍ وَاحْتِفَالٍ ... لَهُ بِالأَخْذِ فِي كُلِّ الْخَلالِ
فَإِنْ رُمْتَ النَّجَاةَ غَدًا وَتَرْجُو ... نَعِيمًا لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ
نَعِيمًا لا يَبِيدُ وَلَيْسَ يَفْنَى ... بِدَارِ الْخُلْدِ فِي غُرَفٍ عَوَالِ
وَحُوْرًا فِي الْجِنَانِ مُنَعَّمَاتٍ ... مَلِيْحَاتِ التَّبَعُّلِ وَالدَّلالِ
فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا ... فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا
وَلا تَذْهِبْ إِلَى الأَمْوَاتِ جَهْلا ... لِنَفْعٍ أَوْ لِضَرٍّ أَوْ نَوَالِ
وَلا تَجْعَلُ وَسَائِطَ تَرْتَجِيهِمْ ... فَإِنَّ اللهَ رَبِّكَ ذُو الكَمَالِ
عَلِمٌ قَادِرٌ بَرُّ كَرِيمٌ ... بَصِيرٌ سَامِعٌ لِذَوِي السُّؤَالِ
وَلَيْسَ بِعَاجِزٍ فَيُعَانُ حَاشَا ... وَلَيْسَ بِغَائِبٍ أَوْ ذِي اشْتِغَالِ(3/606)
.. فَلا يَدْرِي بِأَحْوَالِ البَرَايَا ... فَتَدْعُو مَنْ يُخَبِرَّ بِالسُؤَالِ
فَتَجْعَلُهُ الوَسَاطَةُ إِنَّ هَذَا ... لَعَمْرِي مِنْ مَزَلاتِ الضَّلالِ
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ رَبِّي ... مُرِيدَ النَّفْعِ أَوْ بَذْلَ النَّوَالِ
وَلا الإِحْسَانُ إِلا مِنْ شَفِيعٍ ... يُحَرِّكُهُ فَيَعْطِفُ ذُو الْجَلالِ
لِحَاجَتِهِ وَرَغْبَتِهِ إِلَيْهِ ... وَهَذَا لا يَكُونُ لِذِي الكَمَالِ
أَلَيْسَ اللهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ ... وَمَالِكُهُ وَرَبُّكَ ذُو التَّعَالِي
وَمَنْ ذَا شَأْنُهُ وَلَهُ البَرَايَا ... بِأَجْمَعِهَا الأَسَافِلُ وَالأَعَالِي
أَكَانَ يَكُونُ عَوْنًا أَوْ شَفِيعًا ... يُخَبِّرُ بِالْغَوَامِضِ وَالفِعَالِ
وَيُكْرهُهُ عَلَى مَا لَيْسَ يَرْضَى ... تَعَالَى ذُو الْمَعَارِجِ وَالْمَعَالِي
أَكَانَ يَكُونُ مَنْ يَخْشَانُ رَبِّي ... وَيَرْجُوهُ لِتَبْلِيغِ الْمَقَالِ
وَيَشْفَعُ عَنْدَهُ كرهًا عَلَيْهِ ... كَمَا عِنْدَ الْمِلُوكِ مِنْ الْمَوَالِي
لِحَاجَتِهِمْ وَرَغْبَتَهُمْ إِلِيْهِمْ ... لِخَوْفٍ أَوْ رَجَاءٍ أَوْ نَوَالِ
تَعَالَى اللهُ خَالِقَنَا تَعَالَى ... تَقَدَّسَ بَلْ تَعَاظَمَ ذُو الْجَلالِ
أَلَيْسَ اللهُ يَسْمَعُ مَنْ يُنَاجِي ... كَمَنْ يَدَعُو بِصَوْتٍ بِالسُّؤَالِ
وَأَصْوَاتُ الْجَمِيْعِ كَصَوْتِ فَرْدٍ ... وَأَصْوَاتُ الْجَمِيْعِ كَصَوْتِ فَرْدٍ
فَلا يَشْغَلْهُ سَمْعٌ عَنْ سَمَاعٍ ... لِمَنْ يَدْعُو وَيَهْتِفُ بِابْتِهَالِ
وَلا يَتَبَّرمُ الرَّحْمَنِ رَبِّي ... بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ الْمَوَالِي
وَلا يُغْلِطْه كِثْرَةُ سَائِلِيهُ ... جَمِيعًا بِالتَّضَرُّعِ وَالسُّؤَالِ
بِكُلِّ تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ مِنْهُم ... وَأَصْنَافَ اللُّغَاتِ بِلا اخْتِلالِ
فَيُعْطِي مَنْ يَشَاءِ مَا قَدْ يَشَاءُ ... وَيَمْنَعُ مَا يَشَاءُ مِنْ النَّوَالِ
أَلَيْسَ اللهُ يُبْصِرُ كُلَّ شَيْءٍ ... بِلا شَكٍّ وَيُبْصِرُ ذُو الْجَلالِ(3/607)
.. دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَا تَعَالَى ... وَأَعْطَى تِلْكَ فِي ظُلْمِ اللَّيَالِي
عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ ذَوِي سَوَادٍ ... شَدِيدٍ حَالِكٍ مِثْلُ الكُحَالِ
وَمُجْرِي القُوْتَ فِي الأَعْضَاءِ مِنْها ... وَأَعْضَاءِ البَعُوضِ بِكُلِّ حَالِ
وَمَدَّ جَنَاحَهِ فِي جُنْحِ لَيْلٍ ... وَأَعْرَاقُ النِّيَاطِ بِلا اخْتِلالِ
وَيَعْلَمُ مَا أَسَرَّ العَبْدُ حَقًّا ... وَأَخْفَى مِنْه فَاسْمَعْ لِلْمَقَالِ
فَمَنْ ذَا شَأْنُهُ أَيَصَحُّ شَرْعًا ... وَعَقْلاً أَنْ يُشَارِكَهُ الْمَوَالِي
مَعَاذَ اللهِ مَا هَذَا بِحَقٍّ ... وَلا فِي العَقْلِ عِنْدَ ذَوِي الكَمَالِ
أَفِي مَعْقُولِ ذِي حُجْرٍ عُدُولٍ ... إِلَى مَيْتٍ رَمِيمٍ ذِي اغْتِفَالِ
عَدِيمِ السَّمْعِ لَيْسَ يَرَاهُ يَوْمًا ... عَدِيمَ العِلْمِ لَيْسَ بِذِي نَوَالِ
وَيَتْرُكُ عَالِمًا حَيًّا قَدِيرًا ... بَصِيرًا سَامِعًا فِي كُلِّ حَالِ
كَرِيمًا مُحْسِنًا بَرًّا جَوَادًا ... رَحِيمًا ذُو الفَوَاضِلِ وَالنَّوَالِ
لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ يَأْتِي بِهَذَا ... لَذُو خَبَلٍ مِنْ الإِسْلام ِخَالِ
وعَقلٌ يَرْتَضِي هَذَا لَعَمْرِي ... سَقِيمٌ زَائِغٌ وَاهِ المَقَالِ
وأَهلُوَه أضلُّ النَّاس طُرًّا ... وأسفهُهُم وأولى بالنَّكَالِ
فلا يَغُرُوكَ إقرارٌ بِمَا قَدْ ... أَقرَّ الْمُشْرِكُونَ ذَوُوا الضَّلالِ
بأَنَّ الله خَاِلقُ كُلِّ شيء ... ومَالِكُه وذا بالاقْتِلالِ
ورَزَّاقٌ مُدَبِّرُ كُلِّ أَمْرٍ ... وَحيٌ قَادِرٌ رَبُّ العَوَالِي
فَهََا قَدْ أَقَرَّ بِهِ قُرَيْشٌ ... فَلَمْ يَنفَعْهُمُوا فاسْمَعْ مَقالِي
وهُمْ يَدْعُونَ غَيرَ اللهِ جَهْرًا ... وَجَهْلاً بِالْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ
وَلِلأَشْجَارِ وَالأَحْجَارِ كَانَتْ ... عِبَادَتُهُمْ بِذَبْحٍ مَعْ سُؤَالِ
وَلِلأَمْوَاتِ هَذَا كَانَ مِنْهُمْ ... بِخَوْفٍ مَعْ رَجَاءٍ وَانْذْلالِ
وَنَذْرٍ وَاسْتِغَاثَةَ مُسْتَضَامٍ ... فَبَاءُوا بِالْوَبَالِ وَبِالنِّكَالِ(3/608)
.. وَإِنَّ الْحَقَّ إِنْ تَسْلُكْهُ تَنْجُو ... مِنْ الإِشْرَاكِ ذِي الدَّاءِ الْعُضَالِ
طَرِيْقُ الْمُصْطَفَى الْمَعْصُومِ حَقًّا ... بِتَوْحِيدِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الكَمَالِ
بِأَفْعَالٍ لَهُ وَحْدِهُ فِيْهَا ... وَبِالأَفْعَالِ مِنْكَ بِلا اخْتِلالِ
بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةَ مِنْ رَجَاءٍ ... وَخَوْفٍ وَالتَّوَكُّلُ وَالسُّؤَالِ
وَذَبْحٍ وَاسْتِغَاثَةِ مُسْتَغِيْثٍ ... وَنَذْرٍ وَاسْتِعَانَةِ ذِي الْجَلالِ
وَلا تَخْضَعْ لِغَيْرِ اللهِ طُرًّا ... وَلا تَخْشَاهُ فِي كُلِّ الْفِعَالِ
وَبِالرَّغْبَاءِ وَالرَّهْبَاءِ مِنْهُ ... بِتَعْظِيْمٍ وَحُبٍّ وَانْذِلالِ
لِرَبِّكَ لا لِمَخْلُوقٍ وَمَيِّتٍ ... ضَعَيْفٍ عَاجِزٍ فِي كُلِّ حَالِ
فَوَحِّدْهُ وَأَفْرِدْهُ بِهَذَا ... وَدَعْنَا مِن مَزَلاتِ الضَّلالِ
وَأَوْضَاعٍ لأَفَّاك جَهُولٍ ... حِكَايَاتٍ مُلَفَّقَةٍ لِغَالِي
وَكُلُّّ طَرِيقَةٍ خَرَجَتْ وَزَاغَتْ ... عَنْ الْمَشْرُوعِ بِالْقَوْلِ الْمُحَالِ
فَإِنَّا مِنْ طَرَائِقِهِمْ بَرَاءٌ ... إِلَى اللهِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ
فَتَبْرَأُ مِنْ ذَوِي الإِشْرَاكِ طُرًّا ... وَمِنْ جَهْمِيَّةٍ مُغْلٍ غَوَالِ
وَمِنْ كُلِّ الرَّوَافِضِ حَيْثُ زَاغُوا ... فَهُمْ أَهْلُ الْمَنَاكِرِ وَالضَّلالِ
وَمِنْ قَوْلَ النَّوَاصِبِ حَيْثُ ضَلَّتْ ... حُلُوْمُهُمُوا بِقَوْلٍ ذِي وَبَالِ
وَمِنْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ قَدْ بَرِئْنَا ... وَيَا بُعْدًا لأَهْلِ الاعْتِزَالِ
بِمَا قَالُوْهُ وَانْتَحَلُوهْ مِمَا ... يُخَالِفُ دِيْنَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ
فَقَدْ جَاءُوا مِنْ الْكُفْرَانِ أَمْرًا ... عَظَيْمًا وَاجْتِرَاءً بِالْمُحَالِ
وَنَبْرَأُ مِنْ أَشَاعِرَةٍ غُوَاةٍ ... قَفَوْا جَهْمًا بِرَأْيٍ وَانْتِحَالِ
وَمِنْ جُبْرِيَّةٍ كَفَرَتْ وَضَلَتْ ... وَنَبْرَأُ جَهْرَةً مِنْ كُلِّ غَالِ
كُنَا فِي قُدْرَةِ الرَّحْمَنِ رَبِّي ... وَتَقْدِيرِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ
وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ كُلاَّبِ بَرِئْنَا ... فَلَسْنَا مِنْهُمُوا أَبَدًا بِحَالِ(3/609)
.. وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ وَمِمَنْ ... نُمِي بِالاقْتِرَانِ ذَوِي الضَّلالِ
وَأَهْلُ الْوَحْدَةِ الْكُفَّارِ إِذْ هُمْ ... أَضَلُّ النَّاسِ فِي كُلِّ الْخَلالِ
وَمِنْ أَهْلِ الْحُلُولِ ذَوِي الْمَخَازِي ... فَقَدْ جَاءُوا بِقَوْلٍ ذِي وَبَالِ
وَمِمَّنْ قاَلَ شَرْعَ أَحْمَدَ ذِي الْمَعَالِي ... وَأَصْحَابٍ كِرَامٍ ثُمَّ آلِ
وَنَبْرَأُ مِنْ طَرَائِقَ مُحْدَثَاتٍ ... مَلاهٍ مِنْ مَلاعِبِ ذِي الضَّلالِ
بِأَلْحَانِ وَتَصْدِيَةٍ وَرَقْصٍ ... وَمِزْمَارٍ وَدُفٍّ ذِي اغْتِيَالِ
وَأَذْكَارٍ مُلَفَقَّةٍ وَشِعْرٍ ... بِأَصْوَاتٍ تَرُوقُ لِذِي الْخَبَالِ
فَحِينًا كَالْكِلابِ لَدَى انْتِحَالِ ... وَحِينًا كَالْحَمِيرِ أَوْ الْبِغَالِ
وَتَلْقَى الشَّيْخَ فِيْهِمْ مِثْلَ قِرْدٍ ... يُلاعِبُهُمْ وَيَرْقُصُ فِي الْمَجَالِ
بِأَيِّ شَرِيعَةٍ جَاءَتْ بِهَذَا ... فَلَمْ نَسْمَعْهُ فِي الْعُصُرِ الْخَوَالِي
فَأَمَا عَنْ ذَوِي التَّقْوَى فَحَاشًا ... فَهُمْ أَهْلُ التُّقَى وَالابْتِهَالِ
وَأَهْلُ الإِتْبَاعِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ... لَعَمْرِي ذُو ابْتِدَاعٍ فِي انْتِحَالِ
وَكَانَ سُلُوكُهُمْ حَقًّا عَلَى مَا ... عَلَيْهِ الشَّرْعُ دَلَّ مِنَ الْكَمَالِ
بِأَذكَارٍ وَأَوْرَادٍ رَوَوْهَا ... عَنْ الإِثْبَاتِ عَنْ صَحْبٍ وَآلِ
وَحَالٍ يَشْهَدُ الشَّرْعُ الْمزَكَّي ... لَهُ باِلاقْتِضَا فِي كُلِّ حَالِ
وَمَعْ هَذَا إِذَا مَا جَاءَ حَالٌ ... بِأَمْرٍ وَارِدٍ لِذَوِي الْكَمَالِ
مِنَ النُّكَتِ الَّتِي لِلْقَوْمِ تُرْوَى ... وَتُعْرَضُ فِي الْفَنَا فِي ذَا الْمَجَالِ
أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهَا ذَاكَ إِلا ... بِحُكْمِ الشَّاهِدَيْنِ بِلا اخْتِلالِ
كِتَابُ اللهِ أَوْ نَصُّ صَحِيحٌ ... صَرِيحٌ وَاضِحٌ لِذَوِي الْمَعَالِي
وَقَدْ قَالُوا وَلا يَغْرُرْكَ شَخْصٌ ... إِلَى الآفَاقِ طَارَ وَلا يُبَالِي
وَيَمْشِي فَوْقَ ظَهْرِ الْمَاءِ رَهْوًا ... وَيَأْتِي بِالْخَوَارِقِ بِالْفِعَالِ
وَلَمْ يَكُ سَالِكًا فِي نَهْجِ مَنْ قَدْ ... أَتَى بِالشَّرْعِ فِي كُلِّ الْخِصَالِ(3/610)
.. فَذَلِكَ مِنْ شَيَاطيِنِ غُوَاةٍ ... لِمَنْ وَالاهُمُوا مِنْ كُلِّ غَالِ
فَدَعْ عَنْكَ ابْتِدَاعًا وَاخْتِرَاعًا ... وَسُرْ فِي إِثْرِ أَصْحَابِ الْكَمَالِ
وَلَمْ نَسْتَوْعِبْ الْمَفْرُوضَ لَكِنْ ... ذَكَرْنَا جُمْلَةً فِي ذَا الْمَجَالِ
فَأَحْبِبْ فِي الإِلَهِ وَعَادِ فِيهِ ... وَأَبْغِضْ جَاهِدًا فِيهِ وَوَالِ
وَأَهْلَ الْعِلْمِ جَالِسْهُمْ وَسَائِلْ ... وَلا تَرْكَنْ إِلَى أَهْلِ الضَّلالِ
وَلا يَذْهَبْ زَمَانُكَ فِي اغْتِفَالِ ... بِلا بَحْثٍ وَفِي قِيلٍ وَقَالِ
وَمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَنْهَ عَنِ الْمَنَاهِي ... فَذَا مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ
دَعَانِي وَاقْتَضَى نَظْمِي لِهَذَا ... قَرِيضٌ قَدْ رَأَيْتُ لِذِي الأَمَالِي
وَحَقُّ إِجَابَةٍ لِسُؤَالِ خِلٍّ ... وَقَدْ سَاعَفْتُهُ بِالامْتِثَالِ
فَعَارَضْتُ الَّذِي لا نَرْتَضِيهِ ... وَأَبْقَيْتُ الَّذِي لِلشَّكِّ جَالِ
وَزِدْنَا فِيهِ أَبْحَاثًا حِسَانًا ... عَلَيْهِ النَّاسِ فِي الْعَصْرِ الْخَوَالِي
فَيَا ذَا الْعَرْشِ ثَبِّتْنِي وَكُنْ لِي ... نَصِيرًا حَافِظًا وَلِمَنْ دَعَالِي
وَحَقِّقْ فِيكَ آمَالِي وَجُدْ لِي ... بِعِلْمٍ نَافِعٍ يَا ذَا الْجَلالِ
وَصِلْ حَبْلِي بِحَبْلِكَ وَاعْفُ عَنِّي ... جَمِيعَ السُّوءِ مِنْ كُلِّ الْفِعَالِ
وَصَلِّ اللهُ مَا قَدْ صَابَ وَدْقٌ ... وَلاحَ الْبَرْقُ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي
عَلَى الْمَعْصُومِ أَحْمَدَ ذِي الْمَعَالِي ... وَأتباعِ وَأَصْحَابٍ وَآلِ
تم هذا الجزء الثالث بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وان يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا عَلَى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر(3/611)
ويحفظنا وإياهم من كل ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب عَلَى كل شيء قدير.
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده عَلَى حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق عَلَى صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده مَا يحثهم عَلَى ذلك.
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن عَلَى صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله فِي الغنى.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، ويجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف (6000) ريال.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة فِي الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف (3000) ريال أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا (1000) ريال.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين (2000) من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج مَا أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن فِي بيوت الله أو البيوت المعدة لذلك فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع فِي الدنيا والآخرة أو يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كَانَ سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك مِنْه ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مع أولادهم(3/612)
فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر عَلَى ذلك وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم.
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ ... كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ
(فصل يحتوي عَلَى الدعاء)
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية فِي الدنيا والآخرة.
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق الخشية.
اللهم اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمت بنا أحدَا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر مَا أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك عَلَى كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.(3/613)
اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم أعنا عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللهم إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً،(3/614)
ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الأغر الأجل الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت.
ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يا من عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، يا ذا الجلال والإكرام.
يا حي يا قيوم، يا مالك الملك، يا من هو عَلَى كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كَأنَنا نراك، وأسعدنا بتقواك ولا تشقنا بمعصيتك.
اللهم إنك تسمع كلامنا، وترى مكاننا، وتعلم سرنا وعلانيتنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا.
نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير.
اللهم يا من خضعت له رقابنا، وفاضت له عباراتنا، وزلت له أجسامنا ورغمت له أنوفنا لا تجعلنا بدعائك أشقياء وكن بنا رؤوفًا يا خير المسؤلين.
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، يا أرأف الرأفين، أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.(3/615)
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
(اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرت لها عَلَى جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز بن محمد بن سلمان
شِعْرًا:
مُنَايَ مِن الدُّنْيَا عُلُومٌ أبثُهَا ... وأنْشُرُهَا في كُلِ بَادٍ وحَاضِرِ
دُعَاءً إِلَى القُرْآنِ والسُنَّةِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرَهَا في المَحاضِرِ
وَقَدْ أبْدِلُوهَا الجَرَائِد تَارةً ... وتِلْفَازِهِمْ رأَسُ الشُرور المنَاكِرِ
ومِذْيَاعهِمْ أيْضًِا فلا تَنْس شَرَّهُ ... فكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بِهَا بالخَسَائِرِ(3/616)
آخر:
أُقِلِّبُ كُتْبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَالْيَدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا
وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تُنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى
وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا
فوائد عظيمة النفع
واعجبًا منك يضيع منك الشيء القليل وتتكدر وتتأسف وَقَدْ ضاع أشرف الأشياء عندك وهو عمرك الذي لا عوض له وأنت عند قتالات الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطريق عن الأعمال الصالحة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .
اللهم علمنا مَا ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.(3/617)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الرابع(4/1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ
وَبِهِ نَستَعِيْنْ
شعراً: ... إذَا شئت أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِماً ... فَتُحْرِقَهُ حُزُنْاً وَتَقْتُلَهُ غَمًّا
فَعَلَيْكَ بالإِخْلاَصِ وَالزُّهْدِ والتُّقَى ... فَمَنْ فَازَ فِيْهَا مَاتَ حُسَّادُهُ هَمًّا
فائدة: وقَفَ قَوْمٌ علَى عَالمٍ فَقَالُوا: إنَّا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيْبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوْا وَلاَ تُكْثِرُوْا، فَإِنَّ النَّهارَ لَنْ يَعُوْدَ، والطَّالِبَ حَثِيْث في طَلبِه. قَالُوْا: فأَوْصِنَا. قال: تَزَوَّدُوْا عَلَى قَدْر سَفَرِكُمْ فإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا أَبْلَغَ البُغْيَةَ. ثُمّ قَالَ: الأيامُ صحائفُ الأَعْمَارِ فَخَلِّدُوْهَا أَحْسَنَ الأَعْمال، فإِنَّ الفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَالتَّوَاني مِنْ أَخْلاَقِ الكُسَالَى والخَوالِفِ، وَمَن اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ العَجْز عَثرَ بِه، وتَزَوَّجَ التَّواني بالكَسَل فَوُلِدَ بيَنْهُما الخُسَرْان أ.هـ. قال بَعْضُهُم:
شعراً: ... تَزَوَجَتِ البَطَالَةُ بالتَّواني ... فأَوْلَدَهَا غُلاَماً مَعْ غُلامَهْ
فأَمَّا الإِبْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرِ ... وَأَمَّا البنْتُ سَمَّوْهَا نَدَمَهْ
آخر: ... يَا سَاكِنَ الدُنْيَا تَأَهَّبْ ... وَانْتظِرْ يَوْمَ الفِرَاقْ
وَأَعِدَّ زَاداً لِلرَّحِيْلْ ... فَسَوْفَ يُحْدَى بِالرّفُاقْ
وابْكِ الذُنوُبَ بأَدْمُعٍ ... تَنْهَلُّ مِنْ سُحْبِ المَآقْ
يا مَنْ أَضَاعَ زَمَانَهُ ... أَرَضِيْتَ مَا يَفْنَى بِبَاقْ(4/2)
ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ
مُلاحظة:
لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصرَهُ أوْ يَتَعَرَّضَ له بما يُسَمُونَه تَحقِيقاً لأَنْ الإِختصار سَبَبٌ لتعطيل الأصْل والتحقيق أرَى أنَّهُ إتهام للمؤلف، ولا يُطبع إلا وقفاً لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.
(فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وَفَّقَهُ الله)
مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لاَ إلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ معناها، ووفقه للعمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إليْهَا.
إِصِرِفْ هُمُومَكَ لِلقُرآنِ تَفْهَمَهُ ... واعْملَ بِهِ كيْ تَنَالَ الأجْرَ والشَّرَفَا
آخر: ... الذكرُ أصْدَقُ قَوْلٍ فافْهَم الخَبَرَا ... لأنهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أنْشأ البَشَرَا
فاعْمَلْ بِهِ إنْ تُرِدْ فهْماً ومَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كيْ تَنَال العِزَّ والفَخَرَا
وتحْمد الله في يوْمِ المَعَادَ إذَا ... جَاءَ الحِسَابُ وعَمَّ الخَوفُ وانْتَشَرَا
لله دَرُّ رَجالٍ عَامِليْنَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ واشْتَهَرَا
...
آخر: ... جَمِيْعُ الكُتْبِ يُدْرِك مَنْ قَراهَا ... مِلالٌ أو فتُورٌ أوْ سَآمَه
سِوى القُرْآن فافْهَمْ وَاسْتمِعْ لي ... وقَوْلِ المُصْطَفَى يا ذَا الشَّهَامَه(4/3)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
آخر: ... هِيَ الكُنُوزُ التِّي تنْمُو ذَخَائِرهَا ... ولا يُخَافِ عَلَيها حَادث الغِيرَ
الناسُ إثْنَانِ ذُوْ عِلْمٍ ومُسْتَمِعٌ ... وَاعٍ وغيرُهُما كَاللَّغْوِ والهَذَرِ
(1)
اللَّيلُ والنهارُ يَعْمَلان فِيْكَ فاعْمَلْ فيهما أَعمَالاً صَالحِةً تَرْبَح وتحمَد العَاقِبةَ الحَمِيْدة إن شاء الله تعالى.
وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمْرِكَ فَاغْتَنِمْهُ ... ولا تَذْهَبْ بِشطْر العُمْرِ نَوْمَاً
آخر: ... أَلاَ لَيْتَ أَنّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتيْ ... ألازِمُ ذِكْرَ الله في كُلّ لحَظَةِ
(2)
الملائكةُ يَكْتُبَانِ مَا تَلفَّظَ به فاحْرَصْ عَلَى أنْ لا تَنْطِقَ إِلاَّ بِمَا يَسُرُّكَ يَوم القِيَامَةْ أَشرَف الأشيَاء قَلبُكَ وَوَقْتُكَ، فَإِذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيَّعْتَ وَقْتَكَ، فَمَاذَا يبقى مَعَكَ، كُلُّ الفَوَائِدِ ذَهَبَتْ.
شِعْراً: ... أمَّا بُيُوْتُكَ فِي الدُنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الَمْوتِ يَتَّسِعُ
(3)
إعْلَم أنَّ قِصَرِ الأمَل عليه مَدَارٌ عظيم، وحِصَنُ الأمَل ذِكْرُ الموتِ، وحِصَنُ حِصْنه ذكر فجأة الموتِ وأخْذُ الإنسان على غِرَّةٍ وغَفِلةٍ، وهو في غِررٍ وفُتُورٍ عن العمل لْلآخِرَةِ. نَسْأَلُ الله أنْ يُوقِضَ قُلُوبَنَا إِنَهُ علي كل شيء قدير. اللهُم صلي علي محمد وآله وسلم.
آخر: ... إذا كان رأسُ المال ِعُمْرُكَ فَاحْتِرزْ ... عَليه من الإِنْفَاقِ في غيرِ وَاجِبِ(4/4)
ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(فَصْلٌ)
" فيِ نماذج مِنْ الفِرَاسَةِ "
وكانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَهُ فِرَاسَةٌ مِنْ ذَلَكَ أَنَّهُ أُتيَ يَوماً بِفَتىً أمردٍ قد وُجِدَ قَتِيلاً مُلقىً علي الأرضِ فسأل عُمَرُ عن أَمْرِهِ واجتهدِ فَلَمْ يَقِفْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ فشقَّ ذلكَ عَليه.
فَقَالَ: اللهُمَّ أَظْفِرنيِ بقَاتله حَتَّى إذا كان علي رأس الحَوْل وُجِدَ صَبِيٌّ مولودٌ مُلقىً بِمَوْضَع القتيل فأتي به عُمَرُ فَقَالَ: ظَفرتُ بِدَم القَتيْل إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى فدفع الصبي إلي امرأة ترضعه وتقوم بشأنه، وقَالَ: خُذِي مِنا نفقتهُ وانْظُريْ من يَأُخُذُهُ مِنكِ فإذا وجدتِ امرأةً تُقَبِلُهُ وتضمهُ إلي صدرِهَا فأعلِمينيْ بِمَكَانهِا.
فلما شبَّ الصَّبيُّ جَاءتْ جَاريةٌ فَقَالتْ للمرأةِ: إنَّ سَيَّدَتي بَعَثتنيْ إليكَ لتَبعثي بالصَّبيّ لتراهُ وترُدُّهُ إليْكِ. قَالَتْ: نَعَمْ إذهبي بِه إليهَا وَأنا مَعَكِ فَذَهَبتْ بالصبيَّ والمرأةُ مَعَهُ حتَّى دَخَلَتْ علي سيَّدتِهَا فلمَّا رَأتْهُ أخَذَتْهُ فَقَبَّلتْهُ وَضَمَّتْهُ إليْهَا.
فإذَا هِيَ ابنةُ شَيخٍ منْ الأَنْصَارِ مِنْ أصحابِ النبيّ ? فأتت عُمَرَ فخبَّرَتهُ فاشتملَ عَلى سيفِهِ ثُمَّ أقبَلَ إلى منزل المرأة فوجد أباها متكئاً علي البابِ فقالَ: يا فُلانُ ما فَعَلتْ ابنتُكَ فُلَانَةُ؟ قَالَ: جَزَاهَا الله خَيراً يا أَمِيرَ المُؤمنينَ هِيَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاس بحقَّ اللهِ وحَقَّ أبِيهَا مَعَ حُسْنِ صَلَاتِهَا وَصيَامِهَا وَالقِيَام بِدينِها.(4/5)
فقالَ عُمرُ: قَدْ أحْببْتُ أن أَدْخُلَ إليْهَا فَأَزِيدَهَا رَغبةً في الخَير وأحُثَّهَا عَليهِ فَدَخَل أَبُوها وَدَخَلَ عُمَرُ معهُ فَأَمَر مَنْ عِنْدَهَا فخَرجَ وَبَقِيَ هُوَ وَالمرأةُ في البيْتِ فَكَشَفَ عُمَرُ عَن السَّيْفِ وَقَالَ لَتَصْدُقِيْني وإلاَّ ضربْتُ عُنُقَكِ وَكَانَ لا يَكْذِبُ.
فَقَالَتْ: على رِسْلِكَ فَوَاللهِ لأَصْدُقَنَّ، إنَّ عَجُوْزاً كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيَّ فاتَّخذَتْهُا أماً وَكَانَتْ تَقُومُ مِنْ أَمْرِيْ كَمَا تَقُومُ بِهِ الوَالِدَةُ وَكُنْتُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ البِنْتِ فَمَضَي لِذَلِكَ حِيْنٌ ثمَّ إِنَّها قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ إنّهُ قَد عرضَ ليْ سَفَرٌ وَلِيْ ابْنَةٌ فِي مَوِضِعٍ أتخوفُ عَلَيْهَا فِيهِ أَنْ تضِيْعَ وَقَدْ أحْبَبْتُ أَنْ أَضُمَّهَا إلَيْكِ حَتَّي أرْجِعِ مِنْ سَفِرَيْ.
فَعَمَدَتْ إلي ابْنٍ لَهَا شَابٍ أمردٍ فَهَيَّئتْهُ كَهَيْئَةِ الجَارِيَةِ وَأَتَتْنِيْ بِهِ وَلَا أَشُكَّ أَنَّهُ جَارِيةٌ فَكَانَ يَرَي مِني مَا تَرَي الجَارِيَةُ مِن الجَارِيَةِ حَتَّى اغْتَفَلَني يَوْماً وَأَنَا نَائِمَةٌ فَمَا شَعَرْتُ حَتَّى عَلاَنِيْ وَخَالَطَنِيْ َفمَدَدْتُ يَدٍيْ إلى شَفْرَةٍ كَانَتْ إلي جَنْبِيْ فَقَتَلْتُهُ.
ثُمَّ أَمَرْتُ بِهِ فَأُلْقِيَ حَيْثُ رَأيْت فاشْتَمَلْتُ مِنْه عَلَى هَذَا الصَّبِيّ فَلَمَّا وَضَعْتُهُ ألْقَيْتُهُ في مَوْضِعِ َأبِيهِ فَهَذَا واللهِ خَبَرُهُمَا عَلَى مَا أعْلَمْتُكَ.
فَقَالتْ: صَدَقْتِ ثُمَّ أَوْصَاهَا وَدَعَا لَهَا وَخَرجَ وقَالَ لأَبِيْها: نِعْمَ الابْنَةُ ابْنَتُكَ ثُمَّ انْصَرَفَ.
وَقَالَ نَافِعُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إذْ رَأَى رَجُلاً فَقَالَ: لَسْتُ ذا دِرَايةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُلُ قّدْ كَانَ يَنْظُرُ في الكِهَانَةِ ادْعُوْهُ لِي. فَدَعَوْهُ فَقَالَ: هَلْ كُنْتَ تَنْظُرُ وَتَقُوْلُ في الكِهَانةِ شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ مَالِكُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيْدٍ إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قَالَ لِرَجُلٍ: ما اسْمُكَ؟ قَالَ: جَمْرَةُ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابنُ شِهَابٍ. قَالَ مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ الحُرْقَةِ. قَال: أيْنَ(4/6)
مَسْكَنُكَ. قَالَ: بِحَرَّةِ النَّارِ. قَالَ: أيُّهَا. قاَلَ: بِذَاتِ لَظَى. فَقَالَ عُمَرُ: أدْرِكْ أهْلَكَ فَقَدْ احْتَرَقُوا. فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ ابْرَاهِيْمَ مُصَلَّى فَنَزَلَتْ الآية (وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَام إبْرَاهٍيْمَ مُصَلَّى) وَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَائَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ َواجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? نِسَاؤُهُ في الغَيْرَةِ فَقَالَ لَهُنَّ: عُمَرُ عَسَى رَبُهُ إنْ طَلقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجَاً خَيْرَاً مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ.
وَشَاوَرَهُ رَسُولُ الله ? في الأُسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ فَأَشَارَ بِقَتْلِهِمْ، ونَزَلَ القُرآنُ بِمُوَافقتِهِ. وَرَوَى زَيدُ بْنُ أسْلمَ عن أَبِيْهِ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ بن الخطَّابِ رَضْيَ اللهُ عَنِهُ حُلَلٌ مِنْ اليَمَنِ فَقَسَمَها بَيْنَ النّاسِ فَرَأى فيها حُلَّةً رَدِيئةً فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ إنَّ أحَدَاً لَمْ يَقْبَلْهَا فَطَوَاهَا وَجَعَلَهَا تَحْتَ مَجْلِسِهِ وَأخْرَجَ طَرَفَهَا وَوَضَعَ الحُلَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَقسِمُ بَيْنَ النَّاسِ.
فَدَخَلَ الزُّبَيْرُ وَهُو عَلَى تِلْكَ الحال فجعلَ يَنظُُرُ إلى تِلكَ الحُلةُ، فَقَالَ: ما هذه الحُلةُ؟ فقالَ: عُمَرُ دَعهَا عَنْكَ؟ قَالَ: مَا شَأنُهَا؟ قالَ: دَعْهَا. قَالَ: فَأعْطِنيْهَا. قَالَ: إنَّكَ لا تَرْضَاهَا. قَالَ: بَلَى قَدْ رَضِيتُهَا. فلَمَّا تَوَثَّقَ منه واشترَطَ عليه أن لا يَرُدهَا رَمَى بهَا إليه فَلَمَّا نَظَرَ إليها إذا هِي رِدِيْئةٌُ. قَالَ: لا أُرِيدُهَا. قالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ قَدْ فَرَغْتُ مِنها. فَأَجَازَهَا عليهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا.
اللهُمَّ وَفَّقْنّا للهدَايَةِ وأبعِدْنَا عَنْ أَسْبَابِ الجَهَالَةِ وَالغَوايَةِ، اللهُمَّ ثَبّتْنَا عَلَى الإسْلامِ وِالسُّنَّةِ وَلا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إذْ هَديتنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ الوَهَّابُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنا وجميعِ المُسلمينِ برحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَاحِمين. وَصَلى اللهُ علَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلهِ وصحبِهِ أجْمَعِيْنَ.(4/7)
(فَصْلٌ)
وَمِنْ ذَلٍكَ أنَّهُ خَاصَمَ غُلامٌ منْ الأنْصَارِ أُمَّهُ إلى عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه فجَحَدتْهُ فسألهُ البَيَّنَةَ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَجَاءتْ المَرأةُ بِنفَرٍ فَشَهِدُوا أنَّها لمْ تتَزوَّجْ وَأنَّ الغُلام كَاذبٌ عَليهَا وقَد قَذَفَها فَأمَرَ عُمَرُ بِضَربِهِ.
فَلَقِيَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِىْ طَالِبٍ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمِرِهِم فَأخْبَرَهُ فَدَعَاهُم ثُمَّ قَعَدَ في مسْجِدِ النبيّ صلي اللهُ عليه وسلم وسَألَ المَرأة فَجَحَدَتْ فَقَالَ للغُلامِ: اجحدْهَا كَمَا جَحَدَتْكَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ عمَّ رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم إنها أمي. قال: اجْحَدْهَا وأنا أبُوكَ وَالحَسَنُ وَالحُسيْنُ أخَوَاكَ.
قَالَ: قَدْ جَحَدْتُهَا وَأنكَرْتُهَا. فَقَالَ عَلِىُّ لأولياءِ المرأةِ أَمْريْ في هَذِهَ المَرأةِ جَائِزٌ. قَالُوا: نَعَمْ وَفِينَا أَيْضاً. فقَالَ: أُشِهِدُ مَنْ حَضَرَ أنّيْ قَدْ زَوَّجْتُ هذا الغُلامَ مِنْ هَذِهِ المَرْأةِ الغَرِيبةِ مِنْهُ يا قَنْبَرُ ائْتِنِيْ بِدَراهِمَ فأتاهُ فَعَدَّ أرْبَعْمَائةٍ وَثَمَانِيْنَ دِرْهَماً فَقَذَفَهَا مَهْراً لَهَا.
وَقَالَ للغُلامِ خُذْ بَيَدِ امْرأَتِكَ ولا تَأْتِنَا إلاَّ وَعَلَيْك أثرُ العُرسِ فَلَمَّا وَلى قَالتْ المَرأةُ: يَا أبَا الحَسَنِ الله الله هُو النَّارُ هُوَ والله ابْنيْ.
قَالَ: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالتْ: إنَّ أَبَاهُ كَانَ هَجِيناً – الهَجِيْنُ عَرَبيّ وُلدَ من أمةٍ أوْ مِنْ أبُوهُ خَيْرٌ مِنْ أُمَّهِ – وإنَّ إِخوِتي زَوَّجُونِي مِنهُ فَحَمَلْتُ بِهَذا الغُلام وخرجَ الرَّجُل غَازِيَاً فَقُتِلَ وَبَعَثْتُ بِهَذا إلي حَيّ بَنِي فُلانٍ فَنَشَأَ فِيهمْ وَأنِفْتُ أنْ يَكُونَ ابْنِيْ فَقَالَ عَلِيُّ: أنا أبُو الحَسَنِ وَأَلْحَقَهُ بِهَا وَثَبَّتَ نَسَبَهُ.
وَمِنْ ذَلك أنَّ عُمرَ بن الخطَّابِ سَألَ رَجُلاً كيْفَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ يُحِبُّ(4/8)
الفِتنةَ ويَكْرَهُ الحَقَّ وَيَشْهَدُ عَلَى مَا لَمْ يَرَهُ. فأَمَرَ بِهِ إلى السَّجْنِ فأمَرَ عَلِيٌّ بِرَدَّهِ. فَقَالَ: صَدقَ. فَقَالَ: كَيْفَ صَدَّقتَهُ. قَالَ: يُحِبُّ المالَ والوَلدَ وَقَدْ قَالَ الله تعالى (إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، ويكرهُ الموتَ وَهُوَ الحَقُّ وَيَشْهَدُ أنّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ولم يرهُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِإطْلَاقِهِ وَقَالَ {اللهُ أعْلَمُ حيثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .
وَشَكَا شَابٌ إلى عَلي نَفَراً فَقَالَ: إنَّ هَؤلاء خَرَجُوا مَعَ أبي في سَفَرٍ فَعادُوا وَلم يَعُد أبِي فَسَألتُهُم عنهُ فَقَالُوا: ماتَ. فَسَألتُهُم عنْ مالِهِ فَقَالُوا: مَا تَرَكَ شَيْئاً وَكَانَ معهُ مالٌ كثيرٌ وَترافعْنا إلي شُرَيْحٍ فاَسْتَحْلَفَهُم وَخَلَّى سبيلهُم.
فَدَعَا عَلِىُّ بالشُّرطِ فَوَكَّلَ بِكُلَّ رَجُلٍ مِنهُم رَجُلينِ وَأَوْصَاهُمْ أنْ لا يُمْكِِنُوا بَعْضَهُمْ أنْ يَدْنُو مِنْ بَعْضٍ وَلا يُمَكِّنُوا أحَدَاً يُكلمُهُمْ وَدَعَا كَاتِبَهُ وَدَعَا أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أخْبِرْنِي عَنْ أَبِ هَذَا الفَتَى أيَّ يوم خَرجَ مَعَكُمْ وَفي أي منزلٍ نَزَلتُمْ وَكيْفَ كَانَ سَيْرُكُمْ وَبِأَيَّ عِلَّةٍ مَاتَ وَكَيْفَ أُصِيبَ بِمَالِهِ وَسألَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ وَمَنْ تَوَلَّى الصَّلاَةَ عَلَيْهِ وَأَيْنَ دُفِنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالكَاتِبُ يَكْتُبُ. فَكَبَّرَ عَلِيٌّ وَكَبَّرَ الحَاضِرُونَ وَالمُتَّهَمُونَ لاَ عِِلْمَ لَهُمْ إِلا أنهُمْ ظَنُّوا أنَّ صَاحِبَهُم قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِم.
ثُمَّ دَعَا آخَرَ بَعْدَ أنْ غَيَّبَ الأوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ فَسَألَهُ كَمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ ثُمَّ الآخَرَ كَذَلِكَ حَتَّى عَرَفَ ما عِنْدَ الجَميعِ فَوَجَدَ كُلَّ واحدٍ يُخبِرُ بِضِدَّ مَا أخبرَ به صَاحِبَهُ ثم أمرَ برَدَّ الأول فقالَ يَا عَدُوَّ اللهِ قَدْ عَرَفْتُ غَدْرَتُكَ وكَذِبَكَ بِمَا سَمِعتُ مِنْ أصْحَابِكَ ومَا يُنْجِيْكَ من العُقُوبَةِ إلا الصَّدقُ ثم أمَرَ بِهِ إلى السجنِ وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ مَعَهُ الحاَضِرُونَ.
فَلَمَّا أبْصَرَ القَوْمُ الحَالَ لم يشُكُّوا أنَّ صَاحِبَهُمْ أَقَرَّ عَليهِم فَدَعَا آخَرَ مِنْهم فَهَدَّدَهُ فَقَالَ: يَا أمِيَر المؤمنينَ واللهِ لقد كُنتُ كَارِهاً لما صَنَعُوا ثُم دعَا الجَمِيعَ(4/9)
فَأقرُّوا بالقِصَّةِ وَاستدْعى الذِي في السَّجْنِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أقرَّ أصحَابكَ وَلاَ يُنْجِيكَ سِوَى الصَّّدق فأقرَّ بكُل مَا أقرَّ بِهِ القَوْمُ فَأغْرَمَهُمْ المَالُ وَأقَادَ مِنْهُمْ بالقَتِيْلِ.
اللهُمَّ أرْحَمْ غُرْبَتَنَا في القُبُورِ وَآمِنَّا يَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلمِينَ بِرَحْمتَكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصْحبِهِ أَجْمَعِين.
(فصلٌ)
وَمِنْ ذَلِكَ أنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلى امرأةٍ مِائَةَ دِيْنَارٍ وَدِيْعَة وَقَالا: لا تَدْفَعِيْهَا إلى وَاحِدٍ مِنا إلا وَمَعَهُ صَاحِبهُ، فَلَبَثَا حَوْلاً فَجَاءَ أَحَدُهُمَا فقالَ: إنَّ صَاحِبيْ قَدْ مَاتَ فَادْفَعِيْ إليَّ الدَّنَانِيرَ فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّكُمَا قُلتُمَا لا تَدفِعِيْهَا إلى واحِدٍ مِنّا دُوْنَ صَاحِبِه فَلَسْتُ بِدَافِعَتِهَا إلَيْكَ، فَثَقَّلَ عَلَيْهَا بِأهْلِهَا وَجِيْرَانِهَا حَتَّى دَفَعْتَهَا إلَيهِ.
ثُمَّ لَبِثَتْ حَوْلاً آخَرَ فَجَاءَ الآخَرُ فَقَالَ: ادْفَعِيْ إلَيَّ الدَّنَانِيْرَ. فَقَالَتْ: إنّ صَاحِبَكَ جَاءَنيْ فَزَعَمَ أنكَ قَدْ مُتَّ فَدَفعْتُها إليهِ. فَاخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ فَأَرادَ أنْ يَقْضيَ عَليْهَا فقالَتْ: ادْفَعْنَا إلَى عَلِيّ بْنِ أبِيْ طَالبٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ فَعَرفَ عَلِيّ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرا بِهَا.
فَقَالَ: أَليْسَ قُلتُمَا لا تَدْفَعِيْهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُوْنَ صَاحِبِه. قَالَ: بَلَىَ. قَالَ: مَالُكَ عِنْدَها فَاذْهَبْ فَجِئْ بِصَاحِبَكَ حَتَّى تَدْفَعهُ إليْكُما.
وَاخْتَصَمَ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعاويةَ رجُلانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهُ بَاعِنِيْ جَارِيَة رَعْنَا فَقَالَ إيَاسٌ: وَما عَسَى أنْ تَكُونَ هَذِهِ الرُّعُوْنَةُ؟ قَالَ: شِبْهُ الجُنونُ. فَقَالَ إيَاسٌ: لِلجَارِيَةِ أتَذْكُرِينَ مَتَى وُلِدْتِيْ؟ قَالتَ: نَعَمْ. قَالَ: فأيُّ رِجْليْكِ أطوَلُ؟ قَالَتْ: هَذِهِ. فقالَ إيَاسٌ: رُدَّهَا فَانَّهَا مَجْنُونَةٌ.(4/10)
وتَقََدَّمَ إلى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقالَ إيَاسٌ: أَمَّا احدَاهُنَّ فَحامِلٌ وَالأخَرى مُرْضِعٌ والأخَرى ثيّبٌ والأخْرى بِكرٌ فَنَظَرُوا فَوَجَدَوا الأمْرَ كَما قَالَ. قَالُوا: كَيْفَ عَرَفْتَ؟ فَقَالَ: أمَّا الحامِلُ فَتْرَفُع ثَوْبَها عَنْ بَطْنِهَا وَهِيَ تُكَلمّنُيْ فَعلِمْتَ أنَّها حَامِلٌ، وأمَّا المُرضِعُ فَكانَتْ تَضْرِبُ ثدْيَها فَعلِمْتُ أنَها مُرضِعٌ، وأمَّا الثَّيَّبُ فكانتْ تُكلِمُنِيْ وَعينُها في عَيْنِيْ فَعلِمتُ أنَّها ثيَّبٌ.
وَأمَّا البِكْرُ فَكَانَتْ تُكلمنِيْ وَعَينُهَا في الأَرضِ فَعَلِمْتَ أنَّهَا بِكْرٌ، وقَالَ المدَائِنِيّ عَنْ رَوْح اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلاً مِنْ أبْنَاءِ النَّاسِ مالاً ثُمَّ رَجَعَ فَطلَبَهُ فَجَحَدَ فَأتَا إيَاساً فَأخْبَرَهُ فَقَالَ لهُ إيَاسُ: انْصَرِفْ فَاكْتُمْ أمْرَكَ وَلا تُعْلِمْهُ أنَّكَ أتَيْتَنِيْ ثم عُدْ إليَّ بَعْدَ يَوْميْنِ.
فَدَعَا إيَاسٌ الْمُودَعَ فَقَالَ: قَدْ حَضَرَ مَالٌ كَثيرٌ وَأرِيْدُ أنْ أُسَلمَه إلَيكَ أفحَصِيْنٌ منزِلُكَ؟ قالَ: نَعَمْ. قَالَ: فأَعِدَّ لهُ مَوضِعَاً وَحَمَّالينَ وَعادَ الرَّجُلُ صَاحِبُ الوَديعَةِ إلي إيَاسٍ.
فَقَالَ انطلقْ إلي صَاحِبَكَ فاطْلُبْ المَالَ فَإنْ أعْطَاكَ فَذَاكَ وَإنْ جَحَدَكَ فَقُلْ لَهُ إنَّيْ أخبِرُ القاضِي فَأتى الرَّجُلُ صَاحِبُه فَقالَ: مَالِي وَإلا أَتَيْتُ القَاضِيْ وَشَكْوتُ إِليهِ وَأخبَرتُه بِأمْري، فَدَفَعَ إِلَيهِ مَالَهُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلي إِيَاسٍ فَقَالَ: قَدْ أعْطَانِيْ المالَ.
وَجَاءَ الأَمِيْنُ إلَي إيَاسٍ لِوَعْدِهِ فَزَجَرَهَ وَانْتَهَرَهُ وَخَجَّلَهُ وَقَالَ: لاَ تَقْرَبْنيْ يَا خَائِنُ. وَتَقَلَدَ القَضَاء َبِوَاسَطَ رَجُلٌ ثِقَةٌ فَأَوْدَعَ رَجُلٌ بَعْضَ شُهودِهِ كِيساً مَختُومَاً ذَكَر أنَّ فِيْهِ ألفَ دِينَارٍ.
فَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَةُ الرَّجُلِ فَتَقَ الشَّاهِدُ الكِيسَ مِنْ أَسفَلِهِ وَأَخَذَ الدَّنانِيْرَ وَجَعَلَ مَكانَها دَرَاهِمَ وأعَادَ الخِيَاطَةَ كَمَا كَانَتْ.(4/11)
وَجَاءَ صَاحِبُ الكِيْسِ فَطَلَبَ وَدِيْعَتَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ الكِيْسَ بِخَتْمِهِ لَمْ يَتَغَيّر فلمَّا فَتحهُ وَشَاهَدَ الحَالَ رَجَعَ إليهِ وقَالَ: إنّيْ أوْدَعْتُكَ دَنَانْيِرَ وَالتِيْ دَفَعْتَ إليَّ دَرَاهِم. فَقَالَ: هُوَ كِيسُكَ بِخَاتَمِكَ فاسْتَعْدَي عَليهِ القَاضِيْ فَأَمرَ بِإحضَارِ المُودَعِ فلمَّا صَارَ بَيْنَ يَدَيهِ قَالَ القَاضِيْ: مُنْذُ كَمْ أوْدَعَكَ هَذَا الكٍيسُ فقالَ: مُنْذُ خمَسَة عَشَر سَنَةً.
فَأَخَذَ القَاضِيْ تِلْكَ الدَّراهِمَ وَقَرَأَ سِكَّتَها فَاذا فِيْهَا مَا قد ضُرب مِنْ سَنَتَينِ وَثَلاثٍ فَأمَرهُ بِدَفْعِ الدَّنَانِيْر إلَيهِ وَأسْقَطَهُ وَنَادَى عَلَيْهِ، وَاسْتَوْدَعَ رَجُلٌ لِغَيرهِ مَالاً فَجَحَدهُ فَرفعَهُ إِلى إيَاسِ فَسَألهُ فَأنكَرَ.
فَقَالَ لِلمُدَّعِيْ أَيْنَ دَفَعْتَ إِلَيهٍ فَقَالَ في مَكَانِ كَذا في البَرَّيَّةِ. فَقَالَ: وَمَا كانَ هُنَاكَ؟ قَالَ: شَجَرةٌ. قَالَ: اذْهَبْ إلَيْهَا فَلعَلَّكَ دَفَنْتَ المَالَ عِنْدَها وَنَسِيْتَ فَتَذكُرَ إذَا رَأيْتَ الشَّجَرَةَ فَمَضَى وَقَالَ لِلْخَصٍمِ: اجْلِسْ حَتَّى يَرْجِعَ صَاحِبُكَ وَإيَاسٌ يَقْضِيْ وَينظُرُ إليهٍ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةً.
ثُمَّ قَالَ: يا هَذَا أتَرَى صَاحِبَكَ بَلَغَ مَكَانَ الشَّجَرَةِ قَالَ: لاَ. قَالَ: يا عَدُوَّ اللهِ إنَّكَ خائِنٌ. قَالَ أقِلنِي قَالَ أقَالَكَ اللهُ فَأمَرَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهِ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ لهُ إيَاسٌ اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ حَقَّكَ.
وَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْخٌ أَيْ كَبِيرُ السَّنَّ ومَعَهُ غُلام حَدَثٌ أيْ صَغِيرٌ إلي القَاضِيْ أبِي حَازِمٍٍٍ فَادّعَى الشَّيْخُ على الغُلامِ بألٍفْ دِينارٍ دَيناً فَقَالَ مَا تَقُولَ قَال نَعَمْ فقَالَ القَاضِيْ للشَيخِ مَا تُرِيْدُ قالَ احِبْسُه قَال لا.
فَقَالَ الشَّيْخُ إنْ رَأَى القاضِيْ أنْ يَحبِسَهُ فَهُوَ أرْجَى لِحُصُولِ مَالِي فَتَفَرَّس أبُو حَازِمٍ فِيْهَما سَاعَةً ثم قالَ تَلَازَما حَتّى أنْظُرَ في أمْرِكُمَا في مَجلِسٍ آخرَ فقَالَ لهُ مُكرِمُ بْنُ أحْمَدٍ لمَاذَا أخَرَّتَ حَبْسَهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إنَّي أعرِف في(4/12)
أكثَرِ الأَحْوَالِ في وُجُوْهِ الخُصُوْمِ وَجْهَ المُحِقَّ مِن المُبطلِ وَقد صَارَتْ لِيْ بذلِكَ دِرَاية لا تكادُ تُخْطِئ.
وَقَدْ وَقَعَ لِيْ أنَّ سَمَاحَهُ هَذا بالإقرَارِ عَيْنُ كَذِبِه وَلعلهُ يَنكَشِفُ لِي من أمْرهِمَا مَا أكُوْنُ مَعَهُ عَلى بَصِيرةٍ أمَا رَأَيْتَ قِلَّةَ تَعَاصِيهِمَا في المُناكَرَةِ وقلَّةِ اختلافِهِمَا وَسُكْون طِبَاعِهِمَا مَعَ عِظَمِ المالِ ومَا جَرَتْ عَادَاتُ الأحْدَاثِ بِفرطِ التَّورُّع حَتَّى يُقِرَّ بمِثلِهِ طَوْعاً عَجِلاً مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ عَلى هَذَا المالِ.
قَالَ ونحن عَلى ذَلِكَ نَتَحَدَّثُ إذْ أتَي الآذِنُ يَسْتَأذِنُ عَلى القَاضِي لِبَعضِ التُجَّارِ فَأذِنَ لَهُ فَلَمَّا دَخَل قَالَ أصْلَحَ القَاضِيْ إني بُلِيتُ بوَلدٍ حَدَثٍ صغِيرٍ يُتْلِفُ كُلَّ مَا يَظفَرُ بِهِ مِنْ مَاليْ في القِنَانِ عِنْدَ فُلانٍ فَإذَا مَنَعْتُهُ احْتَالَ بِحيَلٍ تَضْطَرُّنيْ إلي الْتِزَام العُزْمِ عنهُ.
وَقَدْ نَصَبَ اليَومَ صاحِبُ القِنَانِ يُطَالِبُ بِأَلْفَ دِينارٍ حالاً وبَلَغَنيْ أنَّهُ تَقَدَّمَ إلي القَاضِيْ لِيُقِرَّ لَهُ فَيَسْجُنَهُ وَأقَعُ مَعَ أمَّهُ فِيمَا يُنكد عَيشَنَا إلي أن أقْضِيَ عنهُ فَلَمَّا سَمِعتُ بِذلِكَ بَادَرْتُ إلى القَاضِيْ لأشْرَحَ لَهُ أمْرَهُ.
فَتَبَسَّمَ القَاضِي وقَالَ كَيْفَ رَأَيْتَ فَقُلتُ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلى القَاضِيْ فَقَالَ عَلَيَّ بالغُلامِ والشَّيخِ وَوَعَظَ الغُلامَ فَأَقَرَّ فَأَخَذَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وانْصرَفَا.
قال عَمْرو بن نُجِيْد كان شَاهُ الكَرْمَاني حَادٌ الفِراسَةِ لا يُخْطِي ويَقُولُ مَن غَضَّ بَصَرَهُ عَن المَحَارِم وَأَمْسَكَ نَفَسَهُ عَن الشهوات وَعَمَرَ بَاطِنَهُ بالمُرَاقَبَةِ وظَاهِرَهُ باتباع السُنة وتعَوَّدَ أَكْلَ الحَلالِ لم تُخُطِئ فِرَاسَتُه.
واللهُ أعْلَمُ وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. . .
مَوعظة: عِبَادَ اللهِ تيَقَّظُوا فَالعِبَرُ مِنْكُم بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، وطَاَلمَا نادَاكُم لِسانُ الزَّوَاجر عَن الانْهمَاكِ في الدُّنيا وَحُطَامِهَا والتَّهَالُكِ عَلَيْهَا فَاسْمْعَ.(4/13)
عِبَادَ اللهِ احذَرُوا أنْ تَكُونُوا مِثْلَ مَنْ قَدْ مَحَّضُوْا لِلْدُّنْيَا كُلَّ مَا لهُم مِنْ أَعمَالٍ وَأَصْبَحُوا لا يَقْصِدُونَ بِتَصَرُّفَاتِهِم إلاَّ الدُنيَا وأمّا الآخِرة فلا تخطُرُ لهُم عَلى بَالٍ.
أخَذَتْ الدُّنيَا أسمَاعَهُم وأبصَارَهُم وعُقُولهَمُ بِمَا فِيهَا مِن الزَّخارِفِ الوَهْمِيَّةِ التيْ هِيَ مَرَاقِدَ الفَنَاءِ وَمَرَابِضُ الزَّوَال وَقَواتِلُ الأوْقَاتِ.
وَهَلَ هِيَ إلا الأَلْعَابُ والمَلاهِي المُشَاُر إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالى {اعْلَمُوا إنما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الامْوَالِ وَالأولاَدِ} الآية وقوله {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الأخرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقوله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية، عِبَادَ اللهِ، كُلُّ مَا تَرَوْنَ مِن البَلاَيَا وَالمِحَنِ مِنْ أجْلِ الدُّنيا وَمَا لَهَا مِن مَتَاعٍ حَقيرٍ.
عَجَبٌ أنْ يَكُونَ كُلُّ هَذَا الاهْتِمَامِ مِنْ أجْلِ دارِ الغُرُوْرِ وأيَّامِهَا المَعْدُودْةِ، وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ لذائذَ مَعلُومٌ أنَّهَا مُنَغَّصَات ثُمَّ مْنُتَهِيَاتٍ ذَلِكَ فَوْقَ أنَّ الأرزاقَ فِيهَا قَدْ ضمِنَهَا اللَّطِيفُ الخَبيُر خَالِقُ كُلُّ شَيءٍ الذِي مَا من دابةٍ في الأرض إلا عليه رِزقُهَا.
وَهَل يَشُكُّ مُؤمِنٌ عاقِلٌُ في مَا ضَمِنَهُ مَوْلاَهُ الغَنِيُّ الحَميدُ لقدْ كانَ الأجدَرُ والأولَي بِهَذا الإهتمام حَياتَنَا الثَانِيَة لإنهَا دارُ القَرَارِ ولأنَّهَا إذا فاتتكَ فِيهَا دَارُ الكَرَامَةِ هَوَيْتَ في الهَاوِيَةِ وأنتَ لا تَدْرِي هَلْ أنتَ مِنْ فرِيقِ الجَنَّةِ أمْ مِنْ فَرِيقِ السَّعِيرِ.
فَتَيَقَّظَ يَا من ضَاعَ عُمرُهُ في الغَفََلات! انْتَبِهْ يَا مَنْ يَقْتُلُ أوقاتهُ عند الملاهِي والمنكراتِ.
يَا أسَفىَ على أوقاتٍ لا تُباعُ بملءَ الأرضِ ذهَباً تُضَيَّعُ عِنْدَ التَّلفْزْيُونِ والفِديُو والسِيْنَمَاَت والبكمات ولَعِبِ الأوَرَاقِ المحُرّمَات.(4/14)
شِعْراً: ... أَحْذِرْك أحَذِرْك لا أحْذرك واحِدَةً ... عن المَذاَييعِ والتَّلفَازِ والصُّحُفِ
كَمْ عِنْدَهَا ضاعَ مِن وقْتٍ بلا ثَمَنٍ ... لو كان في طاعَةِ أَحْرَزْتَ لِلشَّرَفِ
آهٍ على أوقاتٍ تُقتلُ عِنْدَ المَذيَاعِ وَاسْتِمَاعِ أَغَانِيهِ وَمَلاهِيهِ الْمُهْلِكَاتِ.
آهٍ عَلَى سَاعَاتٍ تمضي عِنْدَ الكُرةِ والمُطْرِبينَ والمُطْرِبَاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ وتفكيراتٍ تذهبُ في قِراءة الكُتُبِ الخليعةِ والجَرائدِ والمَجلاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تنقضي في الإقامةِ بين أعدِاء اللهِ ورسولِه.
آهٍ على أوقاتٍ تقتل في الغِيبةِ والبُهتِ والتملقِ والنفاقِ والمدَاهَنَاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تقتل في الجلوس في الأسواق لا لمصلحة دنيا ولا دينٍ بل لأمورٍ عند أهل الضياع معلومات.
آهٍ على أوقاتٍ تُقضى في بلادِ الحُرَّيةِ والفِسقِ والفُجُوْرِ والأمور المهلكات.
آهٍ على أوقاتٍ تقتل بالحكايات المضحكاتِ والتَّمْثِيليَاتْ.
آهٍ على أوقاتٍ تَنقضي بِلَغو الكلامَ والمُغَازَلات لأهل المعاصي والمنكرات.
آهٍ على أوقاتٍ تَنقَضي في الاستماع لِلأغَاني الخَلِيعَاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تَمضِيْ في السُّكْرِ وَشُربِ أبي الخَبَائِثِ الدُّخَانْ.
آهٍ على أوقاتٍ تُقتلُ في ذِكرِ الحَوَادثِ والأمُورِ المَاضِيَاتِ التي لا تَعُودُ عَليهم بنفعٍ بل ربما عادتْ بالضررِ والنّكباتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تذهب سُدَى في النَّومِ والغَفَلاتِ.
ومن يَقْطَعِ الأوقاتَ في غيرِ طاعةٍ ... سَيندَمُ وقَتاً لا يُفيدُ التَّنَدُّمُ
آهٍ عَلى أمْوال تْنَفقُ فْيمَا يُغْضِبُ فَاطَر الأرض والسَّمَوَات وعلى أمْوَال تُبذَلُ للخَدَّامِينَ والخدّمات الكَافِرينَ والكافِرات.(4/15)
آهٍ على ألسنةٍ لا تفترُ عَن الكَلامِ فِيمَا يَضُرُّ وَلمْ تَسْتبدِلْهُ بِتَمْجِيْد وَتَسْبِيْحِ وَتَكْبِير وَتَهْلِيلِ بَديع ِالأرضِ والسَّمواتِ.
آهٍ على أفكارٍ وأذهانٍ مَصْرُوفةٍ ومُشْتَغِلةٍ طوْل لَيلِهَا وَنَهارِهَا فَيْمَا في الدُّنيا مِنْ مَتَاعٍ وعَقَاراتٍ وَلَمْ تُفكَّرْ وَتَلْتَفِتْ وتَسْتعِدّ إلى مَا في أمامهَا مِنْ أهْوْالٍ وشدائِدَ وعَقَباتٍ ومَا في الآخِرةِ لِمنْ أَطَاعَ اللهَ مِن أنهارٍ وثمارٍ وحُورٍ حِسانٍ طَاهِراتٍ.
تاللهِ لقد فَسَدَتْ أمزِجَةُ أكْثَر النَّاسِ حَتَّى أثَّر فَسَادُهَا عَلي الأفهَامِ لذَلكَ رَجَّحُوا فانياً مُكدراً مُنَغَّصًا عَلى باقٍ ضَمِنَ صَفوهُ مُوْلي الأنعَامِ وَهَاهُم أولاءِ كَمَا تَرَى لا هَمَّ لَهُمْ وَلا عَمَل إلا للدُّنيَا ومَا لها مِنْ حُطامٍ قَالَ تَعَالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالأخرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي} .
عِبَادَ اللهِ أما سَمِعتُمْ قَوْلَ نَبِيَّكُمْ ?: " أبشُروا وَأمَّلُوا ما يسُرُّكم فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أخْشَى عَليْكُم، وَلَكِنْ أخْشَى أن تُبْسَطَ الدُنيا عَلَيْكُم كَمَا بُسِطَتْ عَلى من كانَ قَبْلََكُمْ فَتَنَافَسُوْهَا كَما تَنافَسُوهَا فَتُهَلِككم كَما أهلكتْهُم ". رَوَاهُ البُخَارِىّ ومُسلِمٌ. وَخِتَاماً:
فَيْنَبَغِيْ لِلعَاقِل أنْ يَعْرفَ شَرَفَ زَمَانِهِ وَقَدْرَ وَقْتِهِ فَلا يُضِيْعُ مِنْهُ لحظةً في غير قُربةٍ وَيُقَدَّمَ الأفضَلَ فالأفْضَلَ مِنْ القَوْلِ والعَمَل.
فوائد: كُلُ مَا يقومُ به غَيْرُكَ ويحصَلُ بذَلِكَ غَرضُكَ فإن تَشَاغِلك به غَبْنٌ فاحِش لأنَّ إحتياجُكَ إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرُكَ مِن العلم والعمل والذِكر والفِكر آكدُ والْزَمَ وأنْفَع.
أعلم أن ما احْتَجْتَ إلى مفارقته وتركه للناس فَلَيْسَ لَكَ والشُغْلُ بما لَيَس لَكَ عَبَث.
وما المرءُ إلَّا رَاكبٌ ظَهْرَ عُمرِه ... عَلى سَفَرٍ يُفْنِيهِ في اليوم والشهرِ
يَبيْتُ ويضحي كلَّ يَومٍ وليْلَةٍ ... بَعِيْداً عن الدُّنيَا قَريباً إلى القبرِ
آخر: ... آنَ الرّحِيْلُ فَكَنْ على حذَرٍ ... ما قَدْ تَرىَ يُغنِي عن الحَذَرِ
لا تَغتِرَرْ باليَومِ أوْ بِغَدٍ ... قُلوُبُ المَغْرُورِيْنَ عَلىَ خَطَرِ(4/16)
آخر: ... دَخَلَ الدُنيَا أُنَاسٌ قبْلَنَا ... رَحَلُوْا عَنْهَا وَخلوْهَا لَنَا
ونَزَلْنَاهَا كما قدْ نَزلَوا ... ونُخَلّيِهَا لِقَوْمٍ بَعْدَنَا
آخر: ... إذَا كَانَ رأس المالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ ... عَليهِ مِن الإنفاقِ في غَيْرِ واجبِ
آخر: ... عِلمِي بِعَاقبة الأيامِ تَكْفِينِي ... وما قَضَى الله لَيْ لابُدَّ يَأتِينِيْ
ولا خلافَ بأنَّ الناسَ مُذُ خُلقُوْا ... فيما يَرمُونَ مَعْكُوسَ القَوَانِيْنِ
إذْ يُنْفِقُوْا العُمْرَ في الدُنيَا مُجازفةً ... والمالُ يُنفقُ فيهَا بالموازينِ
آخر: ... ستَبكي رجالٌ في القيامةِ حسرةً ... عَلى فوتِ أوقَات زَمَان حَيَاتِهَا
اللهُم نوّرْ قُلُوبَنَا بنُور الإيمانِ وأعنَّا على أنفَسِنَا والشَّيطان وأيّسْهُ مِنا كما أيَّستَهُ مِن رَحمتِكَ يا رَحْمَان وآتِنَا في الدُّنيَا حَسنةً وفي الأخرةِ حسنةً وَقِنَا عَذابَ النَّار، واغفِر لَنَا وَلَجَمِيِع الُمسلمينَ بِرحمتكَ يَا أرحَمَ الرَّاحِمينَ وصلي الله علي محمدٍ وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
أَتَتْ عُمَرَ امرَأَةٌ فَشَكَتْ عِنَدهُ زَوْجَهَا وَقَالتْ هُوَ مِنْ خَيْرَ أَهْلِ الدُّنيَا يَقُومُ اللَيلَ حَتَّى الصَّباحِ وَيَصَوم النَّهار حتي يُمسي ثُمّ أدرَكهَا الحَيَاء فقال عُمَرُ: جَزَاكِ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَحْسَنْتِ الثَّنَاءَ.
فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ سُوْرٍ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ لَقَدْ أَبْلغَتْ إليكَ في الشَّكوَى، فَقَالَ وَمَا اشْتَكَتْ قَالَ زوْجَهَا، قَال عَلَيَّ بِهَا فَقَالَ لِكعْب: اقْضِ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَقْضِ وَأَنتَ حَاضِرٌ، قَالَ إنَّكَ قَدْ فَطِنْتَ لِمَا لَمْ أفْطَنْ لَهْ.
قال كعب إن الله يقول {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} صُمْ ثلاثَةَ أيّامٍ وَافْطِرْ عِنْدَهَا يَوْماً وَقُمْ ثَلاثَ لَيَالٍ وَبِتْ عِنْدَها لَيْلَةً. فَقَالَ عُمَرُ هَذَا أَعْجَبُ إلَيَّ مِِن الأوَّل فَبَعَثَهُ قَاضياً لأهلِ البَصْرةِ فكَانَ يَقَعُ لَهُ مِنْ الفِرَاسَةِ أُمُوْرٌ عَجِيْبَةٌ.
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ وَمِنْ دَقِيْقِ الفِرَاسَةِ أنَّ المَنصُورَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أنّهُ(4/17)
خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ فَكَسِبَ مَالاً فَدفَعهُ إلى امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلبَهُ فَذَكرَتْ أنَّهُ سُرِقَ مِنْ البَيْتِ وَلَمْ يَرَ نَقْبَاً وَلا أَمَارَةً فَقَالَ لهُ المَنْصُوْرُ: مُنْذُ كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟ قَالَ: مُنْذُ سَنَةٍ، قَالَ: بِكْراً أو ثَيَّباً؟ قَالَ: ثَيَّباً؟ قَالَ: فَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِكَ؟ قَالَ: لا.
فَدَعَا لَهُ المَنْصُوْرُ بِقَارُوْرَةٍ طِيْبٍ يَتَّخذُهُ لَهُ حَادُّ الرَّائِحَةِ غَرِيْبُ النَّوعِ فَدَفَعَهُ إِليْهِ وَقَالَ تَطَيَّبْ مِنْ هَذَا الطَّيْبِ فَإنَّهُ يُذْهِبُ غَمَّكَ فَلمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ قالً المنصُورُ لأربَعَةٍ مِنْ ثِقَاتِهِ لِيقْعُدْ مِنْكُمْ كُلُّ واحِدٍ عَلى بَابٍ مِن أبْوَابِ المَدِينَةِ فَمَنْ شَمَّ مِنْكُمْ رَائِحَةَ هَذا الطَّيْبِ مِنْ أحدٍ فَليَأتِ بِهِ، وَخَرَجَ الرَّجُلُ بالطيبِ ودَفَعَهُ إلى امرأتهِ فَلَمَّا شَمَّتْهُ بَعَثَتْ مِنْهُ إلى رَجُلٍ كَانَتْ تُحِبُهُ وقدْ كَانَتْ دَفَعَتْ إليهِ المَالَ.
فَتَطَيَّبَ مِنْهُ وَمَرَّ مُجْتَازاً بِبَعْض أَبْوَابِ المَدِيْنَةِ فَشَمَّ المُوَكَّلُ بِالبَابِ رَائِحةً طيَّبَةً فَأتى به المَنصُورَ فَسَألهُ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذا الطَّيْبِ؟ فَلَجْلَجَ في كَلامِهِ فَبعَثَ بِه إلى وَالِيْ الشُّرطَةِ فقال: إنْ أَحْضَرَ لك كَذا وكَذا مِنْ المالٍ فَخَلَّ عَنْهُ وَإلا اضْرِبْهُ ألْفَ سَوْطٍ.
فَلَمَّا جُردَ لِلضربِ أَحضَرَ المال على هَيئَتِهِ فدعَا المَنصُورُ صَاحِبَ المَالِ فقالَ " إنْ رَدَدْتُ إليْكَ مالَك تُحَكِمَنِيْ في امْرَأَتِكَ قَالَ: نَعَمْ؟ قالَ: هَذا مَالُكَ وَقَدْ طَلَّقْتُ المَرأَةَ مِنْكَ.
قَالَ وَمِن عَجِيْبِ الفِرَاسَةِ مَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدِ بْنِ طُوْلُوْنَ أنَّهُ بَيْنَما هُوَ جَالِسٌ في مَجْلِسٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ فَيْهِ إذْ رَأى سائلاً في ثَوْبٍ خَلِقِ فَوضعَ لهُ دَجَاجَةً عَلى رَغِيْفٍ وَحَلْوَى وأَمَرَ بَعَضْ الغِلْمَانِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَمَّا وَقَعَ في يَدِهِ وَأخذهُ لمْ يَفْرَحْ بِهِ وَلَمْ يَهُشَّ لَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ.
فَقَالَ لِلغُلامِ: ائْتِنِيْ بالسَّائِلِ. فلمَّا وقَفَ قُدَّامَهُ اسْتَنْطَقَهُ فَأَحْسَنَ الجَوَابَ(4/18)
وَلَمْ يَخفْ وَلَمْ يَضْطَرِبَ مِنْ هَيْبَتِهِ فَقَالَ له: هَاتِ الكُتُبَ التِيْ مَعَكَ واصْدُقْنِىْ مِنْ بَعثَكَ فَقَدْ صَحَّ عِنَديْ أنَّكَ صَاحِبَ خَبَرِ وَأحْضَرَ السَّيَاطَ فاعْتَرَفَ.
فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: هَذا وَاللهِ السَّحْرُ! قَالَ: مَا هُو بِسِحْرٍ ولَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ رأَيْتُ سُوْءَ حَالِهِ، فَوجَّهْتُ إليهِ بِطعَامٍ يرْغَبُ أكْلَهُ الشَّبْعَانُ فمَا هَشَّ لَهُ وَلا فَرِحَ وَلا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ فَأَحْضَرْتُه فَتَلَقَّاني بِقُوَّةِ جَأْشٍ فَلَمَّا رَأيتُ رَثَاثَة حَالِهِ وَقُوَّةَ جَأْشِهِ عَلِمْتُ أنّه صَاحِبُ خَبَرٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَرَأَى يَوْماً حَمَّالاً يَحْمِل صَنّاً – أيْ صُندُوقاً مِنْ خَشَبٍ – وَالحَمَّالُ تَضطرِبُ رجْلاهُ تَحْتَهُ فَقَالَ لَوْ كَانَ هَذا الاضطِرَابُ مِن الثَّقلِ لغَاصَتْ عُنُقُ الحَمَّالِ وَهَذِهِ عُنُقُهُ أُرَاهَا بَارِزَةً وَما أرَى الأَمْرَ إلاَّ مِنْ خَوْفٍ.
فَأَمَرَ بحَطَّ الصَّنَّ فَإذَا فِيْهِ أُنْثَى مَقْتُولَةٌ وَقَدْ قُطّعَتْ فقالَ لِلحَمَّالِ اصْدُقْنِيْ عَنْ حاَلِهَا فَقَالَ هُنَاكَ في الدَّارِ الفُلانِيَّةِ أَرْبَعَةُ نَفَر أَعْطَونِيْ هَذهِ الدَّنانِيرَ وَأَمَرُونِي بحَمْلِ هَذِهِ المَقْتُولَةِ فَضَرَبَهُ لأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ رَأْساً وَأمَرَ بِقَتْلِ الأرْبَعَةِ.
وَكَانَ يَتَنَكَّرُ - أَيْ يُغَيَّرُ لِبْسَتهُ وَهَيْئَتَهُ - وَيَدُوْرُ وَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ أَئِمَّةَ المسَاجِدِ فَدَعَا ثِقَةً وَقَالَ خُذْ هَذِه الدَّنَانِيْرَ وَأَعْطِهَا إمَامَ المَسْجِدِ الفُلاَنِيَّ فَإنَّهُ فَقِيرٌ مَشْغُولُ القَلْبِ فَفَعلَ وَجَلَسَ مَعَ إمَامَ المَسْجِدِ وَبَاسَطهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ زَوْجَتَهُ قَدْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إليهِ فَأخبرهُ فَقَالَ: صَدَقَ عَرَفْتُ شُغْلَ قَلِبهِ بِكَثْرةِ غَلَطِهِ في القراءة.
وكَانَ يَرْكَبُ وحدهُ وَيَطُوفُ ليلاً ونهاراً يُفَتَّشُ ويتفقدُ الرَّعيةَ إلي أنْ مَرَّ يوماً في سُوْقٍ مَسْدُودٍ في بَعْضِ أطرافِ البَلَدِ فَدَخَله فَوَجَدَ مُنْكراً ووَجَدَهُ لا يَنْفُذُ فَرَآى عَلى أحَدِ أَبْوَابِهِ شَوْك سَمَكٍ كَثيرٍ وعِظَام الصُّلبِ.
فَقَالَ لِشَخْصِ: كَمْ يُقَوَّمُ تَقْدِيُر ثمَنَ هَذَا السَّمَكِ الذِيْ هَذِهِ عِظَامُهُ؟ قَالَ:(4/19)
دِينارٌ قَالَ أَهْلُ هَذَا الزُقَاقِ – أَىْ السُّوقِ لا تَحْتَمِلُ أَحْوَالُهُمْ مُشْتَرَى مِثْلِ هَذا لأَنَّهُ زُقاقٌ بَيّنُ الاختِلالِ إلى جَانِبِ الصَّحْراءِ لا يَنْزِلُهُ مَنْ مَعَه شَئٌ يَخَافُ عَليهِ أَوْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ هذِه النَّفَقَة وَمَا هِي إلاّ بَليَّةٌ يَنْبَغِيْ أنْ يُكْشَفَ عَنْهَا فَاسْتَبعَدَ الرَّجُلُ هَذا وقَالَ هَذا فِكْرٌ بَعِيدٌ.
فَقَالَ: اطْلَبُوُا لِي امْرأةً مِنْ الدَّربِ أُكَلَّمُهَا فَدَقَّ بَاباً غَيْرَ الذي عليهِ الشوكُ وَطَلَبَ مَاء فَخَرجَت عَجُوزٌ ضعيفةٌ فما زالَ يَطْلُبُ شَرْبَةً بَعْدَ شَرْبَةٍ وَهِيَ تَسْقِيهِ وَهُوَ في خِلالِ ذَلِكَ يَسْأَلُ عَن الدَّرْبِ وَأهْلِهِ وَهِي تُخِبرُهُ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِعَوَاقِبِ ذَلكَ.
إلى أنْ قَالَ لَها: وَهَذهِ الداُر مَنْ يَسْكُنُهَا؟ وَأشَارَ إلَى التي عِنْدَ بابِها عِظامُ السَّمَكِ فقالَتْ فِيها خَمْسَةُ شَبَابٌ أعفَارٌ كأَنَّهُم تُجَّارٌ وَقَدْ نَزَلُوا مُنْذُ شَهرٍ لاَ نَراهُمْ نَهَاراً إلا فِي مُدّةً طَويلةٍ وَنَري الواحِدَ مِنْهُم يَخرُجُ لِلحَاجَةِ ويعُودُ سَريعاً.
وَهُمْ في طُوْلِ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فَيأكُلونَ وَيشْرَبُونَ وَيَلْعَبُونَ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَلَهُم صَبِيٌّ يَخْدِمَهُم فإذَا كَانَ اللَّيلُ انْصَرفُوا إلى دَارٍِ لَهُم بالكَرْخِ وَيَدَعُوْنَ الصَّبِيَّ في الدَّارِ يَحْفَظُهَا فَإذَا كَانَ سَحَراً جَاؤا وَنَحْن نِيَامٌ لا نَشْعُرُ بِهِم.
فَقَالَ لِلرَّجُلِ هَذِهِ صِفَةُ لُصُوصٍ أَمْ لاَ قَالَ: بَلَى. فَأَنْفَذَ في الحَالِ فَاسْتَدْعَى عَشَرةً مِنْ الشُّرطِ وَأدْخَلَهُم إلي سَطْحِ الجِيْرَانِ وَدَقَّ هو البَابَ فَجَاءَ الصَّبِيَ فَفَتَحَ فَدَخَلَ الشُّرطُ مَعَهُ فَمَا فَاتَهُ مِن القَومِ أحَدٌ فَكانُوا هُمْ أصْحَابُ الخِيَانَةِ بِعَينهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ الوُلاَةِ سَمعَ في بَعْضِ لَيالِىْ الشَّتَاءِ صَوْتاً بِدَارٍ(4/20)
يَطْلُبُ مَاءً بَارِداً فَأمَرَ بِكَبْسِ الدَّارِ فَأخْرَجُوا رَجُلاً وَامْرَأةً فَقِيْلَ لهُ مِنْ أيْنَ عَلِمْتَ قَالَ الماءُ لا يُبَرَّدُ في الشّتَاءِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلامَةٌ بينَ هَذيْنِ.
وَأَحْضَرَ بَعْضُ الوُلاةِ شَخْصَيْن مُتَّهَمَيْنِ بِسَرِقَةٍ فَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَأَخَذَهُ وَأَلقَاهُ في الأرضِ عَمْدَاً فانْكَسَر فَارْتاعَ أحَدُهُمَا وَثَبَتَ الآخِرُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَقَالَ للذِيْ انْزَعَجَ اذهَبْ وَقَالَ للآخَرِ أَحْضِرْ العُمْلَةَ.
فَقاَلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَرَفتَ ذَلِكَ فَقَالَ اللصُّ قَويُ القَلبِ لا يَنْزَعِجُ وَالبَريءُ يُرَي أنّهُ لوْ نَزَلَتْ فِيْ البَيْتِ فَأْرَهُ لأزْعَجَتْه وَمَنَعَتُه مِنَ السَّرِقَةِ.
شِعْراً: ... يَا نَفْسُ قَدْ طَابَ في امْهَالِكِ العَمَلُ
فاسْتدْرِكِي قَبْلَ أنْ يَدْنُو لَكِ الأَجَلُ
إلى مَتَى أنْتِ في لَهْوٍ وفي لَعِبٍ
يَغُرُّكِ الخَادِعَانِ الحِرْصُ وَالأمَلُ
وَأنتِ في سُكر لَهْوٍ لَيْسَ يَدْفَعُهُ
عَنْ قَلْبِكِ النَّاصِحَانِ العُتْبُ وَالْعَذَلُ
فَزَوَّدِيْ لِطَرِيْقٍ أَنْتِ سَالِكه
فِيْهَا فَعَمَّا قليْلٌ يَأْتِكَ المَثَلُ
وَلا يَغُرُّكِ أيَامُ الشَّبَابِ فَفِي
أَعْقَابِهَا المُوبِقَانِ الشَّيْبُ وَالأَجَلُ
يَا نَفْسُ تُوْبِيْ مِنْ العِصْيَانِ واجْتَهِدي
وَلا يَغُرَّنَّكِ الأبْعَادُ وَالمللُ
ثُمَّ احْذَرِيْ مَوْقِفَاً صَعباً لِشِدَّتِهِ
يَغْشَى الوَرَى المُتْلِِفَانِ الحُزْنُ وَالوَجَلُ(4/21)
شِعْراً: ... وَيَخْتَمُ الفَمُ وَالأَعْضَاءُ نَاطِقَةٌ
وَيَظْهَرُ المُفْصِحَانِ الخَطُّ وَالخَطَلُ
وَيَحْكُمُ اللهُ بَيْنَ الخَلْقِ مَعْدِلَةً
فتُذْكَرُ الحَالتَانِ البِرُّ وَالزَّلَلُ
اللهُمَّ قَوَّ، إيْمَانَنَا بِكَ وبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَباليَوْمِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِهِ رَبَّنَا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الأخرة حسنةً وقنا عذابَ النّارِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوَبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ وصَلَّى اللهُ على مُحمدٍ وَآلِهِ وَصَحبِه وَسَلَّمَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ كُلُّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لا يُخْطِيْ وَلا يَنْحَرِفُ عَنْ طَرِيقِ الحَقَّ بَلْ إنَّ فِيْنَا مِن الغَرائِزِ وَالطّبَاعِ مَا يَمِيْلُ بِنَا إلى الرُّشْدِ وَالغَيّ وَالخَيرِ وَالشَّرَّ وَلَيْسَ كُلُّ إنْسانٍ يَعْرِفُ خَطَأَهُ أو يَهْتَدْيْ إليْهِ.
وَبِذَلِكَ كانَ مِنْ حَقَّ المُسْلِمِ عَلى أَخِيْهِ أَنْ يُبَصَّرَهُ بِعُيُوْبِهِ وَيَنْصَحَ لهُ في أَمْرِهِ وَهَذا مِن التَّواصٍيْ بِالحَقَّ. وَكَما يَجِبُ عَلي مَنْ رَأى الظُّلمَ مِنْ حاكِم ومسئول أنْ يُنْكِرَ عَليْهِ ظُلْمَهُ وَبغْيَهَ وَجَبَ عَلى مَنْ رَأى مُؤْمِناً يَظلِمُ غيرَهُ أوْ يَظْلِمُ نَفْسَهُ أنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبْينَ مَنْ يَظْلِمْ إبْقَاءً عَلى حَقَّ الأُخُوَّةِ ودفعاً لِلأَذَي عَنْ المظْلُومِ وَعَن المُجْتمعِ.
قال بَعْضُ العُِلَمَاءِ
النَّصِيْحَةُ عَلى مَرَاتِبَ أولاً أنْ لا يُبَادِرَ الانسَانُ إلَى تَصْدِيْقِ مَا يُقَالُ لَهُ عَنْ قَرِيْبِ أوْ صَدِيقٍ أَوْ جَارٍ أوْ زَمِيْلٍ أو أحدٍ مِنْ النَّاس بَلْ يَتَثَبَّتُ في ذَلِك حتَّى يَسْتَيْقٍنَ لأنّ أكَثَرَ الناس في وَقْتِنَا اعتادُوا إِشَاعَةَ السُّوءَ وَأَكْثَرُ النَّاس إلى الإسَاءَةِ يُسْرِعُونَ، وَيَنْدُرُ مِنْهُم مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ، فَلا تُصَدَّقْ فَوْراً بكل مَا سَمِعْتَهُ.(4/22)
حَتّى تَسْمَعَهُ مِمَّنْ حَضَرَهُ وَشَاهَدَهُ وَتَتَأكّدَ مِنْ ثُبُوتِهِ وَبَراءَتَهِ وَخُلُوّهِ مِنْ الهوَى والأَغْرَاضِ.
وَإذَا رَأَيْتَ أَمْرَاً أَو بَلَغَكَ عَنْ صَدِيقَكَ كَلامٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَينْ فاحْمِلْهُ مَحْمَلاً حَسَناً، قَالَتْ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بن مُطِيْعٍ لِزوْجِهَا طَلْحَةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ وَكانَ أجْوَدَ الناسِ في زَمَانِهِ مَا رَأَيْتُ قَوْماً ألأمَ مِنْ إخَوانِكَ قَالَ لَهَا وَلَمَ ذَلِكَ قَالتْ أَرَاهُمْ إِذَ أيْسَرْتَ لَزِمُوْكَ وَإذا أعْسَرْتَ تَرَكُوْكَ فَقالَ لَها هَذَا واللهِ مِنْ كَرَم أخْلاقِهم يَأتُوننا في حَالِ قُدْرَتِنَا عَلى إكْرَامِهِمْ وَيَترُكُوْنَنَا في حَالِ عَجْزَنَا عَنْ القِيَام بِحَقّهِمْ.
فَانْظُرْ كَيْفَ حَمَلَ فِعْلَهُم عَلى هَذَا المَحْمَلِ الحَسَنِ، وثَانِياً أنْ يَكُونَ عَلى بَالِكَ مُسْتَحْضَرَاً أنَّ الناسَ ليسُوا مَعْصُومِينَ بَلْ لهُم هَفَواتٌ وَأَخْطَاءٌ وَتَصوَّرْ ذَلِكَ في نفْسِكَ لِتَعْذُرَهُم وَلقَدْ أحْسَنَ القَائِلُ:
مَن الذِى مَا سَاءَ قَطَّ ... وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ
آخر: ... أرَدْتَ لِكَيْمَا لاَ تَرى لِىَ عَثْرَةً ... ومَنْ ذَا الذِي يُعْطَى الكَمالَ فَيَكْمُلُ
آخر: ... وَمَنْ الذِيْ تُرْضى سَجَايَاهُ كُلَّهَا ... كَفَى المَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَائِبُهُ
آخر: ... إِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ في الزمانِ مُهَذَّباً ... فَنِيَ الزمانُ وأنْتَ في الطَّلَبَاتِ
خُذْ صَفْوَ أَخْلاقِ الصَّدِيقِ وأعْطِهِ ... صَفْواً ودَعْ أخْلاَقَهُ الكَدٍرَاتِ
ثَالِثاً: أَنْ تَنْظُرَ إلى الأَمْرِ مِنْ وِجْهَةِ نَظَركَ وَمِنْ وِجْهَةِ نَظَر صَاحِبه أَيْضَاً، فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَهِداً فِيْمَا أعْتَقَدهُ مِنْ رَأيْ مُتَحَرَّياً لِلْخَيْر فِيْمَا سَلَكَهُ مِنْ سَبِيْلٍ، فَلا تُسَارِعْ إلي الانْكَارِ عَلَيْهِ وَتَخْطِئَتِهِ مَا دَامَ مِنْ المحُتمَل أنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ مِن الحقَّ فَإنْ تَأَكَّدْتَ مِنْ الخَطأ والانْحِرَافِ فَتَقَدَّمْ بالنَّصِيْحَة سِرّاً بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، لا عِنْدَ ملأٍ مِنْ الناسِ كَمَا يَفْعَلهُ بَعضُ النَّاسِ، فَإنه أحرى لِقَبُولِ النَّصِيْحَةِ، رَابِعَاً: لاَ يَتَرَتَّبُ عَلى النَّصِيْحَةِ مَا هُوَ شَرٌ مِنْهَا.(4/23)
شِعْراً: ... تَعَمَّدِني بِنُصْحٍ في انْفِرَادِ ... وجَنِبّنِي النَّصِيْحَةَ فى الجَمَاعَةْ
فإِنْ النُّصْحَ بين الناسِ ضَرْبَ ... من التَّوْبْيخ لا أَرْضَى اسْتمَاعَهْ
فإِنْ خَالَفْتنِي لِتُرِيْدَ نَقْصِيْ ... فلا تَغْضَبْ إِذا لم تُعطَ طَاعَةْ
وَعِنْدَمَا يُهْمِلُ الصَّدِيْقُ صَدِيْقَهُ وَيُهْمِلُ الأَخُ حَقَّ أَخِيْهِ عَلَيْهِ في النُّصْحِ وَالارْشَادِ تَسُوء عَلائِقُ بَعْضِهمْ مَعَ بَعْضٍ وَتَنْقَلِب الصَّدَاقَةُ عَدَاوَةً وَيُصْبحُ أَمْرُ المجَتمَعِ فَوْضَى يَمُوْجُ بِالشَّرَّ وَالاثْمِ.
وَلَقَدْ أخْبَرَنَا اللهُ في القُرْآنِ الكَريْمِ أنَّ بَنيْ اسْرَائِيلَ اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَةَ وَالحِرْمَاَن وَالتَّشْرِيدِ لأَنَّهُمَ كَانُوا لا يَتَناصَحُونَ، قَالَ تَعَالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَي لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}
وَلَيْسَ أَدَلَّ علي رُقِيّ الأمَّةِ وَاستِقَامَةِ ضَمَائِرهَا مِنْ تَمَسُّكِهَا بِخُلُقِ التَّنَاصُحِ فِيْمَا بَيْنِهَا وَالتَّوَاصِيْ بِالحَق، قاَل تَعَالى {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
رُويَ عَنْ الشَّافِعِيّ رَحمَهُ اللهُ أنّهُ قَالَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ غَيرَ هَذِهِ السُّورَةِ لَكَفَتِ النَّاسِ.
وَكانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النّبيِ ? إِذَا الْتَقَيا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلى الآخِر سُوْرَةَ العَصْرِ ثمَّ يُسَلَّمُ أَحَدُهُمَا عَلى الآخَرِ.
قُلْتُ: وَذَلِكَ أَنَّ الأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِي كُلُّهَا تَدُوْرُ عَلى التَّوَاصِيْ بِالحَقَّ وَالتّواصِيْ بالصَّبْرِ، فَالتَّواصِيْ بالحَقَّ مِثلُ الايْصَاءِ بِتَوْحِيْدِ اللهِ والإيمَانِ بِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ.
وَالإيصَاءِ بالصَّلاةِ والزَّكَاةِ وَالصَّيام وَالحَجَّ وبرَّ الوَالِدَيْنَ وَصِلَةِ الأرْحَامِ والإحسَانِ إلى اليَتِيْمِ وَالمِسْكِينِ وَالجَارِ وَابْنِ السَّبِيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(4/24)
وَالتَّواصِي بالابتِعَادِ عَنْ مَا نَهى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِن المَعَاصِيْ كُلِّهَا الصَّغَائِر وَالكبَائِر.
وَالتَّواصِي الصَّبْر عَلى الطَّاعَاتِ حَتّى المْمَاتِ، وَالتّواصِيْ بِالصَّبْرِ عَلى المَصَائِبِ، وَالتّوَاصِيْ بِالصَّبر عَن المَعاصِيْ.
وَلكِنْ يَا لَلأَسَفِ صَارَ التَّوَاصِيْ عِنْدَ هَذَا الجِيلِ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُنْيَا وَحُطَامِهَا فَتَجِدُ الوَاحِدَ يَحُثُّ صَدِيْقَهُ على التَّعَلُّقِ بِهَا وَعِمَارَتِهَا وَكُلَّ مَا يَشْغَلُهُ ويُلهِيْهِ عَن الآخِرَةِ مِنْ مَشاركِة وسلفةٍ ونحو ذلك.
وإذا انتقص بشيء مِما يتعلَّق بها أَقَامَ النّاسَ وَأقْعَدَهُمْ حَتَّى المُنْتَسِبيِنَ إلَى طَلَبِ العِلْمِ.
فَتَجِدُ الوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا خُصِمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الدَّرَجَاتِ أو بَعْضُ الفُلُوس انْفَعَلَ وَتَغَيّرَ مِزَاجُهُ وَصَارَ يَتَكَلَّمُ بِكَلام غَيْر مُتَّزِنٍ.
عَكْس أُمُوْرِ الآخِرةَ فإنَّهُ لا يَهْتَمُّ لها، فَتَفُوتُه تكْبِيرَةُ الإحرَامِ مع الإِمَامِ بل تَفُوتُهُ الصلاةُ مَعَ الجَمَاعَةِ وَلا يُبالىْ بِنَقْصِ خَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةٍ.
وَتَجِدُ الوَاحِد مِنْهُمْ يُوْصِيْ زَمِيْلَهُ بالدَّرَاسَةِ لِأجْلِ الحُصُوْلِ عَلى شَهَادةٍ في زَعْمِهِ أنّهَا تَأمِينٌ لِلحَيَاةِ مِنْ الفَقْر.
وَهَذا يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ التَّوكُّلِ عَلى اللهِ.
وَأمَّا الصَّلاةُ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ المَعاصِيْ التيْ بِهَا بإِذْنِ اللهِ تأمِينُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ والسَّلامَةُ مِنْ جَهَنّمَ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ فَلا تَجِدُهُ يُوْصِيهِ بِهَا، وَلا يَهْتَمُّ مِنْهَا.
حَتَّى الآبَاءُ دَخل عَلَيْهِمْ النَّقْصُ فَتَجِدُ الأبَ وَالأمَّ يَحْرِصُوْنَ عَلى إيْقَاظ أوْلادِهِمْ للاخْتِبَار يَتَرَدّوُنَ عَليهِم وَلو شَقَّ ذَلِكَ عَليهِم.
أمَّا لِصَلاةِ الفَجْرِ وَسَائِرِ الصَّلوات وَسَاِئِر الطَّاعَاتِ وَالإبتِعَادِ عَن الملاَهِيْ وَالمُنْكَراتِ فلا.(4/25)
نَسألُ اللهِ العَظِيمَ أنْ يُوْقَظَ قُلُوبَنا وَيَمْلأَهَا بِالغَيرةِ وَالنَّصِيحَةِ وَأَنْ يُصْلحَ قُلْوبَنَا وَأَوْلاَدَنا وَأَحْوَالَنَا وَجَمْيِعَ المُسلمِينَ.
وَإِذَا خَلاَ المُجْتَمعُ مِن التَّواصِيْ بالحَقَّ وَالصَّبْرِ والتَّناصُحِ أَوْ ضَعُفَ مَظْهرُ العَمَل بِهِ فَقَدْ انتهَت الأمّةُ أسْوءِ حَالاتِا مِن الفَوْضَي وفَسَادِ الأخْلاقِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالعُدْوَانِ وفشُوَّ الشُّرُورِ مِن المُنافِقْينَ والنَّمامِينَ والكَذَّابِينَ وأعوانهم.
وانْظُرَ كَيْفَ تَكُوْنُ الحَالُ فِيْمَا إذَا عُدِمَ الأَمْرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهْي عَن المُنْكَرِ وَتَرْكِ التَّواصِيْ بالحَقَّ وَالتَّوَاصِيْ بِالصَّبْرِ وَأُهْمِلتْ النَّصِيْحَةُ.
وَكْيفَ يَجْترئُ الفُسَّاقُ عَلى المعَاصِيْ وَيَصِلُوْنَ فِيْهَا إلَى مَا تَضِجُّ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَا فِيْهِمَا مِنْ أَنوَاعِ الشُّرُورِ.
آخر: ... لا شَئَ أبْلَغَ من ذُلّ يُجَرّعُهُ ... أَهلُ الخَسِيسةِ أَهْلَ الدِينِ والحَسَبِ
القائِميْنَ بما جَاء الرَّسُوْلُ به ... والمُبْغِضِينْ لأَهْلِ الزَّيغِ والرَّيبِ
وَإنْ شِئْتَ فَزُرْ أيَّ جَهَةٍ مِن جِهَاتِ العَالَمِ تَري مَا يَتَقَطَّعُ لَهُ قَلبُكَ حَسَراتٍ انْظُرْ آكَدَ أرْكَانِ الإِسلاَمِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ الصَّلاّةَ كَيْفَ تَرَكَهَا الكثيرُ مِن النَّاسِ.
وَانْظُرْ إلَى الزَّكَاةِ التِيْ لَوْ أُخرِجَتْ لَمْ يَبْقَ فَقِيْرٌ وانْظُرْ صِيَامَ رَمَضَانَ كَيْفَ لَمْ يُبَالِ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاس.
وَانْظُرْ كَيْفَ تَهَاوَنَ النَّاسُ بِالرَّبَا وَالغِشَّ وَسَائِر المُحَرَّمَاتِ كُلّ هَذَا نَتِيجَةُ اهْمَالِ التَواصِيْ بِالحَقَّ واَلتَواصِيْ بِالصَّبِرْ وَإهْمَالِ النّصِيحَةِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنّهي عَن المُنْكَرِ.
وَمَا قِيْمَةُ الأَوْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا ... رِجَالٌ بِدِيْنِ اللهِ قَامُوْا لِيَنْفَعُوْا
آخر: ... وَقَعَنا في الخَطَايا والبَلاَيَا ... وفي زَمَن انْتِقَاضِ واشْتِبَاهِ
تَفَانَى الخَيرُ والصُّلَحَاءُ ذَلُّوْا ... وَعَزَّ بِذُلَّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ(4/26)
وبَاءَ الآمِرُوُنَ بِكُلَّ عُرْفٍ ... فَمَا عَنْ مُنكَرٍ في الناس نَاهِ
فَصَارَ الحُرُ لِلْمَمْلوَكِ عبداً ... فَمَا لِلْحُرَّ مِنْ قَدْرٍ وجَاهِ
فَهَذَا شُغْلُهُ طَمَعٌ وجَمْعٌ ... وَهَذا غَافِلٌ سَكْرانُ لَاهِ
لأَنّ التَّسَاهُلَ بِهَذِهِ الأُمُورِ يَفْتَحُ لِلنُّفُوسِ الخَبِيْثَةِ أبْوَابَ المعاصِىْ فَتَنَفُذُ إلى مَا تَشْتَهِي مِنْ خَبَائِثَ وَتَرى مَوْقِعَ ذلِكَ سَهْلاً عَلى النَّاسِ فَتَنْدَفِعُ إلي كلَّ مَا يَحْلُو لَها مَهْمَا كَانَ عَرِيقاً في بَابِ الرَّذِيْلةِ آمِنَةً مِنْ تَغَيُّرِ وَجْهٍ أوْ انْقِبَاضِ قَلْبٍِ لمَا تَفْعَلُ.
وإِذاً تَنْتَعِشُ الرَذِيلَةُ وَتَشْتَدُّ وَتَزْدَادُ وَيَقْوَي أَهْلُهَا وَهُم الفَسَقَةُ لأنَّ أَهْلَ الجَهْرِ بِالفَاحِشَةِ يَكُونُونَ قُدْوَةً سَيَّئَةً لِغَيْرِهِمْ. وَالنُّفُوسُ مِنْ طَبِيْعَتِهَا التَّقْلِيْدُ وَالمُحَاكَاةِ لِمَا تَرى وتسْمَعُ خُصُوصاً إِذا كَانَ مَا تَراهُ أو تَسْمَعُهُ لَذَّةً وَاطْلاَقَاً.
وَإذَا كَثُرَ جَيْشُ الرَّذِيْلَةِ في قُوَّةِ قَلَّ جَيْشُ الفَضِيْلَةِ في ضَعْفٍ، وَلا تَسْتَبْعِدَ أنْ يَتَغَلَّبَ جَيْشُ الرَّذِيْلةِ فَيُبِيْدَ جَيْشُ الفَضِيْلَةِ أوْ يَجْعَلَه في حُكْمِ المبُادِ وإنْ كَانَ لا يَزالُ بَاقٍ مِنْهُ أَفْرَادٌ.
وإذَا كانَ غَضِبَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلى عِبَادِهِ فَعَاقَبَهُمْ في الدُّنيَا قَبْلَ الآخِرَةِ ولا يَنْجُوْ مِنْ بَطْشِ الله وَعَذابِهِ إلا مَنْ كَانَ في جانِبِ دِيْنهِ يَتَألَّّمُ لَهُ وَيَغضبُ عَلى مَخالِفيْهِ آمِراً لَهُمْ وَنَاهِياَ مَهْمَا نَالَهُ في سَبِيْلِ ذَلِكَ مِنْ إِيْذَاءٍ.
عَلَّمَنَا ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَولِهِ {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .(4/27)
قَالَ تَعَالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وقال في الآية الأخري {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
إذاً عَاقِبَةُ التَّساهُلِ في الأَمْرِ بالمعَرُوف وَالنَّهْي عَن المُنكرِ شَقَاءُ الدُّنْيَا بما يَنْزِلُ مِنْ آلامٍ لِمَعاصِيهِمْ التِيْ يَقْتَرِفُوْنَها آمِنِيْنَ مِنْ زَجْرٍ عَليهَا وَمَلامٍ وَشَقاءِ الآخِرَةِ بِمَا أعَدّ رَبُّنَا لِلّعُصَاةِ مِنْ عَذَابٍ.
قَالَ بَعْضُهُم:
مَضَي الزَّمَانُ وَعَيْشِيْ عَيْشُ تنكِيدْ
وَالعُمْرُ وَلّى وَلَمْ أَظْفَرْ بِمَقْصُوْدِ
وَالِ اليَقْينَ وَعَادِ الشَّكَ أجْمَعَهُ
عَظِمْ إلَهَكَ لا تَرْكَنْ لِمَنْقودِ
فَالخَطْبُ عَمَّ وَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُم
مُعَظّمِيْنَ لِبِدْعِيٍّ وَمَرْدُوْدِ
هَذَا الزَّمَانُ الذِي كُنَّا نُحَاذِرُهُ
في قَوْلِ كَعْبٍ وفي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ
فَصَاحِبُ الدَّيْنِ مَمْقُوتٌ وَمُنْكَتِمٌ
وَصَاحِبُ الفِسْقِ فِيْهِم غَيْرُ مَظْهُودِ
كُلٌّ يُقلد في الأهْوَاءِ صَاحِبَهُ
حَتَّى الْبِلادَ لَهَا شَأْنٌ بِتَقْلِيدِ
وَالأَمْرُ بِالعُرْفِ ثمَّ النَّهْيُ عَنْ نُكُرٍ
صَارَا لَدَيْنَا بِلا شَكٍ كَمَفْقُوْدِ
إِذَا نَصَحْتَ لِشَخْصٍ قَالَ أنْتَ كَذَا
فِيْكَ العُيُوْبَ لَدَيْنَا غَيْرُ مَحْمُوْدٍ(4/28)
أَضْحَى تَفَاخُرُهُمْ في حُسْنِ بِزَّتِهِمْ
وَمَنْزِلٍ حَسَنٍ عَالٍ بِتَشْيِيْدِ
وَجَمْعِ حُلْيٍ وَخُدَّامٍ وأَمْتِعَةٍ
أيَّامُهمْ فَنِيْتَ في جَمْعِ مَنْقُوْدِ
تَلْقَى الأَمِيْرَ مَعَ المَأمُوْرِ في وَهَنٍ
عَنْ رَفْعِ مَظلَمَةٍ أَوْ نَفْعِ مَنْكُوْدٍ
لِنَيْلِ دُنْيَاهُمُ كَالأُسْدِ ضَارِيَةٍ
وَكُلُّهُم في الهَوَى مُبْدٍ لِمَجْهُودِ
إذَا رَأَوْا صَالَحاً يَدْعُو لِنَيْلِ هُدَي
تَأنَّبُوُهُ بِإيْذَاءٍ وَتَبَعَيْدِ
حُكْمُ القَوَانِيْنِ قَالُوا فِيْهِ مَصْلَحَةٌ
وَفي الرَّبَا سَاعَدَتْ شِيْبٌ لِمَوْلُوْدِ
أَهْلَ الحِجَى وَالنُّهىَ مَالُوا لِمُحْدَثَةٍ
قَالُوا الشَّرِيْعَةَ لا تَكْفِيْ لِمَقْصُودِ
أَبْدَوْا لنَا بِدَعَاً مَا كُنّا نَعْرِفُهَا
وَجَانَبُوا نَهْجٍ تَوْفِيْقٍ وَتَسْدِيدٍ
تَلْقَى الهَوى وَالرَّبَا وَالجَوْرَ مُرْتَكَباً
وَالعِلْم وَالنُّصْحَ فِيْهِمْ غَيْرَ مَوْجُوْدِ
وَالهَرْجَ وَالمَرجَ تَلَقَاهَا مَرُوَّجَةً
وَالدَّيْنَ وَالسَّمْتَ في جِلْبَابِ مَرْدُوْدِ
وَقُلَّدَ الأَمْرَ لِكْعِيُّ أخُو بِدَعٍ
لِجَلِبِ أمْرٍ وَفِكْرٍ غَيْرِ مَحْمُوْدِ(4/29)
.. مُحَالِفُ الشَّرَّ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ
لَوْ نَالَ خَيْرَاً قُصَارَاهُ لِتَبْدِيْدِ
البُهْتْ وَالذَّمُّ وَالايْذاءُ قَدْ وُجَدَتْ
لِكُلَّ مُنْتَسِبٍ يَوماً لِتَوْحِيْدِ
فَالدَّيْنُ في غُرْبةٍ وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ
بِخُبْثِ طَبعٍ يُوَالي كُلَّ مَطْرُوْدِ
صَارَ الذِيْ كَانَ تَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ
وَتَقْتَفِيْهِ بأَمْرٍ غَيْرِ مَعْهُوْدِ
مَنْ كَانَ يَهْجُرُ ذَا بِدْعٍ وَمَظْلَمَةٍ
أَمْسَى يُبَاشِرُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدِ
فَالكُلُّ يَسْرِيْ لِمَا يَهْوَاهُ خَاطِرُهُ
لَمْ يَلْتَفِتْ لِمَرَاضِيْ خَيْرِ مَعْبُودِ
حَقُّ القَرِيْبِ وَحَقُّ الجَارِ أَهْمَلَهُ
مَنْ كَانَ نَعْرِفَهُ بِالدَّيْنِ وَالجُوْدِ
تُجَّارُهُمْ لَمْ تُزَكَّ وَيْلُ أُمَّهِمُ
مِنْ شَرَّ عَاقِبَةٍ في يَوْمِ مَوْعُوْدِ
لاَ يَرْبُ سُحْتٌ كَمَا قَالَ الإِلَهُ لَكُمْ
كَسْبُ الحَرامِ طَرِيْقٌ غَيْرُ مَحْمُودِ
أَيْنَ الفِرَارُ وكَمْ مِنْ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ
وَسُنَّةٍ دَرَسَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيْدِ
كَمْ مِنْ طَرِائِقِ سُوْءٍ بَانَ مُنْكَرُهَا
وَمَنْهَلُ الحَق أضْحَى غَيْرَ مَوْرُوْدِ(4/30)
.. فَمَا الطَّرِيْقَةُ إِلاَّ نَهْجُ أحْمَدَ مَعْ
أَصْحَابِهِ السَّادَةِ الغُرَّ الصَّنَادِيْدِ
فَأَخْلِصْ لِرَبَّكَ وَاتبْعْ نَهْجَ سَيَّدِنا
قَوْلاً وَفِعْلاً تَنَلْ فَوْزاً بِتَسْدِيْدِ
ثَعَالِبُ السُّوْءِ نَادَتْ في أرَانِبِهَا
هَذَا زَمَانُكِ عِيْشِيْ عَيْشَ مَحْمُوْدِ
مَا في الأَنَامِ حمُاَةٌ غَيْرَ مَنْ رَحَلُوا
وَمَنْ بَقِيَ عِنْدَنَا في زِيَّ مَلْحُوْدِ
وَاغُرْبَةَ الدَّيْنِ وَالإيْمَانِ في زَمنٍ
أَهْلُ الهُدى بَيْنَ مَقْهُوْرٍ وَمَظْهُوْدِ
إنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَيْرٌ
لمْ يُبْكَ مَيْتٌ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمَوْلُوْدِ
وَفَارِقِ الكُلَّ لا تَلْوِ عَلى أَحَدٍ
أَرضاً بِأَرْضٍ وَخِلاَناً بِمَوْجُوْدِ
مَنْ كَانَ نَأْمَلُهُ في كَشْفِ مُعْضِلةٍ
أَبْدَى بِعُذرٍ وَلا أَجْدَي بِمَقْصُوْدِ
فَأَيُّ أَرْضٍ بِهَا الاسْلامُ في شَرَفٍ
وَسُنَّةُ المُصْطَفَى تَزْهُوْ بِتَجْدِيْدِ
أَيْنَ الفِرَارُ وَأَيُّ الدَّارِ نَلْقَى بِهَا
وُلاتَهَا كُلَّ مَيْمُوْنٍ وَمَحْمُوْدِ
عُمْرِيْ غَدَا بَيْنَ وَاشٍ ثُمَّ مُبْتَدِعٍ
يَا رَبِّ يَسَّرْ بِأنصَارٍ لِتَوْحِيْدِ(4/31)
.. يَا صَاحِ مَنْ رَامَ فَوْزاً يَمْشِيَنَ عَلى
طَرِيْقَةِ المُصْطَفَى يُحْظَى بِتَسْعِيْدِ
وَآلِهِ ثُمَّ أَصْحَابٍ لَهُ تَبَعٌ
فَازُوا بِسَبِقٍ وَفَاقُوْنَا بِتَسْدِيدِ
وَقَادَةِ الخَيْرِ كَالنُّعْمَانِ أولِهمْ
وَأَحْمَدَ وَابْنِ ادْرِيسٍ أَخَا الجُوْدِ
وَمَالِكٍ كُلِّهِمْ كَانُوا أَئِمَّتَنَا
أَئِمَّةُ النّاسِ قَدْ جَاؤُوا بِمَقْصُوْدِ
نَوَاقِضُ الدَّيْنِ عَشْرٌ تِلْكَ فَافْهَمَهَا
لِكَيْ تَنَالَ نَعيْماً غَيْرَ مَحْدُوْدِ
وَحُبَّ في اللهِ لا تَرْكَنْ لِمُبتَدِعٍ
وَاهْجُرْ رِجَالَ الخنَا حُبّاً لِمَعْبُودِ
وَلاَزِمِ السُّنةَ الغَرَّاءَ تَنْجُ بِهَا
عِنْدَ الِلّقَاءِ بِفَوْزٍ غَيْرِ مَحْدُوْدِ
وَلاَ تُوَافِقْ لأَهْوَاءٍ تُلَفَّقُهَا
أَقْوَامُ سُوْءٍ بِلاَ شَك وَتَرْدِيْدِ
خَيْرُ الأُمُورِ أَخِيْ مَا كَانَ مَرْجِعُهُ
إلى الرَّسُولِ بِلاَ شَك وَتَرْدِيْدِ
فَامْسِكْ عَلَيْهِ وَجَانِبْ كُل مُنْحَرِفٍ
لِكَيْ تَفُوزَ بِدَارِ الخُلْدِ وَالجُوْدِ
اللهُم افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإجَابَةِ وَارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَحُسْنَ الانَابةِ وَيَسَّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنَّبْنَا العُسْرَى وَآتِنَا في الدُّنيا حَسَنةً وفي(4/32)
الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّّى اللهُ عَلى نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا عَلِيّ بْنُ أَبي طاَلِبٍ فَإلَيْكَ نَمَاذِجُ مِنْ عَدْلِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، قَالَ رضي اللهُ عَنْهُ في خُطْبِتِهِ عَقِبَ البَيْعَةِ لَهُ: أيُّها النَّاسُ إنَّمَا أنَا رَجُلٌ مِنْكُم لِيْ مَا لَكُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْكُم، وإِنّي حَامِلُكُم عَلى مَنْهج نَبِيَّكُمْ وَمُنَفَّذٌ فِيْكُم مَا أُمِرْتُ بِهِ، ألاَ إنَّ كُلَّ قَطِيْعَةٍ أَقْطَعَهَا عُثْمَانُ. وَكُلُّ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ في بَيْتِ المَالِ، فإنَّ الحَقَّ لا يُبْطِلُهِ شَئٌ وَلَوْ وَجَدْتُه قَدْ تُزُوَجَ بهِ النَّسَاء وَمُلِكَ الإمَاء وَفُرَّقَ في البُلدَانِ لرَدَدْتُه فإنَّ العَدْلَ سَعَةٌ.
وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الحَقُّ فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ، أَيُّهَا النَّاسُ أَلا لاَ يَقُولَنَّ رِجَالٌ مِنْكُم غَداً قَدْ غَمَرَتْهُم الدُّنْيَا فامْتَلَكُوا العَقَارَ وَفَجَّرُوا الأَنْهارَ وَرَكِبُوا الخَيْلَ وَاتَّخَذُوا الوَصَائِفَ المُرَقَّعَةَ إذَا مَا مَنَعْتُهم مَا كَانُوا يَخُوضُون فِيْهِ وَأَصَرْتُهم إلى حُقُوْقهِمْ التِيْ يَعْلَمُونَ ((حَرَمَنَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ حُقُوقَنَا)) .
أَلاَ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم يَرى أَنَّ الفَضْلَ لَهُ عَلى سِوَاهُ بِصُحْبَتِهِ فإنَّ الفَضْلَ غَداً عِنْدَ اللهِ وَثَوَابُه وَأَجْرُهُ عَلى اللهِ، ألاَ وَأَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَجَابَ لِلّهِ وَلِرَسُوْلِهِ فَصَدَّقَ مِلَّتَنَا وَدَخَلَ دِيْنَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَقَد اسْتَوْجَبَ حُقُوقَ الاسْلامِ وَحُدُوْدَهُ.(4/33)
فَأَنْتُمْ عِبَادُ اللهِ، وَالمَالُ مَالُ اللهِ، يُقْسَمُ بَيْنَكُمْ بالسَّوِيَّةِ وَلا فَضْل فِيهِ لأَحَدٍ عَلى أَحَدٍ وَلِلْمُتَّقِيْنَ عِنْدَ اللهِ أَحْسَنُ الجَزَاءِ. وَأَخْرَج أَبُو نُعَيْمٍ في الحلْية عَنْ عَلِيّ بْنِ رَبِيْعَة الوَالِى عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبي طَالِبٍ قَالَ جَاءَ ابْنُ النَّبَّاجِ فقالَ يَا أمِيرَ المُؤْمنينَ امْتَلأَ بَيْتُ مَالِ المُسْلِمينَ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ فَقالَ اللهُ أكْبَرُ فَقَامَ مُتَوَكِئاً على ابْنِ النَّباجِ حَتَّى قَامَ عَلى بَيْتِ مَالِ المُسلِمِيْنَ فَقَالَ: ... ...
هَذا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيْهِ
وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إلى فِيْهِ
يَا ابْنَ النَّباجِ عَلَيَّ بأَشْيَاعِ الكُوْفَةِ قَال: فَنُوديَ في النَّاسِ فَأَعْطَى جَمِيْعَ مَا فِيْ بَيْتِ المُسْلِمِين وَهُوَ يَقُوْلُ: يَا صَفْرَاءُ وَيَا بَيْضَاءُ غُرِيْ غَيْرِي هَا وَهَا حَتَّى مَا بَقيَ مِنْهُ دِيْنَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ثُمَّ أَمَرَ بِنَضْحِِهِ وَصَلي فِيْهِ رَكْعَتَينِ وَعَنْ مَجْمَع التَّيْمِي قَالَ كَانَ عَلِيّ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ يَكْنِسُ بَيْتَ الَمالِ وَيُصَلَّي فِيْهِ وَيَتَّخِذُهُ مَسْجِداً رَجَاءَ أنْ يَشْهَدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ العَلا عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدَّهِ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّ بْنَ أَبِيْ طَالبِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ يَقْوُلُ مَا أصَبْتُ مِنْ فَيْئِكُم غَيْرَ هَذِهِ القَارُوْرَةِ أهْدَاهَا إلَيَّ الدَّهْقَانُ، ثُمَّ نَزَلَ إلى بَيْتِ المال فَفرَّقَ كُلَّ مَا فِيْهِ، وَلَمَّا قَرَّرَ رَسُولُ اللهِ ? الهِجْرَةَ مِنْ بَيْتِهِ الذِيْ أحَاطَ بِهِ المُشْرِكُوْنَ لِيَقتُلُوهُ إثْرَ مَكْرِهمْ بهِ في دَارِ النَّدْوَة وَضَعَ مَكَانَهُ في فِرَاشِهِ ابْن عَمَّهِ أبَا الحَسَنِ عَلِيّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَآثَرَ عَلِيٌّ أَنْ يَكُوْنَ الفِدَا لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ(4/34)
يُعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلسُّيوْفِ سُيُوْفِ المُشْرِكِيْنَ تُقَطَّعُ لَحْمَهُ وَتُزْهِقُ رُوْحَهُ وَبِذَلِكَ فَدَى بِنَفْسِهِ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَسَلم وَفِيْهِ يَقُولُ النّاظِمُ لِلعَقِيْدَةِ:
... ...
وَلاَ تَنْسَ صِهْرَ المُصْطَفَى وَابْنَ عَمَّهِ
فَقَدْ كَانَ حَبْراً لِلْعُلُومِ وَسَيَّدَا
وَفَادَى رَسُولَ اللهِ طَوْعاً بِنَفْسِهِ
عَشِيَّةَ لمَّا بالفِرَاشِ تَوَسَّدَا
وَمَنْ كَانَ مَوْلاَهُ النَّبِيّ فَقَدْ غَدَى
عَلِيُّ لَهُ بِالحَقَّ مَوْلَىً وَمُنْجِدَا
اللَّهُمَّ نَوَّرْ قُلُوْبَنَا بِطَاعَتِكَ وَأَلْهِمْنَا ذكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا الانَابَةَ إليْكَ وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وصَلى اللهُ عَلى مُحَمَدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَلِيَّ بَنِ أَبْي طَالِبٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَاً فَقالُوا لهُ لَوْ أعْطَيْتَ هَذِهِ الأمْوَالَ، وَصَلْتَ بِهَا هَؤُلاءِ الأشْرَافَ، وَمَنْ تَخَافُ فِرَاقَهُ، حَتَّى إذَا اسْتَتَبَّ لَكَ مَا تُرْيدُه عُدْتَ إلى مَا عَوَّدَكَ اللهُ مِن العَدْلِ في الرَّعِيَّةِ وَالقِسْمَة بِالسَّوِيَّةِ.
فَقَالَ أَتَأْمُرُوْنِيْ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالجَوْرِ فِيْمَنْ وَلّيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ(4/35)
الاسْلاَمِ وَاللهِ لاَ أَفْعَلُ ذَلكَ لَوْ كَانَ هَذَا المالُ لِيْ لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُم فِيْهِ كَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُهُم.
وَرُوِيَ أنَّ أخَاهُ عَقِيْلاً سَأَلَهُ شَيْئاً مِنْ بَيْتِ المَالِ فَقَالَ إذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فَأتِنِيْ، فَأَتَاهُ يَومَ الجُمُعَةِ إلى المَسْجِدِ، وَقَدْ اجْتَمَع فِيْهِ النَّاسُ فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا تَقُوْلُ فِيْمَنْ خَانَ هَؤُلاءِ، فَقَالَ أَقُوْلُ إِنَّهُ رَجُلُ سُوْءٍ، فَقَالَ إنَّكَ سَأَلْتَنِيْ أَنْ أَخُونَهم أوْ كَمَا قَالَ.
وَرْوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلى أَمِيْرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ بَعْدَ مَا صَارَ إلََيْهِ الأَمْرُ فَإذَا هُوَ جَالِسٌ عَلى مُصَلى لَيْسَ في دَارِهِ سِوَاهُ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ المُؤمِنينَ أَنْتَ مَلِكُ الاسْلامِ، وَلا أرَى في بَيْتكَ أَثاثاً وَلا مَتَاعاً، سِوَى مُصَلّى أنْتَ جَالِسٌ عَليه فَقالَ يا ابْنَ غَفْلَةَ إنَّ اللَّبِيْبَ لا يَتَأثَّثُ في دَارِ النُّقْلَةِ، وَأمَامَنَا دارٌ هِيَ دَارُ المُقَامِ، وقَدَ نَقْلْنَا إلَيْهَا خَيْرَ مَتَاعٍ وَنَحْنُ إلَيْهَا مُنْتَقِلُونَ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ رَأَيْتُ عَلِيّاً يَطُوْفُ وَبِيَدِهِ الدُّرَّةُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ فِيْهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ جِلْدٍ.
وَمِنْ كَلامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ألا وَإن إمَامَكُمْ قَدْ اكْتَفى مِن الدُّنْيَا بِطِمْريْهِ وَمِنْ طَعَامِهِ بِقُرْصَيْهِ، ألا وَإنَّكُمْ لا تَقْوَوْنَ عَلى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِيْنُونِيْ بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، فَوَ اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبراً، وَلا أحْرَزْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْرَاً.
إلَى أنْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيتُ الطَّرِيْقَ إلَى مُصَفَّى هَذَا العَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا القَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا القَزَّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِيْ هَوَايَ،(4/36)
وَيَقُوْدُنِي جَشَعِي إلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ.
وَلَعَلَّ بِالحِجَاز وَاليَمَامَةِ مَنْ لاَ يُدْرِكُ القُرْصَ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشَّبَع، أوَ أَبِيْتُ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُوْنٌ غَرْثَى مِن الجُوْعِ، وَأَكْبُدٌ حَرَّاءُ، فأكُونُ كَمَا
قَالَ القائِلُ:
...
وَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيْتَ بِبِطْنَةٍ
وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلى القِدَّ
وَمِنْ كَلامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في كِتَابِ العَهدِ لِلأَشْتَرِحِيْن وَلاهُ مِصُرَ وَلْيَكُنْ أَحَبُّ الذَّخَائِرِ إلَيْكَ ذَخِيْرَةَ العَمَل الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَنْ مَا لا يَحِلُّ لَكَ، فإنَّ الشُّحَّ بالنَّفْسِ بالانْصَافِ مِنْهَا فِيْمَا أَحَبَّتْ وَكَرٍهَتْ. أ. هـ
وَقال غيره: الهوى والنفسُ يُنَتِجَانِ مِن الأخلاقِ قَبائِحَها ويُظْهِرانِ مِن الأفعالِ فضائحها.
إذا ما رَأَيْتَ المَرْءَ يَقْتَاده الهوَى ... فَقَدْ ثَكِلَتُه عِندَ ذَاكَ ثَواكِلُهْ
وما يَرْدَعُ النَفْسُ الحَرُوْنَ عن الهَوَى ... مِن الناسِ إلاّ حازِمُ الرأْيِ كَامِلُهْ
وقد أَشْمَتَ الأعْدَاءَ جَهْلاً بِنفَسهِ ... وقَدْ وَجَدَتْ فِيه مَقَالاً عَوَاذِلُهْ
إذا اشْتَبَهَ الأَمْرَانِ فالخَيرُ في الذي
تَراهُ إذا كَلَّفْتَه النَّفْسَ يَثْقُلُ
فَجَانِبْ هَوَاهَا واطَّرِحْ ما تُرِيْدُهُ
مِن اللَّهْوِ واللذاتِ إنْ كُنْتَ تَعْقِلُ
... ... ... ...
وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ المَحَبَّةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَالرَّفْقَ بِهِمْ وَلاَ تَكُوْنَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعَاً ضَارِيَاً يَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّمَا هُمْ صِنْفَانِ إمَّا أخٌ لَكَ فَي(4/37)
الدَّيْنِ أَوْ نَظِيْرٌ لَكَ في الخُلُقِ، يَفْرُطُ مِنْهُم الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُم العِلَلُ وَيَأْتِي عَلَى أَيْدِيْهِم العَمْدُ وَالخَطَأْ.
فأعْطِهُمْ مِنْ عَفْوِكَ، وَصَفْحِكَ، مِثْلَ الذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيْك اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِيَ الأَمْر عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدْ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَك َبِهِمْ.
وَفِيْهِ لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلاَ تَتَبَجَّحَنَّ بِعُقُوْبَةٍ وَلاَ تَسْرِعَنَّ إلى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَندُوْحَةً.
وَلاَ تَقُولَنَّ إِني امْرُؤٌ آمُرُ فَأُطَاعَ، فَإنَّ ذَلِكَ إدْغَالٌ في القَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدَّيْنِ، وَتَقَرُّبٌ مِن الغَيْرِ.
فَإذَا أَحْدثَ لَكَ مَا فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةٌ أو مَخْيَلَةٌ فَانْظُرْ إلى عِظَم مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ.
وَفِيْهِ إِيَّاكَ وَمُسَامَاتِ اللهِ في عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّه بِهِ في جَبَرُوتِهِ، فإنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَيُهِيْنُ كُلَّ مُخْتَالٍ، أَنْصِف اللهَ، وَانْصِف النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمَنْ خَاصَّةَ أَهْلِكَ، وَمَنْ لكَ فِيْهِ هَوَىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإنَّكَ إنْ لَمْ تَفعَلْ ذَلِكَ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَم عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ،دُوْنَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ.
وَلْيَكُنَ أَبْعَدُ رَعِيَّتِكَ عَنْكَ وَأَشْنَؤُهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبَهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ فَإنَّ في النَّاس عُيُوبَاً الوَالِي أحَقُّ بِسَتْرِهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَنْ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيْرُ مَا ظَهَر لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ.(4/38)