وَقَالَ في إِغَاثَةِ اللَّهْفَانْ: وَلَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على سُجَّادَةٍ قَطْ وَلا كَانَتْ السُّجّادَةُ تُفْرَشُ بَيْنَ يَدَيْهِ بَلْ كَانَ يُصَلّي عَلَى الأَرْض وَرُبَّمَا سَجَدَ على الطِّينِ وَكانَ يُصَلّي عَلى الْحَصِيرِ فَيُصَلي على ما اتَّفَقَ بَسْطُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ صَلَّى على الأَرض.
قَالَ النَّاظِمُ لاخْتِيَارَاتِ شَيْخِ الإِسْلام بن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله:
وَوَضْعُ الْمُصَلّي في الْمَسَاجِدِ بِدْعَةٌ ... وَلَيْسَ مِنَ الْهَدْي القَوِيمِ الْمُحَمَّدِ
وَتَقْدِيمُهُ في الصّفِ حَجْرٌ لِرَوْضِةٍ ... وَغَصْبٌ لَهَا عَنْ دَاخِلٍ مُتَعَبِّدِ
وَيُشْبِهُهُ وَضْعُ العَصَاءِ وَحُكْمُهَا ... كَحُكْم الْمُصَلَّى في ابْتِدَاعِ التَّعَبُّدِ
بَلَى مُسْتَحَبَّ أَنْ يُمَاطَا وَيُرْفَعَا ... عَنْ الدَّاخِلينَ الرَّاكِعينَ بِمَسْجِدِ
لَئِنّ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِنَص مُقَرَّرٍ ... وَلا فِعْلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلى الْهُدَى ... وَشَرُّ الأمورِ الْمُحْدَثَاتُ فَبَعّدِ
اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارْ، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في الأيَّامِ التِي يُسَنّ أَوْ يَكْرَهُ صِيَامُها
وَيَبْحثُ في:
1- مَا وَرَدَ مِنَ الثَّوَابِ العظيم في صَوْم بَعْضِ الأَيَّام.
2- بَيَانُ الأَيَّامِ التِي يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمَ صِيَامُهَا، وَالنَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بالغير.
1- مَا وَرَدَ مِنَ الثَّوَابِ العظيم في صَوْم بَعْضِ الأَيَّام:
يُسَنُّ صِيَامُ أَيَّامِ البيضْ، وَهِيَ الثَّالثُ عَشَرَ وَالرَّابعُ عَشَرَ والخامِسُ عشر، لِمَا(1/554)
وَرَدَ عَنْ أَبَي ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَا فَصُمْ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . رواهُ الترمِذى.
وَعَنْ قَتَادَة بْنِ مِلْحَانُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قالَ: (كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمُرنا بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ) . رواه أبو داود
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاَثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى وَبِأَنْ لاَ أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيُسَنّ صِيامُ أَيَّامِ الاثنين والخَمِيسِ، وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يومِ الاثْنِينِ فَقَالَ: «ذَلِكَ اليَوْمُ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ فِيهِ، وَأَنْزِلَ عَليَّ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْم الاثْنَيْنِ والخَمِيس فَأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . رواهُ التّرمِذي، وَقَال: حَدِيثُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ صَوْم.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الأنْصَارِيّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاسْتَحَبَّ صِيَامُ سِتَّةٍ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالِ أَكْثَرُ العُلَمَاء وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُوسٍ، والشَّعْبِي، وَمَيْمُونِ بْنِ مَهْرَان وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ الْمُبَارَكْ - رَحِمَهُمُ الله - وأكْثَرُ العُلَمَاء: عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صِيَامُها مُتَتَابَعة أولُ الشَّهْرِ ثَانِي الفُطْر وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوع: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرُ مُتَتَابِعَة فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَة» . أخْرَجَهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرِهِ.(1/555)
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَان بنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قال لِرَجُل: «إِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ» . وَإِنَّمَا كَانَ صِيَامُ رَمَضَانَ وإتِّبَاعُهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوّالَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ لأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفْسَّرًا مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «صِيَامُ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُر، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ» . يَعْنِي صِيَام رَمَضَانَ وَسِتّةِ أَيَّامٍ بَعْدَهْ. أَخْرَجَه: الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِي وَهَذَا لَفْظُ ْ. وَخَرَّجَهُ: ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِي.
وَيُسَنُّ صِيَامُ يومِ عَرَفَة لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا، وَشَهْرُ الْمُحَرَّمِ وَآكِدُهُ العَاشِرُ ثُمَّ التَّاسِعُ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانِ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدُ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كلَّه؟ قَالَ: «لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ» . وقال: «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «وَيُطِيقُ أَحَدٌ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّى طُوِّقْتُ ذَلِكَ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاَثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ احْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابن عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاء وأَمَرَ بِصِيَامِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: «لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/556)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (نَهَى عَنْ صَوْم يومِ عَرَفَة بِعَرَفَةَ) . رَوَاهُ أَبُو دَاود، والنِّسَائِي، وابنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ.
وَيُسَنُّ صِيَامِ تَسْعُ ذِي الحِجَّةِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّام العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى الله مِنْ هَذِهِ الأَيَّامْ» . يَعْنِي أَيَّامِ العَشْرِ قَالُوا: يَا رسولَ اللهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . رَوَاهُ البُخَارِي.
شِعْرًا:
تَكَلَّمْ بِمَا يَنْفَعْكَ في الدِّينِ إِنَّمَا ... كَلامُكَ حَيُّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ
وَدَاوِمْ عَلَى ذِكْرِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ ... شِفَاءُ لِقَلْبٍ قَدْ غَشَاهُ فَسَادُ
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ فِيهَا لَيَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَلَيْلَةٍ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رواهُ ابن ماجة، والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حديثٌ غريب.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، وَمَتَّعْنا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهكَ الكريم في جَنَّاتِ النَّعيمْ مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصّدّيقينَ والشَّهداءِ والصّالِحين، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمينَ، الأَحياءِ منهم والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : في بَيَانِ الأَيَّامِ التِي يُكْرَه أَوْ يُحْرَم صِيَامُهَا وَالنَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّه بالغَيْرِ(1/557)
وَيُكْرَهُ إِفْرَادُ رَجَبَ بِالصَّوْمِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، أَمَّا رَجَبٌ: فَلما رَوى أَحْمد - رَحِمَهُ الله - عَنْ خَرْشَةَ بِنْ الْحُرِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ المُترِّجِبين حَتَّى يَضعُوها في الطَّعَامِ وَيَقُولُ: كُلُوا! فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتْ تُعَظِمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ.
وَبِإسْنَادِهِ عَنْ ابن عُمَرْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى النَّاس وَمَا يَعِدّونَهُ لِرَجَبْ كَرِهَه وَقَالَ: (صُومُوا مِنْهُ وَأَفْطِرُوا) .
وَأَمَّا الْجُمُعَة: فَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةَ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، ولا تُخُصُّوا يَومَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ من بَيْن الأَيَّامِ إِلا أَنْ يَكُونَ في صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَصُومَنّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَه» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا السَّبْتُ: لِمَا رَوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ» . رواهُ الخمسَةُ إِلا النِّسَائِي.
وَيُكْرَهُ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقْدِمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ: «لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ» .(1/558)
وَيُكْرَهُ صَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَكُلَّ عِيدٍِ لِلْكُفَّارَ، أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الكُفَّار في تَعْظِيمِهَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: مَنْ تَأَسَّى بِبِلادِ الأَعَاجِمِ نَيْرُوزِهِمْ وَمَهْرَجَانِهمْ وَتَشَبَّهَ بِهم حَتَّى يَمُوتُ حُشرَ مَعَهُمْ.
قَالَ الشَّيْخُ وَغَيْرِهِ: مَا لَمْ يُوافِقْ عَادَةً أَوْ يَصُمْهُ عَنْ نَذْرٍ وَنَحْوِهْ قَالَ: وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الذي يَكُونُ في آخِر صَوْمِهِمْ كَيَومِ (عيدِ المائِدَةِ) وَيَوْمِ الأَحد الذي يُسَمّونَهُ (عِيْدَ الفُصْحِ) و (عيد النُّورِ) و (العيدِ الكَبِيرِ) وَنَحْو ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُسْلِمْ أَنْ يُشَابِهَهُمْ في أَصْلِهِ وَلا فِي وَصْفِهِ.
وَقَالَ: لا يَحِلّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا في شَيْء مِمَّا يَخْتَصُّ بأعْيَادِهِم لا مِنْ طَعامٍ، وَلا مِنْ لِبَاسٍ، وَلا اغْتِسَالٍ، وَلا إِيقَادِ نِيْرَانٍ، ولا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَلا تُمَكَّنُ الصّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ مِن اللَّعِبَ التِي في الأَعْيَادِ، وَلا إِظْهَارِ زِينَةٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ بَلْ يَكُونُ يَوْمَ عِيدِهم عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الأَيَّامِ، لا يَخُصَّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيءٍ مِنْ خَصَائِصَهِمْ.
وَتَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ لا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءْ، بَلْ قَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ العُلَمَاءَ إلى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ لأنهم أَعْدَاءٌ الله والمسلمين ولا يألون جهدًا فيما يَضُرُّ الْمُسْلِمِين.
شِعْرًا:
تَوق مُعَادَات الإلهِ فإنَّهَا ... مُكَدِّرةٌ لِلصَّفْوِ في كُلِّ مَشْرَبِ
آخر:
إِذا وَتَرتَ أمرًا فَاِحذَر عَداوَتَهُ ... مَن يَزرَعِ الشَوكَ لا يَحصُد بِهِ عِنَبا
إِنَّ العَدُوَّ وَإِن أَبدى مُسالَمَةً ... إِذا رَأى مِنكَ يَوماً غِرَّةً وَثَبا
آخر:
وَمَا غُرْبَةُ الإنْسَانِ في شُقَّةِ النَّوى ... وَلكنَّهَا وَاللهِ في بَلَدِ الكُفْر(1/559)
وقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِين أَن لا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ في دِيَارِ الْمُسْلِمِينْ فَكَيْفَ إِذَا أَظْهَرَها الْمُسْلِمُونَ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بن الخَطَّاب: لا تَتَعَلَّمُوا رِطَانةَ الأَعَاجِمِ، وَلا تَدْخُلُوا عَلَى المشركين في كَنَائِسِهمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ الشُّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُ اللهِ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ مِنْ شَعَائِرِهِمْ؟ وَقَالَ عُمَرُ: مَا تَعَلّمَ رَجُلٌ الفَارِسِيَّةَ إلا خَبَّ وَلا خَبَّ إلا نَقَضَتْ مَرُوءَتُهْ.
وَقَدْ قَالَ غَيْرُ واحد من السَّلَفِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَال: أَعْيَادُ الكُفَّارِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا في شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْل فَكَيْفَ بِالأَفْعَالِ التِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا؟!
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبّهَ بقومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَفِي لَفْظ: «لَيْسَ مِنّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» . وَهُوَ حَدِيثٌ جَيّدٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ - وَإِنْ كَانَ مِنْ العَادَاتِ فَكَيْفَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ؟
وَقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله: اعْتِيَادُ اللّغَةِ يُؤَثِّر في العَقْلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأْثِيرًا قَوِيًّا بَيِّنًا بِحَسَبِ تِلْكَ اللُّغَةِ. وَقَالَ في اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المستقيم: عن نافِع عَنْ ابنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بالعَرَبِيّة فَلا يَتَكَلّمُ بالعُجْمَةِ فَإِنَّهُ يُوَرّثُ النِّفَاق» .
قَالَ ابنُ القيمِ - رَحِمَهُ الله - عَلَى حَدِيث: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» أَي بالانْدِمَاجِ وَتَلاشَتْ شَخْصِيَّتُه فِيهم فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا عَنْ تَعْظِيمٍ وَإِكْبَارٍ لَهُمْ فَهُوَ لِذَلِكَ يُلْغِي شَخْصِيَّتَهُ وَيَتَلاشَى في شَخْصِيَّةِ الآخَرين، فَمَنْ تَشَبَّهَ بالرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ بِإلْغَاءِ شَخْصِيَّةِ الجاهليةِ السَّفِيهَةِ وَانْدِمَجِ في مَعْنَوِيَّةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ عِلْمًا وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا وَأَدَبًا، فَهُوَ بِلا شَكٍ مِنْهُمْ.(1/560)
وَمَنْ تَشَبَّعَ بالإِفْرِنْجِ فِي لِبَاسِهِم وَأَخْلاقِهِمْ وَنُظُمِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ فَهُوَ بِلا شَكّ إِفْرَنْجِي غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمْ، فَلِهَذَا التَّشَبُّهِ وَنَتَائِجِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ نَرَى الْمُعْظِّمِينَ للنَّصَارَى وَالوَثَنِيِّينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ والانْدِمَاجِ فِيهِمْ يُعَاوِنُونَهُمْ على الضَّرَرِ بِدِينِهم وَبِلادِهِمْ وَأُمَمِهِم عَنْ قَصْد وَعَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. أهـ.
وَيُكْرَهُ وصَالٌ إِلا مِنَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ، فَقَالَ: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ» . كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ، حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلا يَجُوزُ صَوْمُ العِيدَيْن عَنْ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ وَإِنْ قَصَدَ صِيَامَهَا كَانَ عَاصِيًا وَلا يُجْزءُ عَنْ الفَرْضِ.
وَلا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّام التَّشْرِيقِ إِلا عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقَرَانٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْد مَوْلَى أَزْهَرْ قَالَ: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ ابنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقَالَ: (هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسْكُكُمْ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَلِمَا رُوِيَ عَنْ نُبَيْشَةِ الهُذَلِي - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/561)
وَعَنْ عَائِشَةِ وابن عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (نَهَى عَنْ صَوْمِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ في السَّنَةِ: يَوْمِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَثَلاثَةِ أَيَّام التَّشْرِيق) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي.
اللَّهُمَّ نَجَّنَا بِرَحْمَتِكَ مِن النَّارِ وَعَافِينَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالبَوَارِ وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دارَ القَرارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَوَائِدْ) : مُجَالَسةُ العَارِفِ الزَّاهِدِ تَدْعُو مِنْ سَتٍّ إلى سِتْ:
مِنَ الشَّكِ إلى اليَقِينْ.
وَمِنْ الرِّيَاءِ إِلى الإِخْلاصِ.
وَمِنْ الغُفْلَةِ إِلى الذِّكْرِ.
وَمِنْ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيَا إِلى الرَّغْبَةِ في الآخِرَةِ.
وَمِنْ الكِبْرِ إِلى التَّوَاضُعِ.
وَمِنْ سُوءِ الطَّوِيَّةِ إلى النَّصِيحَةْ.
الأَفْضَلُ في أَوْقَاتِ السَّحَرِ الاشْتِغَالُ بِقِرَاءَةِ القُرْآن وَالصَّلاةُ وَالاسْتِغْفَارِ.
وفي وقت الأذان إجابة المؤذن والدعاء لأنه وقت إجابة.
وفي وقت الصلوات الخمس الاستعداد لها والجد والاجتهاد والحرص على طرد الأفكار الصادة عن تأمل معاني الآيات والتسبيح والتكبير.
والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إلى تأديتها في أول وقتها والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل لكثرة الخطا.
والأفضلُ في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالمال أو الجاه أو البدن، الاشتغالُ بمساعدته وإغاثَتِهِ.
والأفضلُ في وقتِ قراءة القُرآن الحرص على تدبره وتفهمه حتى كأَنَّ اللهَ(1/562)
تعالى يخاطبه به وَيَعزِمُ على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
والأفضلُ في عشر ذو الحجة الاجتهاد والحرص على الإكثار من الأعمال الصالحة والدعاء والتضرع والإكثار من قراءة القرآن وذكر الله.
والأفضل في الوقوف بعرفة الاجتهاد في الدعاء والتضرع والإكثار من قول: لا إله إلا الله.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المساجد والخلوة والاعتكاف وتلاوة القرآن.
والإكثار من الباقيات الصالحات والحرص على إخراج الزكاة في هذا الشهر المبارك وإفطار الصوام.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادتهُ، وحُضُورُ جنازته وتشييعُه وتقديم ذلك على خلواتك وَجَمْعِيَّتِكَ.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاةِ الناس لك أداءُ واجبِ الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم.
فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضلُ مِن الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضلُ خلطتهم في الخير فهي خَيرٌ من اعْتِزَالِهِم فيه واعتزالهُم في الشر أفضل فإنْ علم أنه إذا خالطهم أزالهُ أو قلَّلَهُ فخلطتهم حينئذٍ أفضلُ من اعْتِزَالِهِم.
شِعْرًا:
إِنّي أَرِقتُ وَذِكرُ المَوتِ أَرَّقَني ... وَقُلتُ لِلدَّمْعِ أَسْعِدني فَأَسْعَدَني
يَا مَنْ يَمُوتُ فَلَمْ يَحْزَنْ لِمَيتَتِهِ ... وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَوْلاهُ بِالحَزَنِ
تَبغي النَجاةَ مِنَ الأَحْدَاثِ مُحتَرِسًا ... وَإِنَّمَا أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ
يَا صَاحِبَ الرُّوحِ ذي الأَنْفَاسِ في البَدَنِ ... بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَّيْلِ مُرتَهَنِ
لَقَلَّما يَتَخَطّاكَ اِختِلافُهُمَا ... حَتّى يُفَرِّقَ بَينَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ(1/563)
طِيبُ الحَياةِ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ ... وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثقالِ وَالمُؤَنِ
لَم يَبقَ مِمّن مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ ... كَأَنَّ مَنْ قَدْ مَضَى بِالأَمْسِ لَمْ يَكُنِ
وَإِنَّمَا المَرءُ في الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ ... سَائِلْ بِذلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزَمَنِ
مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ لِلْمُلْقِي بِعِبرَتِهِ ... بَيْنَ التَفَكُّرِ وَالتَجْرِيبِ وَالفِطَنِ
أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً ... فَمَا يَغُرُّكَ فِيهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ
لأَعْجَبَنَّ وَأَنّى يَنْقَضي عَجَبِي ... النَّاسُ في غَفلَةٍ وَالْمَوْتُ في سَنَنِ
وَظاعِنٍ مِن بَياضِ الرَّيْطِ كُسْوَتُهُ ... مُطَيَّبٍ لِلْمَنايا غَيْرِ مُدَّهِنِ
غادَرتُهُ بَعدَ تَشيِيعَيهِ مُنجَدِلاً ... في قُربِ دارٍ وَفي بُعدٍ عَنِ الوَطَنِ
لا يَستَطيعُ اِنتِقاصاً في مَحَلَّتِهِ ... مِنَ القَبيحِ وَلا يَزدادُ في الحَسَنِ
الحَمدُ لِلَّهِ شُكراً ما أَرى سَكَنًا ... يَلوي بِبَحبوحَةِ المَوتى عَلى سَكَنِ
ما بالُ قَومٍ وَقَد صَحَّت عُقولُهُمُ ... فيما اِدَّعوا يَشتَرونَ الغَيَّ بِالثَمَنِ
لِتَجذِبَنّي يَدُ الدُنيا بِقُوَّتِها ... إِلى المَنايا وَإِن نازَعتُها رَسِني
وَأَيُّ يَومٍ لِمَن وافى مَنِيَّتَهُ ... يَومٌ تَبَيَّنُ فيهِ صورَةُ الغَبَنِ
لِلَّهِ دُنيا أُناسٍ دائِبينَ لَها ... قَدِ اِرتَعَوا في رِاضِ الغَيِّ وَالفِتَنِ
كَسائِماتٍ رَواعٍ تَبتَغي سِمنًا ... وَحَتفُها لَو دَرَت في ذَلِكَ السِمَنِ
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينَ الأَبْرَارْ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَار، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/564)
(فَصْلٌ) : في الْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
عِبَادَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} فَمَا مِنْ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَلا آجِلٍ ظَاهِرٍ وَلا بَاطِنٍ إِلا وَتَقْوَى اللهِ سَبِيلٌ مُوصِلٌ إِلَيْهِ وَوَسِيلَةٌ مُبْلِغَةٌ لَهُ وَمَا مِنْ شَرٍّ عَاجِلٍ وَلا آجِلٍ ظَاهِرٍ وَلا بَاطِنٍ إلا وَتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِرْزٌ مَتِينٌ وَحُصْنٌ حَصِينٌ لِلسَّلامَةِ مِنْهُ وَالنَّجَاةِ مِنْ ضَرَرِهِ.
شِعْرًا:
خِصَالٌ إِذَا لَمْ يَحْوِهَا المرء لَمْ يَنَلْ ... مَنَالاً مِنْ الأُخْرَى يَكُونُ لَهُ ذُخْرَا
يَكُونُ لَهُ تَقْوَى وَزُهْدٌ وَعِفَّة ... وَإِكْثَارُ أَعْمَالٍ يَنَالُ بِهَا أَجْرَا
آخر:
لَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْجَدِيدَيْنِ إِلا ... عَمَلٌ صَالِحٌ وَذِكْرٌ جَمِيلْ
آخر: ... وَمَا في النَّاس أَحْسَنُ مِنْ مُطِيعٍ ... لِخَالِقِهِ إِذَا عُدَّ الرَّجَالُ
آخر:
لَنِعْمَ فَتَى التَّقْوَى فَتَى طَاهر الْخُطَا ... خَمِيصٌ مِنْ الدُّنْيَا تقيُّ الْمَسَالِكِ
فَتَىً مَلَكَ الأَهْوَاءَ أَنْ يَعْتَبِدْنَهُ ... وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ لَهُنَّ بِمَالِكِ
وَكَمْ عَلَّقَ اللهُ العظيمُ في كِتَابِهِ العَزِيزِ عَلَى التَّقْوَى مِنْ خَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَسَعَادَاتٍ جَسِيمَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَعِيَّةُ الخاصَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ للحفظ والعِنَايَةِ والنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، قَالَ تَعَالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وَمِنْ ذَلِكَ الْمَحَبَّةُ لَمِنَ اتَّقَى اللهَ، قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وَمِنْ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ لِلْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} وَمِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الخَوْفِ والحُزْنِ عَنِ المُتَّقِي المُصْلِح قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وَمِنْ ذَلِكَ الفُرْقَانُ عِنْدَ الاشْتِبَاهِ وَوَقُوعِ الإشْكَالِ وَالكَفَّارَةِ لِلسَّيِّئَاتِ وَالمَغْفِرَةِ لِلذُّنُوبِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .(1/565)
وَمِنْ ذَلِكَ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْرَجُ مِنْ الشَّدَائِدِ وَالرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، قَالَ تَعَالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .
وَمِنْ ذَلِكَ اليُسْرُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، وَمِنْ ذَلِكَ عِظَمُ الأَجْرِ، قَالَ تَعَالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ، وَمِنْ ذَلِكَ الوَعْدُ مِنَ اللهِ بِالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} الآيَاتْ، إِلى قَوْلِهِ: {مَن كَانَ تَقِيّاً} .
شِعْرًا:
وَأَحْسَنُ وَجْهٍ في الوَرَى وَجْهُ مُتَّقٍ ... وَأَقْبَحُ وَجْهٍ فِيهِمْ وَجْهُ كَافِرِ
آخر:
وَمِنْ أَضْيَعِ الأَشْيَاءِ مُهْجَةُ ذِي التُّقَى ... يَجُوزُ عَلَى جَوْبَائِهَا حُكْمُ جَائِرِ
وَقَالَ تَعَالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ، وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .
وَمِنْ ذَلِكَ الكَرَامَةُ عِنْدَ اللهِ بالتَّقْوَى، قَالَ تَعَالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ امْتِثَالُ الأَوَامِرْ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، فَالْمُتَّقُونَ هُمُ الذِّينَ يَرَاهُم اللهُ حَيْثُ أَمْرَهُمْ وَلا يُقْدِمُونَ عَلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ.
الْمُتَّقُونَ هُمُ الذين يَعْتَرِفُونَ بالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ، وَيُنْكِرُونَ البَاطِلَ وَيَجْتَنِبُونَهُ وَيَخَافُونَ الرَّبَّ الْجَلِيلَ الذِي لا تُخْفَى عَلَيْهِ خَافِيةٌ، الْمُتَّقُونَ يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللهِ فَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَهُ وَيُحِلُّونَ مَا أَحَلَّهُ.(1/566)
وَلا يَخُونُونَ فِي أَمَانَةٍ، وَلا يَرْضُونَ بِالذُّلِّ وَالإِهَانَةِ، وَلا يَعْقُونَ وَلا يَقْطَعُونَ، وَلا يُؤْذُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلا يَضْرِبُونَ إِخْوَانَهُمْ، يَصِلُونَ مَنْ قَطَعَهُمْ، وَيُعْطُونَ مَنْ حَرَّمَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، الْخَيْرُ عِنْدَهُمْ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْ جَانِبِهِمْ مَأْمُونٌ، لا يَغْتَابُونَ، وَلا يَكَذِبُونَ، وَلا يُنَافِقُونَ.
وَلا يَنمُّونَ، وَلا يَحْسِدُونَ، وَلا يُرَاءُونَ، وَلا يُرَابُونَ، وَلا يَقْذِفُونَ، وَلا يَأْمُرُونَ بِمُنْكَرِ وَلا يَنْهَوْنَ عَنْ مَعْرُوفْ، بَلْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ الْمُنْكَرْ، تِلْكَ صِفَاتُ الْمُتَّقِينَ حَقًّا الذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُون.
إِخْوَانِي لَوْ تَحَلَّى كُلِّ مِنَّا بِالتَّقْوَى لِحَسُنَ عَمَلُهُ، وَخَلُصَتْ نِيّتُه، وَاسْتَقَامَ عَلَى الْهُدَى، وَابْتَعَد عَنِ الْمَعَاصِي وَالرَّدَى، وَكَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ النَّاجِينَ.
شعرًا:
لَحَى اللهُ قَلبًا باتَ خِلْوًا مِنَ التُّقَى ... وَعَينًا عَلَى ذَنْبٍ مَضَى لَيْسَ تَذرِفُ
وَإِنّي أُحِبُّ كُلَّ مَنْ كَانَ ذَا تُقَى ... وَيَزْدَادُ في عَيْنِي جَلالاً وَيَشْرُفُ
شِعْرًا:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى الله إلا مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى الله أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
آخر:
عَلَيكَ بِتَقْوَى اللهَ في كُل حَالَةٍ ... تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الحِسَابِ الْمُطَوُّلِ
أَلا إِنَّ تَقْوَى الله خَيْرُ بِضَاعَةٍ ... وَأَفْضَلُ زَادِ الظاعِنِ الْمُتَحَمِّلِ
وَلا خَيْرَ في طُولِ الْحَيَاةِ وَعَيْشِهَا ... إِذِ أَنْتَ مِنْهَا بِالتُّقَى لَمْ تَزَوَّدِ
آخر:
لَعَمرُكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ ... وَلَكِنَّ تَقْوَى الله خَيْرُ الذَّخَائِرِ
وَأَنْفَعُ مَنْ صَافَيْتَ مِنْ كان مُخْلِصًا ... لِمَنْ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ خَفَايَا الظَّمَائِرِ
آخر:
وَمَا رَفَع النَّفْسَ الْحَقِيرَةَ كالتُّقَى ... وَلا وَضَعَ النَّفْسَ الرَّفِيعَةِ كَالْكُفْرِ(1/567)
(فَصْلٌ) : وَصْفُ المؤمنِ التَّقِي لِلإِمَامِ عَلَيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
الْمُتَّقُونَ هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمْ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمْ الاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمْ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَّفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسهم مِنْهُمْ في البَلاءِ كَمَا نَزَلَتْ في الرَّخَاءِ وَلَوْلا الأَجَلُ الذي كَتَبَ اللهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقًا إِلى الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ في أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنْعِمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورَهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةٌ طَوِيلَةٌ وَتِجَارَةٌ مُرِيحَةٌ يَسّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ.
آخر:
لَعَمْرِي مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةً ... وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ الذَّخَائِرِ
آخر:
وَمَا رَفَعَ النَّفْسَ الْحَقِيرَةَ كَالتَّقُىَ ... وَلا وَضَعَ النَّفْسَ النَّفِيسَة كَالْكُفْرِ
أَرَادَتْهُمْ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرتْهُمْ فَفَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِين لأَجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً يُحْزِنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَائِهِمْ.
فَإِذَا مَرُّوا بِآيةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعًا وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقًا وَظَنُّوا أَنَّهَا نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَئِيرَ جَهَنَّم وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِم فَهُم حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهم مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِم وَأَكُفِّهِم وَرُكَبِهِم وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِم يَطْلُبُونَ إِلى اللهِ تَعَالى في فَكَاكِ رِقَابِهم وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارُ أَتْقِيَاءُ.
قَدْ بَرَاهم الْخَوفٌ بَرْيَ القِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا(1/568)
بالقَوْمِ مِن مَرَضٍ وَيَقُولُ قَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُم أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهم القَلِيلَ وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الكَثِيرَ فَهُمْ لأَنْفُسِهِم مُتَّهَمُونَ وَمِن أَعْمَالِهِم مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِيَ أَحَدُهُم خَافَ مِمَّا يُقَالُ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِي أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِم أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً في دِينٍ وَحَزْمًا في لِيْنٍ وَإِيمَانًا فِي يَقِينٍ وَحَرْصًا في عِلْمٍ، وَعِلْمًا في حِلْمٍ وَقَصْدًا في غِنَى وَخُشُوعًا في عِبَادَةٍ وَتَحَمُّلاً في فَاقَةٍ وَصَبْرًا في شِدَّةٍ وَطَلبًا في حَلالٍ وَنَشَاطًا في هُدَى وَتَحَرُّجًا عن طَمَعٍ.
شِعْرًا:
وَإِذا بَحَثتُ عَنِ التَقِيِّ وَجَدتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَولَهُ بِفِعالِه
وَإِذا اِتَّقى اللَهَ اِمرُؤٌ وَأَطاعَهُ ... فَيَدَاهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعالِي
وَعَلى التَقِيِّ إِذا تَرَسَّخَ في التُقى ... تاجانِ تاجُ سَكينَةٍ وَجَمَالِ
وَإِذَا تَنَاسَبَتِ الرِّجَالُ فَمَا أَرَى ... نَسَبًا يَكُونُ كََصَالِحِ الأَعْمَالِ
آخر: ... تَجَمَّل بالتَّقَى إِنْ رُمْتَ عِزًا ... فَتَقْوَى اللهِ أَشْرَفُ ما اقْتَنَيْتَا
وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ... لِتَسْعَدَ في الْمَعَادٍ إِذَا أَتَيْتَا
آخر: ... تَزَوَّدْ وَمَا زَادَ اللَّبِيبِ سَوَى التَّقْوَى ... عَسَاكَ عَلَى الْهَوْلِ العَظِيم بِهَا تَقْوَى
فَمَنْ لَمْ يُعَمِّرْ بالتُّقَى جَدَثًا لَهُ ... فَمَنْزِلُهُ فِي خُلْدِهِ مَنْزِلٌ أَوْهَى
آخر: ... وَمَا لِبَسَ الإنْسَانُ أَبْهَى مِنْ التُّقَى ... وَإِنْ هُوَ غَالَى فِي حِسَانِ الْمَلابِسِ
آخر: ... يَقُولُونَ لي هَلْ للمكَارِمِ وَالعَلى ... قِوَامٌ فَفِيهِ لَوْ عَلِمْتَ دَوَامُهَا
فَقُلْتُ لَهُمْ وَالصَّدْقُ خُلْقٌ أَلِفْتُهُ ... عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَهِيَ قَوَامُهَا
(فَصْلٌ)
التَّقَيُّ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ وَهُوَ عَلَى وَجْلٍ يُمْسِي وَهْمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِرًا وَيُصْبِحُ فَرِحًا، حَذِرًا لِمَا حَذِرَ مِن الغَفْلَةِ(1/569)
وَفَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْ الفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِنْ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ، لَمْ يُعْطِهَا سُؤلَهَا فِيمَا تُحِبُّ.
قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُولُ، وَزَهَادَتُه فِيمَا لا يَبْقَى، يَمْزِجُ الْحِلْم بالعِلْم، وَالقَولَ بالعَمَلَ، تَرَاهُ قَرِيبًا أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعًا قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُه، مَنْزُورًا أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزًا دِينُهُ، مَيَّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُومًا غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُ مِنْهُ مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مِنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيدًا فُحْشَهُ، لِينًا قَوْلُهُ، غَائِبًا مُنْكَرُهُ، حَاضِرًا مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِرًا شَرُّهُ، في الزَّلازِلِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بالْحَقِّ قََبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لا يُضَيّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلا يَنْسَى مَا ذُكِرَ، وَلا يُنَابِزْ بِالأَلْقَابِ، وَلا يُضَارَّ بِالْجَارِ، وَلا يَشْمُتُ بِالْمُصَابِ، وَلا يَدْخُلُ في البَاطِلِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ الْحَقِّ.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمُّه صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحَكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هَوْ الذي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ.
شِعْرًا:
لا خَيْرَ فِيمَنْ لا يُرَاقِبُ رَبَّهُ ... عِنْدَ الْهَوَى وَيُحَاذِرُ النِّسْيَانَا
إِنَّ الذِي يَبْغِي الْهَوَى وَيُريدُهُ ... كَمُواخِي شَيْطَانُهُ شَيْطَانَا
حَجَبَ التُّقَى بَابَ الْهَوَى فَأَخ التُّقَى ... عَفُّ الْخَلِيقَةِ زَائِدٌ إِيْمَانَا
آخر:
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ أَسْنَى الفَضَائِل ... تُعَدُ مِنْ القَومَ الكِرَام الأَمَاثِلِ
فَمَا الْمَرءُ إلا بالتُّقَى يَرْتَقِي إِلى ... سَنَامِ الْمَعَالِي فِي مَقَامِ الأَفَاضِلِ(1/570)
آخر: ... الْعِلْمُ وَالتَّقْوَى وَطَاعَة رَبّنَا ... تَكْسُ الرِّجَال مَهَابَةً وَجَلالا
وَهيَ الطَّرِيقُ لِمَنْ أَرَادَ السَّلامَة ... وَهِيَ السَّلاحُ لِمَنْ أَرَادَ جِدَالا
بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ وَنَزَاهَةً، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُه بِكبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.
قَالَ: فَصَعَقَ هَمَّامُ صَعْقَةً كَانْتَ نَفْسُهُ فِيهَا. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَمَّا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا تَصْنَهُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ لِكِلِّ أَجَلٍ وَقْتًا لا يَعْدُوهُ وَسَبَبًا لا يَتَجَاوَزُه. أ. هـ.
شِعْرًا:
عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ لا تَتْرُكُونَهَا ... فَإِنَّ التُّقَى أَقْوَى وَأَوْلَى وَأَعْدَلُ
لِبَاسُ التُّقَى خَيْرُ الْمَلابس كُلِّهَا ... وَأَبْهَى لِبَاسًا في الوُجُودِ وَأَجْمَلُ
فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وَأَهْدَى سَبِيلَها ... بِهَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ مَا كَانَ يَعْمَلُ
فَيَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ بادِر إلى التُّقَى ... وَسَارِعْ إلى الْخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ
وَأَكْثِرْ مِن التَّقْوَى لِتَحْمِدَ غِبَّهَا ... بِدَارِ الْجَزَاء دَارٍ بِهَا سَوْفَ تَنْزِلُ
وَقَدِّمْ لِمَا تَقْدَمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ... غَدًا سَوْفَ تُجْزَى بالذِي سَوْفَ تَفْعَلُ
وَأَحْسِنْ وَلا تُهْمِلْ إِذَا كُنْتُ قَادِرًا ... فَأَنْتَ عَنْ الدُّنْيَا قَرِيبًا سَتَرْحَلُ
وَأَدِّ فُرُوضَ الدِّينِ وَأتْقِنْ أَدَاءَهَا ... كَوَامِلَ في أَوْقَاتِهَا وَالتَّنفل
وَسَارِعْ إِلى الْخَيْرَاتِ لا تَهْمِلنَّهَا ... فَإِنَّكَ إِنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ
وَلَكِنْ سَتُجْزَى بالذي أَنْتَ عَامِلٌ ... وَعَنْ مَا مَضَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَتُسْأَلُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا فَرَبُّكَ ظَامِنٌ ... لِرِزْقِ البَرَايَا ظَامِنٌ مُتَكَفِلُ
وَدُنْيَاكَ فَاعْبُرْهَا وَأخْرَاكَ زِدْ لَهَا ... عَمَارًا وَإِيثَارًا إِذَا كُنْتَ تَعْقِلُ
فَمَنْ آثرَ الدُّنْيَا جَهُولٌ وَمَنْ يَبِعْ ... لأُخْرَاهُ بِالدُّنْيَا أَضَلُّ وَأَجْهَلُ
وَلَذَّاتُهَا وَالْجَاهُ وَالعِزُ وَالغِنَى ... بَأَضْدَادِهَا عَمَّا قَلِيلٍ تَبَدَّلُ(1/571)
فمَنْ عَاشَ في الدُّنْيَا وَأَطَالَ عُمْرُهُ ... فَلا بُدَّ عَنْهَا رَاغِمًا سَوْفَ يُنْقَلُ
وَيَنْزِلُ دَارًا لا أَنِيسَ لَهُ بِهَا ... لِكُلِ الوَرَى مِنْهُمْ مَعَادٌ وَمَوْئِلُ
وَيَبْقَى رَهِينًا بالترابِ بِمَا جَنَى ... إلى بَعْثِهِ مِنْ أَرْضِهِ حِينَ يَنْسِلُ
يُهَالُ بَأَهْوَالٍ يَشِيبُ بِبِعْضِهَا ... وَلا هَوْلَ إلا بَعْدَهُ الْهَوْلَ أَهْوَلُ
وَفِي البَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَشْرُ صَحَائِفِ ... وَمِيزَانُ قِسْطٍ طَائِشٍ أَوْ مُثَقَّلُ
وَحَشْرٌ يَشِيبٌ الطفْلُ مِنْهُ لِهَوْلِهِ ... وَمِنْهُ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتُ تَزَلْزَلُ
وَنَارٌ تَلَظَّى في لَظَاهَا سَلاسِلٌ ... يُغَلُّ بِهَا الفُجَارُ ثُمَّ يُسَلْسَلُ
شَرَابُ ذَوِي الإِجْرَامِ فِيهَا حَمِيمُهَا ... وَزقُومُهَا مَطْعُومُهُمْ حَيْنَ يُؤَكَلُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِثْلُهُ ... مِنْ الْمُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ وَيَشْعَلُ
يَزِيدُ هَوْانًا مِنْ هَوَاهَا وَلا يَزَلْ ... إِلى قَعْرِهَا يَهْوِي دَوَامًا وَيَنْزِلُ
وَفِي نَارِهِ يَبْقَى دَوَامًا مُعَذَّبًا ... يَصِيحُ ثُبُورًا وَيْحَهُ يَتَوَلْوَلُ
عَلَيْهَا صِرَاطٌ مَدْحَضٌ وَمَزَلَّةٌ ... عَلَيْهِ البَرَايَا فِي القِيَامَةِ تُحْمَلُ
وَفِيهِ كَلالِيبٌ تَعَلَّقُ بالوَرَى ... فَهَذَا نَجَا مِنْهَا وَهَذَا مُخْرَدَلُ
فَلا مُذِيبٌ يَفْدِيهِ مَا يَفْتَدِي بِهِ ... وَإِنْ يَعْتَذِرْ يَوْمًا فَلا الْعُذْرُ يُقْبَلُ
فَهَذَا جَزَاءُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى الرَّدَى ... وَهَذَا الذِي يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْصُلُ
أَعُوذُ بِرَبِّي مِن لَظَى وَعَذَابِهَا ... وَمِنْ حَالِ مَنْ يَهْوي بِهَا يَتَجَلْجَلُ
وَمَنِ حَالِ مَنْ فِي زَمْهَرِيرٍ مُعَذَّبٍ ... وَمِن كَانَ في الأَغْلالِ فِيهَا مُكَبَّلُ
وَجَنَّاتُ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ ... لِقَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى دَوَامًا تَبَتَّلُ
بِهَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوسُ وَتَشْتَهِي ... وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرَحَّلُ
مَلابِسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَسُنْدُسٌ ... وَإِسْتَبْرَقٌ لا يَعْتَرِيهِ التَّحَلُّلُ
وَمَأْكُولُهم مِنْ كُلِّ مَا يَشْتَهُونَهُ ... وَمِنْ سَلْسَبِيلٍ شُرْبُهُم يَتَسَلْسَلُ
وَأَزْوَاجُهُم حُورٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ ... عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَشْكَلُ
يُطَافُ عَلَيْهِم بِالذِي يَشْتَهُونَهُ ... إِذَا أَكَلُوا نَوْعًا بآخَرَ بُدِّلُوا(1/572)
فَوَاكِهُهَا تَدْنُوا إلى مَنْ يُريدُهَا ... وَسُكَّانِهَا مَهْمَا تَمَنُّوهُ يَحْصُلُ
وَأَنْهَارِهَا الأَلْبَانِ تَجْرِي وَأَعْسَلٌ ... تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الإِرَادَةِ يَسْهُلُ
بِهَا كُلَّ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ كُلَّهَا ... وَخَمْرٌ وَمَاءٌ سَلْسَبِيلٌ مُعَسَّلُ
يُقَالُ لَهُمْ طِبْتُمْ سَلِمْتُمْ مِن الأَذَى ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِالسَّلامَةِ فَادْخُلُوا
بَأَسْبَابِ تَقْوَى اللهِ والعَمَلِ الذِي ... يُحِبُّ إلى جَنَّاتِ عَدْنٍ تَوَصَّلُوا
إِذَا كَانَ هَذَا وَالذِي قَبْلَهُ الْجَزَاء ... فَحَقٌّ عَلَى العَيْنَيْنِ بِالدَّمْعِ تُهْمِلُ
وَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ بِاللهِ مُؤْمِنًا ... يُقَدِّمْ لَهُ خَيْرًا وَلا يَتَعَلَّلُ
وَأَنْ يَأْخُذَ الإِنْسَانُ زَادًا التُّقَى ... وَلا يَسْأَمِ التَّقْوَى وَلا يَتَمَلْمَلُ
وَإِنَّ أَمَامَ النَّاسِ حَشْرٌ وَمَوْقِفٌ ... وَيَوْمٌ طَوِيلٌ أَلْفُ عَامٍ وَأَطْوَلُ
يَا لَكَ من يَوْمٍ عَلَى كُلَّ مُبْطِلٍ ... فَضِيعٍ وَأَهْوَالُ القِيَامَةِ تُعْضِلُ
تَكُونُ به الأَطْوَادُ كَالعِهْنِ أَوْ تَكُنْ ... كَثِيبًا مَهِيلاً أَهْيلاً يَتَهَلْهَلُ
بِهِ مِلَّةُ الإِسْلامِ تُقْبَلُ وَحْدَهَا ... وَلا غَيْرَهَا مِنْ أَي فَيَبْطُلُ
بِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسُ مَاذَا عَبَدْتُمُوا ... وَمَاذَا أَجَبْتُم مَن دَعَا وَهُوَ مُرْسَلُ
حِسَابُ الذي يَنْقَادُ عَرْضٌ مُخَفَّفٌ ... وَمَن لَيْسَ مُنْقَادًا حِسَابٌ مُثَقَّلُ
وَمِنْ قَبْلِ ذَاكَ الْمَوْتُ يَأْتِيكَ بَغْتَةً ... وَهَيْهَاتَ لا تَدْرِي مَتَى الْمَوْتُ يَنْزِلُ
كُؤُسُ الْمَنَايَا سَوْفَ يَشْرَبُهَا الوَرَى ... عَلَى الرَّغْمِ شُبَّانٌ وَشِيبٌ وَأَكْهُلُ
حَنَانَيْكَ بَادِرْهَا بِخَيْرٍ فَإِنَّمَا ... عَلَى الآلةِ الْحَدْبَا سَرِيعًا سَتُحْمَلُ
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَيْقَنْتَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَا ... وَبِالْبَعْثِ عَمَّا بَعْدَهُ تَغْفُلُ
أَيَصْلُحُ إِيمَانُ الْمَعَادِ لِمُنْصِفٍ ... وَيَنْسَى مَقَامَ الْحَشْرِ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنْ التُّقَى ... ابن لِي ابن يَوْمَ الْجَزَا كَيْفَ تَفْعَلُ
أَتَرْضَى بأَنْ تَأْتِي القِيَامَةَ مُفْلِسًا ... عَلَى ظَهْرِكَ الأَوْزَارُ بِالْحَشْرِ تَجْمِلُ
إِلَهِي لَكَ الفَضْلُ الذي عَمَّمَ الوَرَى ... وَجُودٌ عَلَى كُلِ الْخَلِقْيَةِ مُسْبَلُ
وَغَيْرُكَ لَوْ يَمْلِكْ خَزَائِنَكَ التِي ... تَزِيدُ مَعَ الإِنْفَاقِ لا بُدَّ يَبْخَلُ(1/573)
.. وَإِنِّي بِكَ اللَّهُمَّ رَبِّي لَوَاثِقٌ ... وَمَا لِي بِبَابٍ غَيْرِ بَابِكَ مَدْخَلُ
وَإِنِّي اللَّهُمَّ لَكَ بِالدِّينِ مُخْلِصًا ... وَهَمِّي وَحَاجَاتِي بِجُودِكَ أُنْزِلُ
أُعوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِن سُوءِ صُنْعِنَا ... وَأَسْأَلُكَ التَّثْبِيتَ أُخْرَى وَأَوَّلُ
إِلَهِي فَثَبِّتْنِي عَلَى دِينكَ الذِي ... رَضِيتَ بِهِ دِينًا وَإِيَّاهُ تَقْبَلُ
وَهَبْ لِي مِنْ الفِرْدَوْسِ قَصْرًا مُشَيَّدًا ... وَمُنَّ بِخَيْرَاتٍ بِهَا أَتَعَجَّلُ
وَللهِ حَمْدٌ دَائِمٌ بِدَاوَمِهِ ... مَدَى الدَّهْرِ لا يَفْنَى وَلا الْحَمْدُ يَكْمُلُ
يَزِيدُ على وَزْنِ الْخَلائِقِ كُلِّهَا ... وَأَرْجَحُ مِن وَزْنِ الْجَمِيعِ وَأَثْقَلُ
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ في الْحَمْدِ أَبْتَدِي ... وَأَنْهِي بِحَمْدِ اللهِ قَوْلِي وَأَبْتَدِي
صَلاةً وَتَسْلِيمًا وَأَزْكَى تَحِيَّةً ... تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُرْسِلِينَ وَتَشْمَلُ
وَأَزْكَى صَلاة اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّةِ تَنْزِلُ
آخر: ... مَطَالبُ النَّاسِ في دُنْيَاكَ أَجْنَاسُ ... فَاقْصُدْ فَلا مَطْلَبٌ يَبْقَى وَلا نَاسُ
وَارْضَى القَنَاعَةَ مَالاً وَالتُّقَى حَسَبًا ... فَمَا عَلَى ذِي تُقىً مِنْ دَهْرِه بَاسُ
وَإِنْ عَلَتْكَ رُؤُوْسٌ وَازْدَرَتْكَ فِفِي ... بِطْنِ الثَّرَى يَتَسَاوَى الرِّجْلُ وَالرَّاسُ
آخر: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ واقْتَنَعْ بِرِزْقِهِ ... فَخَيْرُ عِبَادِ اللهِ مِنْ هُوَ قَانِعُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ لَهَا ... فَقَدْ يُهْلِكُ الْمُغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ
وَصَبْرًا عَلَى نَوْبَاتِ مَا نَابَ وَاعْتَرِفُ ... فَمَا يَسْتَوِي حُرٌ صَبُورٌ وَجَازِعُ
أَعَاذلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ بِالنَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالعَ
آخر:
للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوا اللهِ خَالِقَهُمْ ... فَآمَنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أَمُرُوا
وَالوَجْدُ وَالشَّوقُ وَالأَفْكَارُ قُوتُهُمُوا ... وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالإِدْلاجَ في البُكَرِ
وَبَادِرُوا لِرِضَا مَوْلاهُمُوا وَسَعَوْا ... قَصْدَ السَّبِيل إِليهِ سَعْيَ مُؤْثمِرِ
وَشَمَّرُوا وَاسْتَعَدُّوا وِفْقَ مَا طُلِبُوا ... وَاسْتَغْرُقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِ
وَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ ... عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ(1/574)
.. جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا ... فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِ
لَهُمْ مِنَ اللهِ مَالا شَيْءَ يَعْدِلُهُ ... سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالفَوْزُ بِالنَّظَرِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكَ وَأَرْشِدْنَا إِلى السَّعْيِ فِيمَا يُرْضِيكَ، وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قال اللهُ تَباركَ وتعالى وَتَقَدَّس: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} .
قال بعض أهل العلم: في هذه الآية فوائد منها: أنَّ أصْل أَمْرِ المتَّقِين السَّلامَةُ وَإِنْ عَرِضَ طَيْفٌ بَعْضِ الأَحْيَان.
ومنها: إذَا مَسَّهم والْمَسَّ مُلامَسَة مِن غيرِ تمكُنٍ كالكفار فإن الشيطان يَتَجَرَّد عليهم ويَخْتَلس مِن قُلُوب المتَّقِينِ المؤمنين حِينَ تَنَامُ العُقُولُ الْحَارِسَةِ لِلْقُلُوب.
فإذا اسْتَيْقَظُوا انْبَعَثَ مِن قلوبهم جُيُوشُ الاسْتِغْفَار والذلَةِ إلى اللهِ تعالى والافتقار فاْسَترجَعُوا مِن الشيطان ما اختلسَهُ وأخذوا منه ما افَترِسَه.
ومنها: أَنَّهُ أشارَ بالطيف إلى أَنَّهُ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يأتي القلوبَ الدائمة الْمُسْتَيْقِظَةِ إنما يأتِي القُلُوبَ في حِينَ منامِها يَرْجُو غَفْلَتَهَا ومن لا نوم لَهُ فَلا طَيف يَردُ عليه.
ومنها: أنَّ الطَيْفِ الذي في مَنَامِكَ فإذا اسْتَيْقَظْتَ فلا وُجُودَ لَهُ.
ومنها: أَنَّهُ قال: تَذَكَّرُوا ولم يَقلْ ذَكَرُوا إِشَارَةً إِلى أَنَّ الغَفْلَةَ لا يَطْرُدُهَا الذكر مِن غَفْلَةِ القلب إِنَّمَا يَطْرُدُهَا التذكر والاعتبار لأَنَّ الذكر مَيْدَانُه اللسان والتذكر مَيْدَانُه القلب.(1/575)
ومنها أنه قال: تذكروا فحذف مُتَعَلَّقِةِ ولم يَقُلْ تذكَّرُوا الجنةَ والنار والعقوبة لأن التذكر الماحي لِطَيف الْهَوى مِن قلوب المتقين على حساب مَرَاتِبِ المتقين.
وَمَرْتَبَة التَّقوى يَدْخُلُ فيها الرسُل والأنبياء والصِّديقُونَ والأولياء والصالحون والمسلمون فتقوى كل أحد على حسب مقامه.
لذلك يَذْكَرُ كُلُ واحِدٍ على حَسَب مَقَامِهِ فلو ذكر قِسْمًا مِن أَقْسَام التَّذَكْرِ لم يدخُلْ فيه إلا أَهْلُ ذَلِكَ القِسْم.
شِعْرًا:
أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا التَّقْوَى لَهُ أُسُسٌ ... وَطَاعَةُ الله في سِرٍ وَإِعْلانِ
وَالعَدْلُ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ كُلِّهمُوا ... لا فَرْقَ بَيْنَ شَرِيفٍ مِنْهُمْ أَوْ أَنِي
ومنها: قولُه سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} كَأَنَّهُ لم يَذْكُر أَعْلَى ذَلِكَ مِنَّا مِنْه سُبْحَانَه عليهم كَأَنَّهُم لَمَّا اسْتَيْقَظُوا ذَهَبَتْ سَحَابَةُ الغَفْلَةِ فأَشْرَقَتْ شمسُ البَصِيرَةِ.
ومنها التَّوْسِيعُ عَلَى المتقين لأنه لو قال إنَّ الذِينَ اتَّقَوْا لا يَمَسُّهُم طَيْفٌ من الشيطان خَرَجَ كل أَحَدٍ إِلا أَهْل العِصْمَةِ فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَسِّعَ دَائَرَة رَحْمَتِهِ. انتهى.
ثم اعلم وفقنا اللهُ وَإِيَّاك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أَنَّ التقوى التي أَعَدَّ اللهُ الجنة لأهلها قيلَ: إِنَّهَا امْتثالُ الأوامر واجتنابُ النواهي.
وقيل: هِيَ اتقاءُ الشَّركِ فَمَا دُونَهُ مِنْ ذَنْبٍ مِنْ كُلَّ مَا نَهَى الله عنه واتقاءَ تَضْيِيعِ وَاجِبٍ مِمَّا افْتَرَضَ الله.
وهي وَصِيَّةُ لِلأوَّلين والآخِرِين، قَالَ الله جل وعلا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} .(1/576)
وقال جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} .
وقد روى في الحديث إن المنادي يُنَادِي يوم القيامة: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فَتَرْفَعُ الْخَلائِقُ رؤوْسَهم يَقُولُونَ: نَحْنُ عِبَادُ الله عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يُنَادِي الَّثانية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فَيُنَكِسُ الكُفَّارُ رَؤُوْسَهُمِ، وَيَبْقَى الْمُوَحِدُون رَافِعِي رُؤوسَهُم.
وَيَبْقَى أَهْلُ التَّقْوَى رَافِعِي رُؤُوْسَهُمْ قَدْ أَزَالَ عَنْهُمْ الرِّبُ الكَرِيمُ الْخَوِفَ والْحَزَنَ كَمَا وَعَدَهُمْ وَهُوَ أَصْدَقُ القائِلِينَ وَأَوْفَى الْوَاعِدِين وَأَكْرَمُ الأَكْرَمِين لا يَخْذُلُ وَلِيَّهُ ولا يُسْلِمُهُ عِنْدَ الْهَلَكَة.
شِعْرًا:
لَوْ أَنَّنِي خُيّرتُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ... ما اخْتَرْتُ إِلا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ
كَُلُّ الأُمُورِ تَزُول عَنْكَ وَتَنْقَضِي ... إلا التُّقَى وَفَضَائِلُ الإيمَانِ
آخر:
حَقُّ التُّقَى وَإِنْ لَمْ يُدْنِهِ نَسَبٌ ... فَرَضٌ عَلى كُلِّ مَنْ لِلدِّينَ يَنْتَسِبُ
(مَوْعِظَةٌ) : عِبَادَ اللهِ لَقَدْ ضَاعَتْ أَعْمَارِنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، والْمُدَاهَنَةِ، وَالانْهِمَاكِ في الدُّنْيَا، إِلى أَنْ اسْتَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ مُضَافًا إِلى النَّهَارِ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ إِلا لِهَذِهِ الأَعْمَالِ، أَفَلا نَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَحْفَظُ أَلْسِنَتِنَا عَنْ نَهْشِ أَعْرَاضِ الغَوَافِلِ، وَالطَّعْنِ فِي الأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ، وَنَصْرِفَ جُلَّ الأَوْقَاتِ، إِلى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، التِي هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رِبِّنَا ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدا، وَنَذْكُرَ مَوْلانَا الذِي فَضْلُهُ عَلَيْنَا مِدْرَارٌ، فَإِنَّ الذِّكْرَ عَاقِبَتُهُ الْجَنَّةُ دَارُ الكَرَامَةِ وَالْقَرَارِ، مَعَ رِضَى رَبِّنَا الذِي دُونُهُ كُلُّ ثَوَابٍ، تَاللهِ لَوْ عَرَفْتُم قِيمَةِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ لَبَادَرْتُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهَا كُلَّ البِدَارِ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ تَذْكُرُ الله أَفْضَلِ مِمَّنْ يُفَرِّقُ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ وَسَائِرَ الأَمْوَالِ(1/577)
وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُجَاهِدَ العَدُو فَيَضْرِبَ عُنُقَكَ، أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَكُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ الأَبْرَارِ، كَيْفَ لا وَالذِّكْرُ خَيْرِ الأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَأَرْفَعَهَا لِلدَّرَجَاتِ عِنْدَ مَوْلانَا الوَّهَّابُ حَسْبُ الذَّاكِرِ أَنْ تَحُفَّهُ الْمَلائِكَةُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحماتُ، وَمَنْ في الوُجُودِ مِثْلُ الذَّاكِرُ، وَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِهِ للهِ بَارِي الكَائِنَاتِ، وَمَنْ مِثْلُهُ في الدُّنْيَا وَهُوَ بالذِّكْرِ في حِصْنٍ يَحْفَظَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسَهِ الفَاتِنَاتِ، وَمَنْزِلَةُ الذَّاكر بَيْنَ الغَافِلِينَ كَمَنْزِلَةِ الْحَيّ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ، ذِكْرُ الله يُنِيرُ القلبَ، وَيُوقِظَهُ وَيُحْييهِ وَيُزِيلُ رَانَهُ وَيَهْدِيهِ إِلى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
شِعْرًا:
مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُوا الْقُرْآنَ دَوَامَهُ ... يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنْ الأَحْكَامِ
آخر:
يَا لَيْتَ أَلْفُ لِسَانٍ أَسْتَعِينُ بِهَا ... عَلَى قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَتَهْلِيلِ
بِسْمُ الله الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
خَاتِمَةٌ، وَصِيَّةٌ، نَصِيحَةْ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبَّهُ الله وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الاعْتِنَاءُ بِهِ حِفْظًا وَعَمَلاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وَكَلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَفَّقَهُ الله تعالى أَنْ يَحُثَّ أَوْلادَه عَلَى حِفْظ القُرآن وما تَيَسَّرَ مِن أَحَادِيث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الْمُتَّفَق على صحَّتِها عنه كَالبُخَارِي وَمُسْلِم.
وَمِنْ الفقه مُخْتصرَ المقنِع لِيَيسَّرَ لَهُ اسْتِخْرَاجُ المسائل وَيَجْعَلُ لأَوْلادِهِ مَا يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
فَمَثلاً يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ القُرآنَ على صَدْرِهِ حِفْظًا صَحِيحًا عَشَرَةَ آلافِ أَوْ أَزْيَد أَوْ أَقَلْ حَسَبَ حَالِهِ في الغِنَى.(1/578)
ومِن الأحَادِيث عُقُودَ اللُؤلؤ والمرجَان فيما اتفق عَلَيْهِ الإِمَامَان البُخَارِي ومسلم، يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظٌ ذَلِكَ سِتَّة آلاف.
فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ حِفْظِهَا فالعُمدة في الحديث يَجْعَلُ لِمَنْ حَفِظَها ثلاثة آلاف، أَوْ الأربعين النَّوَوِيَّةِ وَيَجْعَل لمن يَحْفَظْهَا أَلْفًا.
وَيَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ مُخْتَصَرَ المقنع في الفقه أَلْفَيْن مِن الرَّيَالاتِ فالغَيْبُ سَبَبٌ لِحِفِظِ المسائل وَسَبَبٌ لِسُرعَةِ اسْتِخْرَاج ما أُرِيدَ مَن ذَلِكَ وَمَا أَشْكَلَ مَعْنَاه أَوْ يُدَخِّلُهُم في مَدَارِسِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ فَمَدَارِسُ تَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَيِ مَدَارِسُ التَّعْلِيم العَالي الْمُمْتَازِ البَاقِي النَّافِعِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَوْ يُدْخلهم في حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ القُرْآن الكرِيم الموجودة في الْمَسَاجِد.
شِعْرًا:
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائقِ مِنْ مُرْبٍّ ... كَعِلْمٍ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأَوَالِي ... لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ
فَمَنْ وَفَّقَهُ الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أَوْلادُهُ بِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنْ الله وَسَببًا لِبِرِّهِم بِهِ وَدُعَائِهِم لَهُ إِذَا ذَكَرُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ سَببًا مُبَارَكًا يَعْملُ بِهِ أَوْلادُهُ مَعَ أولادهم فَيزيدُ الأَجْرُ لَهُ وَلَهم. نَسَأْل اللهُ أَنْ يُوَفِّق الْجَمِيع لِحُسْنِ النَّيَة.
(فَائِدَةٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الأَوْلادَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الذَّكَاءَ وَعُلوِّا الْهِمَّةِ فيُعْطَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلَتَه، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتَياراتِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ الصِّبْيَانَ يَجْتِمَعُونَ لِلَّعِبِ فَيَقُولُ عَالِي الْهِمَّةِ: مَنْ يَكُونُ مَعِي؟ وَيَقُولُ: قَاصِر الْهِمَّةِ: مَنْ أَنَا مَعَهْ؟
شِعْرًا:
الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَالَهُ اسْتَمَعَتْ ... أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ
الْعِلْمُ غَايَتُه القُصْوَى وَرُتْبَتُهُ ... الْعُلْيَاءُ فَاسْعَوا إِلَيْهِ يَا ذَوِيْ الْهِمَمِ
لَلْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالَبُهُ ... للهِ أَكْرَمُ مَن يَمْشِي عَلَى قَدَمِ(1/579)
الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ ... أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَالُ في الظُلَمِ
الْعِلْمُ أَعْلَى حَيَاةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا ... أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَمْوَاتٌ بَجَهْلِهم
الْعِلْمُ وَاللهِ مَيراثُ النُّبُوةِ لا ... مِيراثَ يُشْبِهُهُ طَوْبَى لِمُتْسَمِ
لأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍ دَائِمٍ أَبَدًا ... وَمَا سَوَاهُ إِلى الإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ
الْعِلْمُ مِيزَانُ شَرْعُ اللهِ حَيْثُ بِهِ ... قِوَامُهُ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَمْ يَقُمِ
وَسُلْطَةُ الْعِلْمِ تَنْقَادُ الْقُلُوبُ لَهَا ... إلى الْهُدَى وَإلى مَرْضَاةِ رَبِهِم
وَيَذْهَبُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ العِـ ... ـلْمُ الذِي فِيهِ مَنْجَاةٌ لِمُعْتَصِمِ
الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبِهِ ... أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِينَ مِن لمَمِ
كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ في لِجَجٍ ... مَنْ البِحَارِ لَهُ فِي الضَّوءِ وَالظُّلَمِ
وخارجَ في طِلابَ العِلْمِ مُحْتَسِبًا ... مُجَاهدٌ في سَبِيلِ اللهِ أَيَّ كَمِي
وأَنَّ أَجْنِحَةَ الأَمْلاكِ تَبْسُطُها ... لِطَالِبِيهِ رَضِىً مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمْ
وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْعِلْمِ يُسْلِكُهُمْ ... إِلى الْجِنَانِ طَرِيقًا بَارِئَ النَّسَمِ
وَالسَّامِعُ الْعِلْمَ وَالوَاعِي لِيَحْفَظهُ ... مُؤْذِيا نَاشِرًا إِيَّاهُ في الأُمَمِ
فَيَا نَضَارَتَهُ إِذَا كَانَ مُتصفًا ... بِذَا بِدَعْوَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ كُلِّهْمُ
كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ رُفِعُوا ... مِنْ أَجْلِهِ دَرَجَاتٍ فَوْقَ غَيْرِهِمُ
وَكَانَ فَضْلِ أَهْلِ أَبِينَا في القَدِيمِ عَلَى ... الأَمْلاكِ بالْعِلْمِ مِنْ تَعْلِيمِ رَبِهمُ
كَذَالِكَ يُوسُفُ لَمْ تَظْهَرْ فَضِيلَتُهُ ... لِلْعَالِمِينَ بِغَيْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكم
وَقَدَّمَ الْمُصْطَفَى بِالْعِلْمِ حَامِلَهُ ... أَعْظَمْ بِذَلِكَ تَقْدِيمًا لِذِي قَدم
كَفَاهُمُوا أَنْ غَدَوْا لِلْوَجى أَوْعِيَةُ ... وَاضْحَتِ الآي مِنْهُ فِي صُدُورِهِم
وَأَنْ غَدَوْا وُكلاءٌ في القِيَامِ بِهِ ... قَوْلاً وَفِعْلاً وَتَعْلِيمًا لِغَيْرِهِم
وَخَصَّهُم رَبُّنَا قَصْرًا بِخَشْيَتِهِ ... وَعَقْلِ أَمْثَالِهِ فِي أَصْدَقِ الْكَلِمِ
وَمَعْ شَهَادَتِهِ جَاءَتْ شَهَادَتُهُمْ ... حَيْثُ اسْتَجَابُوا وَأَهْلُ الْجَهْلِ فِي صَمَمِ
وَالعَالِمُونَ عَلَى العُبَّادِ فَضْلِهِمُ ... كَالْبَدْرِ فَضْلاً عَلَى الدُّرِي فَاغْتَنِمِ(1/580)
.. وَبَالْمِهُمِّ الْمُهِمِّ ابْدَأْ لِتَدْرِكَهُ ... وَقَدِّمِ النَّصَ عَلَى الآرَاءِ فَافْتَهِمِ
قَدِّمْ وُجُوبًا عُلُومَ الدِّينِ إِنْ رِهَا ... يَبْيِنُ نَهْجُ الْهُدَى مِنْ مُوجِبِ النَّقْمِ
وَكُلُّ كَسْرِ الفَتَى فَالدِّينُ جَابُرهُ ... وَالْكَسْرُ في الدِّينِ صَعْبٌ غَيْرُ مُلْتَئِمِ
مَا الْعِلْمِ إلا كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ ... يَجْلُوا بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُنْبِهِمِ
مَا ثَمَّ عِلْمٌ سِوَى الوَحْيِ الْمُبِينِ وَمَا ... مِنْهُ اسْتُمِدَّ إِلا طُوبَى لِمُغْتَنِمِ
وَالكَتْمُ لِلِعِلْمِ فَاحْذَرْ إِنَّ كَاتِمَهُ ... فِي لَعْنَةِ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهُمِ
وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ في الْمَعَادِ لَهُ ... مِنْ الْجَحِيمِ لِجَامًا لَيْسَ كَاللُّجُمِ
وَكَاتِمُ العِلْمِ عَمَّنْ لَيْسَ يَحْمِلُهُ ... مَاذَا بِكِتْمَانْ بِلا صَوْنٌ فَلا تُلمِ
وَإِنَّمَا الْكَتْمُ مَنْعُ العِلْمِ طَالِبُهُ ... مِن مُسْتَحِقٍ لَهُ فَافْهَمْ ولا تَهِمِ
وَاتْبِعِ الْعِلْمِ بِالأَعْمَالِ وَادْعُ إِلى ... سَبِيلِ رَبَّكَ بِالتِّبْيَانِ وَالْحِكَمِ
وَأَصْبَره عَلَى لاحِقٍ مِنْ فِتْنَةٍ وَأَذَى ... فِيهِ وَفِي الرُّسْلِ ذِكْرَى فَاقْتَدِهْ بِهِم
لِوَاحَدٌ بِكَ يَهْدِيهِ الإِلِهُ لِذا ... خَيْرٌ غَدًا لَكَ مِن حُمْرٍ مِن النَّعَمِ
وَاسْلُكْ سَواءَ الصَّراطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا ... تَعْدلْ وَقُلْ رَبِّي الرَّحْمَنُ وَاسْتِقمِ
يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً ... فَقد ظِفْرت وربِّ اللوحِ والقلمِ
وَقَدِّسِ الْعِلْمَ وَاعْرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِهِ ... في القَوالِ وَالفِعل والآدابِ فالتَزمِ
وَاجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوي لا انِثنَاءَ لَهُ ... لَوْ يَعَلْمَ ُالمرءُ قَدْرَ الْعِلْمِ لَمْ يَنَمِ
وَالنُّصْحَ فابْذِلْهُ لِلطُّلابِ مُحْتَسِبًا ... فِي السِّرِ وَالْجَهْرِ وَالأَسْتَاذَ فَاحْتَرِمِ
ومَرْحَبًا قُلْ لِمَنْ يَأْتِيكَ يَطْلُبِهُ ... وَفِيهِمْ احْفَظْ وَصَايَا الْمُصْطَفَى بِهِم
وَالنِّيَةُ اجْعَلْ لِوَجْه اللهِ خَالِصَةٌ ... إِنْ البِنَاءُ بِدُونِ الأَصْلِ لَمْ يَقُمِ
وَمَنْ يَكُنْ لِيَقُولُ الناسُ يَطْلُبِهُ ... أَخْسِرْ بِصَفُقُتِهِ فِي مَوْقِفِ النَّدَمِ
وَمَنْ بِهِ يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ مِن حَظ ولا قِسمِ
إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مماراتِ السَّفِيهِ بِهِ ... كَذَا مُبَاهَاتٍ أَهْلِ العِلْمِ لا ترم
فَإِنْ أَبْغَضَ كُلِّ الْخُلْقِ أَجْمَعُهُمْ ... إِلى الإِلهِ أَلَدَّ النَّاسِ في الْخِصَمِ(1/581)
.. وَالعُجْبَ فَاحْذَرْهُ إِنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ ... أَعْمَالَ صَاحِبِهِ فِي سُيْلِهِ العَرِمِ
آخر:
ضَيَّعْتَ عُمْرِكَ يَا مَغْرُورُ في غَفَلِ ... قُمْ لِلتَّلاقِي فَأَنْتَ اليَوْمَ فِي مَهَلِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِمَّا فَاتَ مِنْ زَمَنٍ ... وانْدُبْ بِتَوْبَة عَلَى أَيَّامِكَ الأُولِ
بَادِرْ إِلى صَالِحِ الأَعْمَالِ مُجْتَهِدًا ... فَالنُّجْعُ فِي الْجِدِّ وَالحِرْمَانُ فِي الكَسَلِ
كُنْ لا محالةَ في الدُّنْيَا كَمُغْتَرِب ... عَلَى رَحِيلِ دَنَى أَوْ عَابِرِ السُّبُلِ
دَارُ الْخُلُودِ مَقَامًا دَارُ آخِرَةٍ ... إِنَّ الإقَامةَ في الدُّنْيَا إِلى أَجَلِ
وَكُلُّ مِن حَلَّ في الدُّنْيَا فَمُرْتَحِلٌ ... يَوْمًا لِمَنْزِلَةٍ في إثْرِ مُرْتَحِلِ
هَلا اعْتَبَرْتُ فَكَمْ حَلُّوا وكَمْ رَحَلُوا ... وَإِنَّما النَّاسُ في حِلٍّ وَمُرْتَحِلِ
إِذَا تَجَهَّمَ أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ ... لَمْ يُغْنِ عَنْكَ اقْتِنَاءُ الْمَللِ وَالْحُلَلِ
يَقُومُ عَنْكَ الأطِبَّاءِ وَالصِّدِيقُ إِذًا ... وَقَدْ طَوَوْا صُحُفَ التَّدْبِيرِ وَالْخُيَلِ
فَيُدْرِجُونَكَ في الأَكْفَانِ مُنْتَزِعًا ... عَنْكَ الثِّيَابُ مِنْ الأَبْرَادِ وَالْحُلَلِ
وَيُودِِعُونَكَ تَحْتَ الأَرْضِ مُنْفَرِدًا ... وَيَتْركُونَكَ مَحْجُوبًا مِنْ الْمُقَلِ
وَقَائِلٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ... وَقَائِلٌ مِنْهُمُ قَدْ كَانَ خَيْرُ وُلِي
فَبَعْدَ ذَلِكَ لا يَدْرُونَ مَا فَقَدُوا ... وَهَمُّهُمْ في اقْتِسَامِ الإِرْثِ بِالْجَدَلِ
وَبَعضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ مُخَاصَمَةٍ ... وَإِنَّهُمْ بَيْنَ مَنْصُورٍ وَمُنْخَذِلِ
وَيَأْخُذُونَ قَرِيبًا فِي مَعَايِشِهِمْ ... لا يَذْكُرونَكَ في خِلْوٍ وَمُحْتَفَلِ
يَا أَيُّهَا الغِرُّ لا تَغْرُرْكَ صُحْبَتُهُمْ ... خَيْرُ الْمَصَاحِبِ عِنْدي صَالِحُ العَمَلِ
فِيمَ التَّغَافُلُ وَالأَيَّامُ دَائِرَةٌ ... فِيمَ التَّكَاسُلْ وَالأَحْوَالُ في حِوَلِ
فِيمَ العَوِيلُ لَدَى دَارٍ خَلَتْ وَعَفَتْ ... فِيمَ البُكَاءُ عَلَى الآثَارِ وَالطُّلَل
وَفِيمَ التَّصَابِي وَأَيَّامُ الصِبَا غَبَرَتْ ... فِيمَ النَّسِيبُ وَلا إِبَانُ لِلْغَزَلِ
فَكَيْفَ تَلْعَبُ وَالْخَمْسُونَ قَدْ كَمُلَتْ ... وَكَيْفَ تَلْهُو وَنَارُ الشَّيْبِ في شُعَلِ
دَعْ ذِكْرَ لَيْلَى وَلُبْنَة وَازْدِيَادِهِمَا ... ثُم ارتَحِالهما من هَذِهِ الْحُلَلِ(1/582)
.. تِلْكَ الْعَوَانِي وَإِنْ أَخْلَصْنَ خُلَّتَها ... وَاللهِ لَسْنَ بَرِيئَاتٍ مِنْ الدَّخَلِ
طحُبُّ الأَحِبَّةِ حُرْمَانٌ وَمَنْدَمَةٌ ... فَالْغُولُ عَاقَبَةٌٌ لِلشَّارِبِ الثَّمِلِ
يَا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمًا أَبَدًا ... عَلَى نَبِيِّكَ طه سَيّدِ الرُّسُلِ
(فَصْلٌ)
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه وتحسينه، فإن العبد قد يُصَلي وهو يَعْصِي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يَعْصِي الله في صيامه.
وقيل لآخر: كيفَ أَصْبَحْتَ؟ فبكى، وقال: أصبحتُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةِ عن الموت مَعَ ذُنُوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجلٌ يسرع كل يوم في عمري، ومَوْئِلِ لستُ أدري علامَا أهجم، ثم بكى.
وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيء يَضُرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيءٍ لا يَسُركَ غدًا، وأنفعُ الخوف ما حَجَزَكَ عن المعاصي، وأطال الْحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتك من الطاعة، وَأَلْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقِيةِ عُمرك.
وقال الآخر: عليك بصحبة من تُذَكِّرُك الله عز وجل رُؤيَتُه، وتقع هَيْبَتُه على باطنك، ويزيُدُ في عَملك مَنْطِقُه، ويُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا عَمله، ولا تعصي الله ما دُمْتَ في قُربه، يَعِظكَ بِلِسَانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسَانِ قَوْلِهِ.
قال إِسرافيل: حضرتُ ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دَخل الشُرطي بطعام له، فقام ذُو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام) .
فقيل له: إن أخاك جَاءَ به فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، قال: وسمعتُ رجلاً سأله ما الذي أتعبَ العبادَ وأضْعَفَهُم؟
فقال: ذكر المقام، وقلةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانُ العمال وتذهلُ عُقولُهم، والعرضُ على الله جل وعلا أمامَهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبار يَنْتَظِرونَ أَمْرَهُ في الأخبار والأشرار، ثم مَثَّلوا هذا في نفوسهم وَجَعَلُوه نُصْبَ أَعْيُنِهِم.(1/583)
وقال: سَقَمُ الجسد في الأوجاع وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: مَن لم يعرف قدر النعم، سُلِبَهَا مِن حَيثُُ لا يعلم.
ما خلع الله على عبد خلعة أحسنَ ولا أشرفَ مِن العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينه بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُونَ مِن الله في سَوادِ الليل مِن طُول الْهَجْعَةِ، إِنَّمَا هو على الجنب فإذا تَحَرَّك قال لنفسه: لَيْسَ لك قومي خُذِي حَظَّكِ مِن الآخِرَةِ.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وَسَمَ الدنيا بالوحشة، ليكن أنْسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُونَ له بالإعراض عنها، وأهْلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، إلى الآخرة مُشْتَاقُون.
ونظر أبو هاشم إلى شريك القَاضي يَخْرجُ مِن دَارِ يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بالله من عِلْمٍ لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ، فقال: دَعُونَا من كلامكم، رَأَيْتُ الْجَنَّةَ رضا نَفْسِي، وركعتين أصليهما رضا رَبي، ورضاء ربي أَحَبُّ إِليَّ مِن رضا نفْسِي، تأمل يا أخي دقَّةَ هذا الفهم لله دره.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حَرون، فإذا قادَ القائدُ ولن يَسُقِ السَّائِقُ لم يُغن ذلك شيئًا.
وإذا سَاقَ السائقُ ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القَائِدُ وساقَ السائقُ اتَّبَعَتْهُ النفسُ طوعًا وكرهًا وطابَ العملَ.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نَفْسُ بادري بالأوقاتِ قبل انصرامها، واجتهدِ في حراسة لَيَالي الحياة وأيامها، فكأنكِ بالقبور قد تشَقَّقَتْ وبالأمور وقد تَحَقَّقَت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، يا نفس أما الوَرعُونَ فقد(1/584)
جَدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قال ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الصراطُ المستقيمُ، تَرَكَنَا مُحمدٌ في أَدْنَاهُ وَطَرَفُه في الْجَنَّةِ، وعن يمينه جَوَادٌ وثَمّ رجالٌ يدعونَ مَنَ مَرَّ بِهم، فمَن أخذَ في تلك الْجَوادِ انتهتْ به إلى النار، ومَن أخذ على الصِّراطِ انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} خرجه ابن جرير وغيره.
فالطريقُ الموصلُ إلى الله واحدٌ، وهو صراطهُ المستقيمُ، وبقيةُ السُّبُلِ كُلَّها سُبُل الشيطانِ، مَن سَلَكَها قَطَعَتْ بِهِ عن الله، وأوصَلَتْهُ دَارَ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِه، فربما سَلكَ الإنسانُ في أولِ أمرِهِ على الصراطِ المستقيم ثم يَنْحَرِفُ عَنه آخِرَ عُمُرِه فيسلكُ سُبُلَ الشيطانِ فيقطعُ عن الله فَيَهلكُ.
«إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهل الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينهَا إلا ذراعٌ أَوْ باعٌ فيعمُل بعملِ أَهل النار فَيَدخلُ النَّارَ» . وربما سلكَ بالرجل أولاً بعض سُبُلِ الشيطَان ثم تُدركُه السعادةُ فيسلكُ الصراطَ المستقيمَ في آخر عُمُرِهِ فيصلُ به إلى الله.(1/585)
والشأنُ كُلَّ الشأنِ في الاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ مِن أول السير إلى الله {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ، {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . ما أكثرَ مَن يَرْجِعُ أثناءَ الطريق وَيَنْقَطِعُ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} .
شِعْرًا:
خَلِيلِيَّ قُطَّاعٌ الطَّرِيقِ إِلى الْحِمَا ... كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيلُ
وفي الحديث الصحيح الإلهي (القدسي) يقول الله عز وجل: (مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة) .
وفي المسند زيادة: (والله أعلا وأجل، والله أعلا وأجل) . وفيه أيضًا يقول الله: (ابنَ آدمَ قُمْ إِليَّ وَامْش إِليَّ أَهُرْوِلْ إِلَيْكَ) .
(فَصْلٌ)
وقال رحمه الله: الوصولُ إلى الله نَوعان: أحَدُهما: في الدنيا، والثاني: في الآخِرَةِ. فأما الوصولُ الدنيويُ فالمَرادُ به: أن القلوبَ تصلِ إلى مَعْرفَتِهِ، فإذا عَرَفَتْهُ أحبته، وأنِسَتْ به فوجَدْتُه منها قريبًا وَلِدُعَائِها مُجيبًا، كَما في بعض الآثار: (ابنَ آدمَ اطلبني تجدني فإن وجَدتني وجدتُ كُلَّ شيءٍ، وإن فِتُكَ فَاتكَ كُلّ شيءٍ) .
الصراطُ المستقيمُ في الدنيا يشتملُ على ثلاثِ درجاتٍ: درجةِ الإسلامِ، ودرجةِ الإيمان، ودرجةِ الإحسان. فمن سَلَكَ دَرَجَةَ الإِسلامِ إلى أن يَمُوتَ عليها مَنَّعتْهُ مِن الخلودِ في النارِ، ولم يَكُنْ له بُدُّ مِن دُخُولِ الجنة، وإن أصابَهُ قبلَ ذلكَ مَا أَصَابَهُ.(1/586)
ومَن سَلَكَ على دَرَجَةِ الإيمانِ إلى أن يموتَ عليها مَنَعْتهُ مِن دخولِ النارِ بالكليةِ فإن الإيمانِ يُطْفِئُ لَهَبَ نارِ جهنم حتى تقولَ: يا مُؤْمَنُ جُزْ فَقَدْ أطفأ نُورُكَ لَهَبِي.
وفي المسند عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «لا يَبْقى بَرٌ ولا فاجِرٌ إلا دَخَلها فتكونُ على المؤمنِ بَرْدًا وَسَلامًا كَمَا كانَتْ على إبراهيم، حَتَّى إن لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِن بَرْدِهِم، هذَا مِيرَاثٌ وَرِثَه المحبون مِن حَالِ أبِيهم إبراهيم عليه السلام» .
ومَن سلك على درجة إحسان إلى أن يموت عليها وَصِلَ بعدَ الموتِ إلى الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وفي الحديث الصحيح: ((إذَا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادَى: يا أهل الجنةِ إن لكم عند الله مَوعدًا يُريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ.
فيقولون ما هو: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟) . فوالله ما أعطاهُم الله شيئًا أَحَبَّ إليهم ولا أقرّ لأعينهم من النظر إليه)) ، وهو الزيادةُ ثم تلا: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
كُلُّ أهلِ الجنةِ يَشْتَرِكُونَ في الرُّوَايةِ ولكن يَتَفَاوتُون في القُربِ في حال الرؤيةِ. عُمُومُ أهلِ الجنةِ يَرَوْنَ رَبَّهم يومَ المزيدِ وهو يوم الجمعة، وخواصُهم يَنْظُرونَ إلى وجه الله في كُلَّ يَوْمٍ مَرتَين بكرةً وعَشِيًا. العارفونَ لا يُسَلِّيهِم عن مَحْبُوبِهم قَصْرٌ ولا يُرْويهمِ دونَه نَهْرٌ.
شِعْرًا:
وَيَرونَهُ سُبحانَهُ مِن فَوقِهم ... نَظَر العِيانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ
هذا تَواتَر عن رسولِ اللهِ لم ... يُنْكِرهُ إلا فَاسِدُ الإيمانِ
وأتى به القُرآنُ تَصْرِيحًا وَتَعْـ ... ـريضًا هُمَا بِسِياقِهِ نَوْعانِ
وَهِيَ الزيادةُ قَدْ أَتَتْ في يُونُسٍ ... تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جاءَ بالقرآن
وهو المزِيدُ كذاكَ فَسِّرِهُ أبو ... بَكرٍ هو الصديقُ ذُو الإيمان(1/587)
وعليه أصحابُ الرسول تَتَابَعُوا ... هم بعدهم تَبِعِيّةَ الإحسان
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «أن أَدنَى أَهلِ الجنةِ مَنزلةً لَيَنْظُرُ في مُلْكه أَلفَي سنة يَرى أقصاه كما يرى أدناه، يَنْظرُ إلى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنْ أفضَلهُم مَنزلةً لمن يَنْظُرْ إلى وجْهِ الله تباركَ وَتَعالى كُلَّ يَومٍ مَرَّتين» . وخرجه الترمذي ولفظه: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ ونَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ» .
وأكرمُهم على الله من ينظرُ إلى وَجْههِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا ثم قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ولهذا المعنى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح حديث جرير بن عَبْدِ اللهِ البَجَلي: «إنكم سَتَرونَ رَبَّكُم يومَ القيامة كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِه» ، قال: «فإن اسْتَطَعْتُم أَن لا تُغْلِبُوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وَصَلاةٍ قَبْل غُروبِها فَافْعَلُوا» ، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
ولما كان هذانِ الوَقْتَانِ في الجنة وقتان للرؤية في خواصِ أهلِ الجنةِ، خَصَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين في الدنيا فَمَنْ حَافَظَ على هاتين الصلاتين في الدنيا في هذين الوقت وصلاهُما على أكمل وُجُوهِمَا وخُشُوعِهِمَا وَحُضُورِهما وأدَبِهِما فإنه يُرْجَى له أن يكونَ مِمَّن يَرَى الله في هذين الوقتين في الجنة، لاسيما إن حافظ بعدَهُما على الذكر وأنواعِ العِبادات حتى تطلعَ الشمسُ أو تغربَ.
فإنَ وَصَلَ العبدُ ذَلِكَ بدُلجةِ آخر الليلِ فَقَدْ اجتمعَ له السيرُ في الأوقات الثلاثة وهي: الدُلْجَةُ، والغَدوةُ، والرَّوْحَةُ، فيوشكُ أن يَعْقِبَه الصِدقُ في هذا(1/588)
السيرِ الوصول الأعظم إلى ما يطلبه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
مَن لَزِمَ الصِّدق في طلبهِ أداهُ الصِّدْقُ إلى مَقْعَدِ الصِّدْق {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} .
المحبُ لا يَقْطَعُ السؤالَ عَمَّنْ يُحِبُّ وَيَتَحَسَّس الأخبارَ وينْسِمُ الرِّيَاحَ وَيَسْتَدِلُ بآثار السلوكِ على الطريق إلى محبوبه.
لقد كَبُرتْ هِمَّةٌ الله مَطلوبُهَا وشرفَتْ نفسٌ الله مَحْبُوبُها {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
شِعْرًا:
ما للمحبِ سوى إرادة حِبه ... إنّ المحبَّ بكُلِ بَرٍ يُصْرَعُ
قيمةُ كلِ امرئٍ ما يَطْلُبُ فَمَن كَانَ يَطْلُبُ الله فلا قِيمَةَ له من طَلَبَ الله فَهُو أَجَلّ مَنْ أن يُقَوَّمَ، ومن طَلَب غَيْرَهُ فهو أخَسُّ مِن أن يكونَ لهُ قِيمَة.
قال الشبلي: مَن ركن إلى الدُّنْيَا أحْرَقَتْهُ بِنَارِهَا فصارَ رمادًا تَذْرُوهُ الرياحُ، ومَن ركن إلى الآخرِة أحرقته بنورِها فصار سبيكةَ ذهبٍ ينتفعُ به، ومَن ركن إلى الله أحرقه نُورُ التوحيد فصارَ جَوْهَرًا لا قيمة لَهُ.
واللهُ أَعْلَم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تَشْتَدُ على الخائفين من العارفين فإنها تَقْتَضِي أن من العباد مَن يَبْدُو له عندَ لِقَاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه مُعْرِضًا غير مُلتفتٍ إليه ولا يَحْتِسِبُ له ولهذا قال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لو أن لِي مُلْكَ الأرض لافتديتُ به مِن هَوْلِ المطلعِ.(1/589)
وفي الحديث: «لا تمنوا الموتَ فإن هولَ المطلعِ شديد، وإن مِن سعادةِ المرءِ أن يطَولَ عُمره ويَرزقه الله الإنابة» .
وقال بعضُ حكماء السلف: كم مَوقِفِ خِزيٍ يومَ القيامةِ لم يَخْطُر على بالك قط. ونظير هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} .
واشتملَ على ما هو أعم مِن ذلك وهو أن يكون له أعمالٌ يرجو بها الخيرَ فتصيرُ هباءً منثورًا وتبدلُ سيئات وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} .
وقال الفضيلُ في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقَرِيبٌ من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنبًا يَحْتَقِرُهُ وَيَسْتَهوِنُ به فيكون هو سَبَبَ هلاكِهِ. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
وقال بعضُ الصحابةِ: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدقُ مِن الشعر، كنا نعهدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات، وأصعبُ مِن هذا من زُيّنَ له سوءُ عمله فرآه حسنًا. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
قال ابن عيينة: لَمَّا حَضَرَتْ مُحمدَ بنَ المنكدر الوفاةُ جَزِعَ فَدَعُوا له أبا حازم فجاءَ فقال له: ابن المنكدر: إن الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدوَ لي من الله ما أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعًا. خرجه ابن أبي حاتم، وزاد ابن أبي الدنيا. فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته فأخبرهم بما قال.(1/590)
وقال الفضيلُ بنُ عياض: أُخبِرتُ عن سليمان التيمي أنه قِيلَ له: أنتَ أنت ومن مثلك؟ فقال: مه لا تقولوا هذا لا أدري ما يَبْدُو لي من الله. سمعتُ الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويلٌ لأَهْلِ الرياء من هذه الآية، وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أولُ من تَسُعّرُ بهم النار، العالم، والمتصدق، والمجاهد. وكذلك من عَمِل أعمالاً صالحةً وكانت عليه مظالمِ فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسمُ الغرماءُ أعماله كلّها ثم يفضلُ لهم فضلٌ فيطرحُ من سيئَاتهم عليه ثم يطرح في النار.
وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكرُ النعم فتقوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كلها وتبقى بقيةٌ فيطالب بشكرها فيعذب. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن نوقش الحساب عذب أو هلك» . وقد يكون له سيئات تحبط بعضَ أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار.
وفي سنن ابن ماجة من رواية ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَجِيءُ بَأَعْمَالٍ أَمْثَال الجِبَالْ فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا» . وَفِيهِ: «وَهُمِ قَومٌ مِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ وَلَكِّنَهُمْ قَومٌ إِذَا خَلُوا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهكُوهَا» .
وَخَرَّجَ يَعْقُوبُ بنُ أبي شُعْبَةِ، وابنُ أبي الدُّنْيَا في حَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلى أبي حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «ليَجاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَأَقْوَامٍ مَعَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ مِثْلُ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إِذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ هَبَاءً ثُمَّ أَكَبَّهُمْ في النَّارِ» .
قال سَالِمٌ: خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَأْخُذُونَ هُنَيْهةً من اللَّيْلِ، ولَعَلَّهُم كَانُوا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ سِرًّا حَرَامًا أَخَذُوهُ فَأَدْحَضَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ» . وَقَدْ يُحْبِطُ العَمَلُ بآفِةٍ مِنْ رِيَاءٍ خَفِيٍّ أَوْ عُجْبٍ بِهِ ونحوِ ذَلِكَ ولا يَشْعُرُ بهِ صَاحِبُه.(1/591)
قال ضَيْغَمُ العابِدُ: إن لم تأتِ الآخرةُ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هَمُّ الدُّنْيَا، وشَقَاءُ الآخِرَة. فقيل له: كيفَ لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعبُ في دار الدنيا ويدَأب؟ قال: كيف بالقَبُول، كيف بالسلامة.
ثم قال: كم مِن رجل يَرى أنه قد أصلحَ عَمَلَهُ يُجمَعُ ذلك كلّه يومَ القيامة ثم يضربُ به وَجْهَهُ ومِن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون مِن هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
وقال ابنُ عَون: لا تثق بكثرةِ العملِ، فإنك لا تَدْرِي يُقْبَلُ منكَ أم لا؟ ولا تأمن ذُنوبَك فإنك لا تَدري هَلْ كفّرتْ عنكَ أم لا؟ لأن عَمَلَكَ عنكَ مُغَيَّب كُلُه لا تَدْرِي ما الذي صَانِع به. وبكَى النَّخعي عندَ الموتِ وقال: أنتظرُ رَسُولَ رَبي ما أدري أيُبَشِّرُني بالجنة أو النار.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: دعا رجل فقال: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أصحاب السُّنَن.
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذْ(1/592)
دَعَى وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سُبْحَانكَ إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له» . رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سُفيان قال: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن دَعَا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال: «قد اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ» . رواه الترمذي.
اللَّهُمَّ اجعلنا مُكْثِرينَ لِذِكرِك مُؤدِّينَ لِحَقِّك حافظين لأمرك راجين لِوَعْدِكَ راضين في جميع حالاتنا عَنك، راغبين في كُلِّ أمُورنا إليك مُؤمِّلِينَ لِفَضْلِك شاكرين لِنِعَمِك، يا مَن يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعفُ عنا، وأحْسنْ إلينا، فإنكَ بالذي أنت له أهلٌ من عَفوك أحق منا بالذي نحن له أهل مِن عُقُوبتك.
اللَّهُمَّ ثَبّتْ رَجَاءَكَ في قلوبنا، واقطعه عَمَّنْ سِوَاك، حتى لا نَرْجُو غيرَكَ ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك، واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللَّهُمَّ اغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجَمِّلْنَا بالعافية.
اللَّهُمَّ افتح مَسَامِعَ قلوبنا لِذِكرك وارزُقْنا طاعتك وطاعةَ رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسنة رسولك.
اللَّهُمَّ إنا نسألك الهدى، والتُّقَى والعَافِيَةَ وَالغِنَى، ونعوذ بكَ مِن دَرَكِ(1/593)
الشقَاءِ ومن جهْدِ البَلاء ومن سُوءِ القَضَاء ومن شَمَاتَةِ الأعداء.
اللَّهُمَّ لك الْحَمْدُ كُلَّه، ولك الملك كُلَّه، وبِيدِكَ الخير كلّه، وإليك يَرْجِعُ الأمر كله عَلانِيتُه وسرِهُ، أهلُ الحمدِ والثناءِ أَنْتَ، لا إله إلا أنت سُبحانك إنك على كل شيء قدير.
اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع ما سَلَف منا مِن الذنوب، واعْصِمْنَا فيما بَقى مِن أعمارنا، ووفقنا لِعَمَل صَالِحٍ تَرضَى به عنا.
اللَّهُمَّ يا سامعِ كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا مَن لا تشتَبهُ عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضحِ البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنت الغفور الرحيم.
اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لنا به، واجعلنا مِمَّنْ يُؤمِنُ بِلِقَائِك، ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك، ويخشاكَ حَقَّ خَشْيَتِك.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدَا، ولا تشمِتْ بِنَا أحَدَا.
اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يَفْنَى، هب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه.
اللَّهُمَّ إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذَا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تَعْنُوا له الوجُوه وتخشع له الأصوات، وفقنا لصالح الأعمال واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.(1/594)
اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تَهْدِي بها قُلُوبَنَا، وَتَجْمِعُ بها شَمْلَنَا، وتَلمُ بها شَعْثَنَا، وترفع بها شاهدنا، وتَحفَظُ بها غَائِبنًا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا دِينَنَا وصحةَ أبداننا.
اللَّهُمَّ يا هادِي المضلين ويا راحم المذنبين، وَمُقِيل عثراتِ العاثرين، نسألك أن تُلْحِقْنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأَرْأفَ الرائفين وأكرمَ الأكرمين.
اللَّهُمَّ اعْتِقْنَا مِن رِقِّ الذُّنُوب وَخَلِّصْنَا مِن أَشَرِّ النُّفُوسْ، وَأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ، وَطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذنوب، وباعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَطَايَا وأجرْنا من الشيطان الرجيم.
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهِّلْنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وألحقنَا بالصالحين.
اللَّهُمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكْ، وتِلاوَةِ كِتَابِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكَ المَنْصُورين، وارْزُقْنَا مُرافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم مِن النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين.
اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئ الأجْسَادِ بَعْدَ البلى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إليه، يا كافي المُتَوَكِّلينَ عليه، انقطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَت الظُّنُون إلا فِيكْ، وضَعُفَ الاعْتِمَاد إلا عَلَيْكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُمْطِرَ مَحْل قُلُوبِنَا مِن سَحَائِبِ بِرِّكْ وإحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِموجِبَاتِ رحمتك وعَزَائِم مغفرتك إنكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.(1/595)
اللَّهُمَّ إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الأَعْظَمَ الأَعَزَّ الأَجَلَّ الأَكْرمِ الذي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بهِ أَعْطَيْتَ.
ونَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ أَكْرَمَ الوُجُوه، يا من عَنَتْ لَهُ الوجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ.
يا حيُّ يَا قَيُّومُ، يا مَالكَ الملكِ، يَا مَنْ هُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمِ لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثْ، ومِن عَذَابِكَ نَسْتَجِير.
اللَّهُمَّ اجعلنا نَخْشَاكَ حَتَّى كَأَننا نَرَاك وَأسعِدْنَا بِتَقْوَاك، ولا تُشْقِنَا بِمِعْصِيَتك.
اللَّهُمَّ إِنك تسمعُ كلامَنَا، وترى مَكاننا، وَتَعْلم سِرِّنَا وَعَلانِيتَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شيءٌ من أمرنا نحن البؤساءُ الفُقراءُ إليك، المُسْتَغِيثُون الْمُسْتَجِيرُونَ الوجلُونَ المشفقُونَ المعترفُون بِذُنُوبنا، نَسْأَلُك مَسألةَ المسكين، وَنَبْتَهلُ إليك ابْتِهَالَ الْمُذْنبِ الذَّليِل ِ، وَنَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِف الضرير.
اللَّهُمَّ يا مَن خَضَعَتْ لَهُ رقَابنَا، وفاضَتْ لَهُ عبَارَاتُنَا، وَذَلَّت له أَجْسَامُنَا، وَرَغِمَتْ له أُنُوفُنَا، لا تَجْعَلْنَا بِدُعَائِكَ أَشْقِيَاء، وكن بنا رؤوفًا يا خَير المَسْؤُلِين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكْ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ التوفيق لِمَا تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وَحُسْنَ الظَّنْ بِكَ يَا رَبَّ العَالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عِبَادِكَ الْمُخْبِتِينَ، الغُرِّ الْمُحَجَّلِين الوَفْدِ الْمُتَقَبلِين.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، وَنَفْسًا تَقِيَّةً، وَعِيشَةٍ نَقِيَّةً، وَمَيَّتَةً سَويَّةً، وَمَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي وَلا فاضح.(1/596)
اللَّهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
(اللَّهُمَّ مَالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تَشَاء وتُعِز مَن تشاء وتُذِلُ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيرُ إِنّكَ على كل شيءٍ قدير) .
يا وَدُودُ يَا ذَا العرش المجيد يا مُبْدِئُ يَا مُعِيدِ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدِ نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عَرشك وبقُدرتك التي قدرت بها على جميع خلقكَ وبرحمتك التي وسِعَت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنَا وَسَيئاتِنَا وَأَنْ تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوفٌ رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عبد العزيز بن محمد بن سلمان
شِعْرًا:
تَزَوَّجَت البَطَالةُ بالتَّوانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَع غُلامَهْ
فَأَمَّا الابْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا البِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَةْ
آخر:
أُقِلِّبُ كُتُبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَالْيَدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنْضَّدَا
وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى
وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَالَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا
آخر: ... نَصِيبكُ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءانِ تُلْوَى فِيمَا وَحُنُوطُ
آخر: ... تَجرّدْ مِنَ الدُّنْيَا فإنّك إنّما ... خَرجْتَ إلى الدُّنيا وأنتَ مُجَرَّدُ
آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَداةَ البَيْن في خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أعوادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وقلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ(1/597)
ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله لا يريد به عرضًا من الدنيا فقد أُذِنَ له وجزى الله خيرًا من طبعه وقفًا أو أعان على طبعته أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه من المسلمين فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله» الحديث رواه أبو داود، وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له» . الحديث. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الجزء الأول: تَمَّ هَذَا الْجُزْءُ بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَنَسْأَلُ اللهُ الْحَيَّ القَيَّومُ العَلِيُّ العَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الوَاحِد الفَرْدَ الصَّمَدَ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَد أنْ يُعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الكَفَرَةَ والْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ في صلاحه صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَيُهْلِكَ منْ في هَلاكِهِ عز وصلاح للإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَلُمَّ شَعَثِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بَأَيْدِينَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظْنَا وَإِيَّاهم مِن كُلِّ ضُرٍ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثرًا.
عبد العزيز المحمد السلمان
شِعْرًا ... مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُضْعِفَتْ ... حَرَّا عَلَى رُؤوسِ العِبَاد تَفُورُ(1/598)
وَإِذَا الْجِبَالَ تَعَلّقَتْ بِأُصُولِهَا ... فَرَأََيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيرُ
وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاثَرَتْ ... وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُورُ
وَإِذَا الْعِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا ... خَلَتِ الدِّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُورُ
وَإِذَا الْوُحُوشَ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَتْ ... وَتَقُولُ للأَمْلاكِ أَيْنَ نَسِيرُ
فَيُقَالُ سِيرُوا تَشْهَدُونَ فَضَائِحًا ... وَعَجَائِبًا قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُورُ
وَإِذَا الْجَنِينُ بِأُمِّهِ مُتَعَلَّقٌ ... خَوْفَ الْحِسَابِ وَقَلْبُهُ مَذْعُورُ
هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ ... كَيْفَ الْمُقِيمُ عَلَى الذُّنُوبِ دُهُورُ
وَخِتَامًا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ اللَّبِيبِ أَنْ لا يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَرَاغَ وَقْتِهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لا يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِهِ وَيَجْعَلَ العَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِهِ. فَلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدًّا وَلا مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكًا.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وَصِيَّةٌ مُفِيدَةٌ جدًا.
مَنْ عَلِم قُرْبَ الرَّحِيل اسْتَكْثَر من كَلِمةِ الإِخْلاص لا إله إلا اللهُ، وَقِرَاءة القُرْآن، والاسْتِغْفَار، والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، ولا إِله إلا اللهُ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ قَدْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَة، لأَنَّهُ قَدْ قَارَبَ سَاحِلَ الأَجَلْ بِعُلُوّ سِنِّه، وكذالَكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ اللَّحَظَاتِ، وَيَنْتَظَرَ الْهَاجِمَ بِمَا يَصْلَحُ لَهُ فَقَدْ كَانَ في قَوْسِ الأَجَلَ مَنْزَع زَمَانِ الشَّبَاب، واسْتَرْخَى الوَتَرُ بِالمشيب عن سِيَّةِ القوس، فانْحَدَرَ القَلْب، وَضَعُفَتِ القُوَى أن يُوتِر، وَمَا بقي إلا الاسْتِسْلامُ لِمُحَارِبِ التَّلَف، فالبِدَارَ البِدَارَ إلى التَّنْظُف، وَلِيَكُون القُدُوم عَلى طَهَارِةَ، فَوَا أَسَفًا لِمهُدَّدَ بِالْمَوْتِ في كل لحظة كيْفَ يَغْفُلُ وَيَهْمِِلِ وَكَيْفَ يَطِيبُ عَيْشُهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/599)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الثاني(2/1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالِم فَقَالُوا: إِنَا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثِرُوا، فَإِنَّ النَّهَارَ لَنْ يَرْجِعَ وَالْعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، وَالطَّالِبَ حَثِيثٌ فِي طَلَبِهِ. قَالُوا: فَأَوْصِنَا. قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أَبْلَغَ الْبُغْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَخَلّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الْفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَحَابِ، والتَّوَانِي مِنْ أَخْلاقَ الْكُسَالَى وَالْخَوَالِفِ، وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْزِ عَثَرَ بِهِ. وَتَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخُسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ
فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَة
آخر: ... يَا سَاكَنَ الدُّنْيَا تَأَهْبْ ... وَانْتَظِرْ يَوْمَ الْفُرَاقِ
وَأَعَدَّ زَادًا لِلرَحِيلِ ... فَسَوْفَ يُحْدَى بِالرِّفَاقِ
وَابْكِ الذُّنُوبَ بِأَدْمُعٍْ ... تَنْهَلْ مِنْ سَحب الْمَآقِ
يَا مَنْ أَضَاعَ زَمَانَهُ ... أَرَضِيتَ مَا يَفْنَى بِبَاقٍ
آخر: ... أُقَلِّبُ كَُتْبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فِيهَا الْعَيْن وَالْعَيْن وَالْيَدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَسَمَّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فَيهَا مُنَضَّدَا
واحْذَرْ جهدي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مهِين وَأََنْ يُغتالها غائل الردى
واعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يقلبها غَدًا
الْمُرَاقَبَةُ فِي ثَلاثَةِ أَشْيَاءٍ: مُرَاقَبَةُ اللهِ فِي طَاعَته بِالْعَمَل الَّذِي يُرْضِيه، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَعْصِيةِ بِتَرْكِهَا، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ فِي الْهَمِّ وَالْخَوَاطِرِ وَالسِّرّ وَالإِعْلانِ. قَالَ تَعَالَى:
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» .(2/2)
(1)
الليْل والنَّهَارَ يَعْمَلانِ فِيكَ فَاعْمِلْ فِيهِمِا أِعْمَالاً صَالِحَة تَرْبَحُ وَتُحْمَدُ الْعَاقِبَة الْحَمِيدَة إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
شِعْرًا: ... وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمرك فَاغْتَنِمْهُ ... وَلا تَذْهَبْ بِشَطْرِ الْعُمُرِ نَوْمًا
آخر: ... يُحْيِي الليَالِي إِذَا الْْمَغْرُور أَغْفَلَهَا ... كَانَ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجلُ
(2)
الْمَلائِكَة يَكْتُبَان مَا تَلْفِظُ بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِق إِلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوْم الْقِيامَةِ. أَشْرَفُ الأَشْيَاءِ قَلْبُكَ، وَوَقْتُكَ، فَإَذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيْعَتَ وَقْتَكَ فَمَاذَا يَبْقَى مَعَكَ كُلُّ الْفَوَائِدِ ذَهَبَتْ، وَقْتُ الإِنْسِانَ هُوَ عُمُرهُ وَمَادَة حَيَاتِهِ الأَبَدِيّة فِي النَّعِيم الْمُقِيمِ وَمَادَة الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ وَهُوَ يَمُر مَرَّ السَّحَاب.
(3)
اعْلَمْ أَنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيم وَحِصْن الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتَ وَحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجْأَة الْمَوْت وأَخْذ الإِنْسَان عَلَى غِرّة وَغَفْلَة وَهُوَ فِي غُرُورٍ وَفُتُورٍ عَنْ الْعَمَل لِلآخِرَةِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا إَِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٍ، اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم.
شِعْرًا: ... إِذَا شَامَ الْفَتَى بَرْقَ المْعَالِي ... فَأَهْوَن فَائِتٍ طِيبُ الرُّقَادِ
آخر: ... وَبَادِر الليل بِدَرْسِ الْعُلُوم ... فِإِنَّمَا الليل نَهَارُ الأَرِيب(2/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
شعرًا: قَالَ بَعْضُهُمْ:
بَلَوْتُ الطِّيبَاتِ فَلَمْ أَجِدْهَا ... تَفِي ِبِالْعُشْرِ مِنْ طِيبِ الْعُلُومِ
وَنَادَمْتُ الْصِحَابَ وَنَادَمُونِي ... فَمَا بِالْكُتَبِ عِنْدِي مِنْ نَدِيمٍ
وَلَمْ أَرَى فِي كُنُوزِ النَّاس ذُخْرًا ... كَمِثْلَ مَوَدَةَ الْحُرِّ الْكَرِيمِ
مُلاحَظَة: لا يُسْمَح لأَيِ إِنْسَانٍ أَنْ يَخْتَصَرُهُ أَوْ يَتَعَرَض لَهُ بِمَا يُسَمُونَهُ تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتِصَارَ سَبَبٌ لِتَعْطِيلِ الأَصْلِ. وَالتَّحْقِيقَ أَرَى أَنَّهُ اتِّهَامٌ لِلْمُؤَلِفِ، وَلا يُطْبَعُ إِلا وَقْفًا للهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين.
((فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ النَّفْع لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ))
مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُ لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.
شِعْرًا: ... الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافهَمْ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا
فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهَمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا الْنُهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا
وِتَحْمِدَ اللهَ فِي يَوْمِ الْمِعَادَ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانتَشَرَا
للهِ دَرُ رِجَالٍ عَامِلين بِهِ ... يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا
آخر: ... جَمِيعُ الْكُتُبِ يُدْرِكُ مَنْ قَرَاهَا ... مِلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَه
سِوَى الْقُرْآن فافهم واستمَعْ لي ... وقول المصطفى يَا ذَا الشَّهَامَةِ
آخر: ... صَافي الْكَرِيمَ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتُهُ ... مَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَكَانَ عَفِيفًا(2/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
" فَصْلٌ "
وَمَنْ أَرَادَ طِبَاعَتَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى لا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَجَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ طَبَعَهُ وَقْفًا للهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَى طَبْعِهِ، أَوْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وَتَوْزِيعِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِين، فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُدْخَلُ فِي السَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَة نَفَرٍ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلِهِ» . الْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو داود.
وَوَرَدَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلَهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . الْحَدِيث. رَوَاهُ مُسْلِم.
وَعَنْ زَيْدِ بِنْ خَالِدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ جَهَزَّ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَّفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ أَوَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ سَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَابْنُ خُزَيْمَة.
وَرَوَاهُ الْبَزَارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَس إِلا أَنَّهُ قَالَ: «سبع تجري للعبد بعد موته وَهُوَ فِي قبره: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ كَرَى نَهْرًا أَوْ حفر بِئْرًا أَوْ غَرَسَ نَخْلاً أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرَثَّ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» .
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّوم يَا عَلِيٌّ يَا عَظِيم يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ يَا نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، إِنَّكَ تَفَضَّلْتَ عَلَيْنَا وَأَعْطَيْتَنَا الإِسْلامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلُكَ فَلا تَحْرِمْنَا الْجَنَّة وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ، اللَّهُمَّ صَلى على مُحَمَّدٍ وآله وَصَحْبِهِ وَسَلّم.(2/5)
" فصل " فِي الْوَعْظ وَالإِرْشَاد
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِين لِمَا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ أَنْ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ عَمَلُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِين صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أَجْمَعِين، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ نُوَّابُ عَنِ الأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الأَمْر الْخَطِيرِ فَهُمْ أُمَنَاءُ اللهِ عَلَى شَرْعِهِ وَالْحَافِظُونَ لِدِينِهِ الْقَويِمِ وَالْقَائِمُونَ عَلَى حُدُود اللهِ وَالْعَارِفُونَ بِمَا يَجِبُ للهِ مِنْ كَمَالٍ وَتَنْزِيهٍ.
لِذَلِكَ كَانَ أَئِمَّة الْمُسْلِمِين المْخُلِصُونَ فِي أَعْمَالُهُمْ الصَّادِقُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ الْبَعِيدُونَ عَنْ الرِّيَاءِ وَحَبِّ الشُّهْرَة وَالْمَدْحِ يَسِيرُونَ بِالْخَلْقِ نَحْوَ سَعَادَتِهِمْ بِمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَبِمَا يُرْشِدُونَهُمْ إِلِيْهِ مِنَ التَّحَلِّي بِالْفَضِيلَةِ والتَّخَلِّي عَنْ الرَّذِيلَةِ وَاعْتَقَدَ النَّاسُ فِيهِمْ ذَلِكَ وَأَمّلُوهُمْ لَهُ فَأَحَلُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَحَلاً لَمْ يَبْلُغْهُ سِوَاهُمْ مِنَ الْبَشَرِ حَتَّى اكْتَسَبُوا فِي قُلُوبِهِمْ مَكَانَةً يُغْبَطُونَ عَلَيْهَا وَرَبَحُوا مَنْزِلَةً تَصْبُوا إِلَيْهَا نُفُوسِ ذَوِي الْهِمَّةِ الْعَالِيةِ وَالْفَضْلِ.
وَنَاهِيكَ بِقَوْمِ إِذَا فَعَلُوا لَحَظَتْهُمْ الْعُيُونُ وَإِذَا قَالُوا: أَصْغت الآذَان وَوَعَتِ الْقُلُوب وَحَكَتِ الأَلْسُن فَهُمْ مَطْمَح الأُنْظَار وَمَوْضع الثَّقَةِ والْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ وَالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ، قَالَ الله تَعَالَى ": {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
شِعْرًا: ... مَحَاسِنُ أَصْنَافِ الدُّعَاةِ كَثَيرَةٌ ... وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إِلا لأحمد
آخر: ... لا يُدْرِكُ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِص وَرِع ... كَثَير ذِكْرِ لِخَلاقِ السَّمَاوَات
مُتَابِعٌ لِرَسُول اللهِ دَيْدَنَهُ ... تِلاوَة الذِّكْرِ مَعَ حِفْظٍ لأَوْقَاتٍ
آخر: ... وَأَحْسَنُ مُقْرُونِينَ فِي لَفْظٍ نَاطِقٍ ... ثَنَاء عَلَى رَبِّ الْعِبَادِ وَشُكْرِهِ
الْمَعْنَى لا أَحَد أَحْسَنُ كَلامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً مِمَنْ دَعَا النَّاسَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُلِهِ وَذَلِكَ بِتَعْلِيمِ جَاهِلِيهُمْ وَوَعَظَ غَافِلَهُمْ وَنَصْحِ مُعْرِضْهُمْ وَمُجَادَلَةِ مُبْطِلِهِمْ بِالأَمْر بِعِبَادَةِ اللهِ بِجَمَيعَ أَنْوَاعِهَا وَالْحَثِ عَلَيْهَا وَتَحْسِينِهَا وَتَحْبِيبِهَا(2/6)
مَهْمَا أَمْكَن وَالزَّجْرِ عَمَّا نَهَى اللهُ وَرَسُولِهِ عَنْهُ وَتَقْبِيحِهِ وَالتَّحْذِير مِنْهُ بِكِلِ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقَةٍ تُوجِبُ تَرْكِهِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلا هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ: هَذَا حَبِيبُ اللهِ، هَذَا وَلِيُّ اللهِ، هَذَا صَفْوَةِ اللهِ، هَذَا خَيْرَةُ اللهِ، هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الأَرْضِ إِلَى اللهِ، أَجَابَ اللهَ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَعَمَلٍ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ.
وقَالَ فِي هِدَاية الْمُرْشِدِينَ: إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الدَّاعِيَ الْعِلْمُ بِالْقُرَآنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّظَرِ قَبْل كُلّ شَيْء عَلَى كَوْنِهِ هُدًى وَمَوْعِظَةً وَعِبْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ السُّنَّةِ وَمَا صَحَّ مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَسِيرَتِهِ وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحُ وَبِالْقَدْرِ الْكَافِي مِنْ الأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ التَّشْرِيعِ مَعَ الصِّدْقِ فِي نَشْرِهَا فَإِنَّ مَرْتَبَتِه التَّبْلِيغُ عَنْ اللهِ لَمْ تَكُنْ إِلا لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ مَعَ الصِّدْقِ.
وَالْمُرْشِدُ وَارِثُ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلا يَزِيغُ فِي عَقِيدَتِهِ وَلا يَعْجِرُ عَنْ إِقْنَاعِ النُّفُوسِ الْمُتَطَلِّعَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَكُونُ الإِذْعَانُ لَهُ أَتَمُ وَالْقُبُولِ مِنْهُ أَكْمَلُ.
فَأَمَّا الْجَاهِلَ فَضَالٌّ مُضِلٌّ وَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَمَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ إِذْ لا تَمْيِيزَ لِجَاهِلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ تَرْشُدُ إِلَى إِصْلاحِ الْقُلُوبِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ.
شِعْرًا: ... رَيَاسَاتِ الرَّجَالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... وَلا تَقْوَى الإِلَهِ هِي الْخَسَاسَةِ
آخر: ... وَكُل رِئَاسَةٍ فِي جَنْبِ جَهْل ... أَحَطُ من الْجلوس على الكناسة
وَأَشْرَفُ مَنْزِلٍ وَأَعَزُّ عِزٍّ ... وَخَيْرُ رِيَاسَةٍ تَرْكِ الرِّيَاسَةِ
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصَرِىُّ رَحِمَهُ اللهُ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَفِي الْحِكَمِ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ضَلَّ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِغَيْرِ أَصْلٍ زّلَّ.(2/7)
وَأَمَّا الْكَاذِبُ فَلا خَيْرِ فِيهِ وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ عَلَى اللهِ، لِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَى اللهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَذَاتِه وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ. وقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الدَّاعِيَ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ فَلا يُكَذِّبُ فِعْلَهُ قَوْلُهُ، وَلا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَ بَاطِنَهُ، فَلا يَأْمُرُ بِشَيْء إِلا وَيَكُونُ أَوْلَ عَامِلٍ بِهِ، وَلا يَنْهَى عَنْ شَيْء إِلا وَيَكُون أَوْلُ تَارِكٍ لَهُ، لِيَفِيدَ وَعْظِهِ وَإِرْشَادِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلا يَفْعَلُهُ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ وَهَوَ وَاقِعٌ فِيهِ، فَهُوَ بِحَالِهِ عَقَبَةٌ فِي سَبِيلِ الإِصْلاحِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ فَاقِدُ الرُّشْدِ فِي نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَرْشُدُ غَيْرَهُ.
شِعْرًا: ... الْعِلْمُ فِي شَرْطِهِ لِِمَنْ حَصَّلَهُ ... أَنْ يَحْمِدَ اللهَ وَيَعْمَلَ بِه
آخر: ... يَا آمِرَ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا ... إِنْ رَأَى عَامِلاً بِالْمُنْكَرِ انْتَهَرَهُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ كُلَهُمْ ... فَأَوْصِهَا وَاتْلُ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتِابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُحِلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرْمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرينَ عِنْدَ تِلاوَتِه وَسَمَاعِهِ.(2/8)
واغْفِر لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
قَالَ مَالِكُ بِن دِينَارٍ: إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَتْ مَوْعِظَتِهِ عَنْ الْقُلُوبَ كَمَا يَزِلُ الْقَطْرُ عَنْ الصَّفَا فَإِنَّ مَنْ حَثَّ عَلَى التَّحَلِّي بِفَضِيلَةٍ، وَهَوَ عَاطِلٌ مَنْهَا، لا يُقْبَلْ قَوْلُهُ، كَمَنْ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالْكَرَمِ وَهُوَ بِضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ يَنْهَى عَنْ الأَخْلاقِ السَّاقِطَةِ وَالْبِدَعِ وَالْمَلاهِي وَهَوَ مُتَلَوِّثُ بِهَا كَمَنْ يَنْهَى عَنْ الدُّخَانِ أَبِي الْخَبَائِثِ وَالْخَمْرِ أُمِّ الْخَبَائِثِ وِهُوَ يَشْرَبُهُمَا، وَكَمَنْ يَأْمُرُ بِالابْتِعَادِ عَنْ التلفزيون وَالْمِذْيَاعِ وَالسِّينمَاءِ وَالْبَكْمَاتِ، وَهُوَ يَشْتَرِيهَا أَوْ يَحْظُرُهَا.
وَكَمَنْ يَنْهَى عَنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَالْخَنَافِسِ وَالتَّشَبُهِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُرْدِ وَالْكُفَّارِ وَهُوَ مُتَلَبِّسُ بِهَا، وَكَمَنْ يَنْهَى عَنْ الْكُورَةِ وَهُوَ يَحْضَرُهَا، أَوْ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمَلاهِي وَشِرَائِهَا وَتَصْلِيحِهَا وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلُهُ بِالرَّدِ، وَلا يُعَامِلُ إِلا بِالإِعْرَاضِ، وِالإِهْمَالِ، بَلْ مَحَلُ سُخْرِيَةِ، وَاسْتِهْزَاءِ فِي نَظَرِ الْعُقَلاءِ.
شِعْرًا: ... وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمٍ
آخر: ... سَلِ الإِلَهَ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٍ ... فَهُوَ الَّذِي يُرْتَجَى مِنْ عِنْدِهِ الأَمَلُ
فَإِنْ مَنَحْتَ فَلا مَنّ وَلا كَدَرٌ ... وَإِنْ رَدَدْتَ فَلا ذُلٌّ وَلا خَجَلُ
قَوْلٌ جَمِيلٌ وَأَفْعَالٌ مُقَبَّحَةٌ ... يَا بُعْدَ مَا بَيْنَ ذَاكَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
فَإِنَّ مَنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا فَأَكْلُهُ وَقَالَ للناسِ: لا تُنَاوِلُوهُ، فَإِنَّهُ سُمٌّ مُهْلِكٌ سَخِرَ(2/9)
النَّاس مِنْهُ، واستهزؤا بِه وَاتَّهَمُوهُ فِي دِينِِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَكَأَنَّهُ بِزَجْرِهِ وَنَهْيهِ حَرَّضَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ لَوْلا أَنَّهُ لَذِيذٌ مَا كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهِ.
كَذَلِكَ الدَّاعِي إِذَا خَالَفَ فِعْلَهُ قَوْلَهُ، أَمَّا الائْتِمَار بِمَا سَيَأْمُرُهُمْ بِهِ أَوْلاً، وَالتَّخَلُّقُ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِذْعَانِ الرَّاغِبِينَ.
فَمَنْ لَمْ يُكَابِدْ قِيَامَ الليلِ وَسَهَرِهِ، فَكَيْفَ يُسْمَعُ مِنْهُ فَضْلَ قِيَامِ الليلِ، وَكَمَنْ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الأَعْمَالِ الْخَيْرِيْةِ وَالْمَشَارِيعِ الدِّينِيَّةِ، وَلا يُسَاهِمُ فِيهَا أَبَدًا، فَهَذَا لا يَقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ مِمَّنْ يُعِينَ عَلَى سَبِّهِ، وَغِيبَتِهِ، لِمَا عَرِفْتَ مِنْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى صَالِحِ الأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاقِ تَرْبِيَة، وَالتَّرْبِيَة النَّافِعَة إِنَّمَا تَكُون بِالْعَمَل، لأنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ وَالأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، لا بُمُجَرَّدِ الْقَوْلِ.
يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ الْمُسَوِّرِ بِنْ مخرمةِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلُقُوا» . فوَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَة فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ.
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ، أَخْرَجَ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى تَنْحِرَ بُدَنَكَ وَتَدْعُو حَالِقَكَ فَيَحْلِقُكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدَنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ يَقْتِلُ بَعْضهُمْ بَعْضًا أَيْ ازْدِحَامًا وَغَمًّا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَهْرٍ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ صِيَامٌ فِي يَوْمِ صَائِفٍ مُشَاةٌ وَنَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ فَقَالَ: «اشْرَبُوا أَيُّهَا النَّاسُ» . قَالَ: فأبوا. قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَيْسَرُكُمْ إِنِّي رَاكِبٌ» . فَأَبَوا، فَثَنَى(2/10)
رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخْذَهُ فَنَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ النَّاسُ، وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ ... رَوَاهُ أحمد.
قَالَ: فَإَذَا لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي إِلا ذَا قَوْلٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْمَدْعُو مِنْهُ إِلا الْقَوْلَ، وَأَيْضًا فَمِثْل الْمُرْشِدِ مِنَ الْمُسْتَرْشِدِ مِثْل الْعُودِ مِنَ الظِلِّ، فَكَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَعْوَجَّ الْعُودُ وَيَسْتَقِيمَ الظِلُّ كَذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يَعْوَجَّ الْمُرْشِدُ وَيَسْتَقِيمَ الْمُسْتَرْشِدُ.
قَالَ الْغَزَالِي فِيمَا كَتَبَهُ إِلَى أَبِي حَامِدٍ أحمد بِنْ سَلامَة بِالْمُوصَلِ: أَمَّا الْوَعْظُ فَلَسْتُ أَرَى نَفْسِي أَهْلاً لأَنَّ الْوَاعِظَ زَكَاةُ نِصَابِهِ الاتِّعَاظ فَمَنْ لا نِصَابَ لَهُ كَيْفَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَفَاقِدُ النُّورِ كَيْفَ يَسْتَنِيرُ بِهِ غَيْرُهُ وَمَتَى يَسْتَقِيمُ الظِلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ وَلِهَذَا قِيلَ:
شِعْرًا: ... يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيم
تَصِف الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضِّنَا ... كَيْمَا يَصِحُ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمٌ
مَا زِلْتَ تَلْقِحُ بِالرَّشَادَ عُقُولَنَا ... عِظْتَ وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمٌ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهِهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإَذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمٌ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمٌ
آخر: ... وَكُنْ نَاصِحًا للمُسْلِمِينَ جَمِيعُهُمْ ... بِإِرْشَادِهِمْ للحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَانْهِهِمْ ... عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الخَنَا عَنْ خَنَائِهِ
وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ ... لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ
فَإِنْ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا ... تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ
وَإِلا فَقَدْ أَدَيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا ... عَلَيْكَ، وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اهْتِدَائِهِ
قَالَ وَقَوْلُ اللهُِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ(2/11)
الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تَعْجَبُ لِلْعُقَلاءِ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ الْمَعِيبِ، وَلِلْتَعَجُّبِ وُجُوهٌ مَنْهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِرْشَادُ الْغَيْرِ إِلَى الْخَيْرِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الشَّرِّ وَإِرْشَادُ النَّفْسَ إِلَيْهِ وَتَحْذِيرِهَا مِنْهُ مُقَدَّمٌ بِشَواهِدِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ.
أَمَّا الْعَقْلُ فَبَدِيهِيّ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَكَثِيرَةٌ مَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} ، وَعَن خَلِيل اللهِ إِبْراهيم {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} ، فَمَنْ وَعَظَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِمَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ السَّلِيمِ.
شِعْرًا: ... تَمَسَّكْ بِتَقْوَى اللهِ فَالْمَرء لا يَبْقَى ... وَكُلّ امْرِئٍ مَا قَدْمَتْ يَدُهُ يَلْقَى
وَلا تَظْلِمَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ... وَلا تَذْكُرَنَّ إِفْكًا وَلا تَحْسِدَنَّ خَلَقًا
وَلا تَقْرِبَنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ ... لَذَاذَتَهُ تَفْنَى وَأَنْتَ بِهِ تَشْقَى
وَعَاشِرْ إِذَا عَاشِرْتَ ذَا الدِّينِ تَنْتَفِعُ ... بِعِشْرَتِهِ واحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْحَمْقَى
وَدَار عَلَى الإِطْلاقِ كُلاً وَلا تَكُنْ ... أَخَا عجل فِي الأَمْر وَاسْتَعْمَلِ الرِّفْقَا
وَخَالِفْ حُظُوظ النَّفْسِ فِيمَا تَرُومُهُ ... إِذَا رُمْتَ لِلْعَلْيَا أَخَا اللُّبِّ أَنْ تَرْقَى
تَعَوَّد فِعَال الْخَيْرِ جَمْعا فَكُلَّما ... تَعَوَّدَهُ الإِنْسَانُ صَارَ لَهُ خُلُقًا
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَخَلِّصْنَا مِنْ حُقُوقِ خَلْقِكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَوَاتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقَّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَة مَغْفِرَتُكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/12)
" فَصْلٌ "
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَاعِظَ الْفَاعِلَ لِلْمُحَرَّمَاتِ الْمُحَذِّرَ عَنْهَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعْصِيةِ لأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لَوْلا أَنَّ هَذَا الْوَاعِظَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَنَّهُ لا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَنَاهِي وَالْمُنْكَراتِ فَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى التَّهَاوُنِ بِالدِّينِ وَالْجُرْءَةِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا مُنَافٍ لِلْغَرَضِ مِنَ الْوَعْظِ فِلا يَلِيقُ بِالْعُقَلاءِ.
وَمِنْهَا أَنَّ غَرَضَ الدَّاعِي تَرْوِيجُ كَلامِهِ وَتَنْفِيذُ أَمْرِهِ فَلَوْ خَالَفَ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ صَارَ كَلامُهُ بِمَعْزِلٍ عن الْقُبُولِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لا يَلِيقُ بِالْعُقَلاءِ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: عُلَمَاءُ السُّوءِ جَلَسُوا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَدْعُونَ إِلَيْهَا النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى النَّارِ بِأَفْعَالِهِمْ، فَكُلَّما قَالَتْ أَقْوَالُهُمْ لِلْنَاسِ هَلُمُّوا قَالَتْ أَفْعَالُهُمْ لا تَسْمَعُوا مِنْهُمْ فَلَوْ كَانَ مَا دَعَوا إِلَيْهِ حَقًّا كَانُوا أَوَّلَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، فَهُمْ فِي الصُّوَرِ أَدِلاءِ وَفِي الْحَقِيقَة قُطَّاعُ طَرِيقٍ. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر هَؤُلاءِ فِي زَمَنِنَا.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسَ زَمَانٌ يَمْلَحُ فيه عُذُوبَةِ الْقُلُوب فَلا يَنْتَفَعَ بِالْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ عَالِمُهُ وَلا مُتَعَلِّمَهُ فَتَكُون قُلُوب عُلَمَائِهِمْ مِثْل السِّبَاخِ مِنْ ذَوَاتِ الْمِلْحِ يَنْزِلُ عَلَيْهَا قَطْرَ السَّمَاءِ فَلا يُوَجَدُ لَهَا عُذُوبَة.
وَذَلِكَ إِذَا مَالَتْ قُلُوبُ الْعُلَمَاءِ إِلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَإِيثَارِهَا عَلَى الآخِرَة فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْلُبُهَا اللهُ تَعَالَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ وَيُطْفُئُ مَصَابِيحَ الْهُدَى مِنْ قُلُوبِهِمْ فَيُخْبِرُكَ عَالِمُهُمْ حِينَ تَلْقَاهُ أَنَّهُ يَخْشَى اللهَ بِلِسَانِهِ وَالْفُجُورُ ظَاهِرٌ فِي عَمَلِهِ. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَرُ هَؤُلاءِ فِي زَمَنِنَا فَتَأَمْلْ وَدَقِّقِ النَّظَرَ تُصَدِّق. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا تَجِدُ بَعْضهُمْ يَحْمِلُ شَهَادَةَ الدُّكْتُورَاة أَوْ الْمَاجِسْتِيرِ أَوْ هُمَا وَيُعْطَى فِيهَا شَهَادَةً فِي الْفِقْهِ الإِسْلامي.(2/13)
وَهُوَ مَا يُحْسِنُ إِلا مَا كَتَبَ فِيهِ بَحْثًا، إِمَّا مَوْضُوع الرِّبَى أَوْ السَّرقة أَوْ الْخَمْرِ مَثَلاً، وَلا يُجِيدُ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضُوع الَّذِي حَصَلَ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِهِ.
بَلْ الْفَرَائِض التَّي نَصِفُ الْعِلْم لا يُجِيدُهَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِي الْعَظِيم.
فَمَا أَخْصَبَ الأَلْسُنَ يَوْمَئْذٍ وَمَا أَجْدَبُ الْقُلُوبَ، قَالَ: فَوَاللهِ الَّذِي لا إله إِلا هَوَ مَا ذَلِكَ إِلا وَاللهُ أَعْلَمُ، كما قَالَ بَعْضُهُمْ: لأَنَّ الْمُعَلِّمِينَ عَلَّمُوا لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ تَعَلَّمُوا لِغَيْرِ اللهِ.
شِعْرًا: ... لَعَمْرُكَ مَا الأَبْصَارَ تَنْفَعُ أَهْلَهَا ... إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبْصِرِينَ مِنْ بَصَائِرِ
وَبِالْحَقِيقَة إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الأَكْثَرِيَّةِ السَّاحِقَةِ مِمَّنْ حَوْلَكَ مِنْ أَسَاتِذَةٍ وَمُدَرِّسِي وَطُلابٍ وَجَدْتَ هَيْبَةَ الإِسْلامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ الإِسْلامِيَّة قَدْ نُزِعَتْ مِنْهُمْ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ.
وَيُوفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَجْعَلُونَ تَوَالِيَاتٍ، وَرُبَّمَا خَنْفَسُوا وَتَجِدُهُمْ يُجَالِسُونَ الْفَسَقَةَ وَيَنْدَمِجُونَ مَعَهُمْ وَبَعْضُهُمْ تَجِدَهُ يَشْرَبُ أَبَا الْخَبَائِثِ الدُّخانَ وَرَبَّمَا فَعَلَهُ أَمَامَ الطُّلابِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.
وَلا تَجِدُهُ فِي الْغَالِبِ يُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ وَيُعَامِلُ الْمُعَامَلَة التِّي لا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ وَتَجِدَهُ يَجْلِسُ أَمَامَ التَّلَفزيُون وَعِنْدَ الْمِذْيَاعِ وَأَغَانِيهِ وَعِنْدَ السِّينماء وَالْفِيدْيُو وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ التَّي قَتَلَتِ الأَخْلاقَ.
وَيُحِبُّ الشُّهْرَةَ وَالظُّهُورِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَكَيْفَ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلاءِ يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ، كَلا وَاللهِ إِنَّهُمْ لا يُزِيلُونَ الْمُنْكَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلا عَنْ بُيُوتِهِمْ التَّي فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ مَا يُدْهِشُ الأَسْمَاعَ وَالأبَْصَارَ وَالْعُقُولِ.(2/14)
شِعْرًا: ... إِذَا لَمْ يُعِنْكَ اللهُ فِي طَلَبِ الْعُلا ... فَسَعْيَكَ فِي جَمْعِ الْفَضَائِلِ ضَائِعٌ
آخر: ... لَيْسَ الْجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا ... إِنَّ الْجَمَالَ جَمَالُ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ
فَعِلْمُ هَؤُلاءِ الْعِلْمُ الَّذِي يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لا يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ» . (فَابْعِدْ عَنْهُمْ وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُمْ أَيُّهَا الْمُعَافَى) .
شِعْرًا: ... صَارَ الأَسَافِلُ بَعْدَ الذُّلِ أَسْنِمَةً ... وَصَارَتْ الرَّوسُ بَعْدُ الْعِزِّ أَذْنَابًا
لَمْ تَبْقَ مُأْثَرَةٌ يَعْتَدُهَا رَجُلٌ ... إِلا التَّكُاثُرُ أَوْرَاقًا وَأَذْهَابًا
آخر: ... وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ ... كُلَّما بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمًا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعَلْمِ مُهْجَتِي ... لأخدمُ مَنْ لاقَيْتُ لِكِنْ لأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهُ ذِلَّةً إِذًا ... فَاتّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ الْعِلْمِ كَابٍ فَإِنَّهُمَا ... كَبَا حِينَ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مَحْيَاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
وَنَعُودُ إِلَى كَلامِنَا السَّابِقِ حَوْلِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالآيَةُ كَمَا تَرَى نَاعِيَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يَعِظُ غَيْرَهُ وَلا يَتَّعِظُ بِسُوءِ صَنِيعِهِ وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ فِعْلَ الْجَاهِلُ بِالشَّرْعِ أَوْ الأَحْمَقُ الَّذِي لا عَقْلَ لَهُ فَإِنَّ الأَمْر بِالْخَيْرِ مَعَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْهُ مِمَّا لا يَتَّفِقُ وَقَضِيَّةَ الْعَقْلِ وَالْمُرَادُ بِهَا حَثُّهُ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ لِتَقُومَ بِالْحَقِّ فَتُكَمِّلَ غَيْرَهَا.
وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنْ اللهِ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُقَصِّرٌ كّمَنْ يَكْذِبُ فِي قَوْلِهِ أَوْ يَخْلُفُ مَا وَعَدَ.(2/15)
وَعَنْ أُسَامَةَ بِنْ زَيْدٍ بِنْ حَارِثَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابَ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى فَيَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ» . رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه.
وَإِنَّمَا يُضَاعَفْ عَذَابُ الْعَالِمِ فِي مَعْصِيتِهِ لأَنَّهُ عَصَى عَنْ عِلْمٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَلأَنَّهُ قُدْوَةٌ فَيَزِلُّ بِزَلَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ زِلْةُ الْعَالِمِ زَلْةُ الْعَالَمِ. وَقِيلَ كَالسَّفِينَة إِذَا غَرَقَتْ غَرَقَ مَعَهَا أُمَمٌ مَا يُحْصِيهُمْ إِلا اللهُ.
وَفِي الْخَبَرِ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيْئِةً فَعَلَيْهِ وِزْرَهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» . وَذَلِكَ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ اقْتَدَوا بِهِمْ فِي السُّوءِ فَيَنَالُهُمْ مِثْلَ عِقَابِ أَتْبَاعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، وَقَالَ: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
قَالَ: وَجُمْلَةُ الأَمْرِ أَنَّ مَنْ فَتَحَ بَابِ الشَّرِّ لِغَيْرِهِ وَسَهَّلَ لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ فَقَدْ عَظُمَ عَذَابُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَسَهَّلَ لَهُ طَرِيقَهُ فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُهُ وَحَسَنَ جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتّرمذي، وَقَالَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ: «مثل الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ وَلا يَعْمَلُ بِهِ مِثْلُ الْفَتِيلَةِ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي بُرْزَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.(2/16)
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرْة وَلِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلانِ عَالِمٌ مُتَهْتِكٌ وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، فَالْجَاهِلُ يَغُرُّ النَّاسَ بِنُسُكِهِ وَالْعَالِمُ يَغُرُّهُمْ بِتَهَتُّكِهِ. وَقَالَ حَكِيمٌ: أَفْسَدَ النَّاسَ جَاهِلٌ نَاسِكٌ وَعَالِمٌ فَاجِرٌ؛ هَذَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى جَهْلِهِ بِنُسُكِهِ، وَهَذَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْ عِلْمِهِ بِفِسْقِهِ.
وَمِنْهَا التَّواضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ، فَذَلِكَ بِالدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ أَلْيَق وَلَهُمْ أَلْزَم لأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ، وَكَثِيرًا مَا يُدَاخِلُهُمْ الْعُجْبِ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ وَعَمِلُوا بِمُوجَبِ الْعِلْمِ لَكَانَ التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ أَحْرَى وَأَنْسَبُ، لأَنَّ الْعُجْبَ نَقْصُ يُنَافِي الْفَضْلَ، فَلا يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ.
شِعْرًا: ... دَعْ الْكِبْرَ وَاجْنَحْ لِلتوَاضُعِِ تَشْتَمِلْ ... وِدَادَ مَنِيعِ الْوُِدِّ صَعْبٌ مَرَاقُهُ
وَدَاوِِ بِلِينٍ مَا جَرَحْتَ بِغِلْظَةٍ ... فَطِيبُ كَلامِ الْمِرْءِ طُبُّ كَلامِهِ
آخر: ... جِئْ بِالسَّمَاحِ إِذَا مَا جِئْتَ فِي غَرَضٍ ... فَفِي الْعُبُوسِ لِدَى الْحَاجَاتِ تَصْعِيبٌ
سَمَاحَةُ الْمَرْءِ تُنَبِئُ عَنْ فَضِيلَتِهِ ... فَلا يَكُنْ لَكَ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ تَقْطِيبٌ
ج
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ فَلا تُؤْذِ الْمُؤْمِنَ، وَلا تُحَاوِرُ الْجَاهِلَ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي ثَعْلَبَةَ حِينَ ذَكَرَ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَوَادِثِ: «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوىً مُتَّبِعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودُ.
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مَهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَىً مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ مَوْضُوعُ التَّوَاضُعِ، وَافِيًا بِأَدِلَّتِهِ وَعِلَةُ إِعْجَابِ الْمُعْجَبِ بِعَمَلِهِ، وَنَظَرُهُ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ دُونِهِ مِنْ الْجُهَّالِ وَانْصِرَافُ نَظَرِهِ عَنْ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِإِنَّهُ مَا حَوَى الْعِلْمَ كُلَّهُ أَحَدٌ مِنْ(2/17)
الْخَلْقِ، فَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلا وَفَوْقُهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، فَاللهُ جّلَّ وَعَلا هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ، وَقَالَ: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، وَقَالَ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
وَقَلَّمَا تَجِدُ مُعْجَبًا بِعِلْمِهِ شَامِخًا بِأَنْفِهِ إِلا وَهُوَ قَلِيلُ الْعِلْمِ ضَعِيفُ الْعَقْلِ لأَنَّهُ يَجْهَلُ قَدْرَهُ وَيَحْسِبُ أَنَّهُ نَالَ مِنْهُ أَكْثَرَهُ، وَاللهُ يَقُولُ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ لا يَبْخَلَ بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُ وَلا يَمْتَنِعُ مِنْ إِفَادَةِ مَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ ظُلْمٌ وَلُؤْمٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ إِثْمٌ.
شِعْرًا: ... إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى ... فَقَدْ ثَلمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَهْ
وَمَوْتُ الْعَادِلِ الْمَلِكِ الْمُوَلَّى ... لِحُكْمِ الْخَلْقِ مَنْقَصَةً وَقَصْمَهْ
وَمَوْتُ الْعَابِدِ الْمَرْضِيِّ نَقْصٌ ... فَفِي مَرْآهُ لِلأَسْرَارِ نَسْمَهْ
وَمَوْتُ الْفَارِسِ الضِّرْغَامِ هَدْمٌ ... فَكَمْ شَهَدَتْ لَهُ بِالنَّصْرِ عَزْمَهْ
وَمَوْتُ فَتَى كَثِيرِ الْجُودِ نَقْصٌ ... لأَنَّ بَقَاءَهُ فَضْلٌ وَنِعْمَهْ
فَحَسْبُكَ خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهمْ ... وَمَوْتُ الْغَيْرِ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَهْ
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادُ دِينِكُمْ وَالْتِبَاسُ بَصَائِرِكُمْ» . ثُمَّ قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .(2/18)
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدَّلالاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْصَحِيحَةِ وَالْهُدَى النَّافِعُ لِلْقُلُوب، مِنْ بَعْدِ مَا بَيَنَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادَهُ فِي كُتِبِهِ، التَّي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، أ. هـ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَامٌ مِنْ نَارٍ» .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ: لَوْلا آيَةُ فِي كِتِابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ أَحَدًا شَيْئًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآيَة، وَمِمَّا يُحْسِنُ بِالدَّاعِي وَالْمُرْشِدِ أَنْ يَتَحَلَّى بِالْوَرَعِ بِاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَالْبُعْدِ مِنْ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ، وَمَسَالِكِ التُّهْمَةِ.
فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْرَأُ لِدِينِهِ وَأَسْلَمُ لِعِرْضَهَ، وَأَدْعَى إِلَى الانقِيادِ لَهُ لأَنَّ حَالَ الدَّاعِي يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ مَقَالِهِ، فَإَذَا كَانَ وَرِعًا تَقِيًّا مُتَجَنِّبًا مَا فِيهِ شُبْهَةٌ اقتَدَى بِهِ النَّاسُ، وَأَحَبُّوهُ وَقَبِلُوا وَعْظَهُ وَإِرْشَادَهُ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ.
واحْذَرْ يَا أَخِي كُلّ الْحَذَرِ مِنْ احتِكَارِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولِهِ وِأَخْذ شَيْء من الدُّنْيَا بِاسْمِ تَحْقِيقٍ أَوْ نَشْرٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِمَّا ابتُلُوا بِهِ.
شِعْرًا: ... لَوْلا الشَّيَاطِينَ لَمْ تَسْمَعْ سِوَى لَهْجٍ ... بِالذَّكْرِ أَوْ مَا أَتَى عَنْ سَيِّدِ الْبّشَرَ
آخر: ... لَوْلا الشَّيَاطِينَ صَارَ النَّاسُ كُلَهُمْ ... عَلَى الْحَنِيفِيةِ السَّمْحَاءِ عُبَّادُ
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرَةٍ سَاقِطَةٍ فَقَالَ: «لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا» . وَقَدِمَ عَلَى عُمَر مِسْكٌ وَعَنْبَرٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ. فَقَالَ: «وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً حَسَنَةَ الْوَزْنِ تَزِنُ لِي هَذَا الطِّيبَ حَتَّى أَقْسِمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَتْ امْرَأَتَهُ عَاتِكَةُ: أَنَا جَيِّدَةُ الْوَزْنِ فَأَنَا(2/19)
أَزِنُ لَكَ، قَالَ: لا. فَقَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْخُذِيهِ، فَتَجْعَلَيْهِ هَكَذَا، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي صِدْغَيْهِ وَتَمْسَحِي بِهِ فِي عُنُقِكِ فَأُصِيبُ فَضْلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ يُوزَنُ بَيْنَ يَدَيّ عُمَرَ بِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِسْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَسَدَّ أَنْفُهُ بِيَدِهِ؛ حَتَّى لا تُصِيبُهُ الرَّائِحَةَ، وَقَالَ: وَهَلْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ إِلا بِرِيحِهِ. قَالَ ذَلِكَ لَمَّا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ وَرَعِ الْمُتَقِينَ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يِتَّصِفَ بِهِ أَيْضًا قَطْعُ الْعَلائِقِ حَتَّى لا يِكْثُرَ خَوْفُهُ، وَيَقْطَعَ الطَّمَعَ عَنْ الخْلائِقِ فَلا يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ تُذِلَّهُ لَهُمْ، وَتَدْعُوهُ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ، وَالإِغْضَاءِ عَنْ أَعْمَالِهُمْ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمْ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} . {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
شِعْرًا: ... وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وِفِي الْمَالِ قِلْةٌ ... وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنِ
آخر: ... إِنْ حَالَ دُونَ لِقَاءِكِمْ بَوَّابُكُمْ ... فَاللهُ لَيْسَ لِبَابِهِ بَوَّابٌ
آخر: ... فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ لا تَضْرَعْ إِلَى النَّاسِ ... وَاقْنَعْ بِعِزٍّ فَإِنَّ الْعِزَّ فِي الْيَاسِ
وَاسْتَغْنِ عَنْ كُلّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ ... إِنَّ الْغَنِيَّ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاسِ
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَلَهُ صَدِيقٌ قَصَّابٌ يّأْخُذُ مِنْهُ لِكَلْبِهِ بَعْضَ السَّوَاقِطِ، فَرَأَى عَلَى الْقَصَّابِ مُنْكَرًا يَتَعَاطَاهُ، وَقَالَ: لا بُدَّ أَنْ أُبْرِيَ ذِمْتَي وَأَنْصَحَهُ، وَلَكِنْ أَبَدَأُ أَوْلاً بِقَطْعِ الطَّمَعِ فَدَخَلَ الْبُسْتَانَ وَأَخْرَجَ الْكَلْبَ وَطَرَدَهُ ثُمَّ جَاءَ وَاحْتَسَبَ عَلَى الْقَصَّابِ وَنَصَحَهُ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَصَّابُ: سَوْفَ لا أُعْطِيكَ لِكَلْبِكَ شَيْئًا أَبَدًا. فَقَالَ: أَنَا حَاسِبٌ لِهَذَا الْكَلامِ مَا أَتَيْتُكَ إِلا بَعْدَ أَنْ طَرَدْتُ الْكَلْبَ عَنْ بُسْتَانِي.
فَمَنْ لَمْ يَقْطَعِ الطَّمَعَ، وَيَسُدُّ بَابَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِسْبَةِ. قُلْتُ: وَمِثْلَهُ(2/20)
عِنْدِي فِي الْغَالِبِ مَنْ يُوَالِي الْعَطَاء عَلَى إِنْسَانٍ فَيَبْعُدُ إِذَا رَآهُ صَدَرَ مِنْهُ مَعْصِيةً أَوْ مَعَاصِي أَنَّهُ يَنْصَحُهُ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ لأَنَّهُ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ، يَرْجُو الصِّلَةَ وَيَخَافُ قَطْعُهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَيَبْعُدُ أَيْضًا قُبُولِ صَاحِبِ الْفَضْلِ لِلنَّصِيحَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُنْتَظَرِ لِمَا فِي يَدِهِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعِصَمَةَ.
وَكَمْ ضّلَّ عَنْ الطَّرِيقِ السَّوِيِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِسَبَبِ مُدَاهَنَةِ الْمُدَاهِنِ وَتَغْرِيرِهِ لَهُمْ، هَذِهِ قِيمَةُ النَّاصِحِ، وَالْمُدَاهِن عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ الإِيمَانِ وَلَكِنْ نَرَى النَّاسَ الْيَوْم عَكَسُوا الأَمْر فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ، لا مُنْتَهى لِحُبِّهِمْ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَنْبًا عَظِيمًا، وَلا غَايَةَ لِبُغْضِهِمْ مَنْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَرُبَّمَا هَجَرُوهُ جَزَاءَ نُصْحِهِ، وَأَمَّا الْمُدَاهِنُ وَالْمُتَمَلِقُ الْمُنَافِقُ ذُو الْوَجْهَينِ فَبِكَلِمَةٍ مِنْ مُدَاهَنَاتِهِ، أَوْ وِشَايَاتِهِ أَوْ تَمَلُّقَاتِهِ أَوْ كَذِبَاتِهِ يَمْلِكُ قُلُوبَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَان وَقَدْ يُرَفَّعُ وَيُقَدِّر مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَمَا قِيلَ:
آخر: ... (مَتَى مَا تُدَان أَوْ تَكُنْ ذَا تَمَلْقٍ ... وَنَمٍّ وَبَهْتٍ تَخْتَطِبْكَ الْمَرَاتِبُ)
(وَإِنْ تَجْمَعِ الإِخْلاصَ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَا ... وَعِلْمًا وَحِلْمًا تَجْتَنِبُكَ الْمَنَاصِبُ)
آخر: ... لا تُنْكِرِي يَا عَزُّ إِنْ ذَلَّ الْفَتَى ... ذُو الأَصْلِ وَاسْتَولَى لَئِيمُ الْمُحْتِد
إِنَّ الْبُزَاةَ رُؤسُهُنَّ عَوَاطِلُ ... وَالتَّاجُ مَعْقُودٌ بِرَأْسِ الْهُدْهُدِ
آخر: ... حَذَفْتُ وَغَيْرِي مُثَبِّتْ فِي مَكَانِهِ ... كَأَنِّي نُونُ الْجَمْعِ حِينَ يُضَافُ
آخر: ... مَنْ أَهْمَلَ الدِّينَ لا تَأْمَنْ عَقَارِبَهُ ... وَلَوْ تَسَمَّى بِإِخْلاصٍ بِنِيَّاتٍ
لآدَمٍ جَاءَ إِبْلَيْسٌ وَقَالَ لَهُ ... إِنِّي لَكْمُ (نَاصِحٌ فَاسْمَعْ مَقَالاتِي
فَأَقَسَمَ الْخُبَثُ فِي رَبِّي وَنُزُلُهُمْ ... مِنَ الْجِنَانِ إِلَى دَارِ الأَذِيَّاتِ
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِسَبِيلِ الطَّاعَةِ، وَثَبتنَا عَلَى إِتِّبَاعِ السُّنْةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَأَضَاعَهُ، وَأَخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ مِنْكَ يَا كَرِيمُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا(2/21)
وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْياءَِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" مَوْعِظَة ": عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِن عَمَلُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ " وَمَحَبَتُهُ لِلنَّاصِحِينَ. وَكُلَّما اجْتَهَدَ الْمُسْلِمُ وَبَالَغَ فِي النَّصِيحَةِ لإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا الْمُدَاهِنُ وَالْمُتَمَلِّقُ الَّذِي يُحَسِّنُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ حَالَهُ، وَلَوْ كَانْتْ حَالَةَ إِجْرَامٍ وَفَسَادٍ فَهَذَا يُنَفِّرُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلا يُحِبُّونَهُ وَيَرَوْنَ صَدَاقَتُهُ مُصِيبَةً وَبَلِيَّةً فَلِذَا يَبْتَعِدُونَ عَنْهُ كُلّ الْبُعْدِ. لأَنَّهُ إِنْ صَحْبَ مُسْتَقِيمًا ادْخَلَ عَلَيْهِ الْعُجْبَ فِي عَمَلِهِ، وَخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صَفْوَةِ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ، فَيَغُرُّهُ بِنَفْسِهِ. وَالْمَرءُ إِذَا اغْتَرَّ هَوَى فِي هُوَّةِ الأَشْقِياءِ. وَإِذَا صَحِبَ الْمُدَاهِنُ الْمُتَمَلِقُ مُعَوَّجًا زَادَ اعْوِجَاجَهُ حَيْثُ أَنَّهُ يُفْهِمُهُ بِمُدَاهَنَتِهِ أَنَّهُ مِنْ خِيارِ الْفُضَلاءِ وَمَنْ الأَجِلاءِ النُّبَلاء.
وَمَتَى فَهِمَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ اسْتَمَرَّ وَتَمَادَى فِي اعْوِجَاجِهُ، وَقَوِيَتْ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ الأَخْلاقُ الْفَاسِدَةُ، وَمَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الشَّنِيعَةِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ النَّاصِحُ الْمُحِبُ لأَخِيهِ مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ فَيَفْهَمُ الْمُهَذَّبُ الْمُتَنَوِّرُ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ كَمَالُهُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي شُكْرِ مَوْلاهُ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ بَنِي آَدَمَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَوَفَّقَهُ لِلإِيمَانِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَغَيرِهَا وَوَهَبَهُ الْعَقْلَ، وَسَائِرَ النِّعَمِ التَّي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى.
وَمَتَى فَهِمَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ، حَمِدَ مَوْلاهُ وَشَكَرَهُ عَلَى مَا أَوْلاهُ وَجَدَّ وَاجْتَهَدُ فِيمَا بِهِ رُقِيُّهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَإِنْ رَأَى مُعْوَجًّا أَفْهَمَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنٍ نَقْصٍ وَوَضَّحَ لَهُ عُيُوبَهُ، وَمَا عِنْدَهُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي دِينِهِ وَحَثَّهُ عَلَى الْجَدِّ وَالاجْتِهَادِ وَالسَّعْيِ إِلَى مَعَانِي الأَخْلاقِ.(2/22)
وَمَتَى عَرِفَ الْعَاقِلُ نَقْصَهُ، وَأَنَّ الضَّرَرَ عَائِدٌ إِلَيْهِ، أَقْلَعَ عَنْهُ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْمُهَذَّبِينَ الْمُتَنَوِّرِينَ الصَّاعِدِينَ إِلَى أَوَجِ الْكَمَالِ، فِكَمْ اهْتَدَى بِإِذْنِ اللهِ بِسَبَبِ الْمُؤْمِنِ النَّاصِحِ مِنْ أُنَاسٍ قَدْ تَاهُوا وَتَمَادَوْا فِي الضَّلالِ.
وِاسْمَعْ إِلَى قَوْلِ الإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ لَمَّا ذَكَرَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ أَهْلَ الْبِدَعِ وَحَيْرَتِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ وَشُكُوكُهُمْ وَأَنَّهُ جَرَّبَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّبَاكِ وَالْمَصَايِدِ حَتَّى أَتَاحَ لَهُ الْمَوْلَى بِفَضْلِهِ مَنْ نَشَلَهُ وَأَوْضَحَ لَهُ تِلْكَ الشُّبَهِ وَأَزَاحَ عَنْهُ تِلْكَ الشُّكُوكِ وَهُوَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةِ رَحِمَهُ اللهُ فَقَالَ فِي النُّونِيَّةِ:
يَا قَومُ بِاللهِ العَظِيمِ نَصِيحةٌ ... مِن مُشفِقٍ وَأخٍ لَكُمْ مِعَوَانِ
جَرَّبتُ هَذَا كُلَّهُ وَوَقَعتُ فِي ... تِلكَ الشِّبَاكِ وَكُنْتُ ذَا طَيَرَانِ
حَتَّى أَتَاحَ لِيَ الإِلهُ بِفَضلِهِ ... مَنْ لَيْسَ تَجْزِيهِ يَدِي وَلِسَانِي
حَبْرًا أتَى مِن أرضِ حَرَّانٍ فَيَا ... أَهْلاً بِمَن قَدْ جَاءَ مِنْ حَرَّانِ
فَالله يَجزِيهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ... مِن جَنَّةِ الْمَأَوَى مَعَ الرِّضوَانِ
أخَذَتْ يَدَاهُ يَدِي وَسَارَ فَلَمْ يَرِمْ ... حَتَّى أرَانِي مَطلَعَ الإِيمَانِ
وَرَأيتُ أعلاَمَ المدِينَةِ حَولَهَا ... نَزَلَ الهُدَى وَعَسَاكِرُ القُرآنِ
وَرَأيتُ آثاراً عَظِيماً شَأنُهَا ... مَحجُوبَةً عَن زُمرَةِ العُميَانِ
وَوَرِدْتُ رَأسَ الماءِ أبيَضَ صَافِياً ... حَصبَاؤهُ كلآلىء التِّيجَانِ
وَرَأيتُ أكوَاباً هُناكَ كَثِيرةً ... مِثلَ النُّجُومِ لوَارِدٍ ظَمآنِ
وَرَأيتُ حَوضَ الكَوثَرِ الصَّافِي الذِي ... لاَ زَالَ يَشخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ
مِيزابُ سُنَّتِهِ وَقَولُ إِلَهِهِ ... وَهُمَا مَدَى الأَزْمَانِ لاَ يَنِيَانِ
وَالنَّاسُ لاَ يَرِدُونَهُ إلاَّ مِن الـ ... آلافِ أفرَاداً ذَوُوْ إيمَانِ
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبَّكَ وّحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبْنَا إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا(2/23)
تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مِنْ رَجَاهُ رَاج، اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ وَالنَّجَاحِ وَالْفَلاحِ، وَمَنْ الْمُؤَيِّدِينَ بِنَصْرِكَ وَتَأْيِيدِكَ وَرِضَاكَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاجْتِنَابِ نَهُيِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
"فصل":
فِي ذِكْرِ نَمَاذِجِ مِنْ صَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
عَلَى الشَّدَائِدِ وَالأَذَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ
وَمِنْ تَحَمُّلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلشَّدَائِدِ وَالأَذَى في الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِبِلالٍ مَا يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا مَا يُوَارِي إِبِطِ بِلالٍ» . أَخْرَجَهُ أحمد.
وَعِنِدَ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم -: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي وَقَالُوا كَذَا وَكَذَا فَأَبِقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلا تُحَمِّلُنِي مِنِ الأَمْر مَا لا أَطِيقُ أَنَا وَلا أَنْتَ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكَ مَا يَكْرَهُونَ مِنَ قَوْلِكَ، فَظَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ خَاذِلَهُ، وَمُسَلِّمَهُ، وَضَعُفَ عَنْ الْقِيَامَ مَعَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَمّ لَوْ وَضَعْتَ الشَّمسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، مَا تَرَكْتُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلََكَ فِي طَلَبِهِ» . ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَى. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ حِينَ رَأَى مَا بَلَغَ الأَمْرُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا ابْنَ أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: امْضِ لأَمْرِكَ وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاللهِ لا أُسَلِمَكَ لِشَيْء أَبَدًا.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ جَعْفَر، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ(2/24)
لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ عَلَى بَيْتِهِ فَأَتَتْهُ امْرَأةٌ مِنْ بَنَاتِه تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي، فَجَعَلَ يَقُولُ: «أَيْ بُنِيَّة لا تَبْكِينَ فَإِنَّ اللهَ مَانِعُ أَبَاكِ» . وَيَقُولُ: «مَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا نَالَتْ قُرَيْشُ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ثُمَّ شَرَعُوا» .
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمُ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ تَجَهَّمُوا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «يَا عَمُّ! مَا أَسْرَعَ مَا وَجَدْتُ فَقْدَكَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بِنْ الْحَارِثِ قُلْتُ: لأَبِي مَا هَذِهِ الْجَمَاعَة؟ قَالَ: هَؤُلاءُ قَوْمٌ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ فَنَزَلْنَا فَإَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالإِيمَانَ بِهِ وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارَ، وَانْصَدَعَ النَّاسُ عَنْهُ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَحْمُلُ قَدَحًا وَمنْدِيلاً فَتُنَاوَلَهُ مَنْهَا فَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةَ خَمْرِي عَلَيْكِ نَحْرِكِ وَلا تَخَافِينَ عَلَى أَبِيكِ» . قُلْنَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. قَالَ الْهَيْثَمِي: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدَ اللهِ بِن عُمَرو رَضْيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ، قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي الْحِجْرِ.
فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ. سَفَّهَ أَحْلامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَاتِنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا. لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا.
قَالَ: فَبَيِنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ عَلَيْهمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَقْبَلَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ: - أَيْ أَشَارُوا إِلَيْهِ - بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرِفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.
ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَة بِمِثْلِهَا فَعَرِفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا(2/25)
مَرَّ بِِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ: «أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالذَّي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بَالذَّبْحِ» . فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُل ٌإِلا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَضَاءَة قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حَتَّى لَيَقُولُ: انْصَرَفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا فَوَاللهِ مَا كُنْتَ جَهُولاً.
فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدِّ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضهُمْ لِبَعْضِ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذَا طَلَعَ عَلَيْهمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَطَافُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمِ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ. قَالَ فَيَقُولُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَم أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ» . قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِيَ اللهُ. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشَدَّ مَا رَأَيْتُ قُرِيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعَلَى عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ ضَرَبُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَجَعَلَ يُنَادِي: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِّيَ الله. فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ الْمَجْنُونُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَهُوا بِأَبِي بَكْرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ لا يَمَسُ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ - أَيْ جَدَائِلِهِ إِلا جَاءَ مَعَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّد بِنْ عُقَيْلٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ(2/26)
خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنَا مَا بَارَزَنِي أَحُدٌ إِلا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِن هُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ؛ إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرِيشًا فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِئَلا يَهْوَى إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَواللهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَهْو إِلَيْه أَحَدٌ إِلا أَهْوَى إِلَيْه فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ.
قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٍ فَهَذَا يُحَادُّهُ وَهَذَا يُتِلْتِلُهُ وَيَقُولُونَ: أَنْتَ جَعَلْتَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟! فَوَاللهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذَا وَيُجَاهِدُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً يَقُولُ: رَبِّيَ اللهِ.
ثُمَّ رَفَعَ عَلِيُّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَى حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشِدُكُمْ اللهَ أَمُؤْمِنُ آلَ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمَ. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَوَاللهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِنَ مُؤمِنِ آل فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ ... . الْحَدِيث. وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو مِحْجَنُ الثَّقّفِيُّ.
شِعْرًا: ... وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُنْتَ مُهَاجِرًا ... سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِه غَيْر مُنْكَرٍ
وَبِالْغَارِ إِذَا سُمِّيتَ بِالْغَارِ صَاحِبًا ... وَكُنْتَ رَفِيقًا لِلنَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ
سَبَقْتَ إِلَى الإِسْلامَ وَاللهُ شَاهِدٌ ... وَكُنْتَ جَلِيسًا بِالْعَرِيشِ الْمُشَهَّرِ
اللَّهُمَّ يَسْرِّ لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيْئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا وَاعْلِ مَعُونَتِكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدًا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَّيْتَنَا مَعَ عَبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي(2/27)
الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِأَشَّدِ شَيْء صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ عُقْبَةُ بْن أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيَدًا.
فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِّي الله وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ.. الآيَة.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بِن الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قُرِيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِلا يَوْمًا ائْتَمَرُوا بِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُقْبَة بِن أَبِي مُعَيْطٍ فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ حَتَّى وَجَبَ لِرُكْبَتِهِ سَاقِطًا، وَتَصَايَحَ فَظَنُّوا أَنَّهُ مَقْتُول.
فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِّيَ اللهَ " الْحَدِيث.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ وَأَبُو جَهْلٍ وَشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ أَبْنَاءُ رَبِيعةَ وَعُقْبَةُ بِن أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمَيَّةُ بن خَلَفٍ وَرَجُلانِ آخَرَانِ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُمْ فِي الْحِجْرِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَلَمَّا سَجَدَ أَطَالَ السُّجُودِ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيْكُمْ يَأْتِي جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَأْتِينَا بِفَرْثِهَا فَنَكْفَئَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ أَشْقَاهُمْ عُقْبَة بِنْ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَتَى بِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأنَا قَائِمٌ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، لَيْسَ عِنْدِي مِنْعَةً تَمْنَعَنِي، إِذَا سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْ عَاتِقِه.
ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ قُرَيْشًا تَسُبُّهُمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئًا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُ عِنْدَ تَمَامِ السُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاتَهُ(2/28)
قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشِ ثَلاثًا، عَلَيْكَ بِعُتْبَة، وَعُقْبة، وَأَبِي جَهْلِ وَشَيْبَةَ» .
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَهُ أَبُو الْبُخْتُرِي بِسَوْطٍ يِتَخَصَّرُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْكَرَ وَجْهَهُ فَقَالَ مَا لَكَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَلِّ عَنِي» . قَالَ: عَلِمَ اللهُ لا أُخْلِي عَنْكَ أَوْ تُخْبِرْنِي مَا شَأْنُكَ، فَلَقَدْ أَصَابَكَ شَيْء. فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ غَيْرُ مُخَلٍّ عَنْهُ أَخْبَرَهُ. فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ فَطَرَحَ عَلَيَّ الْفَرْثِ. فَقَالَ أَبُو الْبُخْترِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو الْبُخْتريِّ فَدَخَلا الْمَسْجِدَ.
ثُمَّ أَقَبَلَ أَبُو الْبُخْتريِّ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمَ! أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ فَطُرِحَ عَلَيْهِ الْفَرْثَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ. قَالَ: فَثَارَ الرِّجَال بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ: وَصَاحَ أَبُو جَهْلٍ وَيْحَكُمْ هِي لَهُ إِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُلْقِيَ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ، وَيَنْجُو هُوَ وَأَصْحَابُهُ ... . الْحَدِيث.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ يَعْقُوبِ بِنْ عُتْبَة بِنْ الْمُغِيرَة بِن الأَخْنَسِ بِنْ شُرِيْق حَلِيفُ بَنِي زُهْرَة مُرْسَلاً، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّفَا فَآذَاهُ.
وَكَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَاحِبَ قَنْصٍ وَصَيْدٍ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ فِي قَنْصِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا عِمَارَةَ لَوْ رَأَيْتَ مَا صَنَعَ تَعْنِي أَبَا جَهْلِ بِابْنِ أَخِيكَ. فَغَضَبَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَضَى كَمَا هُوَ قَبْلُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهِ.
هُوَ مُعَلْقُ قَوْسَهُ فِي عُنُقِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ أَبَا جَهْلٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قُرَيْشٍ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى عَلا رَأْسَهَ بِقَوْسِهِ، فَشَجَّهُ فَقَامَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى حَمْزَةٍ يُمْسِكُونَهُ عَنْهُ، فَقَالَ حَمْزَةُ: دِينِي دِينُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، فَوَاللهِ لا أَنْثَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَامْنَعُونِي مِنْ ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَزَّ بِهِ رَسُولَ اللهِ وَالْمُسْلِمُونَ، وَثَبَتَ(2/29)
لَهُمْ بَعْضُ أَمْرِهِمْ، وَهَابَتْ قُرِيْشٌ وَعَلِمُوا أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَيَمْنَعَهُ. قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: وَرَجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عُرْوَةَ بِنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَازْدَادَ مِنَ الْبَلاء عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِدَّةٍ، فَعَمَدَ إِلَى ثَقِيفٍ يَرْجُو أَنْ يُؤْزِرُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، فَوَجَدَ ثَلاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ، سَادَةُ ثَقِيفٍ، وَهُمْ أُخْوَةُ عَبْدُ يَالِيلٍ بنِ عَمْرُو، وَحَبِيبُ بن عَمْرُو، وَمَسْعُودُ بِنْ عَمْرُو، فَعَرَضَ عَلَيْهمْ نَفْسَهُ، وَشَكَا إِلَيْهُمْ الْبَلاءَ، وَمَا انْتَهَكَ قَوْمُهُ مِنْهُ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَسْرِقُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللهُ بَعَثَكَ بِشَيْء قَطُّ. وَقَالَ: آَخَرُ وَاللهِ لا أُكَلِّمَكَ بَعْد مَجْلِسَكَ هَذَا كَلِمَةً وَاحِدَةً أَبَدًا لأَنْ كُنْتَ رَسُولاً لأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًا مِنْ أَنْ أُكَلِّمُكَ. وَقَالَ الآخَرُ: أَعَجَزَ اللهُ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرِكَ.
وَأَفْشُوا ذَلِكَ فِي ثَقِيفٍ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ: وَاجْتَمَعُوا يَسْتَهْزِؤُنَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَأَخَذُوا بِأَيْدِيهِمْ الْحِجَارَةَ فَجَعَلَ لا يَرْفَعُ رِجْلَهُ وَلا يَضَعُهَا إِلا رَضَخُوهَا بِالْحِجَارَةِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَسْتَهْزِؤَنَ وَيَسْخَرُونَ.
فَلَمَّا خَلُصَ مِنْ صَفَيْهِمْ وَقَدَمَاهُ تَسِيلانِ بِالدِّمَاء، عَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ كُرومِهِمْ فَأَتَى حَبَلَةً مِنْ الْكَرْمِ فَجَلَسَ فِي أَصْلِهَا مَكْرُوبًا مُوجَعًا تَسِيلُ قَدَمَاهُ الدِّمَاء فَإَذَا فِي الْكَرْمِ عُتْبَةَ بِن رَبِيعَة وَشَيْبَةَ بن رَبِيعَة فَلَمَّا أَبْصَرَهُمَا كَرِهَ أَنْ يَأْتِيهُمَا لِمَا عَلِمَ مِنْ عَدَوَاتُهُمَا للهِ وَلِرَسُولِهِ وَبِهِ الَّذِي بِهِ فَأَرْسَلا إِلَيْهِ غُلامُهُمَا عَدَّاسًا بِعِنَبٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نينوى، فَلَمَا أَتَاهُ وَضَعَ الْعِنَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بِسْمِ اللهِ» . فَعَجَبَ عدَّاسٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَيْ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاس ""؟ قَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ نينوى.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسُ بِنْ مَتَّى ""؟ فَقَالَ لَهُ عدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَنْ يُونُسُ بِنْ مَتَّى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ مِنْ شَأْنِ يُونُسُ مَا عَرِفَ.(2/30)
وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحْقِرُ أَحَدًا يُبَلِّغُهُ رِسَالاتِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي خَبَرَ يُونُسُ بِنْ مَتَّى، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ شَأْنِ يُونُسُ بِنْ مَتَّى مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ خَرَّ سَاجِدًا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَهَمَا تَسِيلانِ الدِّمَاء. فَلَمَّا أَبْصَرَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ مَا فَعَلَ غُلامُهُمَا سَكَتَا، فَلَمَّا أَتَاهُمَا قَالا لَهُ: مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ وَقَبَّلْتَ قَدَمَيِّهِ، وَلَمْ نَرَكَ فَعَلْتَ هَذَا بِأَحَدِنَا.
قَالَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ حَدَّثَنِي عَنْ أَشْيَاءَ عَرِفْتُهَا مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسُ بِنْ مَتَّى فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ فَضَحِكَا وَقَالا: لا يَفْتِنُكَ عَنْ نَصْرَانِيْتِكَ أَنَّهُ رَجُلٌ يَخْدَعُ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ ... . انْتَهَى.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَوألهمنا ذِكْرَكَ، اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلَصِينَ وَآمِنَّا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الدِّين، وَاحْشُرْنَا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَويه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ صَعَدَ الْغَارَ فَأَمَّا قَدِمَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَفَطَرَتَا، وَأَمَّا قَدَمَايَ فَعَادَتْ كَأَنَّهُمَا صَفْوَانٌ، قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَعَوَّدْ الْحُفْيَةَ.
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رُبَاعِيْتِهِ يَوم أُحُدٍ وَشُجَّ رَأْسَهُ فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَّ عَنْ وَجْهِهِ، ويَقُولُ: «كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمُ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، فَنَزَلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآيَة.(2/31)
وَعِنْد الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُصَيبَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ مَالِكُ بِنْ سِنَانٍ فَمَصَّ جُرْحَهُ ثُمَّ ازْدَرده - أى ابتلعه - قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ خَالَطَ دَمُّهُ دَمِّي فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَالِكِ بِنْ سِنَانٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا ذَكَرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: ذَاكَ يَومُ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ: كُنْتُ أَوْلُ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرَأَيْتُ رَجُلاً يَقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ دُونَهُ، وَأَرَاهُ قَالَ: حَمِيَّةً. قَالَ: فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي فَقُلْتُ يَكُونُ رَجُلاً مِنْ قَوْمِي أَحَبُّ إِلَيَّ. وَبَيْنِي وَبَيْنِ الْمُشْرِكِينَ رَجُلاً لا أَعْرِفُهُ وَأنَا أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ وَهُوَ يَخْطَفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لا أَخْطُفُهُ. فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتِه، وَشَجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي وَجْنَتَهُ حَلَقَتَا مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمَا صَاحِبُكُمَا» . يُرِيدُ طَلْحَةَ، وَقَدْ نَزَفَ فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، قَالَ: وَذَهَبْتُ لأَنْزِعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي فَتَرَكْتُهُ. فَكَرِهَ تَنَاوُلُهَا بِيَدِهِ فَيُؤْذِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَزَمَّ عَلَيْهَا بِفِيهِ أَيْ عَضَّ عَلَيْهَا، فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلَقَتَيْنِ وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتِهِ مَعَ الْحَلَقَةِ وَذَهَبْتُ لأَصْنَعَ مَا صَنَعَ. فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِي لَمَا تَرَكْتَنِي. قَالَ: فَفَعَلَ مِثَلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الأُولَى فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتِهِ الأُخْرَى مَعَ الْحَلَقَةِ.
فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسَ هَتْمًا فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ الْجفَارِ، فَإَذَا بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ طَعْنَةً وَرَمْيَةً وَضَرْبَةً وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ أُصْبُعهُ فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالَنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ - صلى الله عليه وسلم - وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا(2/32)
وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" مَوْعِظَةْ "
عِبَادَ اللهِ إِنَّ اللهَ اخْتَارَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - وَخَصَّهُ بِمَزَايَا لَمْ تَكُنْ لأَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ وَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا خَيْرَةَ النَّاسِ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَصَّهُمْ بِمَزَايَا لَمْ تَكُنْ لِسِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، حَاشَا الأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَثْنَى عَلَيْهمْ، سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَنْبِيهًا عَلَى جَلالَةِ قَدْرِهِمْ، وَعَلُوِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَعِظَمِ فَضْلِهِمْ، وَشَرَفِهِمْ. قَالَ تَعَالَى:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} .
وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُهُمْ بِشِدَّةِ الرَّحْمَةِ وَلِينَ الْجَانِبِ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَشِدَّتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ {مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانَا سِيماهم فِي وجوهم من أثر السجود} .
وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ بِأَفْضَلِ مَا يَصِفُ بِهِ إِنْسَانًا {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ الْقُرُونَ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَلَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ أَصْبَرَ النَّاسِ بَعْدَ الرُّسُلِ عَلَى الأَذَى فِي اللهِ فَلَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اللهَ وَصُبَّ عَلَيْهمْ الأَذَى مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلا(2/33)
ذَلِكَ إِيمَانًا. قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} ، وَقَالَ: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الآيَة.
وَإِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَرْفَعُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ دَرَجَةً وَأَعْلاهُمْ مَكَانًا بِشَهَادَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا عَجَبَ أَنْ يُعْلِنَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - بِفَضْلِهِمْ وَيُحَذِّرُ مِنْ سَبِّهِمُ وَمَقْتِهِمْ، وَيَقُولُ فَيمَا رَوَى الترمذِيُّ: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغِضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» .
وَيَقُولُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهُمْ وَلا نصيفَهِ، فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَشُكُ عَاقِلٌ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِي حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبْق، وَاسْتَوْلُوا عَلَى مَعَالِي الأَمُورِ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالصِّدِقِ وَالْعِفَّةِ، وَالْكَرَمِ وَالإِحْسَانِ، وَالْقَنَاعَةَ، وَعُلُوَ الْهِمَّةِ، وَالنَّزَاهَةَ، وَالشَّجَاعَةَ، وَالتُّقَى وَالتَّوَاضُعِ، وَنَحْو ذَلِكَ.
فَالسَّعِيدُ مَنْ اتَّبَعَ طَرِيقَهُمْ، وَاقْتَفَى مَنْهَجُهُمْ الْقَوِيم، وَالشَّقِيُّ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَلَمْ يَتَحَقَّقَ بِتَحْقِيقِهِمْ، فَأَيُ خِطَّةِ رُشْدِهِمْ لَمْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا، وَأَيُ خُصْلَةٍ خَيْرٍ لَمْ يُسْبِقُوا إِلَيْهَا، لَقَدْ وَرَدُوا يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلالاً.
وَوَطَّدُوا قَوَاعِدَ الدِّينِ، وَالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يَدْعَوا لأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالاً.
فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِالْقُرَآنِ، وَالذِّكْرِ وَالإِيمَانِ، وَالْقُرَى بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ. وَبَذلُوا النُّفُوسَ النَّفِيسَة فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، فَلا مَعْرُوفَ إِلا مَا عُرِفَ عَنْهُمْ، وَلا بُرْهَانَ إِلا مَا بِعُلُومِهِمْ كُشِفَ، وَلا سَبِيلَ نَجَاةَ إِلا مَا سَلَكُوهُ وَلا خَيْرَ سَعَادَةٍ إِلا مَا حَقَّقُوهُ وَحَلَّوهُ فَرِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهمْ، مَا تَحَلَّتِ الْمَجَالِسُ بِنَشْرِ ذِكْرِهِمْ، وَمَا تَنَمَّقَتِ الطُّرُوفُ بِعُرْفِ مَدْحِهِمْ وَشُكْرِهِمْ:(2/34)
شِعْرًا: ... وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةِ ... بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابَةِ
فَإِنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا الْمُخْتَارَ ... وَعَايَنُوا الأَسْرَارَ وَالأَنْوَارَا
وَجَاهَدُوا فِي اللهِ حَتَّى بَانَا ... دِينُ الْهُدَى وَقَدْ سَمَا الأَدْيَانَا
وَقَدْ تُلِيَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ ... مِنْ فَضْلِهِمْ مَا يَشْفِي مِنْ غَلِيلِ
وَفِي الأَحَادِيثِ وَفِى الأَخْبَارِ ... وَفِى كَلامِ الْقَوْمِ وَالأَشْعَارِ
مَا قَدْرَ رَبَا مِنْ أَنْ يُحِيطَ نَظْمِي ... بِبَعْضِهِ فَاسْمَعْ وَخُذْ مِنْ عِلْمِي
آخر: ... قُوْمٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ مَنْزِلَةً ... وَحُرْمَةً وَبُشَارَاتٍ وَإِكْرَامِ
فَازُوا بِصُحْبَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَاتَّصَفُوا ... بِوَصْفِهِ فُهُمْ لِلنَّاسِ أَعْلامُ
فَفِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ قَدْ وَرَدَتْ ... آثَارُ فَضْلٍ لَهَا فِي الذِّكْرِ أَحْكَامُ
وَبَعْدَهُ عُمَر الْفَارُوق صَاحِبُهُ ... بِهِ تَكَمَّلَ بِالْفَارُوقِ إِسْلامُ
وَهَكَذَا الْبَّرُّ عُثْمَانُ الشَّهِيدُ لَهُ ... فِي الليلِ وُرِدٌ وَبِالْقُرَآنِ قَوَّامُ
وَلِلإِمَامِ عَلِيّ الْمُرْتَضَى مِنَحٌ لَهُ ... احْتِرَامٌ وَإِعْزَازٌ وَإِكْرَام
هُمُ الصَّحَابَةُ لِلْمُخْتَارِ قَدْ وَضَّحُوا ... طُرُقَ الْهُدَى وَعَلَى الطََّاعَاتِ قَدْ دَامُوا
" فَصْلٌ ": ذِكْرُ نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَذَى وَالشَّدَائِدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ
فَأَوْلُ ذَلِكَ فِي تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ
أَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الأَطْرَابُلْسِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلاثِينَ رَجُلاً أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الظُّهُورِ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ» . فَلَمْ يزل أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ كُلُّ رُجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ. وقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فَكَانَ أَوْلُ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللهِِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَضُرِبُوا فيِ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَديدًا، وَوُطِأَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا(2/35)
شَدِيدًا وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بن رَبِيعَة فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ، وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ.
وَجَاءَ بَنُو تَمِيمٍ يَتَعَادُونَ فَأَجْلَتْ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَحَمِلَتْ بَنُو تَمِيمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَلا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَمِيمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلّنَ عُتْبَةَ بن رَبِيعةَ فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةُ وَبَنُوا تَمِيمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ فَتَكَلَّمَ آخِر النَّهَارَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمُ وَعَذَلُوهُ ثُمَّ قَامُوا وَقَالُوا لأُمِّهِ أُمِّ الْخَيِرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا أَوْ تُسْقِيهِ إِيَّاهُ.
فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَتْ: مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: إذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ، فَاسْأَلِيهَا فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللهِ.
فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلا مُحَمَّدَ بن عَبْد اللهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ؟ قَالَتْ: نَعَم. فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِقًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّ قَوْمًا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لأَهَلِ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْتَقَمَ اللهُ لَكَ مِنْهُمْ.
قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَتْ: هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلا شَيْءَ عَلَيْكِ مَنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ.
قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ أَنْ لا أَذُوقَ طَعَامًا وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا أَوْ آتِيَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمْهَلَنَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ خَرَجْنَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى ادْخَلنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَقَةً شَدِيدَةً.(2/36)
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِنَّ مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَارٌة بِوَلَدِهَا وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَأْدُعُهَا إِلَى اللهِ، وَادْعُ اللهَ لَهَا عَسَى اللهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَدَعَاهَا إِلَى اللهِ فَأَسْلَمَتْ وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي الدَّارِ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلاً. وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرِ بن الْخَطَّابِ أَوْ لأَبِي جَهْلِ بن هُشَامٍ فَأَصْبَحَ عُمَر وَكَانَتْ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلا مَكْةَ.
وَخَرَجَ أَبُو الأَرْقَمِ وَهُو أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِي عبيدِ الأَرْقَمِ فَإِنَّه كَفَرَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلامَ تُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقّ وَيُظْهِرُوا دِينَهَمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: يَا عُمَر إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْنَا مَا لَقِينَا.
فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالذِّي بَعَثَكَ بِالْحَّقِ لا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ.
ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْش وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فُلانٌ أَنَّكَ صَبَوْتَ؟
فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَة وَبَرَكَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ حَتَّى أَعْجَزَ النَّاس وَاتْبَعَ الْمَجَالِسَ التَّي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الإِيمَانُ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي(2/37)
وَاللهِ مَا بَقَي مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ غَيْرَ هَيَّابٍ وَلا خَائِفٍ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ مُؤَمِّنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَط إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إَلا يَأْتِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَيّ النَّهَارَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغَمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدُ رِبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ وَلا يَخْرُجُ؛ إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومِ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْف وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأنَا لكَ جَارٌّ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ فِي بَلَدِكَ.
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُِومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيُقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَلَمْ تَكْذِبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابنِ الدَّغِنَةِ.
وَقَالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلِيُصِّلِ فِيهَا وَلْيَقْرَأَ مَا شَاءَ وَلا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ.
فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلا يَسْتَعْلِنُ بِصَلاتِهِ وَلا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَا مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ(2/38)
الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ - أَيْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ - وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافُ قُرِيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهُ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ مِنْ أَنْ يَرَّدَ إِلَيكَ ذِمَّتِكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهَنَا أَنْ نَخْفُرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ.
قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذمَّتِي.
فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبَ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيكَ جَوَارُكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
هَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهُ فَلَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ قَدَّمَهُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ قَالَ فِي النُّونِيَّةِ مَا قَالَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ:
شِعْرًا: ... وَيَقُولُ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ يَؤُمُّكُمْ ... عَنِّي أَبُو بَكْرٍ بِلا رَوَغَانِ
وَيَظِلُّ يَمْنَعُ مِنْ إِمَامِةِ غَيْرِهِ ... حَتَّى يُرَى فِي صُورِةِ مَيَلانِ
ويَقُولُ لَوْ كُنْتُ الْخَلِيلَ لِوَاحِدٍ ... فِي النَّاسِ كَانَ هُوَ الْخَلِيلُ الدَّانِ
لَكِنَّهُ الأَخُ وَالرَّفِيقُ وَصَاحِبِي ... وَلَهُ عَلَيْنَا مِنْهُ الإِحْسَانِ
ويَقُولُ لِلصِّديق يَوْم الْغَارِ لا ... تَحْزَنْ فَنَحُنُ ثَلاثَةٌ لا اثْنَانِ
اللهُ ثَالِثُنَا وَتَلْكَ فَضِيلَةٌ ... مَا حَازَهَا إِلا فَتًى عُثْمَانِ(2/39)
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتَابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ، الْمُحَلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرِمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَّعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرِينَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، اللَّهُمَّ اعْفُ عَنْ تَقْصِيرِنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَى مَا يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ. وَهَبَ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ، وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدْيتَهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا التَي هِيَ أَقْرَبُ أَعْدَائِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوّكَ وَاعْصِمْنَا مِنْ الْهَوَى وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَمَكِّنْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَاوألهمنا ذِكْرِكَ وَشُكْرَكَ وَفَرِّج قُلُوبِنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجِهَكَ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَيْ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بن مَعْمَرٍ فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبدُ اللهِ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأنَا غُلامٌ اعْقِلُ كُلَّمَا رَأَيْتُ حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيل أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وهم أَنِدَيتُهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ أَلا إِنَّ ابٍنَ الْخَطَّابَ قَدْ صَبَأَ.
قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذِبَ وَلَكْنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لا إله إلا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُؤوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلَحَ: - أي أَعْيَا - فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ(2/40)
يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاللهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلاثمَائِة رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا.
قَالَ: فَبَيْنَمَا عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَبِرَة وَقَمِيصٌ مَوَشَّى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. قَالَ: فَمَه، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَترَونَ بَنِي عَدِيّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبهُمْ هَكَذَا، خَلُّوا عَنْ الرَّجُلِ.
قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ - أَيْ كُشِفَ عَنْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتِ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقُوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ قَالَ: وَذَاكَ أَيْ بُنَي الْعَاصُ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ. وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيّ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِي، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُثْمَانُ بن عَفَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَذَهُ عَمُّهُ الْحَكَمُ بْن أَبِي الْعَاصِ بن أُمَيَّةَ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا، قَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ آبَائِكَ إِلَى دِينٍ مُحْدَثٍ، وَاللهِ لا أَحُلُّكَ أَبَدًا وَلا أَفَارِقَهُ، فَلَمَّا رَأَى الْحَكَمُ صَلابَتُهُ فِي دِينِهِ تَرَكَهُ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ مَسْعُودٍ بن خِرَاشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِذَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ يَتَّبِعُونَ شَابًا مُوثقًا بِيَدِهِ فِي عُنُقِهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنَهُ؟ قَالُوا: هَذَا طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَبَأَ وَامْرَأَةٌ وَرَاءَهُ تُدَمْدِمُ وَتَسُبُّه. قُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: الصِّمَّةُ بِنْت الْحَضْرَميّ أُمُّهُ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكُ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بن مُحَمَّدٍ بن طَلْحَة قَالَ: قَالَ لِي طَلْحَةُ بن عُبَيْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرى فَإَذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِه يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمُوسِم أَفِيهُمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ.
قَالَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَعَم أَنَا. فَقَالَ: هَلَ ظَهَرَ أحمد بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ(2/41)
أحمد؟ قَالَ: ابْن عَبْدِ اللهِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِب هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجِرَه إِلَى نَخْل وحرة وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ.
قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّة فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَم، مُحَمَّد بِن عَبدِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَمِين تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: نَعَم فَانْطَلِقْ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعُهُ فَإِنَّه يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ فَأََخْبَرَهُ طَلْحَة بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَمَا قَالَ الرَّاهِبُ فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَة أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بن خُوَيْلَدِ بن الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا في حَبْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَمِيمٍ. وَكَانَ نَوْفَلُ بن خُوَيْلِدٍ يُدْعَى ((أَسَدُ قُرَيْشٍ)) فلِذَلِكَ سَمَّى أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةَ الْقَرِينَيْنِ ... . فَذَكَرَ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي حَدِيثُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابن الْعَدَوِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدُ قَالَ: أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْن ثَمَانُ سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرة سنة وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْر فِي حَصِيرٍ وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ. فيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا أَكْفُرُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا عَنْ حَفْصِ بن خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُوصِلِ قَالَ: صَحِبْتُ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَصَابَتْهُ جَنَابَةً بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَقَالَ: اسْتُرْنِي. فَسَتَرْتُهُ فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَة فَرَأَيْتُهُ مُجَدّعًا بِالسِّيوفِ. قُلْتُ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِكَ آَثَارًا مَا رَأَيْتُهَا بِأَحَدٍ قَطٍ؟ قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَم. قَالَ: أََمَا وَاللهِ مَا مَنْهَا جِرَاحَةٌ إِلا مَعَ(2/42)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي سَبِيلِ اللهِ.
وَعِندَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلِيّ بن زَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الزُّبَيْرَ وَإِنَّ في صَدْرِهِ لأَمْثَالُ الْعُيُونِ مِنْ الطَّعْنِ وَالرَّمْي.
أَخْرَجَ الإِمَامُ أحمد وَابْنُ مَاجَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعمارُ وَأُمُّهُ سُمَيَّة وَصُهَيْبٌ وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ، وأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ أَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلا بِلال فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَان فَجَعَلوُا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّة وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةَ عَنْ هُشَام بن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بن نَوْفَل يَمُرُّ بِبِلالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، اللهُ يَا بِلالُ ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ بن نَوْفَلِ عَلَى أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ وَهُوَ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلالٍ فيَقُولُ: احْلِفُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذِهِ لاتَّخِذَّنَهُ حَنَانًا.
حَتَى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقِ يَوْمًا وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لأُمَيَّة: أَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذَا الْمِسْكِين حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتُهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ عِنْدِي غُلامٌ أَسْوَدٌ أَجْلَدُ مِنَْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بِهِ. قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ. قَالَ: هُوَ لَكَ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلامَه ذَلِكَ وَأَخَذَ بِلالاً فَأَعْتَقَهُ.
ثُمَّ اعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ قَبْل أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَ رِقَابٍ بِلال سَابِعُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقٍ كَانَ أُمَيَّةُ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسِ فَيَطْرحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّة ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ: لا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبَدَ اللاتَ وَالْعُزَّى.(2/43)
وَهُوَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْبَلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ عَمَّارُ بْن يَاسِرَ وَهُوَ يُذَكِّرُ بِلالاً وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلاء وَاعْتَاقِ أَبَا بَكْرٍ إِيَّاهُ وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
جَزَى اللهُ خَيْرًا عَنْ بِلالٍ وَصَحْبِهِ ... عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلٍ
عَشِيَّةَ هَمَّا فِي بِلالٍ بِسَوْءَةٍ ... وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ
بِتَوْحِيدِهِ رَبّ الأَنَامِ وَقَوْلُهُ ... وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ
فِإِنْ يَقْتُلُونِي يَقْتُلُونِي فَلَمْ أَكُنْ ... لأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْل
فَيَا رَبّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُس ... وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لا تُبْلِ
لِمَنْ ظَلّ الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ ... عَلَى ضَرِ بر كَانَ مِنْهُ وَلا عَدْل
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاجْعَلْ الإِيمَانَ لَنَا سِرَاجًا وَلا تَجْعَلْهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا وَاجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إِلَى جَنَّتِكَ وَلا تَجْعَلُهُ لَنَا مَكْرًا مِنْ مَشِيئَتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الْحَلِيمُ الْغَفُورُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارِ، وِآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَة حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ والْبَيْهَقِيُّ وَابْن عَسَاكِرُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِعَمارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَبُونَ. فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ» . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمُقوم وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو أحمد الْحَاكِم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن جَعُفَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَاسِرٍ وَعَمَّارٍ وَأُمِّ عَمَّارٍ وَهُمْ يُؤْذَوْنَ فِي اللهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ: «صَبْرًا آل يَاسِرٍ صَبْرًا آل يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا نَحْوَهُ وَزَادَ: وَعَبْدِ اللهِ بْنِ يَاسِرٍ. وَزَادَ: وَطَعَنَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةِ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ وَمَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ وَرُمِيَ عَبْدُ اللهِ فَسَقَطَ.(2/44)
وَعِنْدَ أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوْلُ شَهْيدٍ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا. وَعَنْ عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرِ بِالنَّارِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمُرُّ بِهِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فيَقُولُ: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلامُ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةِ» . فَقَتَلَهُ أَحَدُ الْمُقَاتِلِينَ مَعَ مُعَاوِيَةٍ.
شِعْرًا: ... وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمُ ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ
فَحَرْبَةُ وَحْشِيُّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرّدَى ... وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلَجَّمٍ
وَعِنْد الْحَاكِمِ فِي الْكُنَى وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَطْحَاءِ إِذْ بِعَمَّارِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ يُعَذَّبُونَ فِي الشَّمْسِ لِيَرْتَدُوا عَنْ الإِسْلامِ. فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُول اللهِ الدَّهْرُ هَكَذَا؟ فَقَالَ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمُ فِي الْحِلْيَةِ ج (1) ص (140) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّد بْن عَمَّارٍ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. مَا تُرِكْتُ حتَّى نِلْتُ مِنْكَ وذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: أَجِدُ قَلْبِي مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ. قَالَ: «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ.
أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ الشِّعَبِي قَالَ: دَخَلَ خَبَّابُ بْن الآرَت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُتَّكَئِهِ فَقَالَ: مَا عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْ هَذَا إِلا رَجُل وَاحِد. قَالَ لَهُ خَبَّابُ: مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بِلالٌ. فَقَالَ خَبَّابٌ: مَا هُوَ أَحَقُّ مِنِّي إِنَّ بِلالاً كَانَ لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ اللهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمًا، أَخَذُونِي فَأَوْقَدُوا لِي نَارًا، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي(2/45)
فَمَا اتَّقَيْتُ الأَرْضَ – أَوَ قَالَ: بَرْدَ الأَرْضِ - إِلا بِظَهْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإَذَا هُوَ قَدْ بَرَصَ، أَيْ مِنْ أَثَرِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ.
وَأَخْرَجَ أحمد عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً قَيِّنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٍ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. فَقَالَ: لا وَاللهِ لا أَقْضِيَنَّكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَث. قَالَ: فَإِنَّي إِذَا مِتُّ ثُمَّ جَئْتنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيَكَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} . وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ الشِّعبِيِّ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلالاً عَمَّا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ خَبَّابٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! انْظُرْ إِلَى ظَهْرِي. فَقَالَ عُمَرُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ. قَالَ: أَوْقَدُوا لِي نَارًا فَمَا أَطْفَأَهَا إِلا وَدَكَ ظَهْرِي.
شِعْرًا: ... إِنَّ الشَّدَائِدَ قَدْ تَغْشَى الْكَرِيمَ لأَنْ ... تُبِينُ فَضْلَ سَجَيَاهُ وَتُوضِحُهُ
كَمَبْرَدِ الْقَيِّنِ إِذْ يَعْلُو الْحَدِيدَ بِهِ ... وَلَيْسَ يَأْكُلُهُ إِلا لِيُصْلِحَهُ
قَالَ عِيسَى بْن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مُجَالَسَةً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رُوحِ اللهِ. قَالَ: مَنْ تُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ وَيُزِيدُكُمْ فِي عَمَلِكُمْ مَنْطِقِهِ وَيُشَوِّقُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ عَمَلُهُ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْحَوَارِيِّينَ: وَيْلُكُمْ، يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا كَيَفَ تُخَالِفُ فُرُوعكُمْ أُصُولَكمْ وَأَهْوَاؤكمْ عُقُولَكمْ، قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ يٌبْرِؤُ الدَّاءَ، وَفِعْلُكُمْ دَاءٌ لا يَقْبَلُ الدَّوَاءَ لَسْتُمْ كَالْكرْمَةِ التَّي حَسُنَ وَرَقُهَا وَطَابَ ثَمَرُهَا وَسَهُلَ مُرْتَقَاهَا، وَلَكِنَّكُمْ كَالسُّمْرَةِ التَّي قَلَّ وَرَقُهَا وَكَثُر شَوْكُهَا وَصَعُبَ مُرْتَقَاهَا.
وَيْلُكُمْ يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا جَعَلْتُمْ الْعَمَلَ تَحْتَ أَقْدَامِكِمْ مَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَجَعَلْتُمْ الدُّنْيَا فَوْقَ رُؤسِكِمْ لا يُمْكِنُ تَنَاوُلهَا فَلا أَنْتُمْ عَبِيدٌ نُصَحًا وَلا أَحْرَارٌ كِرَامٌ. وَيِلُكُمْ يَا أُجَرَاءُ السُّوءِ، الأَجْرُ تَأْخُذُونَ وَالْعَمَلَ تُفْسِدُونَ سَوْفَ تَلْقَوْنَ مَا(2/46)
تَحْذَرُونَ إِذَا نَظَرَ رَبُّ الْعَمَل فِي عَمَلِهِ الَّذِي أَفْسَدْتُمْ وَأَجْرِهِ الَّذِي أَخَذْتُمْ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: اتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ بيوتًا، وَالْبيوتَ مَنَازِلَ، وَكُلُوا بَقْلَ الْبَرِيَّةِ، وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقُرَاحَ، وَانْجُوا مِنَ الدُّنْيَا سَالِمِينَ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْحَوَارِيِّينَ: لا تَنْظُرُوا فِي أَعْمَالِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِي أَعْمَالِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُبْتَلَى وَمُعَافَى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلاءِ، وَاحْمِدُوا اللهَ عَلَى الْعَافِيَةِ. وَقَالَ: عَجَبًا لَكُمْ تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِلا عَمَلٍ، وَلا تَعْمَلُونَ لِلآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لا تُرْزَقُونَ فِيهَا بِلا عَمَلٍ.
اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ جِمِيعِ الآفَاتِ وَعَافِنَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَارْفَعْ لَنَا فِي مَرْضَاتِكَ الدَّرَجَاتِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ فِي فَسِيحِ الْجَنَّاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُّرُهُ الْمَعْصَيَةُ وَلا تَنْفَعُهُ الطّاعَةُ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لَمَصَالِحِنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا، وَلا تُؤَاخِذُنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرِنَا، وَأَكَنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَائِبِ التَّي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وَامْنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنْبٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأَخِيهِ: ارْكَبْ عَلَى هَذَا الْوَادِي فاعْلَمْ عِلْمَ هَذَا الرَّجُل الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ يَأْتِيهُ الْخَبَر مِنَ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ قَوْلُهُ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسِمَعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَكَلامًا مَا هُوَ بَالشِّعْرِ. فَقَالَ: شَفَيْتَني مِمَّا أَرَدْتُ.
فَتَزَوَّدَ حِمْل شَنَّةٍ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكْةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلا يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أنَّ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيلِ اضْطَجَعَ فَرَآهَ عَلِيٌّ(2/47)
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مَنْهُمَا صَاحَبَهُ عَنْ شَيْء حَتَّى أَصْبَحَ.
ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدَ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلا يَرَاهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعَهُ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلَ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ، فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْء، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْم الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ.
ثُمَّ قَالَ: أَلا تُحَدَّثَنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لِتُرْشِدَنِي فَعَلْتُ. فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإَذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَخَلَ مَعْهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إرْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي.
قَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ.
ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِّ بِمِثْلِهُا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا فَأَكَبَّ العَبَّاسُ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي أَشْهَدُ أَن لا إله إلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئُ فَقَامُوا فَضُرِبَتُ لأَمُوتَ. فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: وَيْلُكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارٍ فَأَقْلَعُوا عَنِّي.(2/48)
فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ: مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئُ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَمْسِ فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتُهُ بِالأَمْسِ.
شِعْرَاً: ... طَالِع تَوَارِيخ مَنْ فِي الدَّهْرِ قَدْ وُجِدُوا ... تَجِدْ خُطُوبًا تُسَلِّي عَنْكَ مَا تَجِدُ
تَجِدُ أَكَابِرَهُمْ قَدْ جُرِّعُوا غُصَصًا ... مِنْ الرَّزَايَا بِهَا قَدْ فُتِّنَتْ كُبُدُ
عَزْلٌ وَنَهْبٌ وَضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ يَلي ... حَبْسٌ وَقَتْلٌ وَتَشْرِيدٌ لِمَنْ زَهِدُوا
وَإِنْ وُقِيتَ بِِحَمْدِ اللهِ شَرَّتَهُمْ ... فَلْتَحْمد اللهَ فِي الْعُقْبَى كَمَنْ حَمِدُوا
آخر: ... وَلا يَلْبَثُ الْجُهَّالُ أَنْ يَتَهَظَّمُوا ... أَخَا الدِّين مَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِسَفِيهِ
آخر: ... وَمَنْ يَحْلَمْ ولَيْسَ لَهُ سَفِيهٌ ... يُلاقِي الْمُعْضِلاتِ مِنَ النُّذُولِ
آخر: ... مَا إِنْ نَفَى عَنْكَ قَوْمًا قُرْبُهُمُ ضَرَرٌ ... كَمِثْلِ قَمْعِكَ جُهَّالاً بِجُهَّالٍ
آخر: ... تَعْدُ الذِّئَابِ عَلَى مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وَتَتَّقِي مَرْبَضَ الْمُسْتَأْسِدِ الْحَامِي
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم يَقُولُ أَبُو ذَرٍ: فَرَمَانِي النَّاسُ حَتَّى كَأَنِّي نَصْبُ أَحْمَرُ فَاخْتَبَأْتُ بِيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا وَلَبِثْتُ فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي طَعَامٌ وَلا شَرَابٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ.
قَالَ: وَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ دَخَلا الْمَسْجِدَ فَوَاللهِ أَنِّي لأَوْلُ النَّاسِ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ. فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، مَنْ أَنْتَ» . فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: ائْذَنْ لي يَا رَسُولَ اللهِ فِي ضِيَافَةِ اللَّيْلَةِ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى دَارٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَقُبِضَ لِي قَبَضَاتُ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى أَخِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَسْلَمْتُ. قَالَ: فَإِنِّي عَلَى دِينِكِ، فَانْطَلَقَنَا إِلَى أُمِّنَا فقَالَتْ: إِنِّي عَلَى دِينِكُمَا. قَالَ: وَأَتَيْتُ قَوْمِي فَدَعَوْتُهُمْ فَتَبِعَنِي بَعْضهُمْ.
وأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ فَعَلَّمَنِي(2/49)
الإِسْلامَ وَقَرَأْتُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ دِينِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إَنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ» . قُلْتُ: لا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ قُتِلْتُ. قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي فَجِئْتُ وَقُُرَيْشٌ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
فَانْتَفَضَتِ الْحِلَقُ فَقَامُوا فَضَرَبُونِي حَتَّى تَرَكُونِي كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَر، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُونِي، فَأَفَقْتُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَى مَا بِي مِنَ الْحَالِ. فَقَالَ: «أَلَمْ أَنْهَكَ» ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ كَانْتْ حَاجَةُ فِي نَفْسِي فَقَضَيْتُهَا. فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «الْحَقْ بِقَوْمِكَ فَإَذَا بَلَغَكَ ظُهُورِي فَأْتِنِي» .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ مَكَّةَ فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلِ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، فَخَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَر.
آخر: ... تَسْطُوا الْكِلابَ عَلَى أُسْدِ الشَّرّ سَفَهًا ... وَالْبَازُ الأَشْهَبُ يَخْشَى صَوْلَةَ الْحَجَلِ
شِعْرَاً: ... وَالْقِرْدُ يَضْحَكُ مِنْ نِمْرٍ عَلَى هُزُءٍ ... وَالْكَلْبُ يُوعِدُ لَيْثَ الْغيلِ بِالْغِيَلِ
آخر: ... وَإِنِّي لأَسْتَبِقِي إِمْرَأَ السُّوء عَدَّةً ... لِعَدْوَةِ عَرِيضِ مِنَ الْقَوْمِ جَانِبِ
أَخَافُ كِلابَ الأَبْعَدِينَ وَهَرْشَهَا ... إِذَا لَمْ تُهَارِشْهَا كِلابُ الأَقَارِبِ
" موعظة ": عِبَادَ اللهِ تَزَوَّدُا لِلرَّحِيلِ، فَقَدْ دَنَتْ الآجَالُ وَاجْتَهِدُوا وَاسْتَعِدُّوا لِلرَّحِيلِ، فَقَدْ قَرُبَ الارْتِحَالُ، وَمَهِّدُوا لأَنْفُسِكُمْ صَالِحَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفُرَاقِ وَإِنَّ الآخِرَة قَدْ أَشْرَفَتْ لِلتَّلاقِ فَتَزَوَّدُوا مِنْ دَارِ الانْتِقَالِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ.
وَاسْتَشْعِرُوا التَّقْوَى فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَأحْذَرُوا التَّفَاخُرَ والتَّكَاثُرَ فِي الدُّنْيَا بِجَمْعِ الْحُطَامِ وَاكْتِسَابِ الآثَامِ وَإِيَّاكُمْ وَالاغْتِرَارَ بِالآمَالِ فَوَرَاءَكُمْ الْمَقَابِرُ ذَاتُ الْوَحْشَةِ وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْكُرُبَاتِ وَتَضَايُقِ الأَنْفَاسِ وَالأَهْوَالِ الْمُفْضعاتِ.(2/50)
فَسَوْفَ تَرَوْنَ مَا لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِي حِسَابٍ إِذَا نُودِيتُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ حُفَاةً عُرَاةً غُرُلاً مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي وَتَعَلَّقُ الْمَظْلُومُونَ بَالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَلَّ بِكِمْ كَرْبُ الْمَقَامِ وَاشْتَدَّ بِالْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الزّحَامُ وَأُخِذَ الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ وَبُرِّزَتْ جَهَنَّمُ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ زِمَامٍ مَعَ كُلّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا وَالْخَزَنَةُ حَوْلَهَا غِلاظٌ شِدَادٌ.
وَيَنَادِي عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْجَبَّارِ فيَقُولُ: هَلْ امْتَلأتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. هُنَالِكَ يَنْخَلِعُ قَلْبُكَ وَتَتَذَكَّرُ مَا فَرَطْتَ فِيهِ مِنَ الأَوْقَاتِ وَتَنْدِمُ وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ وَتَتَمَنَّى أَنْ لَوْ زِيدَ فِي الْحَسَنَاتِ وَخُفِفَ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَكِنْ أَنَّى لَكَ بِهَذا وَهَيْهَاتَ {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتِبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْم الآخَرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبِنَا وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهَوألهمنا ذَكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمْيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرُ يَوْمَ الزَّحْفِ وَالزَّلازِلَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": مَا أَصَابَ سَعِيدَ بْن زَيْد وَزَوْجَتهُ فَاطِمَةِ أُخْت عُمَرٍ.
أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عُمَرٌ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زهرةٍ قَالَ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا. قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ إِذ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا. قَالَ. فَقَالَ لَهُ عُمَر: مَا أَرَاكَ إِلا قَدْ صَبَأْتَ وَتَرَكْتَ دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَفَلا أَدُلُكَ عَلَى مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ، وَخَتَنُكَ قَدْ صَبَوَا وَتَرَكَا دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ.(2/51)
قَالَ: فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يقَالَ خَبَّابُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فَسَمِعَ خَبَّابُ حِسَّ عُمَرَ فَتَوَارَى فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا هَذِِهِِ الْهَيْمَنَةُ التِّي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَقْرَءُونَ {طه} فَقَالا: مَا عِنْدَنَا حَدِيثًا تَحَدَثْنَاهُ بَيْنَنَا. قَالَ: فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَتَنُهُ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكِ؟ فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتَنِهِ فَوَطَأَهُ وَطْأً شَدِيدًا فَجَاءَتْ أُخْتُهُ فَدَفَعَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا فَنَفَحَهَا بِيَدِهِ – أَيْ لَطِمَهَا - فَدَمَى وَجْهَهَا فقَالَتْ - وَهِيَ غَضْبَى -: يَا عُمَر إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ: اعْطُونِي الْكِتَابَ هَذَا الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ: يَقْرَأُ الْكُتُبَ. فَقَالَتْ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رِجْسٌ وَلا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ فَاغْتَسِلْ وَتَوَضَأَ. قَالَ. فَقَامَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ {طه} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قُوْلُهُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرِ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُون دَعْوَةَ رَسُولِ اللهِ لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بَعُمَرِ بْنِ هُشَامٍ. قَالَ: ورَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدَّارِ التِّي فِي أَصْلٍ الصَّفَا فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ.
قَالَ: وَعَلَى بَابِ الدّارِ حَمْزَةٌ وَطَلْحَةٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأىَ حَمْزَةٌ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرٍ قَالَ حَمْزَةٌ: نَعَمْ فَهَذَا عُمَرُ فَإِنْ يُرِدِ اللهُ بِعُمَرِ خَيْرًا يُسْلِمُ وَيَتْبَعُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ يُرِدْ اللهُ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا.
قَالَ: وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَاخِلٌ يُوَحَى إِلَيْهِ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ وَقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ حَتَّى(2/52)
يُنْزِلَ اللهُ بِكَ مِنَ الْخِزِي وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ ابْن الْخَطَّابِ اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَأَسْلَمَ وَقَالَ: أُخْرُجْ يَا رَسُول اللهِ.
أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عُثْمَان قَالَ: لَمَّا رَأَى ابْنُ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْبَلاء وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: وَاللهِ إَنَّ غَدْوِي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَصْحَابِي وَأَهْلِ دِينِي يَلْقُونَ مِنَ الأَذَى وَالْبَلاء مَا لا يُصِيبُنِي لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نِفْسِي.
فَمَشَى إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: لا يَا أَبَا عَبْدَ شَمْسٍ وَفَتْ ذِمّتُكَ قَدْ رَدَدْتُ إِلَيْكَ جِوَارَكَ. قَالَ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قِوْمِي؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي أَرْضَى بِجوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيَّ جَوَارِي عَلانِيَةً كَمَا أَجَرْتُكَ عَلانِيَةً.
قَالَ: فَانْطَلَقَا ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: هَذَا عُثْمَانٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي. قَالَ لَهُمْ: قَدْ صَدَقَ قَدْ وَجَدْتُه وَفِيًّا كَرِيمَ الْجِوَارِ وَلَكْنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ لا أَسْتَجِيرَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ.
ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ وَلَبِيدُ بْن رَبِيعَة بْن مَالِكٍ بْن كِلابٍ الْقَيْسِيُّ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قُرَيْشِ يَنْشِدُهُمْ فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَان فَقَالَ لَبِيدٌ وَهُوَ يَنْشِدُهُمْ: أَلا كُلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلٌ.
فَقَالَ عُثْمَانٌ: صَدَقْتَ. فَقَالَ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: كَذِبْتَ، نَعِيمُ الْجَنَّةِ لا يَزُولُ. قَالَ لَبِيدُ بْن رَبِيعَةِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشِ وَاللهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ فَمَتَى حَدَثَ فِيكُمْ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءٍ مَعَهُ قَدْ فَارَقُوا دِينِنَا فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مَنْ قَوْلِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانٌ حَتَّى(2/53)
سَرَى – أَيْ عَظُمَ أَمْرُهُمَا فَقَامَ إِلَيْه ذَلِكَ الرَّجُلَ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَطَرَهَا وَالْوَلِيدُ بْن الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانٍ. فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةِ! لَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: بَلَى وَاللهِ إِنَّ عَيْنِي الصَّحِيحَةُ لَفَقِيرَةٌ إِلَى مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللهِ، وَإِنِّي لَفِي جوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرَ يَا أَبَا عَبْدَ شَمْسٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْن مَظْعُونٍ فِيمَا أُصِيبَ مِنْ عَيْنِهِ:
شِعْرَاً: ... فَإِنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَى اللهِ نَالَهَا ... يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بُمُهَتَدِ
فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مَنْهَا ثَوَابُهُ ... وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمُ يَسْعَدِ
فَإِنِّي وَقَدْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ ... سَفِيهٍ عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ
أُرِيدُ بِذَاكَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ دِينُنَا ... عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْء مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءِ الْفُقَرَاءِ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَزِيلُ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَوَفْقِنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ بَارَكَ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَوَاتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلَنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِج السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ مُصْعَبُ بْن عُمَيْرِ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالاً وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانَهُ وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً – أَيْ غَنِيَّة كَثِيرةَ الْمَالِ - تَكْسُوهُ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَرَّقَهُ، وَكَانَ أَعْطَرُ أَهْلِ مَكَّةَ، يَلْبِسُ الْحَضْرَمِيُّ مِنَ النِّعَالِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهُ(2/54)
وَيَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لُمَّةً، وَلا أَرَقَ حُلَّةً، وَلا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَب بْن عُمَيْرٍ.
فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ فِي دَارِ أَرْقَمٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَخَرَجَ فَكَتَمَ إِسْلامَهُ، خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِرًّا فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بن طَلْحَةٍ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ أَمَّهُ وَقَوْمَهُ فَأَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، فَرَجَعَ مُتَغَيْرَ الْحَالِ قَدْ خَرَجَ فَكَفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ مِنَ الْعَذْلِ.
وَأَخْرَجَهَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مُصْعَبِ بْن عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُقْبِلاً عَلَيْهِ إِهَابِ كَبْشٍ - أَيْ جَلْد كَبْشٍ - (قَدْ تَمَنْطَقَ بِهِ) - أَي شّدَّهُ فِي وَسَطِهِ، فَقَالَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغْذُوَانه بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتَ عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا - أَوْ شُرِيَتْ - بِمَائَةِ دَرْهَمٍ فَدَعَاهُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ.
وَأَخْرَجَ التّرمُذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ رَاهَوِيهُ عَنْ عَلِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَدَاةٍ شَاتِيَةٍ مِنْ بِيْتِي جَائِعًا حَرصًا قَدْ أَذْلَقَنِي الْبَرْدُ، فَأَخَذْتُ إِهَابًا مَعْطُونًا كَانَ عِنْدنَا فَجَبَبْتُهُ.
ثُمَّ أَدْخَلْتُهُ فِي عُنُقِي ثُمَّ حَزَّمْتُهُ عَلَى صَدْرِي اسْتَدْفِئُ بِهِ، فَوَاللهِ مَا فِي بَيْتِي شَيْء آكلُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَبَلَغَنِي، فَخَرَجْتُ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعْتُ إِلَى يَهُودِيٍّ فِي حَائِطٍ مِنْ ثَغْرَةِ جِدَارِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَعَرْابِيُّ هَلْ لَكَ فِي كُلّ دَلْو بِتَمَرَةٍ، فَقُلْتُ: نَعَم فَافْتَحْ الْحَائِطَ فَفَتَحَ لِي فَدَخَلْتُ أَنْزِعُ دَلْوًا وَيَعْطِينِي تَمْرَةً حَتَّى امْتَلاءَتْ كَفْي. قُلْتُ: حَسْبِي مِنْكَ الآن.(2/55)
ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ فِي عُصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَاطَلَّعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بُرْدَةٍ لَهُ مَرْقُوعَةٍ، فلمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَرَأىَ حَالَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا فَذَرِفَتْ عَيْنَاهُ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمِ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي أُخْرَى، وَسُتِرَتْ بِيوتَكْمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةَ قُلْنَا نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خُيْرٌ نُكْفَى الْمُؤْنَةَ، وَنَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ. قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمئِذٍ» . وَاللهُ أَعْلَمُ.
اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنِا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": قِصْةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةِ السَّهْمِيّ مَعَ مَلِكِ الْفُرْسِ مَشْهُورَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي السُّنَّةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حِينَ عَزَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبْعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِكُتُبٍ إِلَى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ.
وَلَقَدْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُقَدِّرُ خُطُورَةَ هَذِهِ الْمُهِمَّةَ فَهَؤُلاءِ الرُّسُلِ سَيَذْهَبُونَ إِلَى بِلادٍ نَائِيَةٍ لا عَهْدَ لَهُمْ بِهَا مِنْ قَبْلُ، يَجْهَلُونَ لُغَاتِهِمْ وَلا يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنْ أَخْلاقِ مُلُوكِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَيَدْعُونَ هَؤُلاءِ إِلَى تَرْكِ مَا عَلَيْهِ آبَاؤهُمْ وَالدُّخُولِ فِي دِينِ الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ.
إِنَّهَا رِحْلَةٌ خَطِيرَةٌ الذَّاهِبُ إِلَيْهَا مَفْقُودٍ، وَالْعَائِدُ مَنْهَا مَوْلُودٌ، لِذَلِكَ جَمَعَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ وَقَامَ فِيْهِمْ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَتَشَهْدَ ثُمَّ(2/56)
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْضَكُمْ إِلَى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ، كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُوا إِسْرَائِيل عَلَى عِيسَى بن مَرْيَم.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ نُؤَدِّي عَنْكَ مَا تُرِيدُ، فَابْعَثْنَا حَيْثُ شِئْتَ، انْتَدَبَ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ لِيَحْمِلُوا كُتُبَهُ إِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَكَانَ أَحَدُ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ عَبْد اللهِ بن حَذَافَةَ السَّهْمِيُّ، اخْتَارَهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ إِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ.
فَجَهَّزَ عَبْدُ اللهِ رَاحِلَتَهُ وَوَدَّعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَمَضَى إِلَى غَايَتِهِ تَرْفَعُهُ النّجَادُ وَتَحُطُّهُ الْوِهَادُ، حَتَى دِيَارِ فَارِسٍ، فَاسْتَأْذَنَ بِالدُّخُولِ عَلَى مَلِكِهَا، وَأَخْطَرَ أَعْوَان الْمَلِكِ بِالرِّسَالَةِ التَّي يَحْمِلُهَا بِأَنَّهَا ذَاتَ اهْتِمَامٍ.
عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ فَزُيِّنَ، وَدَعَا عُظَمَاءِ فَارِسٍ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ، فَحَضَرُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْن حُذَافَة عَلَى سَيِّدِ فَارِسٍ، مُشْتَمِلاً شَمْلَتُهُ، مُرْتَدِيًا عبَاءَتِهِ الصَّفِيقَةِ، عَلَيْهِ بَسَاطَةُ الأَعْرَابِ.
لَكْنَّهُ عَالِي الْهِمَّةِ، مَشْدُودَ الْقَامَةِ، تَأَجَجُ بَيْنَ جَوَانِحِهِ عِزَّةُ الإِسْلامِ فَلَمَّا رَآهُ كِسْرَى مُقْبِلاً أَشَارَ
إِلَى أَحَدِ رِجَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْكِتَابَ.
فَقَالَ: لا، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَدْفَعُهٌ لَكَ يَدًا بِيَدٍ لا أُخَالِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ كَسْرَى لِرِجَالِهِ: اتْرُكُوهُ يَدْنُو مِنِّي، فَدَنَا مِنْ كِسْرَى، فَنَاوَلَهُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ.
ثُمَّ دَعَا كِسْرَى كَاتِبًا عَرَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفُضَّ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَإَذَا فِيهِ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتْبَعَ الْهُدَى» .
وَلَمَّا سَمِعَ كِسْرَى هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الرِّسَالَةِ اشْتَعَلَ غَضَبَهُ فِي صَدْرِهِ(2/57)
فَاحْمَرَ وَجْهَهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَجَذَبَ الرِّسَالَةَ مِنْ يَدِ كَاتِبِهِ، وَجَعَلَ يُمَزِّقُهَا، دُونَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهَا، وَيَقُولُ: أَيَكْتُبْ لِي بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي.
ثُمَّ أَمَرَ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ لا يَدْرِي مَاذَا يَكُونُ بَعْدُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ قَالَ: وَاللهِ مَا أُبَالِي عَلَى أَيُّ حَالٍ أَكُونَ بَعْدُ أَنْ أَدَّيْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ رَاحِلَتُهُ وَانْطَلَقَ.
وَلَمَّا سَكَتَ غَضَبَ كِسْرَى، أَمَرَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَرْسَلُوا فِي أَثَرِهِ، وَطَلَبَوُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَجِدُوُه، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ كِسْرَى، وَتَمْزِيقِهِ الْكِتَابَ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلامُ عَلَى أَنْ قَالَ: «مَزَّقَ الله مُلْكَهُ» .
أَمَّا كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَى بَاذَانِ نَائِبِهِ عَلَى الْيَمَنِ، أَنْ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي ظَهَرَ بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ، وَمُرْهُمَا أَنْ يَأْتِيَانِ بِهِ، وَحَمَّلَهُمَا رِسَالةً لَهُ يَأْمُرهُمَا بِأَدَائِهَا لَهُ، وَيَأْمُرْهُ فِيهَا بِأَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى لِقَاءِ كِسْرى دُونَ إِبْطَاءٍ.
وَطَلَبَ إِلَى الرَّجُلَيْنِ أَنْ يَقِفَانِ عَلَى خَبَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْتَقْصِيَا أَمْرَهُ، وَأَنْ يَأْتِياهُ بِمَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ.
فَخَرَجَ الرَّجُلانِ حَتَّى بَلَغَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رِجَالاً تُجَّارًا مِنْ قُرِيْشٍ فَسَأَلاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالُوا: هُوَ فِي يَثْرِب، ثُمَّ مَضَى التُّجَّارِ إِلَى مَكَّةَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وَجَعَلُوا يُهَنُّونَ قُرَيْشًا، وَيَقُولُونَ: قُرُّوا عَيْنًا فَإِنَّ كِسْرَى تَصَدَّى لِمُحَمَّدٍ وَكَفَاكُمْ شَرَّهُ.
أَمَّا الرَّجُلانِ فَيَمِمَّا وَجْهَيْهِمَا شَطْرَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا وَصَلا إِلَيْهِمَا، لَقِيَا(2/58)
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَفَعَا إِلَيْهِ رِسَالَةَ بَاذَانَ، وَقَالا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ الْمُلُوكِ كِسْرَى كَتَبَ إِلَى مَلِكِنَا بَاذَانَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكِ.
وَقَدْ أَتَيْنَاكَ لِتَنْطَلِقَ مَعَنَا فَإِنَّ أَجَبْتَنَا كَلَّمْنَا كِسْرَى بِمَا يَنْفَعُكَ، وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ سُطْوَتَهُ، وَبَطْشَهُ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى إِهْلاكِكَ، وَإِهْلاكِ قَوْمِكَ.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ لَهُمَا: «ارْجِعَا إِلَى رِحَالِكُمَا الْيَوْم، وَأْتِيَا غَدًا فَلَمَّا غَدَوَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْيَوْم التَّالِي، أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّ اللهَ قَتَلَ كِسْرَى حَيْثُ سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ ((شيرويه)) فِي لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا.
فَحَدَّقَا فِي وَجْهِهِ وَبَدَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى وَجْهَيْهِمَا، وَقَالا: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ: أَنَكْتُبْ بِذَلِكَ لِبَاذَانَ. قَالَ: «نَعَم، وَقُولا لَهُ إِنْ دِينِي سَيَبْلُغُ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مُلْكَ كِسْرَى، وَإِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ، أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ وَخَرَجَ الرَّجُلانِ مِنْ عِنْدَ الرَسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَقَدِمَا عَلَى بَاذَانَ وَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ.
فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيًا. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَدِمَ عَلَى بَاذَانَ كَتَابَ شِيرَويه.
وَفِيهِ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ. فَقَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى وَلَمْ أَقْتُلُهُ إِلا انْتِقَامًا لِقَوْمِنَا فَقَدْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ أَشْرَافِهِمْ وَسَبَى نِسَائِهِمْ وَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ فَإَذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِي الطَّاعَة مِمَّنْ عِنْدكَ.
فَلَمَّا قَرَأَ بَاذَانُ الْكِتَابَ ((كِتَابَ شيرويه)) طَرَحَهُ جَانِبًا وَأَعْلَنَ دُخُولُهُ فِي الإِسْلامِ وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ.. انتهى.
اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا(2/59)
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا، وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكِ وَهِبَاتِكِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصْبِحِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
عَبْدُ اللهَ بن حُذَافَة وَقِصَّتُهُ مَعَ مَلِكِ الرُّومِ
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ بن الْخَطَّابَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُل يُقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بن حُذَافَة مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَنَصَّرَ وَأُشْرِكَكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مَا تَمْلِكُ وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ الْعَرَب عَلَى أَنْ أَرْجَعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا فَعَلْتُ. قَالَ: إِذَا أَقْتُلُكَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرمَاةِ: ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ بَدَنِهِ قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَأْبَى.
ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ فَصُبَّ فِيه حَتَّى احْتَرَقَ، ثُمَّ دَعَا بِأْسِيرِيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهُوَ يَأْبَى ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ جَزِعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِِيَّةَ فَأَبَى فَقَالَ: مَا أَبْكَاكَ إِذًا.
قَالَ: أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ فِي نَفْسِي تَلْقَى السَّاعَةَ فِي هَذَا الْقِدْرِ فَتَذْهَبَ فَكُنْتُ اشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُلْقى فِي اللهِ. قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ:(2/60)
هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبْلَ رَأْسِي وَأُخْلِيَ مِنْكَ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْتُ فِي نفسي: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، أُقَبِّلُ رَأْسَهُ يُخَلِّي عَنْي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، لا أُبَالِي فَدَنَا مِنْهُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الأُسَارَى، فَقَدِمَ بِهُمْ عَلَى عُمَر فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللهِ بن حُذَافَة، وَأَنَا أَبْدَأُ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ.
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأَبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعَهُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بِحُسْنِ الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى خِدْمَتِكَ وَحُسْنِ الآدابِ فِي مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيمِ لأَمْرِكَ والرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْرِ عَلَى بَلائِكَ وَالشُّكْرِ لِنَعْمَائِكَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ يَقْرَعُ ... يَخَافُ وَيَرْجُو الْفَضْلَ فَالْفَضْلُ أَوْسَعُ
مُقِرٌّ بِأَثْقَالِ الذُّنُوبِ وَمُكْثِرٌ ... وَيَرْجُوكَ فِي غُفْرَانِهَا فَهُوَ يَطْمَعَ
فَإِنَّكَ ذُو الإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالْعَطَا ... لَكَ الْمَجْدَ وَالإِفْضَالَ وَالْمَنَّ أَجْمَعَ
فَكَمْ مِنْ قَبِيحٍ قَدْ سَتَرْت عَنْ الْوَرَى ... وَكَمْ نِعَمٌ تتَرَى عَيْنًا وَتُتْبَعُ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى ... وَأَنْتَ إِلَهُ الْخَلْقِ مَا شَئْتَ تَصْنَعُ
فَيَا مَنْ هُوَ الْقُدُّوسُ لا رَبَّ غَيْرَهُ ... تَبَارَكْتَ أَنْتَ اللهُ لِلْخَلْقِ مَرْجِعُ
وَيَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فَوْقَ خَلْقِهِ ... تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ
بِأَسْمَائِكَ الْحُسُنْى وَأَوْصَافِكَ الْعُلَى ... تَوَسَّلَ عَبْدٌ بَائِسٌ يَتَضَرَّعُ
أَعِنِّي عَلَى الْمَوْتِ الْمَرِيرَةِ كَأْسُهُ ... إِذَا الرُّوحُ مِنْ بَيْنِ الْجَوَانِحِ تُنْزَعُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا ... يُرَّكَمُ مِنْ فَوْقِي التُّرَابَ وَأُودَعُ
وَثَبِّتْ جَنَانِي لِسُؤَالِ وَحُجَّتِي ... إِذَا قِيلَ مَنْ رُبٌّ وَمَنْ كُنْتَ تَتْبَعُ
وَمِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْكَرْبِ نَجِّنِي ... إِذَا الرُّسُلِ وَالأَمْلاكِ وَالنَّاسِ خُشَّعٌ
وَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي ... إِذَا الْصَّحْفُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ تُوَزَّعُ
وَهَبْ لِي كِتَابِي بِالْيَمِينِ وَثَقِّلَنَّ ... لِمِيزَان عَبْدٍ فِي رَجَائِكَ يَطْمَعُ(2/61)
.. وَيَا رَبِّ خَلِّصْنِي مِن النَّارِ إِنَّهَا ... لَبِئْس مَقَرّ لِلْغُوَاة وَمَرْجِعُ
أَجِرْنِي أَجِرْنِي يَا إِلَهِي فلَيْسَ لِي ... سُوَاكَ مَفَرٌّ أَوْ مَلاذٌ وَمَفْزَعُ
وَهَبْ لِي شِفَاءٌ مِنْكَ رَبِي وَسَيِّدِي ... فَمَنْ ذَا الَّذِي للضُّرِّ غَيْرَكَ يَدْفَعُ
فأَنْتَ الَّذِي تُرْجَى لِكَشْفِ مُلَمَّةٍ ... وَتَسْمَعَ مُضْطَرًّا لِبَابِكَ يَقْرَعُ
فقَدْ أَعْيتِ الأَسْبَابُ وَانْقَطَعَ الرَّجَا ... سِوَى مِنْكَ يَا مَنْ لِلْخَلائِقِ مَفْزَعُ
إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ رَفَعْتُ شِكَايَتِي ... وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَاهُ تَدْرِي وَتَسْمَعُ
فَفَرِّجْ لَنَا خَطْبًا عَظِيمًا وَمُعْضِلاً ... وَطَرَبًا يَكَادُ الْقَلْبُ مِنْهُ يُصَّدَعُ
وَمَاذَا عَلَى رَبِّي عَزِيزٌ وَفَضْلَهُ ... عَلَيْنَا مَدَى الأَنْفَاسِ يَهْمِي وَيَهْمَعُ
فَكَمْ مِنَحٍ أَعْطَى وَكَمْ مِحَنٍ كَفَى ... لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرَانُ وَالْمِنُّ أَجْمَعُ
وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى مَنْ فِي الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ
اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِين وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ والْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفًا مِنْ كُلّ دَاءٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
" سَعِيْدُ بْنُ عَامِرٍ الجُمَحِيُّ وخُبَيْبٌ "
خُبَيْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ أَحَدُ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللهِ الثَّابِتِِينَ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَمِمَّنْ حَضَرَهُ يَوْمَ قَتْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَعِيدُ بن عَامِرِ الْجَمَحِيُّ: خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فِي ظَاهِرَةِ مَكَّة بِدَعْوَةٍ مِنْ زُعَمَاءِ قُرَيْش لِيَشْهَدَ(2/62)
مَعَهُمْ مَصْرَعَ خُبَيْبٍ بن عُدَيٍّ أَحَدَ صَحَابَةِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَنْ ظَفَرَ بِهِ الأَعْدَاءُ الْمُشْرِكُونَ غَدْرًا.
وقَدْ أَقْدَرَهُ اللهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ رُؤْيَةِ أَسِيرِ قُرَيْشٍ مُكَبَّلاً بِقُيُودِهِ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، فَوَقَفَ سَعِيدٌ يَطُلُّ عَلَى خُبَيْبٍ وَهُوَ يُقَدَّمُ إِلَى خَشَبَةِ الصَّلْبِ وَسُمِعَ صَوْتَ خُبَيْبٍِ الثَّابِتُ الْهَادِئُ يَقُولُ إِنْ شَئْتُمْ أَنْ تَتْرُكُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ مَصْرَعِي فَافْعَلُوا.
ثُمَّ نَظَرَ سَعِيدٌ إِلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُصَلَّي رَكْعَتَيْنِ يَا لِحُسْنِهِمَا وَيَا لِتَمَامِهِمَا وَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ تَظُنُوا أَنِّي أَطَلْتُ الصَّلاةَ جَزِعًا مِنَ الْمَوْت لا اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الصَّلاةِ.
ثُمَّ رَأَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُمَثِّلُونَ بِخُبِيْبٍ حَيًّا وَيَقْطَعُونَ مِنْهُ الْقِطْعَةَ تِلْوَ الْقِطْعَةِ وَيَقُولُونَ لَهُ أَتُحِبّ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ مَكَانَكَ وَأَنْتَ نَاجٍ، فيَقُولُ والدِّمَاء تَنْزِفُ مِنْهُ وَالرُّوحُ تَتَسَلَّلُ مِنْ بَدَنِهِ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَادِعًا فِي أَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا يُوخَزُ بِشَوْكَةٍ.
وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفَرَتْ بِهُمْ ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
فَحَرْبَةُ وَحْشِيّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى ... وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابن مُلْجَمِ
ثُمَّ أَبْصَرَ سَعِيدٍ بن عَامِر خُبَيْبًا وَهُوَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ خَشَبَةِ الصَّلْبِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا وَلا تُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا. ثُمَّ خَرَجَ رُوحُهُ الطَّيِّبَةُ وَبِهِ الشَيْءُ الْكَبِيرُ مِنْ ضَرَبَاتِ السِّيُوفِ وَطَعَنَاتِ الرِّمَاحِ.
ثُمَّ إِنْ سَعِيدَ أَخَذَ دَرْسًا، فَعَلِمَ أَنَّ الْحَيَاةَ الْحَقْةَ عَقِيدَةٌ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى الْمَوْتَ، وَعَلِمَ أَنَّ الإِيمَانَ الثَّابِتَ لا يُزِلْزِلَهُ شَيْءٌ الْبَتَّة.
وَعَلِمَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي تَبْلُغُ مَحَبَّتُهُ وَالذَّبُّ عَنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ إِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ مُؤَيْدٌ مِنَ السَّمَاءِ، عِنْدَ ذَلِكَ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ سَعِيد بن عَامِر لِلإِسْلامِ(2/63)
فَقَامَ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ وَأَعْلَنَ بَرَاءَةَ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَهَاجَرَ سَعِيدُ بن عَامِر إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَزَمَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَشَهِدَ مَعَهُ خَيْبَرَ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْغَزَوَاتِ.
وَلَمَّا تُوُفِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَلَّ سَيْفًا مَسْلُولاً فِي يَدَيْ خَلِيفَتِيِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَا يَعْرِفَانِ لَهُ صِدْقَهُ وَتَقْوَاهُ.
وَلَمَّا آلَتِ الْخِلافَةُ إِلَى عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَتَاهُ سَعِيدُ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ أُوصِيكَ أَنْ تَخْشَى اللهَ فِي النَّاسِ، وَلا تَخْشَى النَّاسَ فِي اللهِ، وَأَنْ لا يُخَالِفَ قَوْلُكَ فِعْلَكَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ.
يا عُمَر أَقِمْ وَجْهَكَ لِمَن وَلاكَ اللهُ أَمْرُهُ مِنَ بَعِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَقَرِيبِهِمْ، وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ وَلا تَخَفْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.
فَقَالَ عُمَر: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَا سَعِيدُ؟ فَقَالَ: يَسْتَطِيعُهُ مِثْلُكَ مِمَّنْ وَلاهُمْ اللهُ أَمْرَ أَمَّةِ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَحَدٌ. عِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عُمَرُ سَعِيدًا إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا مُوَلُوكَ حَمْصَ. فَقَالَ: يَا عُمَر نَشَدْتُكَ اللهَ لا تَفْتِنِي. فَغَضَبَ عُمَرُ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ وَضَعْتُمْ هَذَا الأَمْرَ فِي عُنُقِي ثُمَّ تَخَلَّيْتُمْ عَنِّي، وَاللهِ لا أَدَعُكَ ثُمَّ أَلْزَمَهُ بِحِمْص وَقَالَ: أَلا نَفْرِضُ لَكَ رِزْقًا؟ : وَمَا أَفْعَلُ بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ عَطَائِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَزِيدُ عَنْ حَاجَتِي.
ثُمَّ مَضَى وَالِيًا عَلَى حِمْص وَمَا مَضَى إِلا زَمَنٌ يَسِيرُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ أَهْلِ حِمْص إِلَى عُمَر فَقَالَ: اكْتُبُوا أَسْمَاءَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَكُمْ بِحِمْص حَتَّى أَسُدَّ حَاجَتِهِمْ، فَرَفَعُوا لَهُ كِتَابًا فِيهِ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ الْمَوْجُودِينَ بِحِمْص وَمِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ الْمَكْتُوبِينَ سَعِيد بن عَامِرِ الْجَمَحِيّ.(2/64)
فَقَالَ عُمَر مَنْ سَعِيد بن عَامِرٍ، فَقَالُوا: أَمِيرُنَا. قَالَ: أَمِيرُكُمْ فَقِيرٌ؟ قَالُوا: نَعَم، وَاللهِ إِنَّهُ لَيَمُرُّ عَلَيْهِ الأَيَّامُ الطِّوَالُ، وَلا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ. فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بُكَاءً شَدِيدًا، حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ.
ثُمَّ عَمِدَ إِلَى أَلْف دِينَارٍ فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ وَقَالَ: اقْرَؤُا عَلَيْهِ السَّلامَ وَقُولُوا لَهُ يَسْتَعِينُ بِهَذَا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ فَجَاءُوهُ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا وَأَخْبَرُوهُ، جَعَلَ يُبْعِدُهَا عَنْهُ، وَيَسْتَرْجِعُ.
فَجَاءَتْ زَوْجَتَهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ أمَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ الدُّنْيَا لِتُفْسِدَ آخِرَتِي وَحَلَّتِ الْفِتْنَةِ فِي بَيْتِي. قَالَتْ: تَخَلَّصَ مَنْهَا. قَالَ: هَلْ تُعِينِينِي عَلَى ذَلِكَ. قَالَتْ: نَعَم. فَوَزَّعَهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ لَمْ يَمْضِ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً حَتَّى أَتَى عُمَر عَلَى حِمْصٍ يَتَفَقَّدُهَا وَيَسْأَلُ عَنْ أَمِيرِهِمْ وَسِيرَتِهِ مَعَهُمْ، وَهَلْ نَقَمُوا عَلَيْهِ بشَيْء، فَذَكَرُوا أَرْبَعَ:
أحدها: قَالُوا أَنَّهُ لا يخَرَجَ إِلَيْنَا حَتَّى يتَعَالَى النَّهَارَ. فَسَأَلَ عُمَرُ سَعِيدًا: لِمَاذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنَ حَيْثُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ تَوْضِيحِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لأهْلِي خَادِمٌ فَأَقُومُ الْصُّبْحَ فَأَعْجِنُ لَهُمْ عَجِينَهُمْ، ثُمَّ انْتَظِرَهُ يَخْتَمِرُ، ثُمَّ أَقُومُ فَأَخْبِزَهُ لَهُمْ، ثُمَّ أَتَوَضَّأُ وَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الثَّانِيَة: فَقَالُوا: أَنَّهُ لا يُجِيبُ أَحَدًا بِالليْلِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَذْكُرُهُ، وَلَكْن لَمَّا أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ النَّهَارَ لَهُمْ وَلِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الليْلَ.
قَالَ عُمَر: وَمَا هِيَ الثَّالِثَة؟ قَالُوا: أَنَّهُ لا يخَرَجَ يَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ لي خَادِمٌ، ولَيْسَ عِنْدِي ثِيَابٌ غَيْرَ التِي عَلَيَّ فَأَنَا أَغْسِلُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّة وَأَنْتَظِرُهَا حَتَّى تَجِفَّ، ثُمَّ أَخْرَجُ إِلَيْهِمْ آخِرَ النَّهَارَ.(2/65)
وَأَمَّا الرَّابِعَة: فَقَالُوا أَنَّهُ تُصِيبَهُ غَشْيَة فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ فَيَغِيبَ عَمَّنْ فِي الْمَجْلِسِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنِّي حَضَرْتُ مَصْرَعَ خُبَيْب بن عَدِيٍّ، وَأَنَا مُشْرِكٌ وَرَأَيْتُ قُرَيْشًا تُقَطِّعُ جَسَدَهُ وَهِيَ تَقُولُ: أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَكَانَكَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا تَشُوكُهُ شَوْكَة.
فَإِذَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ الْمَشْهَدَ وَأَنَّي لَمْ أَنْصُرُهُ ظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ لا يَغْفِرَ لِي فَتُصِيبَنِي تِلْكَ الْغَشْيَة. ثُمَّ بَعَثَ لَهُ عُمَرُ بِأَلْف دِينَارٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى حَوَائِجِهِ، فَلَمَّا عَلِمَتْ زَوْجَتَهُ قَالَتْ: الْحَمْدُ لله الَّذِي أَغْنَانَا عَنْ خِدْمَتِكَ أشْتَرِ لَنَا مُؤْنَة وَاسْتَأْجِر لَنَا خَادِمًا فَقَالَ لَهَا: وَهَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يَأْتِينَا بِهَا وَنَحْنُ أَحْوَجُ مَا نَكُونُ إِلَيْهَا. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نُقْرِضُهَا اللهُ قَرْضًا حَسَنًا. قَالَتْ: نَعَم وَجُزِيتَ خَيْرًا فَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى وَزَّعَهَا عَلَى الأَيْتَامِ وَالأرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ. فرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ لَقَدْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفِسِهِمْ. أ. هـ باختصار.
شِعْرًا: ... وَمَا النَّاس إِلا رَاحِلُونَ وَبَيْنَهُمْ ... رِجَال ثَوَتْ آثَارُهُمْ كَالْمَعَالِمِ
بِعِزَّةِ بَأْسٍ وَطَلاعِ بَصِيرَةٍ ... وَهَزَّةِ نَفْسٍ وَتَسَاع مَرَاحِم
حُظُوظُ كَمَالٍ أَظْهَرَتْ مِنْ عَجَائِبِ ... بِمْرَآتِ شَخْص مَا اخْتَفَى فِي الْعَوَالِمِ
وَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ يَخْتَصُّ نَفْسَهُ ... أَلا إِنَّمَا التَّخْصِيصُ قِسْمَةُ رَاحِمٍ
وَمَنْ عَرِفَ الدُّنْيَا تَيَقَّنَ أَنَّهَ ... مَطِيَّةُ يَقْظَانٍ وَطِيْفَةُ حَالِمٍ
فَلِلهِ سَاعٍ فِي مَنَاهِجِ طَاعَة ... لإِيَلاف عَدْل أَوْ لإتْلافِ ظَالِمِ
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَاخَلْصْ عَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَمَكْسَبْنَا مِنَ الرِّبَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى طَاعَتِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اعْطِنَا مِنَ الْخَيْرِ فَوْقَ مَا نَرْجُو وَاصْرِفْ عَنَّا مِنَ السُّوءِ فَوْقَ مَا نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجَائِكَ وَاقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فَاسْتُرْهَا، وَتَعْلَمُ(2/66)
حَاجَاتَنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وَلِِيًّا وَكَفَى بِكَ نَصِيرًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبيلَ عِبَادِكَ الأَخْيَارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِيينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": لِلْبَرْاءِ بن مَالِك الأَنْصَارِيّ أَخُو أَنَسِ بن مَالِكِ خَادِمِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْبَراءُ شُجَاعًا قَتَلَ مَائَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُبَارَزَةً وَهُوَ وَحْدُهُ غَيْرَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ فِي غِمَارِ الْمَعَارِكِ مَعَ الْمُحَارِبِينَ.
وَبَعْد أَنْ الْتَحَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ارْتَدَّ قَبَائِلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَخَرَجُوا مِنَ الإِسْلامِِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَهْلُ مَكَّةِ وَالْمَدِينَةِ، وَجَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَة هُنَا وَهُنَاكَ مِمَّنْ ثَبِّتْ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ.
وَصَمَدَ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْمُدَمِّرَةِ الْعَمْيَاءِ صُمُودَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَجَهَّزَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ أَحَدَ عَشَرَ جَيْشًا.
وَعَقَدَ لِقَادَةِ هَذِهِ الْجُيُوشِ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءَ وَدَفَعَ بِهِمْ فِي أَرْجَاءِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِيُعِيدُوا الْمُرْتَدِّينَ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالْحَقِّ.
وَكَانَ أَقْوَى الْمُرْتَدِّينَ بَأْسًا وَأَكْثَرُهُمْ عَدَدًا بَنُوا حَنِيفَةَ، أَصْحَاب مُسَيْلَمَة الْكَذَّاب فقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ مُسَيْلَمَة مِنْ قَوْمِهِ وَحُلَفَائِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ قَدْ اتَّبَعُوا مُسَيْلَمَة عَصَبِيَّة لا إِيمَانًا بِهِ.
فلِذَلِكَ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ كَذَّابٌ وَمُحَمَّدًا صَادِقٌ لَكِنْ كَذَابَ رَبِيعَة أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَادِقِ مُضْرٍ: قَدَرَ اللهُ أَن جَيْشَ مُسَيْلَمَة يَهْزِمُ أَوْلَ جَيْشٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ بِقِيَادَةِ عَكْرِمَة بن أَبِي جَهْلٍ.
فَأَرْسَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيْشًا ثَانِيًا بِقِيَادَةِ خَالِدِ بن الْوَلِيدِ حَشَدَ فِيهِ وُجُوهَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.(2/67)
وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ هَؤلاءِ الْبَرَاءُ بن مَالِكِ الأَنْصَارِي وَنَفَرٌ مِنْ كُُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي أَرْضِ الْيَمَامَةِ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ مُسَيْلِمَة وَأَصْحَابِهِ وَزُلْزَلَتْ الأَرْضُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ وَطَفِقُوا يَتَرَاجَعُونَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ حَتَّى اقْتَحَمَ قَوْمُ مُسَيْلَمَة وَمَنْ مَعَهُ فَسْطَاد خَالِدِ بن الْوَلِيدِ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ أُصُولِهِ.
عَنْدَ ذَلِكَ شَعَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَطَرِ الدَّاهِمِ وَأَدْرَكُوا أَنَّهُمْ إِنْ يُهْزَمُوا أَمَامَ مُسَيْلَمَة فَلَنْ تَقُومَ لِلإِسْلامِ قَائِمَةً، وَهَبَّ خَالِدٌ إِلَى جَيْشِهِ فَأَعَادَ تَنْظِيمِهِ فَمَيَّزَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ الأَنْصَارِ، وَمَيَّزَ أَبْنَاء الْبَوَادِي عَنْ هَؤلاءِ وَهَؤلاءِ، وَجمَعَ أَبْنَاءَ كُلَّ أَبٍّ تَحْتَ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِيُعْرَفَ بَلاءُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَلْيُعْلَمْ مِنْ أَيْنَ أَتَى الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ مَعْرَكَةً ضَرُوسٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ، وثَبَتَ قَوْمُ مُسَيْلَمَة فِي سَاحَاتِ الْوَغَى ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَلَمْ يُبَالُوا بِكَثْرَةِ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ، وَأَبْدَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْبُطُولَةِ مَا لَوْ جُمِعَ لكَانَ مَلْحَمَة مِنْ رَوَائِعِ الْمَلاحِمِ.
فَهَذَا ثَابِتٌ بن قَيْس حَامِلُ لِوَاءَ الأَنْصَارِ يَتَحَنَّطُ وَيَتَكَفَّنُ وَيَحْفُرُ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً فِي الأَرْضِ فَيَنْزِلُ فِيهَا إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَيَبْقَى ثَابِتًا يُجَالِدُ عَنْ رَايَةِ قَوْمِهُ حَتَّى خَرَّ صَرِيعًا شَهِيدًا.
وَهَذَا زَيْدُ بن الْخَطَّابِ أَخُو عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُنَادِي فِي الْمُسْلِمِينَ أَيُّهَا النَّاسُ عُضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ وَاضْرِبُوا فِي عَدِوِّكَمْ وَامْضُوا قُدُمًا، أَيُّهَا النَّاسُ وَاللهِ، لا أَتَكَلَّمُ بَعَدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبَدًا حَتَّى يُهْزَم مُسَيْلَمْة أَوْ أَلْقَى اللهُ فَأُدْلِي إِلَيْهِ بِحُجَّتِي، ثُمَّ كَرَّ عَلَى قَوْمِهِ فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ حَتَّى قُتِلَ.
وَهَذَا سَالِمُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة يَحْمِلُ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ فَيَخْشَى عَلَيْهِ قَوْمُهُ أَنْ(2/68)
يَضْعَفَ أَوْ يَتَزَعْزَعَ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا لَنَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلَكَ فَقَالَ: إِنْ أُتِيتُمْ مِنْ قِبَلِي فَبِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنُ أَكُونُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ كَرَّةً بَاسِلَةً حَتَّى أُصِيبَ.
فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ أَنَّ الْوَطِيسَ حَمَى وَاشْتَدَّ الْتَفَتَ إِلَى الْبَرَاءِ بن مَالِك وَقَالَ: إِلَيْهِمْ يَا فَتَى الأَنْصَارِ، فَالْتَفَتَ الْبراءُ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لا يُفَكِّرَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى يَثْرِبَ، فَلا مَدِينَةَ لَكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجَنَّة.
ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الأَعْدَاءِ وَحَمَلُوا مَعَهُ وَانْبَرَى يَشُقُّ الصُّفُوفَ، وَيَعْمَلُ السَّيْف فِي رِقَابِ أَعْدَاءِ اللهِ حَتَّى زُلْزِلَتْ أَقْدَامُ مُسَيْلَمَةٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَجَؤُوا إِلَى الْحَدِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَدِيقَةِ الْمَوْتِ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَغْلَقَ مُسَيْلَمَةُ وَآلافٌ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ الأَبْوَابِ وَتَحَصَّنُوا بِعَالِي جُدْرَانِهَا وَجَعَلُوا يُمْطِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِنِبَالِهِمْ مِنْ دَاخِلِهَا فَتَتَسَاقَطُ عَلَيْهمْ تَسَاقُطَ الْمَطَر.
عَنْدَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ الْبَرَّاءُ بن مَالِكٍ وَقَالَ: يَا قَوْمِ ضَعُونِي عَلَى تِرْسٍ وَارْفَعُوا التِّرْسَ عَلَى الرِّمَاحِ ثُمَّ اقْذِفُونِي بِالْحَدِيقَةِ قَرِيبًا مِنْ بَابِهَا فَأَمَّا أَنْ أُسْتشهدَ وَإمَّا أَنْ أَفْتَحَ الْبَابَ. وَفِي زَمَنٍ يَسِيرٍ جَلَسَ الْبراءُ عَلَى التِّرْسِ وَرَفَعَتْهُ الرِّمَاحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ قُرْبَ الْبَابِ بَيْنَ الآلافِ الْمُؤَلَّفَة مِنْ جُنْدِ مُسَيْلَمَةٍ.
فَنَزَلَ عَلَيْهُمْ نُزُولَ الصَّاعِقَة فَجَالَدَهُمْ أَمَامَ بَابِ الْحَدِيقَةِ حَتَّى قَتَلَ عَشْرَةً مِنْهُمْ، وَفَتَحَ الْبَابَ لِلْمُسِلِمِينَ وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةٌ فَتَدَفَّقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْحَدِيقَةِ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا وَاعَمَلُوا السِّيُوفَ فِي رِقَابِ الْمُرْتَدِينَ حَتَّى قَتَلَوا مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا وَوَصَلُوا إِلَى مُسَيْلَمَة الْكَذَّابِ فَقَتَلُوهُ.
ثُمَّ حَمَلُوا الْبَرَاءَ بن مَالِكٍ إِلَى رَحْلِهِ لَيُدَاوَى فِيهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ خَالِدُ بن الْوَلِيد شَهْرًا يُعَالِجَهُ حَتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالشِّفَاءِ وَظَلَّ الْبراءُ بَعْدُ ذَلِكَ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَتَّى فَتَحَ تَسْتر مِنْ بِلادِ الْفُرْسِ فِي إِحْدَى الْقِلاع الْمُمَرَّدَة.(2/69)
فَحَاصَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَحَاطُُوا بِهُمْ فَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ وَاشْتِدَّ الْبَلاءُ عَلَى الْفُرْسِ جَعَلُوا يَدُلُّونَ مِنْ فَوْقِ أَسْوَارِ الْقَلْعَةِ سَلاسِلَ مِنْ حَدِيدٍ عُلِّقَتْ بِهَا كَلالِيب مِنْ فُولاذٍ حُمِيَتْ بِالنَّارِ فَكَانَتَ تَنْشِبُ فِي أَجْسَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِقُ بِهُمْ فَيَرْفَعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ إِمَّا مَوْتَى وَإِلا عَلَى الْمَوْتِ فَعَلَقَ كَلُوبٌ مَنْهَا بِأَنَس بن مَالِكِ أَخِي الْبَرَاءِ بن مَالِكِ.
فَوَثَبَ الْبَراءُ عَلَى جِدَارِ الْحِصْنِ وَأَمْسَكَ السِّلْسِلَةَ الَّتِي مَسَكَتْ أَخَاهُ وَجَعَلَ يُعَالِجُ الْكِلابَ لِيُخْرِجَهُ مِنْ جَسَدِ أَخِيهِ وَأَخَذَتْ يَدَاهُ تَحْتَرِقُ فَلَمْ يُبَالِ إِلَى أَنْ خَلَّصَ أَخَاهُ وَهَبَطَ إِلَى الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ يَدَهُ عِظَامًا لَيْسَ عَلَيْهَا لَحْمٌ ثُمَّ دَعَا الْبَراءُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ فَأَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَاسْتَشْهَدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. أ. هـ، بِاخْتِصَارٍ مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
شِعْرًا: ... لَهْفِي عَلَى سُرِجَ الدُّنْيَا الَّتِي طُفِئَتْ ... وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا ... وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا ... بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابُوا وَلا مَارُوا
مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا ... لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ
وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادِ قُلُوبِهِمْ ... طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ
اللَّهُمَّ قَوِّ مَحَبَتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلنَا هُدَاهً مُهْتَدِينَ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ حَرْبًا لأَعْدَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتِغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزِيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/70)
" قِصَة "
لأُمِّ سَلَمَة وَمَا حَصلَ لَهَا مِنَ الأَذَى
اسْمَهَا هِنْدُ بنْتُ أَبِي أمية سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ مَخْزُومٍ الْمَرْمُوقِينَ وَجَودًا يُقَالَ لَهُ زَادَ الرَّاكِبِ لأَنَّهُ إِذَا سَافَرَ لا يَتْرُكُ أَحَدًا يُرَافِقَهُ وَمَعَهُ زَادٌ بَلْ يَقُومُ بِرِفْقَتِهِ مِنَ الزَّادِ، وَزَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدُ اللهِ بن عَبْدَ الأَسَدِ أَحَدُ الْعَشْرَةِ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَهُ إِلا أَبُو بَكْرٍ وَنَفَرٌ قَلِيلٌ.
أَسْلَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ زَوْجِها فَكَانَتْ هِيَ الأُخْرَى مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الإِسْلامِ، وَلَمَّا شَاعَ خَبَرُ إِسْلامِهَا هَاجَتْ قُرَيْشٌ وَجَعَلَتْ تَصُبُّ عَلَيْهِمَا الأَذَى الشَّدِيدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ بِهِمَا وَلَمْ يُزَلْزِلْهُمَا وَلَمْ يَتَرَدَّدَا.
وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الأَذَى وَأَذِنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَا فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَمَضَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا إِلَى دِيَارِ الْغُرْبَةِ وَخَلَّفَتْ وَرَاءَهَا فِي مَكَّةٍ بَيْتَهَا الْفَسِيحِ الْعَالِي، وَعِزَّهَا الشَّامِخُ، وَأقْرِبَائِهَا وَمَالَهَا مُحْتَسِبَةً الأَجْرَ مِنَ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ مُحْتَقِرَةٌ مَا تَرَكَتْ فِي جَانْبِ مَرْضَاةِ اللهِ.
وَبِالرَّغْمِ مِمَّا حَصُلَ لأُمِّ سَلَمَةَ وَمَنْ هَاجَرَ مَعَهَا مِنَ الْحَفَاوَةِ وَالإِكْرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، فقَدْ كَانَ الشَّوْقُ يَحْدُوهَا إِلَى مَهْبَطِ الْوَحْي وَإِلَى النَّبِيِّ الْكّرِيمِ.
ثُمَّ تَتَابَعَتْ الأَخْبَارِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ قَدْ كَثُرُوا وَاقْتَوُوا وَعُزُّوا، وَأَنَّ إِسْلامَ حَمْزَةَ وَعُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَدْ شَدَّ أَزْرَهُمْ وَكَفْكَفَ شَيْئًا مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
فَعَزَمَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى مَكَّةِ يَحْدُوهُمْ الشَّوْقُ وَيَدْعُوهُمْ الْحَنِينَ، فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَة وَزَوْجُهَا مَعَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ.
لَكْنْ سُرْعَانَ مَا تَبَيْنَ لِلْعَائِدِينَ أَنَّ مَا نُقِلَ لَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ أَنَّهُ كَانَ مُبَالَغًا(2/71)
فِيهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَابَلُوا زِيَادَةً الْقُوةِ وَالْعِزَّةِ بِالتَّهَوْرِ وَالتَّفَنُنِ فِي التَّعْذِيبِ وَتَرْوِيعِهِمْ وَإِزْعَاجِهِمْ وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ.
عَنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَعَزَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَكِنَّ هِجْرَتَهُمَا لَمْ تَكُنْ كَمَا ظَنَّا أَنَّهَا سَهْلَةٌ بَلْ كَانَتْ صَعْبَةً عَسِرَةً خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا مَأْسَاةً تَهُونُ دُونَهَا كُلَّ مَأْسَاةٍ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَمَّا عَزَمَ أَبُو سَلَمَة عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعَدَّ لِي بَعِيرًا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَجَعَلَ طَفْلَنَا سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، وَمَضَى يَقُودُ بِنَا الْبَعِيرَ، وَهُوَ لا يَلْوي عَلَى شَيْء، وَقَبْلَ أَنْ نََفْصِِلَ عَنْ مَكَّةَ رَأَنَا رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَتَصَدُّوا لَنَا.
وَقَالُوا لأَبِي سَلَمَة: إِنْ كُنْتَ قَدْ غَلَبْتَنَا عَلَى نَفْسِكَ فَمَا بَالُ امْرَأَتَكَ وَهِي بِنْتِنَا، فَعَلامَ نَتْرُكُكَ تَأْخُذهَا مِنَّا وَتَسِيرُ بِهَا ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَانْتَزَعُونِي، وَمَا إِنْ رَآهُمْ قَوْمَ زَوْجِي بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ يَأْخُذُونَنِي أَنَا وَطِفْلِي حَتَّى غَضِبُوا غَضَبًا شَدِيدًا.
وَقَالُوا: لا وَاللهِ لا نَتْرُكَ الْوَلَدَ عِنْدَ صَاحِبَتْكُمْ بَعْدَ أَنْ انْتَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا انْتِزَعًا فَهُوَ ابْنُنَا وَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ طَفِقُوا يَتَجَاذَبُونَ الطِّفْلَ بَيْنَهُمْ حَتَّى ضَرُّوا يَدَهُ وَأَخَذُوهُ.
وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وَحِيدَةً فَرِيدَةً فَزَوْجِي اتَّجَهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِي اخْتَطَفَهُ بَنُو عَبْدِ الأسَدِ مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ خَطْفًا مُحَطَّمًا مُهَيَّضًا.
أَمَّا أَنَا فقَدْ اسْتَوْلَى عَليَّ بَنُو مُخْزُومٍ قَوْمِي وَجَعَلُونِي عِنْدَهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابَنِي فِي سَاعَةٍ قَالَتْ، وَمَنْ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَخْرَجَ كُلَّ غَدَاةٍ إَِلَى الأَبْطَحِ(2/72)
فَأَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَهِدَ مَأْسَاتِي، وَاسْتَعِيدُ فِيهَا صُورَةَ اللحَظَاتِ الَّتِي حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَوَلَدِي فِيهَا.
وَأَظَلُّ أَبْكِي حَتَّى يُخَيَّمَ عَلَيَّ الليلِ وَبَقِيتُ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، قَالَتْ: إِلَى أَنْ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بِنِي عَمِّي فَرَقَّ لِحَالِي وَرَحِمَنِي، قَالَ لِبَنِي قَوْمِي: أَلا تَطْلِقُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا وَمَا زَالَ بِهُمْ حَتَّى قَالُوا لِي: الْحِقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شَئْتِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَكِنْ كَيْفَ لِي أَنْ أَلْحِقْ بِزَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ وَاتْرُكُ فَلِذَةَ كَبْدِي وَلَدِي فِي مَكَّة عِنْدَ بَنِي عَبْد الأَسَدِ. قَالَتْ: وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ مَا أُعَالَجُ مِنْ أَحْزَانٍ وَأَشْجَانٍ فَرَقَّتْ قُلُوبُهُمْ لِحَالِي وَكَلَّمُوا بَنِي عَبْد الأَسَد فِي شَأْنِي وَاسْتَعْطَفُوهُمْ عَلَيَّ فَرَدُّوا لِي وَلَدِي سَلَمَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَعْدَدْتُ بَعِيرِي وَوَضَعْتُ وَلَدِي فِي حِجْرِي وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الْمَدِينَةِ أُرِيدُ زَوْجِي وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.
قَالَتْ: وَمَا وَصَلْتُ التَّنْعِيمَ حَتَّى لَقِيتُ عُثْمَانَ بن طَلْحَة فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ زَادَ الرَّاكِبِ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ. قَالَ: أَمَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: لا وَاللهِ إِلا الله. ثُمَّ ابَنِي هَذَا. قَالَ عثمانُ: وَاللهِ لا أَتْرُكِكِ أَبَدًا حَتَّى تَبْلُغِي الْمَدِينَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ أَخَذَ بِخُطَامِ بَعِيرِي وَانْطَلَقَ يَهْوِي بِي قَالَتْ: فوَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ وَلا أَشْرَفَ وَسَارَ مَعِي حَتَّى بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ.
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقَرْيَة بِقِبَاء لِبَنِي عَمْرُو بن عَوْفٍ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَة فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّة وَنَزَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِهِ وَبِوَلَدِهَا.
ثُمَّ بَعْدُ ذَلِكَ شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بَدْرًا وَعَادَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ انْتَصَرُوا نَصْرًا مُؤْزَّرًا، وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَبْلَى بَلاءً حَسَنًا، لَكِنَّهُ خَرَجَ مَنْهَا وَقَدْ جُرِحَ(2/73)
جُرْحًا بَلِيغًا فَمَا زَالَ يُعَالِجَهُ حَتَّى تَوَارَى لَهُ أَنَّهُ قَدْ انْدَمَلَ وَالْتَأَمَ.
لَكِنِ الْجُرْحُ كَانَ بِنَاؤهُ عَلَى فَسَادٍ، فَمَا لَبِثَ أَنْ نَفَرَ وَالْزَمَ أَبَا سَلَمَة الْفَرَاش.
وَبَيْنَمَا أَبُو سَلَمَة يُعَالِجُ جَرْحَه قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا أُمَّ سَلَمَة سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:
«لا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيبَةً فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ ذَلِكَ ويَقُولُ: «اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسِبُ مُصِيبَتِي هَذِهِ، اللَّهُمَّ اخُلُفْنِي خَيْرًا مَنْهَا إِلا أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَظَلَّ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى فراشِ مَرَضِهِ أَيَّامًا وَفِي ذَات صَبَاحٍ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَيْتِهِ لِيَعُودُهُ، فَلَمْ يَكَدْ يُجَاوِزُ بَابَ الدَّارِ حَتَّى فَارَقَ أَبُو سَلَمَةَ الْحَيَاةَ.
فَأَغْمَضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا سَلَمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ اتْبَعَهُ الْبَصَرُ وَرَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - طَرْفُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَة وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ وَافْسَحْ لَهُ قَبْرَهُ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . ثُمَّ مَا كَادَتْ تَخْرُجُ مِنْ حِدَادٍ حَتَّى تَتَابَعَ عَلَيْهَا الْخُطَّاب فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لَهُ. ثُمَّ تَقَدَمَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَرَدَّتْهُ كَمَا رَدَّتْ صَاحِبَهُ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيَّ خِلالاً ثَلاثًا فَأَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَرَى شَيْئًا مِنِّي يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبُنِي اللهُ.
وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا امْرَأَةٌ ذَاتَ عِيالٍ.
فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غِيرتكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ فِي السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي» .
ثُمَّ تَزَوَّجُهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا وَاخْلَفَهَا خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَة.(2/74)
ومُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْم لَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَط، بَلْ كَانَتْ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهَا. أ. هـ.
اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَادْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَاجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَيَا وَيْحَ مَنْ شَبَّتْ عَلَى الزَّيْغِ نَفْسُهُ ... إِلَى أَنْ دَهَاهَا الشَّيْبُ وَهُوَ نَذِيرُ
وَمَاتَ وَمَا لاقَى سِوَى الْخِزْي وَالشَّقَا ... وَوَبَّخَهُ بَيْنَ الْقُبُورِ نَكِيرُ
وَلاقَى إِلَهَ الْعَرشِ فِي ثَوْبِ حَسْرَةٍ ... وَقَدْ كَانَ فِي ثَوْبِ الْغُرُورِ يَدُورُ
فَقَالَ خُذُوهُ لِلْجَحِيمِ مُكَبَّلاً ... وَصِلُوهُ نَارًا إِنَّهُ لَكَفُورَ
وَيَا فَوْزَ مَنْ أَدَّى مَنَاسِكَ دِينِهِ ... وَعَاشَ سَلِيمُ الْقَلْبِ وَهُوَ طَهُورُ
وَتَابِعَ دِينَ الْحَقِّ فِقْهًا وَحِكْمَةً ... وَلَبِّي نَدَاءَ اللهِ وَهُوَ شَكُورُ
فهَذَا الَّذِي فِي الْخُلْدِ يَنْعَمُ بَالُهُ ... وَتَحْظَوْا بِهِ بَيْنَ الأَرَائِكِ حُورُ
فَلا تُهْمِلُوا يَا قَوْمِ آدَابَ دِينِكُمْ ... فَهَجْرُ طَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ فُجُورُ
وَمَا الْعَيْشُ إِلا غَمْضَةٌ وَالْتِفَاتِةٌ ... وَحُلْوُ أَمَانِي فَوْتُهَنَّ مَرِيرُ
وَمَا الْمَرْءُ إِلا طَائِرٌ وَجَنَاحُهُ ... مُرُووْ لَيَالِي الْعُمْرِ وَهُوَ قَصِيرُ
وَمَا الْمَوْتُ إِلا جَارِحٌ لا يَعُوقُهُ ... إِذَا انْقَضَّ بُنْيَانٌ عَلا وَقُصُورُ
وَرَامِي الْمَنَايَا لا تُرَدُّ سِهَامُهُ ... سَوَاءٌ لَدَيْهَا حَاكِمٌ وَحَقِيرُ
وإنَّا وَإِنْ عِشْنَا زَمَانًا مُطَوَّلاً ... وَطَابَ لَدَيْنَا الْعَيْشَ وَهُوَ نَظْيرُ
فَبَطْنُ الثَّرَى حَتْمًا مَحَطُ رِحَالِنَا ... وَهَلْ ثَمَّ حَيٌّ مَا حَوَتْهُ قُبُورُ
وَيَا لَيْتَهَا كَانَتْ نِهَايَةُ ضَعْنِنَا ... وَلَكِنَّ عُقْبَى الظَّاعِنِينَ نُشُورُ(2/75)
.. وَحَشْرٌ مُهَوَّلٌ وَازْدِحَامٌ بِمَوْقِفٍ ... عَلَى كُلِّ إِخْوَانِ الضِّيَاع عَسِيرُ
وَمَصْرَفُهُ سِجْنٌ لِمَنْ عَاشَ لاهِيًا ... بِهِ لَهَبٌ يَشْوِي الحَشَا وَسَعِيرُ
وُخُضْرُ جِنَانِ لِلَّذِي مَاتَ تَائِبًا ... وَكَانَ لَهُ فِي الدَّاجِيَاتِ زَفِيرُ
فَلا تُسْلِمُوا لِلنَّارِ حَرَّ وُجُوهِكُمْ ... وَلا تُغْضِبُوا الرَّحْمَنَ فَهُوَ غَيُورُ
وَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْأَلُوهُ حَنَانَهُ ... فَوَاللهِ رَبِّي إِنَّهُ لَغَفُورُ
وَلا يَغْتَرِرْ ذُو الْجَاهِ مِنْكُمْ بِجِاهِهِ ... فَأَكْبَرُ عَاتٍ فِي الْمَعَادِ حَقِيرُ
وَعَنْ جَاهِهِ وَالْمَال مَنْ مَاتَ ... خَارِجٌ وَأَغْنَى غَنِيٍ إِذْ يَمُوتُ فَقِيرُ
وَلا تُلْهِكُمْ دُنْيًا أَبَادَتْ وَأَهْلَكَتْ ... مُلُوكَ قُرُونٍ عَدُّهُنَّ كَثِيرُ
وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ أَسَافِلُ قَوْمَنَا ... تَسَاوَى لَدَيْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَفُورُ
وَبَاعُوا بِدُنْيَاهُمْ فَضَائِلَ دِينِهِمْ ... وَفَاسِقُهُمِ لِلْمَاكِرِينَ نَصِيرُ
فقَدْ أَسْخَطُوا الرَّحْمَنَ حَتَّى أَهَانَهُمْ ... وَلَيْسَ لَهُمْ لِلإِنْتِقَامِ شُعُورُ
فَمِنَّا أُنَاسَ فِي الدَّيَاجِي نَوَاحُهُمْ ... تَبين لَهُمْ عِنْدَ البُكَاء صُخُورُ
يُنَادِوْنَ يَا رَحَمْنَ لُطْفًا فَإِنَّنَا ... عَهِدْنَاكَ عَطْفًا لِلْمَلْهُوفِ تُجِيرُ
فَيَا مُصْلِحَ الأَحْوَالِ جَمِّلْ شُؤُونَنَا ... فأَنْتَ لإِِصْلاحِ الشُّؤُونِ جَدِيرُ
وأَنْتَ إِلَهُ الْعَالَمِينَ بَأَسْرِهِمْ ... وَأَنْتَ سَمِيعٌ عَالِمٌ وَبَصِيرُ
فَلا يَأْسَ إِذْ أَنْتَ الْقَدِيرُ وَكُلُّ مَنْ ... تَوَلاهُ يَأْسٌ مِنْكَ فَهُوَ كَفُورُ
وَصَلَّ وَسَلِّمْ يَا إِلَهِي تَفَضُّلاً ... عَلَى مَنْ بِذِكْرَاهُ الْقُلُوبُ تُنِيرُ
مُحَمَّدُ قُطْبُ الْمَرْسَلِينَ وَمَنْ رَحَى ... رِسَالَتِهِمْ جَمْعًا عَلَيْهِ تَدُورُ
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/76)
نَمَاذِجٌ مِنْ سِيرَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَنُصْحِهِمْ لِوُلاةِ الأُمُورِ
وَبُعْدِهِمْ عَنْ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَان
عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن عَمْرو قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا بِالسَّاحِلِ فَأَتَيْتُهُ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، رَدَّ عَلَيَّ وَاسْتَجْلَسَنِي، ثُمَّ قَالَ لِي: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ عَنَّا يَا أَوْزَاعِيُّ.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الَّذِي تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أُرِيدُ الأَخَذَ عَنْكُمْ وَالاقْتِبَاسَ مِنْكُمْ. قَالَ فَقُلْتُ: فَانْظُرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لا تَجْهَلَ شَيْئًا مِمَّا أَقُولُ لَكَ، قَالَ: كَيْفَ أَجْهَلُهُ وَأَنَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَفِيهِ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ وَأَقْدَمْتُكَ لَهُ.
قَالَ: قُلْتُ: أَخَافُ أَنْ تَسْمَعَهُ، ثُمَّ لا تَعْمَلَ بِهِ، قَالَ: فَصَاحَ بِي الرَّبِيعُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّيْفِ، فَانْتَهَرُهُ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: هَذَا مَجْلِسُ مَثُوبَةٍ لا مَجْلِسَ عُقُوبَةٍ فَطَابَتْ نَفْسِي، وَانْبَسَطَتُ فِي الْكَلامِ.
فقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ بِشرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كانَتْ حُجَّةً مِنَ اللهِ عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا وَيَزْدَادَ اللهُ بِهَا سَخَطًا عَلَيْهِ» .
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُول عَنْ عَطِيَّةَ بن يَاسِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" أَيُّمَا وَالٍ مَاتَ غَاشًّا لِرَعِيَّتِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة» .
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَرِهَ الْحَقَّ فقَدْ كَرِهَ اللهُ، إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، إِنَّ الَّذِي لَيَّنَ قُلُوبَ أُمَّتُكُمْ لَكُمْ حِينَ وَلاكُمْ أُمُورَهُمْ لِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ كَانَ بِهُمْ رَؤوفًا رَحِيمًا مُوَاسِيًا لَهُمْ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ وَعَنْدَ النَّاسِ، فَحَقِيقٌ بِكَ أَنْ تَقُومَ لَهُ فِيهِمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ تَكُونَ بِالْقِسْطِ لَهُ فِيهِمْ قَائِمًا وَلِعَوْرَاتِهِمْ سَاتِرًا لا تُغْلَقْ عَلَيْكَ دُونَهُمْ الْحِجَابَ، تَبْتَهِجْ بِالنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ وَتَبْتَئِسْ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سُوءٍ.(2/77)
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُنْتَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِكَ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ أَصْبَحْتَ تَمْلِكُهُمْ أَحْمَرَهُمْ وَأَسْوَدَهُمْ مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ وَكُلٌّ لَهُ عَلَيْكَ نَصِيبٌ مِنَ الْعَدِلِ، فَكَيْفَ بِكَ إِذَا انَبْعَثَ مِنْهُمْ فِئَامٌ، ولَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَشْكُو بَلِيَّةً أَدْخَلْتَهَا عَلَيْهِ أَوْ ظَلامَةً سُقْتَهَا إِلَيْهِ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عُرْوَةَ بن رُوَيْم قَالَ: كَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَرِيدَةٌ يَسْتَاكُ بِهَا وَيُرَوِّعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدٌ مَا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ الَّتِي كَسَرْتَ بِهَا قُلُوبَ أُمَّتِكَ وَمَلأْتَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا؟ فَكَيْفَ بِمَنْ شَقَّقَ أَسْتَارَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَجْلاهُمْ عَنْ بِلادِهِمْ وَغَيَّبَهمْ الْخَوْفُ مِنْهُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولُ عَنْ زِيَادةِ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بن مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ نَفْسِهُ فِي خَدْشٍ خَدَشَهُ أَعْرَابِيٌّ لَمْ يَتَعَمَّدَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثَكَ جَبَّارًا وَلا مُتَكَبِّرًا. فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأَعْرَابِيَّ فَقَالَ: «اقْتَص مِنِّي» . فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ قَدْ أَحْلَلْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَمَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَوْ أَتَيْتَ عَلَى نَفْسِي. فَدَعَا لَهُ بخَيْرٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِّ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، وَخُذْ لَهَا الآمَانَ مِنْ رَبِّكَ وَارْغَبْ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأَرْض، الَّتِي يَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَيْدُ قَوْسِ أَحَدِكمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمُلْكَ لَوْ بَقِيَ لِمَنْ قَبْلكَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، وَكَذَا لا يِبْقَى لَكَ كَمَا لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِكَ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}
قَالَ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّم وَالْكَبِيرةُ(2/78)
الضَّحِك. فَكَيْفَ بِمَا عَمِلَتْهُ الأَيْدِي وَحَصَدَتْهُ الأَلْسُنُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ مَاتَتْ سِخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ضُيِّعَتْ لَخَشِيتُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا، فَكَيْفَ مِمَّنْ حُرِمَ عَدْلُكَ وَهُوَ عَلَى بُسَاطِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الزبور: يَا دَاودُ إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهُمَا هَوَى، فَلا تَتَمَنَّيَنَ فِي نَفْسِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيَفْلَحُ عَلَى صَاحِبِه، فَأَمْحُوكَ عَنْ نُبُوَّتِي ثُمَّ لا تَكُونُ خَلِيفَتِي، وَلا كَرَامَةَ، يَا دَاودُ إِنَّمَا جَعَلْتُ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي رُعَاةً كَرُعَاةِ الإِبِلِ، لِعِلْمِهِمْ بِالرِّعَايَةِ وَرِفْقِهِمْ بِالسِّيَاسَةِ لِيَجْبُرُوا الْكَسِيرَ وَيُدَلِّهُوا الْهَزِيلَ عَلَى الْكَلاءِ وَالْمَاءِ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِأَمْرٍ لَوْ عُرِضَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ لأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلَنَّهُ وَأَشْفَقْنَ مِنْهُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن جَابِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَرَآهُ بَعْدَ أَيَّامٍ مُقِيمًا فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى عَمَلِكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لَكَ مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهَدِ فِي سِبِيلِ اللهِ. قَالَ: لا. ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي شَيْئًا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ إِلا أُتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيامَة مَغْلُولَةٌ يَدَهْ إِلَى عُنُقِهِ، لا يَفُكَّهَا إِلا عَدْلُهُ، فَيُوقَفُ عَلَى جِسْرٍ مِنَ النَّارِ يَنْتَفِضُ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرِ انْتِفَاضَةً تُزِيلُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُعَادُ فَيُحَاسَبُ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْحَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرُ فَيَهْوَى بِهِ فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِمَّنْ سَمِعْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي ذَرٍّ وَسَلْمَانٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عُمَرُ فَسَأَلَهُمَا فَقَالا: نَعَمْ. سَمِعْنَا(2/79)
مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ: وَاعُمَرَاهُ مَنْ يَتَوَلاهَا بِمَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ سَلَتَ اللهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالأَرْضِ. قَالَ. فَأَخَذَ الْمَنْدِيلَ فَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ بَكَى وَانْتَحَبَ حَتَّى أَبْكَانِي.
ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ سَأَلَ العَبَّاسُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِمَارَةَ مَكَّة أَوْ الطَّائِف أَوْ الْيَمَن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا عَبَّاسٌ يَا عَمَّ النَّبِيِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَمَارَةٍ لا تُحْصِيهَا» . نَصْيحَةٌ مِنْهُ لِعَمِّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ وَيَا صَفِيَّةُ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْت مُحَمَّدٍ إِنِّي لَسْتُ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنَّ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» . وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لا يَقْسِمُ أَمْرَ النَّاسِ إِلا حَصِيفُ الْعَقْلِ أَرِيبُ الْعَقَدِ، لا يَطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ، لا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى حُرَّةٍ، وَلا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وَقَالَ: الأُمَرَاءُ أَرْبَعَةٌ: فَأَمِيرٌ قَوِي ظَلفَ نَفْسَهُ وَعُمَّالَهُ، فَذَلِكَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَدُ اللهِ بَاسِطَةٌ عَلَيْهِ الرَّحْمَة. وَأَمِيرٌ فِيهِ ضَعْفٌ ظَلفَ نَفْسَهُ وَأَرْتَعَ عُمَّالَهُ لِضَعْفِهِ، فَهُوَ عَلَى شَفَاءِ هَلاكٍ إِلا أَنْ يَرْحَمَهُ اللهُ، وَأَمِيرٌ ظَلفَ عُمَّالُهُ لِضَعْفِهِ وَارْتَعَ نَفْسَهُ فذَلِكَ الْحُطَمَة، الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» . فَهُوَ الْهَالِكُ وَحْدَهُ، وَأَمِيرٌ أَرْتَعَ نَفْسهُ وَعُمَّالُهُ فَهَلَكُوا جَمِيعًا.
وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتَيْتُكَ حِين أَمَرَ اللهُ بِمُنَافِخِ النَّارِ فَوُضِعَتْ عَلَى النَّارِ تُسَعَّرُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ: «يَا جِبْرِيلُ صِفْ لِيَ النَّارَ» . فَقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا فَأَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اصْفَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَتْ، فَهِيَ سَوْدَاءٌ مٌظْلِمَةٌ، لا يُضِئُ جَمْرُهَا، وَلا يُطْفَأُ لَهَبُهَا، والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ(2/80)
أَنَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيابِ أَهْلِ النَّارِ أُظْهِرَ لأَهْلِ الأَرْضِ لَمَاتُوا جَمِيعًا وَلَوْ أَنَّ ذَنُوبًا مِنْ شَرَابِهَا صُبَّ فِي مِيَاهِ الأَرْضِ جَمِيعًا قَتَلَ مَنْ ذَاقَهُ، وَلَوْ أَنْ ذِرَاعًا مِنَ السّلْسلَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ وُضِعَ عَلَى جِبَالِ الأَرْضِ جَمِيعًا لَذَابَتْ وَمَا اسْتَقَلَّتْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً ادْخِلَ النَّارَ ثُمَّ أُخْرِجَ مَنْهَا لَمَاتَ أَهْلُ الأَرْضِ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهُ وَعِظَامِهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَكَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِبُكَائِهِ؟ فَقَالَ: أَتَبْكِي يَا مُحَمَّدٌ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخْرَ، فَقَالَ: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، وَلَمْ بَكَيْتَ يَا جِبْرِيلُ وَأَنْتَ الرُّوحُ الأَمِينُ أَمِينُ الله عَلَى وَحْيِهِ. قَالَ: أَخَافُ أَنْ أُبْتَلِي بِمَا ابْتُلِي بِهِ هَارُوتٌ وَمَارُوتُ، فَهُو الَّذِي مَنَعَنِي مِنَ اتِّكَالِي عَلَى مَنْزِلَتِي عِنْدَ رَبِّي، فَأَكُونُ قَدْ أَمِنْتُ مَكْرَهُ، فَلَمْ يَزَالا يَبْكِيانِ حَتَّى نُودِيَا مِنَ السَّمَاءِ، يَا جِبْرِيلُ، وَيَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمْكَنَكُمَا أَنْ تَعْصِيَاهُ، فَيُعَذِبَاكُمَا، وَفَضْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ كَفَضْلِ جَبْرِيلِ عَلَى سَائِرِ الْمَلائِكَةِ.
وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُبَالِي إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيّ عَلَى مَنْ مَالَ الْحَقُّ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَلا تُمْهِلْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَشَدَّ الشِّدَّةِ الْقِيامُ للهِ بِحَقِّهِ، وَإِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ عَنْ الله التَّقْوَى، وَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ الْعِزَّ بِطَاعَةِ اللهِ رَفَعَهُ اللهُ وَأَعَزَّهُ. وَمَنْ طَلَبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَذَلَّهُ، وَوَضَعَهُ، فَهَذِهِ نَصِيحَتِي إِلَيْكَ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ، ثُمَّ نَهَضْتُ. فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى الْوَلَدِ وَالْوَطَنِ، بِإِذْنِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتَ لَكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ نَصِيحَتُكَ، وَقَبِلْتُهَا، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلْخَيْرِ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ أَتَوَكَلُ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيل فَلا تَخْلني بِمُطَالَعَتِكَ إِيَّايَ، بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّكَ الْمَقْبُولُ الْقَوْلَ غَيْرُ الْمُتَهَم فِي النَّصِيحَةِ. قُلْتُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.(2/81)
" فَصْلٌ "
وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَلَى دِمَشْقَ اسْتَعَانَ بِالإِفْرِنْجِ، وَاصْطَلَحَ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يُسْعِفُوهُ ضِدَّ أَخِيهِ، مَلْك مِصْرَ وَيُعْطِيهُمْ مُقَابِلَ مَعُونَتِهِمْ صَيْدَا وَقَلْعَةَ الشَّقِيفِ، وَغَيْرِهِا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ.
وَدَخَلَ الصَّلِيبِيُّونَ دِمَشْقَ، لِشِرَاءِ الصَّلاحِ فَاسْتَفْظَعَ الشَّيْخُ الْعِزُّ بن عَبْدِ السَّلامِ لِذَلِكَ، وَغُمَّ غَمَّا شَدِيدًا، فَأَفْتَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلاحِ لِلإِفْرِنْجِ، وَتَرَكَ الدُّعَاء لِلسُّلْطَانِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
وَنَدَّدَ بِخِيَانَةِ السُّلْطَانِ لِلْمُسِلِمِينَ، وَكَانَ مِمَّا دَعَا بِهِ فِي خُطَبِةِ: «اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ تُعِزُّ فِيهِ وَلِيِّكَ، وَتُذِلُّ بِهِ عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ، وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ "، فَبِمِثْلِ لَمْحِ الْبَرْقِ بَلَّغَ الْجَوَاسِيسُ الْمَلِكَ مَا فَعَلَهُ قَاضِى الْقُضَاةِ.
وَمَا أَكْثَرُ الْمُبَلِّغِينَ وَالْمُتَوَدِّدِينَ وَالنَّمَّامِينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَغَضِبَ السُّلْطَانُ، وَعَزَلَ الشَّيْخُ عَنْ الِقَضَاءِ فَرَحِلَ الشَّيْخُ عَنْ دِمَشْق إِلَى مِصْرَ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَرِيقِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ فِي أَثَرِهِ، فَأَدْرَكَتْهُ رُسُلُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ. وَطَلَبُوا مِنْهَ الرُّجُوعَ، وقَالُوا لَهُ: أنَّ السُّلْطَانَ عَفَا عَنْكَ وَسَيَرُدَّكَ إِلَى مَنْصِبِكَ عَلَى أَنْ تَنْكَسِرَ لَهُ وَتَعْتَذِرَ، وَتُقَبِّلُ يَدَهُ.
فَقَالَ لَهُمْ الشَّيْخُ: أَنَا مَا أَرْضَى أَنْ يُقَبِّلَ يَدِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ أُقَبِّلَ يَدَهُ يَا قَوْمِ أَنْتُمْ فِي وَادِي، وَأنَا فِي وَادِي، ثُمَّ مَضَى فِي طَرِيقِهِ حَتَّى وَصَلَ مِصْرَ. هكَذَا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.
اللَّهُمَّ قَوِّنَا بِالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/82)
" فَصْلٌ ": وَلَمَّا عَلِمَ مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةِ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ بَنَى مَدِينَةَ الزَّهْرَاءِ وَوَضَعَ فِيهَا الصَّرْحَ الْمُمَرْدَ، وَاتَّخَذَ لِقُبْتِهِ قَرَامِيدَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضْةِ.
فَغَضِبَ الشَّيْخُ لِذَلِكَ، وَتَأَلَّمَ لِهَذَا الْبَذَخِ فِي مَالِ الدَّوْلَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمَسْؤُولُ الأَوْلُ أَمَامَ بَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهِي عَنْ هَذَا السَّرْفِ الْمُضِرِّ بِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
فَجَاءَ إِلَى النَّاصِر وَقَبَّحَ عَمَلَهُ هَذَا وَانَّبَهَ بِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَزَاهُ اللهُ بَلَغَ بِكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا التَّمْكِين حَتَّى أَنْزَلَكَ اللهُ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ مَعَ مَا آتَاكَ اللهُ وَفَضَّلَكَ عَلَى الْعَالَمِينَ.
فَاقْشَعَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّاصِر مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ: أنْظُرْ مَاذَا تَقُولُُ؟ كَيْفَ أَنْزَلَنِي مَنَازِلَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ ألَيْسَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .
فَسَكَتَ النَّاصِرُ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَصَارَتْ دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ، خَوْفًا مِنَ اللهِ حَيْثُ وَصَلَتْ الْمَوْعِظَةُ الْخَالِصَةُ إِلَى قَلْبِهُ، وَتَأَثّرًا عَظِيمًا لأَنَّهَا مِنْ قَلْبٍ إِلَى قَلْبٍ.
ثُمَّ قَالَ لِلْشَيْخِ: جَزَاكَ اللهُ عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِينَا مِنْ أَمْثَالِكَ، فالَّذِي نَطَقْتَ بِهِ حَقٌّ وَاللهِ وَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَلْهَجُ بِالاسْتِغْفَارِ ثُمَّ أَمَر بِنَقْصِ سَقْفِ الْقُبَّةِ، وَعَادَ قَرَامِيدُهَا تُرَابًا.
فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي كَيْفَ أَنَّ سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْمَادَةِ وَقَفَ خَاشِعًا أَمَامَ هَذَا العَالِمِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ الَّذِي أَدَّى وَاجِبَهُ عَلَى الْوَجْهِ الأَكْمَلِ مُعْتَمِدًا(2/83)
عَلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَلَوْ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمُظْلِمُ لَسَمِعْتَ غَيْرَ هَذَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ.
اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا الْبُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذِّبْنَا بِأَلِيمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بِالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدِمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ حَاجًّا فَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْنَدْوَةِ إِلَى الطَّوَافِ فِي آخِرِ الليْلَ، يَطُوفُ وَيُصَلِّي وَلا يُعْلمُ بِهِ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، رَجَعَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، وَجَاءَ الْمُؤَذِنُونَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةَ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ.
فخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حِينَ أَسْحَرَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ إِذْ سَمِعَ رَجُلاً عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ظُهُورَ الْبَغْي وَالْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالطَّمَعِ، فَأَسْرَعَ الْمَنْصُورُ فِي مَشْيِهِ، حَتَّى مَلَءَ مَسَامِعَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَفَهِمَ قَوْلُهُ كُلَّهُ.
ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ وَقَالَ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَأَقْبَلَ مَعَ الرَّسُولِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا هَذَا الَّذِي سَمِعْتُكَ تَقُولُ مِنْ ظُهُورِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مَنْ الطَّمَعِ وَالظُّلْمِ، فَوَاللهِ لَقَدْ حَشَوْتُ مَسَامِعِي مَا أَمْرَضَنِي وَأَقْلَقَنِي.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي أَنْبَأْتُكَ بِالأُمُورِ مِنْ أُصُولِهَا(2/84)
وَإِلا اقْتَصَرْتُ عَلَى نَفْسِي فَفِيهَا لِي شُغْلٌ شَاغِلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ. فَقَالَ الَّذِي دَخَلَهُ الطَّمَعُ حَتَّى حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَإِصْلاحِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْفَسَاد فِي الأَرْضِ أَنْتَ.
فَقَالَ: وَيْحَكَ يَدْخُلُنِي الطَّمَعُ وَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ فِي يَدِي وَالْحُلْوَ وَالْحَامِضَ فِي قَبْضَتِي؟ قَالَ: وَهَلَ دَخَلَ أَحَدًا مِنَ الطَّمَعَ مَا دَخَلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَرْعَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَغْفَلْتَ أُمُورَهُمْ وَاهْتَمَمْتَ بِجَمْعِ أَمْوَالَهُمْ. وَجَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مِنْ الْجِصَّ، وَالآجُرِ وَأَبْوابًا مِنَ الْحَدِيدِ وَحَجَبَةً مَعَهُمْ السِّلاحُ ثُمَّ سَجَنْتَ نَفْسَكَ فِيهَا عَنْهُمْ وَبَعَثْتَ عُمْالَكَ فِي جَمْعِ الأَمْوَالِ وَجِبَايَتِهَا. وَاتَّخَذْتَ وُزَرَاءَ وَأَعْوَانًا ظَلَمَةً إِنْ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرُوكَ وَإِنْ ذَكَرَتَ لَمْ يُعِينُوكَ وَقَوَّيْتَهُمَ عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ بِالأَمْوَالِ وَالْكِرَاعِ، وَالسِّلاحِ وَأَمَرْتَ بِأَنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلا فُلانٌ وَفُلانٌ سَمَيْتَهُمْ وَلَمْ تَأْمُرْ بِإِيصَالِ الْمَظْلُومِ وَالْمَلْهُوفِ وَلا الْجَائِعِ وَلا الْعَارِي وَلا الضَّعِيفِ وَلا الْفَقِيرِ َوَلا أَحَدٌ إِلا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.
فَلَمَّا رَآكَ هَؤُلاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَآثَرْتَهُمْ عَلَى رَعِيَّتِكَ وَأَمَرْتَهُمْ أَنْ لا يُحْجِبُوا عَنْكَ تُجْبِي الأَمْوَال وَلا تُقَسِّمُهَا قَالُوا: هَذَا قَدْ خَانَ اللهَ فَمَا لَنَا لا نَخُونُهُ وَقَدْ سُخِّرَ لَنَا.
فَائْتَمَرُوا عَلَى أَنْ لا يَصِلَ إِلَيْكَ مِنْ عِلْمِ أَخْبَارِ النَّاسِ إِلا مَا أَرَادُوا وَأَنْ لا يَخْرُجُ لَكَ عَامِلٌ فَيُخَالِفُ لَهُمْ أَمْرًا إِلا أَقْصُوهُ حَتَّى تَسْقُطَ مَنْزِلَتهُ وَيَصْغَرُ قَدْرُهُ.
فَلَمَّا انْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، أَعْظَمُهُمْ النَّاسَ - وَهَابُوهُمْ وَكَانَ أَوْلُ مَنْ صَانَعَهُمْ عُمَّالَكَ بِالْهَدَايَا وَالأَمْوَالِ لِيَتَقَوُّوا بِهُمْ عَلَى ظُلْمِ رَعِيَّتِكَ.(2/85)
ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ذَوُو الْقُدْرَةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْ رَعِيَّتِكَ لِيَنَالُوا ظُلْمَ مَنْ دُونَهِمْ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَامْتَلأَتْ بِلادُ اللهِ بِالطَّمَعِ بَغْيًا وَفَسَادًا وَصَارَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ شُرَكَاءَكَ فِي سُلْطَانِكَ وأَنْتَ غَافِلٌ.
فَإِنْ جَاءَ مُتَظِّلِمُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إِلَيْكَ وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ صَوْتَهُ أَوْ قِصَّتَهُ إِلَيْكَ عِنْدَ ظُهُورِكَ وَجَدَكَ قَدْ نَهِيتَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَّفْتَ لِلنَّاسِ رَجُلاً يَنْظُرُ فِي مَظَالِمِهِمْ، فَإِنَّ جَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَبَلَّغَ بِطَانَتُكَ سَأَلُوا صَاحِبَ الْمَظَالِمِ أَنْ لا يَرْفَعَ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُتَظَلِّمِ بِهِ حُرْمَةٌ وَإِجَابَةٌ لَمْ يُمَكِّنَهُ مِمَّا يُرِيدُ خَوْفًا مِنْهُمْ.
فَلا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَلُوذُ بِهِ وَيَشْكُو، وَيَسْتَغِيثُ وَهُوَ يَدْفَعُهُ وَيَعْتَلِي عَلَيْهِ، فَإِذَا جَهِدَ، وَأُخْرِجَ وَظَهَرْتَ صَرَخَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، لِيَكُونَ نَكَالاً بِغَيْرِهِ، وَأَنْتَ تَنْظُرُ، وَلا تُنْكِرُ وَلا تُغْنِي، فَمَا بَقَاءُ الإِسْلامِ وَأَهْلهِ عَلَى هَذَا.
وَلَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّة وَكَانَتْ الْعَرَبُ لا يَنْتَهِي إِلَيْهُمْ الْمَظْلُومُ إِلا رُفِعَتْ ظَلامَتُهُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْصَفُ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ أَقْصَى الْبِلادِ حَتَّى يَبْلُغَ بَابَ سُلْطَانِهِمْ، فَيُنَادِي يَا أَهْلِ الإِسْلامِ فَيَبْتَدِرُونَهُ مَا لَكَ؟ فَيَرْفَعُونَ مَظْلَمَتَهُ إَلَى سُلْطَانِهِمْ فَيُنْصِفُ.
ولَقَدْ كُنْتُ أَسَافِرُ إِلَى أَرْضِ الصِّين وَبِهَا مَلِكٌ فَقَدِمْتُهَا مَرَّةٌ وَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُ مَلِكِهِمْ، فَجَعَلَ يَبْكِي. فَقَالَ وُزَرَاؤهُ: مَا لَكَ تَبْكِي لا بَكَتْ عَيْنَاكَ.
فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِي، وَلَكْنْ أَبْكِي لِمَظْلُومٍ يَصْرُخُ بِالْبَابِ فَلا أَسْمَعُ صَوْتَهُ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنْ كَانَ ذَهَبَ سَمْعِي فَإِنَّ بَصَرِي لَمْ يَذْهَبْ، نَادُوا فِي النَّاسِ أَلا لا يَلْبِسُ ثَوْبًا أَحْمَرَ إِلا مَظْلُومًا، فكَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَيَطُوفُ النَّهَارَ هَلْ يَرَى مَظْلُومًا فَيُنْصِفَهُ.(2/86)
هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُشْرِكٌ بِاللهِ، قَدْ غَلَبَتْ رَأْفَتُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، وَرِقَتُهُ، عَلَى شُحَّ نَفْسِهُ فِي مُلْكِهِ وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ، وَابْنُ عَمِّ نَبِيِّ اللهِ لا تَغْلِبَكَ رَأْفَتُكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَرَقَّتُكَ عَلَى شُحِّ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ لا تَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاثَةٍ.
إِنْ قُلْتُ أَجْمَعُهَا لِوَلَدِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِي الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَمَا لَهُ عَلَى الأَرْضِ مَالٌ، وَمَا مِنْ مَالِ إِلا وَدُونُهُ يَدٌ شَحِيحَةٌ تَحْوِيهِ، فَمَا يَزَالُ اللهُ تَعَالَى يَلْطُفُ بذَلِكَ الطِّفْلَ حَتَّى تَعْظُمَ رَغْبَةَ النَّاس إِلَيْهِ، وَلَسْتَ الَّذِي تُعْطِي بَلِ اللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ.
وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لأُشَيِّدَ سُلْطَانِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا جَمَعُوهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا أَعَدُّوا مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلاحِ وَالْكِرَاعِ وَمَا ضَرَّكَ وَوَلَدَ أَبِيكَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْجَدَّةِ وَالضَّعْفِ حِينَ أَرَادَ اللهُ بِكُمْ مَا أَرَادَ.
وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لِطَلَبِ غَايَةٍ هِيَ أَجْسَمُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا. فوَاللهِ مَا فَوْقَ مَا أَنْتَ فِيهِ إِلا مَنْزِلَةُ لا تُدْرَكُ إِلا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ - يُرِيدُ الْجَنَّةَ وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعَاقِبُ مَنْ عَصَاكَ مِنْ رَعِيَّتِكَ بِأَشَدِّ مِنَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالْمَلِكِ الَّذِي خَوَّلَكَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.
وَهَوَ تَعَالَى لا يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرَى مِنْكَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُكَ وَأَضْمَرَتْهُ جَوَارِحُكَ فَمَاذَا تَقُولُ إِذَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ مُلْكَ الدُّنْيَا مِنْ يَدَكَ وَدَعَاكَ إِلَى الْحِسَابِ هَلْ يُغْنِي عَنْكَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا كُنْتَ فَيهِ مِمَّا شَحِحْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.(2/87)
فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى نَحَبَ وَارْتَفَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ احْتِيَالِي فِيمَا خُوِّلْتُ فِيهِ وَلَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ إِلا خَائِنًا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ بالأَئِمَّةِ الأَعْلامِ الْمُرْشِدِينَ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ. قَالَ: قَدْ فَرُّوا مِنِّي، قَالَ: هَرَبُوا مِنْكَ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ طَرِيقَتِكَ مِنْ قِبَلِ عُمَّالِكَ.
وَلَكِنْ افْتَحْ الأَبْوَابَ وَسَهِّلِ الْحِجَابَ، وَانْتَصِرْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَامْنَعْ الْمَظَالِمَ وَخُذْ الشَّيْءَ مِمَّا حَلَّ وَطَابَ وَاقْسِمْهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَأَنَا ضَامِنٌ عَلَى أَنَّ مَنْ هَرَبَ مِنْكَ أَنْ يَأْتِيَكَ، فَيُعَاوِنَكَ عَلَى صَلاحِ أَمْرِكَ، وَرَعِيَّتِكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: اللَّهُمَّ وَفِّقَنِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلَ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهُمْ.. إلخ.
شِعْرًا: ... مَا ضَرَّ مَنْ رَهِبَ الْمُلُوكَ لَوْ أَنَّهُ ... رَهِبَ الَّذِي جَعَلَ الْمُلُوكَ مُلُوكًا
وَإِذَا رَجَوْتَ لِنِعْمَةً أَوْ نِقْمَةً ... فَارْجُ الْمَلِيكَ وَحَاذِرْ الْمَمْلُوكَا
وَإِذَا دَعَوْتَ سِوَى الإلهِ فِإِنَّمَا ... صَيَّرْتُ لِلرَّحْمَنِ فِيكَ شَرِيكًا
آخر: ... وَاللهُ بِالْغَيْبِ، وَالتَّقْدِيرِ مُنْفَرِدٌ ... وَمَا سِوَى حُكْمِهِ غَيٌّ وَتَضْلِيلٌ
فَلا مُعَجِّلِ للمقضي آجله ... ولَيْسَ لِلْعَاجِلِ الْمقضي تَأْجِيلُ
ثِقْ بِالْعَلِيمِ الَّذِي يَقْضِي الأُمُورَ وَلا ... يَغْركَ مَا دُونَهُ؛ فَالْكُلُّ تَعْلِيلُ
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرْ لَنَا.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ
وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرِ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... زِيَادَةُ الْمَرِءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ ... وَرِبْحُهُ غَيْر مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ
وَكُلُّ وِجْدَانِ حَظ لا ثَبَاتَ لَهُ ... فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي التَّحْقِيقِ فُقْدَانِ(2/88)
يَا عَامِرًا لِخَرَابِ الدَّهْرِ مُجْتَهِدًا ... بِاللهِ هَلْ لَخَرَابِ الدَّهْرِ عُمْرَانُ
وَيَا حَرِيصًا عَلَى الأَمْوَالِ تَجْمَعُهَا ... أَنَسِيتَ أَنَّ سُرُورَ الْمَالِ أَحْزَانُ
رَاعِي الْفُؤادَ عَنْ الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ... فَصَفْوُهَا كَدْرٌ وَالْوَصْلُ هُجْرَانُ
وَأَرْعَ سَمْعَكَ أَمْثَالاً أَفْصِلُهَا ... كَمَا يُفَصَّلُ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانُ
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ ... فَطَالَ مَا أَسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
وَإِنْ أَسَاءَ مُسِيئ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي ... عُروضِ زَلَّتِهِ عَفْوٌ وَغُفْرَانُ
وَكُن عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَانًا لِذَي أَمَلٍ ... يَرْجُوا نَدَاكَ فَإِنَّ الْحُرَّ مِعْوَانُ
وَأشْدُدْ يَدَيْكَ بِحْبِلِ اللهِ مُعْتَصِمًا ... فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدُ فِي عَوَاقِبِهِ ... وَيَكْفِيهِ شَرَّ مَنْ عَزُوا وَمَنْ هَانُوا
مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبِ ... فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزُ وَخُذْلانُ
مَنْ كَانَ للخَيْرِ مَنَّاعًا فلَيْسَ لَهُ ... عَلَى الحَقِيقَةِ إِخْوَانُ وَأَخْدَانُ
مَنْ جَادَ بِالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً ... إِلَيْهِ وَالْمَالُ لِلإِنْسِانِ فَتَّانُ
مَنْ سَالَمَ النَّاسَ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِهِمْ ... وَعَاشَ وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ خَذْلانُ
مَنْ كَانَ لِلْعَقْلِ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ غَدَا ... وَمَا عَلَى نَفْسِهُ لِلْحِرْصِ سُلْطَانُ
مَنْ مَدَّ طَرْفًا بِفَرْطِ الْجَهْلِ نَحْوَ هَوَى ... أَغْضَى عَلَى الْحَقِّ يَوْمًا وَهُوَ خَزْيَانُ
مَنِ إِسْتَشَارَ صُرُوفَ الدَّهْرِ قَامَ لَهُ ... عَلَى حَقِيقَةِ طَبْعِ الدَّهْرِ بُرْهَانُ
مَنْ يَزَرَعِ الشَّرَّ يَحْصُدُ فِي عَوَاقِبِهِ ... نَدَامَةً وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ
مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارِ نَامَ وَفِي ... قَمِيصِهِ مِنْهُوا صِلْ وَثُعْبَانُ
كُنْ رَيِّقَ الْبِشْرِ إِنَّ الْحرَّ هِمْتُهُ ... صَحِيفَةٌ وَعَلَيْهَا الْبشرِ عُنْوَانَ
وَرَافِقِ الرّققَ فِي كُلِّ الأُمُورِ فَلَمْ ... يَنْدَمْ رَفِيقٌ وَلَمْ يَذْمُمْهُ إِنْسَانُ
وَلا يَغُرَّنَكَ حَظٌّ جَرَّهُ خَرَقٌ ... فَالْخَرْقُ هَدْمٌ وَرِفْقُ الْمَرالأ بُنْيَانُ(2/89)
.. أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إِمْكَانُ
فَالرَّوْضُ يَزْدَانُ بِالأَنْوَارِ فَاغِمُهُ ... وَالْحُرُّ بِالْعَدِلِ وَالإِحْسَانِ يَزْدَانُ
دَعْ الْحُرَّ وَجْهِكَ لا تَهْتِكْ غَلالَتَهُ ... فَكُلُّ حُرٍّ لِحُرِّ الْوَجْهِ صَوَّانُ
لا ضَلَّ لِلْمَرْءِ يَعْرَى مِنْ نُهًى وَتَقًى ... وَإِنْ أَظَلَّلتْهُ أَوْرَاقٌ وَأَفْنَانُ
وَالنَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ وَلتْهُ دَوْلَتُهُ ... وَهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَادَتْهُ أَعْوَانُ
سَحْبَانُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ بَأَقِلٌ حَصْرٌ ... بَأَقِلٌ فِي ثَرَاءِ الْمَالِ سَحْبَانُ
ولا تُودِعِ السِّرِّ وَشَّاءً بِهِ مَذِلاً ... فَمَا رَعَى غَنَمًا فِي الدَّو سِرْحَانُ
لا تَحسَبِ النَّاسَ طَبْعًا وَاحِدًا فَلَهُمْ ... غَرَائِزُ لَسْتَ تُحْصِيهُنَّ أَلْوَانُ
مَا كُلُّ مَاءٍ كَصَدَّاءٍ لِوَارِدِهِ ... نَعَمْ وَلا كُلُّ نَبْتٍ فَهُوَ سَعْدَانُ
لا تَخْدِشَنَّ بِمَطْلٍ وَجْهَ عَارِفَةٍ ... فَالْبِرُّ يَخْدِشُهُ مَطْلٌ وَلَيَّانُ
لا تَسْتَشِرْ غَيْرَ نَدْبٍ حَازِمٍ يَقِظٍ ... قَدْ إسْتَوَى عِنْدَهُ سِرٌّ وَإِعْلانُ
فَلتَدَابِيرِ فُرْسَانٌ إِذَا رَكَضُوا ... فِيهَا أَبَرُّوا كَمَا لِلْحَرْبِ فُرْسَانُ
وَلِلأُمُورِ مَوَاقِيتٌ مُقَدَّرَةٌ ... وَكُلُّ أَمْرٍٍ لَهُ حَدٌ وَمِيزَانُ
فَلا تكَنْ عَجِلاً فِي الأَمْرِ تَطْلبُهُ ... فَلَيْسَ يُحْمَدُ قَبْلَ النُّضْجِ بُحْرَانُ
كَفَى مِن الْعَيْشِ مَا قَدْ سَدَّ مِنْ عَوَزٍ ... فَفِيهِ لِلْحُرٍ قُنْيَان وَغُنْيَانُ
وَذُوا القَنَاعَةِ رَاضٍ مِنْ مَعِيشَتِهِ ... وَصَاحِبُ الْحِرْصِ إِنْ أَثْرَى فَغَضْبَانُ
حَسْبُ الْفَتَى عَقْلُهُ جِلاً يُعَاشِرُهُ ... إِذَا تَحَامَاهُ إِخْوَانٌ وَخِلانُ
هُمَا رَضِيعَا لِبانٍ حَكْمَةٌ وَتُقَى ... وَسَاكِنَا وَطَنٍ مَالٌ وَطُغْيَا
إِذَا نَبَا بَكَرِيمٍ مَوْطِنٌ فَلَهُ ... وَرَاءَهُ فِي بَسِيطِ الأَرْضِ أَوْطَانُ
يَا ظَالِمًا فَرِحًا بِالْعِزِّ سَاعِدَهُ ... إِنْ كُنْتَ فِي سَنَةٍ الدَّهْرُ يَقْضَانُ
مَا إسْتَمْرأ الظُّلُمَ لَوْ أَنْصَفَتَ آكَلَهُ ... وَهَلْ يَلَدُّ مَذَاقُ الْمَرْءِ خُطْبَانُ
يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ المرضُيُ سِيرَتُهُ ... أَبْشِرْ فَأَنْتَ بِغَيْرِ الْمَاءِ رَيَّانُ
وَيَا أَخَا الْجَهْلِ لَوْ أَصْبَحْتَ فِي لُجَجٍ ... فَأَنْتَ مَا بَيْنَهَا لا شَكٍّ ضَمْئآنُ(2/90)
.. وَلا تَحسبنَّ سُرُورًا دَائِمًا أَبَدًا ... مَن سَرَّهُ زَمَن سَاءتْهُ أَزْمَانُ
يَا رَفِلاً فِي الشَّبَابِ الْوَجْفِ مُنْتَشِيًا ... مِنْ كَأْسِهِ هَلْ أَصابَ الرُّشْدَ نَشْوَانُ
لا تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ زَائِلٍ خَضَلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمْ قِبْلَ الشَّيْبَ شُبُّانُ
وَيَا أَخَا الشَّيْبِ لَوْ نَاصَحْتَ نَفْسَكَ لَمْ ... يَكُنْ لِمْثِلْكِ فِي الإِسْرَافِ إِمْعَانُ
هَبِ الشَّيْبَةِ تُبْلَى عُذْرَ صَاحِبها ... مَا عُذْرُ أَشْيبَ يَسْتَهْوِيهِ شَيْطَانُ
كَلُّ الذُّنُوب فَإِنَّ الله يَغْفِرُهَا ... إِنْ شَيَّعَ الْمَرْءِ إِخْلاصٌ وِإِيمَانُ
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرنُ
نَصِيحَة أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِي لِسُلَيْمَانٌ بن عَبْدِ الْمَلِكِ
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانٌ بن عَبْد الْمَلِكِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ زَائِرًا لِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَعَهُ ابْن شِهَابٍ الزُّهَرِي وَرَجَاءُ بن حَيْوَة، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيْامٍ، فَقَالَ: أَمَا هَا هُنَا رَجُلٌ مَمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى. هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ وَهُوَ أَقْوَرُ أَعْرَجُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانٌ إزْدَرَتْهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَا هَذَا الْجَفَاءُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْكَ وَأَنْتَ تُوصَفُ بِرُؤْيَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ فَضْلٍ وَدِينٍ تُذْكَرُ بِهِ.
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَأَيُ جَفَاءٌ رَأَيْتَ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: أَنَّهُ آتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاؤهَا وَخِيَارُهَا، وأَنْتَ مَعْدُودٌ فِيهِمْ وَلَمْ تَأْتِنِي. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنِكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقَ الشَّيْخُ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ النَّقْلَةَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ!
قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى الآخِرَة؟ قَالَ: نَعَمْ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَإِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَى الآخِرَة كَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ.(2/91)
وَأَمَّا قُدُومُ الْمُسِيئُ فَكَالْعَبْدِ الآبِقِ يُؤْخَذُ فَيَشُدّ كِتَافُهُ، فَيُؤْتَى بِهِ إِلَى سَيّدٍ فَظٍّ غَلِيظٍ، فَإِنَّ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ عَذَبَ! فَبَكَى سُلَيْمَانٌ بُكَاءً شَدِيدًا، وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ.
ثُمَّ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ فَقَالَ: اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لَكَ عِنْدَ اللهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَيْنَ أُصِيبُ تَلْك الْمَعْرِفَةِ فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: عِنْدَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ فَأَيْنَ رَحِمَهُ اللهُ؟ قَالَ: «إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنَيا غَيْرِهِ! قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَا أَسْمَعُ الدُّعَاء؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: دُعَاءُ الْمُخْبِتِينَ الْخَائِفِينَ.
فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَا أَزْكَى الصَّدَقَةِ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلّ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ؟ قَالَ: اعْفِنَا عَنْ هَذَا وَعَنْ الْكَلامِ فِيهِ أَصْلَحَكَ اللهُ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا. فَقَالَ: مَا أَقُولُ فِي سُلْطَانٍ اسْتَوْلَى عُنْوَةً بِلا مَشُورَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلا إجْتِمَاعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسُفِكَتِ فِيهِ الدِّمَاءُ الْحَرَامُ، وَقُطِعَتْ بِهِ الأَرْحَامُ، وَعُطِّلَتْ بِهِ الْحُدُودَ، وَنُكِّثَتْ بِهِ الْعُهُودَ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَنْفِيذِ الطِّينَة، وَالْجَمْعِ وَمَاذَا يُقَالَ لَكُمْ!
فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَقْوَرُ!! أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُسْتَقْبَلُ بِهَذَا؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُسْكُتْ يَا كَاذِب، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ فِرْعَونَ هَامَانُ. وَهَامَانُ فَرْعَوْنَ!(2/92)
إِنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَيُبِيّنَنُهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ، أَيْ لا يَنْبُذُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ مَا فَسَدَ مِنَّا؟ فَقَالَ: الْمَأْخَذُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ يَسِيرٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَاسْتَوى سُلَيْمَانٌ جَالِِسًا مِنَ إتِّكَائِهِ فَقَالَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَأْخُذَ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ، وَتَكُفُّ الأَكَفَّ عَمَّا نُهِيتَ عَنْهُ وَتُمْضِيهَا فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: مَنْ هَرَبَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنَبَذَ سُوءَ الْعَادَةِ إِلَى خَيْرِ الْعِبَادَةِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: اصْحِبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ، وَتَوَجَّهَ مَعَنَا تُصِبْ مِنَّا وَنُصِبُ مِنْكَ. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أَعُوذُ بِاللهِ من ذَلِكَ!.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: وَلِمَ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَيُذِيقُنِي اللهُ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: فَتَزُورُنَا؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّا عَهِدْنَا الْمُلُوكَ يَأْتُونَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ يَأْتُونَ الْمُلُوكَ، فَصَارَ فِي ذَلِكَ صَلاحُ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ صِرْنَا الآنَ فِي زَمَانٍ الْعُلَمَاءُ يَأْتُونَ الْمُلُوكَ، وَالْمُلُوكُ تَقْعُدُ عَنْ الْعُلَمَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ فَسَادُ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ الْقَوْمَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَّةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ وَارْزُقَنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وَعَامِلنَا بِإِحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلنَا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَأَوْصِنَا يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَوْجِزْ: قَالَ: اتَّقِ اللهَ أَنْ لا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَلا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: ادْعُ لَنَا بِخَيْرٍ. فَقَالَ(2/93)
أَبُو حَازِمٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانٌ وَلِيًّا فَبَشِّرْهُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَة، وَإِنْ كَانَ عَدُوُّكَ فَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: زِدْنِي. قَالَ: قَدْ أَوْجَزْتُ، فَإِنَّ كُنْتَ وَلِيَّهُ فَاغْتَبِطْ، وَإِنْ كُنْتَ عَدِوَّهُ فَاتَّعْظْ، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا مُبَاحَةٌ وَلا يَكْتُبُهَا فِي الآخِرَة إِلا لِمَنِ اتَّقَي فِي الدُّنْيَا؛ فَلا نَفْعٌ فِي قَوْسٍ يَرْمِي بِلا وَتَرٍ.
فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: هَاتِ يَا غُلامٌ أَلْفَ دِينَارٍ. فَأَتَاهُ بِهَا. فَقَالَ: خُذْهَا يَا أَبَا حَازِمٍ. فَقَالَ: لا حَاجَة لِي بِهَا، لأَنِّي وَغَيْرِي فِي هَذَا الْمَالِ سَوَاءٌ، فَإِنْ سَوَيْتَ بَيْنَنَا وَعَدِلْتَ أَخَذْتُ، وَإِلا فَلا. لأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي، وَإِنَّ مُوَسى بن عِمْرَان عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا هَرَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ الْجَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ، فَقَالَ: مَا لَكُمَا مُعِينٌ؟ قَالَتَا: لا، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقَيرٍ " وَلَمْ يَسْأَلْ أَجْرًا.
فَلَمَّا أَعْجَلَ بِالْجَارِيَتَيْنِ الانْصِرَافَ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُوهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا أَعْجَلُكُمَا الْيَوْم؟ قَالَتَا: وَجَدْنَا رَجُلاً صَالِحًا قَوِيًّا سَقَى لَنَا. قَالَ: مَا سَمِعْتُمَاهُ يَقُولُ؟ قَالَتَا: تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٍ» .
فَقَالَ: يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يَكُونَ جَائِعًا. تَنْطَلِقُ إِحْدَاكُمَا لَهُ، فَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فَأَتَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى إسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ: قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.
فَجَزَعَ مُوَسى مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ طَرِيدًا فِي الْفَيَافِي وَالصَّحَارِي، فَقَالَ لَهُا: قُولِي لأَبِيكِ إِنَّ الَّذِي سَقَى يَقُولُ: لا أَقْبَلُ أَجْرًا عَلَى مَعْرُوفٍ إصْطَنَعْتُهُ.
فَانْصَرَفَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: إذْهَبِي فَقُولِي لَهُ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قُبُولِ(2/94)
مَا يَعْرُضُ عَلَيْكَ أَبِي وَبَيْنَ تَرْكِهِ، فَاقْبِلْ يُحِبُّ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَيَسْمَعَ مِنْكَ. فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَبَّتْ الرِّيحُ، فَوَصَفَتْهَا لَهُ وَكَانَتْ ذَاتَ خَلْقٍ كَامِلٍ: فَقَالَ لَهَا كُونِي وَرَائِي وَأَرِينِي سَمْتَ الطَّرِيقِ.
فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ: اسْتَأْذِنِي لَنَا. فَدَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ مَعَ قُوَتِهِ لأَمِينٌ، فَقَالَ شُعَيْبُ: وَبِمَ عَرِفْتِ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحُ عَلَيْهَا. فَقَالَ: ادْخِلِيهِ، فَدَخَلَ فَإِذَا شُعَيْبٌ قَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: أَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا يَا فَتَى. فَقَالَ مُوَسى: أَعُوذُ بِاللهِ. قَالَ شُعَيْبُ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّي مِنْ بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا.
قَالَ شُعَيْبٌ: لا وَاللهِ مَا طَعَامِي كَمَا تَظُنُّ وَلَكِنَّهُ عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي: نُقْرِي الضَّيْفَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ؛ فَجَلَسَ مُوَسَى فَأَكَلَ. وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي فَلَئِنَّ آكُلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذُهَا.
فَأَعْجَبَ سُلَيْمَانٌ بِأَمْرِهِ عَجَبًا شَدِيدًا. فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ النَّاسَ كُلُّهُمُ مِثْلَهُ، قَالَ: لا. قَالَ الزُّهَرِيُّ: إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَة مَا كَلَّمْتُهُ قَط.
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: صَدَقْتَ لأَنَّكَ نَسِيتَ اللهَ فَنَسِيتَنِي وَلَوْ ذَكَرْتَ اللهَ لَذَكَرْتَنِي. قَالَ الزُّهَرِيُّ: أَتَشْتِمُنِي؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانٌ: بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ، أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ عَلَى الْجَارِ حَقًّا؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ كَانَتْ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَكَانَتْ الْعُلَمَاءُ تَفُرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ.
فَلَمَّا رُئِي قَوْم مِنْ أَرَاذِلِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَرَاءَ، اسْتَغْنَتِ(2/95)
الأُمَرَاءُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَاجْتَمَعَ الْقَوْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَسَقَطُوا وَهَلَكُوا.
وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤنَا هَؤلاءِ يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَكَانَتْ الأُمَرَاءُ تَهَابَهُمْ وَتُعَظِّمَهُمْ. فَقَالَ الزُّهَرِيُّ: كَأَنَّكَ إِيَّايَ تُرِيدُ وَبِي تُعَرِّضَ؟ قَالَ: هُوَ مَا تَسْمَعُ.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: الدُّنَيْا حَلالُهَا حِسَاب، وَحَرَامُهَا عَذَابُ، وَإِلَى اللهِ الْمآبُ عَذَابَكَ أَوْ دَعْ.
قالَ: لقد أوجزتَ فَأَخْبَرَنِي مَا مَالُكَ؟ قَالَ: الثِّقَةُ بِعْدِلِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى كَرَمِهِ وَحُسْنُ الظَّنِ بِهِ، وَالصَّبْرُ إِلَى أَجَلِهِ، وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
قَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ: ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ. قَالَ: رَفَعْتُهَا إِلَى مَنْ لا تُخْذَلُ دُونُهُ، فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَبِلْتُ، وَمَا أَمْسَكَ عَنِّي رَضِيتُ. مَعَ أَنَّي قَدْ نَظَرْتُ فَوَجَدْتُ أَمْرَ الدُّنْيَا يَؤُولُ إِلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا لِي وَالآخِرِ لِغَيْرِي؛ فَأَمَّا مَا كَانَ لِي فَلَوْ احْتَلْتُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَحِينِهِ الَّذِي قُدِّرَ لِي.
وَأَمِّا الَّذِي لِغَيْرِي فَذَلِكَ لا أَطْمَعُ فِيهِ، فَكَمَا مَنَعَنِي رَزَقَ غَيْرِي، كَذَلِكَ مَنَعَ غَيْرِي رِزْقِي، فَعَلامَ أَقْتُلُ نَفْسِي فِي الإِقْبَالِ وَالإِدْبَارِ!
قَالَ سُلَيْمَانٌ: لا بُدَّ أَنْ تَرْفَعَ إِلَيْنَا حَاجَةً نَأْمُرُ بِقَضَائِهَا. قَالَ: فَتَقْضِيهَا؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَلا تُعْطِنِي شَيْئًا حَتَّى أَسْأَلُكَهُ، وَلا تُرْسِلْ إِلَيَّ حَتَّى آتِيكَ، وَإِنْ مَرِضْتُ فَلا تَعْدِنِي، وَإِنْ مِتُّ فَلا تَشْهَدُنِي. قَالَ سُلَيْمَانٌ: أَبَيْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ. قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَصْلَحَكَ اللهُ فِي الْقِيَامِ، فَإِنِّي شَيْخٌ قَدْ زَامَنْتُ.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَسْأَلَةٌ مَا تَقُولُ فِيهَا. قَالَ: إِنْ كَانَ عِنْدِي عِلْمٌ أَخْبَرْتُكَ بِهِ، وَإِلا فَهَذَا الَّذِي عَنْ يَسَارِك يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء يُسْأَلُ عَنْهُ إِلا وَعِنْدَهُ عِلْمٌ (يُرِيدُ الزُّهَرِيّ) فَقَالَ لَهُ الزُّهَرِيُّ: عَائِذًا بِاللهِ مِنْ شَرِّكَ أَيًّهَا الْمَرْءُ! قَالَ: أَمَّا مَنْ شَرِّي فقَدْ عَفِيتُ، وَأَمَّا لِسَانِي فَلا.(2/96)
قَالَ سُلَيْمَانٌ: مَا تَقُولُ فِي سَلامِ الأَئِمَّةِ مِنْ صَلاتِهِمْ: أَوَاحِدَةٌ أَمْ اثْنَتَانِ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ لِدَيْنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الاخْتِلافِ. قَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ؛ أَرْسِيكَ فِي هَذَا بخَيْرٍ شَافٍ.
حَدَّثَنِي عَامِرُ بن سَعْدٍ بن أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّمُ فِي الصَّلاةِ عَنْ يَمِينِه حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْسَرِ، سَلامًا يَجْهَرُ بِهِ. قَالَ عَامِرٌ: كَانَ أَبِي يَفْعَلُ ذَلِكَ.
وَأَخْبَرَنِي سَهْلٌ بن سَعَدٍ السَّاعِدِيّ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ وَابْنَ عُمَرَ يُسَلِّمَانِ مِنَ الصَّلاةِ كَذَلِكَ، فَقَالَ الزُّهَرِيُّ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَعْبٌ شَدِيدٌ إِلا بِالتَّثْبِيتِ وَالْيَقِينِ.
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: قَدْ عَلِمْتُهُ وَرَوَيْتُه قَبْلُ أَنْ تَطْلَعَ أَضْرَاسَكَ فِي رَأْسِكَ. فَالْتَفَتَ الزُّهَرِيُّ إِلَى سُلَيْمَانٌ، قَالَ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إن هَذَا الْحَدِيثَ مَا سَمِعْتُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَط، فَضَحِكَ أَبُو حَازِمٍ.
ثُمَّ قَالَ: يَا زُهَرِيُّ أَحَطْتَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلِّهُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَثَلاثَةُ أَرْبَاعِهِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَثُلُثُهُ؟ فَقَالَ: أَرَانِي ذَلِكَ، قَدْ رُويتُ وَبَلَغَنِي.
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَهَذَا مِنَ الثُّلُثِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْكَ وَبَقَى عَلَيْكَ إِسْمَاعِهِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: مَا ظَلَمَكَ مِنْ حَاجَّكَ. ثُمَّ قَامَ مَأْذُونًا لَهُ. فَأَتْبَعَهُ سُلَيْمَانٌ بَصَرَهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَعْجَبُ بِهِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدُّنْيَا مِثْل هَذَا. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدْ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.(2/97)
نَصِيحَةُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ لِهَارُون الرَّشِيدِ
مِنْ عَبْدِ اللهِ هَارُون أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَخِيهِ فِي اللهِ سُفْيَان بن سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ.
أَمَّا بَعْدُ يَا أَخِي، فقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ آخَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ آخَيْتُمْ فِي اللهِ مُؤَاخَاةً لَمْ أَصْرِمْ فِيهَا حَبْلكَ، وَلَمْ أَقْطَعْ مَنْهَا وُدّكَ، وَإِنِّي مُنْطَو لِكَ عَلَى أَفْضَلِ الْمَحَبَّةِ، وَأَتَمِّ الإِرَادَةُ.
وَلَوْلا هَذِهِ الْقلادَةِ الَّتِي قَلَدَنِيهَا اللهُ تَعَالَى لأَتَيْتُكَ وَلَوْ حَبْوَا، لِمَا أَجِدُ لَكَ فِي قَلْبِي مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِي إِلا زَارَنِي وَهَنَّأَنِي بِمَا صِرْتُ إِلَيْهِ.
وقَدْ فَتَحْتُ بُيُوتَ الأَمْوَالِ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مِنَ الْمَوَاهِبِ السَّنِيَّةِ، مَا فَرِحَتْ بِهِ نَفْسِي وَقَرَتْ بِهِِ عَيْنِي وَقَدْ اسْتَبْطَأْتُكَ، وَقَدْ كَتَبْتُ كِتَابًا مِنِّي إِلَيْكَ اعُلِمُكَ بِالشَّوْقِ الشَّدِيدِ إِلَيْكَ.
وقَدْ عَلِمْتَ يَا أَبَا عَبْدَ اللهِ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ الْمُؤْمِنِ وَمُوَاصَلَتِهِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ كِتَابِي هَذَا فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ.
ثُمَّ أَعْطَىَ الْكِتَابَ لِعَبَّادِ الطَّالَقَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِإِيصَالِهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْصِي عَلَيْهِ بِسَمْعِهِ وقَلْبِهُ دَقِيقَ أَمْرَهُ وَجَلِيلِهِ لِيُخْبِرَهُ بِهِ، قَالَ عَبَّادٌ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى الكُّوفَةِ فَوَجَدْتُ سُفْيَانَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلَمَّا رَآنِي عَلَى بُعْدٍ قَامَ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ طَارِقٍ يَطْرَقُ إِلا بخَيْرٍ.
قَالَ: فَنَزَلْتُ عَنْ فَرَسِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ يُصَلِّي وَلَمْ يَكُنْ وَقْتُ صَلاةٍ: فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ فَمَا رَفَعَ أَحَدٌ مِنْ جُلَسَائِهِ رَأْسَهُ إِلَيَّ، قَالَ فَبَقِيتُ وَاقِفًا وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَعْرِضُ عَلَيَّ الْجُلُوسِ، وَقَدْ عَلَتْنِي مِنْ هِيبَتِهِمْ الرَّعْدَة، فَرَمِيتُ بِالْكِتَابِ إِلَيْهِ.(2/98)
فَلَمَّا رَأَى الْكِتَابَ ارْتَعَدَ وَتَبَاعَدَ مِنْهُ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ عُرِضَتْ لَهُ فِي مِحْرَابِهِ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَسَلَّمَ وَأَدْخَلَ يَدّهُ فِي كُمِّهِ وَأَخَذَهُ وقَلَّبَهُ بِيَدِهِ، وَرَمَاهُ إِلَى مَنْ كَانَ خَلْفَهُ، وَقَالَ: لِيَقْرَأَهُ بَعْضُكُمْ فَإِنِّي اسْتَغْفِرُ اللهَ أَنْ أَمَسُّ شَيْئًا مَسَّهُ ظَالِمٌ بِيَدِهِ.
قَالَ عَبَّاد: فَمَدَّ بَعْضُهُمْ يَدَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَرْتَعِدُ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ تَنْهِشُهُ ثُمَّ قَرَأَهُ فَجَعَلَ سُفْيَانُ يَبْتَسِمُ تَبَسُّمَ الْمُتَعَجِّبُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، قَالَ:اقْلِبُوهُ وَاكْتُبُوا لِلظَّالِمِ عَلَى ظَهْرِهِ. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْد اللهِ إِنَّهُ خَلِيفَةٌ فَلَوْ كَتَبْتَ إِلَيْهِ فِي بَيَاضٍ نَقِيّ لَكَانَ أَحْسَنُ.
فَقَالَ: اكْتُبُوا لِلظَّالِمِ فِي ظَهْرِ كِتَابِهِ، فَإِنْ كَانَ اكْتَسَبَهُ مِنْ حَلالٍ فَسَوْفَ يُجْزَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ اكْتَسَبَهُ مِنْ حَرَامٍ فَسَوْفَ يُصْلَى بِهِ وَلا يَبْقَى شَيْءٌ مَسَّهُ ظَالِمٌ بِيَدِهِ عِنْدَنَا، فَيَفْسِدَ عَلَيْنَا دِينَنَا، فَقِيلَ: مَا نَكْتُبُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: اكْتُبُوا لَهُ:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنَ الْعَبْدِ الْمَيْتِ سُفْيَانِ إِلَى الْعَبْدِ الْمَغْرُورِ بِالآمَالِ هَارُونِ الَّذِي سُلِبَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، وَلَذَّةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
أَمَّا بَعْدُ.. فَإِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكَ اعُلِمُكَ أَنَّي قَدْ صَرِمْتُ حَبْلَكَ، وَقَطَعْتُ وَدَّكَ، وَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَنِي شَاهِدًا بِإِقْرَارِكَ عَلَى نَفْسِكَ فِي كِتَابِكَ بِمَا هَجَمْتَ عَلَى بَيْتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْفَقْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَأَنْفَذْتُهُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ، وَلَمْ تَرْضَ بِمَا فَعَلْتَ وَأَنْتَ نَاءٍ عَنِّي حَتَّى كَتَبْتَ إِلَيَّ تُشْهِدنِي عَلَى نَفْسِكَ.
فَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي قَدْ شَهِدْتُ عَلَيْكَ أَنَا وَإِخْوَانُكَ الَّذِينَ حَضَور قِرَاءَة كِتَابِكَ وَسَنُؤَدِّي الشَّهَادَةَ غَدًا بَيْنَ يَدَيِّ اللهِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ. يَا هَارُونُ هَجَمْتَ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ.
هَلْ رَضِيَ بِفِعْلِكَ الْمُؤَلَفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فِي أَرْضِ اللهِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنَ السَّبِيلِ، أَمْ رَضِيَ بذَلِكَ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ(2/99)
الْعِلْمِ يَعْنِي الْعَامِلِينَ، أَمْ رَضِيَ بِفِعْلِكَ الأَيْتَامُ والأرَامِلُ، أَمْ رَضِيَ بِذَلِكَ خَلْقٌ مِنْ رَعِيَّتِكَ.
فَشُدَّ يَا هَارُونُ مِئْزَرَكَ، وَأَعِدّ لِلْمَسْأَلَةِ جَوَابًا وَلِلْبَلاءِ جِلْبَابًا، وَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَقِفُ بِيْنَ يَدَيِّ الْحَكَمِ الْعَدْلِ فَاتَّقِ اللهَ فِِي نَفْسِكَ إِذَ سُلِبْتَ حَلاوَةُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَلَذَّةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمُجَالَسَةِ الأَخْيَارِ، وَرَضِيتُ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ ظَالِمًا وَلِلظَّالِمِينَ إِمَامًا.
يَا هَارُونُ.. قَعِدْتَ عَلَى السَّرِيرِ، وَلَبِسْتَ الْحَرِيرِ، وَأَسْبَلْتَ سُتُورًا دُونَ بَابِكَ، وَتَشَبَّهْتَ بِالْحَجَبَةِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَقْعَدْتَ أَجْنَادَكَ دُونَ بَابِكَ، وَسَتْرك يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَلا يُنْصِفُونَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيُحِدُّونَ الشَّارِبِ، وَيَزْنُونَ وَيُحِدُّونَ الزَّانِيَ، وَيَسْرَقُونَ السَّارِق، وَيَقْتُلُونَ وَيُحِدُّونَ الْقَاتِلِ.
أَفَلا كَانَتْ هَذِهِ الأَحْكَامُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمُوا بِهَا عَلَى النَّاسِ.
فَكَيْفَ بِكَ يَا هَارُونُ غَدًا إِذَا نَادَى الْمُنَادِي مِنْ قِبَلِ اللهِ احْشُرُوا الظَّلَمَةَ وَأَعْوَانَهُمْ، فَتَقَدَّمْتَ بَيْنَ يَدَيِّ اللهِ وَيَدَاكَ مَغْلُولَتَانِ إِلَى عُنُقِكَ لا يَفُكَّهُمَا إِلا عَدْلُكَ وَإِنْصَافُكَ، وَالظَّالِمُونَ حَوْلَكَ وَأَنْتَ لَهُمْ إِمَامٌ أَوْ سَائِقٌ إِلَى النَّارِ.
وَكَأَنِّي بِكَ يَا هَارُونُ وَقَدْ أُخِذْتَ بِضِيقِ الْخِنَاقِ، وَوَرَدْتَ الْمَسَاقَ وَأَنْتَ تَرَى حَسَنَاتِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ، وَسَيِّئَاتِ غَيْرِكَ فِي مِيزَانِكَ عَلَى سَيِّئَاتِكَ، بَلاءٌ عَلَى بَلاءٍ، وَظُلْمَةً فَوْقَ ظُلْمَةٍ.
فَاتَّقِ اللهَ يَا هَارُونُ فِي رَعِيَّتِكَ، وَاحْفَظْ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يَصِرْ إِلَيْكَ إِلا وَهُوَ صَائِرٌ إِلَى غَيْرِكَ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا تَفْعَلُ بِأَهْلِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَزَوَّدَ زَادَ نَفْعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسِرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بَعْدَ هَذَا، فَإِنِّي لا أُجِيبَكَ وَالسَّلام.
وَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ هبيرةً حُكْمُ الْعِرَاقِ جمَعَ فُقَهَاءَهَا وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ(2/100)
إِذَا أَمَرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالأَمْرِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ ظُلْمًا فَالآن لَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ.
وَأَبَى الْحَسَنُ الْبَصَرِيّ رَحِمَهُ اللهُ إِلا أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ وَيَنْقِذَ الشَّعْبَ مِنْ ظُلْمِ ابْن هَبِيرةً وينقذ ابن هبيرة مِنْ عَذَابِ اللهِ إِنْ أَطَاعَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ حَقَّ الرَّعِيَّةِ لازِمٌ لَكَ وَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَحُوطَهُمْ بالنَّصِيحَة وَقَدْ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةٌ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.
اعْلَمْ أَنَّ حَقَّ اللهِ أَلْزَمَ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُطَاعَ وَلا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ يَا ابْنَ هبيرة اتَّقِ اللهَ فَإِنَّهُ يُوشُكُ أَنْ يَأْتِيَكَ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُزِيلُكَ عَنْ سَرِيرِكَ وَيُخْرِجُكَ مِنْ سِعَةِ قَصْرِكَ إِلَى ضِيقِ قَبْرِكَ فَتَدَعُ سُلْطَانِكَ وَدُنْيَاكَ خَلْفَ ظَهْرِكَ وَتَقْدُمُ عَلَى رَبِّكَ وَتَنْزِلَ عَلَى عَمَلِكَ.
يَا ابْن هَبِيرةَ إِنَّ اللهَ لَيَمْنَعُكَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلا يَمْنَعُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اللهِ وَإِنَّ أَمْرَ اللهِ فَوْقَ كُلِّ أَمْرٍ وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ بَأْسَهُ الَّذِي لا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
فَقَالَ لَهُ ابن هبيرة: إرْبع عَلَى ظلعك أَيُّهَا الشَّيْخُ، وأعرض عَنْ ذكر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَصَاحِبُ الْحُكْمِ وصَاحِبُ الْفَضْلِ وَإِنَّمَا وَلاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ لِعِلْمِهِ بِهِ وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ فَضْلِهِ وَنِيَّتِهِ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: يَا ابن هبيرة الْحِسَابُ وَرَائِكَ سَوْطٌ بِسَوْطٍ وَغَضَبٌ بِغَضَبٍ وَاللهُ بِالْمِرْصَادِ إِنَّكَ إِنْ تَلْقَى مَنْ يَنْصَحُ لَكَ فِي دِينِكِ وَيَحْمِلُكَ عَلَى أَمْرِ آخِرَتِكَ خَيْر مِنْ أَنْ إن تَلْقَى رَجُلاً يَغُرُكَ وَيُمَنِّيكَ. فَقَامَ ابْن هبيرة مِنَ الْمَجْلِسِ وَقَدْ اصْفَرَّ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَعَلَيْهِ الْكَآبَة وَقَامَ الْحَسَنُ وَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَأَرْضَى رَبَّهُ وَأَخَلَصَ لَهُ وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ وَهَكَذَا الْعُلَمَاءُ يَنْبِغِي أَنْ يَكُونُوا.
شِعْرًا: ... لا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنْ ذُلٍ يُجَرِّعُهُ ... أَهْلُ الْخَسِيسَةِ أَهْلَ الدِّينِ وَالْحَسَبِ(2/101)
الْقَائِمِيَنَ بِمَا جَاءَ الرَّسُولُ بِهِ ... وَالْمُبْغِضِينَ لأَهْلِ الزَّيْغِ وَالرِّيَبِ
آخر: ... وَلا يَلْبَثُ الْجُهَّالُ أَنْ يَتَهَضَّمُوا ... أَخا الْحِلْمِ مَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِسَفِيهِ
آخر: ... مَا إِنْ نَفَى عَنْكَ قَوْمًا أَنْتَ تَكْرَهُهُمْ ... كَمِثْلِ قَمْعُكَ جُهَّالاً بِجُهْالٍ
آخر: ... وَالْعَاقِلُ النَّحْرِيرُ مُحْتَاجٌ إِلَى ... أَنْ يَسْتَعِينَ بِجَاهِلٍ مَعْتُوه
آخر: ... وَمَنْ يَحْلُمْ ولَيْسَ لَهُ سَفِيهٌ ... يٌلاقِي الْمُعْضِلاتِ مِنَ الرِّجَالِ
آخر: ... تَعْدُوا الذِّئَابُ عَلَى مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وَتَتَّقِي مَرْبَضَ الْمُسْتَنْفِر الحامي
حَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ فَدَعَا ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللهِ أَلَسْتُ أَعْمِلُ بِالْحَقِّ أَلَسْتُ تَرَانِي أَعْدِلُ.
فقال ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: أما إذا نشدتني بالله فأقول: اللهم لا أراك تعدل وإنك لجائر وإنك لتستعمل الظلمة وتدع أهل الخير.
قال محمد بن عمر فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ بن إِبْرَاهِيم بن يَحْيَى وَأُخْبِرْتُ عَنْ عيسى بن عّلِيٍّ قَالُوا: فَظَنَنَّا أَنَّ أَبَا جَعْفَر سَيُعَاجِلَهُ بِالْعُقُوبَةِ فَجَعَلْنَا نَلِفُّ إِلَيْنَا ثِيَابَنَا مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنَا مِنْ دَمِّهِ.
فَجَزَعَ أَبُو جَعْفَرٍ وَاغْتَمَّ وَقَالَ لَهُ: قُمْ فأَخْرَجَ.
تَأَمَّلَ يَا أَخِي هَلْ يُوَجَدُ هَذَا الطّرَازَ مِمَّنْ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، أَظُنُّهُ مَعْدُوم فِي هَذَا الوَقْت مَا فيه الْيَوْم مَنْ يَصْدَعُ بِالْحَقِّ فَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
دَخَلَ عَمْرُو بن عُبَيْدٍ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بَأَسْرِهَا فَاشْتَرِ مِنْهُ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا وَإِنِّي لأُحَذِّرَكَ لَيْلَةً تَتَمَحْضُ صِبِيحَتُهَا عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ عَنْ حَاشِيَتِهِ: إِنَّ هَؤُلاءِ اتَّخَذُوكَ سُلَّمًا لِشَهَوَاتِهِمْ.
فأَنْتَ الآخِذُ بِالْقَرْنَيْنِ وَهُمْ يَحْلِبُونَ.(2/102)
فَاتَّقِ اللهَ فَإِنَّكَ مَيْتٌ وَحْدُكَ وَمُحَاسَبٌ وَحْدُكَ وَمَبْعُوثٌ وَحْدُكَ وَلَنْ يُغْنُوا عَنْكَ هَؤُلاءِ مِنْ رَبِّكَ شَيْئًا.
فَقَالَ لَهُ: أَعِنِّي بِأَصْحَابِكَ فَأَسْتَعِينُ بِهُمْ دُونَ هَؤُلاءِ فَرَدَّ عَلَيْهِ: أَظْهِرِ الْحَقَّ يَتْبَعُكَ أَهْلُهُ.
فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ قَالَ: نَعَمٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَن لا تَبْعَثَ إِلَيَّ حَتَّى آتِيكَ. قَالَ: إِذَا لا نَلْتَقِي. قَالَ: عَنْ حَاجَتِي سَأَلْتَ ثُمَّ ذَهَبَ.
قَالَ الْحَجَّاجُ لِيَحْيَى بن يَعْمُرٍ: مَا تَقُولُ فِي وَاسِطٍ (مَدِينَةٌ بَنَاهَا الْحَجَّاجُ) فَقَالَ لَهُ: مَا أَقُولُ فِيهَا وَقَدْ بَنَيْتَهَا مِنْ غَيْرِ مَالِكَ وَسَيَسْكُنُهَا غَيْرُ أَهْلِكَ.
فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ فِي غَيْظٍ وَغَضَبٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا قُلْتَ. قَالَ: مَا أَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنَ الْعَهْدِ أَلا يَكْتُمُوا النَّاسَ حَدِيثًا.
فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَخْشَ سَيْفَ الْحَجَّاجِ؟
فَقَالَ: لَقَدْ مَلأَتْنِي خَشْيَة اللهِ جَلَّ وَعَلا فَلَمْ تَدَعْ مَكَانًا لِخَشْيَةِ سِوَاهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ الصَّبْرُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: وَيْحُكَ يَا حَجَّاجٌ مَا أَصْفَقَ وَجْهكَ وَأَقَلَ حَيَاءكَ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ وَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلامِ خبأتَ وَضَلَّ سَعْيُكَ.
فَقَالَ لِلْحَرَس: خُذُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خِطْبَتِهِ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ أَنْتَ تَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ وَلا أَجْتَرِئُ عَلَيْكَ وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى لا أَجْتَرِئُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ تَجْتَرِئُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ. فَأُطْلِقَ.
وَدَخَلَ الْعِزُّ بن عَبْد السَّلام عَلَى السُّلْطَانِ فَوَعَظَهُ وَشَدَّدَ فِي الْمَوْعِظَةِ فَعَاتَبَهُ(2/103)
وَلَدُهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: هَذَا إجْتِمَاعٌ للهِ فَلا أُكَدِّرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. يا بَنِي لَقَدْ رَأَيْتُ السُّلْطَانَ فِي تِلْكَ الْعَظَمَةِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُهِينَهُ لِئَلا تَكْبُر نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَتُؤْذِيهِ.
وَلَقَدْ اسْتَحْضَرْتَ هَيْبَةَ اللهِ تَعَالَى إِذْ أُخَاطِبُهُ، فَصَارَ السُّلْطَانُ أَقَلَّ مِنَ الْقِطِّ عِنْدِي.
وَلَوْ كَانَتْ بِنَفْسَي لَدَيْهِ حَاجَة مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُهُ الدُّنْيَا كُلَّهَا.
وَأُجْبِرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَلِكِ مِصْرَ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَلْبِسَ مَلابِسَ خَاصَّةً فَأَبَى وَقَالَ: كَيْفَ أَتَجَمَّلُ لَهُ بِلِبَاسٍ لا أَتَجَمَّلُ بِهِ لِرَبِّي فِي الصَّلاةِ.
وَدَخَلَ عباد الخواص عَلَى إِبْرَاهِيم بن صَالِح وَهُوَ أَمِير فَلَسْطِين فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ عِظْنِي. فَقَالَ: بِمَ أَعِظُكَ أَصْلَحَكَ اللهُ بَلَغَنِي أَنَّ أَعْمَالَ الأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبَهُمْ مِنَ الْمَوْتَى فَانْظُرْ مَا يُعْرَضُ عَلَى رَسِولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَمَلِكَ فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعَهُ عَلَى لَحْيَتَهُ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِجْلالِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ فَقَامَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيّ، قَالَ: فَقَالَ بَعْدَ مُدَّة يَا أَبَا عَبْد اللهِ تَوَاضعنا لِعِلْمِكَ فَانْتَفَعْنَا بِهِ، وَتَوَاضَعْ لَنَا عِلْم سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَهْدِيّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ حَاجًّا جَاءَهُ مَالِك فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ الْمَهْدِي ابْنَيْهِ الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ أَنْ يَسْمَعَا مَنْهُ فَطَلَبَاهُ إِلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ، فَعَاتَبَهُ الْمَهْدِي فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْعِلْمِ نَضَارَةٌ، يُؤتَى أَهْلُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: الْعِلْمُ أَهْلٌ أَنْ يُوَقَرَ وَيُوَقَرَ أَهْلُهُ فَأَمَرَهُمَا وَالِدْهُمَا بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ مُؤَدِّبُهُمَا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ يَقْرَءُونَ عَلَى الْعَالِمِ كَمَا يَقْرَأُ الصِّبْيَانِ عَلَى الْمُعَلِّمِ فَإِذَا أَخْطُوا أَفْتَاهُم فَرَجَعُوا إِلَى الْخَلِيفَة فَعَاتَبَهُ(2/104)
الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ سَمِعْنَا هَذَا الْعِلْم مِنِ رِجَالٍ فِي الرَّوْضَة سَعِيد بن الْمُسَيّب وَأَبُو سَلَمَة وَعُرْوَة وَالْقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالِم بن عَبْد اللهِ وَعَدَّ آخَرِينَ كُلّ هَؤُلاءِ يُقْرَأُ عَلَيْهمْ وَلا يَقْرَؤُون. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ فِي هَؤُلاءِ قُدْوَةٌ صِيرُوا إِلَيْهِ فَاقْرَؤا عَلَيْهِ.
أَرَادَ الْوَلِيدُ أَنْ يُوَلِّي يزيد بن مِرثد الِقَضَاءِ فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيد فَلَبِسَ فروة وَقَلَبَهَا فَجَعَلَ الْجِلْدَ عَلَى ظَهْرِهِ وَالصُّوفَ خَارِجًا وَأَخَذَ بِيَدِهِ رَغِيفًا (أي خبزة) وَعِِرْقًا (آي عَظْم عَلَيْهِ لَحْم) وخَرَجَ بِلا رِدَاء وَلا قُلَنْسوة (أي أَصْلَع الرَّأْس) وَلا نَعْل وَلا خُفَّ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَيَأْكُلُ.
فَقِيلَ لِلْوَلِيد: إِنَّ يَزِيدَ قَدْ اخْتَلَطَ (أي خرف) وَأُخْبِر بِمَا فَعَلَ فَتَرَكَهُ الْوَلِيدُ.
قُلْتُ: وَفِعْلُ يَزِيد يَدُلُّ عَلَى وَرَعِهِ وَخَوْفِهِ مِنْ تَبِعَةِ الِقَضَاءِ لأَنَّ الِقَضَاءَ فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ وَلهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لا يُحْسِنَهُ وَلَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ شُرُوطُه الدُّخُول فِيهِ.
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «الِقَضَاة ثَلاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانٌ فِي النَّارِ» .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَلِيّ الِقَضَاءُ فقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْم الْقِيَامَةِ سَاعَة يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَط» .
وَفِي لَفْظٍ: يُدْعَى الْقَاضِي الْعَدْل يَوْم الْقِيَامَةِ فَيلقى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عمره قَط.
تَرَكَ خَلَفٌ الْبَزَار الرِّوَايَةَ عَنْ الْكِسَائِي فَلَمْ يَرْوِي عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُسْتَاذُهُ وَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فِي تَصْنِيفِهِ كِتَاب الْقِرَاءَات وَلَمَّا أَنْ ضَايَقُوهُ لَمْ يَرْو عَنْهُ.
قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ، قَالَ لِي سَيِّدِي الرَّشِيدُ فَقُلْتُ: إِنَّ إِنْسَانًا مِقْدَارُ الدُّنْيَا عِنْدَهُ أَنْ يُجِلَّ أَهْلَهَا هَذَا الإِجْلال لَحَرِيٌّ أَنْ لا يُؤْخَذُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ.(2/105)
قُلْتُ: للهِ درة حَيْثُ لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ لِمَنْ يُعَظِّمُ الدُّنْيَا.
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللهُ إِلَى شِدَّةِ وَرَعِهِمْ وَتَرَفُّعِهِمْ وَتَنَزّهمْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا، وَصِيانَةِ الْعِلْمِ وَإِعْزَازِهِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الأَخْلاق الْعَطِرَة وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ عَظُمَ الإِسْلام وَأَهْله.
دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الْمَأْمُونِ كَانَ يِمْشِي فِي النَّاسِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَدْعَاهُ الْمَأْمُونُ وَقَالَ لَهُ: لِمَ تَأْمُرُ وَتُنْهَى وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ إِلَيْنَا وَنَحْنُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} .
فَقَالَ الرَّجُلُ: صَدَقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ كَمَا وَصَفْتَ نَفْسَكَ مِنَ السُّلْطَانِ وَالتَّمَكُّنِ غَيْرَ أَنَّا أَوْلِيَاؤُكَ وَأَعْوَانُكَ فِيهِ.
وَلا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلا مَنْ جَهِلَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ، وَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" المُؤْمِن للمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . فَأَعْجَبَ الْمَأْمُونُ بِكَلامِهِ وَسُرَّ بِهِ وَقَالَ: مِثْلُكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ فَإمْضِ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ بِأَمْرِنَا وَعَنْ رَأْيِنَا. وَهَكَذَا حِين أَحْسَنَ الرَّجُلَ الاحْتِجَاج بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ انْقَطَعَتْ حُجَّة الْمَأْمُونِ، وَلَمْ يَجِدُ بُدًّا مِنْ إِقْرَارِ الرَّجُلَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَعَكْسُ هَذَا الرَّجُل دَخَلَ وَاعِظٌ عَلَى الْمَأْمُون فوعظه واغلظ عليه في القول فقال له المأمون: يَا رَجُل ارْفِقْ فَإِنَّ اللهَ بَعَثَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي، وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ.
بَعَثَ مُوَسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَون، فَأَوْصَاهُمَا بِقَوْلِهِ " {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً(2/106)
لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، وَهُنَا كَانَ مَوْقِفُ الْمَأْمُونِ هُوَ الأَقْوَى لأَنَّ الدَلِيلَ مَعَهُ.
بَعَثَ الأَمِيرُ طَاهِر بن عَبْد اللهِ إِلَى مُحَمَّد بن رافع بِخَمْسَةِ آلافِ دِرْهَمْ عَلَى يَدِ رَسُولِهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْد صَلاة الْعَصْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَعَ الْفِجْلِ، فَوَضَعَ كَيْس الدَّرَاهِم بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَقَالَ: بَعَثَ الأَمِيرُ طَاهِر بِهَذَا الْمَالِ إِلَيْكَ لِتُنْفِقَهُ عَلَى أَهْلِكَ. فَقَالَ: خُذْهُ خُذْهُ لا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنَّ الشَّمْسَ قَدْ بَلَغَتْ رُؤُوس الْحِيطَان وَإِنَّمَا تَغْرُبُ بِعْدَ سَاعَةٍ وَأَنَا قَدْ جَاوَزْتُ الثَّمَانِينَ سَنَة إِلَى مَتَى أَعِيشُ.
فَرَدَّ الْمَالَ وَلَمْ يَقْبَلْ فَأَخَذَ الرَّسُولُ الْمَالَ وَذَهَبَ وَدَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ ابْنَهُ وَقَالَ: يَا أَبَتِ لَيْسَ لَنَا اللَّيْلَة خُبْزٌ. قَالَ: فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ خَلْفَ الرَّسُولَ لَيَرُدَّ الْمَالَ إِلَى صَاحِبِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْهَبَ ابْنَهُ خَلْفَ الرَّسُولِ فَيَأْخُذَ الْمَالَ، هَذَا مِنْ رَقَمِ وَاحِد فِي الزُّهْدِ.
وَقَالَ أَحَدُ الزُّهَادُ لِلْمَنْصُورِ: اذْكُرْ لَيْلَةً تَبِيتُ فِي الْقَبْرِ لَمْ تَبِتْ لَيْلَةً مَثْلَهَا، وَاذْكُرْ لَيْلَةً تَمخض عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا لَيْلَةَ بَعْدَهَا.
فَأَفْحَمَ الْمَنْصُور قَوْلُهُ فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ: لَوْ احْتَجْتُ إِلَى مَالِكَ مَا وَعَظْتُكَ. (للهِ دَرُّهُ مَا أَزْهَدُهُ بِالْحُطَامِ الْفَانِي) .
وَقَالَ لابْنِهِ لَمَّا وَلاهُ الْعَهْدَ: إسْتَدِمْ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالْقُدْرَةَ بِالْعَفْوِ، وَالنَّصْرَ بِالتَّوَاضُعِ، وَالتَّآلِفَ بِالطَّاعَةِ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا، وَنَصِيبَكَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَقَالَ لِلرَّبِيعِ: وَيْحَكَ لَقَدْ رَأَيْتُ مَنَامًا هَالَنِي رَأَيْتُ قَائِلاً وَقَفَ فِي بَابِ هَذَا الْقَصْرِ يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرُ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ ... وَأَوْحَشَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ رَئِيسُ الْقَصْرِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ ... إِلَى جَدَثٍ يُبْنَى عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ(2/107)
وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِي الشَّرِيفِ فِي الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِي فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا قَامَ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لَمْ يَقُمْ.
قَالَ الْمُسَيب بن زهير: قُمْ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرّبِّ الْعَالَمِينَ.
فَقَالَ الْمَهْدِي: دَعْهُ فلَقَدْ قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِي.
فَهَكَذَا الْعُلَمَاءُ الْمُخْلَصُونَ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهُمْ الإِسْلامَ وَيَرْفَعُ اللهُ بِهُمْ الْمُسْلِمِينَ.
تَأَمَّلْ يَا أَخِي هَلْ يُوَجَدُ فِي زَمَنِنَا مِثْلَ هَؤُلاءِ مَا أَظُنُّ يُوَجَدُ وَلا رَقَم ثَلاثَة لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ.
فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ الْعِلْمِ كَابٍ فَإِنَّمَا ... كَبَى حَيْثُ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوُه صَانَهُمُ ... وَلَوْ عَظَّمُوُه فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوُه فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مَحْيَاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَمَا
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
عَنْ جَعْفَر بن يَحْيَى بن خَالِد الْبَرْمَكِيّ قَالَ: مَا رَأَيْنَا فِي الْقُرَاءِ أَحَدًا مِثْلَ عِيْسَى بن يُونس أَرْسَلْنَا إِلَيْه فَأَتَانَا بِالرِّقَةِ فَاعْتل قَبْل أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرو وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِعَشرة آلاف فَقَالَ: هِيَ فَقُلْتُ خمسون ألفًا، قَالَ: لا حَاجَة لي فيها، فَقُلْتُ: لِمَ وَاللهِ لأهنئنكها هِيَ وَاللهِ مائة ألف.
قَالَ: لا وَاللهِ لا يُتَحَدثُ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّي أَكَلْتُ لِلسُّنَّةِ ثَمَنًا، أَلا كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تُرْسِلُوا إِلَيَّ، فَأَمَّا عَلَى الْحَدِيثِ فَلا وَاللهِ وَلا شَرابة مَاء وَلا هليلجة.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمُرْوَزِيّ سَمِعْتُ أحمد بن حَنْبَل وَذَكَرَ وَرَعَ عَيْسَى بن يُونُس، قَالَ: قَدِمَ فَأُمِرَ لَهُ بِمَائَةِ أَلْفٍ أَوَ قَالَ بِمَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَتَدْرِي ابْن كَمْ كَانَ عِيسَى أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ حَدَثَ السِّنّ.(2/108)
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدِرِ حَجَّ الرَّشِيدُ فَدَخَلَ الْكُوفَةَ فَرَكِبَ الأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ إِلَى عِيْسَى ابن يُونُس فَحَدَثَهُمَا فَأَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ.
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا، فَأَمَرَ لَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا، فَقَالَ عِيسَى: لا وَاللهِ ولا إهليلجه ولا شربة ماء عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوْ مَلأَتَ لِيَ هَذَا الْمَسْجِد ذَهَبًا إِلَى السَّقْفِ. للهِ دُرَّهُ هذا مِنْ رَقَمِ (1) فِي الزُّهْدِ.
طَلَبَ الْخَلِيفَةُ هُشَام بن عَبْد الملك ذَاتَ يَوْمٍ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا هُشَام ثُمَّ خَلَعَ نعَلَيْهِ وَجَلَسَ بِجَانِبِهِ.
فَغَضِبَ هُشَام وَهَمَّ بِقَتْلِهِ وَلَمَّا تَحَدَّقَ مَعَهُ وَجَدَهُ عَالِمًا كَبِيرًا.
فَلَمَّا انْتَهى الْحَدِيث عَاتَبَهُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ سَمَّيْتَنِي بِاسْمِي وَلَمْ تُكَلِّمْنِي أَوْ تَدعُنِي بِالْخِلافَةِ وَخَلْعَتَ نعَلَيْكَ وَجَلَسْتَ بِجَانِبِي فَلَمْ فَعَلْتَ ذَلِكَ. قال له: لم أدعك بالخلافة لأن الناس لم ينتخبوك كلهم، وَسَميتك ولم أكنك، لأن الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ نَادَى الأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ، فَقَالَ: يَا عِيْسَى، يَا إِبْرَاهِيم، يا موسى، يَا نُوح، يَا دَاوُودُ. وَكَنَّى عَدُوَّهُ فَقَالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
وَخَلَعْتُ نَعْلِي بِجَانِبِكَ وَأَنَا اخْلَعْهُمَا لَمَّا أَدْخُلُ بِيْتَ رَبِّي. وَجَلَسْتُ بِجَانِبِكَ لأَنِّي سَمِعْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يمثل لَهُ الرِّجَال قِيَامًا فَلْيَتَبَوَءُ مَقْعِدَهُ مِنَ النَّارِ» . فَكَرِهْتُ لَكَ النَّارَ فَأَمَرَ لَهُ هُشَام بِمَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَانْصَرَفَ.
تَأَمَّلْ يَا أَخِي هَذَا الْوَرَعُ عَنْ أَخْذِ شَيْء مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا عَلَى مَا حَدَّثَهما بِهِ وَقَالَ: لا يُتَحَدَّثُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّي أَكَلْتُ لِلسُّنَّةِ ثَمَنًا.
فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَأْكُلُ بِالْكُتُبِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ بِاسْمِ تَحْقِيقٍ أَوْ نَشْرٍ وَيَحْتَكِرُهَا نَسْأَلَ اللهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة. نَعُوذُ بِاللهِ(2/109)
مِنْ عَمَى الْبَصِيرَةِ، قَالَ الله تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَأَكْثِرْ يَا أَخِي مِنْ قَوْلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَنَا مِمَّا ابْتَلاهُمْ، اللهُ يُعَافِيهِمْ وَلا يُبلانَا.
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي عَمْرو الزَّاهِد صَاحِب أَبِي العَبَّاس أَنَّ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَبْلَغ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيَجْرِِيَ عَلَيْهِ كِفَايَتَهُ فَقَالَ لِلرَّسُولِ الَّذِي أرسله أحد الوزراء قل لصاحبك أنا في جراية الذي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا عَلَيْهِ رِزْقُهَا وَإِذَا غَضِبَ عَلَيَّ لَمْ يَقْطَع عَنِّي مَا يَجْرِيهُ عَلَيَّ " للهِ دُرَّهُ هَذَا مِنْ رَقَم (1) فِي الْعَفَافِ وَالزُّهْدِ» .
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَارَنَا وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ آمَالَنَا وَسَهِّلْ لِبُلُوغِ رِضَاكَ سُبُلَنَا وَحَسِّنْ فِي جِمِيعِ الأَحْوَالِ أَعْمَالَنَا، يَا مُنْقِذَ الْغَرْقَى وَيَا مُنْجِيَ الْهَلْكَى وَيَا دَائِمَ الإِحْسَانِ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَأَنِلْنَا مِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ مَا تَقِرُّ بِهِ عُيُونُنَا مِنْ رُؤْيَتِكَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... قُلْ الْحُمَاةُ وَمَا فِي الْحِيِّ أَنْصَارُ ... وَدَبَّرَ الأَمْرَ أَحْدَاثٌ وَأَعْمَارُ
وَأَصْبَحَتْ دَارُنَا تَبْكِي لِفُرْقَتِهَا ... كُلَّ الْكِرَامِ الَّذِي بِالْجِدِّ قَدْ سَارُوا
سَارُوا جَمِيعًا فَصَارُوا لِلْوَرَى سَمَرًا ... يَتْلُوا لِذِكْرَاهُمُ فِي الْحَي سَمَّارُ
لَهْفِي عَلَيْهِمْ لَوْ أَنَّ الَّلْهفَ يَنْفَعُنِي ... جَدَّدْتُ لَهْفِي وَدَمْعَ الْعَيْنِ مِدْرَارُ
مَا فِي الزَّمَانِ فَتَىً نَرْجُوهُ فِي حَدَثٍ ... وَلا رِجَالاً لَهُمْ فِي الْمَجْدِ إِخْطَارُ
وَلا مُعِينًا عَلَى بَلْوَى يُدَافِعُهَا ... إِذَا الْغَرِيبُ جَفَاهُ الصَّحْبُ وَالْجَارُ
سِوَى لِئَامٍ لَهُمْ بِالْغِشِّ سَرْبَلَةٌ ... وَفِي الْقُلُوبِ لَهُمْ بِالضِّعْنِ إِعْصَارُ
وَالْحِقْدُ وَالْغِلُّ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمُ ... لا يُفْلِحُوا أَبَدًا وَالْخَيْرُ يَنْهَارُ
وَيَحْسُدُونَ عَلَى النَّعْمَاءِ صَاحِبَهَا ... وَيَشْمَتُونَ إِذَا مَا حَلَّ إِعْسَارُ
وَالَّلمْزُ فِيهِمْ وَكُلَّ الْقُبْحِ قَدْ جَمَعُوا ... وَفِي الْقُلُوبِ مِنَ الأَحْقَادِ أَوْغَارُ
لا خَيْرَ فِيهِمْ وَلا نُصْحًا نُؤَمِّلُهُ ... قَدْ فَارَقُوا الرُّشْدَ إِنْ حَلُّو وَإِنْ سَارُوا
وَإِنْ بَدَا لَكَ أَمْرٌ بِالْمُنَى خَلِعٌ ... أَوْلَوْكَ غَدْرًا وَفِي أَفْعَالِهِمْ جَارُوا(2/110)
.. لا تَقْرَبَنَّ لَهُمْ لا زِلت مُدَّرِعًا ... ثَوْبَ الْعَفَافِلَ وَحُطَّتْ عَنْكَ آصَارُ
وَأَطْلُبْ جَلِيسًا كَرِيمَ النَّفْسِ مُلْتَمِسًا ... حُسْنَ الطِّبَاعِ وَلا تَعْرُوهُ أَغْيَارُ
إِنْ غِبْتَ حَاذَ وَلا تُلْقِيهِ مُنْتَقِصًا ... لِلْعِرْضِ مِنْكَ وَلِلزَّلاتِ غَفَّارُ
هَذَا هُوَ الْخِلُّ فَالْزَمْ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ ... وَمِثْلُ هَذَا لأَهْلِ اللُّبِّ مُخْتَارُ
وَقَلَّ مِثْلا وَمَا ظَنِّي تُحَصِّلُهُ ... قَدْ قَلَّ فِي النَّاسِ هَذَا الْيَوْمَ أَحْرَارُ
فَأْنَسْ بِرَبِّكَ قََعْرَ الْبَيْتِ مُلْتَزِمًا ... إلى الْمَمَاتِ فَهَذَا الْيَوْمَ إِبْرَارُ
وَلِلصَّلاةِ فَلا تُهْمِلْ جَمَاعَتَهَا ... مَعَ جُمْعَةِ فَرْضُهَا مَا فِيهِ إِنْكَارُ
وَالصِّدْقَ وَالْبِرَّ لا تَعْدُوهُمَا أَبَدًا ... مَنْ نَالَ ذَا فَلَهُ فِي الْحَمْدِ أَذْكَارُ
وَأَلْزَمْ عَفَافًا وَلا تَتْبَعْ طَرِيقَ هَوَىً ... إِنَّ الْهَوَى لِلْوَرَى يَا صَاحِ غَرَّارُ
وَأَذْكُرْ إِلَهًا فِي خَلْقِهِ مِنَنٌ ... تَجْرِي عَلَى النَّاسِ مِنْ جَدْوَاهُ أَنْهَارُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ عَنْ لَغْوٍ وَعَنْ رَفَثٍ ... مَا نَالَ فَضْلاً مَدَى الأَيَّامِ مِهْذَارُ
وَأَرْحَمْ يَتِيمًا غَدَا بِالْيُتْمِ مُتَّصِفًا ... وَامْنَحْهُ لُطْفًا تُنَحَّى عَنْكَ أَوْزَارُ
وَصِلْ قَرِيبًا وَلا تَقْطَعُ لَهُ رَحِمًا ... إِنَّ الْقَرِيبَ لَهُ بِالْحَقِّ إِيثَارُ
وَبِرَّ جَارًا وَلا تَهْتِكْ مَحَارِمَهُ ... قَدْ جَاءَ فِيهِ مِنَ الآثَارِ إِخْبَارُ
وَكُنْ حَلِيمًا وَلا تَغْضَبْ عَلَى أَحَدٍ ... فَالْحلُم فِيهِ لأَهْلِ الْحِلْمِ إِسْرَارُ
وَتَمَّ نَظْمِي وَصَلَّى خَالِقِي أَبَدًا ... عَلَى الْمُشَفَّعِ مَنْ بِالرُّشْدِ أَمَّارُ
وَآلِهِ الْغُرِّ مَعْ صَحْبٍ أَوْلَى كَرَمٍ ... مَا هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ مَا سَارَ سَيَّارُ
اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/111)
" فَصْلٌ "
وَعَنْ أَبِي قُدَامَةَ السَّرْخَسِيّ قَالَ: قَامَ الْعمريُّ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ: فَعَلْتَ وَفَعْلْتَ. فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تَعْمَلُ بِكَذَا وَتَعْمَلُ بِكَذَا. فَقَالَ لَهُ هَارِون: نَعْم يَا عَم نَعَم يَا عم.
وَعَنْ سَعِيد بن سُلَيْمَان قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّة فِي زُقَاقِ الشّطوي وَإِلَى جَنْبِي عَبْد اللهِ بن عَبْد الْعَزِيز الْعُمَرِيِّ وَقَدْ حَجَّ هَارُون الرَّشِيد.
فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَنِ هُوَ ذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى قَدْ أُخْلِيَ لَهُ الْمَسْعَى. قَالَ الْعُمَرِيُّ لِلرَّجُلِ: لا جَزَاكَ اللهُ عَنِّي خَيْرًا، كَلَفْتَنِي أَمْرًا كُنْتُ عَنْهُ غَنِيًا. ثُمَّ تَعَلَّقَ نعَلَيْهِ (أَي لَبِسَهُمَا) .
وَقَامَ فَتَبِعته وَأَقْبَلَ هَارُونُ الرَّشِيد مِنَ الْمَرْوَةِ يُرِيدُ الصَّفَا فَصَاحَ بِهِ: يَا هَارُونُ! فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا عَمّ. قَالَ: ارْقِ الصَّفَا. فَلَمَّا رَقِيَهُ.
قَالَ: ارْمِ بِطَرْفِكِ إِلَى الْبَيْتِ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحْصِيهُمْ؟ قَالَ: فَكَمْ فِي النَّاسِ مِثْلِهِمْ؟ قَالَ: خَلْقٌ لا يُحْصِيهُمْ إِلا اللهُ.
قَالَ: اعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسْأَلُ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسهُ وَأَنْتَ وَحْدُكَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلّهمْ فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ؟ قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ وَجَلَسَ وَجَعَلُوا يُعْطُونَهُ مِنْدِيلاً مِنْدِيلاً لِلدُّمُوعِ.
قَالَ الْعُمَرِيًّ: وَأُخْرَى أَقُولُهَا. قَالَ: قُلْ يَا عَمّ. قَالَ: وَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسْرِفَ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسْرِفُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ؟ ثُمَّ مَضَى وَهَارُونُ يَبْكِي.
قَالَ مُحَمَّد بن خَلَف: سَمِعْتُ مُحَمَّد بن عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيد قَالَ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَحِجُّ كُلَّ سَنَةٍ مَا يَمنعنني إِلا رَجُل مِنْ وَلَدِ عُمَر ثُمَّ يُسْمِعُنِي مَا أَكْرَهُ.(2/112)
وَقَدْ رَوِيَ لَنَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرٌ أَنَّهُ لَقِيَهُ فِي الْمَسْعَى فَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتُهُ فَأَهْوَتْ إِلَيْهِ الأَجْنَادُ فَكَفَّهُمْ عَنْهُ الرَّشِيدُ فَكَلَّمَهُ فَإِذَا دُمُوع الرَّشِيد تَسِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ دَابَّتِهِ.
ثُمَّ انْصَرَفَ. وَأَنَّهُ لَقِيَهُ مَرَّةً فَقَالَ: يَا هَارُونُ فَعَلْتَ وَفَعَلْتَ. فَجَعَلَ يَسْمَعُ مِنْهُ ويَقُولُ: مَقْبُولٌ مِنْكَ يَا عَمّ، عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ حَالِ النَّاسِ كِيتَ وَكِيتَ. فَقَالَ: عَنْ غَيْرِ عِلْمِي وَأَمْرِي. وَخَرَجَ الْعُمَرِيُّ إِلَى الرَّشِيدِ مَرَّةٌ لِيَعِظَهُ فَلَمَّا نَزَلَ الْكُوفَةَ زَحَفَ الْعَسْكَرُ حَتَّى لَوْ كَانَ نَزَلَ بِهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْعَدُوِّ مَا زَادُوا عَلَى هَيْبَتِهِ. ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَصِلُ إِلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي يَحْيَى الزُّهَرِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد اللهِ بن عَبْد الْعَزِيز الْعُمَرِيّ عِنْدَ مَوْتِهِ: بِنِعْمَةِ رَبِّي أُحَدِّثُ أَنِّي لَمْ أُصْبِحُ أَمْلُكُ إِلا سَبْعَةَ دَرَاهِم مِنْ لِحَاءِ شَجَرٍ فَتَلْتُهُ بِيَدِيّ وَبِنِعْمَةِ رَبِّي أُحَدِّثُ: لَوْ إِنَّ الدُّنْيَا أَصْبَحَتْ تَحْتَ قَدَمِي مَا يَمْنَعُنِي أَخْذُهَا إِلا أَنْ أُزِيلَ قَدَمِي عَنْهَا؛ مَا أَزَلْتُهَا.
اسْتَسْقَى مُوَسَى بن نُصَيْر فِي النَّاس فِي سنة 93 حِينَ أُقْحِطُوا بِإِفْرِيقية فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ ثُمَّ خَرَجَ بِهُمْ وَمَيَّزَ أَهْل الذِّمَة عَنْ الْمُسْلِمِين وَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَأَوْلادَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِالبُكَاءَ وَارْتِفَاع الضَّجِيجِ وَهُوَ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارَ ثُمَّ نَزَل فَقِيلَ لَهُ: أَلا دَعَوْتَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا مَوْطِنٌ لا يُذْكَرُ فِيهِ إِلا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَقَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَّا قَالَ ذَلِكَ.
كَتَبَ زر بن حُبَيْش إِلَى عَبْدِ الْمَلِكَ بن مروان كِتَابًا يَعِظُهُ فِيهِ فكَانَ فِي آخِرِهِ: وَلا يُطْمِِعُُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ مَا يَظْهَرُ مِنْ صِحَّةِ بَدَنِكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَوَلُونَ.
شِعْرًا: ... إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلادُهَا ... وَبُلِِيَتْ مِنْ كِبَرِ أَجْسَادُهَا(2/113)
وَجَعَلْتَ أَسْقَامَهَا تَعْتَادُهَا ... فَذِي زُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْكتب بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرَفَ ثَوْبَهُ بِدُمُوعِهِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ زر وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ بِنَا.
شِعْرًا: ... يَا بَانِي الْقَصْرِ الْكَبِيرِ ... بَيْنَ الدَّسَاكِرِ وَالْقُصُورْ
وَمُجَرِّر الْجَيْشِ الَّذِي ... مَلأَ الْبَسِيطَةَ وَالصُّدُورْ
وَمُدَوِّخ الأَرْضِ الَّتِي ... أَعْيَتْ عَلَى مَرِّ الدُّهورْ
أَمَا فَزِعْتَ فَلا تَدَعْ ... بُنْيَانَ قَبْرِكَ فِي الْقُبُورْ
وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَرَاهُ كَيْـ ... ـفَ إِلَيْكَ مُعْتَرِضًا يُشِيرْ
وَاذْكُرُ رُقَادَكَ وَسْطَهُ ... تَحْتَ الْجَنَادِلِ وَالصُّخُورْ
قَدْ بُدِّدتْ تِلْكَ الْجُيُو ... شُ وَغُيِّرْتَ تِلْكَ الأَمُورْ
وَاعْتَضْتَ مِنْ لِينِ الْحَرِيـ ... ـرِ خُشُونَةَ الْحَجَرِ الْكَبِيرْ
وَتُرِكْتَ مُرْتَهِنًا بِهِ ... لا مَالَ وَيْكَ وَلا عَشِيرْ
حَيْرَانَ تُعْلِنُ بِالأَسَى ... لَهْفَانَ تَدْعُو بِالثُّبُورْ
وَدُعِيتَ بِاسْمِكَ بَعْدَمَا ... قَدْ كُنْتَ تُدْعَى بِالأَمِيرِْ
وَلأَنْتَ أَهْوَنُ فِيهِ مِنْ ... جُعْلٍ عَلَى نَتْنٍ يَدُورْ
إِنْ لَمْ يَجُدْ بِالْعَفْوِ مَنْ ... يَعْفُو عَنْ الذَّنْبِ الْكَبِيرْ
هَذَا هُوَ الْحَقُّ الْيَقِيـ ... ـنُ وَكُلُّ ذَاكَ هُوَ الْغُرُورْ
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وعن الفضل بن الربيع قَالَ: حج أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الرشيد فأتاني فخرجت(2/114)
مسرعًا فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت إلي أتيك. فَقَالَ: ويحك قَدْ حاك فِي نفسي شَيْء فَانْظُرْ لي رجلا أسأله. فَقُلْتُ: ها هنا سفيان بن عيينة.
فَقَالَ: امض بنا إليه. فأتيناه فقرعت الْبَاب فَقَالَ من ذَا؟ فَقُلْتُ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فخَرَجَ مسرعًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت إلي أتيتك. فَقَالَ لَهُ: خُذْ لما جئناك لَهُ رَحِمَكَ اللهُ.
فحدثه ساعة ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: أبا عَبَّاس اقض دينه، فَلَمَّا خرجنا قَالَ: مَا أَغنى عني صاحبك شَيْئًا، انْظُرْ لي رجلاً أسأله.
فقُلْتُ لَهُ: ها هنا عبد الرزاق بن همام. قَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الْبَاب فَقَالَ: من هَذَا؟ قُلْتُ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ.
فخَرَجَ مسرعًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت إلي آتيتك. قَالَ: خذ لما جئناك لَهُ.
فحادثه ساعة ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أبا عَبَّاس اقض دينه. فَلَمَّا خرجنا قَالَ: مَا أغنى صاحبك شَيْئًا انظر لي رجلاً أسأله.
قُلْتُ: ها هنا الفضيل بن عياض. قَالَ: امض بنا إليه. فأتيناه فَإِذَا هُوَ قائم يصلي يتلو آية من الْقُرْآن يرددها. فَقَالَ: اقرع الْبَاب. فقرعت الْبَاب فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقُلْتُ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا لي ولأمير الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقُلْتُ: سبحان الله أما عَلَيْكَ طاعة؟
ألَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:" لَيْسَ للمُؤْمِنِ أن يذل نَفْسهُ " فنزل ففتح الْبَاب ثُمَّ ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح ثُمَّ التجأ إلى زاوية من زوايا البيت.
فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه. فَقَالَ: يَا لها من كف مَا ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل.(2/115)
فقُلْتُ فِي نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فَقَالَ لَهُ: خذ لما جئناك لَهُ رَحِمَكَ اللهُ.
فَقَالَ: إن عُمَر بن عبد العزيز لما وَلِيَ الخلافة دعا سالم بن عَبْد اللهِ، ومُحَمَّد بن كعب القرظي ورجَاءَ بن حيوة فَقَالَ لَهُمْ: إني قَدْ ابتليتُ بهَذَا البَلاء فأشيروا عليَّ. فعد الخلافة بَلاء وعددتها أَنْتَ وأصحابك نعمة.
فَقَالَ لَهُ سالم بن عَبْد اللهِ: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فصم عَنْ الدُّنْيَا وليكن إفطارك من الموت.
وَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير الْمُسْلِمِين عندك أبًا وأوسطهم أخًا وأصغرهم عندك ولدًا فوقر أباك واكرم أخاك وتحنن على ولدك.
وَقَالَ لَهُ رجَاءُ بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ فأحب لِلْمُسِلِمِينَ مَا تحب لنفسك واكره لَهُمْ مَا تكره لنفسك ثُمَّ مت إِذَا شَئْتَ. وإني أَقُول لَكَ: إني أخاف عَلَيْكَ أشد الخوف يوم تزل فِي الأقدام فهل معك رَحِمَكَ اللهُ من يشير عَلَيْكَ بمثل هَذَا؟
فَبَكَى هارون بُكَاء شَدِيدًا حَتَّى غشى عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: أرفق بأمير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: يَا ابن أم الربيع تقتله أَنْتَ وأصحابك وأرفق به أَنَا ثُمَّ أفاق فَقَالَ لَهُ: زدني رَحِمَكَ اللهُ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بلغني أن عاملاً لعمر بن عَبْد الْعَزِيز شكا إليه. فكتب إليه عُمَر: يَا أخي أذكرك طول سهر أَهْل النار فِي النار مَعَ خلود الأبد وَإِيَّاكَ أن ينصرف بك من عِنْدَ الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجَاءَ.
قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَ اْلكِتَابَ طوى الْبِلاد حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز فَقَالَ(2/116)
له: مَا أقدمك؟ قَالَ: خلعت قلبي بِكِتَابِكَ لا أَعُود إلى ولاية أبدًا حَتَّى ألقى الله عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: فَبَكَى هارون بُكَاء شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: زدني رَحِمَكَ اللهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن العَبَّاسَ عمّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إلى النَّبِيّ فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ أمرني على إمارة فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإمارة حَسْرَة وندامة يوم القيامة فَإِنَّ استطعت أن لا تَكُون أميرًا فافعل» .
فَبَكَى هارون بُكَاء شَدِيدًا وَقَالَ لَهُ: زدني رَحِمَكَ اللهُ فَقَالَ: يَا حسن الوجه أَنْتَ الَّذِي يسألك الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ هَذَا الخلق يوم القيامة، فَإِنَّ استطعت أن تقي هَذَا الوجه من النار فافعل، وَإِيَّاكَ أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فَإِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من أصبح لَهُمْ غاشًا لم يرح رائحة الْجَنَّة» .
فَبَكَى هارون وَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم دين لرَبِّي يحاسبَنِي عَلَيْهِ، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قَالَ: إِنَّمَا أعني دين العباد.
قَالَ: إن رَبِّي لم يأمرني بهَذَا، أمر رَبِّي أن أوحده وأطيع أمره، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ ألف دينار خذها فَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ وتقوى على عبادتك.
فَقَالَ: سبحان الله أَنَا أدلك على طَرِيق النجاة وأَنْتَ تكافئني بمثل هَذَا؟ سلمك الله ووفقك.
ثُمَّ صمت فَلَمْ يكلمنا فخرجنا من عنده فَلَمَّا صرنا على الْبَاب قَالَ هارون: أبا عَبَّاس إِذَا دللتني على رجل فدلني على مثل هَذَا، هَذَا سيد الْمُسْلِمِين.(2/117)
فدخلت عَلَيْهِ امرأة من نسائه فقَالَتْ: يَا هَذَا قَدْ تَرَى مَا نَحْنُ فيه من ضيق الحال فلو قبلت هَذَا الْمَال فتفرجنا به. فَقَالَ لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كَانَ لَهُمْ بعير يأكلون من كسبه فَلَمَّا كبر نحروه فأكلوا لحمه.
فَلَمَّا سمَعَ هارون هَذَا الكلام قَالَ: ندخل فعَسَى أن يقبل الْمَال فَلَمَّا علم الفضيل خَرَجَ فجلس فِي السطح على باب الغرفة، فَجَاءَ هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه فبينما نَحْنُ كَذَلِكَ إِذَا خرجت جارية سوداء فقَالَتْ: يَا هَذَا قَدْ أتعبت الشَّيْخ مُنْذُ اللَّيْلَة فانصرف رَحِمَكَ اللهُ. فانصرف. تأمل يَا أخي هل يوَجَد فِي زمننا من يَرُدُّ حطام الدُّنْيَا إِذَا عرض عَلَيْهِ، لا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم. هَذَا الله وأعْلَمْ أَنَّهُ من رقم (1) فِي الزهد.
بَلِّغْ يَا أخي من يأكلون بالكتب الدينية باسم تحقيق ونشر وقل لَهُمْ قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} واذكر لَهُمْ طريقة الرسل وأنهم لا يسألون النَّاس أجرًا.
شِعْرًا: ... اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدٌ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ
لا يَطْلُبُونَ وَلا تُطْلَبْ مَسَاعِيهُم ... فَهُمُ عَلَى مَهَل يَمْشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاس فِي غَفْلَةٍ عَمَّا لَهُ قَصَدُوا ... فَجُلَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رُقَّادُ
قيل: إن هارون الرشيد خَرَجَ فِي نزهة ومعه سُلَيْمَانٌ بن جعفر فَقَالَ لَهُ هارون: قَدْ كَانَتْ لَكَ جارية تغني فتحسن الغنا فأت بها فجاءت فغنت فَلَمْ تحسن الغنا فَقَالَ لها: مَا شأنك قَالَتْ: لَيْسَ هَذَا عودي.
فَقَالَ للخادم جئها بعودها قَالَ: فَجَاءَ بالعود فوافق شيخنا يلقط النوى فَقَالَ: إبعد عَنْ الطَرِيق يَا شيخ فرفع الشَّيْخ رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأَرْض.
فأخذه الخادم وذهب به إلى صَاحِب الربع فَقَالَ: احتفظ بهَذَا فإنه سيطلبه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ صَاحِب الربع: لَيْسَ ببغداد أعبد من هَذَا فَكَيْفَ يطلبه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ.(2/118)
فَقَالَ لَهُ: اسمَعَ مَا أَقُول لَكَ. ثُمَّ دخل على هارون الرشيد فَقَالَ لَهُ: إني مررت على شيخ يلقط النوى، فَقُلْتُ: تنح عَنْ الطَرِيق يَا شيخ. فرفع رأسه فرأى العود " أي عود الغنا " فأخذه وضرب به الأَرْض.
فغضب هارون واستشاط واحمرت عَيْنَاهُ فَقَالَ سُلَيْمَانٌ بن جعفر: مَا هَذَا الْغَضَب يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إبعث إلى صَاحِب الربع يضرب عنقه ويرمي به فِي دجلة فَقَالَ: لا ولكن نَبْعَث إليه فنناظره أَوَّلاً.
قَالَ: فبعث إليه فَجَاءَهُ الرَّسُول فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ نعم. قَالَ: أركب. قَالَ: لا فَجَاءَ يمشي حَتَّى أوقف على باب القصر فَقِيلَ لهارون: قَدْ جَاءَ الشَّيْخ.
فَقَالَ لنداماه: أي شَيْء ترون نرفع من مَا قدامنا من الْمُنْكَر حَتَّى يدخل الشَّيْخ أَوْ تَقُوم إلى مجلس آخر لَيْسَ فيه منكر. فَقَالُوا: نقوم إلى مجلس آخر لَيْسَ فيه منكر فقاموا صغرة إلى مجلس لَيْسَ فيه منكر.
ثُمَّ طلب الشَّيْخ فأدخل وفي كمه الكيس الَّذِي فيه النوى (أي الفصم) فَقَالَ لَهُ الخادم أَخْرَجَ هَذَا وادخل على أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: من هَذَا عشائي اللَّيْلَة. قَالَ: نَحْنُ نعشيك. قَالَ: لا حَاجَة لي فِي عشاكم.
فَقَالَ لَهُ هارون: أي شَيْء تريد منه؟ فَقَالَ فِي كمه نوى فَقُلْتُ لَهُ: اطرحه وادخل على أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: دعه لا تطرحه فدخل على هارون وجلس.
فَقَالَ هارون: يَا شيخ مَا حَمَلَكَ على مَا صنعت؟ قَالَ: وأي شَيْء صنعته؟ وجعل هارون يستحي أن يَقُولُ كسرت عودنا.
فَلَمَّا أَكْثَر عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخ لهارون: إني سمعت آباءك وأجدادك يقرءون هَذِهِ الآيَة على المنبر: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} ورَأَيْت منكرًا فغيرته.(2/119)
قَالَ: فغيره. قَالَ الراوي: فوَاللهِ مَا قَالَ إِلا هَذَا فَلَمَّا خَرَجَ أعطى هارون رجلاً بدرة يعنى عشرة آلاف درهم فَقَالَ لَهُ: اتبع الشَّيْخ فَإِنَّ رأيته يَقُولُ قُلْتُ لأمير الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ لي فلا تعطه شَيْئًا وأتني به وإن رأيته لا يكلم أَحَدًا فأعطه البدرة.
فَلَمَّا خَرَجَ من القصر تبعه ولم يره يكلم أَحَدًا فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ خذ هَذِهِ البدرة. فَقَالَ: قل لأمير الْمُؤْمِنِينَ: يردها من حيث أخذها.
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللهُ كيف حفظه الله جَلَّ وَعَلا من سطوتهم ورد عَنْهُ كيدهم ببركة الإِخْلاص والتقوى لِرّبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لابن عَبَّاس: «يَا غلام احفظ الله يحفظك» .
ولو كَانَ هَذَا من الجهلة المرائين لخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: اتفق لي مَعَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ لي وقُلْتُ لَهُ يتبجح بذَلِكَ ولا يقنع بعلم الله جَلَّ وَعَلا واطلاعه. هَذَا. الله أعْلَمْ أَنَّهُ من رقم (1) فِي الزهد.
فينبغي التفطن لمثل هَذَا فإنه دَلِيل على مَا فِي الْقَلْب من الداء الدفين من الرياء وطلب الجاه والمنزلة فِي قُلُوب الخلق.
وقَدْ روى النسائي وأَبُو داود أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن الله لا يقبل من الْعَمَل إِلا مَا كَانَ خالصًا ويبتغي به وجهه» .
فإن قُلْتُ: فما الَّذِي يميز لَنَا النِّيْة الصَّالِحَة الْخَالِصَة من النِّيْة الفاسدة وَمَا العلامة فِي ذَلِكَ والمعيار فِي صحته.
قُلْتُ: محل الاعتبار فِي ذَلِكَ أن يرى الْمُنْكَر نَفْسهُ كالمكره على هَذَا الْفِعْل وكالمتكلف لَهُ والمتجشم المشقة فيه.
ويود لو تصدى لهَذَا الْفِعْل غيره وكفاه الله به ويحب أن لا يعلم به أحد من النَّاس اكتفاء بعلم الله جَلَّ وَعَلا وتقدس واطلاعه عَلَيْهِ.(2/120)
ويختار الكلام مَعَ ولي الأَمْر من سلطان أَوْ غيره فِي الْخُلْوَة على الكلام معه لا على رؤوس الأشهاد.
بل يود لو كلمه سرًا وحده ونصحه خفية من غير حضور ثالث لهما ويكره أن يُقَالَ عَنْهُ أَوْ يحكي مَا اتفق لَهُ.
ويكره أن يشتهر بذَلِكَ بين العامة بل لو أثر كلامه وغير المنكر بقوله ثُمَّ اشتهر عِنْدَ النَّاس نسبة ذَلِكَ إلى غيره لما شق عَلَيْهِ.
ذَلِكَ إِذَا علم الله بحَقِيقَة الحال كفاية وَهُوَ المجازي كُلّ أحد بعلمه.
ويكون قصده زَوَال الْمُنْكَر على أي وجه كَانَ ولو حصل لَهُ مَعَ زواله ازدراء وتنقص وسب وتغليظ كلام وذم بين النَّاس أَوْ إعراض وهجر ممن عادته الْمَوَدَّة لَهُ والإقبال عَلَيْهِ ونحو ذَلِكَ من الأَحْوَال التي تكرهها النُّفُوس وتنفر مَنْهَا الطباع.
فهذه كُلّهَا من علامَاتَ الإِخْلاص وحسن الْقَصْد وابتغاء وجه الله تَعَالَى والدار الآخِرَة.
وأما غير المخلص فبضد ذَلِكَ فيرى عِنْدَ نَفْسهُ نَشَاطًا إلى هَذَا الْفِعْل وإقبالا عَلَيْهِ وَسُرُورًا به ويحب أن يكون جهرًا فِي ملاء النَّاس لا سرًا ويحب أن يحكى عَنْهُ ذَلِكَ وأن يشتهر به وأن يحمد عَلَيْهِ.
حتى أَنَّهُ لو نسب إِزَالَة الْمُنْكَر إلى غيره لقامت قيامته بل تجده ينقضي عمره وَهُوَ يحكي مَا اتفق لَهُ وَمَا قَالَ وَمَا قيل لَهُ متبجحًا بذَلِكَ بين أقرانه وزملائه وأبناء جنسه وَرُبَّمَا زَادَ فِي الْقِصَّة ونقص.
ولو سبقه غيره إلى مَا كَانَ هُوَ قَدْ عزم عَلَيْهِ من ذَلِكَ وَرَجَعَ السُّلْطَان إلى قوله لثقل ذَلِكَ وشق عَلَيْهِ.(2/121)
وَرُبَّمَا يَقُولُ لمن يطلعه على نيته: كنت عزمت على أن أدخل على السُّلْطَان فأَقُول لَهُ كَذَا وَكَذَا ولكن سبقني فلان ولكنه لم يتكلم كما ينبغي ولو دخلت عَلَيْهِ لقُلْتُ كَذَا وَكَذَا وفعلت كَذَا فهذه علامَاتَ على فساد النِّيْة وسوء الْقَصْد وعدم الإخلاص.
هذه نماذج وأمثلة سقناها من سيرة الْعُلَمَاء المخلصين العاملين بعلمهم الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائم.
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلَّى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
سأل المهدي الإمام مالكًا وَقَالَ لَهُ: هل لَكَ دار؟ فَقَالَ: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وَقَالَ لَهُ: اشتر لَكَ بها دار، فأخذ وأبقاها عنده.
فَلَمَّا أراد الرشيد الرحيل إلى بغداد قَالَ لمالك: ينبغي لَكَ أن تخَرَجَ معنا فإني عزمت أن أحمل النَّاس على الموطأ، كما حمل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّاس على الْقُرْآن. فَقَالَ لَهُ مالك: أما حمل النَّاس على الموطأ فلَيْسَ إلى ذَلِكَ سبيل لأن أصحاب رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - افترقوا بعده فِي الأمصار فحدثوا فعَنْدَ كُلّ أَهْل مصر علم.
وقَدْ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اختلاف أمتي رحمة» . وأما الْخُرُوج معك فلا سبيل إليه، قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَدِينَة خَيْر لَهُمْ لو كَانُوا يعلمون» . وَقَالَ: «الْمَدِينَة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» .
وهذه دنانيركم كما هِيَ إن شَئتم فخذوها وإن شَئتم فدعوها يعني إِنَّكَ إِنَّمَا كلفتني مفارقة الْمَدِينَة بما اصطنعته لدي من أخذ هَذِهِ الدنانير، فالآن خذها فإني لا أوثر الدُّنْيَا وَمَا فيها على مفارقة الْمَدِينَة.
هَذَا من رقم واحد فِي العفاف والزهد، لله دره هكَذَا الْعُلَمَاء العاملون المخلصون البعيدون عَنْ الشهرة والظهور والرياء.(2/122)
شِعْرًا: ... إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُو مِنَ النَّارِ سَالِمًا ... وَتَنْجُوَ مِنْ يَوْمٍ مُهُولٍ عَصبْصَبِ
وَتَحْظَى بِجَنَّاتٍ وَحُورٍ خَرَائِدٍ ... وَتَرْفُل فِي ثَوْبٍ مِن الْمَجْدِ مُعْجِبِ
وَفِي هَذِهِ الدُّنْيَا تَعِيشُ مُنَعَّمًا ... عَزِيزًا حَمِيدًا نَائِلاً كُلَّ مَطْلَبِ
فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَاسْلُكْ سَبِيلَهَا ... هِيَ الْعُرْوَةُ الوُثْقَى لأَهْل التَّقَرُّبِ
فَعَادِ الَّذِي عَادَى وَوَال الَّذِي لَهُ ... يُوَالِي وَأَبْغِضْ فِي الإِلهَ وَأَحْبِبِ
فَمَنْ لَمْ يُعَادِي الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ لَهُمْ ... يُوَالِي وَلَمْ يُبْغَضْ وَلَمْ يَتَجَنَّبِ
فلَيْسَ عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّةِ أحمد ... وَلَيْسَ عَلَى نَهْجٍ قَوِيمٍ مُقَرِّبِ
وَأَخْلِصْ لِمَوْلاكَ الْعِبَادَةَ رَاغِبًا ... إِلَيْهِ مُنِيبًا فِي الْعِبَادَةِ مُدْئِبِ
مُحِبًّا لأَهْلِ الْخَيْرِ لا مُتَكَرِّهًا ... وَلا مُبْغِضًا أَوْ سَالِكًا مَنْهَجًا وَبِ
وَكُنْ سَلِسًا سَهْلاً لَبِيبًا مُهَذَّبًا ... كَرِيمًا طَلِيقَ الْوَجْهِ سَامِي التَّطَلُبِ
إِلَى كُلِّ مَنْ يَدْنُو إِلَى مَنْهَجِ التُّقَى ... فَخَيْرِ الْوَرَى أَهْلُ التُّقَى وَالتَّقَرُّبِ
وَمِنْهَجُهُمْ خَيْرُ الْمَنَاهِجِ كُلَّهَا ... وَمَوْكَبُهُمْ يَوْمَ اللِّقَا خَيْرُ مَوْكِبِ
فهَذَا الَّذِي يَرْضَى لِكُلِّ مُوَحِّدِ ... وَهَذَا الَّذِي يُنْجِي بِيَوْمِ عَصَبْصَبِ
وَذَلِكَ يَوْمٌ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَبِتَّ لَعَمْرِي سَاهِدًا ذَا تَقَلُّبِ
وَلَمْ تَتَلَذَّذْ بِالْحَيَاةِ وَطِيبهَا ... وَأَصْبَحْتَ فِيهَا خَائِفًا ذَا تَرَقُّبِ
اللَّهُمَّ بارك فِي أسماعنا وأبصارنا ونور قلوبنا وأصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السَّلام ونجنا من الظلمَاتَ إلى النور وجنبنا الفواحش مَا ظهر مَنْهَا وَمَا بطن وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ يَا حي يَا قيوم يَا بديع السَّمَاوَات وَالأَرْض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانَا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/123)
" فَصْلٌ ": فِي الأَمْر بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنْ المُنْكَر
اعْلَمْ وفقك الله أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر يجبان وجوب كفائي يخاطب به الجميع، ويسقط بمن يقوم به، وإن كَانَ العَالِم به واحدًا تعين عَلَيْهِ، وإن كَانُوا جماعة لكن لا يحصل المقصود إِلا بِهُمْ جميعًا تعين عَلَيْهمْ.
وأما تعريفهما، فالمعروف اسم جامَعَ لكل مَا عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى النَّاس. والْمُنْكَر ضده وعرفه بَعْضهُمْ بقوله: الْمُنْكَر اسم جامَعَ لكل مَا يكرهه الله وينهى عَنْهُ والمعروف اسم جامَعَ لكل مَا يحبه الله من الإِيمَان والْعَمَل الصالح.
وقَدْ حبب الله إلينا الْخَيْر وأمرنا أن ندعو إليه، وكره إلينا الْمُنْكَر ونهانَا عَنْهُ، وأمرنا بمنع غيرنا منه، كما أمرنا بالتعاون على البر والتقوى.
فَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
والأصل فِي وجوبهما: الكتاب والسنة والإجماع قَالَ الله تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وأبان جَلَّ وَعَلا أننا بهما خَيْر الأمم فَقَالَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} .
وفي المسند والسُّنَن مِنْ حَدِيثِ عمرو بن مرة عَنْ سالم بن أبي الجعد عَنْ أبي عبيدة بن عَبْد اللهِ بن مسعود عَنْ أبيه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن من كَانَ قبلكم كَانَ إِذَا عمل العامل الخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا فَإِذَا كَانَ الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فَلَمَّا رأى الله عَزَّ وَجَلَّ(2/124)
ذَلِكَ مِنْهُمْ ضرب بقُلُوب بَعْضهُمْ على بعض ثُمَّ لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذَلِكَ بما عصوا وكَانُوا يعتدون. والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عَنْ الْمُنْكَر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الْحَقّ أطرا أَوْ ليضربن الله بقُلُوب بعضكم على بعض ثُمَّ ليلعنكم كما لعنهم» .
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ إبراهيم بن عمرو الصنعاني: وحى الله إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم. قَالَ: يَا رب هؤلاء الأَشْرَار فما بال الأخيار؟ قَالَ: إنهم لم يغضبوا لغضبي وكَانُوا يواكلونهم ويشاربونهم.
وذكر أَبُو عُمَر بن عَبْد اللهِ عَنْ أبي عمران قَالَ: بعث لله عَزَّ وَجَلَّ ملكين إلى قرية أن دمراها بمن فيها فوجدوا فيها رجلاً قائمًا يصلي فِي مسجد فقالا: يَا رب إَِنْ فيها عبدك فلانًا يصلي؟ فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: دمراها ودمراه معهم فإنه مَا تمعر وجهه فِيَّ قط.
وذكر الحميدي عَنْ سفيان بن عيينة قَالَ حَدَّثَنِي سفيان بن سعيد عَنْ مسعر أن ملكًا أمر أن يخسف بقرية فَقَالَ: يَا رب إن فيها فلانًا العابد. فأوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إليه أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه فِيَّ ساعة قط.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ وهب بن منبه قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة قَالَ يَا رب اغفر لي قَالَ قَدْ غفرت لَكَ وألزمت عارها بَنِي إسرائيل قَالَ: يَا رب كيف وأَنْتَ الحكم العدل لا تظلم أَحَدًا أَنَا اعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري.
فأوحى الله إليه إِنَّكَ لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عَلَيْكَ بالإنكار.(2/125)
وأوضح سُبْحَانَهُ أن الأجر بهما عَظِيم فِي قوله تَعَالَى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} .
ووصف الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَات بأن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر ويقيمون الصَّلاة ويُؤْتُونَ الزَّكَاة وَيُطَيعُونَ اللهَ ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.
وشهد الله بالصلاح للمؤمنين الَّذِينَ أضافوا إلى إيمانهم القيام بهما فَقَالَ تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
وبين جل شأنه أن قَوْمًا من بَنِي إسرائيل استحقوا اللعن بتركهما فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .
قَالَ القرطبي وبخ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى علماؤهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} .
قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك الْمُنْكَر الَّذِي لا ينهى عَنْهُ كمرتكبه. وَذَلِكَ أن الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تترك بين أظهرها عاصيًا ولا معصية، فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسود ولم تسكن حَتَّى تذيقه مَا يستحق على معصيته.
كل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والعصاة والفسقة يرتدعون عِنْدَمَا يرون ردع إخوانهم.. انتهى كلامه.(2/126)
شِعْرًا: ... وَأَهْوَى من الْفِتْيَان كُلَّ مَوفَّقٍ ... لِطَاعَةِ رَبِّ الْخْلِق بَارِي الْبَرِيَّةِ
مُلازِمُ بَيْتِ الله يَتْلُوا كِتَابَهُ ... وَيَكْثِرُ ذِكْرَ الله فِي كُلِّ لَحْظَةِ
وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ حَسْبَ اقْتِدَارِهِ ... وَعَنْ مُنْكَرٍ يَنْهَى بِلُطْفٍ بِدَعْوَتِي
وفي سورة الأعراف يخبرنا جَلَّ وَعَلا عما كَانَ من بَنِي إسرائيل وَمَا نزل بِهُمْ من الْعَذَاب فيَقُولُ: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ، فأفادت هَذِهِ الآيات أن بَنِي إسرائيل صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد الأسماك يوم السبت المحرم فيه الصيد، وفرقة نهت عَنْ ذَلِكَ واعتزلتهم، وفرقة سكتت فَلَمْ تفعل ولم تنه ولكنها قَالَتْ للمنكرة: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا، أي لم تنهون هؤلاء وَقَدْ علمتم أنهم قَدْ هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة فِي نهيكم إياهم.
قَالَتْ لَهُمْ المنكرة: معذرة إلى ربكم أن فيما أخذ عَلَيْنَا من الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ولعلهم يتقون أي ولعل لهَذَا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إِلَى اللهِ تائبين فَإِذَا تابوا تاب الله عَلَيْهمْ ورحمهم.
فَلَمَّا نسوا مَا ذكروا به (أي فَلَمَّا أبى الفاعلون قبول النَّصِيحَة) أنجينا الَّذِينَ ينهون عَنْ السُّوء وأخذنا الَّذِينَ ظلموا
(أي الَّذِينَ ارتكبوا المعصية) بعذاب بئيس، فنصت الآيات على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكتت عَنْ الساكتين.(2/127)
قَالَ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانُوا ثلاثة ثلث نهوا وثلث قَالُوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إِلا الَّذِينَ نهوا وهلك سائرهم. وَهَذَا إسناده جيد عَنْ ابن عَبَّاس.
وفي الْحَدِيث الثابت عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي بَكْرٍ الصديق رصي اله عَنْهُ أَنَّهُ خطب النَّاس على منبر رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أيها النَّاس إنكم تقرءون هَذِهِ الآيَة وتضعونها على غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} .
وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إن النَّاس إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» . وفي لفظ: «من عنده» . رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَقَالَ: حديث حسن صحيح. وابن ماجة والنسائي ولفظه: إني سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إن القوم إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه عمهم الله بعقاب» .
وفي رواية لأبي داود سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثُمَّ يقدرون على أن يغيروا ثُمَّ لا يغيروا إِلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب» . وفي رواية: «إن النَّاس إِذَا رأوا الطالم فَلَمْ يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .
وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد: ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب.
شِعْرًا: ... قُلْ لِلَّذِي بِقِرَاعِ السَّيْفِ هَدَّدَنَا ... لا قَامَ قَائِمٌ جَنْبِي حِينَ تَصْرَعُهُ
قَامَ الْحَمَامُ إِلَى الْبَازِي يُهَدِّدُهُ ... وَاسْتَيْقَضَتْ لأُسُودِ أَصْبُعُهُ(2/128)
ولو شئتَ لقُلْتُ: ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل وأصبحت الدولة لَهُمْ وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون إنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يستهزؤن ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم لما راجت الرذيلة هذا الرواج وَمَا درى هؤلاء أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية لفساد عقولهم وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم.
وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة للإسلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وارشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فُشُوُّ الشر والْمُنْكَر بيننا. أهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
قُمْ يَا مُحَمَّدُ وَاسْتَمِعْ لِي يَا عُمَرْ ... وَاسْتَيْقِظَا فَالدِّينِ يَدْعُو لِلنَّصرْ
وَغَدًا بَنُو الإِسْلامِ فِي زَيْغٍ فَمَا ... يَسْعَوْنَ إِلا لِلْمَلاهِيَ وَالْبَطَرْ
تَرَكُوا هُدَى الدِّينِ الْحَنِيفِ الْمُعْتَبَرْ ... وَاسْتَبْدَلُوا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ
وَنَسُوا أُصُولَ الدِّينِ مِنْ دَهْش وَقَدْ ... أَضْحَى نَصِيرُ الشَّرْعِ فِيهِمْ مُحْتَقَرْ
وَالدِّين يَدْعُوهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ... وَقُلُوبُهُمْ ضَلَّتْ وَقَدْ عَمِيَ الْبَصَرْ
حَتَّى تَشَتَّتْ شَمْلَهُ وَاصْدَّعَتْ ... أَرْكَانُهُ وَأَسَاءَ مَثْوَاهُ الضّررْ
فَإِلَى مَتَى هَذَا السُّكُوتُ وَقَدْ دَنَا ... وَقْتُ الْجِهَادِ وَمَا لَنَا عَنْهُ مَفَرْ
عَارٌ وَأَيْمُ اللهِ أَنْ نَلْهُوَ وَقَدْ ... كَادَتْ معَالِمُ دِينِنَا أَنْ تَنْدَثِرْ
فَكَفَاكُمُوا زَيْغًا وَهَجْرًا فَامْدُدُوا ... أَيْدِي الْخَلاصِ وَأَيِّدُوا الدِّينِ الأَغَرْ
وَذَرُوا جِدَال الْمُلْحِدِينَ فَإِنَّهُمْ ... فَقَدُوا الرَّشَادَ وَكَانَ مَأْوَاهُمْ سَقَرْ(2/129)
وَتَكَاتَفُوا فِي السَّعْيِ حَوْلَ نَجَاتِهِ ... لا يَثْنِ هِمَّتَكُمْ خُمُولٌ أَوْ ضَجَرْ
فَاللهُ فِي عَوْنِ الْعِبَادِ إِذَا هُمُوا ... نَصَرُوا الْحَنِيفَ وَحَصَّنُوهُ مِنَ الْغَيْرْ
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلزُومِ الطَّرِيق الَّذِي يُقَرِّبنا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاستُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد رَحِمَهُ اللهُ.. وبعد: فلا يخفى مَا أصيب به الإِسْلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن.. وأن الإِسْلام قَدْ أدبر وآذان بالوداع. والنفاق قَدْ أشرف وأقبل باطلاع.. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره. ولم يقوموا بالدعوة إليه بغرس محبته فِي الْقُلُوب.. بذكر مَا تقدم فَإِنَّ الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أَكْثَر من آيات الصوم والحج الَّذِينَ هما ركنان من أركَانَ الإِسْلام الخمسة.
والاجتماع المأمور به فِي قوله تَعَالَى " {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً}
تهدمت مبانيه والإئتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه.. فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ.
نرى الأَمْرَ بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر الَّذِي هُوَ ركن من أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء ضعف جانبه وكثر فِي النَّاس وتنوعت مقاصد الخلق وتباينت آرائهم.
فالْمُنْكَر للمنكر فِي هَذِهِ الأزمنة.. يَقُولُ النَّاس فيه مَا أَكْثَر فضوله وَمَا أسفه(2/130)
رأيه وَرُبَّمَا غمزوه بنقص فِي عقله.. ومن سكت وأخلد قيل: مَا أحسن عقله وَمَا أقوى رأيه فِي معاشرته للناس ومخالطته لَهُمْ.
والله قَدْ جعل الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فرقًا بين الْمُؤْمِنِينَ والمنافقين.. فأخص أوصاف الْمُؤْمِنِينَ المميزة لَهُمْ من غيرهم هُوَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ورأس الأَمْر بالمعروف الدعوة إلى الإِسْلام وإرشاد النَّاس إلى مَا خُلِقُوا لَهُ وتبصيرهم بما دل عَلَيْهِ كتاب ربهم وسنة ونبيهم وتحذيرهم من مخالفة ذَلِكَ.
قَالَ الإمام الغزالي فِي قوله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} . وصف الله الْمُؤْمِنِينَ بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر والَّذِي هجر الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر خارج عَنْ هؤلاء الْمُؤْمِنِينَ.. انتهى.
وفي قوله تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} مَا يدل على أن الناجي هُوَ الَّذِي ينهى عَنْ السُّوء دون الواقع فيه والمداهن عَلَيْهِ.
والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر هُوَ الأساس الأعظم للدين. والمهم الَّذِي بعث الله لأجله النبيين ولو أهمل لاضمحلت الديانة وفشت الضلالة وعم الفساد وهلك العباد.
إن فِي النهي عَنْ الْمُنْكَر حفاظ الدين وسياج الأداب والكمالات. فَإِذَا أهمل أَوْ تسوهل فيه تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة ولا خجل.. ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم ويسعونها بآذانهم زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم ثُمَّ يتجرأ الكثيرون أَوْ الأكثر على ارتكابها. ولكن يَا للأسف استولت على الْقُلُوب مداهنة الخلق وانمحت عَنْهَا مُرَاقَبَة الخالق حيث اندرس من هَذَا الْبَاب عمله وعلمه وانمحى معظمه ورسمه واسترسل النَّاس فِي اتباع الأهواء والشهوات.(2/131)
ولا شك أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر حفظ للشريعة وحماية لأحكامها تدل عَلَيْهِ بعد إجماع الأمة وإرشاد العقول السليمة إليه. الآيات القرآنية وَالأَحَادِيث النَّبَوِيَّة مثل قوله تَعَالَى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} فدلت الآيَة الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حيث لم يشهد لَهُمْ بذَلِكَ إِلا بعد أن أضاف إليها الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فقد ذم سبحانه وتعالى من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وَهَذَا غاية التشديد ونهاية التهديد. فبين سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن السبب للعنهم هُوَ ترك التناهي عَنْ الْمُنْكَر، وبين أن ذَلِكَ بئس الْفِعْل.
ولا شك أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عَنْهُ فقَدْ أعانه عَلَيْهِ بالتخلية بينه وبين ذَلِكَ الْمُنْكَر وَهُوَ عدم الجد فِي إبعاد أخيه عَنْ ارتكابه.
قَالَ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لعنوا فِي كُلّ لسان على عهد مُوَسى فِي التوراة ولعنوا على عهد داود فِي الزبور. ولعنوا على عهد عيسى فِي الإنجيل. ولعنوا على عهد نبيكم مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقُرْآن. {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} .
قَالَ القرطبي: وبخ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى علماءهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ:
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} كما وبخ من سارع فِي الإثُمَّ بقوله:
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك النهي عَنْ الْمُنْكَر كمرتكب الْمُنْكَر أَوْ.. فَإِنَّ الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تطيق أن تَرَى بين أظهرها(2/132)
عاصيًا ولا معصية فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسد ولم تهدأ إِلا إِذَا أذاقت المجرم مَا يليق به وَمَا يستحق عَلَى قَدْرِ جريمته تفعل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والمجرمون إِذَا رأوا ذَلِكَ كفوا عَنْ إجرامهم وبالغوا فِي التستر إِذَا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون، فَإِذَا لم تسقهم الأنمة ولم تراع سنن دينها ضعفت غيرتها أَوْ إنعدمت كليًا فِي نفوسها إذ لو شاهدت مَا شاهدت من المعاصي.. إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة لا يخاف معها العاصي ولا ينزجر عَنْ معصيته. وأما أن يتفق الجميع على الإغماض عَنْ ذَلِكَ العاصي فيفعل مَا يشاء بدون خوف ولا خجل إِذَا يرفع ذووا الإجرام رؤوسهم غير هيابين ولا خجلين من أحد.
ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب. ولو شئت لقُلْتُ ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل. وأصبحت الدولة لَهُمْ. وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون أنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يبتسمون ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية وإستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم. لما راجت الرذيلة فِي هَذَا العصر هَذَا الرواج.
وما درى هؤلاء المرذولون أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية التي لَيْسَتْ دونها همجية لفساد عقولهم وبعدهم عَنْ معرفة أوامر دينهم.
وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة إلى الإِسْلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وإرشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم(2/133)
لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فشو السِّرّ والْمُنْكَر بيننا: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} .
وقَدْ صرح الْعُلَمَاء رحمة الله عَلَيْهمْ بأنه يجب على الإمام أن يولي هَذَا المنصب الجليل والأَمْر الهام الَّذِي هُوَ فِي الحَقِيقَة مقام الرسل. محتسبًا يأمر بالمعروف وينهى عَنْ الْمُنْكَر.. وَيَكُون ذَا رأي وصرامة، وقوة فِي الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة. كما قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
فدلت الآيَة الكريمة على أَنَّهُ يجب على الْمُسْلِمِين أن تَقُوم مِنْهُمْ طائفة بوظيفة الدعوة إلى الْخَيْر وتوجيه النَّاس وعظتهم وتذكيرهم إلى مَا فيه صلاحهم واستقامة دينهم وأن يكونوا على المنهج القويم. والصراط المستقيم. والمخاطب بهَذَا كافة الْمُسْلِمِين فهم المكلفون لا سيما الإمام الأعظم وأن يختاروا طائفة مِنْهُمْ تَقُوم بهذه الفريضة الهامة التي هِيَ أحد أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء.
قِفَا نَبْكِ عَلَى رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده. ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على الإِسْلام بما لا حَقِيقَة لَهُ.
لَقَدْ انطمس المعنى وذهب اللب وَمَا بقى إِلا قشور ورسوم واكتفى الكثيرون من الإِسْلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعملوا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ. فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته.
هَذَا وأسأل الله أن يوفق الْمُسْلِمِين وولاة أمورهم لما فيه صلاحهم وصلاح(2/134)
دينهم وأن يجمَعَ كلمتهم على الْحَقّ أَنَّهُ ولي ذَلِكَ والقادر عَلَيْهِ وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم تسَلِيمًا إلى يوم الدين.
" فَصْلٌ "
وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان " رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا من نبي بعثه الله فِي أمة قبلي إِلا كَانَ لَهُ من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثُمَّ تخلف من بعدهم خلوف يقولون مَا لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بلِسَانه فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بقَلْبهُ فهو مُؤْمِن، لَيْسَ وراء ذَلِكَ من الإِيمَان حبة خردل» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عَنْ الْمُنْكَر أَوْ ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثُمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم» . رَوَاهُ الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن.
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام فادخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فَقَالَ: «مَا هذا يَا صَاحِب الطعام ""؟ فَقَالَ: أصابته السماء يَا رَسُول اللهِ. قَالَ: «أفلا جعلته فوق الطعام حَتَّى يراه النَّاس من غشنا فلَيْسَ منا» .
فهَذَا نهي منه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ منكر، هُوَ غش النَّاس فِي طعامهم وأجمعت الأمة على وجوب الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر.
وأَخْرَجَ الإمام أحمد فِي المسند أن الوليد بن عقبة أخر الصَّلاة مرة فقام(2/135)
عبد الله بن مسعود فثوب بالصَّلاة فصلى بِالنَّاسِ فأرسل إليه الوليد: مَا حَمَلَكَ على مَا صنعت أجاءك من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أمر فيما فعلت أم ابتدعت؟ قَالَ: لم يأتني أمر من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولم ابتدع ولكن أبى الله ورسوله عَلَيْنَا أن ننتظرك بصلاتنا وأَنْتَ فِي حاجتك.
قَالَ شيخ الإِسْلام رحمة الله: لابد من العلم بالمعروف والْمُنْكَر والتمييز بينهما. الثاني أَنَّهُ لابد من العلم بحال المأمور والنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأَمْر والنهي بالصراط المستقيم وَهُوَ أقرب الطرق إلى حصول المقصود ولا بد من الرفق ولا بد أن يكون حليمًا صبورًا على الأَذَى فإنه لا بد أن يحصل لَهُ أذى فَإِنَّ لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفسد أَكْثَر مِمَّا يصلح فَلا بُدَّ مِنْ العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأَمْر والنهي، والرفق معه والصبر بعده.
وَقَالَ سفيان: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عَنْ الْمُنْكَر إِلا من كَانَ فيه خِصَال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل، عدل بما ينهى، عَالِم بما يأمر، عَالِم بما ينهى.
وَقَالَ عبد الملك بن عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز لأبيه: يَا أَبَتِ مَا يَمْنَعُك أن تمضي لما تريد من العدل فوَاللهِ مَا كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا بَنِي إني إِنَّمَا أروض النَّاس رياضة الصعب إني أريد أن أجئ الأَمْر من العدل فأؤخر ذَلِكَ حَتَّى أُخْرِجَ معه طمعًا من طمع الدُّنْيَا فينفروا من هَذَا ويسكنوا لهذه.
وَيُشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الإِنْكَارِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأهله وماله، فَإِنَّ خاف السب أَوْ سماع الكلام السيئ لم يسقط عَنْهُ والحزم أن لا يبالي لما ورد: «أفضل الجهاد كلمة حق عِنْدَ سلطان جائر» . وقوله: «لا يمنعن أحدكم هيبة النَّاس أن يَقُولُ بحق إِذَا عَلِمَهُ» .(2/136)
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ رَحِمَهُ اللهُ: إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ لَهُ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:
(الأُولَى) : أَنْ يَزُولَ وَيَخْلفه ضده.
(الثَّانِيَة) : أَنْ يَقِلَّ وَإن لم يزل من جملته.
(الثالثة) : أن يخلفه مَا هُوَ مثله.
(الرابعة) : أن يخلفه مَا هُوَ شر منه.
فالدَّرَجَتَانِ الأوليان مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةِ مَوْضِعُ اجْتِهَاد والرابعة محرمة، وليحزر الآمْر والناهي من أن يخالف قوله أَوْ يأمر بما لا يأتمر به.
شِعْرًا: ... رَأَيْنَاكَ تَنْهَى وَلا تَنْتَهِي ... وَتُسْمِعُ وَعْظًا وَلا تَسْمَعُ
فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى ... تَسَنُّ الْحَدِيدَ وَلا تَقْطَعُ
فقَدْ ورد عَنْ أَنَس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار: قَالَ: قُلْتُ: من هؤلاء؟ قَالَ: خطباء أمتك من أَهْل الدُّنْيَا ممن كَانُوا يأمرون النَّاس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» . وحتى لا يتعرض لسخرية النَّاس به واستهزائهم به وحتى تَكُون دعوته مقبولة.
شِعْرًا: ... يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى ... كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَإنْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
آخر: ... فَراكَ مِنَ الأَيَّامِ نَابٌ وَمِخْلَبُ ... وَخَانَكَ لَوْنُ الرَّأْسِ وَالرَّأْسُ أَشْيَبُ
فَحَتَّامَ لا تَنْفَكُّ جَامِحَ هِمَّةٍ ... بَعِيدَ مَرَامِي النَّفْسِ وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ
تُسَرُّ بِعَيْشٍ أَنْتَ فِيهِ مُنَغَّصٌ ... وَتَسْتَعْذِبُ الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُعَذَّبُ
تُغَذِّيكَ وَالأَوْقَاتُ جسْمَك تَغْتَذِي ... وَتَسْقِيكَ وَالسَّاعَاتُ رُوحَكَ تَشْرَبُ
وَتَعْجَبُ مِن آفَاتِهَا مُتَلَفِّتًا ... إِلَيْهَا لَعَمْرُ اللهِ فَعْلُكَ أَعْجَبُ(2/137)
وَتَحْسِبُها بِالْبِشرِ تُبْطِنُ خُلَّةً ... فَيَظْهَرْ مِنْهَا غَيْرُ مَا تَتَحَسَّبُ
إِذَا رَضِيتَ أَعْمَتْكَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى ... فَمَا ظَنُّ ذِي لُبٍّ بِهَا حِينَ تَغْضَبُ
وَفِي سَلْبِهَا ثَوبَ الشَّبَابِ دَلالَةٌ ... عَلَى أَنَّهَا تُعْطِي خِدَاعًا وَتَسْلِبُ
أَتَرْضَى بِأَنْ يَنْهَاكَ شَيْبُكَ وَالْحِجَا ... وَأَنْتَ مَعَ الأَيَّامِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ
والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
" فَصْلٌ "
قَالَ شيخ الإِسْلام رَحِمَهُ اللهُ: من لم يكن فِي قَلْبهُ بغض مَا يبغضه الله ورسوله من الْمُنْكَر الَّذِي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن فِي قَلْبهُ الإِيمَان الَّذِي أوجبه الله عَلَيْهِ فَإِنَّ لم يكن مبغضًا لشَيْء من المحرمَاتَ أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً.
والحاصل أن الإِنْسَان يأتي من ذَلِكَ بما يستطيع ولا يقصر فِي نصرة دين الله ولا يعتذر فِي إسقاط ذَلِكَ بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها مَا أوجب الله عَلَيْهِ من أمر الله، وعَلَيْهِ بالأخذ بالرفق واللطف وإظهار الشفقة والرحمة فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مدار كبير عِنْدَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر.
قَالَ الله تَعَالَى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ومن الحكم أن يدعو كُلّ أحد على حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده.
وَمِنَ الْحِكْمَةِ الدَّعْوَةُ بالعلم والبداءة بالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم وبما يكون قبوله أتم، والرفق واللين فَإِنَّ انقاد بالحكمة وإِلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وَهُوَ الأَمْر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
وليحذر من المداهنة فِي الدين، ومعناه أن يسكت الإِنْسَان عَنْ الأَمْر(2/138)
بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وعن قول الْحَقّ وَكَلِمَة الْعَدْلِ: طَمَعًا فِي النَّاسِ وَتَوَقُعًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حُظُوظٍ الدُّنْيَا.
وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِعُمَر بِنْ صَالحٍ: يَا أَبَا حَفْصٍ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيِهِ بَيْنَهُمْ مَثْل الْجِيفَةِ وَيَكُونُ الْمُنَافِقُ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ وَكَيْفَ يُشَارُ إِلَى الْمُنَافِقِ بِالأَصَابِعِ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ صَيروا أَمْر اللهِ فُضُولاً.
وَقَالَ المُؤْمِن: إِذَا رَأَى أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يَصْبِرْ حَتَّى يَأْمُرَ وَيَنْهى. قَالُوا: يَعْنِي هَذَا فُضُول. قَالَ: وَالْمُنَافِقِ كُلّ شَيْء يراه قَالَ بيده على فمه: «أي صمت فَلَمْ ينه ولم يأمر. فَقَالُوا: (نعم الرجل لَيْسَ بينه وبين الفضول عمل) .
وقَدْ روي أن الجار يوم القيامة يتعلق بجاره ويَقُولُ: ظلمني. فيرد عَلَيْهِ بأنه مَا ظلمه ولا خانه فِي أَهْل ولا مال فيَقُولُ الجار: صدق إِنَّهُ لم يخني فِي أَهْل ولا مال ولكنه وجدني أعصي الله فَلَمْ ينهني. هَذَا الأثر بالمعنى. وَرُوِيَ حديث آخر: ويل للعَالِم من الجاهل حيث لا يعلمه.
شِعْرًا: ... وَقَعْنَا فِي الْخَطَايَا وَالْبَلايَا ... وَفِي زَمَنِ انْتِقَاصٍ وَاشْتِبَاهِ
تَفَانَى الْخَيْرُ وَالصُّلَحَاءُ ذَلُّوا ... وَعَزَّ بِذُلِّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ
وَبَاءَ الآمِرُونَ بِكُلِّ عُرْفٍ ... فَمَا عَنْ مُنْكَرٍ فِي النَّاسِ نَاهِ
فَصَارَ الْحُرُّ لِلْمَمْلوكِ عَبْدًا ... فَمَا لِلْحُرِّ مِنْ قَدْرٍ وَجَاهِ
فهَذَا شَغَلُهُ طَمَعٌ وَجَمَعٌ ... وَهَذَا غَافِلٌ سَكْرَانُ لاهِ
آخر: ... إِذَا بِالْمَعْرُوفِ لََمْ أُثْنِ صَادِقًا ... وَلَمْ أَذْمُمِ الْجُبْسَ اللَّئِيمْ الْمُذَمِمَّا
فَقِيمْ عَرَفْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاسْمِهِ ... وَشَقَّ لِيَ اللهُ الْمَسَامِعَ وَالْفَمَا(2/139)
آخر: ... أَرَى الإِحْسَانَ عِنْدَ الْحُرِّ حَمْدًا ... وَعَنْدَ النَّذْلِ مَنْقَصَةً وَذَمًّا
كَقَطْرٍ صَارَ فِي الأَصْدَافِ دُرًا ... وَفِي نَابِ الأَفَاعِي سُمًّا
آخر: ... إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً ... وَمَا الْعَيْب إِلا أَنْ أَكُونَ مُسَابِبُهْ
وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةٌ ... لَمَكَّنْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْل تُجَاوِبُهْ
آخر: ... مَتَى تَضَعُ الْكَرَامَةَ فِي لَئِيمٍ ... فَإِنَّكَ قَدْ أَسَأْتَ إِلَى الْكَرَامَةْ
آخر: ... لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لوُمِ فَتُطَّغِيَهُ ... أَغْلظْهُ يَأْتِيكَ مِطْوَاعًا وَمِذْعَانَا
إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا
والله أعْلَمُ. وَصَلَّى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
" فَصْلٌ "
عَنْ عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بايعنا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على السمَعَ والطاعة فِي العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثره عَلَيْنَا وعلى أن لا ننازع الأَمْر أهله إِلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تَعَالَى فيه برهان وعلى أن تَقُول بالحق أينما كنا لا نخاف فِي الله لومة لائم. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وغيره.
وأَخْرَجَ أحمد وغيره مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص: إِذَا رَأَيْت أمتي تهاب الظَالِم أن تَقُول لَهُ: إِنَّكَ ظَالِم فقَدْ تودع مِنْهُمْ. ولَقَدْ كَانَ سلفنا الصالح الكرام لَهُمْ مواقف عظيمة شريفة ونوادر طريفة وقصص غريبة وحكايات عجيبة دالة على صدق إيمانهم وقوة يقينهم وشدة ورعهم فكَانُوا لا يخشون فِي الله لومة لائم أَوْ كلمة مداهن أَوْ فرية مفتر أَوْ قوة ظَالِم بل يجاهرون بالحق بكل صراحة وينطقوا بالصدق وإن غضب الخلق ويأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر فِي أشد المواقف وأحرجها.
وإليك مَا كَانَ من موقف الصحابي الجريء أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَ مروان ابن الحكم أمير من قبل معاوية بن أبي سفيان فمن السنة(2/140)
المأثورة والطريقة المعروفة من فعله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شَيْء يبدأ به الصَّلاة. ثُمَّ يَنْصَرِف فَيَقُوم مُقَابِل النَّاس والنَّاس جُلُوس عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهُمْ بتقوى الله ويأمرهم بحلال الله وينهاهم عَنْ حرامه، ثُمَّ ينصرف، قَالَ أَبُو سعيد: فَلَمْ يزل النَّاس على ذَلِكَ حَتَّى خرجتُ مَعَ مروان وَهُوَ أمير الْمَدِينَة فِي عيد الأضحى أَوْ الفطر فَلَمَّا أتينا المصلى إِذَا منبر بناه كثير بن الصلت التابعي الكبير والمولود فِي الزمن النبوي.
فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي وفيه مخالفة للسنة الصحيحة والْعَمَل المأثور عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فجذبت بثوبه ليبدأ بالصَّلاة قبل الخطبة فجذبَنِي فارتفع على المنبر فخطب قبل الصَّلاة. فقُلْتُ لَهُ ولأصحابه: غيرتم وَاللهِ سنة رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده فأنهم كَانُوا يقدمون الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقَالَ مروان: يَا أَبَا سعيد قَدْ ذهب مَا تعلم من تقديم الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ والله خَيْر مِمَّا لا أَعْلَمُ.
لأن الَّذِي أَعْلَمُ طَرِيقَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي أمرنا باتباعه والتأسي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَقَالَ مروان معتذرًا عَنْ ترك السنة: إن النَّاس لم يكونوا يجلسون لَنَا بعد الصَّلاة فجعلتها قبل الصَّلاة.
فتأمل هَذَا الموقف المشرف الَّذِي وقفه أَبُو سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكيف جذب مروان بثوبه وَقَالَ لَهُ غيرتم: وَاللهِ ولم يخف صولة الإمارة وجاه الحكم وجاهر بالحق وأنكر البدعة وأمر بالسنة على رؤوس الأشهاد من النَّاس فحفظه الله ونصره وأيده وأعزه وصدق الله حيث قَالَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} .(2/141)
وروي أن ضبة بن محصن العنزيّ قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا أَبُو مُوَسى الأشعري أميرًا بالبصرة فكَانَ إِذَا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنشأ يدعو لعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فغاظني ذَلِكَ فقمت إليه فَقُلْتُ: أين أَنْتَ من صاحبه تفضله عَلَيْهِ فصنع ذَلِكَ جُمُعًا.
ثُمَّ كتب إلى عُمَر يشكوني يَقُولُ: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض فِي خطبتي فكتب إليه عُمَر: أن أشخصه إِليَّ فأشخصني إليه فقدمت فضربت عَلَيْهِ الْبَاب، فَقَالَ: من أَنْتَ فَقُلْتُ: أَنَا ضبة. فَقَالَ: لا مَرْحَبًا ولا أهلاً. قُلْتُ: أما المرحب فمن الله، وأما الأَهْل فلا أَهْل لي، ولا مال فبما استحللت يَا عُمَر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته، ولا شَيْء آتيته، فَقَالَ: مَا الَّذِي شجر بينك وبين عاملي، قَالَ: قُلْتُ: الآن أخبرك به، أَنَّهُ كَانَ إذا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أنشأ يدعو لَكَ فغاظني ذَلِكَ منه، فقمت إليه فَقُلْتُ لَهُ: أين أَنْتَ من صاحبه، تفضله عَلَيْهِ، فصنع ذَلِكَ جُمُعًا.
ثُمَّ كتب إليك يشكوني، قَالَ: فاندفع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ باكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ وَاللهِ أوفق منه وأرشد فهل أَنْتَ غافر لي ذنبي يغفر الله لَكَ.
قَالَ: فَقُلْتُ: غفر الله لَكَ. قَالَ: ثُمَّ اندفع بَاكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لليلة من أَبِي بَكْرٍ ويوم، خَيْر من عُمَر وآل عُمَر.
وبعث الحجاج الظَالِم المشهور إلى الحسن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُول: قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدرهم والدينار. قَالَ: نعم. قَالَ: مَا حَمَلَكَ على هَذَا؟ قَالَ: مَا أخذ الله على الْعُلَمَاء من المواثيق {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} قَالَ: يَا حسن أمسك عَلَيْكَ لسانك وَإِيَّاكَ أن يبلغني عَنْكَ مَا أكره فافرق بين رأسيك وجسدك. نعود بِاللهِ من الظلمة وأعوان الظلمة من أمثال الحجاج.
شِعْرًا: ... الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيرَتَهُ ... لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا
ثُمَّ تطاول الزمن ومضت فترة منه فاندرس هَذَا الواجب وعفت أثاره(2/142)
وامحت معالمه وانطوت أخباره وداهن النَّاس بَعْضهُمْ بَعْضًا وجبن النَّاس عَنْ المصارحة للولات فِي المخالفات إِلا نوادر مروا خلال القرون الأولى أما نَحْنُ فصَارَت شجاعتنا وصلابتنا وإنكاراتنا حول مَا يتعلق بالدنيا، أما ما يتعلق بالدين فلَيْسَ عندنا من الإنكار إِلا التلاوم فيما بيننا إِذَا أمن بعضنا من بعض فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم.
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
قُلْ لِي مَتَى سَلِمَ الرَّسُولُ وَصَحْبُهُ ... وَالتَّابِعُون لَهُمْ عَلَى الإِحْسَانِ
مِنْ جَاهِلٍ وَمُعَانِدٍ وَمُنَافِقٍ ... وَمُحَارِبٍ بِالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ
وَتَظُنُّ أَنَّكَ وَارِثًا لَهُمْ وَمَا ... نِلْتَ الأَذَى فِي نُصْرَةِ الرَّحْمَنِ
كَلا وَلا جَاهَدْتَ حَقَّ جِهَادِهِ ... فِي اللهِ لا بِيَدٍ وَلا بِلِسَانِ
مَنَّتْكَ وَاللهِ الْمَحَالَ النَّفْسُ فَاسْـ ... ـتَحْدِثْ سِوَى ذَا الرَّأْيِ وَالْحُسْبَانِ
لَوْ كُنْتَ وَارِثَهُ لآذَاكَ الأَوْلَى ... وَرَثُوا عِدَاهُ بِسَائِرِ الأَلْوَانِ
وقَدْ قيل: إن المنكرات أشبه بجراثيم الأمراض فِي تنقلها وانتشارها، والتأثر بها بإذن الله فَإِنَّ وجدت كفاحًا يحجر عَلَيْهَا فِي مكانها حَتَّى يقتلها ويبيدها سلم مَنْهَا موضعها، وسلم مَنْهَا مَا وراءه، وَإِذَا لم تجد كفاحًا وتركت وشأنها اتسعت دائرتها، وتفشت فِي جميع الأرجَاءَ وقضت على عناصر الحياة وعرضها للفناء والدمار.
ومن هنا كَانَ أثر المنكرات غير خاص بمرتكبيها، وكَانَ الساكتون عَلَيْهَا عاملين على نشرها وإذعانها، وبهَذَا الموقف السلبي يكونون أهلاً لحلول العقاب بِهُمْ وإصابتهم بما يصاب به المباشرون لها.
ومِمَّا يدل على هَذَا قوله تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد فِي آخر رسالة لَهُ(2/143)
تتضمن الحث على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر: قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على للإسلام بما لا حقيقة له.
لقد انطمس المعنى وذهب اللب وما بقي إلا قشور ورسوم اكتفى كثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعلموا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته. أ. هـ.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - فِي حديث جابر: «أوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إلى جبريل عَلَيْهِ السَّلامُ أن أقلب مدينة كَذَا وَكَذَا بأهلها، قَالَ: يَا رب إن فيهم فلانًا لم يعصك طرفة عين. قَالَ: فَقَالَ: أقلبها عَلَيْهِ وعَلَيْهمْ، فَإِنَّ وجهه لم يتمعر فِي ساعة قط» .
وذكر الإمام أحمد عَنْ مالك بن دينار قَالَ: كَانَ حبر من أحبار بَنِي إسرائيل يغشى منزله الرِّجَال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله فرأى بعض بنيه يغمز النساء فِي يوم فَقَالَ: مهلا يَا بَنِي فسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه.
فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانًا الحبر: أني لا أَخْرَجَ من صلبك صديقًا أَبدًا مَا كَانَ غضبك إِلا أن قُلْتَ: مهلا يَا بَنِي.
إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الانتقام إِذَا وقع لَيْسَ هُوَ أخذًا للبرئ بجريمة المذنب كما يظن البعض، وإنما هُوَ أخذًا للمذنب بجريمة ذنبه، فالذنب ذنبان: ذنب يصدر عَنْ شخص، وَهُوَ الْفِعْل نَفْسهُ، وذنب يصدر عَنْ من يعلم هَذَا الذنب، وَهُوَ يقدر على مكافحته.
ثُمَّ هُوَ يبعد نَفْسهُ عَنْ مكافحة هَذَا الذنب طمعًا فِي مال أَوْ مكانة وبذَلِكَ يكون شريكًا فِي الْعَمَل على نشره..أ. هـ.(2/144)
وفي السُّنَن أن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حكم بكفر أَهْل مسجد بالكوفة قَالَ: واحد إِنَّمَا مسيلمة على حق فيما قَالَ: وسكت الباقون فأفتى بكفرهم جميعًا. أ. هـ من الدرر السنية.
قُلْتُ: لأن الواجب عَلَيْهمْ أن يكذبوه ويقولوا لَهُ: كذبت بل هُوَ على باطل فالساكت شريك الفاعل لقدرته على الإنكار باللسان.
وَقَالَ سفيان: إِذَا أمرت بالمعروف شددت ظهر المُؤْمِن وَإِذَا نهيت عَنْ الْمُنْكَر أرغمت أنف المنافق.
شِعْرًا: ... لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ وَرِعٌ ... يُرَاقِبُ الله فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ
وَلَيْسَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لائِمَةٌ ... إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي بَيْتِ إِنْسَانِ
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من حزبك المفلحين، وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم آمرين بالمعروف فاعلين لَهُ، وناهين عَنْ الْمُنْكَر، ومجتنبين لَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ مرضى الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى بعض عماله، أما بعد فإنه لم يظهر الْمُنْكَر فِي قوم قط ثُمَّ لم ينههم أَهْل الصلاح مِنْهُمْ إِلا أصابهم الله بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال النَّاس معصومين من العقوبات والنقمَاتَ مَا قُمِعَ أَهْل الْبَاطِل واستخفى فيهم بالمحارم.
فلا يظهر من أحد محرم إِلا انتقموا ممن فعله فَإِذَا ظهرت فيهم المحارم فَلَمْ ينههم أَهْل الصلاح أنزلت العقوبات من السماء إلى الأَرْض ولعل أَهْل(2/145)
الإدهان أن يهلكوا ومعهم وإن كَانُوا مخالفين لَهُمْ، فإني لم أسمَعَ الله تبارك وتَعَالَى فيما نزل من كتابه عِنْدَ مثلة أهلك بها أَحَدًا نجى أَحَدًا من أولئك أن يكون الناهين عَنْ الْمُنْكَر.
ويسلط الله على أَهْل تلك المحارم إَِنْ هُوَ لم يصبهم بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنقم فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظَالِم من الظَالِم ثُمَّ صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بِاللهِ أن يجعلنا ظالمين، أَوْ يجعلنا مداهنين للظالمين.
وأنه قَدْ بلغني أَنَّهُ قَدْ كثر الفجور فيكم وأمن الفساق فِي مدائنكم وجاهروا بالمحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عَلَيْهِ، كَانَ لا يظهر مثله فِي علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غُيرًا وهم الأعزون الأكثرون من أَهْل الفجور، أي أَكْثَر من أهل الفجور وأعز مِنْهُمْ.
ولَيْسَ بذَلِكَ مضى أمر سلفكم ولا بذَلِكَ تمت نعمة الله عَلَيْهمْ بل كَانُوا {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء} ، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} .
ولعمري إِنْ من الجهاد الغلظة على محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لَهُمْ فيه.
وإن كَانُوا الآباء والأبناء والعشائر، وإنما سبيل الله طاعته.
وَقَدْ بلغني أَنَّهُ بطأ بكثير من النَّاس عَنْ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر، إتقاء التلاوم أن يُقَالَ فلان حسن الخلق، قليل التكلف، مقبل على نَفْسهُ، وَمَا جعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقًا بل أولئك أسؤكم أخلاقًا.
وما أقبل على نَفْسهُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، ولسلم من الكلفة(2/146)
لها بل وقع فيها، وإذ رضي لنفسه من الحال غير مَا أمره الله به أن يكون عَلَيْهِ من الأَمْر بالمعروف، والنهي عَنْ الْمُنْكَر.
وقَدْ دلت ألسنة كثير من النَّاس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وصدق الله تبارك وتَعَالَى، ولا يضرنا ضلالة من ضل إِذَا اهتدينا، ولا ينفعنا هدي من اهتدى إِذَا ضللنا {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وإن مِمَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَنْفُسِ أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يظهر لله محرمًا إِلا انتقموا ممن فعله مِنْهُمْ، من كنتم، ومن كَانُوا، وقول من قَالَ إن لَنَا فِي أنفسنا شغلاً، ولسنا من النَّاس فِي شَيْء.
ولو أن أَهْل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذَلِكَ، مَا عمل لله بطاعة، ولا تناهوا لَهُ عَنْ معصية، ولقهر المبطلون المحقين، فصار النَّاس كالأنعام، أَوْ أضل سبيلاً، فتسلطوا على الفساق من كنتم ومن كَانُوا فادفعوا بحقكم باطلهم، وببصركم عماهم، فَإِنَّ الله جعل للأبرار على الفجار سلطانًا مبينًا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أَئِمَّة.
من ضعف عَنْ ذَلِكَ فليرفعه إلى أمامه فَإِنَّ ذَلِكَ من التعاون على البر والتقوى، قَالَ الله لأَهْل المعاصي: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} .
ولينتهين الفجار أَوْ ليهينهم الله بما قَالَ: {َنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الآيَة.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ أَنَس بن مالك أَنَّهُ دخل على عَائِشَة هُوَ ورجل آخر فَقَالَ لها الرجل: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ حدثينا عَنْ الزلزلة، فقَالَتْ: إِذَا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سمائه، فَقَالَ للأرض: تزلزلي بِهُمْ، فَإِنَّ تابوا ونزعوا وإِلا هدمها عَلَيْهمْ.(2/147)
قَالَ: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ أعذابا لَهُمْ؟ قَالَتْ: بل موعظة ورحمة للمؤمنين ونكالاً وعذابًا وسخطًا على الكافرين. فَقَالَ أَنَس مَا سمعت حديثًا بعد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا أشد فرحًا به مني بهَذَا الْحَدِيث.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا حديثًا مرسلاً: أن الأَرْض تزلزلت على عهد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اسكني فإنه لم يأن لَكَ بعد. ثُمَّ التفت إلى أصحابه، فَقَالَ: «إن ربكم ليستعتبكم فاعتبوه» . ثُمَّ تزلزلت بِالنَّاسِ على عهد عُمَر بن الخطاب، فَقَالَ: أيها النَّاس مَا كَانَتْ هَذِهِ الزلزلة إِلا على شَيْء أحدثتموه، والَّذِي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا.
وفي مناقب عُمَر لابن أبي الدُّنْيَا أن الأَرْض على عهد عُمَر تزلزلت فضرب يده عَلَيْهَا، وَقَالَ: ما لك؟ أما إنها لو كَانَتْ القيامة حدثت أخبارك، سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا كَانَ يوم القيامة فلَيْسَ فيها ذراع ولا شبر إِلا وَهُوَ ينطق.
وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى الأمصار: أما بعد فإن هَذَا الرجف شَيْء يعاقب الله عَزَّ وَجَلَّ به العباد، وَقَدْ كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا فِي يوم كَذَا وَكَذَا فِي شهر كَذَا وَكَذَا فمن كَانَ عنده شَيْء فليتصدق به، فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وقولوا كما قَالَ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقولوا كما قَالَ يونس: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} .
شِعْرًا: ... إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ ... عَلَى نِعَمٍ تَتْرَى عَلَيْنَا سَوَابِغُ
وَقَدْ عَجِزَتْ عَنْ شُكْرِ فَضْلِكَ قُوَّتِي ... وَكُلُّ الْوَرَى عَنْ شُكْرِ جُودِكَ عَاجِزُ
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد(2/148)
الصمد الَّذِي لم يلد ولا يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أَحَد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
قَالَ الله تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، قَالَ: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} فيا عباد الله لَقَدْ خاطبكم بهَذَا الخطاب الرائع ووصفهم بهَذَا الوصف العَظِيم، بأنهم خَيْر أمة أخرجت للناس، وأن مجتمعهم أعلا وأعز مجتمَعَ فِي العَالِم حاضره وماضيه لما اتصفوا به من الصفات الفاضلة، والأَخْلاق العالية، والغيرة الصادقة، على حدوده.
وَهَذَا الوصف وَقْت أن كَانُوا متمسكين بتعاليم دينهم، وكَانَ الإِسْلام وبهاؤه يلوح فِي أَعْمَالُهُمْ، ومعاملاتهم، وأخلاقهم فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا خيانة ولا غدرًا، ولا نميمة، ولا غيبة، ولا قطيعة هدفهم الِقَضَاءِ على المنكرات وإماتتها، وإعزاز المعروف ونشره بين الْمُسْلِمِين، وَهَذَا يدل على قوة إيمانهم، وشدة تمسكهم به ورغبة فِي النجاة التي وعد الله بها الناهي عَنْ السُّوء، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} .
فيا عباد الله تأملوا حالتنا الحاضرة، وحالة سلفنا الكرام الَّذِينَ كَانُوا كُلّ مِنْهُمْ يحب لأخيه مَا يحب لنفسه، ويرحم كبيرهم الصغير ويوقر الصغير الكبير، يتآمرون بالمعروف، ويتنأَهْوَن عَنْ الْمُنْكَر، ينصفون حَتَّى الأعداء من أنفسهم وأولادهم.(2/149)
فالقوي عندهم ضعيف، حَتَّى يستوفي منه الْحَقّ، والضعيف عندهم قوي حَتَّى يؤخذ حقه، إِذَا فقدوا بحثوا عَنْهُ فَإِنَّ كَانَ مريضًا عادوه وَإِذَا مَاتَ شيعوه، وإن احتاج اقرضوه، وواسوه وإن نزل عَلَيْهمْ أكرموه.
عاملين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الْمُؤْمِنِينَ فِي توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إِذَا اشتكى منه عضو تداعى لَهُ سائر الجسد بالسهر والحمى "، وحديث: [المُؤْمِن للمُؤْمِنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا] .
أما نَحْنُ فحالتنا حالة مخيفة جدًا لأننا على ضد مَا ذكرنا من حالة سلفنا ولا حَاجَة إلى تكرار، ألق سمعك وقَلِّبْ نظرك، وأحضر قلبك تَرَى ذَلِكَ بعين بصيرتك وتَرَى مَا يخيفك ويقلق راحتك ويقض مضجعك من المنكرات فِي البيوت والأسواق والبر والبحر، ولا أدري هل بيتك خال من المنكرات التي سأذكرها فهنيئا لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ولا أظنه خال مَنْهَا.
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ ... وَإِلا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيًا
وإن شككت ففتش على نفسك تجد ذَلِكَ، فالْمُنْكَر نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا بل وفي بيوتنا فهل بيتك خال من صورٍ ذوات الأرواح، هل هُوَ خال من المذياع، هل هُوَ خال من التلفزيون، والسينماء والبكمَاتَ ومسجلات الأغاني، هل هُوَ خال من شراب المسكرات، هل مَا يأتي لبيتك إِلا أناس طيبين طاهري الأَخْلاق، هل هُوَ خال من حالقي اللحى هل هُوَ خال من المخنفسين مطيلي أظافرهم تشبهًا باليهود، وهل هُوَ خال من المتشبهين بالمجوس والمتشبهين بالإفرنج، هل هُوَ خال ممن لا يشهدون صلاة الجماعة أَوْ لا يصلون أبدًا، هل هُوَ خال من النساء القاصات لرؤسهن المطيلات لأظفارهن، هل هُوَ خال من شرَّاب أب الخبائث الدخان، ونحوه من المنكرات وأما فِي الأسواق فحدث عَنْ كثرة المنكرات ولا حرج على حد قول المتنبي:
شِعْرًا: ... وقَدْ وَجَدَتُ مَكَانَ الْقَوْلِ ذَا سِعَةِ ... فَإِنْ وَجَدتَ لِسَانًا قَائِلاً فَقُلِ(2/150)
آخر: ... أَحْذِرْكَ أَحْذِرْكَ لا أَحْذِرْكَ وَاحِدَةَ ... عَن الْمِذَايِيعِ وَالتِّلْفَازِ وَالْكُرَةِ
كَذَا الْمَجَلاتِ مَعَ صُحْفٍ وَنَحْوِهما ... مَا حَصَّلُوا مِنْهَا إِلا الإثُمَّ وَالْعَنَتِ
كَمْ عِنْدَهَا ضَاعَ مِنْ وَقْتٍ بِلا ثَمَنٍ ... لَوْ كَانَ فِي الْبِرِّ نِلْتَ الأَجْرَ وَالصِّلَةِ
ومَعَ ذَلِكَ فلا ألسنة تنطق ولا قُلُوب تتمعر إِلا النوادر، الموجود هُوَ التلاوم والقيل والقَالَ، والمداهنة، والجلوس مع أَهْل المعاصي، ومحادثتهم ومباشرتهم وأظهار البشر لَهُمْ وتعظيمهم وتقليدهم فِي الأقوال والأفعال.
فيا عباد الله اتقوا الله واسلكوا طَرِيق سلفكم واصدعوا بالحق وأمروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، قَبْل أَنْ يَحِلَّ بِكم مَا حَل بمن قبلكم، وتضرب قُلُوب بعضكم على بعض، قبل فتنة لا تصيبن الَّذِينَ ظلموا منكم خاصة، قبل أن تُلعنوا كما لعن الَّذِينَ من قبلكم، بسبب عدم تناهيهم عَنْ الْمُنْكَر.
قَالَ الله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .
فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَمِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ الإِسْلاميَّةِ، وَأَقْوَى الأُسُس التي يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمُجْتَمِعَاتِ النَّزِيهَةِ الرَّاقِيَةِ، فَإِذَا لم يكن أمر ولا نهي أَوْ كَانَ ولكن كالمعدوم، فعلى الأَخْلاق والمثل العليا السَّلام، ويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وللمتدينين من الفاسقين والمنافقين.
فيا عباد الله تداركوا الأَمْر قبل أن يفوت الأوان وتعضوا على البنان فقَدْ قَالَ لكم سيد ولد عدنان: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه، فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان» .
عباد الله بالأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر نأمن بإذن الله على الدين من(2/151)
الاضمحلال والتلاشي، ونأمن بإذن الله على الأَخْلاق الفاضلة من الذهاب والانحلال، والحذر والحذر من مخالفة القول للفعل، فتأثير الدعوة بالْفِعْل أقوى بكثير من الأقوال المجردة من الأفعال.
وفي المسند وغيره مِنْ حَدِيثِ عروة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: دخل عليَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ حفزه النفس فعرفت فِي وجهه أن قَدْ حفزه شَيْء، فما تكلم حَتَّى توضأ وخَرَجَ فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أيها النَّاس إن الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لكم: مروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم.
وَقَالَ العمري الزاهد: إن من غفلتك عَنْ نفسك وإعراضك عَنْ الله أن تَرَى مَا يسخط الله فتجاوزه، ولا تنهى عَنْهُ، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر المدلسين الساكتين الَّذِينَ يمرون بالجالسين أمام التلفزيون وعَنْدَ المذياع والكورة بل ولا يأمرونهم بالتي هِيَ أحسن ويمرون بأولادهم فِي فرشهم ولا يوقظونهم للصلاة وكَانَ أمرهم أمر مباح إن شَاءَ أنكر وإن شَاءَ ترك، وَقَالَ: من ترك الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر مخافة من المخلوقين نزعت منه الطاعة، ولو أمره ولده أَوْ بعض مواليه لا استخف بحقه.
وذكر الإمام أحمد عَنْ عُمَر بن الخطاب: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة، قَالَ: إِذَا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها. قُلْتُ: وَمِمَّا يؤيد ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} الآيَة، وإليك هَذَا نظم للأسباب التي بها حياة الْقَلْب فألق لها سمعك وأحضر قلبك تأتيك بعد الدُّعَاء.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وأرزقنا الاستعداد لِذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجد(2/152)
عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وارزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... حَمِدْتُ الَّذِي أَغْنَى وَأَقْنَى وَعَلّمَا ... وَصَيَّرَ شكْرَ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ سُلَّمَا
وَأُهْدِي صَلاةً تَسْتِمَر عَلَى الرِّضَا ... وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ جَمْعًا مُسَلِّمَا
أَعَادَ لَنَا فِي الْوَحْي وَالسُّنَنِ الَّتِي ... أَتَانَا بِهَا نَحْوَ الرَّشَادِ وعَلَّمَا
أَزَالَ بِهَا الأَغْلاف عَنْ قَلْبِ حَائِرٍ ... وَفَتَّحَ أَذَانَا أُصِمَّتْ وَأَحْكَمَا
فَيَا أَيُّهَا الْبَاغِي اسْتنَارَةَ عَقْلِهِ ... تَدَبَّرْ كِلا الْوَحْيَيْنِ وَانْقَدْ وَسَلِّمَا
فَعُنْوَانُ إسْعَادِ الْفَتَى فِي حَيَاتِهِ ... مَعَ اللهِ إِقْبَالاً عَلَيْهِ مُعَظِّمَا
وَفَاقِدْ ذَا لا شَكَّ قَدْ مَاتَ قَلْبُهُ ... أَوْ اعْتَلَّ بِالأَمْرَاضِ كَالرِّينِ وَالْعَمَا
وَآيَةُ سُقْمٍ فِي الْجَوَارِحِ مَنْعُهَا ... مَنَافِعَهَا أَوْ نَقْصُ ذَلِكَ مِثْلَمَا
وَصِحَّتُهَا تَدْرِي بِإتْيَان نَفْعِهَا ... كَنُطْقِ وَبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ وَالنَّمَا
وَعَيْنُ امْتِرَاضِ الْقَلْبِ فقدُ الَّذِي لَهُ ... أُرِيدَ مِن الإِخْلاصِ وَالْحُبِّ فَاعْلَمَا
وَمَعْرِفَةٌ وَالشَّوْق إِلَيْهِ إِنَابَةً ... بِإِيثَارِهِ دُونَ الْمَحَبَّاتِ فَاحْكمَا
وَمُوثِرُ مَحْبُوبٍ سِوَى اللهِ قَلْبُهُ ... مَرِيضٌ عَلَى جُرْفٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَمَا
وَأَعْظَمُ مَحْذُورٍ خَفَى مَوْتُ قَلْبِهِ ... عَلَيْهِ لِشُغْلِ عَنْ دَوَاهُ بِصَدِمَا
وَآيَةُ ذَا هُونُ الْقَبَائِحِ عِنْدَهُ ... وَلَوْلاهُ أَضْحَى نَادِمًا مُتَأَلِّمَا
فَجَامِعَ أَمْرَاضٍ الْقُلُوبِ اتَّبَاعُهَا ... هَوَاهَا فَخَالِفَهَا تَصِحَّ وَتَسْلَمَا
وَمِنْ شُؤْمِهِ تَرْكُ إِغْتِذَاءٍ بِنَافِعٍ ... وَتَرْكُ الدَّوَا الشَّافِي وَعَجْزٌ كِلاهُمَا
إِذَا صَحَّ قَلْبُ الْعَبْدِ بَانَ ارْتِحَالُهُ ... إلى دَارِهِ الأُخْرَى فَرَاحَ مُسَلِّمَا
وَمِنْ ذَاكَ إِحْسَاسُ الْمُحِبِّ لِقَلْبِهِ ... بِضَرْبٍ وَتَحْرِيكٍ إِلَى اللهِ دَائِمَا
إلى أَنْ يُهَنَّا بِالإِنَابَةِ مُخْبِتًا ... فَيَسْكُنُ فِي ذَا مُطْمَئِنًا مُنَعَّمَا(2/153)
.. وَيَصْحَبُ حُرًّا دَلَّهُ فِي طَرِيقِهِ ... وَكَانَ مُعِينَا نَاصِحًا مُتَيَمِّمَا
وَمِنْهَا إِذَا مَا فَاتَهُ الْوِرْدُ مَرَّةً ... تَرَاهُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَأَلِّمَا
وَمِنْهَا اشْتِيَاقُ الْقَلْبِ فِي وَقْت خِدْمَةٍ ... إِلَيْهَا كَمُشَتَدٍّ بِهِ الْجُوعُ وَالظَّمَا
وَمِنْهَا ذِهَابُ الْهَمِّ وَقْتَ صَلاتِهِ ... بِدُنْيَاهُ مُرتَاحَا بِهَا مُتَنَعِّمَا
وَيَشْتَدُّ عَنْهَا بَعْدَهُ لِخُرُوجِهِ ... وَقَدْ زَالَ عَنْهُ الْهَمَّ وَالْغَمُّ فَاسْتَمَا
فَأَكْرِمْ بِهِ قَلْبًا سَلِيمًا مُقَرَّبًا ... إِلَى اللهِ قَدْ أَضْحَى مُحِبًّا مُتَيَّمًا
وَمِنْهَا اجْتِمَاعُ الْهَمِّ مِنْهُ بِرَبِّهِ ... بِمَرْضَاتِهِ يَسْعَى سَرِيعًا مُعَظَّمَا
وَمِنْهَا اهْتِمَامٌ يُثْمِرُ الْحِرْصَ رَغْبَةً ... بِتَصْحِيحِ أَعْمَالٍ يَكُونُ مُتَمِّمَا
بِإِخْلاصِ قَصْدٍ وَالنَّصِيحَةَ مُحْسِنًا ... وَتَقْيِيدِهِ بِالاتِّبَاعِ مُلازِمًا
وَيَشْهَدُ مَعْ ذَا مِنَّةَ الله عِِنْدَهُ ... وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّ مَوْلاهُ دَائِمَا
فَسِتٌ بِهَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ ارْتِدَاءِهُ ... وَيَنْجُو بِهَا مِنْ آفَةِ الْمَوْتِ وَالْعَمَا
فَيَا رَبِّ وَفَّقَنَا إلى مَا نَقُولُهُ ... فَمَا زِلْتَ يَا ذَا الطُّولِ بَرًّا وَمُنْعِمَا
فَإِنِّي وَإِنْ بَلَغْتُ قَوْلَ مُحَقِّقٍ ... أَقِرُّ بِتَقْصِيرِي وَجَهْلِي لَعَلَّمَا
وَلَمَّا أَتَى مِثْلِي إلى الْجَوِّ خَالِيًا ... مِنَ الْعِلْمِ أَضْحَى مُعْلِنًا مُتَكَلِّمَا
كَغَابِ خَلا مِنْ أُسْدِهِ فَتَوَاثَبَتْ ... ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَافِي فِنَا الْحِمَا
فَيَا سَامِعَ النَّجْوَى وَيَا عَالِمَ الْخَفَا ... سَأَلْتُكَ غُفْرَانًا يَكُونُ مَعَمِّمَا
فَأَجْرَأَنِي إِلا اضْطِرَارٌ رَأَيْتُهُ ... تَخَوَّفْتُ كَوْنِي إِنْ تَوَقَّفْتُ كَاتِمَا
فَأَبْدَيْتُ مِنْ جُرَّاهُ مُزْجَى بِضَاعَتِي ... وَأَمَّلْتُ عَفْوًا مِنْ إِلَهِي وَمَرْحَمَا
فَمَا خَابَ عَبْدٌ يَسْتَجِيرُ بِرَبِّهِ ... أَلَحَّ وَأَمْسَى طَاهِرَ الْقَلْبِ مُسْلِمَا
وَصَلُّوا عَلَى خَيْرِ الآنَامِ مُحَمَّدٍ ... كَذَا الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَامَتْ السَّمَا
والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.(2/154)
" فَصْلٌ "
اعلم وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه وجعلنا وَإِيَّاكَ وإياهم من المصدقين لله فيما أخبروا به وحيث أَنَّهُ قَدْ كثر فِي زمننا المنكرون للجن وغالبهم يستندون فِي إنكارهم بأن طَرِيق معرفة وجودهم هِيَ النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس وأنهم لم يروا جنَّا ولم يسمعوهم ولم يمسوهم.
ولكن عدم النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس أَوْ عدم وصول أحد الحواس الخمس إلى وجود الجن لا يقوم دليلاً على عدم وجودهم لا نقلاً ولا عقلاً أما العقل فإنه يجوز وجود كائن حي غير مرئي بالعين بدون واسطة المجهر المكتشف أخيرًا فَإِنَّ المكروب كائن حي خلقه الله وَهُوَ كثير فِي طبقات الجو ولا يمكن رؤيته بالعين.
ومن لم يقر ويعتقَدْ مَا غاب عَنْ سمعه ولمسه لزمه إنكار الروح والآلام والعقل والجوع والظماء لأنها لَيْسَتْ مرئية ولا مسموعة ولا ملموسة ولا مذوقة وأما النقل فكثير فمن الأدلة قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وَقَالَ الله تَعَالَى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه أن الجن استمعوا لقراءة الْقُرْآن فآمنوا به وصدقوا لما قَالَ وتلا وانقادوا لَهُ كما فِي قوله تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} الآيات.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} . وَهَذَا من حكمة الله ولطفه بعباده البشر فلو كشف لَنَا عَنْ حقيقتهم وسلط نظرنا المحدود على ذواتهم لما أمكن وَاللهُ أَعْلَمُ أن يعيش الإِنْسَان معهم وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانٌ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} .
وَقَالَ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} . وَقَالَ فِي من سخر لسُلَيْمَانٌ: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ(2/155)
الْمَسِّ} . قَالَ ابن عَبَّاس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق» . رَوَاهُ ابْن أَبِي حَاتِم، قَالَ: وروي عَنْ عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أَنَس وقتادة ومقاتل بن حيان نَحْوَ ذَلِكَ إلى غير ذَلِكَ من الآيات.
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الْحَقّ واتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كل داء. واغفر لنا ولوالديْنا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آل وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
أما السنة فورد عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إن عفريتًا من الجن تفلت عليَّ البارحة ليقطع علي الصَّلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حَتَّى تصبحوا وتنظروا إليه فذكرت قول أخي سُلَيْمَانٌ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} » .
ورد أن صفية زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جاءت تزوره وَهُوَ معتكف فقام معها مودعًا حَتَّى بلغت باب المسجد فرآه رجلان من الأنصار فسلما عَلَيْهِ فَقَالَ: على رسلكما إِنَّمَا هِيَ صفية بنت حيي» . فقالا: سبحان الله يَا رَسُول اللهِ وكبر عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يبلغ من الإِنْسَان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف فِي قلوبكما شَيئًا» .(2/156)
وَهَذَا صريح واضح فِي أن الشيطان يخترق الجسم البشري ويسري فيه كما يسري الدم ومَعَ خفائه فقَدْ التزم الشيطان لعنه الله فِي عداوته سبعة أمور: أربعة فِي قوله تَعَالَى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} وثلاثة مَنْهَا فِي قوله تَعَالَى:
{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .
وَهَذَا الإلتزام يبين أَنَّهُ عدو متظاهر بالعداوة ولِذَلِكَ فصل الله عداوته باشتمالها على ثلاثة أشياء: (السُّوء) وَهُوَ متنازل جميع المعاصي من الْقَلْب والْجَوَارِح، (والفحشاء) وهي مَا عظم جرمه وذنبه كالكبائر التي بلغت الغاية فِي الفحش وَذَلِكَ كالزنا واللواط. والقول على الله بلا علم فِي أسمائه وصفاته وشرعه.
وروى مُسْلِم أن فتى من الأنصار قتل حية فِي بيته فمَاتَ فِي الحال فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -:" إن فِي الْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان» .
وهكَذَا تكررت الروايات الصحيحة أن الجن كَانُوا بالْمَدِينَة وَقَدْ أسلم بَعْضهُمْ وروى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي اله عَنْهُ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا من مولود يولد إِلا نخسه الشيطان إِلا ابن مريم وأمه» .
وروى مُسْلِم قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا منكم من أحد إِلا وكل الله به قرينه من الجن "، فرأى الصحابة أن قوله - صلى الله عليه وسلم - عام فَقَالُوا يَا رَسُول اللهِ وَإِيَّاكَ، أي حَتَّى أَنْتَ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «وإياي لكن الله قَدْ أعانني عَلَيْهِ فأسلم فلا يأمرني إِلا بالْخَيْر» .
وروى الْبُخَارِيّ فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: وكلني رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -(2/157)
بحفظ زكاة رمضان فأتاني أت فجعل يحثو من الطعام فأخفته وقُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دعني فإني محتاج ولي عيال وبي حَاجَة شديدة.
قَالَ: فخليت عَنْهُ. فأصبحت فَقَالَ رَسُول اللهِ: «يَا أَبَا هريرة مَا فَعَلَ أسيرك البارحة» ؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُول اللهِ شكا حَاجَة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قَالَ: «أما أَنَّهُ كذبك وسيعود» . فرصدته فَجَاءَ يحثو من الطعام فعل ذَلِكَ ثلاث ليال كُلّ ذَلِكَ والرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" أما أَنَّهُ قَدْ كذبك وسيعود» .
فَلَمَّا كَانَ فِي الثالثة قُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهَذَا آخر ثلاث مرات تزعم إِنَّكَ لا تعود، فَقَالَ: دعني أُعْلَمُك كلمَاتٍ ينفعك الله بها. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى ختم الآيَة فإنه لن يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أما أَنَّهُ صدقك وَهُوَ كذوب. تعلم من تخاطب مُنْذُ ثلاث ليال يَا أَبَا هريرة» . قُلْتُ: لا. قَالَ: «ذَلِكَ شيطان» .
عن أبي السائب أَنَّهُ دخل على أبي سعيد الخدري فِي بيته قَالَ: فوجدته يصلي فجلست أتنظره حَتَّى يقضي صلاته فسمعت تحريكًا فِي عراجين فِي ناحية البيت فالتفت فَإِذَا حية فوثَبِّتُ لأقتلها فأشار إليَّ أن أجلس فجلست فَلَمَّا انصرف أشار إلى بيت فِي الدار فَقَالَ: أتَرَى هَذَا البيت؟ فَقُلْتُ: نعم. فَقَالَ: كَانَ فيه فتى منَّا حديث عهد بعرس قَالَ: فخرجنا مَعَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فكَانَ ذَلِكَ الفتى يستأذن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النَّهَارَ فيرجع إلى أهله.
فاستأذنه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خذ عَلَيْكَ سلاحك؛ فإٍني أخشى عَلَيْكَ قريظة» . فأخذ الرجل سلاحه ثُمَّ رجع فَإِذَا امرأته بين البابين قَائِمَة فأهوى(2/158)
إليها بالرمح ليطعَنْهَا به فأصابته، فقَالَتْ: اكفف عَلَيْكَ رمحك وادخل البيت حَتَّى تنظر مَا الَّذِي أخرجني فَإِذَا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثُمَّ خَرَجَ فركزه فِي الدار فاضطربت عَلَيْهِ فما يدري أيهما كَانَ أسرع موتًا الحية أم الفتى قَالَ: فجئنا إلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذَلِكَ لَهُ وقلنا: ادع الله يحييه لَنَا فَقَالَ: «استغفروا لصاحبكم» .
ثُمَّ قَالَ: «إن بالْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان» . وفي رواية عَنْهُ فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن لهذه البيوت عوامر فَإِذَا رأيتم شَيْئًا مَنْهَا فحرجوا عَلَيْهَا ثلاثة فَإِنَّ ذهب وإِلا فاقتلوه فإنه كافر» . وَقَالَ لَهُمْ: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا نودي بالصَّلاة أدبر الشيطان وله ضراط حَتَّى لا يسمَعَ التأذين فَإِذَا قضي النداء أقبل حَتَّى إِذَا وثب بالصَّلاة أدبر حَتَّى إِذَا قضي التثويب أقبل حَتَّى يخطر بين المرء ونفسه يَقُولُ: اذكر كَذَا واذكر كَذَا - لما لم يذكر من قبل - حَتَّى يظلّ الرجل مَا يدري كم صلى» . متفق عَلَيْهِ. (التثويب) : الإقامة، يخطر: يوسوس.
وعن ابن مسعود رصي الله عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رجل نام حَتَّى أصبح قَالَ: «يعقَدْ الشيطان على قافية رأس أحدكم إِذَا هُوَ نام ثلاث عقَدْ يضرب على كُلّ عقدة عَلَيْكَ ليل طويل فارقَدْ، فَإِنَّ استيقظ فذكر الله تَعَالَى انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كُلّهَا فأصبح نشيطًا طيب النفس وإِلا أصبح خبيث النفس كسلان» . متفق عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين(2/159)
الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وروى مُسْلِم عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زَادَ إخوانكم من الجن» . وورد فِي السنة الصحيحة باللفظ الصريح: أكل الشيطان، وشربه فقَدْ ورد: «إِذَا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله» . وَهَذَا لا يحتاج إلى شرح، ولا تأويل لوضوحه.
وحديث الوادي الَّذِي نام فيه رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ زيد بن أسلم قَالَ: عرس رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطَرِيق مَكَّة، ووكل بلالاً يوقظهم للصلاة، فرقَدْ بلال ورقدوا، حَتَّى استيقظوا وَقَدْ طلعت عَلَيْهمْ الشمس، فاستيقظ القوم قَدْ فزعوا، فأمرهم رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا، حَتَّى يخرجوا من ذَلِكَ الوادي. وَقَالَ: «هَذَا واد فيه الشيطان» . فركبوا حَتَّى خرجوا من ذَلِكَ الوادي ثُمَّ أمرهم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا، وأن يتوضأوا وأمر بلالاً أن ينادي بالصلاة وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثم انصرف، وَقَدْ رأى من فزعهم، فَقَالَ: «أيها النَّاس إن الله قبض أرواحنا ولو شَاءَ لردها إلينا فِي حين غير هَذَا، فَإِذَا رقَدْ أحدكم عَنْ الصَّلاة أَوْ نسيها، ثُمَّ فزع إليها فليصلها كما كَانَ يصليها فِي وقتها» .
ثُمَّ التفت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى أَبِي بَكْرٍ الصديق فَقَالَ: «إن الشيطان أتى بلالاً وَهُوَ قائم يصلي فأجمعه، ثُمَّ لم يزل يهديه كما يهدى الصبي حَتَّى نام، ثُمَّ دعا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أشهد إِنَّكَ رَسُول اللهِ. رَوَاهُ مالك فِي الموطأ مرسلاً.(2/160)
وعن ابن مسعود قَالَ: خَرَجَ رجل من الإنْس فلقيه رجل من الجن فَقَالَ: هل لَكَ أن تصارعني، فَإِنَّ صرعتني علمتك آية إِذَا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه، فَقَالَ: إني أراك ضئيلاً، كَانَ ذراعيك ذرعا كلب، أهكَذَا أنتم أيها الجن، أم أَنْتَ من بينهم. قَالَ: إني فيهم لضليع فعاودني. فعاوده فصرعه الإنسي قَالَ: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرؤها أحد إِذَا دخل بيته إِلا خَرَجَ الشيطان وله خجيج كخجيج الحمار. فَقِيلَ لابن مسعود: أهو عُمَر؟ قَالَ: من عَسَى أن يكون إِلا عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومن ذَلِكَ مَا فِي مجيئ الشيطان فِي صورة شيخ نجدي فِي دار الندوة.
ومن قصتها أنه اجتمع قريش للتشاور فِي أمر رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ أَهْل العلم بالأخبار هاجر أصحاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مثل عُمَر بن الخطاب، وابنه وأخيه زيد بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، عم رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن حارثة وغيرهم.
وأقام رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد أصحابه ينتظر الأذن فِي الهجرة، ولم يتخلف معه بمَكَّة أحد من المهاجرين، إِلا من حبس، أَوْ فتن، إِلا أَبُو بَكْرٍ الصديق، وعلي بن أبي طالب وكَانَ أَبُو بَكْرٍ كثيرًا مَا يستأذن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيَقُولُ لَهُ: لا تعجل لعل الله أن يجعل لَكَ صاحبًا، فيطمَعَ أَبُو بَكْرٍ أن يكون هُوَ.
ولما رأت قريش أن لرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شيعة، وأصحابًا من غير بلدهم، ورأوا خروج المهاجرين إليهم، حذروا خروج رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعلِموا أَنَّهُ قَدْ اجمَعَ لحربهم فاجتمعوا فِي دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وكَانَتْ قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها يتشاورون فيما يصنعون برَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حين خافوه.
قَالَ ابن عَبَّاس: لما خرجوا فِي الْيَوْم الَّذِي اتعدوا لَهُ، كَانَ ذَلِكَ الْيَوْم(2/161)
يسمى يوم الرحمة، فاعترض إبلَيْسَ فِي هيئة شيخ جليل، عَلَيْهِ بتلة أي كساء غليظ، فوقف على باب الدار، فَلَمَّا رأوه قَالُوا: من الشَّيْخ؟ قَالَ: شيخ من أَهْل نجد، سمَعَ بالَّذِي اتعدتم لَهُ، فَجَاءَ ليسمَعَ مَا تقولون، وعَسَى أن لا يعدكم منه رأيًا ونصحًا. قَالُوا: فأدخل.
وقَدْ اجتمَعَ أشراف قريش، فَقَالَ بَعْضهُمْ لبعض: إنْ هَذَا الرجل قَدْ كَانَ من أمره مَا قَدْ رأيتم، وإنَا وَاللهِ مَا نأمنه عَنْ الوثوب عَلَيْنَا، فأجمعوا فيه رأيًا، فَقَالَ قائل: احبسوه فِي الحديد وأغلقوا عَلَيْهِ بابًا، ثُمَّ تربصوا به مَا أصاب أمثاله من الشعراء من الموت. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي، وَاللهِ لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره إلى أصحابه فيثبوا عليكم فينزعوه منكم، مَا هَذَا لكم برأي فانظروا فِي غيره.
فتشاوروا، ثُمَّ قَالَ قائل مِنْهُمْ: نخرجه عَنْ بلادنا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ فوَاللهِ لا نبالي أين ذهب. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قُلُوب الرِّجَال بما يأتي به، وَاللهِ مَا هُوَ رأي.
فَقَالَ: أَبُو جهل: وَاللهِ لي رأيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحكم؟ قَالَ: أرى أن نأخذ من كُلّ قبيلة شابًا، ثُمَّ نعطي كُلّ فتى سيفًا، ثُمَّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فتستريحوا منه فَإِنَّهُمْ إِذَا فعلوا ذَلِكَ تفرق دمه فِي القبائل جميعًا، فَلَمْ يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا بالعقل فعقلنا لَهُمْ.
فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: هَذَا هُوَ الرأي الَّذِي لا أرى غيره. فتفرق القوم على ذَلِكَ، فأتى جبريل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: لا تبيت اللَّيْلَة على فراشك، فَلَمَّا كَانَ عتمة من الليل، اجتمعوا على بابه يرقبونه حَتَّى ينام فيثبون عَلَيْهِ.(2/162)
فَلَمَّا رأى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مكانهم قَالَ لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج بردائي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك شَيْء تكرهه مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجتمعوا على بابه قَالَ أَبُو جهل: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتوه على أمره كنتم ملوك الْعَرَب، والعجم ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم وجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كَانَ فيكم ذبح، ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم، ثُمَّ جعلت لكم نار تحرقون فيها.
قَالَ: وخَرَجَ عَلَيْهمْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من تراب ثُمَّ قَالَ: «نعم أَنَا أَقُول ذَلِكَ أَنْتَ أحدهم» . فأخذهم الله على أبصارهم عَنْهُ فلا يرونه وجعل ينثر ذَلِكَ التُّرَاب على رؤوسهم، وَهُوَ يتلوا عَلَيْهمْ {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} ، ولم يبق مِنْهُمْ رجلاً إِلا وَقَدْ وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته.
قَالَ: فوضع كُلّ واحد مِنْهُمْ يده على رأسه فَإِذَا عَلَيْهِ تراب، ثُمَّ جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش مُسجَّى ببرد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: وَاللهِ إن هَذَا لمُحَمَّد نائمًا فِي برده، فَلَمْ يبرحوا كَذَلِكَ حَتَّى أصبحوا.
فقام علي عَنْ الفراش فَقَالُوا: وَاللهِ لَقَدْ صدقنا الَّذِي كان حدثنا وأنزل الله فِي ذَلِكَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والشاهد هُوَ مجيء الشيطان ورؤيته وكلامه وَهُوَ أَبُو الجن لعنه الله.
ومن ذَلِكَ صياح إبلَيْسَ يوم أحد أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قتل، فَلَمْ يشك فِي ذَلِكَ، حَتَّى طلع رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بين السعدين، قَالَ الراوي نعرفه بكتفيه إِذَا(2/163)
مشى قَالَ: ففرحنا حَتَّى كأنه لم يصبنا مَا أصابنا، فاؤمأ نحونا.. الحديث.
ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا استيقظ أحدكم من منامه فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فَإِنَّ الشيطان يبيت على خياشيمه» . متفق عَلَيْهِ.
ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أبي سعيد الخدري أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى صلاة الصبح وَهُوَ خلفه فقرأ فالتبست عَلَيْهِ القراءة فَلَمَّا فرغ من صلاته قَالَ: لو رأيتموني وإبلَيْسَ فأهويتُ بيدي فما زلت اخنقه حَتَّى وجدتُ برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سُلَيْمَانٌ أصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان الْمَدِينَة» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": وَقَالَ شيخ الإِسْلام والجن يتصورون فِي صور الإنس، والبهائم فيتصورون فِي صور الحيات، والعقارب، وغيرها، وفي صور الإبل، والبقر والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بَنِي آدم، كما أتى الشيطان قريشًا فِي صورة سراقة بن مالك بن قشم، لما أرادوا الْخُرُوج إلى بدر، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله: {وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا فِي كتابه مكائد الشيطان أن رجلاً من أَهْل الشام من أمراء معاوية غضب ذات ليلة على ابنه، فأَخْرَجَهُ من منزله فخَرَجَ الغلام لا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَجَلَسَ وَرَاء الْبَابِ مِنْ خَارِج، فَنَامَ سَاعَة ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَبَابه يَخْمِشَهُ هِر أَسْوَدٌ بَرِّيٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهِّرُ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِمْ. فَقَالَ لَهُ البريء: وَيْحَكَ افْتَحْ. فَقَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ائْتِنِي بِشَيْء أَتَبَلَّغُ بِهِ، فَإِنِّي جَائِعٌ وَأنَا تَعْبَانٌ، هَذَا أَوَان مَجِيء مِنَ الْكُوفَةِ وَقَدْ حَدَثَ اللَّيْلَة(2/164)
حَدَثٌ عَظِيم قُتِلَ عَلَيٌ بِن أَبِي طَالِبٌ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْهِّرُ الأَهْلِيُ: وَاللهِ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء هَا هُنَا، إِلا وَقَدْ ذَكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، غَيْر سفود كَانُوا يَشْوُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِهِ فَجَاءَهُ فَجَعَلَ يَلْحَسَهُ حَتَّى أَخَذَ حَاجَتَهُ وَانْصَرَفَ وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْغُلامِ وَسَمِعٍ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ، فَقَالَ: مَنْ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَفَتَحَ فَقَصَ عَلَيْهِ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَنَامٌ هَذَا؟ قَالَ: لا وَاللهِ. قَالَ: وَيْحَكَ، فَأَصَابَكَ جُنُونٌ بِعْدِي؟ قَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ الأَمْر كَمَا وَصَفْتَ لَكَ.
فَاذْهَبْ إِلَى مُعَاوِيَة الآن فاتخذ عِنْدَهُ بِمَا قُلْتُ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى مُعَاوِيَة فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ مَا ذَكَرَ لَهُ وَلَدُهُ، فَأَرَّخُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، وَلَمَّا جَاءَتْ الْبردُ وَجَدُوا مَا أَخْبَرهمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، ولما جاءت البرد وجدوا مَا أخبروهم بِهِ مُطَابِقًا لِمَا كَانَ خَبَّرَ بِهِ الْغُلامُ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَعَدَ بْن عُبَادَة بَالَ بِجحر بِالشَّامِ ثُمَّ اسْتَلْقَى مَيِّتًا فَسُمِعَ مَنْ بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ قَائِلاً يَقُولُ: نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجَ سَعْد بْن عُبَادَة، رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِي فُؤَادَهُ، فَحَفِظُوا ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَعْدُ فَوَجَدُوهُ الْيَوْم الَّذِي سُمِعَ فِيهِ الْخَبَرَ. وَاللهُ اعْلَمْ.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التأمل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانهوألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتيين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/165)
" فَصْلٌ "
وَقَالَ شيخ الإِسْلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين، وخطابهم، وتصرفهم مَا هُوَ من أسباب ضلال بَنِي آدم، وجعل القبور أوثانًا، هُوَ أول الشرك، ولهَذَا يحصل عِنْدَ القبور لبعض النَّاس من خطاب يسمعه، وشخص يراه، وتصرف عجيب، مَا يظن أَنَّهُ من الميت.
وقَدْ يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قَدْ انشق، وخَرَجَ منه الميت، وكلمه وعانقه وَهَذَا يرى عِنْدَ قبور الأَنْبِيَاء وغيرهم، وإنما هُوَ شيطان فَإِنَّ الشيطان يتصور بصور الإنس، ويدعي أحدهم أَنَّهُ النَّبِيّ فلان أَوْ الشَّيْخ فلان وَيَكُونُ كّاذِبًا فِي ذَلِكَ.
وفي هَذَا الْبَاب من الوقائع مَا يضيق هَذَا الموضع عَنْ ذكره وهي كثيرة جدًا، والجاهل يظن أن ذَلِكَ الَّذِي رآه قَدْ خَرَجَ من القبر وعانقه أَوْ كلمه هُوَ المقبور أَوْ النَّبِيّ، أَوْ الصالح، أَوْ غيرهما، والمُؤْمِن العَظِيم يعلم أَنَّهُ شيطان، ويتبين ذَلِكَ بأمور:
أحدهما أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فَإِذَا قرأها تغيب ذَلِكَ الشخص، أَوْ ساخ فِي الأَرْض، أَوْ احتجب، ولو كَانَ رجلاً صالحًا أَوْ ملكًا أَوْ جنيًا مؤمنًا لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشيطان كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: اقرأ آية الكرسى إذا أويت فراشك، فإنه لا يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح، فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «صدقك وَهُوَ كذوب» .
وَمِنْهَا أن يستعيذ بِاللهِ من الشياطين.
وَمِنْهَا أن يستعيذ بالعوذة الشرعية، فَإِنَّ الشياطين كَانَتْ تعرض للأنبياء فِي حياتهم وتريد أن تؤذيهم، وتفسد عبادتهم كما جاءت الجن إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بشعلة من نار تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة، التي تضمنها(2/166)
الْحَدِيث المروي عَنْ أبي التياح أَنَّهُ قَالَ: سأل رجل عَبْد الرَّحْمَنِ بن حبيش، وكَانَ شيخًا كبيرًا قَدْ أدرك النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: كيف صنع رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حين كادته الشياطين؟ قَالَ: تحدرت عَلَيْهِ من الشعاب، والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
قَالَ: فرعب رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قل مَا أَقُول، قَالَ: قل: أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر مَا خلق، وذرأ وبرأ ومن شر مَا ينزل من السماء، ومن شر مَا يعرج فيها، ومن شرما يخَرَجَ من الأَرْض، ومن شر مَا ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنَّهَارَ، ومن شر كُلّ طارق يطرق إِلا طارقًا يطرق بخَيْر يَا رحمن.
قَالَ: فطفئت نارهم، وهزمهم الله عَزَّ وَجَلَّ. وفي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي الدرداء أَنَّهُ قَالَ: قام رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فسمعناه يَقُولُ: «أعوذ بِاللهِ منك» . ثُمَّ قَالَ: أعلنك بلعنة الله ثلاثًا، وبسط يده يتناول شَيْئًا، فَلَمَّا فرغ من صلاته، قلنا: يَا رَسُول اللهِ سمعناك تَقُول شَيْئًا فِي الصَّلاة لم نسمعك تَقُول قبل ذَلِكَ، ورأيناك بسطت يدك.
قَالَ: إن عدو الله إبلَيْسَ جَاءَ بشهاب من نار، ليجعله فِي وجهي، فَقُلْتُ: أعوذ بِاللهِ منك ثلاث مرات، ثُمَّ قُلْتُ: ألعَنْكَ بلعنة الله التامة فاستأخر، ثُمَّ أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سُلَيْمَانٌ لأصبح موثقًا يلعب به ولدان الْمَدِينَة.
وكثيرًا من العباد يرى الكعبة تطوف به ويرى عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ صورة عظيمة، ويرى أشخاصًا تصعد، وتنزل فيظنها الْمَلائِكَة ويظن أن تلك الصورة هِيَ الله، تَعَالَى وتقدس، وَيَكُون ذَلِكَ شيطانًا.
وقَدْ جرت هَذِهِ الْقِصَّة لغير واحد من النَّاس، فمِنْهُمْ من عصمه الله(2/167)
وعرف أَنَّهُ الشيطان، كالشَّيْخ عبد القادر فِي حكايته المشهورة، حيث قَالَ: كنت مرة فِي العبادة فرَأَيْت عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ نور، فَقَالَ لي: يَا عبد القادر، أَنَا ربك، وَقَدْ حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ الله لا إله إِلا هُوَ، أخسأ يَا عدو الله. قَالَ: فتمزق ذَلِكَ النور، وصار ظلمة، وَقَالَ: يَا عبد القادر نجوت مني بفقهك فِي دينك، وعلمك ومنازلتك، فِي أحوالك، لَقَدْ فتنت بهذه الْقِصَّة سبعين رجلاً.
فَقِيلَ لَهُ: كيف علمت أَنَّهُ الشيطان، قَالَ: بقوله: لي حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك، وَقَدْ علمت أن شريعة مُحَمَّد لا تنسخ ولا تبدل، ولأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ربك، ولم يقدر أن يَقُولُ أنا الله الَّذِي لا إله إِلا أَنَا. ومن هؤلاء من اعتقَدْ أن المرئي هُوَ الله وصار هُوَ وأصحابه يعتقدون انهم يرون الله تَعَالَى، وفي اليقظة، ومستندهم مَا شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذَلِكَ هُوَ الشيطان.
وَهَذَا قَدْ وقع كثيرًا لطوائف من جهال العباد يظن أحدهم أَنَّهُ يرى الله تَعَالَى بعينه فِي الدُّنْيَا لأن كثيرًا مِنْهُمْ رأى مَا ظن أَنَّهُ الله وإنما هُوَ شيطان.
وكثير مِنْهُمْ من رأى من ظن أَنَّهُ نبي أَوْ رجل صالح أَوْ الخضر وكَانَ شيطانًا قَالَ: وَمِنْهُمْ من يظن أَنَّهُ ملك والملك يتميز عَنْ الجني بأمور كثيرة والجن فيهم الكفار والفساق والجهال وفيهم المؤمنون المتبعون لمُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فكثيرًا ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة وإنما هم من الجن والشياطين.
قَالَ: والشياطين يوالون من يفعل مَا يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان فتَارَّة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة، ليكاشف بها، وتَارَّة يؤذون من يريد أذاه، بقتل، أَوْ تمريض، ونحو ذَلِكَ.
وتَارَّة يجلبون لَهُ مَا يريد، من الإنس وتَارَّة يسرقون لَهُ مَا يسرقونه من(2/168)
أموال النَّاس من نقَدْ وطعام، وثياب وغير ذَلِكَ، فيعتقَدْ أَنَّهُ من كرامَاتَ الأَوْلِيَاء، وإنما يكون مسروقًا.
وتَارَّة يحملونه فِي الهواء فيذهبون به إلى مكَانَ بعيد، فمِنْهُمْ من يذهبون به إلى مَكَّة عشية عرفة، ويعودون به فيعتقَدْ هَذَا كرامة، مَعَ أَنَّهُ لم يحج حج الْمُسْلِمِين لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ومَعَ أن هَذَا من أعظم الضلال. انتهى باختصار.
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" موعظة "
" فِي التَّحْذِيْر عَنْ الانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَاتِهَا وَشَهَواتِهَا "
عباد الله إن من نظر إلى الدُّنْيَا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء وعيشها نكد، وصفوها كدر وأهلها مَنْهَا على وجل إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة أَوْ مَنيَّة قاضية.
مسكين من اطمأن ورضي بدار حلالها حساب، وحرامها عقاب، إن أخذه من حلال حوسب عَلَيْهِ، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فِي الدُّنْيَا فتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن التفت إليها ونظرها أعمته.
شِعْرًا: (لَوْ كُنْتُ رَائِدَ قَوْمٍ ظَاعِنِينَ إلى ... دُنْيَاكَ هَذِي لَمَا أُلْفِيتَ كَذَّابَا)
(لَقُلْتُ تِلْكَ بَلاءٌ نَبْتُهَا سَقَمٌ ... وَمَاؤُهَا الْعَذْبُ سُمٌ لِلْفَتَى ذَابَا)(2/169)
وَكَمْ كشف للسامعين عَنْ حَقِيقَة الدُّنْيَا وبين لَهُمْ قصر مدتها وانقضاء لذتها بما يضرب من الأمثال الحسية، قَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَيَّزْتَ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذَا الْمَلاحَةُ بِالْقَبَاحَةِ لا تَفِي
حَلَفَتْ لَنَا أن لا تَخُونَ عُهُودَنَا ... فَكَأَنَّهَا لَنَا أَنْ لا تَفِي
آخر: ... أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةٌ أَيْكَةٍ ... إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ
هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إِلا فَجَائِعًا ... عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَاتُ إِلا مَصَائِبُ
فَكَمْ سَخِنَتْ بِالأَمْسِ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ ... وَقَرَّتْ عُيُونٌ دَمْعُهَا الآنَ سَاكِبُ
فَلا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعبرةٍ ... عَلَى ذَاهِب مِنْهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبُ
آخر: ... لِلْمَوْتِ فِينَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةً ... مَنْ فَاتَهُ الْيَوْمَ سَهْمٌ لَمْ يَفُتْهُ غَدَا
مَا ضَرَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَغَدرَتَها ... أَنْ لا يُنَافِسَ فِيهَا أَهْلَهَا أَبَدَا
آخر: ... لَحَى الله ذِي الدُّنْيَا مَرَادًا وَمَنْزِلاً ... فَمَا أَغْدَرَ الْمَثْوَى وَمَا أَوْبَأ الْمَرْعَى
تَدَلَّلُ كَالْحَسْنَاءِ فِي حُسْنِ وَجْهِهَا ... وَلَكِنَّهَا فِي قُبْح أَفْعَالِهَا أَفْعَى
نَرَى أَنَّنَا نَسْعَى لِخَيْرٍ نَنَالُهُ ... وَقَدْ وَطِئَتْ أَقْدَامُنَا حَيَّةً تَسْعَى
" فَصْلٌ "
شرح لَنَا العليم الحكيم فِي هَذِهِ الآيَة المتقدمة حال الدُّنْيَا التي إفتتن النَّاس بها الَّذِينَ قصر نظرهم وبين أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عَنْ الافتنان بها والانهماك فِي طلبها وقتل الوَقْت فِي تحصيلها بأنها لعب لا ثمرة فيه سِوَى التعب، ولهو تشغل صاحبها وتلهيه عما ينفعه فِي آخرته،(2/170)
وزينة لا تفيد المفتون بها شرفًا ذاتيًا كالملابس الجميلة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة الواسعة، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ومباهات بكثرة الأموال والأولاد وعظم الجاه.
ثُمَّ أشار جل شأنه إلى أنها مَعَ ذَلِكَ سريعة الزَوَال، قريبة الاضمحلال، كمثل غيث راق الزراع نباته الناشئ به، ثُمَّ يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى مَا قدره الله لَهُ فسرعان مَا تراه مصفرًا متغيرًا ذابلاً بعدما رأيته أخضر ناضرًا، ثُمَّ يصير من اليبس هَشِيمًا متكسرًا، ففيه تشبيه جميع مَا فِي الدُّنْيَا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل ويتلاشى فِي أقل من سنة.
إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها، وبعد مَا بين جَلَّ وَعَلا حقارة الدُّنْيَا وسرعة زوالها تزهيدًا فيها، وتنفيرًا وتحذيرًا من الانهماك فِي طلبها أشار إلى فخامة شأن الآخِرَة وفظاعة مَا فيها من الآلام وعظم مَا فيها من اللذات ترهيبًا من عذابها الأَلِيمِ، وترغيبًا فِي تحصيل النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وَالنَّاسُ فِيهَا قسمان فطناء قَدْ وفقهم الله فعلموا أنها ظِلّ زائل ونعيم حائل وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نعم فِي طيها نقم، وعرفوا أنها حياة فانية، وأنها معبر وطَرِيق إلى الحياة الباقية، فرضوا مَنْهَا باليسير، وقنعوا مَنْهَا بالقليل، فاستراحت قُلُوبهمْ من همها وأحزانها واستراحت أبدانهم من نصبها، وعنائها، وسلم لَهُمْ دينهم، وكَانُوا عِنْدَ الله هم المحمودين، فَلَمْ تشغلهم دنياهم عَنْ طاعة مولاهم.
جعلوا النفس الأخَيْر وَمَا وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدُّنْيَا، وإيمانهم سالم لَهُمْ وَمَا الَّذِي يبقى معهم مَنْهَا فِي قبورهم، وَمَا الَّذِي يتركونه لأعدائهم فِي الدُّنْيَا، ومن لا يغنيهم من الله شَيْئًا {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} ، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} ،(2/171)
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} ويبقى عَلَيْهمْ وبال مَا جمعوا وَمَا عمروا فِي غير طاعة الله. أدركوا كُلّ هَذَا فتأهبوا للسفر الطويل وأّعدوا الجواب للحساب، وقدموا الزَّاد للمعاد وخَيْر الزَّاد التَّقْوَى، فطُوبَى لَهُمْ خافوا فآمنوا وأحسنوا ففازوا وأفلحوا. وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء يذم الدُّنْيَا ويحذر عَنْهَا.
شِعْرًا: ... وَلَمْ يَطْلُبْ عُلُوَّ الْقَدْرِ فِيهَا ... وَعِزَّ النَّفْسِ إِلا كُلُّ طَاغِ
وَإِنْ نَالَ النُّفُوسَ مِن الْمَعَالِي ... فَلَيْسَ لَنَيْلِهَا طَيْبُ الْمَسَاغِ
إِذَا بَلَغَ الْمُرَادَ عُلاً وَعِزًّا ... تَوَلَّى وَاضْمَحَلَّ مَعَ الْبَلاغِ
كَقَصْرٍ قَدْ تَهَدَّمَ حَافَتَاهُ ... إِذَا صَارَ الْبِنَاءُ إِلى الْفَرَاغِ
أَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتُ مُلُوكَ عَصْرِي ... أَلا لا يَبْغِيَنَّ الْمُلْكَ بَاغِ
آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلءِ فِيهَا ... حَذَارِ حَذَارِ مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي
فَلا يَغْرُرْكُمُوا مِنِّي ابْتِسَامٌ ... فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالْفِعْلُ مُبْكِي
آخر: ... أفّ مِن الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ... كَأَنَّهَا لِلْحُزْنِ مَخْلُوقَةْ
هُمُومُهَا مَا تَنْقَضِي سَاعَةً ... عَنْ مَلِكٍ فِيهَا وَلا سُوقَةْ
آخر: ... زَهِدْتُ فِي الْخَلْقِ طُرًا بَعْدَ تَجْرِبةً ... وَمَا عَليَّ بِزُهْدِي فِيهِمُ دَرَكُ
إِنِّي لا عَجْبُ مِنْ قَوْمٍ يَقُودُهُمُوا ... حِرْصٌ إلى بُرَّةٍ مُلْكًا لِمَنْ مَلَكُوا
أَوْ أَنْ يَذِلُّوا لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ ... وَفِي خَزَائن رَبِّ الْعِزَّةِ إِشْتَرَكوا
أَمَا وَرَبك لَوْ دَانُوا بِمَعْرِفَةٍ ... لَقَدْ أَصَابُوا بِهَا الْمَرْغُوبَ لَوْ سَلُكُوا
مَنْ ذَا تُمَدُّ إِلَيْهِ الْكَفُّ فِي طَلَبِ ... بِمَا عَلَيْهَا وَأَنْتَ الْمَالِكُ الْمَلِكُ
آخر: ... عَجِبْتُ لِمَخْلُوقٍ يُبَالِغُ فِي الثَّنَا ... عَلَى بَعْضِ خَلْقِ اللهِ يَرْجُ الدَّرَاهِمَا
وَيَنْسَى الَّذِي مِنْهُ الْغِنَى وَلَهُ الثَّنَا ... وَيَأْمُرُ مَنْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَا
آخر: ... إِنَّ لله عِبَادًا فُطَنَا ... طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا
نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا علمُوا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيّ سَكَنَا
جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا ... صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا(2/172)
آخر: ... دَعِ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا ... وَفِي الْعَيْشِ فَلا تَطْمَعْ
وَلا تَجْمَعْ مِن الْمَالِ ... فَلا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ
فَإِنَّ الرزقَ مَقْسُومٌ ... وَسُوءُ الظَّنِّ لا يَنْفَعْ
فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ ... غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ
آخر: ... لا تَبْخَلَنَّ بِدُنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ ... فَلا يَضُرُّ بِهَا التَّبْذِيرُ وَالسَّرَفُ
وَإِنْ تَولَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا ... فَالشُّكْرُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَتْ خَلَفُ
آخر: ... إِذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ وَلَمْ تَكُ ذََا نَدَى ... فَأَنْتَ إِذَا وَالْمُقْتِرِينَ سَوَاءُ
آخر: ... وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمِ
آخر: ... لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ ... تَزْدَادُ فِيهِ مِنْ تُقَى
رَبٍّ جَوَدٍ مَاجِدٍ ... مَا لَهُ شَرِيكٌ يَا فَتَى
أَكْثرْ هُدِيتَ ذِكْرَهُ ... تَنَلْ بِهِ الأَجْرَ الْجَسِيمْ
يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَا ... تَحْظَى بِجَنَّاتِ النَّعِيمْ
اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأَبْرَار وأسكنا الْجَنَّة دار الْقَرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": والقسم الثاني من النَّاس جهال عمي البصائر لم ينظروا فِي أمرها ولم يكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لَهُمْ بزنتها ففتنتنهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا، حَتَّى ألهتهم عَنْ الله تَعَالَى، وشغلتهم عَنْ ذكر الله، وطاعته، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
قَالَ تَعَالَى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .(2/173)
نعم إنهم نسوا الله وأهملوا حقوقه وَمَا قدروه حق قدره، ولم يراعوا لإنهماكهم فِي الدُّنْيَا وتهالكهم عَلَيْهَا مواجب أوامره ونواهيه حق رعايتها، فأنساهم أنفسهم آنساهم مصالحهم وأغفلهم عَنْ منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطًا فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره، وسيرون يوم القيامة من الأهوال مَا ينسيهم أرواحهم، وجعلهم حيارى ذاهلين يوم تذهل كُلّ مرضعة عَنْ مَا أرضعت وتضع كُلّ ذات حمل حملها وتَرَى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وفي مثل هَذَا يَقُولُ أحد الْعُلَمَاء: اجتهادك فيما ضمن لَكَ مَعَ تقصيرك فيما طلب منك دَلِيل على انطماس بصيرتك. أقاموا الدُّنْيَا فهدمتهم، واغتروا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال وأحبوا طول الآجال ونسوا الموت وَمَا بعده من الشدائد فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
شِعْرًا: ... إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ الْمَعَاصِي ... وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعَ مَا تَشَاءُ
إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوعٍ ... فَأَنْتَ وَمَالِكَ الدُّنْيَا سَوَاءُ
وروى الترمذي مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من كَانَتْ الآخِرَة همه جعل الله غناه فِي قَلْبهُ وجمَعَ عَلَيْهِ شمله وأتت الدُّنْيَا وهي راغمة، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا همه جعل فقره بين عينيه وفرق عَلَيْهِ شمله ولم يأته من الدُّنْيَا إِلا مَا قدر لَهُ، فلا يمسي إِلا فقيرًا ولا يصبح إِلا فقيرًا» .
وما أقبل عبد على الله إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ تنقاد إليه بالود والرحمة، وكَانَ الله بكل خَيْر إليه أسرع. أ. هـ.
وَقَالَ فِي عدة الصابرين، وَقَدْ أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها لو ساوت عِنْدَ الله جناح(2/174)
بعوضة مَا سقى كافرًا مَنْهَا شربة ماء وأنها أَهْوَن على الله من السخلة الميتة على أهلها.
آخر: ... عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ ... وَبِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ
أَحْلامُ لليْلٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ
فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا ... أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أبالكَ تَجْمَعُ
وأن مثلها فِي الآخِرَة كمثل مَا يعلق بإصبع من أدخل أصبعه فِي البحر وأنها ملعونة ملعون مَا فيها إِلا ذكر الله وَمَا ولاه، وعَالِم ومتعلم وأنها سجن المُؤْمِن وجنة الكافرين.
وأمر الْعَبْد أن يكون فيها كأنه غريب أَوْ عابر سبيل ويعد نَفْسهُ من أَهْل القبور وَإِذَا أصبح فلا ينتظر المساء وَإِذَا أمسى فلا ينتظر الصباح.
ونهى عَنْ اتخاذ مَا يرغب فيها، ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عَلَيْهِ بالتعس والانتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش.
شِعْرًا: ... خَلِيلِيَّ إِنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِنَافِعٍ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ يُنْفَقُ
وَمَا خَابَ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ عَامِلٌ ... لَهُ فِي التُّقَى أَوْفَى الْمَحَامِدِ سُوقُ
وَلا ضَاقَ فَضْلُ اللهِ عَنْ مُتَعَفّفٍ ... وَلَكِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
وأخبر أنها خضرة حلوة أي تأخذ العيون بحظرتها والقُلُوب بحلاوتها، وأمر باتقائها والحذر مَنْهَا كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عَلَيْهَا، وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين.
وأخبر أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا كراكب استظِلّ تحت شجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها. وَهَذَا فِي الحَقِيقَة حال سكَانَ الدُّنْيَا كلهم، ولكن هُوَ - صلى الله عليه وسلم - شهد هَذِهِ الحال، وعمي عَنْهَا بنو الدُّنْيَا.
ومر بِهُمْ وهم يعالجون خصًا لهم قَدْ وهي، فَقَالَ: «مَا أرى الأَمْرَ إِلا أعجل(2/175)
من ذَلِكَ، وأمر بستر على بابه فُنُزِعَ. وَقَالَ: «" إِنَّهُ يذكرني الدُّنْيَا» . وأعْلَمَ النَّاس أَنَّهُ لَيْسَ لأحد مِنْهُمْ حق فِي سِوَى بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وقوت يقيم صلبه.
وأخبر أن الميت يتبعه أهله، وماله، وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله، وكَانَ يَقُولُ: «الزهد فِي الدُّنْيَا يريح الْقَلْب والبدن، والرغبة فِي الدُّنْيَا تطيل الهموم والحزن» . وكَانَ يَقُولُ: «من جعل الهموم كُلّهَا همًا واحدًا، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم فِي أوال الدُّنْيَا لم يبال الله فِي أي أوديتها هلك» .
وأخبر أن بذل الْعَبْد مَا فضل عَنْ حاجته خَيْر لَهُ، وإمساكه شر لَهُ وأنه لا يلام على الكفاف، وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فَإِنَّ أمامهم دار النَّعِيم فهم لا يرضون بنعيمهم فِي الدُّنْيَا عوضًا من ذَلِكَ النَّعِيم.
" نصيحة ": إِذَا استغنى النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا، فأفرح أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا أُنسوا بأحبابهم فأجعل أنسك بِاللهِ، وَإِذَا تعرفوا إلى كبرائهم لينالوا بِهُمْ العزة والكرامة فتعرف أَنْتَ إِلَى اللهِ، وتودد إليه تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة والكرامة.
وفي حديث مناجاة مُوَسى: ولا تعجبنكما زينته ولا مَا متع به ولا تمدان إلى ذَلِكَ أعينكما، فَإِنَّهَا زهرة الدُّنْيَا، وزينة المترفين وإني لو شئت أن أزينكما من الدُّنْيَا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عَنْ مثل مَا أوتيتما فعلت.
ولكن أرغب بكما عَنْ نعيمها ذَلِكَ، وأزويه عنكما، وكَذَلِكَ أفعل بأوليائي، وقديمًا مَا أخرت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فإني لأذودهم عَنْ نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عَنْ مراعي الهلكة وإني لأجنبهم سلوتها،(2/176)
وعيشها كما يذود الراعي الشفيق إبله عَنْ مبارك العزة.
وما ذَلِكَ لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا مصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدُّنْيَا ولم يطغه الهوى.
واعْلَمْ أَنَّهُ لم يتزين لي العباد بزينة هِيَ أبلغ من الزهد فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا زينة المتقين عَلَيْهمْ مَنْهَا لباس يعرفون به من السكينة، والخشوع سيماهم فِي وجوههم من أثر السجود.
أولئك أوليائي حقًا فَإِذَا لقيتهم فاخفض لَهُمْ جناحك، وذل لَهُمْ قلبك ولسانك. وَقَالَ الحواريون: يَا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟
قَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا، حين نظر النافس إلى عاجلها فأماتوا مَنْهَا مَا يخشون أن يميتهم، وتركوا مَا علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم مَنْهَا استقلالاً، وذكرهم إياهًا فواتًا، وَمَا عارضهم من رفعتها بغير الْحَقّ وضعوه.
خلقت الدُّنْيَا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت فِي صدورهم، فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها، فيشترون بها مَا يبقى لَهُمْ.
رفضوها فكَانُوا بها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة.
يحبون لله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به لَهُمْ خبر عجيب وعندهم الْخَبَر العجيب، بِهُمْ قام الكتاب، وبه قاموا وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه عملوا ليسوا يرون نائلاً مَعَ مَا نالوا، ولا أمانًا دون مَا يرجون، ولا خوفًا دون مَا يحذرون.(2/177)
وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فِي العَالِم من منزل إن أنتم إِلا عابري سبيل.
وَقَالَ: يَا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبَنِي فوق موج البحر دارًا. قَالُوا: يَا روح الله من يقدر على ذَلِكَ؟ قَالَ: إِيَّاكُمْ والدُّنْيَا فلا تتخذوها قَرَارًا.
وَقَالَ: حلاوة الدُّنْيَا مرارة الآخِرَة، ومرارة الدُّنْيَا، حلاوة الآخِرَة.
وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل تهاونوا بالدُّنْيَا تهن عليكم، وأهينوا الدُّنْيَا تكرم عليكم الآخِرَة، ولا تكرموا الدُّنْيَا تهن عليكم الآخِرَة، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بأَهْل للكرامة، وكل يوم تدعوا إلى الفتنة والخسارة.
قَالُوا: وَقَدْ تواتر عن السَّلَف أن حب الدُّنْيَا رأس الخطايا، وأصلها وقيل: إن عيسى بن مريم عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: رأس الخطيئة حب الدُّنْيَا، والنساء حبالة الشيطان، والخمر جماع كُلّ شر.
شِعْرًا: ... النَّارُ آخِرُ دِينَارِ نَطَقْتَ بِهِ ... وَالْهَمُّ آخِرُ هَذَا الدَّرهِمُ ْالْجَارِي
وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ وَرِعًا ... مُعَذبُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنَّارِ
شِعْرًا: قَالَ الإمام الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ:
خَبَتْ نَارُ نَفْسِي بِاشْتِعَالِ مَفَارِقِي ... وَأَظْلَِمَ لَيْلِي إِذَا أَضَاءَ شِهَابُهَا
أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي ... عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا
رَأَيْتِ خَرَابَ الْعُمْرِ مِنِّي فَزُرْتَنِي ... وَمَأْوَاكِ مِنْ كُلِّ الدِّيَارِ خَرَابُهَا
أَأَنْعَم عَيْشًا بَعْدَ مَا حَلَّ عَارِضِي ... طَلائِعُ شَيْبٍ لَيْسَ يُغْنِي خِضَابُهَا
إِذَا اصْفَرَ لَوْنُ الْمَرْءِ وَابْيَضَّ شَعْرُهُ ... تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا
وَعِزَةُ عُمَرِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ ... وَقَدْ فَنِيتَ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبَابُهَا
فَدَعْ عَنْكَ سَوْآتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ... حَرَامٌ عَلَى نَفْسِ التَّقِي ارْتِكَابُهَا
وَأَدِّ زَكَاةَ الْجَاهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا ... كَمِثْلِ زَكَاةِ الْمَالِ تَمَّ نِصَابُهَا(2/178)
وَأَحْسِنْ إلى الأَحْرَارِ تَمْلِكْ رِقَابِهُمْ ... فَخَيْرُ تِجَارَاتِ الرِّجَالِ اكْتِسَابُهَا
وَلا تَمْشِيَن فِي مَنكِبِ الأَرْضِ فَاخِرًا ... فَعَمَّا قَلِيلٍ يَحْتَوِيكَ تُرَابُهَا
وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعمتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذابُهَا
فَلَمْ أَرَهَا إِلا غُرُورًا وَبَاطِلاً ... كَمَا لاحَ فِي ظَهْرِ الْفَلاةِ سَرَابُهَا
وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا
فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا
إِذَا انْسَدَّ بَابٌ عَنْكَ مِنْ دُونِ حَاجَةٍ ... فَدَعْهَا لأُخْرَى يَنْفَتِحْ لَكَ بَابُهَا
فَإِنَّ قُرَابَ الْبَطْنِ يَكْفِيكَ مِلْؤُهُ ... وَيَكْفِيكَ سَوآت ِالأُمُورِ اجْتِنَابُهَا
فَطُوبى لِنَفْسٍ أَوْطَنَتْ قَعْرَ بَيْتِهَا ... مُغْلَقَةَ الأَبْوَابِ مُرْخَىً حِجَابُهَا
فَيَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مَهْلَكٍ ... أُبَادِرُهَا مِنْ قَبْلِ إِغْلاقِ بَابِهَا
فَمَا تَخْرَبُ الدُّنْيَا بِمَوْتِ شِرَارِهَا ... وَلَكِنْ بِمَوْتِ الأَكْرَمِينَ خَرَابُهَا
اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة، اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وأرزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللَّهُمَّ اسلك بنا مسلك الصادقين الأَبْرَار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
وعن سفيان قَالَ: كَانَ عيسى بن مريم يَقُولُ: حب الدُّنْيَا أصل كُلّ خطيئة والْمَال فيه داء كثير، قَالُوا: وَمَا دواؤه قَالَ: لا يسلم من الفخر والخيلاء. قَالُوا: فَإِنَّ سلم؟ قَالَ: يشغله إصلاحه عَنْ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ.
قَالُوا: وَذَلِكَ معلوم بالتجربة والمشاهدة، فإن حبها يدعوا إلى خطيئة ظاهرة وباطنة، ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عَلَيْهَا، فيسكر عاشقها حبها(2/179)
عن علمه بتلك الخطيئة، وقبحها وعن كراهتها واجتنابها.
وحبها يوقع فِي الشبهات، ثُمَّ فِي المكروهات، ثُمَّ فِي المحرمَاتَ، وطالما أوقع فِي الكفر، بل جميع الأمم المكذوبة لأنبيائهم إِنَّمَا حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدُّنْيَا، فَإِنَّ الرسل لما نهوهم عَنْ الشرك والمعاصي التي كَانُوا يكتسبون بها الدُّنْيَا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.
فكل خطيئة فِي العَالِم أصلها حب الدُّنْيَا، ولا تنس خطيئة الأبوين قديمًا، فإنما كَانَ سببها حب الخلود فِي الدُّنْيَا، ولا تنس ذنب إبلَيْسَ وسببه حب الرياسة، التي محبتها شر من محبة الدُّنْيَا.
وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأَبُو جهل وقومه، واليهود، فحب الدُّنْيَا والرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ النار بأهلها.
والزهد فِي الدُّنْيَا والزهد فِي الرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ الْجَنَّة بأهلها.
والسكر بحب الدُّنْيَا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصَاحِب هَذَا السكر لا يفيق منه، إِلا فِي ظلمة اللحد، ولو انكشف عَنْهُ غطاؤه فِي الدُّنْيَا لعلم مَا كَانَ فيه من السكر، وأنه أشد من سكر الخمر والدُّنْيَا تسحر العقول أعظم سحر.
قَالَ الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر قَالَ سمعت مالك بن دينار يَقُولُ: اتقوا السحارة، اتقوا السحارة، فَإِنَّهَا تسحر قُلُوب الْعُلَمَاء.
شِعْرًا: ... أَهْلُ الْمَنَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا ... أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَرْذُولُونَ عِنْدَهُمُ
قَدْ أَنْزَلُونَ لأَنَّا غَيْرَ جِنْسِهَمُ ... مَنَازِلَ الْوَحْشِ فِي الإِهْمَالِ بَيْنَهُمُ
فَمَا لَهُمْ فِي تَوَقِي ضُرِّنَا نَظَرٌ ... وَمَا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنَا هِمَمُ
فَلَيْتَنَا لَوْ قَدِرْنَا أَنْ نُعَرِّفَهُمْ ... مِقْدَارَهُمْ عِنْدَنَا أَوْ لَوْ دَرَوْهُ هُمُوا
لَهُمْ مُريْحَانِ مِنْ جَهْلٍ وَفَرْطِ غِنَى ... وَعِنْدَنَا النَّافِعَانِ الْعِلْمُ وَالْهِمَمُ(2/180)
آخر: ... رَأَيْتُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا ... إلى مَنْ عِنْدَهُ مَالُ
وَمَنْ لا عِنْدَهُ مَالُ ... فَعَنْهُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا
والله أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
" فَصْلٌ ": وأقل مَا فِي حبها أَنَّهُ يلهي عَنْ حب الله، وذكره، ومن ألهاه ماله عَنْ ذكر الله فهو من الخاسرين، قَالُوا: وإنما كَانَ حب الدُّنْيَا رأس الخطايا ومفسدًا للدين من وجوه، أحدها أنه يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عِنْدَ الله.
ومن أكبر الذُّنُوب تعَظِيم مَا حقره الله، وثانيها: أن الله لعَنْهَا، ومقتها، وأبغضها إِلا مَا كَانَ لَهُ فيها، ومن أحب مَا لعنه الله، ومقته وأبغضه، فقَدْ تعرض للفتنة، ومقته وغضبه.
وثالثها: أَنَّهُ إِذَا أحبها صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخِرَة، فعكس الأَمْر وقلب الحكمة فانتكس قَلْبهُ، وانعكس سيره إلى وراء.
فها هنا أمران: أحدهما جعل الوسيلة غاية، والثاني التوسل بأعمال الآخِرَة إلى الدُّنْيَا، وَهَذَا شر معكوس من كُلّ وجه، وقلب منكوس غاية الانتكاس.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ينطبق عَلَيْهِ حذو القذة بالقذة قوله تَعَالَى " {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ(2/181)
الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ} .
شِعْرًا: ... أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا لَنَا عِبْرَة ... فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ذَلِكَ
قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَمِّهَا ... وَمَا أَرَى مِنْهُمْ لَهَا تَارِكَا
آخر: ... وَفي النَّفْسِ حَاَجاتٌ وَفي الْمَالِ الْقِلَّةٌ ... وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنُ
فهَذَا ثلاث آيات يشبه بعضها بَعْضًا وتدل على معنى واحد، وَهُوَ أن من أراد بعمله الدُّنْيَا وزينتها دون الله والدار الآخِرَة، فحظه مَا أراد، وَهُوَ نصيبه، لَيْسَ لَهُ نصيب غيره.
وَالأَحَادِيث عَنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مطابقة لِذَلِكَ مفسرة لَهُ، كحديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، الغازي والمتصدق، والقارئ الَّذِينَ أرادوا بذَلِكَ الدُّنْيَا والنصيب وَهُوَ فِي صحيح مُسْلِم.
شِعْرًا: ... وَمَا تَحْسُنُ الدُّنْيَا إِذَا هِيَ لَمْ تُعِنْ ... بِآخِرَةٍ حَسْنَاءَ يَبْقَى نَعِيمُهَا
آخر: ... غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت ... وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لأَنْفُسِهِمْ ... وَإِنْ أَسَاءُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا
فالعاقل من استعمل الدُّنْيَا فِي طاعة الله وجعلها مطية للآخرة.
شِعْرًا: ... لِمَنْ تَطْلُبِ الدُّنْيَا لَمْ تُرَدْ بِهَا ... رِضَا الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ
وفي سنن النسائي عَنْ أبي أمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ يَا رَسُول اللهِ: رجل غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا شَيْء لَهُ» . فأعادها ثلاث مرات يَقُولُ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا شَيْء لَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «إن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا مَا كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه» .
فهَذَا قَدْ بطل أجره وحبط عمله مَعَ أَنَّهُ قصد حصول الأجر لما ضم إليه(2/182)
قصد الذكر بين النَّاس فَلَمْ يخلص عمله فبطل كله، قَالَ: ورابعها: أن محبتها تعترض بين الْعَبْد، وبين فعل مَا يعود عليه نفعه فِي الآخِرَة، لاشتغاله عَنْهُ بمحبوبه وَالنَّاس ها هنا مراتب.
فمِنْهُمْ من يشغله محبوبه عَنْ الإِيمَان، وشرائعه.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ الواجبات التي تجب عَلَيْهِ لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرًا ولا باطنًا.
وَمِنْهُمْ من يشغله حبها عَنْ كثير من الواجبات.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ القيام بالواجب فِي الوَقْت الَّذِي ينبغي على الوجه الَّذِي ينبغي فيفرط فِي وقته وفي حقوقه.
وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ عبوديته قَلْبهُ فِي الواجب، وتفريغه لله عِنْدَ أدائه، فيؤذيه ظاهرًا لا باطنًا، وأين هَذَا من عشاق الدُّنْيَا ومحبيها هَذَا من أنذرهم، وأقل درجات حبها أن يشغل عَنْ سعادة الْعَبْد وَهُوَ تفريغ الْقَلْب لحب الله، ولِسَانه لذكره وجمَعَ قَلْبهُ على لِسَانه وجمَعَ لِسَانه وقَلْبهُ على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخِرَة، ولا بد، كما أن محبة الآخِرَة تضر بالدُّنْيَا.
وخامسها: أن محبتها تجعلها أَكْثَر هم الْعَبْد.
وسادسها: أن محبتها أشد النَّاس عذابًا بها، وَهُوَ معذب فِي دوره الثلاث، يعذب فِي الدُّنْيَا بتحصيلها، وفي السعي فيها ومنازعة أهلها وفي دار البرزخ أي فِي القبر بفواتها، والحَسْرَة عَلَيْهَا، وكونه قَدْ حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدًا ولم يحصل لَهُ هناك محبوب يعوضه عَنْهُ.(2/183)
فهَذَا أشد النَّاس عذابًا فِي قبره، يعمل الهم، والغم، والحزن والحَسْرَة، فِي روحه مَا تعمل الديدان وهوام الأَرْض في جسمه.
وسابعها: أن عاشقها ومحبها الَّذِي يؤثرها على الآخِرَة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحَقِيقَة، والمنام على اليقظة والظِلّ الزائل على النَّعِيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية إن اللبيب بمثلها لا يخدع.
ثُمَّ عقَدْ فصلاً وذكر فيه أمثلة تبين حَقِيقَة الدُّنْيَا: المثال الأول: للعبد ثلاثة أحوال، حالة لم يكن فيها شَيْئًا، وهي مَا قبل أن يوَجَدَ، وحالة أخرى وهي من ساعة موته، إلى مَا لا نهاية لَهُ فِي البقاء السرمدي فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن، إما فِي الْجَنَّة وإما فِي النار.
ثُمَّ تعاد إلى بدنه، فيجازى بعمله، ويسكن إحدى الدارين فِي خلود دائم بين هاتين الحالتين وهي مَا بعد وجوده وَمَا قبل موته حالة متوسطة، وهي لأيام حَيَاتهُ فلينظر إلى مقدار زمانها، وينسبه إلى الحالتين، يعلم أَنَّهُ أقل من طرفة عين فِي مقدار عُمَر الدُّنْيَا.
ومن رأى الدُّنْيَا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها فِي ضر وضيق أَوْ فِي سعة ورفاهية ولهَذَا لم يضع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وَقَالَ: «مَا لي وللدنيا، إِنَّمَا مثلي ومثل الدُّنْيَا كراكب قَالَ فِي ظِلّ شجرة، ثُمَّ راح وتركها» .
وإلى هَذَا أشار المسيح بقوله عَلَيْهِ السَّلامُ: الدُّنْيَا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وَهُوَ مثل صحيح فَإِنَّ الحياة معبر إلى الآخِرَة، والمهد هُوَ الركن الأول، على أول القنطرة، واللحد هُوَ الركن الثاني على آخرها.
ومن النَّاس من قطع نصف القنطرة.
وَمِنْهُمْ من قطع ثلثيها، وَمِنْهُمْ من لم يبق لَهُ إِلا خطوة واحدة، وهو(2/184)
غَافِل عَنْهَا وكيفما كَانَ فَلا بُدَّ مِنْ العبور، فمن وقف يبَنِي على القنطرة، ويزينها بأصناف الزينة، وَهُوَ يستحث على العبور فهو فِي غاية الجهل والحمق. المثال الثاني: شهوات الدُّنْيَا فِي الْقَلْب كشهوات الأطعمة فِي المعدة، وسوف يجد الْعَبْد عِنْدَ الموت لشهوات الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ من الكراهة والنتن والقبح مَا يجده للأطعمة اللذيذة إِذَا انتهت فِي المعدة، غايتها، وكما أن الأطعمة كُلَّما كَانَتْ ألذ طعمًا وأكثر دسمًا وأكثر حلاوة كَانَ رجيعها أقذر، فكَذَلِكَ كُلّ شهوة كَانَتْ فِي النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عِنْدَ الموت أشد، كما أن تفجع الإِنْسَان بمحبوبه إِذَا فقده يقوى بقدر محبه المحبوب.
شِعْرًا: ... طَالِبُ الدُّنْيَا بِحِرْصٍ وَعَجْل ... إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ مُنْتَقِلْ
نَحْنُ فِيهَا مِثْلُ رَكْبٍ نَازِلٍ ... لِمِقِيلٍ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلْ
شِعْرًا: قَالَ بَعْضُهُمْ يخاطب نَفْسهُ:
إلى مَ أَرَى يَا قَلْبُ مِنْكَ التَّرَاخِيَا ... وَقَدْ حَلَّ وَخْطُ الشَّيْبِ بِالرَّأْسِ ثَاوِيَا
وَأَخْبَرَ عَنْ قُرْبِ الرَّحِيلِ نَصِيحَةً ... فَدُونَكَ طَاعَاتٍ وَخَلِّ الْمَسَاوِيَا
وَعُضَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْكَ أَنَامِلاً ... وَفَجِّرْ مِنَ الْعَيْنِ الدُّمُوعَ الْهَوَامِيَا
فَكَمْ مَرَّةٍ وَافَقْتَ نَفْسًا مَرِيدَةً ... فَقَدْ حَمَّلَتْ شَرًّا عَلَيْكَ الرَّوَاسِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ أَحْدَثْتَ بِدْعًا لِشَهْوَةٍ ... وَغَادَرْتَ هَدْيًا مُسْتَقِيمًا تَوَانِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ أَمْرَ الإِله نَبَذْتَهُ ... وَطَاوَعْتَ شَيْطَانًا عَدُوًّا مُدَاجِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ قَدْ خُضْتَ بَحْرَ غِوَايَةٍ ... وَأَسْخَطْتَ رَبًّا بِاكْتِسَابِ الْمَعَاصِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ بِرَّ الإِلهِ غَمَضْتَهُ ... وَقَدْ صِرْتَ فِي كُفْرَانِهِ مُتَمَادِيَا
وَلا زِلْتَ بِالدُّنْيَا حَرِيصًا وَمُولَعًا ... وَقَدْ كُنْتَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سَاهِيَا
فَمَا لَكَ فِي بَيْتِ الْبَلا إِذَ نَزَلْتَهُ ... عَنْ الأَهْلِ وَالأَحْبَابِ وَالْمَالِ نَائِيًا
فَتُسْأَلَ عَنْ رَبٍّ وَدِين مُحَمَّدٍ ... فَإِنْ قُلْتُ هَاهٍ فَادْرِ أَنْ كُنْتَ هَاوِيَا
وَيَأْتِيكَ مِنْ نَارِ سَمُوم أَلِيمَة ... وَتُبْصُرُ فِيهَا عَقْرَبًا وَأَفَاعِيَا(2/185)
وَيَا لَيْتَ شَعْرِي كَيْفَ حَالُكَ إِذْ نُصِبْ ... صِرَاطٌ وَمِيزَانٌ يُبينُ الْمَطَاوِيَا
فَمَنْ نَاقَشَ الرَّحْمَنُ نُوقِشَ بَتّهً ... وَأُلْقِيَ فِي نَارٍ وَإِنْ كَانَ وَالِيَا
هُنَالِكَ لا تَجْزِيهِ نَفْسُ عَنْ الرَّدَى ... فَكُلُّ امْرِئٍ فِي غَمِّهِ كَانَ جَاثِيَا
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قلوبنا على دينكوألهمنا ذكرك وشكرك اختم لَنَا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ إنَا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللَّهُمَّ أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رافة الْحَبِيب بحبيبه عِنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إلى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المثال الثالث: لها ولأهلها فِي اشتغالهم بنعيمها عَنْ الآخِرَة وَمَا يعقبهم من الحسرات مثل أَهْل الدُّنْيَا فِي غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بِهُمْ إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالْخُرُوج لِقَضَاءِ الحاجة وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مُرُور السَّفِينَة.
فتفرقوا فِي نواحي الجزيرة، فقضى بَعْضهُمْ حاجته وبادر إلى السَّفِينَة فصادف المكَانَ خَالِيًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها.
ووقف بَعْضهُمْ فِي الجزيرة، ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمَعَ نغمَاتَ طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثُمَّ حدثته نَفْسهُ بفوات السَّفِينَة، وسرعة مرورها، وخطر ذهابها فَلَمْ يصادف إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا فجلس فيه.(2/186)
وأكب بَعْضهُمْ على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة فحمل مَنْهَا حمله فَلَمَّا جَاءَ لم يجد فِي السَّفِينَة إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلاً عَلَيْهِ، ووبالاً ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بدًا ولم يجد لَهُ فِي السَّفِينَة مَوْضِعًا، فحمله على عنقه وندم على أخذه، فَلَمْ تنفعه الندامة، ثُمَّ ذبلت الأزهار، وتغيرت أريحها وآذاه نتنها.
وتولج بَعْضهُمْ فِي تلك الغياض، ونسي السَّفِينَة، وأبعد فِي نزهته، حَتَّى إن الملاح نادى بِالنَّاسِ، عِنْدَ دفع السَّفِينَة، فَلَمْ يبلغه صوته، لاشتغاله بملاهيه، فهو تَارَّة يتناول من الثمر وتَارَّة يشم تلك الأزهار وتَارَّة يعجب من حسن الأشجار.
وهو على ذَلِكَ خائف من سبع يخَرَجَ عَلَيْهِ، غير منفك من شوك يتشبث فِي ثيابه، ويدخل فِي قدميه أَوْ غصن يجرح بدنه أَوْ عوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، أَوْ صوت هائل يفزعه.
ثُمَّ من هؤلاء من لحق بالسَّفِينَة، ولم يبق فيها موضع، فمَاتَ على الساحل، وَمِنْهُمْ من شغله لهوه، فافترسته السباع ونهشته الحيات وَمِنْهُمْ من تاه فهام على وجهه حَتَّى هلك، فهَذَا مثال أَهْل الدُّنْيَا فِي اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وَمَا أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هَشِيمًا.
المثال الرابع: لاغترار النَّاس بالدُّنْيَا، وضعف إيمانهم بالآخِرَة أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «إِنَّمَا مثلي ومثلكم ومثل الدُّنْيَا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حَتَّى إِذَا لم يدروا مَا سلكوا مَنْهَا أَكْثَر أم مَا بقي، أنفذوا الزَّاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زَادَ ولا حمولة، فأيقنوا بِالْهَلَكَةِ.(2/187)
فبينما هم كَذَلِكَ، إذ خَرَجَ عَلَيْهمْ رجل فِي حلية يقطر رأسه، فَقَالُوا: إن هَذَا قريب عهد بريف، وَمَا جاءكم هَذَا إِلا من قريب، فَلَمَّا انتهى إليهم، قَالَ: يَا هؤلاء علام أنتم؟ قَالُوا: على مَا تَرَى. قَالَ: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر مَا تجعلون لي؟
قَالُوا: لا نعصيك شَيْئًا. قَالَ: عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ. قَالَ: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بِاللهِ لا يعصونه شَيْئًا. قَالَ: فأوردهم ماء ورياضًا خضرًا قَالَ: فمكث مَا شَاءَ الله.
ثُمَّ قَالَ: يَا هؤلاء الرحيل، قَالُوا إلى أين، قَالَ إلى ماء لَيْسَ كمائكم ورياض لَيْسَتْ كرياضكم، قَالَ: فَقَالَ جل القوم، وهم أكثرهم: وَاللهِ مَا وَجَدْنَا هَذَا حَتَّى ظننا أن لن نجده، وَمَا تصنع بعيش هُوَ خَيْر من هَذَا؟
شِعْرًا: ... عَلَى الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا السَّلامُ ... إِذَا مَلَكَتْ خَزَائِنَهَا اللِّئَامُ
قَالَ: وقَالَتْ طائفة: وهم أقلهم: ألم يعطوا هَذَا الرجل عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ لا تعصونه شَيْئًا، وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم فِي آخره، فراح بمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبادرهم عَدُوّهمْ، فأصبحوا بين أسير وقتيل.
شِعْرًا: ... إِذَا عَاجِلَ الدُّنْيَا أَلَمْ بِمَفْرَحٍ ... فَمَنْ خَلفهُ فَجْعٌ سَيَتْلُوُه آجِلُ
وَكَانَتْ حَيَاةُ الْحَيِّ سَوْقًا إلى الرَّدَى ... وَأَيَّامُهُ دُونَ الْمَمَاتِ مَرَاحِلُ
وَمَا لُبْثَ مَنْ يَغْدُو وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... لَهُ أَجْلٌ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ قَاتِلُ
وَلِلْمَرْءِ يَوْمٌ لا مَحَالَة مَا لَهُ ... غَدٌ وَسْطَ عَامٍ مَا لَهُ الدَّهْرَ قَابِلُ
كَفَانَا اعْتِرَافًا بِالْفَنَاءِ وَرُقْبَةً ... لِمَكْرُوهِهِ أَنْ لَيْسَ لِلْخُلْدِ آمِلُ
آخر: ... أَرَانِي بِِحَمْدِ اللهِ فِي الْمَال زَاهِدًا ... وَفِي شَرَفَ الدُّنْيَا وَفِي الْعِزَّ أَزْهَدَا
تَخَلَّيْتُ عَنْ دُنْيَايَ إِلا ثَلاَثَةً ... دَفَاتِرَ مِنْ عِلْمٍ وَبَيْتًا وَمَسْجِدَا(2/188)
غَنَيْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَوَيْتُهُ ... وَكُنْتُ بِهَا أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَسْعَدَا
وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَزِيز مُشرَفٍ ... يَبِيتُ مَقَرًا بِالضَّلالَةِ مُجْهِدَا
أَتَتْهُ الْمَنَايَا وَهُوَ فِي حِين غَفْلَةٍ ... فَأَضْحَى ذَلِيلاً فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وثَبِّتْ إيماننا ونور بصائرنا واهدنا سبل السَّلام وجنبنا الفواحش مَا ظهر مَنْهَا وَمَا بطن،وألهمنا ذكرك وشكرك واعمر أوقاتنا بتلاوة كتابك وأرزقنا التدبر لَهُ والْعَمَل به فِي الدقيق والجليل وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
المثال الخامس للدنيا وأهلها، وَمَا مثلها به - صلى الله عليه وسلم - كظِلّ شجرة، والمرء مسافر فيها إِلَى اللهِ، فاستظِلّ فِي ظِلّ تلك الشجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها.
فتأمل حسن هَذَا المثال، ومطابقته للواقع سواء، فَإِنَّهَا فِي خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شَيْئًا فشَيْئًا كالظِلّ والْعَبْد مسافر إلى ربه، والمسافر إِذَا رأى شجرة فِي يوم صائف لا يحسن به أن يبَنِي تحتها دارًا، ولا يتخذها قَرَارًا، بل يستظِلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زَادَ على ذَلِكَ انقطع عَنْ الرفاق.
المثال السادس تمثيله لها - صلى الله عليه وسلم - بمدخل إصبعه فِي الْيَمِّ، فالَّذِي يرجع به إصبعه من البحر هُوَ مثل الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخِرَة.
المثال السابع مَا مثلها به - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيث المتفق على صحته مِنْ حَدِيثِ أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ إن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم، على المنبر وجلسنا حوله، فَقَالَ: «إن مِمَّا أخاف عليكم من بعدي مَا يفتح عليكم(2/189)
من زهرة الدُّنْيَا، وزينتها» . فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ! أَوْ يأتي الْخَيْر بالشر؟ فصمت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: كيف قُلْتُ؟ قَالَ: يَا رَسُول اللهِ أَوْ يأتي الْخَيْر بالبشر، فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -::" إن الْخَيْر لا يأتي إِلا بالْخَيْر، وإن مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم إِلا آكلة الخضر، أكلت حَتَّى إِذَا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثُمَّ اجترت فَعَادَتْ فأكلت. فمن أخذ مالاً بحقه بورك لَهُ فيه، ومن أخذ مالاً بغير حق، فمثله كمثل الَّذِي يأكل ولا يشبع» . فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن مِمَّا يخاف عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، وسماها زهرة، فشبهها بالزهر، فِي طيب رائحته وحسن منظره، وقلة بقائه.
فهذه الفقرة اليسيرة، من جوامَعَ كلمه - صلى الله عليه وسلم -، حوت على إيجازها بشارة الصحابة الكرام بما سيكون على أيديهم، من فتح الْبِلاد، وإخضاع العباد، وجلب الأموال الطائلة، والغنائم الكثيرة، وتحذيرهم من الغرور، والركون إلى هَذِهِ الأَشْيَاءِ الفانية، والأعراض الزائلة.
وضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلين حكيمين أحدهما مثل المفرط فِي جمَعَ الدُّنْيَا، والآخِر مثل المقتصد فيها، أما الأول، فمثله مثل الربيع وَذَلِكَ قوله فَإِنَّ مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم، بأن يقارب الهلاك.
فهَذَا المطر ماء ينزله الله لإغاثة الخلق وإرواء كُلّ ذي روح فرغم فوائده الكثيرة ومنافعه الغزيرة وَمَا يتسبب عَنْ ذَلِكَ من إنبات العشب والكلاء، يأكل منه الْحَيَوَان فيكثر فينتفخ بطنه، فيهلك أَوْ يقارب الهلاك، وكَذَلِكَ الَّذِي يكثر من جمَعَ الْمَال، يكون عنده من الجشع والشره، والحرص، مَا يتجاوز به الحد، لا سيما إِذَا جمَعَ الْمَال من غير حله، ومنع ذَا الْحَقّ حقه، فَإِنَّ لم يقتله قارب أن يقتله.
شِعْرًا: ... تَوَقَّ مَصَارِعَ الْغَفَلاتِ وَاحْذَرْ ... فَلَيْسَتْ زِينَةُ الدُّنْيَا بِزِينَةْ
وَقَصْرُكَ عَنْ هَوَاكَ فَكُلُ نَفْسٍ ... غَدَاةَ غدٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةْ(2/190)
هِيَ الدُّنْيَا تَمُوجُ كَمَا تَرَاهَا ... بِمَا فِيهَا فَشَأْنَكَ وَالسَّفِينَةْ
آخر: ... إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ ... وَالْجُهُولُ الْجَهُولُ مَنْ يَصْطَفِيهَا
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمَؤمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا
آخر: ... وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا ... وَلَكِنْ لا سَبِيلَ إلى الْوُصُولِ
آخر: ... وَمَنْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ حَقِيرَةٍ ... فَقَدْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ
ولِذَلِكَ كثير من أَهْل الأموال قتلتهم أموالهم فَإِنَّهُمْ شرهوا فِي جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فَلَمْ يصلوا إلى ذَلِكَ إِلا بقتلهم، أَوْ مَا يقارب ذَلِكَ من إذلالهم وقهرهم والضغط عَلَيْهمْ.
وأما المثال الثاني: وَهُوَ مثال المقتصد فِي جمَعَ الدُّنْيَا، الطالب لحلها، فقَدْ مثل لَهُ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِلا آكلة الخضر» . فكأنه قَالَ ألا انظروا آكلة الخضراء، واعتبروا بشأنها " أكلت حَتَّى إِذَا امتدت خاصرتاها " وعظم جنباها، أقلعت سريعًا " استقبلت عين الشمس " تستمرئ بذَلِكَ مَا أكلت وتجتره " فثلطت " ألقت مَا فِي بطنها من أذى سهلاً رقيقًا.
وفي قوله: «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت» . ثلاث فَوَائِد أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته، وبركت مستقبلة عين الشمس، تستمرئ. الفائدة الثَّانِيَة أنها أعرضت عما يضرها من الشره فِي المرعى، وأقبلت على مَا ينفعها، مِنِ استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج مَا أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط مَا جمعته من المرعى فِي بطنها، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، هكَذَا جامَعَ الْمَال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هَذِهِ الشاة فتنبه لِذَلِكَ أيها المغفل الجموع المنوع.
شِعْرًا: ... وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا ... هِيَ السِّحْرُ فِي تَخْيِيلِهِ وَافْتِرَائِهِ(2/191)
مَتَاعُ غُرُورٍ لا يَدُومُ سُرُورُهَا ... وَأَضْغَاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِبَهَائِهِ
فَمَنْ أَكْرَمَتْ يَوْمًا أَهَانَتْ لَهُ غَدًا ... وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذَنَتْ بِبُكَائِهِ
وَمَنْ تُسْقِهِ كَأْسًا مِنْ الشَّهْدِ غُدْوَةً ... تُجَرِّعُهُ كَأْسَ الرَّدَى فِي مَسَائِهِ
وَمَنْ تَكْسُ تَاجَ الْمُلْكِ تَنْزَعُهُ عَاجِلاً ... بِأَيْدِي الْمَنَايَا أَوْ بِأَيْدِي عَدَائِهِ
أَلا إِنَّهَا لِلْمَرْءِ مِنْ أَكْبَرِ الْعِدَا ... وَيَحْسَبُهَا الْمَغْرُورُ مِنْ أَصْدِقَائِهِ
فَلَذَّاتُهَا مَسْمُومَةٌ وَوَعُودُهَا ... سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِنْ عَنَائِهِ
وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ ذَمِّهَا ... وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِنْ أَصْفِيَائِهِ
فَدُونَكَ آيَاتِ الْكِتَابِ تَجِدْ بِهَا ... مِن الْعِلْمِ مَا يَجْلُوا الصَّدَا بِجَلائِهِ
وَمَنْ يَكُ جَمْعُ الْمَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ ... فَمَا قَلْبهُ إِلا مَرِيضًا بِدَائِهِ
فَدَعْهَا فَإِنَّ الزُّهْدَ فِيهَا مُحَتَّمٌ ... وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الْوَرَى بِأَدَائِهِ
وَمَنْ لَمْ يَذَرْهَا زَاهِدًا فِي حَيَاتِهِ ... سَتَزْهَدُ فِيهِ النَّاسُ بَعْدَ فَنَائِهِ
فَتَتْرُكُهُ يَوْمًا صَرِيعًا بِقَبْرِهِ ... رَهِينًا أَسِيرًا آيِسًا مِن وَرَائِهِ
وَيَنْسَاهُ أَهْلُوهُ الْمُفَدَّى لَدَيْهِمُ ... وَتَكْسُوهُ ثَوْبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ
وَيَنْتَهِبُ الْوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ الَّتِي ... عَلَى جَمْعِهَا قَاسَى عَظِيمَ شَقَائِهِ
وَتُسْكِنَهُ بَعْدَ الشَّوَاهِقِ حُفْرَةً ... يَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ
يُقِيمُ بِهَا طولَ الزَّمَانِ وَمَا لَهُ ... أَنِيسٌ سِوَى دُودٍ سَعَى فِي حَشَائِهِ
فَوَاهًا لَهَا مِنْ غُرْبَةٍ ثُمَّ كُرْبَةٍ ... وَمِنْ تُرْبَةٍ تَحْوِي الْفَتَى لِبَلائِهِ
وَمَنْ بَعْدَ ذَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَهَوْلُهُ ... فَيُجْزَى بِهِ الإِنْسَانُ أَوْ فِي جَزَائِهِ
وَلا تَنْسَ ذِكْرَ الْمَوْتِ فَالْمَوْتُ غَائِبٌ ... وَلا بُدَّ يَوْمًا لِلْفَتَى مِنْ لِقَائِهِ
قَضَى اللهُ مَوْلانَا عَلَى الْخَلْقِ بِالْفَنَا ... وَلا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ
فَخُذْ أُهْبَةً لِلْمَوْتِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى ... لَتَغْنَمَ وَقْتَ الْعُمْرِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ
وَإِيَّاكَ وَالآمَالَ فَالْعُمْرُ يَنْقَضِي ... وَأَسْبَابُهُا مَمْدُودَةٌ مِنْ وَرَائِهِ
وَحَافِظْ عَلَى دِينِ الْهُدَى فَلَعَلَّهُ ... يَكُونُ خِتامَ الْعُمْرِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ(2/192)
.. فَدُونَكَ مِنِّي فَاسْتَمِعْهَا نَصِيحَةً ... تُضَارِعُ لَوْنَ التِّبْرِ حَالَ صَفَائِهِ
وَصَلَّى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مُسَلِّمًا ... سَلامًا يَفُوقُ الْمِسْكَ عَرْفَ شَدَائِهِ
عَلَى خَاتِمِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ ... وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ أَهْل كَسَائِهِ
وَاتْبَاعِهِمْ فِي الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بِالرُّبَا ... رِيَاضُ سَقَاهَا طَلَّهَا بِنَدَائِهِ
اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة بحبك وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وأرزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهَ وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب، والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض، والتحاسد، والتدابر.
ومهما كَانَ المثمر محمودًا، كَانَتْ الثمرة محمودة، وحسن الخلق لا تخفى فِي الدين فضيلته، وَقَالَ الله تَعَالَى لنبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَكْثَر مَا يدخل الْجَنَّة تقوىً وحسن الخلق» . وَقَالَ أسامة بن شريك قلنا: يَا رَسُول اللهِ مَا خَيْر مَا أعطى الإِنْسَان؟ فَقَالَ: «حسن الخلق» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت لأتمم مكارم الأَخْلاق» .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ خُلُقٌ حَسَنٌ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ أَلِفٌ مَأْلُوفٌ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ» . وَلأَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السَّلَمِيّ فِي آدَابِ الصُّحْبَةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِخْوَان صَالِحِينَ.
وَلِلإِخَاءِ أربع خِصَال: الأُولَى: الْعَقْلُ الْمَوْفُورُ الْهَادِي إِلَى مَرَاشِدِ الأُمُورِ(2/193)
بِإِذْنِ اللهِ فَإِنَّ الْحَمَقَ لا تَثَبِّتْ مَعَهُ مَوَدَّةٌ وَلا تَدُومُ مَعَهُ صُحْبَةٌ، لِعَدَمِ مُرَاعَاتِهِ حُقُوقِ الإِخَاءِ.
وَالْخُصْلَةِ الثَّانِيَة: الدّيِنِ الْوَاقِفِ بَصَاحِبِهِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ عَدُوٌ لِنَفْسِهِ يُلْقِيهَا فِي الْمَهَالِكِ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ نَفْعٌ وَمَوَدَّةٌ لِغَيْرِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اصْطَحِبْ مِنَ الإِخْوَان صَاحِبَ الدِّينِ، وَالْحَسَبِ، وَالْرَأْيِ وَالأَدَبِ، فَإِنَّهُ عَوْنٌ لَكَ عِنْدَ حَاجَتِكَ، لأَنَّ دِينَهُ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ وَيَدٌ عِنْدَ نَائِبَتِكَ، وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ رَأْيَهُ، وَحَسَبَهُ، وَأُنْسٌ عِنْدَ وَحْشَتِكَ لأَدَبِهِ.
وَمِنْ كَلامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الأَخُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِكَ، لأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَالأَخُ الصَّالِحُ لا يَأْمُرُ إِلا بِالْخَيْرِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَحْمُودُ الأَخْلاقِ، مَرْضِيّ الأَفْعَالِ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ، آمِرًا بِهِ لِخَلِيلِهِ، كَارِهًا لِلشَّرِّ دِيَانِة، وَخُلُقًا، نَاهِيًا عَنْ الشَّرِّ مُرُوءَة وَحَسَبًا، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الشَّرِّيرِ تُكْسِبُ الأَعْدَاءَ، وَتُفْسِدُ الأَخْلاقِ، وَلا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَة، وَتُورِثْ مَذَّمَةً وَمَلامَة.
وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَيْنِ لِلْجَلَيْسَ الصَّالِحُ، وَالْجَلَيْسَ السُّوءِ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِثْلُ الْجَلَيْسَ الصَّالِحِ، وَالْجَلَيْسَ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكَيرِ، فَحَامِل الْمِسْك إِمَّا أَنْ يَحْذِيكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخٌ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدْ مِنْهُ رِيحةً خَبِيثَةً» . مُتَفَقٌ عَلَيْهِ.
هَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنْ الْجَلَيْسَ الصَّالِحَ جَمِيعَ أَحْوَالِ صِديقه معه خَيْر وبركة ونفع ومغنم مثل حامل المسك الَّذِي تنتفع بما معه منه، إما بهبة، أَوْ ببيع أَوْ أقل شَيْء مدة الجلوس معه، وَأَنْتَ قَرِيرِ النَّفْسِ، مُنْشَرِح الصَّدْرِ، بِرَائِحَةِ المسك(2/194)
وَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَتَشْبِيهٌ لَهُ بِذَلِكَ وَإِلا فَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْعَبْدُ مِنْ جَلِيسِهِ الصَّالِحُ أَبْلَغُ وَأَفْضَلُ مِنْ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ، فَإِنَّهِ إِمَّا أَنْ يُعَلِّمُكَ أُمُورًا تَنْفَعُكَ فِي دِينِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُعَلِّمُكَ أُمُورًا تَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَهْدِي لَكَ نَصِيحَةً تَنْفَعُكَ مُدَّةَ حَيَاتِكَ، وَبَعْدَ وَفَاتِكَ أَوْ يَنْهَاكَ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّة لَكَ.
شِعْرًا: ... عَاشِرْ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ ... فالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ
كالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ ... نَتْنًا مِن النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِن الطَّيْبِ
فأنت معه دائمًا في منفعة، وربحك مضمون بإذن الله فتجده دائمًا يرى أنك مقصر في طاعة الله فتزداد همتك في الطاعة ويجتهد في الزيادة منها وتراه يبصرك بعيوبك ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله.
فالإنسان مجبول على التلقيد والاقتداء بصاحبه، وجليسه والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى الشر وأقل نفع يحصل من الجليس الصالح انكفاف الإنسان بسببه عن السيئات، والمساوي والمعاصي، رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر والله الموفق.
ومن ما فيستفاد من الجليس الصالح أنه يحمي عرضك في مغيبك، وفي ضرتك يدافع ويذب عنك ومن ذلك أنك تنتفع بدعائه لك حيًّا وميِّتًا.
وأما مصاحبة الأشرار فهي السم الناقع، والبلاء الواقع، فتجدهم يشجعون على فعل المعاصي، والمنكرات، ويرغبون فيها ويفتحون لمن خالطهم وجالسهم أبواب الشرور ويزينون لمجالسيهم أنواع المعاصي.
شِعْرًا: ... وَلا تَجْلِسْ إلى أَهْلِ الدَّنَايَا ... فَإِنَّ خَلائِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي
ويحثونهم على أذية الخلق، ويذكرونهم بأمور الفساد التي لم تدر في(2/195)
خلدهم، وإن همَّ بتوبة وانزجار عن المعاصي حسنوا عنده تأجيل ذَلِكَ، وطول الأمل، وأن ما أَنْتَ فيه أَهْوَن من غيره، وفي إمكانك التوبة، والإنابة إذا كبرت في السن.
وما يقلدهم به ويكسبه من طباعهم أكثر من ما ذكرنا، وَكَمْ قادوا أصحابهم إلى المهالك. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
شِعْرًا: ... وأَهَوَى مِنَ الشُّبَّانِ كُلَّ مُجِيبٍ ... عن اللهوِ مِقْدَامًا إلى كُلِّ طَاعَةِ
أَخُو عِفَّةٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ ... وَذُر رَغْبَةٍ فِيمَا يَقُودُ لجنّةِ
تَمَسَّكْ بِهِ إِنْ تَلْقَهُ يَا أَخَا التُّقَى ... تَمَسُكَ ذِي بُخْلٍ بِتِبْرٍ وَفِضَّةِ
أُحِبُّ مِن الإِخْوَانِ كُلَّ مُواتِي ... وَكلّ غضيض الطَّرْفِ عن هَفَوَاتِي
يُوَافِقُنِ فِيمَا بِهِ اللهُ رَاضِيًا ... وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْدَ مَمَاتِي
آخر: ... وَلا خَيرَ في الدُّنيا إِذَا لَم تَزَرْ بِهَا ... حَبِيبًا وَلَمْ يَطرَبْ إِلَيكَ حَبِيبُ
اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": وَكَمْ حث - صلى الله عليه وسلم - على أَهْل الدين فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المرء على دين خليله فلينظر المرء من يخالل» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: معناه لا تخالل إِلا من رضيت دينه وأمانته فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه، ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك، فتخالل من لَيْسَ مرضيًا في دنيه ومذهبه.
وَقَالَ سفيان بن عيينة: وقَدْ روي في تفسير هَذَا الْحَدِيث انظروا إلى فرعون معه هامان وانظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه قُلْتُ: وانظروا إلى يزيد بن معاوية معه مسلم بن عقبة المري شر منه، انظروا إلى سُلَيْمَانٌ بن عبد الملك صحبه رجَاءَ بن حيوة الكندي أحد الأعلام الأفاضل فقومه وسدده.(2/196)
وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تصَاحِب إِلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إِلا تقيٌّ» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: معنى الْحَدِيث لا تدعوا إلى مؤواكلتك إِلا الأتقياء، لأن المؤاكلة تدعو إلى الأفلة، وتوجبها، وتجمَعَ بين القُلُوب، يَقُولُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «فتوخ أن يكون خلطاؤك وذوو الاختصاص بك أَهْل التقوى» .
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلزموا مجالس العشائر فَإِنَّهَا تميت الْقَلْب، ولا يبالي الرجل بما تكلم ناديهم، وتفرقوا في العشائر فإنه أحرى أن تحفظوا في المقالة» .
وَقَالَ بَعْضهمْ: ينبغي للمُؤْمِنِ أن يجانب طلاب الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يدلونه على طلبها ومنعها وَذَلِكَ يبعده عن نجاته ويقضيه عَنْهَا ويحرض ويجتهد في عشرة أَهْل الْخَيْر وطلاب الآخِرَة:
شِعْرًا: ... اصْحَبْ مِن الإِخْوَانِ مَنْ أَخْلَصُوا ... للهِ فِي أَعْمَالِهِمْ واتَّقَوْا
وَمَنْ إِذَا تَكَاسَلتَّ فِي طَاعَةٍ ... للهِ لامُوكَ ولا قَصَّروْا
آخر: ... لَجَلْسَتِي مَعْ فَقِيهٍ مُخْلِصٍ وَرَعٍ ... أَنْفِي بِهَا الْجَهْلِ أَوْ أَزْدَدْ بِهَا أَدَبَا
أَشْهَى إِلَيَ مِنَ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... وَمِلْئِهَا فِضَّةً أَوْ مِلْئهَا ذَهَبًا
آخر: ... وَقارِن إِذا قارَنْتَ حُرًّا أَخًا تُقَى ... فَإِنَّ الْفَتَى يُزْرِي بِه قُرَنَاؤُهُ
آخر: ... وَمَنْ يَكُنِ الْغُرَابَ لَهُ دَلِيلاً ... يَمُرُّ بِهِ عَلى جِيفِ الْكِلابِ
كُلُّ مَنْ لا يَؤاخِيكَ فِي الله ... فَلا تَرْجُ أَنْ يَدُومَ إِخَاؤُهُ
خَيْرُ خِلٍ أَفْدَتْهُ ذُو إِخَاءٍ ... كَانَ للهِ وُدُهُ وَصَفَاؤهُ
وَقَالَ آخر: عَلَيْكَ بصحبة أَهْل الْخَيْر ممن تسلم منه في ظاهرك وتعينك رؤيته على الْخَيْر ويذكرك الله.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَدْ حَذَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مُجَالَسَة من لا يستفيد المرء به فضيلة، ولا يكتسب بصحبته علمًا وأدبًا.(2/197)
وعن وديعة الأنصاري قال: سمعت عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ وَهُوَ يعظ رجلاً: لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عَدُوّكَ، واحْذَرْ صَدِيقكَ إِلا الأمين ولا أمين إِلا من يخشى الله ويطيعه، ولا تمش مَعَ الفاجر، فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك ولا تشاور في أمرك إِلا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ سُبْحَانَهُ.
ووعظ بَعْضهمْ ابنه فَقَالَ له: إياك وإِخْوَان السُّوء، فَإِنَّهُمْ يخونون من رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب، ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الأَدَب والدين والمرء يعرف بقرينه، قال: والإِخْوَان اثنان فمحافظ عَلَيْكَ عَنْدَ البَلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلية، وتجنب صديق العافية فَإِنَّهُمْ أعدى الأعداء وفي هَذَا المعنى يَقُولُ الشاعر:
(أَرَى النَّاسَ إِخْوَانَ الرَّخَاءِ وَإِنَّمَا ... أَخُوكَ الَّذِي آخَاكَ عِنْدَ الشَّدَائد)
(وَكُل خليل بالهوْينا ملاطِفٌ ... وَلكنَّمَا الإِخْوَانِ عِنْدَ الشَّدائد)
آخر: ... إِذَا حَقَّقْتَ وِدًّا فِي صَدِيق ... فَزُرْهُ ولا تََخَفْ مِنْهُ مِلالا
وَكُنْ كالشَّمْسِ تَطْلعُ كُلَّ يَوْمٍ ... وَلا تَكُ فِي زِيَارَتِهِ هِلالا
آخر: ... فَما أَكثَرَ الإِخْوَانَ حِينَ تَعْدُّهُمْ ... وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَليلُ
آخر: ... وَكُلُّ مُقِلّ حِينَ يَغْدُو لِحَاجَةٍ ... إلى كُلّ يَلْقَى مِن النَّاسِ مُذْنِبُ
وكان بَنُوا عَمِّي يَقُولُونَ مَرْحَبَا ... فَلمَّا رَأَوْنِي مُعْدِمًا مَاتَ مَرْحَبُ
النَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ دَامَتْ لَهُ نِعَمٌ ... وَالْوَيْلُ لِلْمَرَءِ إِنْ زَلَّتْ بِهِ قَدَمُ
لمَّا رَأَيْتُ أَخِلائِي وَخَالِصَتِي ... وَالْكُلُّ مُنْقَبضٌ عَنِّي وَمُحْتَشِمُ
أَبْدَوْا صُدُودًا وَإِعْرَاضًا فَقُلْتُ لَهُمْ ... أَذنَبْتُ ذَنْبًا فَقَالُوا ذَنْبُكَ الْعَدَمُ
آخر: ... سَمِعْنَا بالصَّدِيق ولا نَراَهُ ... عَلى التَّحْقِيقِ يُوجَدُ فِي الأَنَام
آخر: ... فَرِيدٌ مِن الخلانِ فِي كُلِّ بلدةٍ ... إِذَا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ الْمُسَاعِدُ
آخر: ... وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ إِلا أَقَلَهُمْ ... خِفَافَ الْعُهُودِ يُكْثِرونَ التَّنَقُّلا(2/198)
.. بَنِي أُمِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِير يَرَوْنَهُ ... وَإِنْ كَانَ عَبْدًا سَيِّدَ الْقَوْمِ جَحْفَلا
وَهُمْ لِمُقلِّ الْمَالِ أَوْلادُ عَلَّةٍ ... وَإِنْ كَانَ مَحْضًا فِي الْعُمُومَةِ مُخْولا
آخر: ... وَلَيسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَسُوءُكَ إِنْ وَليَّ وَيُرْضِيكَ مُقْبِلا
وَلَكِنَّه النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْرُ أَعْضَّلا
آخر: ... دَعْوَى الإِخَاءِ مَعَ الرَّخَاءِ كَثِيرَةٌ ... وَمَعَ الشَّدَائدِ تُعْرَفُ الإِخْوَانُ
وعن شريك بن عَبْد اللهِ كَانَ يُقَالُ: لا تسافر مَعَ جبان فإنه يفر من أبيه وأمه، ولا تسافر مَعَ أحمق، فإنه يخذَلِكَ أحوج ما تَكُون إليه، ولا تسافر مَعَ فاسق فإنه يبيعك بأكلة وشربة.
وَعَنْ أَبِي مُوَسى الأشعري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام من قبضة قبضها مِنْ جَمِيعِ أجزاء الأَرْض فَجَاءَ بنوا آدم عَلَى قَدْرِ الأَرْض، مِنْهُمْ الأحمر، والأسود، والأَبْيَض، والسهل، والحزن.
قَالَ الْعُلَمَاء: في هَذَا الْحَدِيث بيان أن النَّاس أصناف، وطبقات، وأنهم متفاوتون في الطباع والأَخْلاق، فمِنْهُمْ الْخَيْر الفاضل، الذي ينتفع بصحبته، وصداقته، ومجاورته، ومشاورته، ومقارنته، ومشاركته، ومصاهرته ولا ينسى ما أسديت إليه من معروف عِنْدَمَا كَانَ مُحْتَاجًا.
شِعْرًا: ... وَإِنَّ أَوْلَى الْمَوَالِي أَنْ تُوَالِيهُ ... عِنْدَا السُّرُور الَّذِي وَاسَاكَ فِي الْحَزَنِ
إِنَّ الْكِرامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذَكَرُوا ... مَنْ كَانْ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ
آخر: ... نَسِيبُكَ مَنْ نَاسَبْكَ فِي الدِّينُ والتُّقَى ... وَجَارُكَ مَنْ أَحْبَبْتَ فِي اللهِ قُرْبَهُ
آخر: ... تَقِيُّ الدِّين يَجْتَنِبُ الْمَخَازِي ... وَيَحْمِيهِ عَنْ الْغَدْر الْوَفَاءُ
آخر: ... كُلُّ الأَنَامَ بَنُو أَبٍ لَكِنَّمَا ... بِالدِّينِ تُعَرْفُ قِيَمةٌ الإِنْسَانِ
آخر: ... إِذَا أَرَدْتَ شَرِيفَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ... فانْظُرُ إلى مُخْلِصِ لله فِي الدِّين(2/199)
وَمِنْهُمْ الرَّدِيء الناقص العقل الذي يتضرر بقربه، وعشرته، وصداقته وَجَمِيع الاتصالات به ضرر وشر، ونكد، وشبه ما لهَذَا الدلب المسمى الخنيز، وبَعْضهمْ يسميه شباب النار، فهَذَا النبت يمص الماء عن الشجر والزرع ويضيق عَلَيْهِ، ويضر من اتصل به. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في وصف المنحرفين مشبهًا لَهُمْ به وَهُوَ شبه مطابق:
فَهُمُ لَدَى غَرْسِ الإِلَهِ كَمَثْلِ غَرْ ... س الدَّلبُ بَيْنَ مَغَارِسِ الرُّمانِ
يَمْتَصُّ مَاءَ الزَّرْعِ مَعْ تَضْيِيقِهِ ... أَبَدًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَا قِنْوَانِ
آخر: ... النَّاسُ مِثْلُ ضُرُوفٍ حَشْوُهَا صَبِرٌ ... وَفَوْقَ أَفْوَاهِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَسَلِ
تَغُرُّ ذَائِقَهَا حَتَّى إِذَا كُشِفَتْ ... لَهُ تَبَيَّنَ مَا تَحْوِيهِ مِنْ دَخَلِ
ومنها السباخ الخبيثة التي يضيع بذورها، ويبيد زرعها وما بين ذَلِكَ على حسب ما يشاهد منها ويوَجَدَ حسًا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «النَّاس معادن)) . قال الخطابي على هَذَا الْحَدِيث، وفي هَذَا القول أيضًا بيان أن اختلاف النَّاس غرائز فيهم، كما أن المعادن ودائع مركوزة في الأَرْض فمنها الجوهر النفيس، ومنها الفلز الخسيس.
وكَذَلِكَ جواهر النَّاس، وطباعهم، منها الزكي الرضي، ومنها الناقص الدنيء. وإذا كَانُوا كَذَلِكَ، وكَانَ الأَمْر على العيان مِنْهُمْ مشكلاً واستبراء العيب فيهم متعذّرًا فالحزم إذًا الإمساك عنهم، والتوقف عن مداخلتهم إلى أن تكشف المحنة عن أسرارهم وبواطن أمرهم فيكون عَنْدَ ذَلِكَ إقدام على خبرة أو إحجام عن بصيرة.
شِعْرًا: ... وَقَلَّ مَنْ ضَمِنَتْ خَيْرًا طِوّيَتُهُ ... إِلا وَفي وَجْهِهِ للْخَيْرَ عُنْوَان
ولعلك أسعدك الله إذا خبرتهم، وإذا عرفتهم أنكرتهم، إِلا من يخصهم(2/200)
الثُّنْيَاءُ وَقَلِيْلٌ مَا هُمْ، وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ وَقُدَامُه قَوْمٌ يَصْنَعُوْنَ شَيْئًا كَرِهَهُ مِن كَلامٍ وِلَغَطٍ، فقِيْل َ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: «لَوْ نَهَيْتُهُمْ عَنْ الْحجَون، لأَوَشَكَ بَعْضُهمْ أَنْ يَأَتِيهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ» .
قَالَ الْخَطَّابِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَدْ أَنْبَأَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّرَّ طِبَاعٌ فِي النَّاسِ، وَأَنَّ الْخِلافَ عَادَةٌ لَهُمْ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِصَةُ آدَمَ وَحَوَاءَ حِيْنَمَا نَهَاهُمَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الأَكِلِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَكَلا مِنْهَا.
فَبَعْضُ النَّاسِ نَهْيُهُ عَنْ الشَيْء كَأْنَّهُ إِغْرَاءٌ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا نَهَيْتُه عَنْ شِدَةِ الإقْبَالِ على الدُّنْيَا والإقْلالِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، ازْدَادَ وَفَطِنَ لأَشياءِ قَدْ نَسِيَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَإِذَا زَخَرَتَ النَّفْسَ عَنْ شَغَفٍ بِهَا ... فَكَأنَّ زَجْرَ غَويْهَا إِغْرَاؤُهَا
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الشَّرُّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ، وَحُبِّ الْخِلافِ لَهُمْ عَادَةٌ، وَالْجَورُ فيهم سُنَّةٌ.
وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يُؤْذُونَ مَن لا يُؤْذِيهم، وَيَظْلِمُوْنَ مَنْ لا يَظْلِمُهُمْ، وَيُخَالِفُونَ مَنْ يَنْصَحُهُمْ، وَلا يمَنْعُهُمْ مِنَ الظُّلم إِلا خَوفٌ أَوْ رَجَاءَ.
وَقَدِيمًا قِيْلَ:
والظُّلْمُ مِنْ شِيمِ النُّفُوْسِ فَإِنَّ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعلَّةٍ لا يَظْلِمُ
قِيْلَ لِرَجُلٍ: أَمَا تَسْتَحِي تُؤْذِي جِيرَانَك؟ قَالَ: فَمَنْ أُوْذِيِ، أَأُوذِي مَنْ لا أَعْرَفُ. نَعُوذُ باللهِ مِنْ هَذِهِ الحالِ هَذَا مَطْبُوعٌ على الشَّرِّ والأَذِيَّةِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.(2/201)
" فَصْلٌ ": إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أَنَّ الإِخَاءَ فِيْمَا مَضَى غَالِبًا بَيْنَ الأَخَوَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْتَمِدُ على الله ثُمَّ عَلَى أَخِيْهِ، وَيَطْمِئِنَ إِلَيْهِ، فِي مَهَامِهِ كُلّ الإطْمِئْنَانِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يُؤآخِي أَخَاهُ على الصَّفَاءِ بَيْنَهُمْ وَالْحَنَانِ، كَأنَ الأَخَ نفس أخيه وربما زاد عنه في القيام بشئونه مرات، كان الأخ لا يؤآخي إلا إِذَا أَحَبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ.
وكَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَ أَخِيْهِ بِحَضْرَتِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ خِزَانَتِه مَا يُرِيْدُ، كَانَ أحدُهم إِذَا سَأَلَ أَخَاهُ مَا هُو محتَاجٌ إِلَيْهِ أَنَبَ نَفْسه إِذْ أَهْمَلَهُ حَتَّى أَفْصَحَ هُوَ عَنْ حَاجَاتِه، كَانَ بَعْضُهُمْ يُلاحِظُ بَعْضًا فَإذَا رَأَى فُرْجَةً سَدَّهَا وَوَجْهُ أَخِيْهِ غَيْرُ مَبْذُولٍ.
كَانَتْ الصُّحْبَةُ أَوْلاً صَافِيةً وَكَانَ الْحُبُ للهِ مَا فِيْهِ شَائبةٌ، أَوْ طَمَعٌ مِن الأطماعِ، وَحَيْثُ أَنَّ الصَّاحِب هُو الْعَضُدَ الأَقْوَى، وَالسَّاعِد الأَيْمَن لِلْمَرْءِ فِي حَيَاتِهِ وَمَا يَنْتَابُهُ فِي مُلِمَّاتِِهِ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْتَارَ أصحابَهُ وَيَنْتَقِيَ جُلَسَاءَهْ وَيَنْتَخِبَهُمْ مِن ذَوِي السِّيْرَةِ الْمَحْمُوْدَةِ والعقل الرَّاجِحِ، وَالرَّأْيُ السَّدِيدِ، والدَِين الْمَتِين، وَلْيَحْذَرْ مِنْ مؤاخاةِ مَن لا يَصْلَحُ للأخوةِ، ولا يُرَاعِي حقَّ الْوِدَادَ وآدابِ الْمُجَالَسَةِ والْمَحَادَثَةِ.
وَأوْصَى بَعْضُهُمْ ابنَهُ لَمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقَالَ: يَا بُنِيَ إِذَا أَرْدَتَ صِحْبَةَ إنسانٍ فاصْحَبْ مَن إِذَا خَدَمْتَه صَانَكَ، وإن صَحِبْتَهُ زَانَكَ، اصحبْ مَنْ إِذَا مدَدْتَ يَدَكَ للخَيْرِ مَدَّهَا، وإن رَأى منكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وإن رَأَى منكَ سَيِّئَةً سَدَهَا.
اصْحَب مَن إِذَا حَاوَلْتَ أَمْرًا أَعَانَك، وَنَصَرَكَ، وإن تَنَازَعْتُمَا فِي شَيْء آثَرَكَ، فَإِنْ يَسَّرَ اللهُ لََكَ بِصَاحبٍ مِن هَذَا الطِّرَازِ فاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه. قَالَ الإِمَامُ الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ: لَوْلا القِيَامُ بالأسحار، وَصُحْبَةُ الأخيار، ما اخْتَرْتُ البَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَقَالَ بَعْضُ الأُدَبَاءِ: أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ صَاحبُ وفَاءٍ.(2/202)
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ:
(هُمُومُ رِجَالٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرةٍ ... وَهَمٍيْ مٍن الدُّنْيَا صَدٍيقٌ مُسَاعِدُ)
(نَكُونُ كَرُوحٍ بَيْنَ جِسْمَيْنِ قُسِّمَتْ ... فَجَسْمَهُمَا جِسْمَانِ والرُوحُ َواحِدُ)
آخر: ... عَلَيْكَ من الإِخْوَانِ كُلَّ ثِقَاتِ ... حَمُولٍ لِعَبْءِ النَّائِبَاتِ مُوَاتِي
فذاكَ بِهِ فاشْدُدْ يَدَيكَ وَلاَ تُرِدْ ... بِهِ بَدَلاً فِي عِيْشَةٍ وَمَمَاتِ
يَحُوْطُكَ فِي غَيْبٍ ويَرْعَاكَ شَاِهداً ... ويَسْتُر مَا أَبْديْتَ مِن عَثَرَاتِ
ومَنْ لِيْ بِهَذا لَيْتَ أَنِّي لَقِيْتُهُ ... فَقَاسَمْتُهُ مَاليْ مِن الحَسَنَاتِ
آخر: ... ثِلاثُ خِصَالِ للصَّدِيقِ َجَعلتُهَا ... مُضَارعَةً للصَّوْمِ والصَّلواتِ
مُوَاسَاتُهُ والصَّفحُ عَنْ عَثَراتِهِ ... وتَرْكُ ابْتِذَالِ السِّرِّ فِي الخَلَواتِ
آخر: ... ومَنْ لَمْ يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِِيقْهِ ... وَعَن بَعْضِ ما فِيْه يَمُتْ وهْوَ عَاتِبُ
ومَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِداً كُلّ عَثْرةٍ ... يَجِدْهَا وَلاَ يَسْلَمْ لَهُ الدَهْرَ صَاحِبُ
آخر: ... هم النَّاس فِي الدُّنْيَا فلا بُدّ مِن قَذَى ... يُلمُّ بِعَيْشٍ أَوْ يُكَدِّر مَشْرَبَا
ومِن قِلّةِ الإنِصَافِ أَنَّكَ تَبْتَغِيْ ... الْمُهذَابَ فِي الدُّنْيَا ولَسْتَ المُهَدَّبَا
آخر: ... وَكَمْ مِنْ أَخٍ لَمْ تَحْتمِلْ مِنْهُ خَلَّةً ... قَطَعْتَ وَلَمْ يُمَكنْكَ مِنُه بَدِيلُ
وَمَنْ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ خَلِيلاً مُهَذَّبًا ... فَلَيْسَ لَهُ فِي العَالِمِيْن خَلِيْلُ
آخر: ... إِلْبَسْ عَلَى النَّقْصِ مَنْ تُصَاحِبُه ... يَدُمْ لَكَ الْوُدُ عِنْدَهُ أَبَدَا
وَقَارِبْ النَّاسَ عَلَى عُقُولِهِمْ ... أَوْ لا فَعِشْ فِي الأَنَامِ مُنْفَرِدَا
آخر: ... مَا صَاحِبُ الْمَرْءِ مَنْ إِنْ زَلَّ عَاقَبَهُ ... بَلْ صَاحِب الْمَرْءِ مَنْ يَعْفُوا إِذَا قَدِرَا
فَإِنْ أَرَدْتَ وِصَالاً لا يكدِّرُهُ ... هَجْرٌ فَكُنْ صَافِيًا لِلْخِلِ إِنْ كَدِرَا
آخر: ... إِذَا مَا كُنْتَ مُعْتَقِدًا صَدِيقًا ... فجربْهُ بِأَحْوَالٍ ثَلاِث
مُشَارَكَة إِذَا مَا عَنَّ خَطْبٌ ... وَإِسْعَافٌ بِعَيْنٍ أَوْ أَثَاثِ
وَسِرُّكَ فَأْتَمِنْهُ عَلَيْهِ وَانْظُرْ ... أَيَكْتُمُ أَمْ يُذِيعُ بِلا اكْتِرَاثِ
فَإِنْ صَادَفْتَ مَا تَرْضَى وَإِلا ... فَإِنَّ الْمَرْءَ ذَا عُقَدِ رِثَاثِ(2/203)
آخر: ... بِمَنْ يَثِقُ الإِنْسَانُ فِيمَا يَنُوبُهُ ... وَمِنْ أَيْنَ لِلْحُرّ الْكَرِيمِ صِحَابُ
وَقَدْ صَارَ هَذَا النَّاسُ إِلا أَقَلَهُمْ ... ذِئَابًا عَلَى أَجْسَادِهِنَّ ثِيَابُ
تَغَابَيْتُ عَنْ قَوْم فَظَنُّوا غَبَاوَةً ... بِمَفْرق أَغْبَانَا حَصَى وَتُرَابُ
إِلَى اللهِ أَشْكُو أَنَّنَا بِمَنَازِلٍ ... تَحَكَّمُ فِي أسَادِهِنَّ كِلابُ
آخر: ... لا تَغْتَر ربِبَنِي الزَّمَانِ وَلا تَقُلْ ... عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِي أَخٌ وَحَمِيمُ
جَرَّبْتُهُمْ فَإِذَا الْمَعَاقِرُ عَاقِرٌ ... وَالآلُ آلُ وَالْحَمِيمُ حَمِيمُ
آخر: ... وَرُبَّ أَخٍ لَمْ يُدْنِهِ مِنْكَ وَالِدٌ ... أَبَرُّ مِن ابْنِ الأُمِّ عِنْدَ النَّوَائِبِ
وَرُبَّ بَعِيدٍ حَاضِرٌ لَكَ نَفْعُهُ ... وَرُبَّ قَرِيبٍ شَاهِدٌ مِثْلَ غَائِبِ
ورُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «عليكم بإِخْوَان الصدق فَإِنَّهُمْ زينة فِي الرخاء وعصمة فِي البَلاء» . فإذا عزم الإِنْسَان على اصطفاء الإِخْوَان سبر أحوالهم قبل إخائهم وكشف عَنْ أخلاقهم قبل اصطفائهم. قَالَ بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا: ... كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَسْتَ تُنْكِرُهُ ... مَا دُمْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فِي يُسْرِ
مُتَصَنِّعٌ لَكَ فِي مَوَدَّتِهِ ... يَلْقَاكَ بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ
يُطْرِي الْوَفَاءَ وَذَا الْوَفَاء ... وَيَلْحِي الْغَدْرَ مُجْتَهِدًا وَذَا الْعَذْرِ
فَارْفُضْ بِإِجْمَالِ مَوَدَّةِ مَنْ ... يَقْلِي الْمُقِلَّ وَيَعْشَقُ الْمُثْرِي
وَعَلَيْكَ مَنْ حَالاه وَاحِدَةٌ ... فِي الْعُسْرِ مَا كُنْتَ وَبِالْيُسْرِ
آخر: ... أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدَتَ إِخَاءِهُمْ ... وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورهُمْ وَتَفَقَّدْ
فَإِذَا ظَفِرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى ... فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَأشْدُدِ
آخر: ... غَايضْ صَدِيقَكَ تَكْشِفْ عَنْ ضَمَائِرِهِ ... وَتَهْتَكِ السِّتْر عَنْ مَحْجُوبِ أَسْرَارِ
فَالْعُودُ يُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِ بَاطِنِهِ ... دُخَّانهُ حِينَ تُلْقِيهِ عَلَى النَّارِ
ولا تبعثه الوحدة على الإقدام قبل الخبرة، ولا حُسْن الظَّنِ على الاغترار بالتصنع.(2/204)
فإن التملق الَّذِي هُوَ القول الحسن مَعَ خبث الْقَلْب، مصائد العقول، والنفاق تدلَيْسَ الفطن، والملق والنفاق سجيتا المتصنع، ولَيْسَ فيمن يكون النفاق والملق سجاياه خَيْر يرجى، ولا صلاح يؤمل بل الشَّر والأَذَى فيه، فليكن اللبيب فطنًا حاذقًا، صَاحِب فراسة لا يُحْسِنُ الظَّنَّ بكل أحد.
شِعْرًا: ... فَلا تُلْزِمَنَّ النَّاسَ غَيْرَ طِبَاعِهِمْ ... فَتَتْعَبَ مِنْ طُول الْعِتَاب وَيَتْعَبُوا
فَتَارِكْهُمُ مَا تَارَكُوكَ فَإِنَّهُمْ ... إلى الشَّرِ مُذْ كَانُوا عَنْ الْخَيْرِ أَقْرَبُ
وَلا تَغْتَررُ مِنْهُمْ بِحُسْنِ بَشَاشَة ... فَأَكْثَرُ إِيمَاضِ الْبَوَارق خُلَّبُ
آخر: ... وَصَاحِبٌ لِي كَدَّاءِ الْبَطْنِ صُحْبَتُهُ ... يَوَدَّنِي كَوِدَادِ الذِّئْبِ لِلرَّاعِي
يُثْنِي عَليَّ جَزَاهُ اللهُ صَالِحَةً ... ثَنَاءَ هِنْدٍ عَلَى رَوْحِ بنِ زِنْبَاعِ
شِعْرًا: ... إِنِّي لأَعْرِفُ فِي الرِّجَالِ مُخَادِعًا ... يُبْدِي الصَّفَاءَ وَوِدُّهُ مَمْذُوقُ
مِثْلُ الْغَدِيرِ يُرِيك قُرْبَ قَرَارِهِ ... لِصَفَائِهِ وَالْقَعْرُ مِنْهُ عَمِيقُ
آخر: ... رَعَى اللهُ إِخْوَانَ التَّمَلُّقِ إِنَّهُمْ ... رَعَى اللهُ إِخْوَانَ التَّمَلُّقِ إِنَّهُمْ
فَلَوْ وَفوا كَنَّا أُسَارَى حُقُوقِهِمْ ... تَرَاوحُ مَا بَيْنَ النَّسِيئَةِ وَالنَّقْدِ
وقَالَ الحكماء: اعرف الرجل من فعله، لا من كلامه، وأعرف محبته من عينيه، لا من لِسَانه، وعَلَيْكَ بمن حالاه فِي العسر، واليسر واحدة أي يحبك كُلّ حين، سواء كنت غنيًا أَوْ فقيرًا أما إِخْوَان الرخاء فاتركهم. قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَلا خَيْرَ فِي وَدِّ امْرِئٍ مُتَلَوّنٍ ... إِذَا الرِّيحُ مَالَتْ مَالَ حَيْثُ تَمِيلُ
جَوَّادٌ إِذَا اسْتَغْنَيْتَ عَنْ أَخْذِ مَالِهِ ... وَعِنْدَ احْتِمَالِ الْفَقْرِ عَنْكَ بِخَيْلُ
فَمَا أَكْثَرُ الإِخْوَانِ حِينَ تَعَدُّهُمْ ... وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَلِيلُ
على أن الإِنْسَان موسوم بسمَاتَ من قارب، ومنسوب إليه أفاعيل من صَاحِب، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مَعَ من أحب» . وقَالُوا: ما من شَيْء أدل على شَيْء من الصَاحِب على صاحبه وقديمًا قِيْل:(2/205)
.. عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمَقَارِنِ يَقْتَدِي
آخر: ... إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ ... وَلا تَصْحَب الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَى
آخر: ... إِذَا بَخِلَ الصَّدِيقُ عَلَيْكَ يَوْمًا ... بِشَيْءٍ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ
فَمَثّلْ قَبْرَهُ فِي الأَرْضَ شَخْصًا ... وَقُلْ قَدْ مَاتَ لا أَسَفًا عَلَيْهِ
آخر: ... النَّاس شِبْهُ ظُرُوف حَشْوِهَا صَبِرٌ ... وَفَوْقَ أَفْوَاهِهَا شَيْءٌ مِن الْعَسَلِ
تحلوا لذائقها حَتَّى إِذَا انكشفت ... له تبين ما تحويه من دخل
آخر: ... وَأَكْثَرْ مَنْ شَاوَرْتَهُ غَيْرُ حَازِمٍ ... وَأَكْثَرُ مَنْ صَاحَبْتَ غَيْرُ مُوَافِقِ
إِذَا أَنْتَ فَتَشْتَ الرِّجَالِ وَجَدتَّهُمْ ... قُلُوبَ الأَعَادِي فِي جُلُودِ الأَصَادِقِ
آخر: ... وَأَعْظم آفَاتِ الرِّجَالِ نِفَاقُهَا ... وَأَهْوَنُ مَنْ عَادَيْتَهُ مَن يُدَاهِنُ
آخر: ... وَإِنْ قَرَّبَ السُّلْطَانُ أَخْيَارَ قَوْمِهِ ... وَاعْرَضَ عَنْ أَشْرَارِهِمْ فَهُوَ صَالِحُ
وَإِنْ قَرَّبَ السُّلْطَانُ أَشْرَارَ قَوْمِهِ ... وَاعْرِضَ عَنْ أَخْيَارِهِمْ فَهُوَ طَالِحُ
وَكُلُّ امْرِئٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ قَرِينُهُ ... وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي الْبَرِيَّةِ وَاضِحُ
آخر: ... وَإِذَا أَرَدْت تَرَى فَضِيلَة صَاحِبٍ ... فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْبَحْثِ مَنْ نُدَمَاؤُهُ
فَالْمَرْء مَطْوِيٌ عَلَى عَلاتِهِ ... طَيَّ الْكِتَابِ وَصَحْبُهُ عُنْوَانُهُ
آخر: ... تَحَرَّ إِذَا صَادَفْتَ مِنْ وِدُّهُ مَحْضُ ... يُصَانُ لَدَيْهِ الدِّينُ وَالْمَالُ وَالْعِرْضُ
فَكُلُّ خَلِيلٍ مُنْبِئٌ عَنْ خَلِيلِهِ ... كَمَا عَنْ شُؤونِ الْقَلْبِ قَدْ أَنْبَأَ النَّبْضُ
وَبِالصِّدْقِ عَامِلْ مَنْ تُحِبُّ مِن الْوَرَى ... وَإِلا فَذَاكَ الْحُبُّ آخِرُهُ الْبُغْضُ
آخر: ... تَجَنَّبْ صَدِيقًا مِثْلَ مَا وَاحْذَرْ الَّذِي ... يَكُونُ كَعَمَرْوٍ بَيْنَ عُرْبٍ وَأَعْجَمِي
فَإِنَّ قَرِينَ السُّوءِ يُرْدي وَشَاهِدِي ... كَمَا شرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدَّمِ
آخر: ... عَلَيْكَ بِأَرْبَابِ الصُّدُورِ فَمَنْ غَدَا ... مُضَافًا لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا
وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَة نَاقِصٍ ... فَتَنْحَطَّ قَدْرًا مِن عُلاكَ وَتُحْقَرا
فَرَفْعُ أَبُو مَنْ ثُمَّ خَفْضُ مُزَمَّلٍ ... يُبَيِّنُ قَوْلِي مُغْرِيًا وَمُحَذِّرَا
والإشارة فِي قوله: «ثُمَّ خفض مزمل " إِلَى قوله امرئ القيس:(2/206)
.. كَأَنَ أَبَانًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وَذَلِكَ أن مزملاً صفةُ لكبير، فكَانَ حقه الرفع ولكن خفض لمجاروته المحفوض.
كَانَ جندب بن عَبْد اللهِ الأنصاري صديقًا لعبد الله بن عباس فقَالَ لَهُ حين ودعه: أوصني يَا ابن عباس فإني لا أدري أنجتمع بعدها أم لا.
فقَالَ: أوصيك يَا جندب ونفسي بِتَوْحِيدِ اللهِ وإخلاص الْعَمَل لله وإقام الصَّلاة وَإِيتَاء الزَّكَاة فَإِنَّ كُلّ خَيْر أتيت بعد هَذِهِ الخصال مقبول وإِلَى اللهِ مرفوع ومن لم يكمل هَذِهِ الأَعْمَال رد عَلَيْهِ ما سواها.
وكن فِي الدُّنْيَا كالغريب المسافر واذكر الموت والْتَهُن الدُّنْيَا عَلَيْكَ فكأنك قَدْ فارقتها وصرت إِلَى غيرها واحتجت إِلَى ما قدمت ولم تنتفع بشَيْء مِمَّا خلفْتَ ثُمَّ افترقا.
كتب عمر إِلَى ابنه عَبْد اللهِ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّ من اتقاه كفاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده، فاجعل التَّقْوَى عماد بصرك ونور قلبك.
وأعلم أنه لا عمل لمن لا نية لَهُ، ولا جديد لمن لا خلق لَهُ، ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ، ولا مال لمن لا رفق لَهُ، ولا أجر لمن لا حسُنَّة لَهُ.
اللَّهُمَّ اجعل فِي قلوبنا نورًا فَنَهْتَدِي بِهِ إليك وتولنا بحسن رعايتك حَتَّى نتوكل عَلَيْكَ وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك. فالعزيز من لاذ بعزك والسَّعِيد من التجأ إِلَى حماك وجودك، والذليل من لم تؤيده بعنايتك، والشقي من رضي بالإعراض عَنْ طَاعَتكَ. اللَّهُمَّ نزه قلوبنا عَنْ التعلق بمن دونك وَاجْعَلْنَا مِنْ قوم تحبهم ويحبونك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلكين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/207)
" فَصْلٌ "
والمؤاخاة فِي النَّاس على وجهين أحدهما أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار، وَالثَّانِيَة مكتسبة بالْقَصْد والاختيار، فَأَمَّا المكتسبة بالاتفاق فهي أوكد حالاً، لأنها تنعقَدْ عَنْ أسباب موجودة فِي الْمُتَآخِينَ، تعود المؤاخاة إِلَى تلك الأسباب، وهي موجودة فطرة.
فالمؤاخاة ضرورية لا يمكن دفعًا،كما لا يمكن دفع الإيلام، والمكتسبة بالْقَصْد، تعقَدْ لها أسباب اختيارية، تنقاد إليها، وتعتمد عَلَيْهَا بحسب قوتها وضعفها، وَرُبَّمَا تَكُون تَكَلُّفًا وخديعة، فتصير المؤاخاة معاداة، وما كَانَ جاريًا بِالطَّبْعِ فهو ألزم، مِمَّا هُوَ حادث بالْقَصْد.
إنما كَانَ كَذَلِكَ لأن الإتلاف بالتَّشَاكُلِ والتوافق، والتشاكل بالتجانس فإذا عدم التجانس من وجه، انتفى التشاكل من وجه ومَعَ انتفاء التشاكل يعدم الإئتلاف فثَبِّتْ أن التجانس، وإن تنوع أصل الإخاء وقاعدة الإئتلاف.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف فيها ائتلف وما تناكر مَنْهَا اختلف» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، فالظواهر التي تبدو لَنَا ونراها فِي الاجتماعات العامة، ميل كُلّ امرئ إِلَى من يشاكله ويناسبه، روحَا وخلقَا، أَوْ دينَا، وأدبَا أَوْ مبدأ أَوْ مذهبَا أَوْ حرفة وعملاً.
قِيْل: إن إياسًا سافر إِلَى بلد فَلَمَّا وصل وصادف بَعْض أَهْل البلد وجرى بينهم كلام قَالَ إلياس: عرفنا خياركم من شراركم فِي يومين؟ فقِيْل لَهُ: كيف؟ ؟ قَالَ: كَانَ معنا خيارنا وشرارنا فلحق كُلّ بشكله خيارنا لحقوا بخياركم وشرارنا لحقوا بشراركم فألف كُلٌّ شكله. أ.هـ.
شِعْرًا: ... وَالأَلْفُ يَنْزِعُ نَحْوَ الآلِفِينَ كَمَا ... طَيْرَ السَّمَاءِ عَلَى أُلافِهَا تَقَعُ(2/208)
آخر: ... إِذَا بُلِي اللَّبِيبُ بِقُرْبِ فَدْمِ ... تَجَرَّعَ فِيهِ كَاسَاتِ الْحُتُوفِ
فَذُو الطَّبْعِ الْكَثِيفِ بِغَيْرِ قَصْدٍ ... يَضُرُّ بِصَاحِبِ الطَّبْعِ اللَّطِيفِ
وَذَلِكَ أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلافًا ... كَحُمَّى الرّبْعِ فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ
آخر: ... وَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمُزَاحَ فَإِنَّهُ ... يُطَمِّعُ فِيكَ الطِّفْلَ وَالرَّجُلَ النَّذْلا
وَيُذَهِّبُ مَاءَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ ... وَيُورِثُ بَعْدَ الْعِزِّ صَاحِبَُهُ ذُلا
آخر: ... تَوقَّ بَنِي الزَّمَانِ فَكَمْ خَلِيلٍ ... مِنْ الْخِلانِ مَذْمُوم الْخَلالِ
وَخَفّفْ مَا اسْتُطَعْتَ فَكُلُّ نَذْلٍ ... يَرَى رَدَّ السَّلامِ مِن الثِّقَالِ
وَلا تَنْظُرْ لِجِسْم الْمَرْءِ وَانْظُرْ ... دِيَانَتَهُ فَإِنَّ الْجِسْمَ آلِ
وَإِنْ عَايَنْتَ ذَا فِسْقِ وَكُفْرِ ... فَخَفْهُ فَذَاكَ أَخْتَلُ مِنْ ذُؤَالِ
آخر: ... إِذَا أَنْتَ سَارَرْتَ فِي مَجْلِسٍ ... فَإِنَّكَ فِي أَهْلِهِ مُتَّهَمْ
فَهَذَا يَقُولُ قَدْ اغْتَابَنِي ... وَذَا يَسْتَرِيبُ وَذَا يَأْثَمُ
آخر: ... وَقَدْ تَعَامَى رِجَالٌ لَوْ تَبَيَّنُ لَهُمْ ... سَجِيَّةُ النَّاسِ خَافُوا كُلَّ مَنْ أَمِنُوا
ذَمَمْتُ وَقْتَكَ أَنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ... بِمِثْلِ مَا تَشْتَكِيهِ يُعْرَفُ الزَّمَنُ
خِفْ مِنْ جَلِيسِكَ وَاصْمُتْ إِنْ بُلِيتَ بِهِ ... فَالْعِيُّ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْبِكُ اللَّسِنُ
آخر: ... كَانَ إِجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيمَا مَضَى ... يُورِثُ لِلْبَهْجَةِ وَالسَّلْوَةْ
فَانْقَلَبَ الأَمْرُ إِلَى ضِدِّهِ ... فَصَارَت السَّلْوَةُ فِي الْخَلْوَةْ
شِعْرًا: ... مُخَالِطُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى خِطَرٍ ... وَفِي بَلاءٍ وَصَفْوٍ شِيبَ بِالْكَدَرَ
كَرَاكِبِ الْبَحْرِ إِنْ تَسْلَمْ حُشَاشَتُهُ ... فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْ خَوْفِ وَمِنْ حَذَرِ
فتَرَى المجتمعين بعد مدة وجيزة من بدئ الاجتماع، قَدْ انقسموا جماعات، تتحدث كُلّ جماعة فِي شؤونها الخاصة، وأمورها المشتركة، وتتغير نفوسها إِذَا رأت دخيلاً بين جماعتها لا تربطه بِهُمْ صلة، ولا تجمعهم به جامعة، وعِنْدَمَا تركب فِي قطار، أَوْ سيارة أَوْ سفينة، أَوْ فِي مجلس من المجالس، تَرَى نفسك منجذبة إِلَى بَعْض الحاضرين مشمئزةً ونافرةً من الآخرين، وَرُبَّمَا أنه لم يكن قبل ذَلِكَ اجتماع ولا تعارف، ولا تعاد وتخاصم.(2/209)
فالسِّرّ فِي هَذَا ما بينه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهَذَا الْحَدِيث فهو يَقُولُ: «إن أرواح العباد ونفوسهم جنود مجتمعة، وجيوش مجيشة فالتي بينها تعارف وتشاكل وتوافق وتناسب، يألف بعضها بَعْضًا، ويسر باجتماعه، ويفرح لقائه، لاتفاق فِي المبدأ وتقارب فِي الروح» .
روى أبو يعلى فِي مسنده عَنْ عمرة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَتْ: كَانَتْ امرأة بمَكَّة مزاحة، فنزلت على امرأة مثلها فِي الْمَدِينَة، فبلغ ذَلِكَ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: صدق حبي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف مَنْهَا ائتلف، وما تناكر مَنْهَا اختلف» .
فالأخيار الأَبْرَار الأتقياء الأمجاد الأطهار، إِذَا وجدوا فِي مجتمَعَ جذبوا أشباهم، أَوْ انجذبوا إليهم، وسرى بينهم تيار من المحبة جمَعَ قلوبهم وقوَّى روابطها وثَبّتْ صلتها.
قَالَ بَعْضهمْ:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْقَلْبَ نَحْوَكَ شَيِّقٌ ... وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَى مِن الشَّوْقِ أَعْلَمُ
فُؤُدُّكَ عَنْ وِدِّي إِلَيْكَ مُبَلِّغٌ ... وَقَلْبُكَ عَنْ قَلْبِي إِلَيْكَ يُتَرْجِمُ
وكَذَلِكَ الأَشْرَار والفجار والفسقة والظلمة، إِذَا حضروا بناد بادر إليهم الفسقة، والمجرمون، والسفلل، واللؤماء، وجذبهم قرناؤهم، ونفروا ممن لا يتخلق بأخلاقهم، ولا يسير فِي ركابهم.
قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن مؤمنًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة منافق، ومُؤْمِن واحد لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه، ولو أن منافقًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة مُؤْمِن ومنافق واحد، لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه» .
وَهَذَا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بِالطَّبْعِ، وإن كَانَ هُوَ لا يشعر به، وكَانَ مالك بين دينار يَقُولُ: «لا يتفق إثنان فِي عشرة إِلا وفي أحدهما(2/210)
وصف عَنْ الآخِر، وأن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير فِي الطيران إِلا وبينهما مناسبة» .قَالَ: فرأى يَوْمًا غربًا مَعَ حمامة فعجب من ذَلِكَ فقَالَ: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثُمَّ طارا فإذا هما أعرجان فقَالَ: من ها هنا اتفقا. وقَالَ بَعْض الحكماء: كُلّ إنسان إِلَى شكله كما أن كُلّ طير يطير مَعَ جنسه. قَالَ بَعْضُهُمْ:
(لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ يَقَرُ بِعَيْنِهِ ... وَقُرَّةُ عَيْنِ الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الْفَسْلا)
وَيَقُولُ الآخر:
وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَذِمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلاً
وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْر مُعْضِلاً
آخر: ... مَنْ خَصَّ بِالشُّكْرِ الصَّدِيقَ فَإِنَّنِي ... أَحْبُو بِخَالِصِ شُكْرِيَ الأَعْدَاءَ
نَكِّرُوا عَليَّ مَعَائِبِي فَحَذِرْتُهَا ... وَنَفَيْتُ عَنْ أَخْلاقِي الأَقْذَاءَ
وَلَرُبَّمَا انْتَفَعَ الْفَتَى بِعَدُوِّهِ ... وَالسُّمُّ أَحْيَانًا يَكُون شِفَاءَ
آخر: ... وَكَمْ مِنْ عَدُوّ صَارَ بَعْدَ عَدَاوَةِ ... صَدِيقًا مُجِلاً فِي الْمَجَالِسِ مُعَظِّمَا
وَلا غُرْوَ فَالْعَنْقُودُ مِنْ بَعْد كَرْمِهِ ... يُرَى عِنَبًا مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ حِصْرِمَا
آخر: ... لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي يَلْقَاكَ مُتْبَسِمًا ... وَلا الَّذِي بِالتَّهَانِي وَالسُّرُورِ يُرَى
إِنَّ الصَّدِيقُ الَّذِي يُولِي نَصِيحَتُهُ ... وَإِنْ عَرَتْ شِدَّةُ أَغْنَى بِمَا قَدِرَا
آخر: ... عَاشِرْ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَبْقَى مَزَدَّتُهُ ... فَأَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعٌ غَيْرِ مُؤْتَلِفِ
مِنْهُمْ صَدِيقٌ بِلا قَافٍ وَمَعْرِفة ... بِغَيْرِ فَاءٍ وَإِخْوَانٌ بِلا أَلِفِ
آخر: ... إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُنْصِفْ أَخَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ... لَهُ غَائِبًا يَوْمًا كَمَا هُوَ شَاهَدُ
فَلا خَيْرَ فِيهِ فَالْتَمِسْ غَيْرَهُ أَخًا ... كَرِيمًا عَلَى صِدْقِ الإِخَاءِ يُسَاعِدُ
آخر: ... وَقُلْتُ أَخِي قَالُوا أَخَ مِنْ قَرَابَةً ... فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ
نَسِيبِي فِي رَأْي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي ... وَإِنْ فَرَّقْتَنَا فِي الأُصُولِ الْمَنَاسِبُ
وإذا عرفت رجالاً بالبر والتقى والاستقامة ونفرت مِنْهُمْ نفسك ونبأ عنهم(2/211)
قلبك، فاعْلَمْ إِنَّكَ مريض، أما مرض شبهة وإِلا مرض شهوة، وأنك ناقص معيب، دونهم فِي الطهارة، فداو نفسك من عيوبها، وطهرها من أوزارها حَتَّى تتقابر الأرواح وتتشاكل النُّفُوس، فتحل الألفة محل النفرة.
وإذا رَأَيْت نفسك تميل إِلَى من تعرفهم بالشَّر والفجور، والفسق والخلاعة والعهر فإتهم نفسك واستدرك عمرك قبل الفوت، وابتعد عنهم كُلّ البعد، وتب إِلَى الله واسأله أن يعافيك مِمَّا ابتلاهم.
وإذا رَأَيْت نفسك تحدثك بأنك البر الأمين التقي المخلص أَوْ الإِنْسَان المهذب، فكذب نفسك فِي الإعجاب، وفي هَذَا الوهم الكاذب، وأعتقَدْ إِنَّكَ غر مخدوع، وأبله مفتون، ففتش فِي زوايا قلبك، تجد للباطل ركنًا، وللشيطان حظًا، وللفساد جوًا وَهَذَا ما جذب قلبك إِلَى الأَشْرَار.
وإذا رأيتك تميل إِلَى الأخيار، وتحب مجالسهم، وتنجذب نفسك إليهم، مَعَ علمك بسوء سيرتك واعوجاج طريقتك، فاعْلَمْ أن فيك بقبة خَيْر، ولا يزال فيك أمل فَرَبِّ هَذِهِ البقية وَقَوِّ هَذَا الأمل، حَتَّى يرحل عَنْكَ الشَّر، وتدخل فِي حزب الْخَيْر.
وكَذَلِكَ إِذَا رَأَيْت فِي نفسك بَعْض الميل للمجرمين، وأَنْتَ طاهر تقي نقي، فاعرف أن الشيطان قَدْ نفث فيك نفثة، وثغر فِي قلبك يغرة، فتدارك أمرك وتحصن منه واستعذ بِاللهِ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} الآيَة، وقَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخر السورة أ. هـ. من الأَدَب النبوي.
وَعَنْ أَبِي ذر أنَّه قَالَ: الصَاحِب الْخَيِّرُ خَيْر من الوحدة، والوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء، ومملي الْخَيْر خَيْر من الساكت، والساكت خَيْر من مملي الشَّر. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.(2/212)
" فَصْلٌ "
قَالَ بَعْض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق لأن الأحمق ربما ضر وَهُوَ يقدر أن ينفع لعدم تمييزه بين النفع والضر فيتجاوز الحد، والعاقل لا يتجاوز الحد فِي مضرته فمضرته لها حد يقف عَلَيْهِ العقل إِذَا انتهى إلى ذَلِكَ الحد.
ومضرة الجاهل لَيْسَتْ بذات حد والمحدود أقل ضررًا مِمَّا هُوَ غير محدود قَالَ بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا: ... وَلأَنْ يُعَادِي عَاقِلاً خَيْرٌ لَهُ ... مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ
فَارْغَبْ بِنَفْسِكَ أَنْ تُصَادِقَ جَاهِلاً ... إِنَّ الصَّدِيقَ عَلَى الصَّدِيقِ مُصَدِّقُ
وقَالَ بَعْض الأدباء من أشار عَلَيْكَ بمصاحبة جاهل لم يخل من أمرين إما أن يكون صديقًا جاهلاً، ما يعرف ولا يميز بَيْنَ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ وَمَنْ لا يَصْلُحُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ هَذَا الْمُشِيرُ عَلَيْكَ عَدُوًّا لَكِنَّهُ عَاقِلٌ لأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَضُرُكَ وَيَحْتَالُ عَلَيْكَ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُكَ، وَقَدِيمًا قِيْل:
وَلا تَصْحَب الحمقى فذو الجهل أن يروا ... صلاحًا لأمرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ مُفْسِد
ويقول الآخر:
فعداوة مِنْ عَاقِلٍ مُتَجَمِّلٍ ... أَوْلَى وَأَسْلَم مِنْ صَدَاقَةِ أَحْمَقِ
وقَالَ بَعْضهمْ: الأَصْدِقَاءُ ثَلاثَةٌ أَحَدُهُمْ كَالْغِذَاءِ لا بُدَّ مِنْهُ، وَالثَّانِي كَالدَّوَاءِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالثَّالِثُ كَالدَّاءِ لا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَط. وقَدْ قِيْلَ: مِثْل جُمْلَةِ النَّاسِ كَمِثْل الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَمِنْهَا مَا لَهُ ظِلّ ولَيْسَ لَهُ ثمر وَهُوَ مثل الَّذِي ينتفع به فِي الدُّنْيَا دون الآخِرَة، فَإِنَّ نفع الدُّنْيَا كالظِلّ السريع الزَوَال، ومنها ما لَهُ ثمر ولَيْسَ لَهُ ظِلّ.(2/213)
ومنها ما لَيْسَ لَهُ واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيها ولا شراب ومثله من الْحَيَوَان الحية والعقرب والفأر ومثله فِي النَّبَات الخنيز فإنه يضيق على الزرع ويضر من لمسه ولا يؤكل ولا لَهُ تمر يؤكل.
وَيَشْرَبُ مَاءَ الزَّرع وَيَعُوقُ نُمُوَّهُ ... إِذَا فَلا بُدَّ مِنْ الإِخْتِيَار قَبْلَ الْمُعَامَلَة
شِعْرًا: ... لا تَشْكُرَنَّ فَتىً حَتَّى تُعَامِلَهُ ... وَتَسْتَبِينَ مِن الْحَالَينِ إِنْصَافَا
فَقَدْ تَرَى رَجُلاً بَادِي الصَّلاحِ فَإِنْ ... عَامَلْتَهُ فِي حَقِيرٍ غَشَّ أَوْ حَافَا
آخر: ... النَّاسُ شَتَّى إِذَا مَا أَنْتَ ذُقْتَهُمُ ... لا يَسْتَوُونَ كَمَا لا تَسْتَوِي الشَّجَرُ
هَذَا لَهُ ثَمَرٌ حُلْوٌ مَذَاقَتُهُ ... وَذَاكَ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَلا ثَمَرُ
إذا فهمت تفاوت النَّاس فِي العقل والدين فعَلَيْكَ قبل الصداقة أن تفحص عَنْ من تريد صداقته وإخاءه فإذا حصلت على من ترضاه دينًا وعقلاً وأدبًا فألزمه، كما قِيْل:
أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ ... وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورَهُمْ وَتَفَقَّدِ
فَإِذَا ظَفَرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى ... فِبهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ
آخر: ... لا تَمْدَحَنَّ امْرأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ ... وَلا تَذُمَنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ
فَإِنَّ حَمْدَكَ مَنْ لَمْ تَبْلُهُ سَرَفٌ ... وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعْدَ الْحَمْدِ تَكْذِيبُ
آخر: ... جَامِلْ أَخَاكَ إِذَا اسْتَربْتَ بِوِدِّهِ ... وَانْظُرْ بِهِ عُقْبَى الزَّمَانِ يُعَاوِدُ
فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْفَسَادِ فَخَلَّهِ ... فَالْعُضْوُ يُقْطَعُ لِلْفَسَادِ الزَّائِدِ
وقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل النَّاس فيها أربعة أقسام: متى خلط أحد الأقسام بالآخِر ولم يميز بينهما دخل عَلَيْهِ الشَّر.
أحدهما: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عَنْهُ فِي الْيَوْم فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثُمَّ إِذَا احتاج إليه خالطه هكَذَا على الدوام. وَهَذَا الضرب أعز من(2/214)
الكبريت الأحمر وهم الْعُلَمَاء بِاللهِ وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض الْقَلْب وأدويتها الناصحون لله ولرسوله ولخلقه. فهَذَا الضرب فِي مخالطتهم الرِّبْح كُلّ الرِّبْح.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عَنْدَ المرض فما دمت صحيحًا فلا حَاجَة لَكَ فِي خلطته، وهم من لا يستغنى عَنْ مخالطتهم فِي مصلحة المعاش، وقيام ما أَنْتَ محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضت حاجتك من مخالطة هَذَا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.
فمِنْهُمْ من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وَهُوَ من لا تربح عَلَيْهِ فِي دين ولا دنيا، ومَعَ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِنْ أن تخسر عَلَيْهِ الدين والدُّنْيَا أَوْ أحدهما، فهَذَا إِذَا تمكنت منك مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.
وَمِنْهُمْ من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك فإذا فارقك سكن الألم.
وَمِنْهُمْ من مخالطته حمى الروح، وَهُوَ الثقِيْل البغيض، الَّذِي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نَفْسهُ فيضعها منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قُلُوب السامعين، مَعَ إعجابه بكلامه وفرحه به.
فهو يحدث من فيه كُلَّما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأَرْض ويذكر عَنْ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ أنه قَالَ: ما جلس إِلَى جانبي ثقِيْل إِلا وجدت الجانب الَّذِي يليه أنزل من الجانب الآخِر.(2/215)
قَالَ بَعْضهمْ:
يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ ... كَمَا تَبَرَّمَتِ الأَجْفَانُ بِالسُّهُدِ
يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مُخْتَالاً فَأَحْسِبُه ... لِثقْل طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي
وقَالَ ابن القيم:
ورَأَيْت يَوْمًا عَنْدَ شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هَذَا الضرب، والشَّيْخ يحمله، وقَدْ ضعفت القوى عَنْ حمله، فالتفت إلي وقَالَ: مُجَالَسَة الثقِيْل حمى الربع، ثُمَّ قَالَ: لكن قَدْ أدمنت أرواحنا على الحمى، فصَارَت لها عادة أَوْ كما قَالَ:
قال بعضهم:
مَا حِيلَتِي فِي ثَقِيْلٍ قَدْ بُلِيتَ بِهِ ... مِنْ قُبْحِ طَلْعَتِهِ يَسْتَحْسَنُ الرَّمَدُ
قَدْ زَادَ فِي الثِّقْلِ حَتَّى مَا يُقَارِبُه ... فِي ثِقْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى وَلا أَحُدُ
ومرض الشعبي فعاده ثقِيْل فأطال الجلوس ثُمَّ قَالَ للشعبي: ما أشد ما مر بك فِي مرضك؟ قَالَ: قعودك عِنْدِي.
ومر به صديق لَهُ وَهُوَ بين ثقِيْلين فقَالَ لَهُ: كيف الروح؟ فقَالَ: فِي النزع يعني فِي شدة عظيمة.
وبالجملة: فمخالطة كُلّ مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة.
ومن نكد الدُّنْيَا على الْعَبْد أن يبتلى بواحد من هَذَا الضرب، ولَيْسَ لَهُ بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حَتَّى يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا ومخرجًا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلته بمنزلة أكل السم، فَإِنَّ اتفق لآكله ترياق، وإِلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هَذَا الضرب فِي النَّاس لا كثرهم الله.(2/216)
وهم أَهْل البدع والضلالة، والصادون عَنْ سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الداعون إِلَى خلافها، الَّذِي يصدون عَنْ سبيل ويبغونها عوجًا، فيجعلون البدعة سُنَّة، والسُنَّة بدعة، والمعروف منكرًا والْمُنْكَر معروفًا.
إن جردت التَّوْحِيد بينهم قَالُوا: تنقصت جناب الأَوْلِيَاء والصالحين.
وإن جردت المتابعة لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: أهدرت الأَئِمَّة المتبوعين.
وإن وصفت الله بما وصف به نَفْسهُ وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قَالُوا: أَنْتَ من المشبهين.
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عَنْهُ ورسوله من الْمُنْكَر قَالُوا: أَنْتَ من المفتونين.
وإن تبعت السُنَّة وتركت ما خالفها قَالُوا: أَنْتَ من أَهْل البدع المضلين.
وإن انقطعت إِلَى الله تَعَالَى، وخليت بينهم وبين جيفة الدُّنْيَا قَالُوا: أَنْتَ من المبلسين.
وإن تركت ما أَنْتَ عَلَيْهِ واتبعت أهواءهم فأَنْتَ عَنْدَ الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين.
فالحزم كُلّ الحزم: التماس مرضاة الله تَعَالَى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل باعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قَالَ:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِص ... فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي فَاضِل
وَقَالَ آخر:
وَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي ... بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئِ غَيْرِ طَائِلِ(2/217)
فمن أيقظ بواب قَلْبهُ وحارسه من هَذِهِ المداخل الأربعة التي هِيَ أصل بَلاء العَالِم.
وهي: فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحزره من الشيطان فقَدْ أخذ بنصيبه من التَّوْفِيق. وسد عَنْ نَفْسهُ أبواب جهنم، وفتح عَلَيْهَا أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه.
ويوشك أن يحمد عَنْدَ الْمَمَات عاقبة هَذَا الدواء، فعَنْدَ الْمَمَات يحمد القوم التقي، وفي الصباح يحمد القوم السري، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لا رب غيره ولا إله سواه. أ. هـ.
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" موعظة "
عباد الله لا شَيْء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبلَيْسَ وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الإمارة بالسُّوء وأنتم تصادقونها، لَقَدْ مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.
يا حاضر الجسم والْقَلْب غائب، اجتماع العيب مَعَ الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا فِي لعب وسهو وغَفْلَة، يَا لها من مصائب، كفى زَاجِرًا وَاعِظاً تشيب منه الذوائب، يَا غافلاً فاته الأرباح وأفضل(2/218)
المناقب، أين البُكَاء والحزن والقلق لخوف العَظِيم الطالب أين الزمان الَّذِي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البُكَاء دمًا على أوقات قتلت عَنْدَ التلفزيون والمذياع والكرة والسينماء والفيديو والخمر والدخان والملاعب واللعب بالورق والقِيْل والقَالَ.
كم فِي يوم الحَسْرَة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قَدْ حواها كتاب الكاتب، من لَكَ يوم ينكشف عَنْكَ غطاؤك فِي موقف المحاسب، إِذَا قِيْل لَكَ: ما صنعت فِي كُلّ واجب، كيف ترجو النجاة وأَنْتَ تلهو بأسر الملاعب، لَقَدْ ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فَانْظُرْ لنفسك واتق الله أن تبقى سَلِيمًا من النوائب، فقد بنيت كنسج العنكوت بيتًا، أين الذين علو فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عَلَيْهمْ الْمَنَايَا فأصبحوا تحت النصائب وأَنْتَ فِي أثرهم عَنْ قريب عاطب، فَانْظُرْ وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عَنْهُ حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.
اللَّهُمَّ يسر لَنَا سبيل الأَعْمَال الصالحات وهيئ لَنَا من أمرنا رشدًا واجعل معونتك العظمى لَنَا سندًا واحشرنا إِذَا توفيتنا مَعَ عبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... وَكَيْفَ قَرَّتْ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْيُنُهُمْ ... أَوْ اسْتَلَذَّوْا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعَوا
وَالْمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلانِيَةً ... أَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا
وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ
قَدْ أَمْسَتْ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً ... وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لا يُخْشَى لَهَا فَزَعُ(2/219)
وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهِنٌ ... لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يَطَّلِعُ
حَتَّى يَرَى فِيهِ يَوْمَ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا ... وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ وَالأَبْصَارُ وَالسَّمْعُ
وَإِذْ يَقُومُونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةً ... وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشعُوا
وَطَارَتْ الصُّحُفُ فِي الأَيْدِي مُنْتَشِرَةً ... فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تَطَّلِعُ
فَكَيْفَ بِالنَّاسِ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ ... عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمْ فِي الْجَحِيمِ فلا تُبْقِي وَلا تَدَعُ
تَهْوِي بُسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفُعُهُمْ ... إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ ... هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وقَالَ ابن القيم: أصل الْخَيْر والشَّر من قبل الفكر، فَإِنَّ الفكر مبدأ الإرادة والطلب فِي الزهد، والترك، والحب والبغض وأنفع الفكر فِي مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هِيَ أجل الأفكار، ويليها أربعة، فكر فِي مصالح الدُّنْيَا وطرق تحصيلها وفكر فِي مفاسد الدُّنْيَا وطرق احتراز مَنْهَا فعلى هَذِهِ الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.(2/220)
ورأس القسم الأول، الفكر فِي آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به، وبأسمائه وصفاته من كتابه وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما والاهما، وَهَذَا الفكر يثمر لصاحبه المحبة، والمعرفة، فإذا فكر فِي الآخِرَة وشرفها ودوامها وفي الدُّنْيَا وخستها وفنائها أثمر لَهُ ذَلِكَ الرغبة فِي الآخِرَة والزهد فِي الدُّنْيَا.
وكُلَّما فكر فِي قصر الأمل، وضيق الوَقْت، أورثه ذَلِكَ الجد والاجتهاد، وبذل الوسع فِي اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.
قَالَ بعضهم:
فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا فَلَمْ أَرَهَا ... تَنَالَ إِلا عَلَى جَسْرٍ مِن التَّعَبِ
آخر: ... إِنَّ امْرَأً بَاعَ أُخْرَاهُ بِفَاحِشَةٍ ... مِن الْفَوَاحِشَ يَأْتِيهَا لِمَغْبُونُ
وَمَنْ تَشَاغَلَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... عَنْ جَنَّةِ مَا لَهَا مِثْلٌ لِمَفْتُونُ
وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي عَقْلاً وَهِمَّتُهُ ... فِيمَا يُبْعَدُ عَنْ مَوْلاهُ مَجْنُونُ
آخر: ... يَا مَنْ يُعَانِقُ دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي دُنْيَاهُ سَفَّارَا
هَلا تَرَكْتَ لَدَى الدُّنْيَا مُعَانَقَةً ... حَتَّى تُعَانِقَ فِي الْفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا ... فَاطْلُب رِضَى خَالِق الْجَنَّاتِ وَالنَّارَا
وبإزاء هَذِهِ الأفكار الرديئة التي تجول فِي قُلُوب أكثر هَذَا الخلق كالفكر فيما يكلف الفكر فيه، ولا أعطى الإحاطة به من فضول العلم الَّذِي لا ينفع، كالفكر فِي كيفية ذات الله وصفاته مِمَّا لا سبيل للعقول إِلَى إدراكه به.
ومنها الفكر فِي الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر، كالفكر فِي الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال، والتصاوير. قُلْتُ: وكل أنواع الملاهي.
ومنها الفكر فِي العلوم التي لو كَانَتْ صحيحة لم يعطي الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفًا كالفكر فِي دقائق المنطق، والعلم الرياضي، والطبيعي، وأكثر(2/221)
علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإِنْسَان غايتها لم يكمل بذَلِكَ، ولم يزك نَفْسهُ.
ومنها الفكر فِي الشهوات، واللذات وطرق تحصيلها، وَهَذَا وإن كَانَ للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة لَهُ ومضرته فِي عاقبة الدنيا قبل الآخِرَة أضعاف مسرته.
ومنها الفكر فيما لم يكن لو كَانَ كيف كَانَ، كالفكر فيما إِذَا صار ملكًا أَوْ وَجَدَ كنزًا أَوْ ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف، ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذَلِكَ من أفكار السفل.
ومنها الفكر فِي جزئيات أحوال النَّاس، ومجرياتهم، ومداخلتهم ومخارجهم، وتوابع ذَلِكَ من فكر النُّفُوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخِرَة.
ومنها الفكر فِي دقائق الحيل، والمكر، التي يتوصل بها إِلَى أغراضه وهواه مباحة كَانَتْ أَوْ محرمة.
ومنها الفكر فِي أنواع الشعر، وصروفه وأفانينه فِي المدح والهجَاءَ والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإِنْسَان عَنْ الفكر فيما فيه سعادته وحَيَاتهُ الدائِمَّة.
ومنها الفكر فِي المقدرات الذهنية التي لا وجود لها فِي الخارج ولا بِالنَّاسِ حَاجَة إليها البتة، وَذَلِكَ موجود فِي كُلّ علم حَتَّى فِي علم الفقه والأصول والطب، فكل هَذِهِ الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها ويكفي فِي مضرتها شغلها عَنْ الفكر فيما هُوَ أولى به، وأَعُود عَلَيْهِ بالنفع عاجلاً وآجلاً.أ. هـ.
شِعْرًا: ... يَا غَافِلاً عَنْ صُرُوفِ الْوَقْتِ فِي سِنَةٍ ... الْوَقْتَ يُوقِظُ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ
كَمْ ذَا تَنَامُ وَعَيْنُ الْوَقْتِ سَاهِرَةٌ ... لَهُ حَوَادِثُ فِي الْغُدْوَاتِ وَالْبُكَرِ
لا تَأَمن الْوَقْتَ وَأَحْذَرْ مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَشِيمَةُ الْوَقْتُ شَوْبُ الصَّفْوِ بِالْكَدَرِ(2/222)
وَارْغَبْ بِنَفْسِكَ عَمَّا سَوْفَ تُدْرِكُه ... فِعْلَ اللَّبِيبِ أَخِي التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ
مَاذَا يَغُرُّكَ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ وَمِنْ ... عُمْر يَمُرُّ كَمَثْلِ اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ
فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ فَالسَّاعَاتُ فَانِيَةٌ ... وَالْعُمْرُ مُنْتَقِصٌ وَالْمَوْتُ فِِي الأَثَرِ
آخر: ... يَا مَنْ تَبَجَّحَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... كُنْ مِنْ صُرُوفِ لَيَالِيهَا عَلَى حَذَرِ
وَلا يَغُرَّنَكَ عَيْشٌ إِنْ صَفَا وَعَفَا ... فَالْمَرْءُ مِنْ غُرر الأَيَّامِ فِي غَرَرِ
إِنَّ الزَّمَانَ كَمَا جَرَّبْتَ خِلْقَتَهُ ... مُقَسَّمُ الأَمْرِ بَيْنَ الصَّفْوِ وَالْكَدَرِ
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يَا خَيْر من دعاة داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، هب لَنَا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تنميناه، يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين أن الحب فِي الله والبغض فِي الله، أصل عَظِيم من أصول الإِيمَان يجب مراعاته ولهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث: «أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله "، وأكثر الله من ذكره فِي القرآن، قَالَ الله تَعَالَى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} .
فالمعنى أن لكم أيها المؤمنون فِي موالات الْمُؤْمِنِينَ مندوحة عن موالات الكفار، فلا تؤثرهم عَلَيْهمْ،وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} المعنى ومن يتولاهم فهو برئ من الله والله برئ منه كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .(2/223)
وقوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إِلا أن تخافوا على أنفسكم فِي إبداء العداوة للكافرين، فلكم فِي هَذِهِ الحال الرخصة فِي المسالمة والمهادنة، ولا فِي التولي الَّذِي هُوَ مَحَبَّة الْقَلْب الَّذِي تتبعه النصرة، بل يكون الْقَلْب مطمئنًا بالعداوة والبغضاء، ينتظر زَوَال المانع.
وقَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ} الآيَة.
ففي هَذِهِ الآيات تحذير من الله لعباده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ولاية الكفار واتخاذهم بطانة أَوْ خصيصية وأصدقاء، يسرون إليهم، ويفضون لَهُمْ بأسرار الْمُؤْمِنِينَ، أَوَّلاً أنهم لا يقصرون فِي مضرة الْمُؤْمِنِينَ، وإفساد الأَمْر على الْمُؤْمِنِينَ ما استطاعوا إِلَى ذَلِكَ سبيلاً.
ثانيًا: محبتهم ما شق على الْمُؤْمِنِينَ، وتمنيهم ضرر الْمُؤْمِنِينَ فِي دنياهم ودينهم.
ثالثًا: أنهم يبدون العداوة والبغضاء فِي كلامهم وفي فلتات ألسنتهم.
رابعًا: أن ما تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة أكبر مِمَّا ظهر لكم من أقوالهم وأفعالهم، ثُمَّ ذكر نوعًا آخر من التحذير عَنْ مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة.
وفيه تنبيه على خطئهم فِي ذَلِكَ وقَدْ ضمنه أمورًا ثلاثًا كُلّ مَنْهَا يستدعي الكف عَنْ مخالطة الكفار، أَوَّلاً أنكم تحبونهم ولا يحبونكم، ثانيًا أنكم(2/224)
تؤمنون بالكتاب كله ما نزل على نبيكم وما نزل على نبيهم، ثالثًا أنهم يداهنونكَمْ وينافقونكم فإذا لقوَكَمْ قَالُوا آمنا وَإِذَا خلوا مَعَ بَنِي جنسهم عضو عليكم الأنامل من الغيظ والبغض.
وإنما فعلوا ذَلِكَ لما رأوا من ائتلاف الْمُسْلِمِين، واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم، ونصر الله إياهم، حَتَّى عجز أعداؤهم أن يجدوا إِلَى ذَلِكَ التشفي سبيلاً، فاضطروا إِلَى مداراتهم.
وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .
والآيات هَذِهِ تنادي بالنهي المطلق عَنْ الولاء لليهود والنَّصَارَى وعن الاستنصار بِهُمْ، والركون إليهم والثِّقَة بِهُمْ، وبمودتهم والاعتقاد فِي قدرتهم على إيصال خَيْر لِلْمُسِلِمِينَ، أَوْ دفع أذى بل هم على العكس لا يألون جُهْدًا فِي دفع النفع عَنْ الْمُسْلِمِين، وإيصال الضَّرَر والأَذَى لِلْمُسِلِمِينَ فانتبه يَا أخي واحذرهم وحذر عنهم. وَإِيَّاكَ ومدارتهم.
يَقُولُونَ لِي الْعِدَا تَنْجِ مِنْهُمْ ... فَقُلْتُ مُدَارَاتُ الْعِدَا لَيْسَ تَنْفَعُ
وَلَوْ أَنَّنِي دَارَيْتُ دَهْرِي حَيَّةً ... إِذَا مُكِّنَتْ يَوْمًا مِنَ اللَّسْعِ تَلْسَعُ
آخر: ... إِذَا وَتَرْتَ أَمْرًا فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... مَنْ يَزْرَعِ الشَّوْكَ لا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا
إِنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُجَامَلَةً ... إِذَا رَأى مِنْكَ يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا
قَالَ شَّيْخ الإِسْلام: ولهَذَا كَانَ السَّلَف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بِهُمْ فِي الولايات، فروى الإِمَام أحمد بإسناد صحيح عَنْ أبي مُوَسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إن لي كاتبا نَصْرَانِيًّا، قَالَ: ما لك قاتلك الله، أما سمعت الله يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ألا اتَّخَذْتَ حَنِيْفيًا.(2/225)
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لي كتابته وله دينه، قَالَ: لا أكرمهم إِذَا أهانهم الله، ولا أعزهم إِذَا أذلهم الله ولا أدنيهم إِذَا أقصاهم الله» . بلغ يَا أخي من والاهم وولاهم ووثق بِهُمْ، وأحمد الله الَّذِي عَافَاكَ مِمَّا ابتلاهم به.
ولما دل عَلَيْهِ معنى الكتاب وجاءت به سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّة خلفائه الراشدين، التي أجمَعَ الْفُقَهَاء عَلَيْهَا بمخالفتهم، وترك التشبه بِهُمْ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إن اليهود والنَّصَارَى لا يصبغون، فخالفوهم أمر بمخالفتهم قَالَ.
وقَالَ تَعَالَى لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَذَلِكَ يقتضي تبرؤه مِنْهُمْ فِي جميع الأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الله قَدْ برأ رسوله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَمِيعِ أمورهم، فمن كَانَ متبعًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - حَقِيقَة كَانَ مُتَبَرِّئًا مِنْهُمْ، كتبرئه - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ ومن كَانَ موافقًا لَهُمْ كَانَ مُخًالِفًا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقدر موافقته لَهُمْ.
وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: إن مشابهتهم فِي بعض أعيادهم، توجب سرور قلبوهم بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، خُصُوصًا إِذَا كَانُوا مقهورين، تحت ذل الْجِزْيَة والصغار، فَإِنَّهُمْ يرون الْمُسْلِمِين قَدْ صاروا فرعًا لَهُمْ فِي خصائص دينهم، فَإِنَّ ذَلِكَ يوجب قَسْوَة قُلُوبِهِمْ وانشراح صدورهم وَرُبَّمَا أطمعهم ذَلِكَ فِي انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء.
وقال رحمه الله: وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل فِي الأَخْلاق والصفات أتم حَتَّى يؤل الأَمْر إِلَى أن لا يميز أحدهما عَنْ الآخِر إِلا بالعين فقط.
ولما كَانَ بين الإِنْسَان مُشَارَكَة فِي الْجِنْس الْخَاص، كان التفاعل فيه أشد، ثُمَّ بينه وبين سائر الْحَيَوَان مُشَارَكَة فِي الْجِنْس، المتوسط، فَلا بُدَّ مِنْ نوع تفاعل بقدره.(2/226)
ثُمَّ بينه وبين النَّبَات مُشَارَكَة فِي الْجِنْس الْبَعِيد مثلاً، فَلا بُدَّ مِنْ نوع ما من المفاعلة: قَالَ: ولأجل هَذَا الأصل وقع التأثر والتأثير فِي بَنِي آدم، واكتساب بَعْضهمْ أَخْلاق بَعْض بالمُشَارَكَة والمعاشرة، وكَذَلِكَ الآدمي إِذَا عاشر نوعًا من الْحَيَوَان، اكتسب من بَعْض أخلاقه.
ولهَذَا صَارَت الخيلاء والفخر فِي أَهْل الإبل، وصَارَت السكينة فِي أَهْل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أَخْلاق مذمومة، من أَخْلاق الجمال والبغال، وَكَذَا الكلابون.
قُلْتُ: وَهَذَا واضح مشاهد عَنْدَ الَّذِينَ يتأملون بدقة، فالمعاشرون للدجاج والحمام، والأرانب والحمر والبقر يأخذون من أخلاقها.
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وصار الْحَيَوَان الإنسي فيه بَعْض أَخْلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة، فالمشابهة والمشاكلة فِي الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة فِي الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.
قَالَ: وقَدْ رأينا اليهود الَّذِينَ عاشروا الْمُسْلِمِين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا الْمُسْلِمِين الَّذِينَ أكثروا من معاشرة اليهود والنَّصَارَى هم أقل إيمانًا من غيرهم، والمُشَارَكَة فِي الهدْي الظاهر، توجب أيضًا مناسبة وإتلافًا وإن بعد المكَانَ، والزمان، فهَذَا أيضًا أمر محسوس فمشابهتهم فِي أعيادهم ولو بالقليل، هُوَ سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هِيَ ملعونة.
فنقول: مشابهتهم فِي الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم فِي عين الأَخْلاق والأفعال المذمومة، بل فِي نفس الاعتقاد، وتأثير ذَلِكَ لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قَدْ لا يظهر ولا ينضبط وقَدْ يتعسر، أَوْ يتعذر زواله، بعد حصوله لو تفطن لَهُ.(2/227)
وكل ما كَانَ سببًا إِلَى مثل هَذَا الفساد فَإِنَّ الشارع يحرمه كما دلت عَلَيْهِ الأصول المقررة.
وقَالَ: إن المشابهة فِي الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة فِي الباطن. قَالَ: والمحبة والموالاة لَهُمْ تنافي الإِيمَان، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} إِلَى قوله تَعَالَى: {فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} وقَالَ تَعَالَى فيما ذم به أَهْل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآيات إِلَى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
فبين تَعَالَى أن الإِيمَان بِاللهِ والنَّبِيّ وما أنزل مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإِيمَان. انتهى كلامه.
إذا فهمت ذَلِكَ، فاعْلَمْ أن المقصود من كُلّ ما ذكرنا، هُوَ إِنَّكَ تَكُون متيقظًا حَافِظًا لِمَن ولاك الله عَلَيْهمْ حسب قدرتك واستطَاعَتكَ مبعدًا لَهُمْ كُلّ البعد عَنْ الإتصال بالكفار، والسفر إِلَى بلادهم، والإقامة عندهم، لما وضحنا لَكَ سابقًا فَإِنَّ قبلت ذَلِكَ فهو المطلوب، والحمد لله على ذَلِكَ وإن أبيت قبول هَذِهِ النَّصِيحَة فسوف تعلم إِذَا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وعَلَيْهِ التكلان.
أَلا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَقُ الْبَابُ دُونَهُ ... وَغِشٍ إلى جَنبِ السَّرِيرِ يُقَرَّبُ
وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم.
" فَصْلٌ "
وقَالَ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} الآيتين. وقال:(2/228)
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء} . الآية. قَالَ ابن عباس: لا تميلوا. وقَالَ عكرمة: أن تطيعوهم أَوْ تودوهم، أَوْ تصطنعوهم، أي تولوهم الأَعْمَال، كمن يولي الفساق والفجار.
وقَالَ الثوري: ومن لاق لَهُمْ دواة أَوْ برى لَهُمْ قلمًا أَوْ ناولهم قرطاسًا دخل فِي هَذَا. قَالَ بَعْض المفسرين فِي الآيَة: فالنهي متناول للانحطاط فِي هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم والرِّضَا بأَعْمَالُهُمْ والتشبه والتزيي بزيهم، ومد العين إِلَى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيمًا لَهُمْ. قُلْتُ: ما أكثر هَذَا فِي زمننا نسأل الله أن يحفظنا عَنْ ذَلِكَ.
وقَالَ آخر: لا تستندوا وتطمئنوا إِلَى الَّذِينَ ظلموا وإلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب الجور والظلم الَّذِينَ يقهرون بقوتهم، ويظلمون لا تميلوا إليهم طالبين نصرتهم أَوْ حمايتهم مهما يكن فِي أيديهم من القوة والسُّلْطَان والْمَال، فَإِنَّ ركونكم إليهم على هَذَا النحو يقدح فِي اعتمادكم على الله، وفي إخلاصكم بالتوجه إليه وحده والاتكال عَلَيْهِ وحده والاعتزاز به وحده.
والركون إِلَى الظلمة المتسلطين سواء كَانُوا أفردًا أَوْ كَانُوا دولاً يتمثل فِي صورٍ شتَّى، ومنه التعاون مَعَ الطغاة على الشعوب، الَّذِينَ لا يحكمون بما أنزل الله، ومنه معاهدات الحماية ومعاهدات الدفاع المشترك ومعاهدات الصداقة والتحالف مَعَ الَّذِينَ يؤذون الْمُؤْمِنِينَ فِي ديارهم، وكل صورة يتحقق فيها اعتماد الْمُسْلِمِين على أَهْل الظلم أفرادًا ودولاً والاستناد إِلَى قوتهم وعونهم ومساعدتهم.
وقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} صدر هَذِهِ السورة نزل فِي حاطب بن أبي بلتعة، لما(2/229)
كتب إِلَى المشركين، يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما ظنك بمن يعول على الكفرة ويعتمد عَلَيْهمْ ويتخذهم أَوْلِيَاء نسأل الله العصمة إنه القادر على ذَلِكَ.
فيجب عَلَيْنَا معشر الْمُؤْمِنِينَ أن نتباعد عنهم ولا نقاربهم فِي المنازل ولا نذهب إليهم، ولا نكون معهم، وأن ننصح من كَانَ من الْمُسْلِمِين فِي بلادهم، بأن يهاجر عنهم، وأن نبين لَهُ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تستضيئوا بنار المشركين» .
وقَالَ: «من جامَعَ المشرك أَوْ سكن معه فهو مثله» . وحديث: «أَنَا برئ من مُسْلِم بين أظهر المشركين لا ترائي نارهما» . وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ على يد أحدهم: «أن لا تَرَى نارك نار المشركين إلا أن تَكُون حربًا لَهُمْ» .
شِعْرًا: ... شَرُّ الْبِلادِ بِلادٌ لا أَذَانَ بِهَا ... وَلا يُقَامُ بِهَا فَرْضُ الصَّلَوَاتِ
وَلا زَكَاةٌ وَلا صَوْمٌ يَكُونُ بِهَا ... وَلا مَسَاجِدَ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ
إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ شَخْصٍ يُقِيمُ بِهَا ... عِنْدَ الْمَعَادِي لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ
آخر: ... إِرْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا ... وَلا تَكُنْ لِفِرَاقِ الأَهْلِ فِي حَرَقِ
مَنْ ذَلَّ بَيْنَ أَهَالِيهِ بِبَلْدَتِهِ ... فَالإغْتِرَابُ لَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلْقِ
الْكُحْلُ نُوعٌ مِن الأَحْجَارِ مُنْطَرِحًا ... فِي أَرْضِهِ كَالثَّرَى يُرَى عَلَى الطُّرُقِ
لَمَّا تَغَرَّبَ نَالَ الْعِزَّ أَجْمَعَهُ ... وَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجِفْنِ وَالْحَدَقِ
آخر: ... إِذَا زِدْتَ فِي أَرْضٍ لِرَبِّكَ طَاعَة ... فَلا تَكْثِرَنْ مِنْهَا النُّزُوعَ لِغَيْرِهَا
فَمَا هِيَ إِِلا بَلْدَةٌ مِثْلَ بَلْدَةٍ ... وَخَيْرُهُمَا مَا كَانَ عَوْنًا عَلَى التُّقَى
آخر: ... إِذَا اغْتَرَبْ الْحُرُّ الْكَرِيمُ بَدَتْ لَهُ ... ثَلاثُ خِلالٌ كُلُّهُنَّ صِعَابُ
تَفَرُّقُ أَلافُ وَبَذْلٌ لِهَيَبْةٍ ... وَإِنْ حُمَّ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ صِحَابُ
آخر: ... وَكُنْ فِي بَلْدَةٍ تَزْدَادُ فِيهَا ... لَدَى الْخَلاقِ مَرْتَبَةً وَقَدْرَا(2/230)
فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَرْضَى إِلَهًا ... تَفَرَّدَ بِالْجَلالِ وَبِالْكَمَالِ
وفي حديث معاوية بن حيدة مرفوعًا: «لا يقبل الله من مُسْلِم عملاً أَوْ يفارق المشركين» . أَخْرَجَهُ النسائي وورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أنه أقسم لا يظلله سقف، هُوَ وقاطع رحم.
فانتبه يَا من زين لَهُ سوء عمله فأتى بكفار خدامين أَوْ سواقين أَوْ خياطين أَوْ طباخين وأمِنْهُمْ على محارمه وهم أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ. هَذَا والعياذ بِاللهِ إجرام عَظِيم ومحاربة لله ورسوله الْمُؤْمِنِينَ ونشر للفساد فِي الْبِلاد الإِسْلامية.
فَكَيْفَ بمن يذهب إِلَى بلاد الكفر ويجلس معهم، ويأكل ويشرب ويتبادل معهم الكلام بلين وبشر وينام ويصحو، ويقوم ويقعد وَهُوَ بينهم فِي تقلباته وحركاته وسكناته.
ولَقَدْ وصل الأَمْر فِي هَذَا الزمن إِلَى أناسًا يبعثون أماناتهم أفلاذ أكبادهم إِلَى بلاد الكفر والشرك والحرية والفساد يتعلمون عَنْدَ أولئك الكفرة أعداء الإِسْلام وأهله الَّذِينَ تجب الهجرة من بلادهم وَرُبَّمَا كَانَ عَنْدَ الأولاد المبعوثين للتعلم عَنْدَ الكفرة مبادئ طيبة وأخلاق فاضلة فإذا ذهبوا إلى بلاد الكفر والعياذ بالله ضيعوا دينهم وأخلاقهم واعتادوا عَنْ قصد وعن غير قصد شرورًا وسمومًا يحملونها ثُمَّ يأتون بها فينفثونها بين الْمُسْلِمِين ثُمَّ يعدون أقرانهم ويزينون لَهُمْ طريقتهم فيهلكون ويهلكون ولا أدري ماذا عَنْدَ مضيع هَذِهِ الأمانة من الجواب إِذَا وقف بين يدي الجبار جَلَّ وَعَلا وسأله عَنْ هَذِهِ الأمانة وما أعقبت من شرور وفساد.
هل يدعي أنه لا يعرف أنها بلاد كفر وإلحاد فيكون كاذبًا أَوْ يَقُولُ إنه يدري ولكنه لا يبالي بهذه الأمانة قولوا لَهُ: ألست تقرأ قول الله تَعَالَى: {إِنَّا(2/231)
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} الآيَة.
وقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هَذَا إِذَا كَانَ الباعث راضيًا بذَلِكَ أَوْ آمرًا به.
فهل الكفار أَهْل لوضع هَذِهِ الأمانة عندهم أما تخشى الله هَذَا وَاللهِ جرم عَظِيم. قَالَ تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لَنَا من لدنك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب، فَإِنَّهَا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى الْقُلُوب التي فِي الصدور {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .
والشئ الَّذِي يضحك الإِنْسَان من جهه ويبكيه من جهة هُوَ أنه ربما يكون المرسلون من الَّذِينَ يعدون طاهرة قُلُوبهمْ ولكن غفلوا عَنْ هَذِهِ المسألة فلم يسألوا عَنْهَا هل يجوز لَهُمْ أم لا، ثُمَّ الشيء الثاني يأتي أناس آخرون لا يعرفون الولاء والبراء أَوْ يعرفونه ولكن يتساهلون فيأخذون الَّذِي جاءوا من بلاد الكفر يحملون شهاداتهم بالدوائر والولائم وَهَذَا والعياذ بِاللهِ تشجيعًا على المعاصي وحثًا عَلَيْهَا وإغراء بها نسأل الله العافية.
لأن الواجب هجرهم والابتعاد عنهم ولو كَانُوا آباءهم أَوْ أبناءهم أَوْ إخوانهم كما هُوَ المعهود فِي الزمن الْبَعِيد والقريب فيمن جَاءَ من الْبِلاد التي مستعمرة للكفرة يهجر لا يكلم ولا يدعى ولا يجاب دعوته عَنْدَ المتمسكين بالدين تمامًا الصدَّاعين بالحق المخلصين لله الناصحين لله ولكتابه ولرسوله ولولاة الْمُسْلِمِين ولكن يَا للأسف ذهب النَّاس وبقي النسناس الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء إِلا فيما يتعلق بحطام الدُّنْيَا.
شِعْرًا: ... فَمَا النَّاسُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَهدْتَهُمْ ... وَلا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْرِفُ
آخر: ... أَلا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَقُ الْبَابُ دُونَهُ ... وَغِشٍّ إِلَى جَنْبِ الشَّرِيرِ يُقَرَّبُ
آخر: ... بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرِجِ اللَّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلا ضُحَى الْغَدِ(2/232)
ويذكر عَنْ عيسى عَلَيْهِ السَّلام أنه قَالَ: تحببوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي، وتقربوا إِلَى الله بالبعد عنهم واطلبوا رضى الله بسخطهم فإذا كَانَ هَذَا مَعَ أَهْل المعاصي، فَكَيْفَ بالكفرة والمشركين والمنافقين أعداء الله ورسله والْمُؤْمِنِينَ.
وقَدْ أجاب أبناء شيخ الإِسْلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب لما سئلوا عَنْ السفر إِلَى بلاد المشركين للتجارة بما حاصله أنه يحرم السفر إِلَى بلاد المشركين إِلا إِذَا كَانَ المسلم قويًا لَهُ منعة يقدر على إظهار دينه وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم والطعن عَلَيْهمْ والبراءة مِنْهُمْ والتحفظ من موادتهم والركون إليهم واعتزالهم ولَيْسَ فعل الصلوات فقط للدين. أ. هـ.
نسألُ اللهَ السلامةَ وَالعافية فيها أيها المعافى أحمد ربك حمدًا طيبًا مباركًا وأكثر من قول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لَنَا من لدنك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب، ومن قول يَا مقلب الْقُلُوب والأبصار ثَبِّتْ قلوبنا على دينك، ويا مصرف الْقُلُوب صرف قلوبنا إلى طَاعَتكَ.
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتَّوْفِيق المبين، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ من المقربين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ألهمنا ما ألهمت عبادك الصالحين، وأيقظنا من رقدة الغافلين إِنَّكَ أكرم منعم وأعز معين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... أَلا قُلْ لأَهْلِ الْجَهْلِ من كُلِّ مَنْ طَغَى ... عَلَى قَلْبِهِ رَيْنٌ مِنَ الرَّيْبِ وَالْعَمَا
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْطَأْتُمُوا إِذْ سَلَكْتُمُ ... طَرِيقَةَ جَهْلٍ غَيُّهَا قَدْ تَجَهَّمَا
أَيَحْسَبُ أَهْلُ الْجَهْلِ لَمَّا تَعَسَّفُوا ... وَجَاءُوا مِن الْعُدْوَانِ أَمْرًا مُحَرَّمَا(2/233)
بِأَنَّ حِمَى التَّوْحِيدِ لَيْسَ بِرَبْعِهِ ... وَلا حِصْنِهِ مَنْ يَحْمِهِ أَنْ يُهَدَّمَا
وَظَنُّوا سَفَاهًا أَنْ خَلَى فَتَوَاثَبَتْ ... ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَا فِي فِنَا الْحِمَا
أَيَحْسَبُ أَعْمَى الْقَلْبِ أَنَّ حُمَاتَهُ ... غُفَاةٌ فَمَا كَانُوا غُفَاةً وَنُوَّمَا
فَإِنْ كَانَ فَدْمٌ جَاهِلٌ ذُو غَبَاوَةٍ ... رَأَى سَفَهًا مِنْ رَأْيِهِ أَنْ تَكَلَّمَا
بِقَوْلٍ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ خَالَهُ ... صَوَابًا وَقَدْ قَالَ الْمقَالَ الْمُذَمَّمَا
سَنَكْشِفُ بِالْبُرْهَانِ غَيْهَبَ جَهْلِهِ ... وَيَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ قَدْ تَوَهَّمَا
وَنُظْهِرُ مِن عَوْرَاتِهِ كُلَّ كَامِنٍ ... لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ جَاءَ إِفْكًا وَمَأْثَمَا
رُوَيْدًا فَأَهْلُ الْحَقِّ وَيْحَكَ فِي الْحِمَى ... وَقَدْ فَوَّقُوا نَحْوَ الْمُعَادِينَ أَسْهُمَا
وَتِلْكَ مِن الآيَاتِ وَالسُّنَنَ الَّتِي ... هِيَ النُّورُ إِنْ جَنَّ الظَّلامُ وَأَجْهَمَا
فَيَا مَنْ رَأَى نَهْجَ الضَّلالَةِ نَيِّرَا ... وَمَهْيَعَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّيِن مُظْلِمَا
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْطَأْتَ رُشْدَكَ فَاتَّئِدْ ... وَرَاجِعْ لِمَا قَدْ كَانَ أَقْوَى وَأَقْوَمَا
مِن الْمَنْهَجِ الأَسْنَى الَّذِي ضَاءَ نُورُهُ ... وَدَعْ طُرُقًا تُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَا
وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فَاسْلُكْ طَرِيقَهَا ... وَعَادِ الَّذِي عَادَاهُ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا
وَوَالِ الَّذِي وَالَى وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُنْ ... سَفِيهًا فَتُحْظَى بِالْهَوَانِ وَتَنْدَمَا
أَفِي الدِّينِ يَا هَذَا مُسَاكَنَةُ الْعِدَا ... بِدَارِ بِهَا الْكُفْرِ أَدْلَهَمَّ وَأَجْهَمَا
وَأَنْتَ بِدَارِ الْكُفْرِ لَسْتَ بِمُظْهِرٍ ... لِدِينِكَ بَيْنَ النَّاسِ جَهْرًا وَمُعْلِمَا
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِإِيَّةِ آيَةٍ ... أَخَذْتَ عَلَى هَذَا دَلِيلاً مُسَلَّمَا
وَإِنَّ الَّذِي لا يُظْهِرُ الدِّينَ جَهْرَةً ... أَبْحَتْ لَهُ هَذَا الْمَقَامَ الْمُحَرَّمَا
إِذَا صَامَ أَوْ صَلَّى وَقَدْ كَانَ مُبْغِضًا ... وَبِالْقَلْبِ قَدْ عَادَى ذَوِي الْكُفْرِ وَالْعَمَا
ثَكَلَتْكَ هَلْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ مَرَّة ... بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيم أَوْ كُنْت مُعْدَما
فَفِي التّرمذي أَنَّ النَّبِيّ مُحَمَّدًا ... بَرِئَ مِنَ الْمَرْءِ الَّذِي كَانَ مُسْلِمًا
يُقِيمُ بِدَارٍ أَظْهَرَ الْكُفْرَ أَهْلُهَا ... فَيَا وَيْحَ مَنْ قَدْ كَانَ أَعْمَى وَأَبْكَمَا
أَمَا جَاءَ آيَاتٌ تَدُلُّ بِِأَنَّهُ ... إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ مُسْتَطِيع فَإِنَّمَا(2/234)
.. جَهَنَّمُ مَأْوَاهُ وَسَاءَتْ مَصِيرُهُ ... سِوَى عَاجِزٌ مَسْتَضْعَفٌ كَانَ مُعْدَما
فَهَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ وَبُرْهَانَ حُجْة ... فَحَيَّا هَلا هَاتُوا الْجَوَابَ الْمُحَتَّما
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَجِيئُوا بِحُجَّةٍ ... لِتَدْفَعْ نَصًّا ثَابِتًا جَاءَ مُحْكَما
وَلَكَنما الأَهْوَاء تَهْوى بِأَهْلِهَا ... فَوَيْلٌ لِمَنْ أَلَوْتَ بِهِ مَا تَأَلَّما
أَلا فَأَفِيقُوا وَارْجِعُوا وَتَنْدَمُوا ... وَفِيئُوا فَإِنَّ الرَّشُدَ أَوْلَى مِنَ الْعَمَا
وَظَنِّي بِأَنَّ الْحُبَّ للهِ وَالْوَلا ... عَلَيْهِ تَوَلَّى عَنْكُمُو بَلْ تَصَرَّما
وَحُبُّكُمْ الدُّنْيَا وَإِيثَارُ جَمِعَهَا ... عَلَى الدِِّينَ أَضْحَى أَمْرهُ قَدْ تَحَكُّمَا
لِذَلِكَ دَاهَنْتُمْ وَوَالَيْتُمُوا الَّذِي ... بِأَوْضَارِ أَهْلِ الْكُفْرِ قَدْ صَارَ مُظْلِما
وَجَوَّزْتُمُوا مِنْ جَهْلِكُمْ لِمُسَافِرٍ ... إِقَامَتُهُ بَيْنَ الْغُوَاة تَحَكُّما
بِغَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٌ بَلْ بِجَهْلِكُمْ ... وَتَلْبِيس أَفَّاكَ أَرَادَ التَّهَكُّمَا
وقَدْ قلْتُمُوا فِي الشَّيْخِ مَنْ شَاعَ فَضْلُهُ ... وَأَنْجَدَ فِي كُلِّ الْفُنُونِ وَالتهَمَا
إِمَامِ الْهُدَى عَبْدِ اللَّطِيفِ أَخِي التُّقَى ... فَقُلْتُمْ مِنَ الْعُدْوَانِ قَولاً مُحَرَّمَا
مَقَالَةَ فَدْمٍ جَاهِلٍ مُتَكَلِّفٍ ... يَرَى أَنَّهُ كُفْرًا فَقَال مِنَ الْعَمَا
يُنَفِّرُ بَلْ قَدْ قلْتُمُوا مِنْ غَبَائِكُمْ ... يُشَدِّدُ أَوْ قُلْتُمْ أَشَدَّ وَأَعْظَمَا
وَلَيْسَ يَضُرُّ السُّحْبُ فِي الْجَوِ نَابِحٌ ... وَهَلَ كَانَ إِلا بِالإِغَاثَةِ قَدْ هَمَا
فَيَدْعُو لَهُ مَنْ كَانَ يَحْيَى بِصَوْبِهِ ... وَيُنَجِّهِ مَنْ كَانَ أَعْمَى وَأَبْكَما
أَيُنْسَبُ لِلتَّنْفِيرِ وَهُوَ الَّذِي لَهُ ... رَسَائِلُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَنْ تَوَهَّمَا
يُؤَنِّبُ فِيهَا مَنْ رَأَى غَلْطَةً ... وَيَأْمُرُ أَنْ يَدْعُو بِلِينٍ وَيَحْلُمَا
أَيُنْسَبُ لِلتَّشْدِيدِ إِذَا كَانَ قَدْ حَمَا ... حِمَى الْمِلَّة السَّمْحَاء أَنْ لا تُهْدَمَا
وَغَارَ عَلَيْهَا مِنْ أُنَاسٌ تَرَخَّصُوا ... وقَدْ جَهِلُوا الأَمْرَ الْخَطِيرَ الْمُحَرَّمَا
فَلَوْ كُنْتُمُوا أَعَلَى وَأَفْضَلَ رُتْبَة ... وَأَزْكَى وَأَتْقَى أَوْ أَجَلَّ وَأَعْلَمَا
يُشَارُ إِلَيْكُمْ بِالأَصَابِعِ أَوْ لُكُمْ ... مِنَ الْعِلْمِ مَا فُقْتُمْ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَا
لِكُنَّا عَذَرْنَاكُمْ وَقُلْنَا أَئِمَّة ... جَهَابِذَة أَحْرَى وَأَدْرَى وَأَفْهَمَا(2/235)
.. وَلَكِنَّكُمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ مَا لَكُمْ ... مِنَ الْعِلْمِ مَا فُقْتُمْ بِهِ مَنْ تعَّلَمَا
وَمِنْ أَصْغَر الطُّلاب لِلْعِلْمِ بَلْ لَكُمْ ... مُزْيَة جَهْلٍ غَيُّهَا قَدْ تَجَهَّمَا
لِذَلِكَ أَقْدَمْتُمْ لِفَتْحِ وَسَائِلٍ ... وَقَدْ سَدَّهَا مَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْلَمَا
ثَكَلْتُمُوا هَلْ حَدَّثَتْكُمْ نُفُوسُكُمْ ... بِخْرِقِ سِيَاج الدِّين عَدْوًا وَمَأْثَمَا
وَإِنَّ الْحُمَاةَ النَّاصِرِينَ لِرَبِّهِمْ ... بِخْرِقِ سِيَاج الدِّين عَدْوًا وَمَأْثَمَا
عَلَى مَا يَشَأُ مِنْ كُلّ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ ... وَلَيْسَ لَهُ مِنْ وَازِعٍ أَنْ تَكَلَّمَا
وَإِنَّ حِمَى التَّوْحِيد أَفْقَر رَسْمُهُ ... فَقُلْتُمْ وَلَمْ تَخْشُوا عِتَابًا وَمَنْقَمَا
فنَحْنُ إِذَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ... عَلَى ثَغْرَةٍ الْمَرْمَى قُعُودًا وَجُثَّمَا
أَلا فَاقْبَلُوا مِنَّا النَّصِيحَةَ وَاحْذَرُوا ... وَفِيئُوا إِلَى الأَمْر الَّذِي كَانَ أَسْلَمَا
وَإِلا فَإنَّا لا نُوَافِقُ مَنْ جَفَا ... وَيَسْعَى بِأَنْ يُوطي الْحِمَى أَوْ يُهْدَمَا
وَإِلا فَإنَّا لا نُوَافِقُ مَنْ جَفَا ... وَيَسْعَى بِأَنْ يُوطي الْحِمَى أَوْ يُهْدَمَا
كَمَا أَنَّنَا لا نَرْتَضِي جُورَ مَنْ غَلا ... وَزَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ إِفْكًا وَمَأْثَما
وَيَا مُؤْثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إِنَّمَا ... عَلَى قَلْبِكَ الرَّانُ الَّذِي قَدْ تَحَكَّمَا
وَعَادَيْتَ بَلْ وَالَيْتَ فِيهَا وَلَمْ تَخَفْ ... عَوَاقِبَ مَا تَجْنِي وَمَا كَانَ أَعْظَما
أَغَرَّتْكَ دُنْيَاكَ الدَّنِيَّة رَاضِيًا ... بِزَهْرَتِهَا حَتَّى أَبَحْتَ الْمُحَرَّمَا
تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا ... كَأَن لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى الْقَبْرِ مُعْدِمَا
خَلِيًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ جَمَعْتَهُ ... وَفَارَقْتَ أَحْبَابًا وَقَدْ صِرْتَ أَعْظُمَا
وَلَمَّا تَقَدَّمَ مَا يُنَجِّيكَ فِي غَدٍ ... مِنَ الدِّينِ مَا قَدْ كَانَ أَهْدَى وَأَسْلَمَا
وَذَلِكَ أَنْ تَأْتِى بِدِينِ مُحَمَّدٍ ... وَمِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا
تُوَالي َعلَى هَذَا وَتَرْجُو بِحُبِّهِمْ ... رِضَى الْمَلِك العْلام إِذَا كَانَ أَعَظْمَا
وَتُبْغِضُ مَنَ عَادَى وَتَرْجُو بِبُغْضِهِمْ ... مِنَ اللهِ إِحْسَانًا وَجُودًا وَمَغْنَمَا
فهَذَا الَّذِي نَرْضَى لِكُلِّ مُوَحِّد ... وَنَكْرَهُ أَسْبَابًا تُرِدْهُ جَهَنَّمَا
وَصَلِّ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ ... عَلَى الْمُصْطَفَى مَنْ كَانَ بِاللهِ أعْلَمَا(2/236)
.. وَآلٍ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا ... وَتَابِعْهُمْ مَا دَامَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَا
" موعظة "
عباد الله كلنا يعلم أن النَّاس قسمان، قسم انحاز إِلَى الله، وهؤلاء حزب الله الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وقسم انحاز إِلَى عدو الله إبلَيْسَ لعنه الله وهؤلاء حزب الشيطَانَ الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فالأولون الَّذِينَ هم حزب الله لا تراهم يطيعون الشيطان أبدًا ولِذَلِكَ لا تجدهم يفسدون فِي الأَرْض، بل هم بركة فِي هَذَا الوجود. فإذا رَأَيْت مَسْجِدًا معمورًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لبنائه، وإن قِيْل لَكَ إنهم لا يظلمون، وينهون عَنْ الظلم والجور فصدق، وإن رَأَيْت مُحْتَاجًا سدت حاجته، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإنعاشه، وسدها وإن رَأَيْتَ عَارِيًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لكسوته، وإن قِيْل إن الْمُنْكَر الفلاني أزيل فهم الَّذِينَ وفقهم الله للتسبب فِي إزالته، وإن قِيْل لَكَ إن إصلاحًا فِي الأَرْض كَانَ صعبًا فسهل بإذن الله، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإزالته أَوْ تسهيله.وإن قِيْل إن أناسًا يدورون على البيوت يتفقدون الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ موارد فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل إن أناسًا يتفقدون من عَلَيْهِ دين فيتسببون لوفائه، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل: إنهم يعبدون الله عبادة من لا يمل ولا يفتر، فصدق بمجرد ما يقَالَ لَكَ.
وإن قِيْل إن بَعْض البيوت وهي القليلة إِنَّكَ تسمَعَ فيها بالليل صوت بُكَاء وأنين وتهجدًا واستغفارًا، فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم الله وجعلهم حزبه.
وإن قِيْل لَكَ إن أناسًا عندهم عطف على الفقراء، ورحمة وإيثار وإحسان إِلَى الجار، ومواسات الضعفاء، وغير ذَلِكَ، مِمَّا يكاد فِي زمننا هَذَا أن يكون نادرًا فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم العليم الخبير، وهؤلاء هم المهذبون المتنورون المتأدبون.(2/237)
أما الفريق الثاني عصمنا الله وَإِيَّاكَ عَنْ طَرِيق سلوكهم، فهم حزب الشيطان لا يحصل فساد فِي الأَرْض إِلا مِنْهُمْ، لأنهم حزب الشيطان وإن قِيْل إن مؤمنًا قُتِلَ فهم الَّذِينَ قتلوه، أَوْ تسببوا لقتله، لا يختلف فِي ذَلِكَ اثنان، وإن قِيْل لَكَ أن سيارة سُرِقَتْ فهم الَّذِينَ سرقوها.
وإن قِيْل إن منزلاً هوجم وَسُرِقَ فقل بلا تردد: هم الَّذِينَ هاجموه وسرقوه، وهل حزب الرحمن يعتدون مثل هَذَا العدوان، وإن قِيْل إن إنْسانًًا خطف وغيب ولا يعلم أين كَانَ، فقل هم الَّذِينَ خطفوه وغيبوه، وإن قِيْل إن مسلمًا ذا ثروة نشل وأخذ منه آلاف، فقل وهل ينشل ويخطف ويعبث بأموال النَّاس إِلا أولئك الأَشْرَار حزب الشيطان.
حزب الله الموفقون الكمل بعيدون عَنْ المعاصي جدًا، فلا تَرَى الواحد مِنْهُمْ يتعمد الجلوس فِي الطرق، ويداوم الْمُرُور فيها لمطاردة النساء ومغازلتهن، ولا تراه يركب النساء بلا محرم ولا يدخلها لتشتري أَوْ يفصل عَلَيْهَا، ولَيْسَ معها محرم ولا تجده يبيع صور ذوات الأرواح، ولا يصورها، ولا يبيع البدع المنكرات، ولا يجلس عندها، وهي البدع المحرمة، التي حدثت فِي زمننا مثل التلفزيون والسينماء والمذياع، والكرة، والورق، والبكم والدخان والفديو ونحو هَذِهِ المنكرات التي قضت على الغيرة والمروءة والشيمة. نسأل الله العافية.
ولا يغش الْمُسْلِمِين، ولا يكون ذا وجهين يتكلم عَنْدَ هؤلاء بوجه وعَنْدَ الآخرين بوجه، ولا ينافق ولا يوقع بريئًا فِي مأزق ولا يشهد بالزور، ولا يحظر عَنْدَ المنكرات، بل تراهم فِي مجالس الذكر يدورون حول ما يقربهم إِلَى الله.
ولا تراهم يركنون إِلَى أعداء الله، ولا الفسقة ولا يعظمونهم ولا يتملقون لَهُمْ، ويضحكون معهم، كما يفعله السذج، الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء، ولا تنشرح صدورهم، ولا تهتز عواطفهم ولا تستريح قُلُوبهمْ، ولا يهدؤُ(2/238)
بآلهم، ولا يسكن قلقهم، إِلا إِذَا زاحموهم وجالسوهم، ومازحوهم وعظموهم، ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم والتهوا عما هم إليه صائرون، فلم يحسبوا لَهُ حسابًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .
وقَالَ تَعَالَى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الآيَة.
فالَّذِي ينبغي أن يتبع ويقتدى به من تمسك بكتاب الله، وامتلأ قَلْبهُ بمحبة الله، وفاض ذَلِكَ على لِسَانه، فلهج بذكر الله، ودعا إِلَى الله واتبع مراضيه، فقدمها على هواه وحفظ وقته فِي طاعة الله بعيدًا عَنْ أذية الْمُسْلِمِين لا يقابل الإساءة بمثلها بل يدفع بالتي هِيَ أحسن وَهَذَا حقًا هُوَ المهذب المتنور:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ ... أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إِنِّي أُُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... لأَدْفَعَ الشَّرِّ عَنِي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُحْسِنُ الْبَشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضُهُ ... كَأَنَّهُ قَدْ مَلا قَلْبِي مَوَدَّاتِ
وَلَسْتُ أُسَلِّمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ ... فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ
آخر: ... يَأْبَى فُؤَادِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الأَذَى ... حُبُّ الأَذِيَّةِ مِنْ طِبَاعِ الْعَقْرَبِ
لِي إِنْ أَرَدْتُ مسَاءَةً بِمسَاءَةً ... لَوْ أَنَّنِي أَرْضَى بِبَرْقٍ خُلَّبِ
حَسْبُ الْمُسِيءِ شُعُورُهُ وَمَقَالُهُ ... فِي سِرِّهِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُذْنِبِ
اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يَا عزيز يَا غفار، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنياه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/239)
" فَصْلٌ ": وداء فِي تفسير قوله تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآيَة. أنها نزلت فِي أبي عبيدة.
وإليك الْقِصَّة مسوقة بأكملها، أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ صحابيًا جليلاً وبطلاً عظيمًا مِنْ أَبْطَالِ الإِسْلامِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، حَرصَ أَبُوهُ عَبْدُ اللهِ عَلَى قَتْلِهِ فِي أَوْلِ لِقَاءٍ، لأَنَّ أَبَا عُبَيْدَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَرَكَ دِينَ أَبِيهِ، وَاعْتَنَقَ الإِسْلامَ، وَتَخَلَّفَ عَنْ قَافِلَةَ قُرَيْش، وَالْتَحَقَ بِقَافِلَةِ مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُؤْمِنًا بِدِينِهِ مُصَدِّقًا بِرِسَالَتِهِ.
تَصَدَى عَبْد اللهِ لابْنِهِ مُحًاوِلاً قَتْلَهُ، فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَكن الابْن أَبْعَدَ عَنْهُ وَحَوَّلَ سَيْفَهُ عَنْ أَبِيهِ وَانْطَلَقَ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى غَيْرَ التي فِيهَا أَبُوهُ، يُقَاتِلُهَا وَيُجَاهِدُهَا وَافْتَرَقَ الرَّجُلانِ وَلَكن الأَبَّ بَحَثَ عَنْ ابْنِهِ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَرَفَعَ سَيْفَهُ عَلَيْهِ وَوَجَّهَ إِلَيْهِ ضَرْبَةً قَاضِيَةً اسْتَقْبَلَهَا أَبُو عُبَيْدَة بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ، جَعَلَتْهَا تهوى فِي الْفَضَاءِ.
وَلَكن الأَبَّ مُصَمِّمٌ عَلَى أَنْ لا يَفْلِتَ الابْن مَهْمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ مِنْ غَالِي الثَّمَنَ فَبَحَثَ عَنْ ابْنِهِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَنَقَّبَ عَنْهُ فِي كُلِّ مَكَانَ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَرَفَعَ الرَّجُلَ سَيْفَهُ لِيُوَجِّهُ إِلَى ابْنِهِ ضَرْبَةً قَاضِيةً مُمِيتَةً يَشْفِي كلوم قَلْبه وَتَهْدَأَ بِهَا نَفْسُهُ الثَّائِرَةَ عَلَى ابْنِهِ الصَّابِئِ.
وَهُنَا نَظَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ يَعْتَرِضُ وَيَتَصَدَّى لَهُ وَفِي اعْتِرَاضِهِ هَذَا(2/240)
اعْتِرَاضٌ لِلإِسْلامِ، فَمَا أَبُو عُبَيْدَة إِلا جُنْدِيٌّ مِنْ الْجُنُودِ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ الإِسْلامِ، وَأَنَّ فِي تَصّدِّيهِ لَهُ سَدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِقَامَةِ دِينَ الرَّحْمَنِ، وَانْتِشَارِ كَلِمَةِ اللهِ فِي الأَرْضِ فَهَلْ يَصْمُتُ أَبُو عُبَيْدَة عَلَى هَذَا، وَهَلْ يَسْكُتَ عَلَى مَنْ يَحُولَ بَيْنَ دَعْوَةِ اللهِ أَنْ تَقُومَ فِي الأَرْضِ وَأَنْ تُنْشَرَ بَيْنَ النَّاسِ كَلا لَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ نَحْوَ أَبِيهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ.
وَلَكِنَّ مَا دَامَ أَبُوهُ يَحْرِصَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلْيَكُنْ هُوَ أَسْبَقُ مِنْ أَبِيهِ فِي حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِهِ، كَذَلِكَ وَالْتَقَى السَّيْفَانِ وَتَقَابَلَ الرَّجُلانِ وَوَقَفَ الْخِصْمَانِ، وَفِي لَمْحَةٍ خَاطِفَة رَفَعَ الرَّجُلانِ سَيْفَهُمَا كُلٌّ يَحْرِصَ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وَالانْتِصَارَ لِدِينِهِ.
وَرَفَعَ أَبُو عُبَيْدَة يَدَهُ عَالِيةً خَفَّاقَةً، وَفِي سُرْعَةٍ أَهْوَى بِسَيْفِهِ الْبَتَّارِ عَلَى قَلْبِ وَالِدِهِ الْمُمْتَلِئ حِقْدًا وَغَضَبًا عَلَى الإِسْلامِ، ودعوة الإِسْلامِ، وَمَزَّقَ السَّيْفُ قَلْبَهُ، وَانْفَجَرَ الدَّمُ مِنْهُ بِكَثْرَةٍ وَكَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ مِنْ سَاعَاتِ التَّارِيخِ الْفَاصِلَةِ.
هَذَا مِنْ آثَارِ الْحُبِّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضِ فِي اللهِ، وَهَذَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى مَا تَأْمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهْرَةُ فَيُحِبُّ مِنَ النَّاسِ مَنْ نَهَجَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ وَيَبْتَعِدُ عَنْ منْ حَادَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ.
وَمَنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ انْطَبَعَ فِي قَلْبهُ حبّ الْكَمَالِ وَالإِيمَانِ فَيَكُونَ عَدُوُّ اللهِ فِي نَظَرِهِ عَدُوًّا، وَحِينَئِذٍ يَرَى أَنْ أَعْظَمَ النَّاسِ قِيمَةٍ أَهْلُ الإِخْلاصِ وَالطَّاعَةِ وَأَحَطَّهُمْ مَنْزِلَةً أَهْلُ الْمَعَاصِي والشَّنَاعَةِ وَالْفَسَادُ فِي الأَرْضِ.
وكَذَلِكَ كَانَ شأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وشأن أصحابه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يحبون فِي الله، ويبغضون فِي الله يوادون الطائعين وإن كَانُوا بعداء ويعادون العاصين(2/241)
وإن كَانُوا أقرباء فرابطة التَّقْوَى عندهم أشد وأقوى من رابطة النسب والقرابة.
وعن البراء بن عازب: أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله.
وفي حديث مرفوع: «اللَّهُمَّ لا تجعل لفاجر عِنْدِي يدًا ولا نعمة فيوده قلبي فإني وجدت فيما أوحي إِلَيَّ {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . رَوَاهُ بن مردويه وغيره.
المعنى الآيَة بلفظ الخبر والمراد بها الإنشاء أي لا تجد قومًا يجمعون بين الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر، والمحبة والموالاة لأعداء الله ورسوله.
فلا يكون المُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حَقِيقَة إِذَا كَانَ عاملاً على مقتضى إيمانه، ولوازمه من محبة من قام بالإِيمَان وبغض من لم يقم به ومعاداته.
وَلَوْ كَانَ أَقْرَب النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الإِيمَان على الحَقِيقَة الَّذِي وجدت ثمرته ومقصوده فمن أحب أَحَدًا امتنع أن يوالي عدوه.
ولَقَدْ أصاب المسلمون الْيَوْم من الموالاة لأعداء الله بَلاء شديد فتجد كثيرًا من النَّاس الَّذِينَ يدعون الإِيمَان يوالون أعداء الشرائع الدينية ويعظمونهم ويقدرونهم وينصرونهم على أبناء جنسهم ولو كَانَ فِي هَذَا ذل لَهُمْ ولأمتهم ولدينهم فإنَا لله وإنَا إليه راجعون.
قَالَ فِي النونية:
أَتُحِبُ أَعْدَاءَ الْحَبِيبِ وَتَدَّعِي ... حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِي إِمْكَانِ
وَكَذَا تُعَادِي جَاهِدًا أَحْبَابُهُ ... أَيْنَ الْمَحَبَّة يَا أَخَا الشَّيْطَانِ
لَيْسَ الْعِبَادَةُ غَيْرَ تَوْحِيدِ الْمَحَبَّـ ... ــةِ مَعَ خُضُوعِ الْقَلْبِ وَالأَرْكَان
آخر: ... وَالْحُبُّ نَفْسُ وِفَّاقِهِ فِيمَا يُحِبْ ... وَبُغْضُ مَا لا يَرْتَضِي بِجِنَانِ(2/242)
آخر: ... وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي الله تَبْقَى ... عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ
وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ ... فَكَالْحُلَفَاءِ فِي لَهْبِ الْحَرِيقِ
آخر: ... إِذْ أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِشَرْعٍ وَلَمْ تُطِعْ ... أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ
وَلَمْ تَجْتَنِبْ أَعْدَا الشَّرِيعة كُلَهُمْ ... وَتَدْفَعُ عَنْهَا بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ
وَتَحْمِهَا عَنْ جُهَّالِهَا وَتَحُوطُهَا ... وَتَقْمَعُ عَنْهَا نُخْوَةَ الْمُتَهَدِّدِ
فَلَسْتُ لَوْ عَلَّلْتَ نَفْسَكَ بِالْمُنَى ... بِذِي سُؤْدَدٍ بَادٍ وَلا قُرْبَ سُؤْدِدِ
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَا حي يَا قيوم يَا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانَا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.؟ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": وَعَنْ أَبِي ذر مرفوعًا: «أفضل الأَعْمَال الحب فِي الله والبغض فِي الله» . رَوَاهُ أبو داود.
وفي الصحيحين: «المرء مَعَ من أحب» . وعن علي مرفوعًا: «لا يُحِبُّ رَجُلٌ قومًا إِلا حُشِرَ مَعَهُمْ» . رَوَاهُ الطبراني بإسناد جيد.
وقَدْ روى الإِمَام أحمد معناه عَنْ عَائِشَة بإسناد جيد أيضًا عَنْهَا مرفوعًا: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفاء فِي اللَّيْلَة الظلماء، وأدناه أن تحب على شَيْء من الجور، أَوْ تبغض على شَيْء من العدل وهل الدين إِلا الحب فِي الله والبغض فِي الله» .
يفتخر بَعْض المتحذلقين أنه لا يكره أي إنسان، ولا يبغض أَحَدًا، وأنه يسلك مَعَ الفجرة والفسقة، ومَعَ أَهْل الدين والصلاح بل ومَعَ الكفرة والمنافقين، ويلقب نَفْسهُ ومن سلك مذهبه بأنه دبلوماسي، ويظن هَذَا فخرًا وكرمًا فِي الأَخْلاق ونبلاً وطيبًا.(2/243)
ولكن من لا يعرف البغض، فلن يعرف الحب ومن لا يكره إنسانًا عاصيًا هيهات أن يحب عبدًا مطيعًا إن تحب مؤمنًا بسبب إخلاصه وتقواه فَكَيْفَ لا تبغضه إِذَا زال عَنْهُ سبب الحب فانقلب فاجرًا متهتكًا، تعفو عمن ظلمك ولكن ما رأيك فيمن ظلم نَفْسهُ وظلم عباد الله، ما رأيك فِي الزناة هاتكي الأعراض، ومدني الخمر وشارَبِي الدخان وحالقي لحاهم، وأَهْل الخنافس والتشبه بأعداء الله أعداء الإِسْلام ومن يشهدون الزور ولا يشهدون صلاة الجماعة، ويغتصبون الحقوق ويؤذون العباد ويخونون الدين والْبِلاد هل تحبهم أَوْ تبغضهم لله فتش عَنْ قلبك وحاسب نفسك هل تحبهم فتعينهم على الظلم أم تبغضهم وتحقرهم وتنابذهم وتبتعد عنهم عَسَى أن يرجعوا عَنْ غيهم وبغيهم لا مفر من أَنْ يكون لَنَا أعداء نبغضهم فِي الله كما يكون لَنَا أصدقاء نحبهم فِي الله.
فيا عباد الله تقربوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي الظلمة والمنافقين كما تتقربون إليه بحب الصالحين، أشعروهم بمقتكم لآثامهم، وسخطكم على إجرامهم، ولا تتسامحوا فيما يمس الدين ولا تصفحون عمن يحارب رب العالمين، ولو كَانَ أقرب قريب.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا لأشرف الخلق {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، أي لو ملت إليهم لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الْمَمَات أي ضاعفنا عَلَيْكَ الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، لأن الذنب من العَظِيم يكون عقابه أشد من غيره.
ومن ثُمَّ يكون عقاب الْعُلَمَاء على زلاتهم أشد من عقاب غيرهم من العامة، لأنهم يقتدون بالْعُلَمَاء، روي عَنْ قتادة أنه قَالَ: لما نزل قوله تَعَالَى {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .. إلخ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين» .(2/244)
فينبغي للمُؤْمِنِ أن يتدبر هَذِهِ الآيَة ويستشعر الخشية ويسأل الله أن يثبته، ويستمسك بأهداب دينه، ويكثر من قول يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلبي على دينك وَيَقُولُ كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين» . فإذا كَانَ هَذَا الخطاب لأشرف الخلق فَكَيْفَ بغيره.
وقَالَ تَعَالَى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عمن تولى وأعرض عَنْ الذكر الحكيم والقرآن العَظِيم {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وعلى العكس من أقبل على كتاب الله ووقره وقدره وأحبه واتبعه ودعى إِليه نسأل الله العَظِيم أن يغرس محبته فِي قلوبنا ويرزقنا تلاوته والْعَمَل به. وقَالَ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «من أحب فِي الله وعادى فِي الله وأبغض فِي الله ووالى فِي الله فإنما تنال ولاية الله بذَلِكَ. رَوَاهُ ابن أبي شيبة وابْن أَبِي حَاتِم.
وفي حديث رَوَاهُ أبو نعيم وغيره عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ": أوحى الله إِلَى نبي من الأَنْبِيَاء أن قل لفلان العابد أما زهدك فِي الدُّنْيَا فتعجلت راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فما عملت لي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رب وما لك علي؟ قَالَ: هل واليت لي وليًا، أَوْ عاديت لي عدوًا» .
شِعْرًا: ... وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ ضَاعَ وَقْتُهُ ... بِصُحْفٍ وَتِلْفَازٍ وَقِيْلَ وَقَالُوا
وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ طَاعَ رَبَّهُ ... وَصَارَ بِمَا يُرْضِي الإِلَهَ مِثَالُ
آخر: ... لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبَلا ... لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهِ
كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنْ ذَا ... أَشَدُّ مِنْ ذَاكَ لِجُحْدِهِ اللهَ
آخر: ... وَحَسْبُكَ مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعِهِ ... رُكُوبُكَ مَا لا يَرْتَضِي اللهُ فِعْلَهُ
" فائدة ": أقل النَّاس عقلاً من فرط فِي عمله فصرفه فِي غير طاعة الله، وأقل منه عقلاً من صرف وقته فِي معاصي الله، نسأل الله العافية.(2/245)
وقَالَ تَعَالَى {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فعقَدْ تَعَالَى الموالاة بين الْمُؤْمِنِينَ، وقطعهم من ولاية الكافرين وأخبر أن الكفار بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض، وإن لم يفعلوا ذَلِكَ وقع فتنة وفساد كبير، وَكَذَا يقع فهل يتم الدين أَوْ يقام علم الجهاد وعلم الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر إِلا بالحب فِي الله والبغض فِي الله والمعاداة فِي الله والموالاة فِي الله.
ولو كَانَ النَّاس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرق بين الحق وَالْبَاطِل ولا بين الْمُؤْمِنِينَ والكفار ولا بين أَوْلِيَاء الرحمن وأَوْلِيَاء الشيطان.
ومن موالاة الأعداء ومصادقتهم ما يفعله كثير من ضعفاء الإِيمَان من الذهاب إِلَى أعداء الله فِي أيام أعيادهم فيدخلون فِي كنائسهم وبيوتهم وأنديتهم وينهونهم بأعيادهم، والعياذ بِاللهِ.
وأعظم من ذَلِكَ وأطم الَّذِينَ يدرسون على الكفار ويجلسون بين يَدَيّ الكافر والعياذ بِاللهِ ويأتون بشهادة من أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فيا أيها المعافي أكثر من حمد الله وشكره وأسأله الثبات حَتَّى الممات.
وقَدْ قِيْل فِي تفسير قوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أن المراد أعياد المشركين، وقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم فِي كنائسهم.
وقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اجتنبوا أعداء الله فِي عيدهم، ومن الأعياد المحدثة التي لا يجوز للمسلم حضورها لأنها أعياد باطلة ما يسمى بعيد الاستقلال،(2/246)
وعيد الجلاء وعيد الجلوس، وعيد الثورة، ونحو ذَلِكَ من أعياد الكفرة والمنافقين وأتباعهم.
وقَالَ الشَّيْخ حمد بن عتيق رَحِمَهُ اللهُ، ومن أعظم الواجبات على المُؤْمِن محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وَكَذَا ما يحبه من الأشخاص كالملائكة، وصالح بَنِي آدم، وموالاتهم وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وبَعْض من فعل ذَلِكَ فإذا رسخ هَذَا الأصل فِي قلب المُؤْمِن لم يطمئن إِلَى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه وساء نظره إليه.
فَلَمَّا ضعف هَذَا الأصل فِي قُلُوب كثير من النَّاس واضمحل صار كثير مِنْهُمْ مَعَ أَوْلِيَاء الله كحاله مَعَ أعداء الله، يلقى كلا مِنْهُمْ بوجه طليق، وصَارَت بلاد الحرب كبلاد الإِسْلام، ولم يخش غضب الله الَّذِي لا تطيق غضبه السماوات والأَرْض والجبال الراسيات قُلْتُ: فَكَيْفَ لو رأى تدفق الكفرة على الْمُسْلِمِين وتدفق الشباب على بلاد الكفر.
ولما عظمت الفتنة فتنة الدُّنْيَا، وصَارَت أكبر همهم ومبلغ علمهم حملهم ذَلِكَ على التماسها وطلبها ولو بما يسخط الله، فسافروا إِلَى أعداء الله فِي بلادهم، وخالطوهم فِي أوطانهم ولبس عَلَيْهمْ الشيطان أمر دينهم فنسوا عهد الله وميثاقه الَّذِي أخذ عَلَيْهمْ، فِي مثل قوله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/247)
" فَصْلٌ ": وقَالَ تَعَالَى لما ذكر حال المنافقين {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} ، قَالَ بَعْض المفسرين، أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عَنْ المنافقين وإغلاظ القول عَلَيْهمْ وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهرًا عابسًا متغيرًا من الغيظ فإذا كَانَ هذا مَعَ المنافقين، الَّذِينَ بين أَظْهُرِ الْمُسْلِمِين، يصلون معهم ويجاهدون معهم ويحجون فَكَيْفَ بمن يسافر إِلَى المشركين وأقام بين أظهرهم أيامًا ولياليا واستأذن عَلَيْهمْ فِي بيوتهم وبدأهم بالسَّلام وأكثر لَهُمْ التحية وألان لَهُمْ الكلام ولَيْسَ لَهُ عذر إِلا طلب العاجلة ولم يجعل الله الدُّنْيَا عذرًا لمن اعتذر بها قَالَ تَعَالَى:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآيَة.
وقَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رَحِمَهُ اللهُ:
شِعْرًا: ... وَاللهُ حَرَّمَ مُكْثَ مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ ... فِي كُلِّ أَرْضٍ حَلَّهَا الْكُفَّارُ
وَلَهُمْ بِهَا حُكْم الْولايةِ قَاهِرٌ ... فَارْبَأَ بِنَفْسِكَ فَالْمَقَامُ شَنَارُ
وَانْظُرْ حَدِيثًا فِي الْبَرَاءَةِ قَدْ أَتَى ... نَقَلُ الثِّقَاةِ رُوَاتُهُ الأّخْيَارُ
فِيهِ الْبَرَاءَةُ بِالصَّرَاحَةِ قَدْ أَتَتْ ... مِنْ مُسْلِمٍ وَكَذَاكَ الآثَارُ
قَدْ صَرَّحْتَ فِيمَنْ أَقَامَ بِبَلْدَةٍ ... مُسْتَوْطِنًا وَوُلاتُهَا الْكُفَّارُ
وقَالَ فِي آخر كلامه: فالواجب على العاقل الناصح لنفسه النظر فِي أمره والفكر فِي ذنوبه ومجاهدة نَفْسهُ على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالْعَمَل الصالح وتقديم محبة الله على جميع المحاب وإيثار مرضاته على حظوظ النفس، فَإِنَّ كُلّ شَيْء ضيعه ابن آدم ربما يكون لَهُ منه عوض، فَإِن ضيع حظه من الله لم يكن لَهُ عوض، قُلْتُ: وقَدْ أحسن من قَالَ:
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ اللهِ إِنْ ضَيَّعْتَه عَوَضُ
آخر: ... وَإِنَّمَا رَجُلُ الدُّنْيَا وَوَاحِدُهَا ... مَنْ لا يُعَوِّلُ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللهِ(2/248)
وقَدْ خاب من كَانَ حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه وإن أفاد فِي دنياه نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصيها إليه وأن يلزمنا كلمة التَّقْوَى وأن يجعلنا من أهلها وصلى الله على مُحَمَّد.
شعرًا:
بَكِيتُ فَمَا تَبْكِي شَبَاب صَبَاكَا ... كَفَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ فِيكَ كَفَاكَا
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْبَ قَدْ قَامَ نَاعِيًا ... مَكَانَ الشَّبَابِ الْغَضِّ ثُمَّ نَعَاكَا
أَلَمْ تَرَ يَوْمًا مَرَّ إِلا كَأَنَّهُ ... بِإِهْلاكِهِ لِلْهَالِكِينَ عَنَاكَا
أَلا أَيُّهَا الْفَانِي وَقَدْ حَانَ حِيْنُهُ ... أَتَطْمَعُ أَنْ تَبْقَى فَلَسْتَ هُنَاكَا
سَتَمْضِي وَيَبْقَى مَا تَرَاهُ كَمَا تَرَى ... فَيَنْسَاكَ مِنْ خَلَّفْتَهُ هُوَ ذَاكَا
تَمُوتُ كَمَا مَاتَ الَّذِينَ نَسيتَهُمْ ... وَتَنْسَى وَيَهْوَى الْحَيُّ بَعْدَ هَوَاكَا
كَأَنَّكَ قَدْ أُقْصِيتَ بَعْدَ تَقَرُّبٍ ... إِلَيْكَ وَإِنْ بَاكٍ عَلَيْكَ بَكَاكَا
كَانَ الَّذِي يَحْثُو عَلَيْكَ مِن الثَّرَى ... يُرِيدُ بِمَا يَحْثُو عَلَيْكَ رِضَاكَا
كَأنَ خُطُوبُ الدَّهْرِ لَمْ تَجْرِ سَاعَة ... عَلَيْكَ إِذَا الْخَطْبُ الْجَلِيلُ دَهَاكَا
تَرَى الأَرْضَ كَمْ فِيهَا رُهُون كَثِيرَةٌ ... غَلِقْنَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُنَّ فِكَاكَا
اللَّهُمَّ أَنَا نسألك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ونعوذ بك من مضلات الفتن، وما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك، وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد.
" فَصْلٌ "
وقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ومن تمام محبة الله محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شَيْئًا مِمَّا كرهه الله، أَوْ كره شَيْئًا مِمَّا يحبه الله، لم يكمل توحيده وصدقه فِي قوله(2/249)
لا إله إلا الله، وكَانَ فيه من الشرك الخفي بحسب ما كره مِمَّا أحبه الله، وما أحبه مِمَّا يكره الله قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقَالَ الحسن: اعْلَمْ إِنَّكَ لن تحب الله حَتَّى تحب طاعته. وقَالَ بَعْضهمْ: كُلّ من ادعى محبة الله ولم يوافق الله فِي أمره فدعواه باطلة. وقَالَ يحيى بن معاذ: لَيْسَ بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وقَالَ رويم: المحبة الموافقة فِي جميع الأَحْوَال. وأنشد يَقُولُ:
وَلَوْ قُلْتَ لِي مُتْ مُتُّ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وقُلْتُ لِدَاعِي الْمَوْت أَهْلاً وَمَرْحَبَا
خَصَائِصُ مَنْ تُشَاوِرُهُ ثَلاثٌ ... فَخُذْهَا مِنْ كَلامِي بِالْحَقِيقَةْ
وِدَادٌ خَالِصٌ وَوُفُورُ عَقْلٍ ... وَمَعْرِفَةٌ بِحَالِكَ بِالْحَقِيقَةْ
فَمَنْ تَمَّتْ لَهُ هَذِي الْمَعَانِي ... فَتَابِعْ رَأْيَهُ وِفْقَ الشَّرِيعَةْ
وَإِنْ خَالَفَ كَلامَ اللهِ أَوْ ... كَلام الْمُصْطَفَى فَاحْذَرْ تُطِيع
ويشهد لهَذَا المعنى قول تَعَالَى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} وقَالَ الحسن: قَالَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّا نحب ربنا شَدِيدًا، فأحب الله أن يجعل لحبه علامة فأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَة.
وَمِنْ هُنَا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله الا بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله الا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طَرِيق إِلَى معرفة ما يحبه ويكرهه، إلا بإتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عَنْهُ، فصَارَت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه ومتابعته.
أَخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمٍ ... وَاتْبَعْ رَسُولَ الْهُدَى فِيمَا أَتَاكَ بِهِ
ولهَذَا قرن الله محبته ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي قوله تَعَالَى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} .(2/250)
إلى قوله {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} كما قرن طاعته وطاعة رسوله فِي مواضع كثيرة.
شِعْرًا: ... وَإِنَّمَا يَتَسَامَى لِلْعُلَى رَجُلٌ ... فِي طَاعَةِ اللهِ لا تُلْهِيهِ أَمْوَالُ
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يرجع إِلَى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يُلقى فِي النار» . وهذه حالة السحرة لما سكنت المحبة فِي قُلُوبهمْ سمحوا ببذل نفوسهم، وقَالُوا لفرعون: اقض ما أَنْتَ قاض.
شِعْرًا: ... وَمَنْ تَكُنْ الْفِرْدَوْسَ هِمَّةُ نَفْسِهِِ ... فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فِيهَا مُجَيَّبُ
ومتى تمكنت المحبة من الْقَلْب لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى طاعة الرب، وَهَذَا معنى الْحَدِيث الإلهي: «ولا يزال عبدى يتقرب إِلَيَّ بالنوافل حَتَّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمَعَ به، وبصره الذى يبصر به ويده التِي يبطش بها ورجله التِي يمشى بها ". وَفِي بَعْض الروايات فبي يسمَعَ وبي يبصر.
والمعنى أن محبة الله إِذَا استغرق بها الْقَلْب واستولت عَلَيْهِ لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى رضا الرب، وسارت النفس مطمئنة حينئذ بإرادة مولاها عَنْ مرادها وهواها، وَفِي بَعْض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شَيْء عنده آثر من رضاه
شِعْرًا: ... كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا ... وَحُبَّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي
وقَالَ: لا ينجو غدًا إلا من أتى الله بقلب سليم، لَيْسَ فيه سواه قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَهُوَ الطاهر من أَدناس المخالفات.(2/251)
فأما المتلطخ بشَيْء من المكروهات، فلا يصلح لمجاورة حضرة القدوس إلا بعد أن يطهر بكير الْعَذَاب فإذا أزال عَنْهُ الخبث صلح حينئذ للمجاورة إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فَأَمَّا الْقُلُوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأَمْر {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
من لم يحرق نَفْسهُ الْيَوْم بنار الأسف على ما سلف أَوْ بنار الشوق إِلَى لقاء الْحَبِيب، فنار جهنم أشد حرًا ما يحتاج إِلَى تطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل التَّوْحِيد والقيام بحقوقه.
أول من تسعر بِهُمْ النار من الموحدين المراؤون بأَعْمَالِهُمْ وأولهم العَالِم والمتصدق والمجاهد للرياء، ولأن الرياء شرك ما تظاهر المرائى إِلَى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق، المرائي يزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهمهم أنه من خاصة الملك، وَهُوَ ما يعرف الملك بالكلية، نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج والبهرج لا يجوز ألا على غير الناقَدْ.
وقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: من أحب شَيْئًا سِوَى الله ولم تكن محبته لَهُ لله ولا لكونه معينًا لَهُ على طاعة الله، عذب فِي الدُّنْيَا قبل اللقاء كما قِيْل:
شِعْرًا: ... أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ ... فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي
فإذا كَانَ يوم القيامة، ولى الحكم العدل سُبْحَانَهُ كُلّ محب من كَانَ يحبه فِي الدُّنْيَا فكَانَ معه إمَّا منعمًا وإمّا معذبًا، ولهَذَا يمثل لمحب الْمَال ماله شجاعًا أقرع، يأخذ بلهزميته، يقول: أَنَا مالك أَنَا كنْزُك وصفح لَهُ صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره.
وَكَذَا عاشق الصور إِذَا اجتمَعَ هُوَ ومعشوقه على غير طاعة الله، جمَعَ بينهما فِي النار وعذب كُلّ منهما بصاحبه، قَالَ تَعَالَى {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .(2/252)
وأخبر سُبْحَانَهُ أن الَّذِينَ توادوا فِي الدُّنْيَا على الشرك يكفر بَعْضهمْ ببَعْض يوم القيامة، ويلعن بَعْضهمْ بَعْضًا ومأواهم النار وما لَهُمْ من ناصرين.
فالمحب مَعَ محبوبه دنيا وأخرى، ولهَذَا يَقُولُ الله تَعَالَى يوم القيامة للخلق ألَيْسَ عدلاً مني أن أولي كُلّ رجل منكم ما كَانَ يتولى فِي دار الدُّنْيَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مَعَ من أحب» . وقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} .
وقَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أزواجهم أشباهم ونظراؤهم، وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} .
فقرن كُلّ شكل إِلَى شكله، وجعل معه قرينًا وزوجًا، البر مَعَ البر والفاجر مَعَ الفاجر.
والمقصود أن من أحب شَيْئًا سِوَى الله فالضَّرَر حاصل لَهُ بمحبوبه إن وَجَدَ وان فقَدْ، فإنه إن فقَدْ عذب بفواته، وتألم عَلَى قَدْرِ تعلق قَلْبهُ به، وإن وجده كَانَ ما يحصل لَهُ من الألم قبل حصوله، ومن النكد فِي حال حصوله، ومن الحَسْرَة عَلَيْهِ بعد فواته، أضعاف ما فِي حصوله لَهُ من اللذة.
وَهَذَا الأَمْر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهَذَا قَالَ النبى - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيث الذى رَوَاهُ الترمذى وغيره: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها ألا ذكر الله وما والاه» .
فذكره جميع أنواع طاعته فكل من كَانَ فِي طاعته فهو فِي ذكره، وإن لم يتحرك لِسَانه بالذكر، وكل من والاه فقَدْ أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذَلِكَ بوجه وهي نائلة كُلّ ما عداه.(2/253)
اللَّهُمَّ ارزقنا العافية فِي أبداننا والعصمة فِي ديننا وأحسن منقلبنا وَوَفِّقْنَا للعمل بِطَاعَتكَ أبدًا ما أبقيتنا واجمَعَ بين خيري الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعا لما جَاءَ به رسولك - صلى الله عليه وسلم - وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
عباد الله كلمة التَّوْحِيد "لا إله إلا الله "، هِيَ العروة الوثقى وهي التِي فطر الله عَلَيْهَا جميع خلقه.
ولها أركَانَ وشروط، فأركانها اثنان نفي وإثبات. وحد النفي من الإثبات (لا إله) ، أي نَافيًا جميع ما يعبد من دون الله. والأثبات (إلا الله) أي مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك لَهُ فِي عبادته كما أنه لا شريك لَهُ فِي ملكه.
وأما شروطها فسبعة لا تصح هَذِهِ الكلمة ولا تنفع قائلها إلا إِذَا استجمعت لَهُ الشروط التِي تلي.
الأول: العلم، بمعناها نفيًا وإثباتًا، قَالَ الله تَعَالَى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا الله} وقَالَ {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «من مَاتَ وَهُوَ يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة» .
الثانى: اليقين، أي استيقان الْقَلْب بها قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الْجَنَّة» . وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: «من لقيت وراء هَذَا(2/254)
الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة» . كلاهما فِي الصحيح.
الثالث: الإخلاص، قَالَ الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقَالَ {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، وَعَنْ أَبِي هريرة قَالَ: قُلْتُ يا رسول الله من أسعد النَّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ ظننت يَا أبا هريرة أن لا يسألنى عَنْ هَذَا الْحَدِيث أحد أولى منك لما رَأَيْتُ من حرصك على الْحَدِيث. أسعد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة من قَالَ لا إله إلا الله خالصًا من قَلْبهُ أَوْ نَفْسهُ» .
وعن أبي هريرة قَالَ: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ الله تَعَالَى أَنَا أغنى الشركاء عَنْ الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . رَوَاهُ مُسْلِم.
الرابع: الصدق، قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، عن ابن عباس قَالَ: من جَاءَ بلا إله إلا الله وقَالَ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) .
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّد رسول الله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ» . متفق عَلَيْهِ. وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ» . الْحَدِيث رَوَاهُ مُسْلِم.
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي علمه شرائع الإِسْلام: «أفلح إن صدق ".
الخامس: المحبة قَالَ الله تَعَالَى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» . الْحَدِيث. متفق عَلَيْهِ.(2/255)
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب اليه من والده وولده والنَّاس أجمعين ". متفق عَلَيْهِ.
السادس: الانقياد لها ظاهرًا وباطنًا، قَالَ تَعَالَى {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وقَالَ تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به» .
السابع: القبول لها، وقَدْ جمَعَ بَعْضهمْ شروط " لا إله إلا الله " في بيت فقال:
علم يقين وإخلاص وصدقك مَعَ ... محبة وانقياد والقبول لها
فلا يرد شَيْئًا من لوازمها ومقتضياتها، قَالَ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إِلَى قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} وقَالَ أيضًا فِي حق من لم يقبلها " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} .
وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فَكَانَتْ مَنْهَا طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكَانَ مَنْهَا أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النَّاس فشربوا مَنْهَا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هِيَ قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فَذَلِكَ مثل من فقه فِي دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذَلِكَ رأسًا ولم يقبل هدى الله الَّذِي أرسلت به» . متفق عَلَيْهِ.
وقَدْ شهد الله لنفسه بالوحدانية فِي قوله تَعَالَى {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ(2/256)
هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فقَدْ تضمنت هَذِهِ الآيَة الكريمة حَقِيقَة التَّوْحِيد والرد على جميع طوائف الضلال فقَدْ تضمنت أجّل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به
وعبارات السَّلَف فِي "شهد" تدور على الحكم والِقَضَاءِ والأعلام والأخبار والبيان وهذه الأقوال كُلّهَا حق لا تنافي بينها
فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته
وثانيها: تكلمه بذَلِكَ وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم بها مَعَ نَفْسهُ ويتذكرها ونطق بها أَوْ يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد ويخبره به ويبينه لَهُ
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به فشهادة الله سُبْحَانَهُ لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هَذِهِ المراتب الأربع علمه بذَلِكَ وتكلمه وإخباره لخلقه وأمرهم وإلزامهم به. فأما مرتبة العلم فَإِنَّ الشهادة تتضمنها ضرورة وإلا كَانَ الشاهد شاهدًا بما لا علم لَهُ به، قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «على مثلها فاشهد» . وأشار إِلَى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر فقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} فجعل ذَلِكَ مِنْهُمْ شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عَنْدَ غيرهم.(2/257)
وأما مرتبة الإعلام فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالْفِعْل، وَهَذَا شأن كُلّ معلم لغيره بأمرٍ، تَارَّة يعلمه به بقول وتَارَّة بفعل ولهَذَا كَانَ من جعل داره مَسْجِدًا وأبرزها وفتح طريقها وأذن للناس بالدخول والصَّلاة فيها معِلْمًا أنها وقف وإن لم يلفظ
وَكَذَا شهادة الرب عَزَّ وَجَلَّ وبيانه وأعلامه يكون بقوله تَارَّة وبفعله أخرى فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه
وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قَالَ ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عَنْدَ خلقه أن إلا اله إلا هو، وقَالَ الآخر:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
آخر: ... لَهُ كُلُّ ذَرَّاهِ الْوُجُودِ شَوَاهِدٌ ... عَلَى أَنَّهُ الْبَارِي الإِلَهُ الْمُصَوِّرُ
آخر: ... تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخَِصاتٌ ... بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْبَرَايَا ... إِلَى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ
آخر: ... تَأَمُلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا ... مِنْ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ
وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ... أَلا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ
ومِمَّا يدل على أن الشهادة تَكُون بالْفِعْل قوله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} فهذه شهادة مِنْهُمْ على أنفسهم بما يفعلونه.
وأما مرتبة الأَمْر بذَلِكَ والإلزام به فَإِنَّ مجرد الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة فِي هَذَا الموضع تدل عَلَيْهِ وتتضمنه.
فإنه سُبْحَانَهُ شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال(2/258)
تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقَالَ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً} والقرآن كله شاهد بذَلِكَ.
ووجه استلزام شهادته سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ أنه إِذَا شهد أنه لا اله إلا هُوَ فقَدْ أخبر ونبَّأ وأعْلَمَ وحكم وقضى أن ما سواه لَيْسَ بإله وأن ألوهية ما سواه باطلة.
فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره، وَذَلِكَ يستلزم الأَمْر باتخاذه وحده إلهًا والنهى عَنْ إتخاذ غيره معه إلهًا ولا إله إلا الله هِيَ كلمة التَّوْحِيد التِي اتفقت عَلَيْهَا الرسل صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أجمعين.
وما من رسول إلا جعلها مفتتح أمره وقضب رحاه كما قَالَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عَزَّ وَجَلَّ» .
وحق هَذِهِ الكلمة هُوَ فعل الواجبات وترك المحرمَاتَ.
وأما فائدتها وثمرتها فالسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة لمن قالها عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها، وأما مجرد النطق فلا ينفع لا بد من عمل.
قَالَ شيخ الإِسْلام: من اعتقَدْ أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الْجَنَّة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسُنَّة والإجماع. أ. هـ
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنَّته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التِي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الإحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" موعظة "
عباد الله إن لكلمة التَّوْحِيد فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها مَنْهَا أنها(2/259)
كلمة الإِسْلام وإنها مفتاح دار السَّلام فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح جددوا إيمانكم فِي المساء والصباح بقول لا إله إلا الله من أعماق قلوبكم متأملين لمعناها عاملين بمقتضاها.
عباد الله ما قامت السماوات والأَرْض ولا صحت السُنَّة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جردت سيوف الجهاد، ولا أرسلت الرسل إِلَى العباد إلا ليعلمهم الْعَمَل بلا إله إلا الله.
تالله إنها كلمة الحق ودعوة الحق وإنها براءة من الشرك ونجاة هَذَا الأَمْر ولأجلها خلق الله الخلق كما قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقَالَ تَعَالَى {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} .
قَالَ ابن عيينة رَحِمَهُ اللهُ: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وأن لا إله إلا الله لأَهْل الْجَنَّة كالماء البارد لأَهْل الدُّنْيَا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد.
فمن قالها عصم ماله ودمه ومن أباها فماله ودمه حلال، وبها كلم الله مُوَسى كفاحًا وَهِيَ أَحْسَن الحسنات كما فِي المسند عَنْ شداد بن أوس وعبادة بن الصامت رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله» . فرفعنا أيدينا ساعة فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده. وقَالَ: «الحمد لله اللَّهُمَّ بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها ووعدتني الْجَنَّة وإنك لا تخلف الميعاد» .
ثُمَّ قَالَ: «أبشرو فَإِنَّ الله قَدْ غفر لكم وهي أحسن الحسنات وهي تمحو الذُّنُوب والخطايا.
وفي سنن ابن ماجة عَنْ أم هانئ عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا إله إلا الله لا(2/260)
تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل» . وروي بعض السَّلَف بعد موته فِي المنام فقَالَ: ما أبقت لا إله إلا الله شَيْئًا وهي تجدد ما درس من الإِيمَان فِي الْقَلْب.
آخر: ... وَإِنَّ أَصْدَقَ قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الَّذِي خَلَقَا
وَفِي المسند أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «جددوا إيمانكم» . قَالُوا: كيف نجدد إيماننا؟ قَالَ: «قولوا لا إله إلا الله، وهي التِي لا يعدلها شَيْء فِي الوزن فلو وزنت بالسموات والأَرْض لرجحت بهن، كما فِي المسند عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن نوحًا عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لابنه عَنْدَ موته " آمرك بلا إله إلا الله فَإِنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن فِي كفة ووضعت لا إله إلا الله لرجحت بهن، ولو أن السموات السبع والأرضين كن فِي حلقه مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله.
وأنها ترجح بالسموات والأرض كما فِي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عَنْهُ أن مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يَا رب علمني شَيْئًا اذكرك وادعوك به. قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله إلا الله. قَالَ مُوَسى: يَا رب كُلّ عبادك يقولون هَذَا؟
قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله لا الله. قَالَ: لا إله إلا الله، إنما أريد شَيْئًا تخصني به؟ قَالَ: يَا مُوَسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهنَّ غيري فِي كفة ولا إله إلا الله فِي كفة مالت بهنَّ لا إله إلا الله.
كَذَلِكَ ترحج فِي صحائف الذُّنُوب، كما فِي حديث السجلات، والبطاقة، وفي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو فيما أَخْرَجَهُ أحمد والنسائي والترمذى عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -.
اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار واغفر لَنَا.(2/261)
ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه اجمعين.
"فَصْلٌ"
وهي التِي تخرق الحجب حَتَّى تصل إِلَى الله عز وجل وإنها لَيْسَ لها دون الله حجاب، لما تقدم ولما في الترمذي عن عَبْد اللهِ بن عمرو وعن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «لا إله إلا الله لَيْسَ لها دون الله حجاب وأنها تفتح لها أبواب السماء، كما فِي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: ما من عبد قَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت لها أبواب السماء حَتَّى تفضي إِلَى العرش» .
ويروى عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما من شَيْئًا إلا بينه وبين الله حجاب، إله الا الله كما أن شفتيك لا تحجبها كَذَلِكَ لا يحجبها شَيْئًا حَتَّى تنتهي إِلَى الله عز وجل.
وورد عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شىء قدير مخلصًا بها قَلْبهُ يصدق بها لسانه إلا فتح الله السماء فتقًا حَتَّى ينظر إِلَى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله، وهي الكلمة التِي يصدق الله قائلها.
كما فِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا قَالَ الْعَبْد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقَالَ لا اله الا أَنَا، وأنَا اكبر. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ. قَالَ الله لا إله الا أَنَا وحدي لا شريك لي. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك ولَهُ الحمد. قَالَ الله لا إله إلا أَنَا لي الملك ولي الحمد، وَإِذَا قَالَ العبد لا إله إلا الله ولا(2/262)
حول ولا قوة الا بِاللهِ، قَالَ الله: لا إله إلا أَنَا ولا حول ولا قوة إلا بي. وكَانَ يَقُولُ من قالها فِي مرضه ثُمَّ مَاتَ لم تطعمه النار، وهي أفضل ما قاله النبيون كما ورد ذَلِكَ فِي دعاء عرفة وهي أفضل الذكر كما فِي حديث جابر المرفوع أفضل الذكر لا إله إلا الله وعن ابن عباس رضى الله عنهما أحب كلمة إِلَى الله لا إله لا الله، لا يقبل الله عملاً إلا بها.
وهي أفضل الأَعْمَال، وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتَكُون حرزًا من الشيطان، كما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شىء قدير فِي يوم مائة مرة كَانَتْ لَهُ عدل عشر رقاب، وكتب لَهُ مائة حسنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة ولم يأت أحد بأفضل مِمَّا جَاءَ به، إلا واحد عمل أكثر من ذَلِكَ.
وورد أن من قالها عشر مرات كَانَ كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي الترمذي عَنْ عمر مرفوعًا: «من قالها إِذَا دخل السوق» . وزَادَ فيها: «يحيى ويميت بيده الْخَيْر وَهُوَ على كُلّ شىء قدير، كتب الله لَهُ ألف ألف حسُنَّة، ومحى عَنْهُ ألف ألف سَيِّئَة، ورفع لَهُ ألف ألف درجة» . وَفِي رواية: «يُبنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة» .
ومن فضائلها أنها آمان من وحشة القبر وهول المحشر كما فِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ على أَهْل لا إله إلا الله وحشة فِي قبورهم ولا فِي نشورهم، وكأني بأَهْل لا إله إلا الله ينفضون التُّرَاب عَنْ رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذى اذهب عنا الحزن» .
وَفِي حديث مرسل: «من قَالَ لا إله إلا الله الملك الحق المبين كُلّ يوم مائة مرة كَانَتْ أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الْجَنَّة، وهي شعار الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قاموا من قبورهم» .(2/263)
ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الْجَنَّة الثمانية، يدخل من أيها شَاءَ. وفي الصحيحين عَنْ عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فِي القبور، فتحت لَهُ أبواب الْجَنَّة الثمانية يدخل من أيها شَاءَ» .
وفي حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بن سمرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قصة منامه الطويل، وفيه قَالَ: «رَأَيْت رجلاً من أمتي انتهى إِلَى أبواب الْجَنَّة فأغلقت دونه، فجأته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت لَهُ الأبواب وأدخلته الْجَنَّة» .
ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم فِي حقوقهم، فَإِنَّهُمْ لا بد أن يخرجوا مَنْهَا. وفي الصحيحين عَنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن مَنْهَا من قَالَ لا إله إلا الله» . أ. هـ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم.
" فَصْلٌ "
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أصل الأَعْمَال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله، وتزحم هَذِهِ المحبة فَإِنَّهَا تمنع كمال التصديق.
فهى معارضة لأصل الإِيمَان أَوْ مضعفة لَهُ. فَإِنَّ قويت حَتَّى عارضت أصل الحب والتصديق كَانَتْ كفرًا أَوْ شركًا أكبر، وإن لم تعارضه قدحت فِي كماله وأثرت فيه ضعفًا وفتورًا فِي العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب.
فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة كما قَالَ تَعَالَى عَنْ إمام الحنفاء المحبين أنه قَالَ لقومه {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلم تصلح لخليل الله هَذِهِ الموالاة والخلة إلا بتحقيق هَذِهِ المعاداة فإن(2/264)
ولاية الله لا تصلح إلا بالبراءة من كُلّ معبود سواه.
قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) .
وقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَهُمْ يَرْجِعُونَ} أَي جعل هَذِهِ الموالاة لله والبراءة من كُلّ معبود سواه كلمة باقية فِي عقبه يتوارثها الأَنْبِيَاء وأتباعهم بَعْضهمْ عَنْ بَعْض. وهي كلمة لا إله إلا الله،وهي التِي وَرَّثَهَا إمام الحنفاء لأتباعه إِلَى يوم القيامة.
وهي الكلمة التِي قامت بها الأَرْض والسموات وفطر الله عَلَيْهَا جميع المخلوقات، وعَلَيْهَا أسست الملة ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد.
وهي محض حق الله على جميع العباد.
وهي الكلمة العاصمة للدم والْمَال والذرية فِي هَذِهِ الدار المنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشود الذى لا يدخل أحد الْجَنَّة إلا به والحبل الذي لا يصل إِلَى الله من لم يتعلق بسببه.
وهي كلمة الإِسْلام ومفتاح دار السَّلام، وبها انقسم النَّاس إِلَى شقي وسعيد ومقبول وطريد.
وبها انفصلت دار الكفر من دار السَّلام وتميزت دار النَّعِيم من دار الشقاء والهوان.
وهي العمود الحامل للفرض والسُنَّة ومن كَانَ آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة» .
وروح هَذِهِ الكلمة وسرها إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتَعَالَى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعَظِيم والخوف والرجَاءَ وتوابع ذَلِكَ، من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة.
فلا يحب سواه، بل كُلّ ما كَانَ يحب غيره فإنما هُوَ تبعًا لمحبته وكونه وسيلة إِلَى(2/265)
زيادة محبته ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عَلَيْهِ، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه.
ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتأب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان فِي الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا لَهُ، ولا يذبح إلا لَهُ وباسمه. يجتمَعَ ذَلِكَ فِي حرف واحد هُوَ أن: لا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا هُوَ.
فهَذَا هُوَ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهَذَا حرم الله عَلَى النَّارِ أن تأكل من شهد أن لا إله إلا الله حَقِيقَة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحَقِيقَة هَذِهِ الشهادة وقام بها كما قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فيكون قائمًا بشهادته فِي باطنه وظاهره وَفِي قَلْبهُ وقالبه.
فإن من النَّاس من تَكُون شهادته ميتة.
وَمِنْهُمْ من تَكُون نائِمَّة إِذَا نبهت انتبهت، وَمِنْهُمْ من تَكُون مضطجعة، وَمِنْهُمْ من تَكُون إِلَى القيام أقرب. وهي فِي الْقَلْب بمنزلة الروح فِي البدن. فروح ميتة وروح مريضة إِلَى الموت أقرب.
وروح إِلَى الحياة أقرب، وروح صحيحة قَائِمَة بمصالح البدن. وفي الْحَدِيث الصحيح عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عَنْدَ الموت إلا وجدت روحه لها روحًا» .
فحياة هَذِهِ الروح بهذه الكلمة فكما أن حياة البدن بوجود الروح فيه وكما إن من مَاتَ على هَذِهِ الكلمة فهو فِي الْجَنَّة يتقلب فيها.
فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب فِي جنة المأوى وعيشها أطيب عيش، قَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .(2/266)
فالْجَنَّة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأُنْس بِاللهِ والشوق إِلَى لقائه والفرح به والرضى عَنْهُ وبه مأوى روحه فِي هَذِهِ الدار.
فمن كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّة مأواه ها هنا كَانَتْ جنة الخلد مأواه يوم الميعاد، ومن حرم هَذِهِ الْجَنَّة فهو لتلك الْجَنَّة أشد حرمانًا.
والأَبْرَار فِي نعيم وإن اشتد بِهُمْ العيش وضاقت بِهُمْ الدُّنْيَا، والفجار فِي جحيم وإن اتسعت عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} .
وطيب الحياة جنة الحياة، قَالَ تَعَالَى {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ، فأي نعيم أطيب من شرح الصدر، وأي عذاب أشد من ضيق الصدر.
وقَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
فالمُؤْمِن المخلص لله من أطيب النَّاس عيشًا وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدرًا وأسرهم قلبًا، وهذه جَنَّة عاجلة قبل الْجَنَّة الآجلة؟ قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مررتم برياض الْجَنَّة فارتعوا» . قَالُوا: وما رياض الْجَنَّة؟ قَالَ: «حلق الذكر» .
ومن هَذَا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الْجَنَّة» . ومن هَذَا قوله وقَدْ سألوه عَنْ وصاله فِي الصوم وقَالَ: «إني لست كهيئتكم إني أظِلّ عَنْدَ ربى يطعمني ويسقينى» .
فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ما يحصل لَهُ من الغذاء عَنْدَ ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي، وأن ما يحصل لَهُ من ذَلِكَ أمر مختص به لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عَنْ الطعام والشراب فله عوض عَنْهُ يقوم مقامه وينوب منابه ويغني عَنْهُ كما قِيْل:(2/267)
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّاد
لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِئُ بِهِ ... وَمِنْ حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي
إِذَا اشْتَكَتْ مَنْ كِلالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا ... رُوحُ اللقَاءِ فتحي عَنْدَ ميعَادِ
وكُلَّما كَانَ وجود الشئ أنفع للعبد وَهُوَ إليه أحوج كَانَ تألمه بفقده أشد، وكُلَّما كَانَ عدمه أنفع كَانَ تألمه بوجوده أشد، ولا شَيْء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه، وإيثاره لمرضاته. بل لا حياة ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذَلِكَ.
فعدمه ألم شَيْء لَهُ وأشد عذابًا عليه، وإنما تغيب الروح عَنْ شهود هَذَا الألم والْعَذَاب لا اشتغالها بغيره واستغراقها فِي ذَلِكَ الغير فتغيب به عَنْ شهود ما هِيَ فيه من ألم العقوبة بفراق أحب شَيْء إليها وأنفعه لها.
وهذا بمنزلة السكران المستغرق فِي سكره الذى احترقت داره وأمواله وأهله وأولاده وَهُوَ لاستغراقه فِي السكر لا يشعر بألم ذَلِكَ الفوات وحسرته.
حتى إِذَا صحا وكشف عَنْهُ غطاء السكر وانتبه من رقدة الخمر فهو اعْلَمْ بحاله حيئنذٍ، وهكَذَا الحال سواء عَنْدَ كشف الغطاء ومعاينة طلائع الآخِرَة والإشراف على مفارقة الدُّنْيَا والانتقَال مَنْهَا إِلَى الله.
بل الألم والحَسْرَة والْعَذَاب هناك أشد بأضعاف أضعاف ذَلِكَ، فَإِنَّ المصاب فِي الدُّنْيَا يرجو جبر مصيبته فِي الدُّنْيَا بالعوض ويعلم أنه قَدْ أصيب بشَيْء زائل لا بقاء له، فَكَيْفَ بمن مصيبته بما لا عوض عَنْهُ ولا بدل منه ولا نسبة بينه وبين الدُّنْيَا جميعها.
فلو قضى الله سُبْحَانَهُ بالموت من هَذِهِ الحَسْرَة والألم لكَانَ الْعَبْد جديرًا به، وأن الموت ليعد أكبر أمنيته وأكبر حسراته هذا لو كان الألم على مجرد الفوات.(2/268)
كيف وهناك من الْعَذَاب على الروح والبدن أمور أخرى مِمَّا لا يقدر قدره؟
فتبارك من حمل هَذَا الخلق الضعيف هذين الأليمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي. فاعرض على نفسك الآن أعظم محبوب لَكَ فِي الدُّنْيَا، بحيث لا تطيب لَكَ الحياة إلا معه فأصبحت وقَدْ أخذ منك وحيل بينك وبينه أحوج ما كنت اليه، كيف يكون حالك هَذَا ومنه كُلّ عوض؟ فَكَيْفَ بمن لا عوض عَنْهُ؟ كما قِيْل:
وَمَا ضَرَّنِي إِتْلافُ عُمْرِي كُلِّهِ ... إِذَا لِمَرَاضِي اللهِ أَصْبَحْتُ حَائِزَا
وَفِي الأثر الإلهي: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبَنِي تجدني فَإِنَّ وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شَيْء، وأنَا أحب إليك من كُلّ شَيْء» . انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.
شِعْرًا: ... كُلٌّ لَهُ مَطْلَبٌ يَسْعَى لِيُدْرِكَهُ ... مُسْتَحْسِنًا لِلَّذِي يرضَى وَيَهْوَاه
وَذُو الدِّيَانَةِ يَسْعَى دَائِمًا أَبَدًا ... فِيمَا يَرَى أَنَّهُ يَرْضَى بِهِ الله
اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا. اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بإسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين
قَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رَحِمَهُ اللهُ:
رَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا وَالتَّوَدُّدِ ... إِلى كُلّ ذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ مُوَحِّدِ
وَمِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَا ... صَلاةً وَتَسْلِيمًا عَلَى خَيْرِ مُرْشِدِ
وَآلٍ وَصَحْبٍ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمُ ... بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ أَهْلَ التَّوَدُّدِ
وَبَعْدُ فَقَدْ طَمَّ الْبَلاءُ وَعَمَّنَا ... مِن الْجَهْلِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي
بِمَا لَيْسَ نَشْكُو كَشْفَهُ وَانْتِقَادَنَا ... لِغَيْرِ الإِلهِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ
وَلَمْ يَبْقَ إِلا النَّزْرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ... يُعَادِيهُمُ مِنْ أَهْلِهَا كُلُّ مُعْتَدِ
فَهُبُّوا عِبَادَ اللهِ مِنْ نَوْمَةِ الرَّدَى ... إِلى الْفِقْهِ فِي أَصْلِ الْهُدَى وَالتَّجَرُّدِ(2/269)
.. وَقَدْ عَنَّ أَنْ نُهْدِي إِلَى كُلِّ صَاحِبٍ ... نَضِيدًا مِن الأَصْلِ الأَصِيلِ الْمُؤَطَّدِ
فَدُونَكَ مَا نُهْدِي فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ ... لِذَلِكَ أَمْ قَدْ غِينَ قَلْبُكَ بِالدَّدِ
تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا ... كَأَنْ لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى قَبْرِ مَلْحَدِ
فَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَنْجُو مِن النَّارِ سَالِمًا ... وَتَحْظَى بِجَنَّاتٍ وَخُلْدٍ مُؤَبَّدِ
وَرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَأَرْفَهِ حِبْرَةٍ ... وَحُورٍ حِسَانٍ كَالْيَوَاقِيتِ خُرَّدِ
فَحَقِّقْ لِتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ مُخْلِصًا ... بِأَنْوَاعِهَا للهِ قَصْدًا وَجَرِّدِ
وَأَفْرِدْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَا ... وَبِالْحُبِّ وَالرُّغْبَى إِلَيْهِ وَجَرِّدِ
وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ الذَّي أَنْتَ نَاسِكٌ ... وَلا تَسْتَغِثْ إِلا بِرَبِّكَ تَهْتَدِ
وَلا تَسْتَعِنْ إِلا بِهِ وَبِحَوْلِهِ ... لَهُ خَاشِيًا بَلْ خَاشِعًا فِي التَّعَبُّدِ
وَلا تَسْتَعِذْ إِلا بِهِ لا بِغَيْرِهِ ... وَكُنْ لائِذًا بِاللهِ فِي كُلِّ مَقْصَدِ
إِلَيْهِ مُنِيبًا تَائِبًا مُتَوَكِّلاً ... عَلَيْهِ وَثِقْ بِاللهِ ذِي الْعَرْشِ تَرْشُدِ
وَلا تَدْعُ إِلا اللهَ لا شَيْءَ غَيْرَهُ ... فَدَاعٍ لِغَيْرِ اللهِ غَاوٍ وَمُعْتَدِ
وَفِي صَرْفِهَا أَوْ بَعْضِهَا الشِّرْكُ قَدْ أَتَى ... فَجَانِبْهُ وَاحْذَرْ أَنْ تَجِيءَ بُمؤِيدِ
وَهَذَا الذِّي فِيهِ الْخُصُومَة قَدْ جَرَتْ ... عَلَى عَهْدٍ نُوحٍ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَوَحِّدْهُ فِي أَفْعَالِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ... مُقِرًّا بِأَنَّ اللهَ أَكْمَلُ سَيِّدِ
هُوَ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ مُدَّبِرٌ ... هُوَ الْمَالِكُ الرَّزَاقُ فَاسْأَلْهُ وَاجْتَدِ
إِلى غَيْرِ ذَا مِنْ كُلِّ أَفْعَالِهِ الَّتِِي ... أَقَرَّ وَلَمْ يَجْحَدْ بِهَا كُلُّ مُلْحِدِ
وَوَحِّدْهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ... وَلا تَتَأَوَلْهَا كَرَأْي الْمُفَنَّدِ
فلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ ... سَمِيٌّ وَقُلْ لا كُفْوَ للهِ تَهْتَدِي
وَذَا كُلُّهُ مَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّهُ ... إِلهَ الْوَرَى حَقًّا بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
فَحَقِّقْ لَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى فَإِنَّهَا ... لَنِعْمَ الرَّجَا يَوْمَ اللقَا لِلْمُوَحِّدِ
وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى فَكُنْ مُتَمَسِّكًا ... بِهَا مُسْتَقِيمًا فِي الطَرِيقِ الْمُحَمَّدِي
فَكُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ وَلِوَاحِدٍ ... تَعَالَى وَلا تُشْرِكْ بِهِ أَوْ تُنَدِّدِ(2/270)
.. وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِكُلِّ شُرُوطِهَا ... كَمَا قَالَهُ لأَعْلامُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ
فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ... وَلَكِنْ عَلَى أَرَاءِ كُلِّ ملدّدِ
فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ... مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ
فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ... مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ
فَلَوْ كَانَ ذَا عِلْمٍ كَثِيرٍ وَجَاهِلٌ ... بِمَدْلُولِهَا يَوْمًا فَبِالْجَهْلِ مُرْتَدِ
وَمِنْ شَرْطِهَا وَهُوَ الْقُبُولُ وَضِدُّهُ ... هُوَ الرَّدُ فَافْهَمْ ذَلِكَ الْقَيْدَ تَرْشُدِ
كَحَالِ قُرَيْشٍ حِينَ لَمْ يَقْبَلُوا الْهُدَى ... وَرَدُّوهُ لِمَا أَنْ عَتَوْا فِي التَّمَرُّدِ
وَقَدْ عَلِمُوا مِنْهَا الْمُرَادَ وَأَنَّهَا ... تَدَلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالتَّفَرُّدِ
فَقَالُوا كَمَا قَدْ قَالَهُ اللهُ عَنْهُمْ ... بِسُورَةِ (ص) فَاعْلَمَنْ ذَاكَ تَهْتَدِ
فَصَارَتْ بِهِ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاءُهُمْ ... حَلالاً وَأَغْنَامًا لِكُلِّ مُوَحِّدِ
وَثَالِثُهَا الإِخْلاصُ فَاعْلَمْ وَضِدُّهُ ... هُوَ الشِّرْكُ بِالْمَعْبُودِ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ
كَمَا أَمَرَ اللهَ الْكَرِيمُ نَبِيَّهُ ... بِسُورَةِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ الْمُمَجَّدِ
وَرَابِعُهَا شَرْطُ الْمَحَبَّةِ فَلْتَكُنْ ... مُحِبًّا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدِ
وَإِخْلاصُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كُلِّهَا ... كَذَا النَّفْيُ لِلشِّرْكِ الْمُفَنَّدِ وَالدَّدِ
وَمَنْ كَانَ ذَا حُبٍّ لِمَوْلاهُ إِنَّمَا ... يَتِمُّ بِحُبِّ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدِ
فَعَادِ الذِّي عَادَى لِدِينِ مُحَمَّدٍ ... وَوَالِ الَّذِي وَالاهُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ
وَأَحْبِبْ رَسُولَ اللهِ أَكْمَلَ مَنْ دَعَى ... إِلى اللهِ وَالتَّقْوَى وَأَكْمَلَ مُرْشِدِ
أَحَبَّ مِن الأَوْلادِ وَالنَّفْسِ بَلْ وَمِنْ ... جَمِيع ِالْوَرَى وَالْمَالِ مِنْ كُلِّ أَتْلَدِ
وَطَارِفِهِ وَالْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا ... بِآبَائِنَا وَالأُمَّهَاتِ فَنَفْتَدِ
وَأَحْبِبْ لِحُبِّ اللهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ... وَأَبْغِضْ لِبُغْضِ اللهِ أَهْلَ التَّمَرُّدِ
وَمَا الدِّينُ إلا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلا ... كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ
وَخَامِسُهَا فَالإِنْقِيَادُ وَضِدُّهُ ... هُوَ التَّرْكُ لِلْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلُ مُفْسِدِ
فَتَنْقَادُ حَقُّا بِالْحُقُوقِ جَمِيعَهَا ... وَتَعْمَلُ بِالْمَفْرُوضِ حَتْمًا وَتَقْتَدِ(2/271)
.. وَتَتْرُكَ مَا قَدْ حَرَّمَ اللهُ طَائِعًا ... وَمُسْتَسْلِمًا للهِ بالْقَلْبِ تَرْشُدِ
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ للهِ بِالْقَلْبِ مُسْلِمًا ... وَلَمْ يَكُ طَوْعًا بالْجَوَارِحِ يَنْقَدِ
فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ... وَإِنْ خَالَ رُشْدًا مَا أَتَى مِنْ تَعَبُّدِ
وَسَادِسُهَا وَهُوَ الْيَقِينُ وَضِدُّهُ ... وَهُوَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي
وَمَنْ شَكَّ فَلْيَبْكِي عَلَى رَفْضِ دِينِهِ ... وَيَعْلَمْ أَنْ قَدْ جَاءَ يَوْمًا بِمُؤْيِدِ
وَيَعْلَمْ أَنَّ الشَّكَ يَنْفِي يَقِينَهَا ... فَلا بُدَّ فِيهَا بِالْيَقِينِ الْمُؤَكَّدِ
بِهَا قَلْبُهُ مُسْتَيْقِنًا جَاءَ ذِكْرُهُ ... عَنِ السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَكْمَلَ مُرْشِدِ
وَلا تَنْفَعُ الْمَرْءَ الشَّهَادَةُ فَاعْلَمَنْ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَيِقنًا ذَا تَجَرُّدِ
وَسَابِعُهَا الصِّدْقُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ... مِن الْكَذِبِ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ مُفْسِدِ
وَعَارِفُ مَعْنَاهَا إِذَا كَانَ قَابِلاً ... لَهَا عَامِلاً بِالْمُقْتَضَى فَهُوَ مُهْتَدِ
وَطَابَقَ فِيهَا قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ ... وَعَنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ لَمْ يَتَبَلَّدِ
وَمَنْ لَمْ يَقُمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَمِيعُهَا ... بَقَائِلِهَا يَوْمًا فلَيْسَ عَلَى الْهُدِي
إِذَا صَحَّ هَذَا وَاسْتَقَرَّ فَإِنَّمَا ... حَقِيقَتُهُ الإِسْلامُ فَاعْلَمْهُ تَرْشُدِ
وَإِنْ لَهُ - فَاحْذَرْ هُدِيتَ - نَوَاقِضًا ... فَمَنْ جَاءَ مِنْهَا نَاقِضًا فَلْيُجَدِّدِ
فَقَدْ نَقَضَ الإِسْلامَ وَارْتَدَّ وَاعْتَدَى ... وَزَاغَ عَنْ السَّمْحَاءِ فَلْيَتَشَهَّدِ
فَمِنْ ذَاكَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ نَاقِضٌ ... وَذَبْحٌ لِغَيْرِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ
كَمَنْ كَانَ يَغْدُو لِلْقِبَابِ بِذَبْحِهِ ... وَلِلْجِنِّ فِعْلَ الْمُشْرِكِ الْمُتَمَرِّدِ
وَجَاعِلِ بَيْنَ اللهِ - بَغْيًا – وَبَيْنَهُ ... وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ فلَيْسَ بِمُهْتَدِ
وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ بِالْخُضُوعِ شَفَاعَةً ... إِلَى اللهِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ وَيَجْتَدِ
وَثَالِثُهَا مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِكَافِرِ ... وَمَنْ كَانَ فِي تَكْفِيرِهِ ذَا تَرَدُّدِ
وَصَحَّحَ عَمْدًا مَذْهَبَ الْكُفْرِ وَالرَّدَى ... وَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ مَن هُدِي
وَرَابِعُهَا فَالإعْتِقَادُ بِأَنَّمَا ... سِوَى الْمُصْطَفَى الْهَادِي وَأَكْمَلِ مُرْشِدِ
لأَحْسَنُ حُكْمًا فِي الأُمُوِر جَمِيعِهَا ... وَأَكْمَلُ مِنْ هَدْي النَّبِيّ مُحَمَّدِ(2/272)
.. كَحَالَةِ كَعْبٍ وَابنِ أَخْطَبَ وَالَّذِي ... عَلَى هَدْيِهِم مِنُ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ
وَخَامِسُهَا يَا صَاحِ مَنْ كَانَ مُبْغِضًا ... لِشَيْءٍ أَتَى مِن هَدْي أَكْمَلِ سَيِّدِ
فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًا وَإِنْ كَانَ عَامِلاً ... بِمَا هُوَ ذَا بُغْضٍ لَهُ فَلْيُجَدِّدِ
وَذَلِكَ بِالإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مُهْتَدٍ ... وَقَدْ جَاءَ نَصُّ ذِكْرُهُ فِي (مُحَمَّدِ)
وَسَادِسُهَا مَنْ كَانَ بِالدِّينِ هَازِئًا ... وَلَوْ بِعِقَابِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ
وَحُسْنُ ثَوَابِ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلْتَكُنْ ... عَلَى حَذِرٍ مِنْ ذَلِكَ القِيْلِ تَرْشُدِ
وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ فِي (بَرَاءةَ) ذِكْرُهُ ... فَرَاجِعْهُ فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِ التَّهَدُّدِ
وَسَابِعُهَا مَنْ كَانَ لِلسِّحْرِ فَاعِلاً ... كَذَلِكَ رَاضٍ فِعْلَهُ لَمْ يُفَنِّدِ
وَفِي سُورَةِ (الزَّهْرَاءِ) نَصٌّ مُصَرِّحٌ ... بِتَكْفِيرِهِ فَاطْلُبْه مِنْ ذَاكَ تَهْتَدِ
وَمِنْهُ لَعَمْرِي الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ فَاعْلَمَنْ ... أَخِي حُكْمَ هَذَا الْمُعْتَدِي الْمُتَمَرِّدِ
وَثَامِنُهَا وَهِيَ الْمُظَاهَرَةُ الَّتِي ... يُعَانُ بِهَا الْكُفَّارُ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ
عَلَى الْمُسْلِمِينِ الطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ ... عِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ كُلِّ مُفْسِدِ
وَمَنْ يَتَوَلَّى كَافِرًا فَهُوَ مِثْلُهُ ... وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ بِهِ أَوْ تَرَدُّدِ
كَمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ جَلَّ جَلالُهُ ... وَجَاءَ عَنْ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَتَاسِعُهَا وَهُوَ اعْتِقَادُ مُضَلِّلٌ ... وَصَاحِبُهُ لا شَكَّ بِالْكُفْرِ مُرْتَدِ
كَمُعْتَقِدِ أَنْ لَيْسَ حَقًّا وَوَاجِبًا ... عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُصْطَفَى خَيْرِ مُرْشِدِ
فَمَنْ يَعْتَقِدْ هَذَا الضَّلالَ وَأَنَّهُ ... يَسَعْهُ خُرُوجٌ عَنْ شَرِيعَةِ أَحْمَدِ
كَمَا كَانَ هَذَا فِي شَرِيعَةِ مَنْ خَلا ... كَصَاحِبِ مُوَسَى حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدِ
هُوَ الْخَضِرُ المَقْصُوصُ في (الْكَهْفِ) ذِكْرُهُ ... وَمُوَسَى كَلِيمِ اللهِ فَافْهَمْ لِمَقْصَدِ
وَهَذَا اعْتِقَادُ لِلْمَلاحِدَةِ الأَولَى ... مَشَايِخِ أَهْلِ الاتِّحَادِ الْمُفَنَّدِ
كَنَحْوِ ابنِ سِينَا وَابنِ سَبْعِينَ وَالَّذِي ... يُسَمَّى ابنَ رُشْدٍ وَالْحَفِيدِ الْمُلَدَّدِ
وَشَيْخٌ كَبِيرٍ فِي الضَّلالَةِ صَاحِبُ الْـ ... ـفُصُوصِ وَمَنْ ضَاهَاهُمُ فِي التَّمَرُّدِ
وَعَاشِرُهَا الإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ رَبِّنَا ... فَلا يَتَعَلَّمْهُ فَلَيْسَ بِمُهْتَدِ(2/273)
.. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ عَامِلاً ... بِهِ فَهُوَ فِي كُفْرَانِهِ ذُو تَعَمُّدِ
وَلا فَرْقَ فِي هَذِي النَّوَاقِضِ كُلِّهَا ... إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُو وَلِلْحَقِّ تَهْتَدِ
هُنَالِكَ بَيْنَ الْهَزْلِ وَالْجَدِّ فَاعْلَمَنْ ... وَلا رَاهِبِ مِنْهُمْ لِخَوْفِ التَّهَدُّدِ
سِوَى الْمُكْرَهِ الْمَضْهُودِ إِنْ كَانَ قَدْ أَتَى ... هُنَالِكَ بِالشَّرْطِ الأَصِيدِ الْمُؤَكَّدِ
وَحَاذِرْ هَدَاكَ اللهُ مِنْ كُلِّ نَاقِضٍ ... سِوَاهَا وَجَانِبْهَا جَمِيعًا لِتَهْتَدِ
وَكُنْ بَاذِلاً لِلْجَدِّ وَالْجُهْدِ طَالِبًا ... وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ أَيَّ مُوَحِّدِ
وَإِيَّاهُ فَارْغَبْ فِي الْهِدَايَةِ لِلْهُدَى ... لَعَلَّكَ إِنْ تَنْجُو مِن النَّارِ فِي غَدِ
وَصَلِ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ ... وَمَا وَخَدَتْ قُودٌ بِمَوْرٍ مُعَبَّدِ
تَؤُمُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمَا سَرَى ... نَسِيمُ الصَّبَا أَوْ شَاقَ صَوْتُ الْمُغَرِّدِ
وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ ... وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ
عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ... وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ
وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ ... وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ
عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ... وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ
وَآلِ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا ... صَلاةً دَوَامًا فِي الرَّوَاحِ وَفِي الْغَدِ
اللَّهُمَّ أحي قلوبًا آماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" نبذة من زهده - صلى الله عليه وسلم - "
كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد النَّاس، ويكفيك فِي تعريف ذَلِكَ أن فقره - صلى الله عليه وسلم - كَانَ كَانَ فقر اختياري لا فقر اضطراري. لأنه - صلى الله عليه وسلم - فتحت عَلَيْهِ الفتوح وجلبت إليه الأموال، ومَاتَ(2/274)
ودرعه مرهونة عَنْدَ يهودى فِي نفقة عياله، وَهُوَ يدعو: اللَّهُمَّ اجعل رزق آل مُحَمَّد قوتًا. وقَالَتْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعًا من خَبْزٍ حَتَّى مضى لسبيله، ولو شَاءَ لأعطاه الله ما لا يخطر ببال. وعَنْهَا قَالَتْ: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا ولا شاة ولا درهمًا ولا بعيرًا ولَقَدْ مَاتَ وما فِي بيتي شَيْء يأكله ذو كبد الا شطرشعير في رف لي. وقَالَ لي: «إني عرض عليَّ ربِّي أن يجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فَقُلْتُ: لا يارب أجوع يَوْمًا وأشبع يَوْمًا، فأما الْيَوْم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وادعوك، وأمَّا الْيَوْم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ. وعَنْهَا قَالَتْ: إن كنا آل مُحَمَّدٍ لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إلا التمر والماء.
وعَنْهَا قَالَتْ: لم يمتل جوف النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - شبعًا قط، ولم يبث إِلَى أحد شكوى.
وكَانَتْ الفاقة أحب إليه من الغنى،وإن كَانَ ليظِلّ جائعًا يلتوي طول ليلته من الجوع، فلا يمنعه من صيام يوم ولو شَاءَ لسأل ربه جميع كنوز الأَرْض وثمارها ورغد عيشها ولَقَدْ كنت أبكي لَهُ رحمة مِمَّا أرى به وامسح بيدي على بطنه مِمَّا به من الجوع،
وأَقُول نفسي لَكَ الفداء، لو تبلغت من الدُّنْيَا بما يقوتك. فَيَقُولُ: «يَا عَائِشَة ما لي وللدنيا، إخواني أولو العزم من الرسل صبروا على ما هُوَ أشد من هَذَا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم وأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم.
وأجدني أستحي إن ترفهت فِي معيشتي إن يقصرني غدًا دونهم وما من شَيْء أحب إِلَى من اللحوق بإخواني وإخلائي» . قَالَتْ: فما قام بعد إلا شهرًا ثُمَّ توفي - صلى الله عليه وسلم -.
وعن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء. ولا اتخذ من شَيْء زوجين لا قميصين ولا ردائين ولا إزارين ومن النعال، ولا رئي قط فارغًا فِي بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أَوْ يخيط ثوبًا لأرملة.(2/275)
وعن أَنَس بن مالك أن فاطمة عَلَيْهَا السَّلام جاءت بكسرة خبز إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقَالَ: «ما هَذِهِ الكسرة يَا فاطمة "؟ قَالَتْ: قرص خبزته فلم تطب نفسي حَتَّى أتيك بهذه الكسرة، فقَالَ: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك مُنْذُ ثلاثة أيام.
وروى مُسْلِم عَنْ النعمان قال: ذكر عمر ما أصاب النَّاس من الدُّنْيَا، فقَالَ: لَقَدْ رَأَيْت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظِلّ يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إن كَانَ ليمر بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأهلة ما يسرج فِي بيت أحد مِنْهُمْ سراج ولا يوقَدْ فيه نار إن وجدوا زيتًا ادهنوا به وإن وجدوًا ودكًا أكلوه. رَوَاهُ أبو يعلى ورواته ثقاة.
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود قَالَ: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير فقام وقَدْ أثر فِي جنبه، قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ لو اتخذنا لَكَ وطاء. فقَالَ: «ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظِلّ تحت شجرة ثُمَّ راح وتركها» . رَوَاهُ ابن ماجة والترمذي وحسنه.
قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ على حصير فجلست فإذا عَلَيْهِ إزاره ولَيْسَ عَلَيْهِ غيره وَإِذَا الحصير قَدْ أثر فِي جنبه. وإذا أَنَا بقبضة من شعير نَحْوَ الصاع وقرظ فِي ناحية الغرفة، وَإِذَا أهاب معلق (الاهاب: الجلد) فابتدرت عيناي.
فقَالَ: «ما يبكيك يَا ابن الخطاب "؟ فَقُلْتُ: يَا نبى الله وما لي لا أبكي وَهَذَا الحصير قَدْ أثر فِي جنبك وهذه خزانتك لا أرى إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر فِي الثمار والأنهار وأَنْتَ نبي الله وصفوته وهذه خزانتك.
قَالَ: «يا ابن الخطاب أما ترضى أن تَكُون لَنَا الآخِرَة ولهم الدُّنْيَا» . رَوَاهُ ابن ماجة بإسناد صحيح والحاكم وقَالَ: على شرط مُسْلِم.
روى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فِي رفي من شَيْء يأكله إلا شطر شعير فِي رف لي فأكلت منه حَتَّى طال عليَّ فكلته ففنى.(2/276)
عَنْ ابن عباس أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكَانَ عامة خبزهم الشعير.
عن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يشد صلبه بالحجر من الغرث أي الجوع.
بينما عَائِشَة رضي الله عَنْهَا تحدث ذات يوم إذ بكت قِيْل لها: ما يبكيك يَا أم الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كَانَ فيه من الجهد.
وعَنْهَا أيضًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ تأتى عَلَيْهِ أربعة أشهر ما يشبع من خبز بر.
وعَنْهَا أيضًا: قَالَتْ ما شبع آل مُحَمَّد ثلاثًا من خبز بر حَتَّى قبض وما رفع عَنْ مائدته كسرة فضلاً حَتَّى قبض.
عن الحسن (البصرى) قَالَ: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «والله ما أمسى فِي آل مُحَمَّد صاع من طعام» . وأنها لتسعة أبيات (بيوت زوجاته) وَاللهِ ما قالها استقلالاً لرزق الله ولكن أراد أن تتأسى به أمته.(2/277)
عن ابن عباس قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ كَانَ يأتي على آل مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - الليالي ما يجدون فيها عشاء.
عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي يوم مرتين حَتَّى لحق بِاللهِ، ولا رفعنا لَهُ فضل طعام عَنْ شبع حَتَّى لحق بِاللهِ إلا أن نرفعه لغائب فقِيْل لها: ما كَانَتْ معيشتكم؟ قَالَتْ: الأسودان: الماء والتمر. وقَالَتْ: وكَانَ لَنَا جيران من الأنصار لَهُمْ ربائب يسقوننا من لبنها، جزاهم الله خيرًا.
عن أَنَس بن مالك أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع لَهُ غذاء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف.
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وأعنا على أنفسنا والشيطان وآيسه منا كما آيسته من رحمتك يَا رحمان وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
عن أَنَس بن مالك قَالَ: شهدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليمة ما فيها خبز ولا لحم.
وعن أَنَس بن مالك قَالَ: ما أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رغيفًا مرفقًا بعينه حَتَّى لحق بربه ولا شاة سميطًا قط.
عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: ما اجتمَعَ فِي بطن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - طعامان فِي يوم قط، إن أكل لحمًا لم يزد عليه، وإن كان تمرًا لم يزد عَلَيْهِ، وإن أكل خبزًا لم يزد عَلَيْهِ. وكَانَ رجلاً مسقامًا، وكَانَتْ الْعَرَب تنعت لَهُ فيتداوى بما تنعت لَهُ الْعَرَب وكَانَتْ العجم تنعت لَهُ فيتداوى.
عن أبي نضر قَالَ: سمعت عَائِشَة رضي الله عَنْهَا تَقُول: إني لجالسة مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي البيت. فأهدى لَنَا أَبُو بَكْرٍ رجل شاة فإني لا قطعها مَعَ(2/278)
رسول الله فى ظلمة البيت. فقَالَ لها قائل: أما كَانَ لكم سراج؟ فقَالَتْ: لو كَانَ لَنَا ما يسرج به أكلناه.
عَنْ عروة عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبز وزيت فِي يوم مرتين.
عن عَائِشَة قَالَتْ: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حَتَّى يلتمس لِذَلِكَ دواء يمرئه. فذكرت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فذاك الذي أبكاني، خَرَجَ من الدُّنْيَا ولم يملأ بطنه فِي يوم طعامين: كَانَ إِذَا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وَإِذَا شبع من الخبز لم يشبع من التمر.
عن أَنَس بن مالك قَالَ: ما يرفع بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْء قط ولا حملت معه طنفسة يجلس عَلَيْهَا.
أخبرني الأعرج عَنْ أبي هريرة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يجوع. قُلْتُ: لأبي هريرة وكيف ذَلِكَ الجوع؟ قَالَ: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لِذَلِكَ، فلا يأكل طعامًا أبدًا إلا ومعه أصحابه، وأَهْل الحاجة يتبعونه من المسجد. فَلَمَّا فتح الله خيبر اتسع النَّاس بَعْض الاتساع، وفي الأَمْر بعد ضيق والمعاش شديد. هِيَ بلاد ظلف لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر، وعلى ذَلِكَ أقاموا.
ورُوي عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حضرنا عرس علي وفاطمة فما كَانَ عرسًا كَانَ أحسن منه حشونا الفراش يعني من الليف
وأوتينا بتمر وزيت فأكلنا وكَانَ فراشها ليلة عرسها إهاب كبش. رَوَاهُ الْبَزَار (الاهاب: الجلد) .
عن عامر الشعبي قَالَ: قَالَ علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَقَدْ تزوجت فاطمة وما لها ولي فراش غير جلد كبش ننام عَلَيْهِ بالليل ونعلف عَلَيْهِ الناضح بالنَّهَارَ وما لي ولها خادم غيرها.(2/279)
وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين.
فقَالَ علي لفاطمة ذات يوم: وَاللهِ سنوت حَتَّى اشتكيت صدري (المعنى تعبت من إخراج الماء من البئر) وقَدْ جَاءَ الله بسبي فاذهبي فاستخدميه (أي اطلبي منه خادمًا)
فقَالَتْ: وأنَا وَاللهِ لَقَدْ طحنت حَتَّى مجلت يدي من الْعَمَل. فأتت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «ما جَاءَ بك وما حاجتك أي بنية» . قَالَتْ: جئت لأسلم عَلَيْكَ واستحيت أن تسأله فرجعت.
فقَالَ علي: ما فعلت؟ قَالَتْ: استحيت أن أسأله، فأتياه جميعًا فقَالَ علي: يَا رَسُولَ اللهِ: وَاللهِ لَقَدْ سنوت حَتَّى اشتكيت صدري. وقَالَتْ فاطمة: لَقَدْ طحنت حَتَّى مجلت يداي، وقَدْ جاءك الله عَزَّ وَجَلَّ بسبي وسعة فاخدمنا.
فقَالَ: «وَاللهِ لا أعطيكما وادع أَهْل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عَلَيْهمْ ولكني أبيعهم وأنفق عَلَيْهمْ.
فرجعا وآتاهما النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَدْ دخلا فِي قطيفتهما إِذَا غطيا رؤسهما تكشفت أقدامهما، وَإِذَا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فقَالَ:: «مكانكما» .
ثُمَّ قَالَ: «ألا أخبركما بخَيْر مِمَّا سألتماني» . قالا: بلى. قَالَ: «كلمَاتَ علمنيهن جبريل تسبحان فِي دبر كُلّ صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا.
وإذا أويتما إِلَى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين وأحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين» . وقَالَ: فو الله ما تركتهن مُنْذُ علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/280)
عن بريدة قَالَ: سمَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أَنَّكَ أَنْتَ الله لا إله إلا أَنْتَ الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لَقَدْ سأل الله باسمه الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أبو داود والترمذي.
وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم.
فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا "؟ قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمُ. قَالَ: «والذي نفسي بيده لَقَدْ دعا الله باسمه الأعظم الذي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن.
عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذ دعى وَهُوَ فِي بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين» .
فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه " لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة الا بِاللهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: (يَا ذا الجلال والإكرام) فقَالَ: «قَدْ استجيب لَكَ فسل» . رَوَاهُ الترمذي.
قَالَ أحد الْعُلَمَاء: (إن الذكر باعتباره وسيلة القرب من الله هُوَ دَائِمًا دعاء)(2/281)
وإن الدُّعَاء وَهُوَ التضرع والخضوع لله تَعَالَى وَهُوَ دَائِمًا ذكر) .
ولَيْسَ بينهما من فرق إلا فِي اللون والشكل.
وقَدْ وردت الآثار بما تَقُول: فقَدْ ورد فِي الأحاديث الشريفة أن الله تَعَالَى يَقُولُ:
" من شغله القران وذكري عَنْ مسألتِي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» .
وقَدْ ورد فِي القران الكريم عَنْ سيدنا يونس أنه حينما التقمه الحوت نجاه تسبيحه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
وفي سورة "نون " يندم أصحاب الْجَنَّة - الحديقة - التِي طاف عَلَيْهَا طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم.. على أنهم لم يكونوا من المسبحين، وخاطبهم أوسطهم قائلاً: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} .
والاستغفار؟ .
أنه ذكر لا يتضمن دعاء لفظيًا ولكن الثمرات المترتبة عَلَيْهِ هائلة نفسية.
يَقُولُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .
إن الاستغفار ثمرته:
(1) المغفرة
(2) والغيث (المطر الذي يروي الأَرْض فينبت الزرع ويروي به النَّاس والأنعام ظمأهم)
(3) وإمداد الله للمستغفر بالأموال.
(4) إمداده بالبنين.
وأكثر من ذَلِكَ....(2/282)
يَقُولُ الله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، من ثماره إِذًا زيادة القوة.
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
ولَقَدْ حدث فِي مصر إن أحد الأثرياء الصالحين لم يجد سبيلاً - فِي فترة من الفترات - لري أرضه، وكاد الزرع يصبح حطامًا، فجلس الرجل وسط مزرعته الفسيحة.. وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتُ.. وقولك الحق: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} وها أَنَا ذا يَا رب استغفرك راجيًا أن تفيض عَلَيْنَا من رحمتك.
ثُمَّ أخذ فِي الاستغفار.. ومضت ساعات وَهُوَ يتابع الاستغفار فِي همة وَفِي ثقة بموعود الله تعالى، وَإِذَا بالسماء تتلبد بالغيوم.. وَإِذَا بالمطر ينزل فياضًا مدرارًا.
ومن المعروف أن الصالحين حينما يصبهم ضعف يلجؤون إِلَى الله باستغفار فيتحقق لَهُمْ وعده: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} .
ولَيْسَتْ هَذِهِ فحسب ثمار الاستغفار.. وَذَلِكَ أنه أيضًا يمنع أن يصيب الْعَذَاب الإِنْسَان.
(6) {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
(7) ثُمَّ.. يَقُولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(2/283)
«من لزم الاستغفار جعل الله لَهُ من كُلّ هم فرجًا، ومن كُلّ ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» .
وثمار الاستغفار أوسع من ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.
وألم يقل الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الدُّعَاء: الحمد لله؟» . والحمد لله، ألَيْسَتْ ذكرًا؟
وإذا كَانَ من الذكر ما هُوَ دعاء، أَوْ إِذَا كَانَ الذكر كله دعاء.. فَإِنَّ الدُّعَاء أيضًا يكون بغير الدُّعَاء اللفظي وبغير الذكر:
فلإكثار من التوبة دعاء وذكر، ويترتب على الإكثار منه ما يَقُولُ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} .
وإذا أحب الله عبدًا من عباده بسبب الإكثار من التوبة فإنه يترتب على هَذَا الحب آثاره.
«فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمَعَ به، وبصره الذي يبصر به، ويده التِي يبطش بها، ورجله التِي يمشئ بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه» .
وإذا كَانَتْ التوبة ذكرًا أَوْ دعاء فإن التقوى دعاء نفيس.
ألا تَرَى ما يَقُولُ الله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ؟
إن الله سُبْحَانَهُ يجعل لَهُ مخرجًا من كُلّ هم وضيق وأزمة بسبب تقواه ويرزقه الله من حيث يدري ولا يدري
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}
ييسر سُبْحَانَهُ أموره كُلّهَا.(2/284)
وَيَقُولُ الله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (انتهى)
قصيدة: فيها تضرع إِلَى رب العزة والجلال والكبرياء والعظمة:
يَا ذَا الْجَلالِ وَيَا ذَا الْجُودِ وَالْكَرَمِ ... قَدْ جِئْتُكَ خَائِفًا مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ
ذَنْبِي عَظِيمٌ وَأَرْجُو مِنْكَ مَغْفِرَةً ... يَا وَاسِعَ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالْكَرَمِ
دَعَوْتُ نَفْسِى إِلَى الْخَيْرَاتِ فَامْتَنَعَتْ ... وَأَعْرَضَتْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ
خَسِرْتُ عُمْرِي وَقَدْ فَرَّطْتُ فِي زَمَنِي ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَوْلاي فَيَا نَدَمِي
حَمَلْتُ ثِقْلاً مِنْ الأَوْزَارِ فِي صِغَرِي ... يَا خَجَلِي فِي غَدٍ مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ
رَاحَ الشَّبَابُ وَوَلَّى الْعُمْرِ فِي لَعِبٍ ... وَمَا تَحَصَّلْتُ مِنْ خَيْرِ وَلَمْ أَقُمِِ
زَمَانَ عَزْمِي قَدْ ضَيَّعْتُهُ كَسَلاً ... وَالْعُمْرُ مِنِّي انْقَضَى فِي غَفْلَةِ الْحُلُمِ
قَدْ انْقَضَتْ عَيْشَتِي بِالذُّلِّ وَاأَسَفِي ... إِنْ لَمْ تَجِدْ خَالِقِي بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ
ذِي حَالَتِي وَانْكِسَارِي لا تُخَيِّبُنِي ... إِذَا وَقَعْتُ ذَلِيلاً حَافِي الْقَدَمِ
أَتَيْتُ بِالذُّلِ وَالتَّقْصِير وَالنَّدمِ ... أَرْجُو الرِّضَا مِنْكَ بِالْغُفْرَانِ وَالْكَرَمِ
سَارَ المجدُّونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَاجْتَهَدُوا ... يَا فَوْزَهُم غَنِمُوا الْجَنَّاتِ وَالنَّعَمِ
شِفَاءُ قَلْبِي ذِكْرُ اللهِ خَالِقِنَا ... يَا فَوْزَ عَبْدٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَسْتَقِمِ
صَفَتْ لأَهْلِ التُّقَى أَوْقَاتُهُم سَعِدُوا ... نَالُوا الْهَنَا وَالْمُنَى بِالْخَيْرِ وَالْكَرَمِ
ضَيَّعْتُ عُمْرِي وَلا قَدَّمْتُ لِي عَمَلاً ... أَنْجُو بِهِ يَوْمَ هَوْلِ الْخَوْفِ وَالزَّحَمِ
طُوبَى لِعَبْدٍ أَطَاعَ اللهَ خَالِقَهُ ... وَقَامَ جَنْحَ الدُّجَى بِالدَّمْعِ مُنْسَجِمِ
ظَهْرِي ثَقِيْلٌ بِذَنْبِي آهِ وَاأَسَفِي ... يَوْمَ اللِّقَاءِ إِذْ الأَقْدَامُ فِي زَحَمِ
أَرْجُوكَ يَا ذَا الْعُلا كَرْبِي تُفَرِّجُهُ ... وَاشْفِ بِفَضْلِكَ لِي لِلْوَايَ مَعَ سَقَمِي
غَفَلْتُ عَنْ ذِكْرِ مَعْبُودِي وَطَاعَتِهِ ... وَقَدْ مَشِيتُ إِلَى الْعِصْيَانِ فِي هِمَمِ
فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَكُنْ يَا رَبِّ مُنْقِذَنَا ... مِن الشَّدَائِدِ وَالأَهْوَالِ وَالتُّهَمِ
قَدْ اثْقَلَتْنِي ذُنُوبِي مَا لَهَا أَحَدٌ ... سِوَاكَ يَا غَافِرَ الزَّلاتِ وَاللِّمَمِ
كُنْ مُنْجِدِي يَا إِلَهِي وَاعْفُ عَنْ زَلَلِي ... وَتُبْ عَلَيَّ مِن الآثَامِ وَاللِّمَمِ(2/285)
.. لاحَ الْمَشِيبُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ ... وَصِرْتُ مِنْ كُثْرَةِ الأَوْزَارِ فِي نَدَمِ
مَضَى زَمَانِي وَمَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلٍ ... يَا خَجْلَتِي مِنْ إِلَهِي بَارِيَ النَّسَمِ
نَامَتْ عُيُونِي وَأَهْلُ الْخَيْرِ قَدْ سَهِرُوا ... أَجْفَانُهُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ لَمْ تَنَمِ
قَامُوا إِلَى ذِكْرِ مَوْلاهُم فَقَرَّبَهُمْ ... وَخَصَّهُمْ بِالرِّضَا وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ
وَلَيْسَ لِي غَيْرَ الْخالقِ مِنْ سَنَدٍ ... أَرْجُوهُ يُولِينِي بِالْغُفْرَانَ وَالْكَرَمِ
لا ارْتَجِي أَحَدًا يَوْمَ الزِّحَامِ سِوَى ... رَبِّ الْبَرِيَّةِ مَوْلى الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى الْمَخْصُوصِ بِالْكَرَمِ
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه، وخّلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا، ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا، واجعل لَنَا عيشًا رغدًا، ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفاء من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عنك، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك، يَا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعف عنا، وأحسن إلينا فإنك بالذي أَنْتَ له أَهْل من عفوك أحق منا بالذي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ أحينا فِي الدُّنْيَا مؤمنين طاعئين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تائبين، اللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرِّجَال(2/286)
وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه إن السَّلام تحية الْمُؤْمِنِينَ، وشعار الموحدين، وداعية للإخاء والألفة والمحبة بين إخوانهم الْمُسْلِمِين، والسَّلام تحية مباركة، وصفة طيبة كما ذكر الله سُبْحَانَهُ فِي كتابه الكريم قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} .
وقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، والسَّلام كما أخبر الله تحية أَهْل الْجَنَّة فِي دار النعيم، قَالَ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} .
وابتداء السَّلام سُنَّة مستحبة، ولَيْسَ بواجب وَهُوَ سُنَّة كفاية فَإِنَّ كَانَ المسلم جماعة كفى عنهم واحد يسلم ولو سلموا كلهم كَانَ أفضل، ورفع الصوت بابتداء السَّلام سُنَّة ليسمعه المسلم عليهم، كلهم سماعًا محققًا لحديث: «افشوا السَّلام بينكم» .
وإن سلم على أيقاظ ونيام أَوْ سلم على من لا يعلم هل هم إيقاظ أَوْ نيام خفض صوته بحيث يسمَعَ الإيقاظ ولا يوقظ النيام، ولو سلم على إنسان ثُمَّ لقيه على قرب سن أن يسلم عَلَيْهِ ثانيًا وثالثًا وأكثر.
ويسن أن يبداء قبل الكلام، لحديث من بدء بالكلام قبل السَّلام فلا تجيبوه. فينبغي لَكَ أيها الأخ أن تنصح كُلّ من ابتدأك بغير السَّلام وتعلمه بالْحَدِيث خُصُوصًا المكلمين لَكَ بالتليفون بقولهم: ألُ ألُ ولا يترك السَّلام إِذَا كَانَ يغلب على ظنه أنه لا يرد عَلَيْهِ.(2/287)
وإن دخل على جماعة فيهم علماء سلم أَوَّلاً على الجميع، ثُمَّ سلم على الْعُلَمَاء سلامًا ثانيًا تمييزًا لمرتبتهم وَكَذَا لو كَانَ فيهم عَالِم واحد، خصه بالسَّلام ثانيًا.
ولا يسلم على امرأة أجنبية غير زوجة لَهُ، أَوْ ذات محرم، إلا أن تَكُون عجوزًا غير حسناء أَوْ تَكُون برزة، والمراد أنها لا تشتهى لأمن الفتنة ويكره السَّلام فِي الحمام ويكره السَّلام على من يأكل وعلى من يقاتل لا اشتغاله.
ويكره السَّلام على من يبحثون فِي العلم، وعلى من يؤذن، وعلى من يقيم، ومحدّث بتشديد الدال وخطيب وواعظ ومستمع.
ويكره السَّلام على مكرر فقه، ومدرس فِي علم مشروع، أو مباح ويكره السَّلام على من يبحثون فِي العلم.
ويكره السَّلام على من يقضى حاجته، ويكره على من يتمتع بأهله وعلى مشتغل بالقضاء، ونحوهم من كُلّ من لَهُ شغل عَنْ رد السَّلام.ويكره أن يخص بَعْض طائفة لقيهم، ألا أن يكون بَعْضهمْ ممن يجب هجره، أَوْ يستحب.
وإن بدأ بالسَّلام جميعًا، وجب على كُلّ منهما الرد، ولا ينزع يده من يد من يصافحه، حَتَّى ينزع يده من يده، إلا لحاجة كحيائه منه ونحوه وقَدْ نظم بَعْضهمْ المواضع التِي يكره فيه السَّلام فقَالَ:
سَلامُكَ مَكْرُوهٌ عَلَى مَنْ سَتَسْمَعُ ... وَمِنْ بَعْدِ مَا أُبْدِي يُسَنُّ وَيُشْرَعُ
مُصَلٍّ وَتَالٍ ذَاكِرٍ وَمُحَدِّثٌ ... خَطِيبٌ وَمَنْ يُصْغِي إِلَيْهِم وَيَسْمَعُ
مكرِّرٌ فِقْهٍ جَالِسٌ لِقَضَائِهِ ... وَمَنْ بَحَثُوا فِي الْفِقْهِ دَعْهُمْ لِيَنْفَعُوا
مُؤَذِّنٌ أَيْضًا مَعَ مُقِيمٍ مُدَرِّسٍ ... كَذَا الأَجْنَبِيَّاتِ الْفَتَيَاتُ أَمْنَعُ
وَلُعَّابُ شِطْرَنْجٍ وَشِبْهٍ بِخَلْقِهِمْ ... وَمَنْ هُوَ مَعَ أَهْلٍ لَهُ يَتَمَتَعُ(2/288)
.. وَدَعْ كَافِرًا أَيْضًا وَكَاشِفَ عَوْرَةٍ ... وَمَنْ هُوَ فِي حَالِ التَّغَوُّطِ أَشْنَعُ
وَدَعْ آكِلاً إِلا إِذَا كُنْتَ جَائِعًا ... وَتَعَلَّمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ
كَذَلِكَ أُسْتَاذٌ مُغَنٍ مُطَيِّرٌ ... فَهَذَا خِتَامٌ وَالزِّيَادَةُ تَنْفَعُ
(وَزِدْتُ عَلَى هَذَا فَقُلْتُ مُتَمِّمًا ... بِمَا هُوَ مِثْلٌ أَوْ أَشَدُّ فَيُتْبَعُ)
(وَمَنْ عِنْدَ تِلْفزْيُونِهِمْ سِينَمَائِهِمْ ... وَمَنْ لِمُذِيعِ الْمُنْكَرَاتِ تَسَمَّعُوا)
مُصَوِّرٍ ذِي رُوحٍ وَحَالِق لِحْيَةٍ ... وَمَحْلُوقِهَا مَعَ ذِي الْخَنَافِسِ يَتْبَعُ
(وَشَارِبُ دُخَّانٍ وَشَارِبُ شِيشَةٍ ... مُتَوْلِتُ رَاسٍ والْمَجَاهِرُ أَفْظَعُ)
(وَشَارِبُ ذِى سُكْرٍ وَلاعِبُ كُورَةٍ ... وَمُصْلِحُ آلاتِ لِلهوِ فَيَمْنَعُ)
(وَبَائِعُ آلاتٍ لِلَهْوِ وَمُطْربٍ ... وَمنْ هُوَ في سَبِّ الْغَوَافِلِ يُقْذِعُ)
(وَبَائِعُ مَا قَدْ سِيقَ فِيمَا سَطَرْتُهُ ... مُسَاعَدُهُمْ أَوْ مَنْ لِذَاكَ يُشَجِّعُ)
اللَّهُمَّ أن نواصينا بيدك وأمورنا ترجع إليك وأحوالنا لا تخفى عَلَيْكَ، وأَنْتَ ملجؤنا وملاذنا، وإليك نرفع بثنا وحزننا وشكايتنا، يَا من يعلم سرنا وعلانيتنا نسألك أن تجعلنا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته، وهب لَنَا من فضلك العَظِيم وَجُدْ عَلَيْنَا بإحسانك العميم يَا خَيْر من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج يَا قاضى الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي صدور الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله وسلم على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين
" فَصْلٌ "
وأما رد السَّلام فَإِنَّ كَانَ المسلم عَلَيْهِ واحدًا، تعين عَلَيْهِ الرد للسلام، وإن كَانُوا جماعة رد السَّلام فرض كفاية عَلَيْهمْ، فَإِنَّ رد واحد مِنْهُمْ سقط(2/289)
الفرض عَنْ الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، وإن رد كلهم فهو النهاية فِي الكمال قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} والسَّلام تحية من كَانَ قبلنا من الأَنْبِيَاء، وأتباعهم الْمُؤْمِنِينَ وتحية أبينا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، وضيفيه المكرمين فيما قصه الله عَلَيْنَا فِي القرآن الكريم بقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} .
ومن السُنَّة المحبوبة البداءة بالسَّلام، لما ورد عَنْ أبي أمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولى النَّاس بِاللهِ من بدأهم بالسَّلام» . رَوَاهُ أبو داود. وفي الْحَدِيث الآخِر: «وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام» . فاحذر عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْ ال.
ويستحب أن يسلم عَنْدَ الانصراف من المجلس، لما ورد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا انتهى أحدكم إِلَى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فلَيْسَتْ الأولى بأحق من الآخِرَة» .
ويستحب أن يسلم على الصبيان لما ورد عَنْ أَنَس أنه مرَّ على صبيان فسلم عَلَيْهمْ. وقَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. متفق عَلَيْهِ.
شِعْرًا: ... سَابِقِ النَّاسِ بِالسَّلام فَفِي ذَا ... كَ إِذَا مَا اعْتَبَرْتَ خَمْسُ خِصَال
كَاشِفُ الرَّيْبِ قَاطِعُ الْعَيْبِ مُحْيِي الْـ ... وِدِ سِتْرُ الأَحْقَادِ وَبَابُ الْوِصَال
" موعظة ": إخواني لَيْسَ الأسف على دنيا آخرها الفوات والخراب ولا على أحوال نهايتها التحول والانقلاب، ولا على حطام حلاله حساب وحرامه عقاب، ولا على أعمار يتمنى المرء طولها فإذا طالت ملت، ولا على أماكن كُلَّما امتلأت بأهلها وازدهرت بِهُمْ أدبرت عنهم وخلت مِنْهُمْ.(2/290)
وإنما الأسف الَّذِي لا يرجى لَهُ خلف وَقْت قتل على فراش السهو
والغفلات، وعلى ليال وأيام تمضى فِي إتباع الملذات الفانية والشهوات، وعلى صحف تطوى ثُمَّ لا ترجع فيستدرك ما فات، وعلى نفوس يناديها لسان الشتات، وهي لا تقلع عما هِيَ عَلَيْهِ من الهفوات، وعلى ذنوب محصى صغيرها وكبيرها لا تقابل بالحسنات، وعلى قُلُوب غافلة فِي الغمرات، وعلى أعوام سريع مرورها كلمَعَ الجمرات، وعلى السُنَّة لا تشتغل، وتتلذذ بذكر فاطر السموات
ألاترون شهركم كيف يسرع فيه البدار ثُمَّ يعقبه الامحاق فيا خيبة من ضاعت منه الليالى والأَيَّامُ، وغبن فِي ميدان السباق ويا خيبة من ضيع عمره بالقبائح العظام ويا خسارة من كَانَتْ تجارته الذُّنُوب والمعاصى والآثام.
شِعْرًا: ... بُكَائِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ شَيْبَتِي ... وَلَمْ أَحْتَفِظْ فِيهَا عُلُومَ الشَّرِيعَةِ
وَأَفْهَمُ مَا قَالَ الإِلهُ وَمَا أَتَى ... عَنْ الْمُصْطَفَى أَعْظمِ بِهَا مِنْ مُصِيبَتِي
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا يدري متى يستدعى، وأني رَأَيْت خلقًا كثيرًا غرهم الشباب ونسوا فقَدْ الأقران وألهاهم طول الأمل وَرُبَّمَا قَالَ العَالِم المحض لنفسه: «اشتغل بالعلم ثُمَّ اعمل به» . فيتساهل فِي الزهد بحجة الرَّاحَة ويؤخر الرجَاءَ لتحقيق التوبة ولا يتحاشى من غيبة أَوْ سماعها ومن كسب شبهة يأمل إن يمحوها بالورع وينسى إن الموت قَدْ يبغته.
فالعاقل من أعطى كُلّ لحظة حقها من الواجب عَلَيْهِ فَإِنَّ بغته الموت رئي مستعدًا وإن نال الأمل ازداد خيرًا.
قَالَ عمر بن عَبْد الْعَزِيز فِي خطبة لَهُ: إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بدار قرار دار(2/291)
كتب الله عَلَى أَهْلِهَا مَنْهَا الظعن، فكم عامر قليل يخرب، وَكَمْ مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله مَنْهَا الرحلة، بأحسن ما يحظركم من النقلة وتزودوا فَإِنَّ خَيْر الزَّاد التَّقْوَى، إنما الدُّنْيَا كفئ ظلال قلص فذهب بين ابن آدم فِي الدُّنْيَا ينافس وبها قرير عين اذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه أثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومعناه إِنَّ الدُّنْيَا لا تسر بقدر ما تضر أنها تسر قليلاً وتجر حزنًا طويلاً كما قِيْل: من سره زمن سأته أزمان
شِعْرًا: ... إِذَا كُنْتَ بِالدُّنْيَا بَصِيرًا فِإِنَّمَا ... بَلاغُكَ مِنْهَا مِثْلُ زَادَ الْمُسَافِرِ
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ ... فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فلَيْسَ بِضَائِرِ
آخر: ... يَرَى رَاحَةً فِي كَثْرَةِ الْمَالِ رَبُّهُ ... وَكَثْرَةُ مَالِ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ مُتْعِبُ
إِذَا قَلَّ مَالَ الْمَرْءِ قَلَّتْ هُمُومُهُ ... وَتَشْعَبُهُ الأَمْوَالُ حِينَ تَشَعَّبُ
آخر: ... وَمَا أَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا غَنِيمَةً ... لِمَنْ عَاشَ بَعْدِي وَاتِّهَامٌ لِرَازِقِي
آخر: ... رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَا بِقُوتٍ يُقِيمُنِي ... فَلا ابْتَغِي مِنْ دُونِهِ أَبَدًا فَضْلاً
وَلَسْتُ أَرُومُ الْقُوتَ إِلا لأَنَّهُ ... يُعِينُ عَلَى عِلْمٍ أَرُدُّ بِهِ جَهْلا
آخر: ... يَا جَامِعًا مَانِعًا وَالْمَوْتُ يَتْبَعُهُ ... مُقَدِّرًا أَيِّ نَابَ فِيِه يُعْلقُهُ
الْمَالُ عِنْدَكَ مَخْزُونُ لِوَارِثِهِ ... مَا الْمَالُ مَالُكَ إِلا يَوْمَ تَنْفَقُهُ
جَمَعْتَ مَالاً فَفَكِّرْ هَلْ جَمَعْتَ لَهُ ... يَا جَامَعَ الْمَالِ أَيَّامًا تُفَرِّقُهُ
لله دَرُّ فَتَىً يَغْدُو عَلَى ثِقَةٍ ... إِنَّ الَّذِي قَسَّمَ الأَرْزَاقَ يَرْزقُهُ
فَالْعِرْضُ مِنْهُ مَصُونٌ لا يُدَنِّسُهُ ... وَالْوَجْهُ مِنْهُ جَدِيدٌ لَيْسَ يُخْلِقُهُ
إِنَّ الْقَنَاعَةَ مَنْ يَحْلُلْ بِسَاحَتِهَا ... لَمْ يَلْقَى فِي ظِلِّهَا هَمًا يُؤرِّقُهُ
آخر: ... يَقُولُ الْفَتَى ثَمَّرْتُ مَالِي وَإِنَّمَا ... لِوَارِثِهِ مَا ثَمَّرَ الْمَالَ كَاسِبُهُ
يُحَاسِبُ فِيهِ نَفْسَهُ بِحَيَاتِهِ ... وَيَتْرُكُهُ نَهْبَا لِمَنْ لا يُحَاسِبُهُ
شِعْرًا: ... أَيَا لِلْمَنَايَا وَيْحَهَا مَا أَجَدَّهَا ... كَأَنَّكَ يَوْمًا قَدْ تَوَرَدْتَ وِرْدَهَا(2/292)
.. وَيَا لِلْمَنَايَا مَا لَهَا مِنْ إِقَالَةٍ ... إِذَا بَلَغَتْ مِنْ مُدَّةِ الْحَي حَدَّهَا
أَلا يَا أَخَانَا إِنَّ لِلْمَوْتِ طَلْعَةً ... وَإِنَّكَ مُذْ صُوِّرْتَ تَقْصُدُ قَصْدَهَا
وَلِلْمَرْءِ عَِنْدَ الْمَوْتِ كَرْبٌ وَغُصَّةٌ ... إِذَا مَرَّتِ السَّاعَاتُ قَرَبْنَ بُعْدَهَا
سَتُسْلِمُكَ السَّاعَاتُ فِي بَعْضِ مَرِّهَا ... إِلَى سَاعَةٍ لا سَاعَةٌ لَكَ بَعْدَهَا
وَتَحْتَ الثَّرَى مِنِّي وَمِنْكَ وَدَائِعٌ ... قَرِيبَةُ عَهْدٍ إِنْ تَذَكَّرْتَ عَهْدَهَا
مَدَدْتَ الْمُنَى طُولاً وَعَرْضًا وَإِنَّهَا ... لَتَدْعُوكَ أَنْ تَهدَا وَأَنْ لا تَمُدَّهَا
وَمَالَتْ بِكَ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهْوِ وَالصِّبَا ... وَمَنْ مَالَتْ الدُّنْيَا بِهِ كَانَ عَبْدَهَا
إِذَا مَا صَدَقْتَ النَّفْسَ أَكْثَرْتَ ذَمَّهَا ... وَأَكْثَرْتَ شَكْوَاهَا وَأَقْلَلْتَ حَمْدَهَا
بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ فَاعْنَ فَإِنَّهَا ... تَمُوتُ إِذَا مَاتَتْ وَتُبْعَثُ حَمْدَهَا
وَمَا كُلُّ مَا خَوَّلْتَ إِلا وَدِيعَةٌ ... وَلَنْ تَذْهَبِ الأَيَّامَ حَتَّى تَرُدَّهَا
إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيًا دَنِيَةً ... فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا
أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغِيصَ عَيْشِهَا ... وَأَتْعَابَهَا لِلْمُكْثِرِينَ وَكَدَّهَا
وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْعَمَى ... لِمَنْ يَبْتَغِي مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا
هَوَى النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُولُهَا ... كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا للزوم الطَرِيق الَّذِي يقربنا إليك وهب لَنَا نورًا نهتد به إليك، ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك، وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا واسترنا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، واحشرنا فِي زمرة عبادك المتقين، يَا خَيْر من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يَا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ما فِي صدور الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(2/293)
"فَصْلٌ"
والأحق بالبداءة بالسَّلام أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي» . لما ورد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «ليسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» . متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم "والراكب على الماشي» .
ولَقَدْ ورد فِي إفشاء السَّلام وفضله أحاديث كثيرة، مَنْهَا ما رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود وابن ماجة عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عَنْهُمَا أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإِسْلام خَيْر؟ قَالَ: «تطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ولم تعرف» .
وأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَأَبُو دَاود والترمذي، عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا الْجَنَّة حَتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حَتَّى تحابوا، ألا أدلكم على شَيْء إِذَا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلام بينكم» .
وروى ابن حبان فِي صحيحه عَنْ البراء رضي الله عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افشوا السَّلام تسلموا» . وأخَرَجَ الترمذي وقَالَ: حسن صحيح عَنْ أبي يوسف عَبْد اللهِ بن سلام رضي الله عَنْهُ قَالَ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يَا أيها النَّاس افشوا السَّلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والنَّاس نيام تدخلوا الْجَنَّة بسلام» .
وأخَرَجَ الطبراني بإسناد حسن، عَنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كنا إِذَا كنا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتفرق بيننا شجرة فإذا التقينا يسلم بعضنا على بَعْض. وأخَرَجَ الطبراني فِي الأوسط بإسناد جيد، وقَالَ: لا يروى إلا بهَذَا الإسناد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أعجز النَّاس من عجز عَنْ الدُّعَاء، وأبخل النَّاس من بخل بالسَّلام» .(2/294)
ورُوِيَ أيضًا عَنْ عَبْد اللهِ بن معقل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي معاجمه الثلاثة بإسناد جيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " أسرق النَّاس الَّذِي يسرق صلاته» . قِيْل: يَا رَسُولَ اللهِ وكيف يسرق صلاته. قَالَ: «لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل النَّاس من بخل بالسَّلام» .
وأخَرَجَ الإِمَام أحمد والْبَزَار وإسناد الإِمَام أحمد لأ باس به. عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رجلاً أتى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ لفلان فِي حائطي عذقًا وأنه قَدْ آذاني وشق عليَّ مكَانَ عذقه فأرسل إليه - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: بعني عذفك الَّذِي فِي حائط فلان: قَالَ: لا. قَالَ: فهبه لي؟ قَالَ: لا. فقَالَ: بعنيه بعذق فِي الْجَنَّة. قَالَ: لا. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما رَأَيْت الَّذِي هُوَ أبخل منك إلا الَّذِي يبخل فِي السَّلام» .
وعن أبي الخطاب قتادة: قَالَ: قُلْتُ لأنس: أكَانَتْ المصافحة فِي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعم. متفق عَلَيْهِ. وعن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مُسْلِمِينَ يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» . رَوَاهُ أبو داود.
وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رجل يَا رَسُولَ اللهِ الرجل منا يلقى أخاه أَوْ صديقه أينحنى لَهُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: أفيلتزمه ويقبله؟ قَالَ: لا. قَالَ: فيأخذ بيده ويصافحه. قَالَ: «نعم» . رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن إِذَا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن للسلام فَوَائِد عديدة مَنْهَا امتثال سُنَّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وقَدْ قَالَ: «من كَانَ من أمتي فليستن بسنتي» .
ومنها الْخُرُوج من الحرمة على القول بوجوب ابتدائه وإن كَانَ المعتمد عَلَيْهِ أنه مستحب.
ومنها الْخُرُوج من البخل وقَدْ ورد أنه لا يدخل جنة عدن بخيل وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:(2/295)
«أي داء أدْوى من البخل» . والبخيل بغيض إِلَى الله بغيض إِلَى النَّاس بعيد من الْجَنَّة حبيب إِلَى الشيطان قريب إِلَى النيران.
ومنها أن السَّلام يكون من الأسباب التِي تدخل صاحبها فِي الْجَنَّة كما مر فِي حديث عَبْد اللهِ بن سلام وأنه يوجب دخولها كما فِي حديث أبي سرح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أخبرني بشَيْء يوجب الْجَنَّة؟ قَالَ: «طيب الكلام وبذل السَّلام وإطعام الطعام» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وصححه.
ومنها أن بذله من موجبات المغفرة، فقَدْ روى عَنْ أبي سرح بإسناد جيد قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ دلني على عمل يدخلني الْجَنَّة. قَالَ: «إن من موجبات المغفرة بذل السَّلام وحسن الكلام» .
شِعْرًا: ... وَكُنْ بَشًّا كَرِيمًا ذَا انْبِسَاطٍ ... وَفِيمَنْ يَرْتَجِيكَ جَمِيلَ رَأْي
بَعِيدًا عَنْ سَمَاعِ الشَّرِّ سَمْحًا ... نَقِيَّ الْكَفِّ عَنْ عَيْبٍ وَثَأْي
مُعِينًا لِلأَرَامِلِ وَالْيَتَامَى ... أَمِين الْجَيْبِ عَنْ قُرْبٍ وَنَأْي
وَصُولاً غَيْرَ مُحْتَشِمٍ زَكِيًّا ... حَمِيدَ السَّعْيِ فِي إِنْجَازِ وَأْي
تَلَقَّ مَوَاعِظِي بِقَبُولِ صِدْقٍ ... تَفُزْ بِالأَمْنِ عِنْدَ حُلُولِ لأْي
آخر: ... أَطِعْ مَوْلاكَ وَاسْأَلْهُ رِضَاهُ ... وَطِبْ نَفْسًا إِذَا حَكَم الْقَضَاءُ
وَكُنْ رَجُلاً عَلَى الطَّاعَاتِ جَلْدًا ... وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةِ وَالسَّخَاءُ
يُغَطَّى بِالدِّيَانَةِ كُلُّ عَيْبٍ ... وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ
وَرِزْقُكَ لَيْسَ يَنْقُصُهُ التَأَنِّي ... وَلَيْسَ يَزِيدُ فِي الرِّزْقَِ الْعَنَاءُ
إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوع ... فَأَنْتَ وَمُثْرِيٌّ فِيهَا سَوَاءُ
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك، وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى(2/296)
خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
ومن ذَلِكَ أن إفشاء السَّلام بين الْمُسْلِمِين يوجب المحبة والألفة والعطف والمحبة شأنها عَظِيم وقدرها جسيم.
ومن فَوَائِد السَّلام أداء حق أخيه المسلم ففي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حق المسلم على المسلم ست» . قِيْل: وما هن يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِذَا لقيته فسلم عليه» .. الْحَدِيث.
ومنها أولويته بِاللهِ لما روى أبو داود والترمذي: أن أولى النَّاس بِاللهِ من بدأهم بالسَّلام.
ومنها حوز الفضيلة لما أخَرَجَ الْبَزَار وابن حبان فِي صحيحه عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والماشيان أيهما بدأ فهو أفضل» .
وأخَرَجَ الطبراني فِي الكبير والأوسط وأحد إسنادي الكبير محتج بِهُمْ فِي الصحيح عَنْ الأغر أغر مزينة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر لي بجريب من تمر عَنْدَ رجل من الأنصار فمطلني به فكلمت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقَالَ: «اغد يَا أبا بكر فخذ لَهُ من تمره» . فوعدني أَبُو بَكْرٍ المسجد إِذَا صلينا الصبح فوجدته حيث وعدني، فانطلقنا فكُلَّما رأى أبا بكر رجل من بعيد سلم عَلَيْهِ. فقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أما تَرَى ما يصيب القوم عَلَيْكَ(2/297)
من الفضل لا يسبقك إِلَى السَّلام أحد فكَانَ إِذَا طلع الرجل من بعيد باكرناه بالسَّلام قبل أن يسلم عَلَيْنَا.
ومنها إدراك الفضيلة فِي إفشاء السَّلام الَّذِي هُوَ اسم الله وفضل الدرجة بنشرها لما أخَرَجَ البزاربسند جيد قوي والطبراني عَنْ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «السَّلام اسم من أسماء الله تَعَالَى وضعه فِي الأَرْض، فافشوا السَّلام بينكم فَإِنَّ الرجل المسلم إِذَا مر بقوم فسلم فردوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهمْ فضل درجة بتذكيره إياهم السَّلام فَإِنَّ لم يردوا عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ من هُوَ خَيْر مِنْهُمْ» .
ومن فَوَائِد السَّلام حصول الحسنات التي صحت بها الروايات. فأخَرَجَ أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي وحسنه أيضًا عَنْ عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: السَّلام عليكم. فرد عَلَيْهِ ثُمَّ جلس فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «عشر» .
ثُمَّ جَاءَ آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله. فرد عَلَيْهِ فقَالَ: «عشرون» .
ثُمَّ جَاءَ آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد فجلس فقَالَ: «ثلاثون» . وَرَوَاهُ أبو داود عَنْ معاذ مرفوعًا بنحوه، وزَادَ ثُمَّ أتى آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقَالَ: «أربعون» . هكَذَا تَكُون الفضائل
ومن فَوَائِد السَّلام حصول السلامة كما فِي حديث البراء المتقدم ويحتمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفشوا السَّلام تسلموا» . يعني فِي الدُّنْيَا من الإثُمَّ والبخل أَوْ من أعم من ذَلِكَ من نكبات الدُّنْيَا ومن أهوال الآخِرَة وفضل الله واسع.
ومنها تصفيته ود أخيك المسلم فقَدْ روى الطبراني فِي الأوسط عَنْ شيبة الحجبي عَنْ عمه مرفوعًا: «ثلاث يصفين لَكَ ود أخيك: تسلم عَلَيْهِ إِذَا لقيته، وتوسع لَهُ فِي المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه» .(2/298)
ومنها حصول فضيلة الإِسْلام وخيرته كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم وأيضًا من فوائده إحياء سُنَّة أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام، فقَدْ روى الْبُخَارِيّ ومسلم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لما خلق الله آدم» . قَالَ: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمَعَ ما يحيونك فَإِنَّهَا تحيتك وتحية ذريتك قَالَ: السَّلام عليكم. فَقَالُوا: السَّلام عَلَيْكَ ورحمة الله. فزادوا ورحمة الله» .
وقَالَ مجاهد: كَانَ عَبْد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يأخذ بيدي فيخَرَجَ إِلَى السوق يَقُولُ: إني لأخَرَجَ ومالي حَاجَة إلا لأسلم ويسلم عليَّ فأعطي واحدة واحدة وآخذ عشرًا، يَا مجاهد إن السَّلام من أسماء الله تَعَالَى فمن أكثر السَّلام أكثر ذكر الله، ومنها موافقته تحية أَهْل الْجَنَّة فَإِنَّ تحية أَهْل الْجَنَّة فيها سلام كما قَالَ جل شأنه {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} .
والسَّلام كما تقدم تحية الْمُؤْمِنِينَ وشعارهم فلا نبدأ أَهْل الكتاب أَوْ الذمة به. ففي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تبدؤا اليهود والنَّصَارَى بالسَّلام فإذا لقيتم أحدهم فِي طَرِيق فاضطروه إِلَى أضيقها» .
رَوَاهُ أحمد ومسلم.
ولما روى أبو نصرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّا غادون على يهود فلا تبدوهم بالسَّلام وإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» . ويحرم بداءتهم بكيف أصبحت أَوْ كيف أمسيت، أَوْ كيف أَنْتَ أَوْ كيف حالك، أَوْ كما يفعله ضعاف العقول والدين بقولهم لَهُمْ صباح النُّور أَوْ مساء الْخَيْر مَعَ رفع أيديهم نسأل الله العافية أَوْ يقولون لَهُمْ والعياذ بِاللهِ أهلاً ومرحبًا.
ولو كتب إِلَى كافر وأراد أن يكتب سلامًا كتب سلام على من اتبع الهدى لما روى الْبُخَارِيّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ فِي كتابه إِلَى هرقل عَظِيم الروم، ولأن ذَلِكَ معنى جامَعَ وإن سلم على من ظنه مسلمًا ثُمَّ تبين لَهُ أنه ذمي(2/299)
استحب للمسلم أن يَقُولُ للذمي: رد عليَّ سلامي لما رُوِي عَنْ ابن عمر أنه مَرَّ على رجل فسلم عَلَيْهِ فقِيْل: إنه كافر. فقَالَ: رد عليَّ ما سلمت عَلَيْكَ. فرد عَلَيْهِ فقَالَ: أكثر الله مالك وولدك. ثُمَّ التفت إِلَى أصحابه. فقَالَ: أكثر للجزية. وإن سلم أحد أَهْل الذمة لزم رده فيقَالَ: وعليكم أَوْ يقَالَ: عليكم بلا واو.
وفي الصحيحين عَنْ عَبْد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا سلم عليكم اليهود فإنما يَقُولُ أحدهم: السام عَلَيْكَ فقل لَهُ: وعَلَيْكَ» . هكَذَا بالواو. وفي لفظ: «عَلَيْكَ» . بلا واو وعن أَنَس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» . رَوَاهُ أحمد. وفي لفظ للإمام أحمد: «فقولوا عليكم بلا واو» .
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: السام عليكم. ففهمتها فَقُلْتُ: وعليكم السام واللعنة. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مهلاً يا عَائِشَة فَإِنَّ الله يحب الرفق فِي الأَمْر كله» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ لم تسمَعَ ما قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ قُلْتُ وعليكم» . متفق عَلَيْهِ. وفي لفظ قَدْ قُلْتُ: «عليكم» . لم يذكر مُسْلِم الواو وعَنْدَ الشَّيْخ تقي الدين يرد مثل تحيته فَيَقُولُ: وعَلَيْكَ مثل تحيتك ... انتهى.
ومِمَّا يحرم ويجب النهي عَنْهُ ما يفعله كثير من النَّاس من السَّلام عَلَيْهمْ باليد بالإشارة وجعلها حذاء الرأس أَوْ وضعها على صدره احترامًا لأعداء الله وإشعارًا بأنه يحبهم نسأل الله العافية. قَالَ أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سئل ايبتداء الذمى بالسَّلام إِذَا كَانَتْ لَهُ إليه حَاجَة؟ قَالَ: لا يعجبني.
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنَّصَارَى، فَإِنَّ تسليم اليهود إشارة الأصابع وتسليم النَّصَارَى إشارة بالأكف» . رَوَاهُ الترمذي عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص. ورُوِيَ: لا تسلموا تسليم اليهود(2/300)
والنَّصَارَى فَإِنَّ تسليمهم إشارة بالكفوف والحواجب. تأمل يَا أخي سلام كثير من النَّاس تجده بالكفوف والحواجب فقط.
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بالإيمان وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
"فَصْلٌ "
ويجب هجر من كفر أَوْ فسق ببدعة أَوْ دعا إِلَى بدعة مضللة أَوْ مفسقة وهؤلاء هم أهل الأهواء والبدع.
وأما هجر من أظهر المعاصي وأعلنها فقِيْل: يسن. وقِيْل: يجب. قَالَ الإِمَام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا علم أنه مقيم على معصية وَهُوَ يعلم بذَلِكَ لم يأثُمَّ إن جفاه حَتَّى يرجع وإلا كيف يتبين للناس ما هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لم ير منكر ولا جفوة من صديق.
وقَدْ هجر - صلى الله عليه وسلم - كعبًا وصاحبيه وأمر أصحابه بهجرهم خمسين يَوْمًا وهجر - صلى الله عليه وسلم - زوجاته شهرًا.
وهجرت عَائِشَة رضي الله عَنْهَا ابن اختها عَبْد اللهِ بن الزبير رضي الله عنهما مدة. وهجر جماعة من الصحابة وماتوا متهاجرين رضوان الله عَلَيْهمْ أجمعين.
قَالَ أبو داود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا كَانَتْ الهجرة لله فلَيْسَ من هَذَا يعني من أحاديث الوعيد بالهجران بشَيْء.
فإن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هجر بَعْض نسائه أربعين يَوْمًا. وابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هجر ابنا لَهُ إِلَى أن مَاتَ.
والإمام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هجر جماعة ممن أجابوا فِي المحنة مثل يحيي بن معين وعلي ابن المديني وَغَيْرِهمَا مَعَ فخامة شأنهم.(2/301)
وَكَمْ إمام هجر صديقًا لَهُ كَانَ عزيزًا عَلَيْهِ لولا إنتهاكه لمحارم الله فصار بذَلِكَ كالجماد بل أدنى ويكفي من ذَلِكَ قصة النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ كعب وصاحبيه.
وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد.
" موعظة "
عباد الله لَقَدْ تغير أكثر أهل هَذَا الزمن فِي أحوالهم الدينية تغيرًا يدهش ذوى العقول تغيرًا من أمعن النظر فيهم ظن أنهم ليسوا من فريق الْمُؤْمِنِينَ.
هذه الصَّلاة وهي عمود الإِسْلام آكد أركانه بعد الشهادتين أعرضوا عَنْهَا ولم يبالوا فيها جهلوا ما هِيَ الصَّلاة وأي قيمة قيمتها وما منزلتها بين سائر الطاعات.
أما علموا أنها أول ما ينظر فيه من عمل الْعَبْد يوم القيامة فَإِنَّ وجدت تامة صَالِحَة قبلت منه وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت إليه وسائر عمله ثُمَّ تَكُون كالثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها.
عباد الله إن الصَّلاة عبادة ومنجاة وقربى نظامها الركوع والسجود مَعَ التذلل والخضوع وأقولها. القراءة والتسيبح والإبتهال إِلَى الله وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وروحها الإخلاص لله وسرها إظهار العبودية والإستكانة لعظمة الرب جَلَّ وَعَلا.
إنها خمس صلوات فِي الْيَوْم واللَّيْلَة خمس وقفات يقفها الْعَبْد أمام سيده ومولاه خالقه ومدبر أمره ولها عَنْدَ الله ثواب خمسين صلاة
شرعت لها الجماعة وأمر ببناء المساجد لأجلها وشرع لها الأذان لينتبه الغَافِل ويتذكر الناسي والجاهل إعلامًا لوقتها ليجتمَعَ المسلمون إليها ويؤدوها فِي جو يسوده الإخاء والمحبة والألفة.(2/302)
وهي خَيْر العبادات وكَانَتْ قرة عين النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كما فِي الْحَدِيث: «وجعلت قرة عينى فِي الصَّلاة» . وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أرحنا يَا بلال بالصَّلاة» .
عباد الله إن الصَّلاة كما علمتم عماد الدين ونور اليقين ومصدر البر ومبعث الْخَيْر العميم وعصمة لمن وفقه الله عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ونجاة من خزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة.
وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الصَّلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء» . وذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فقَالَ: «من حافظ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة» .
عباد الله إن الصَّلاة من أجل الشعائر الدينية وأعظم المظاهر الإِسْلامية ومن أشرف العبادات وهي خَيْر ما يتقرب به الْعَبْد إِلَى الله وقَدْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يصلي حَتَّى تورمت قدماه.
عباد الله إِذَا فهمتم ما سبق من عظم شأن الصَّلاة فما بال قوم يهملونها ويتهاونون بها ويتكاسلون عَنْهَا عَنْدَ حلول وقتها، وما بال أقوم يؤدونها على عجل وعلى غير وجهها وينقرونها نقر الغراب كأنهم مكرهون عَلَيْهَا وينسون أنها وقفة أمام بديع السموات والأرض، فمن الْخَيْر أن تطول هَذِهِ الوقفة. قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصَّلاة وأقصروا الخطبة» .
ومن المؤسف أنَّ أكثر الخطباء الْيَوْم عملوا بخلاف ذَلِكَ فأطالوا الخطبة وقصروا الصَّلاة فلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ.
عباد الله إن بَعْض النَّاس يؤدى الصَّلاة تعودًا لا تعبدًا وَهَذَا ما جعلها لا تنهاه عَنْ فحشاءٍ ولا منكر، لسان حالهم يَقُولُ: يَا إمام أرحنا من الصَّلاة.
عباد الله إن الله جَلَّ وَعَلا أنعم عَلَيْنَا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى جعلنا(2/303)
من بني آدم وجعل لَنَا سمعًا وأبصارًا وأفئدة ومنحنا النَّشَاط والقوة وشد أسرنا ووهبنا الصحة والعافية والرزق وسهل عَلَيْنَا الحركة والسعى.
هَذَا البعض اليسير من نعمه كله كرمًا منه وتفضلاً ولم يطلب منا إلا دقائق من يوم طويل نشكره فيها ونحمده ونسأله أن يعفو عنا ويرزقنا ويرحمنا ويحفظنا وأولادنا وأهلنا. وهذه لاتخَرَجَ عَنْ كونها لخيرنا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة.
فما لَنَا لا نقوم بهذه الدقائق بجد وإجتهاد وإخلاص ورغبة ونشاط ونسعى إِلَى مناجاة مولانَا وسيدنا راغبين ونحافظ على أوقات الصَّلاة ونقيمها على الوجه الأكمل، لا شك أن الْعَبْد عِنْدَمَا يحاسب نَفْسهُ يخجل ويستحي جدًا ويتذكر أن الصَّلاة التِي هِيَ صلة بينه وبين مولاه لا تأخذ من يومه إلا دقائق بينما لَهُ باقي الْيَوْم كله.
اللَّهُمَّ ارزقنا المعرفة على بصيرة بك وبأسمائك وصفاتك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه من الأَعْمَال وجنبنا ما تكرهه ولا ترضاه من الأقوال والأعمال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار يَا عزيز ويا غفار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
" فيما ورد فِي الأخوة والألفة والصداقة فِي الله "
عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان من كَانَ الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم والترمذي والنسائي.(2/304)
وَفِي رواية: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب فِي الله ويبغض فِي الله» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تَعَالَى يَقُولُ يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، الْيَوْم أظلهم فِي ظلي يوم لا ظِلّ إلا ظلي» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله: الإِمَام العادل، وشاب نشأ فِي عبادة الله، ورجل معلق قَلْبهُ فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ، ورجل دعته امراة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفلها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَغَيْرِهمَا.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً زار أخًا لَهُ فِي قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكًا فَلَمَّا أتى عَلَيْهِ قَالَ: أين تريد؟ قَالَ: أخًا لي فِي هَذِهِ القرية. قَالَ: هل لَكَ عَلَيْهِ من نعمة تربها؟ قَالَ: لا غير أني أحبه لله. قَالَ: فإني رسول الله إليك أن الله قَدْ أحبك كما أحببته فيه» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي مُسْلِم قَالَ: قُلْتُ لمعاذ: وَاللهِ أني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك ولا قرابة بيني وبينك. قال: فبأي شيء؟ قلت: لله. قال: فجذب جبوتي ثم قَالَ: أبشر إن كنت صادقًا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «المتحابون فِي الله فِي ظِلّ العرش يوم لا ظِلّ إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء» . قَالَ: ولقيت عبادة بن الصامت فحدثته بحديث معاذ.(2/305)
شِعْرًا: ... وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي اللهِ تَبْقَى ... عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ
وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ ... فَكَالْحَلَفَاءِ فِي لَهَبِ الْحَرِيقِ
آخر: ... إِذَا اعْتَذَرَ الصَّدِّيقَ إِلَيْكَ يَوْمًا ... مِنَ التَّقْصِير عُذْر فَتَىً مُقِرّ
فَصِنْهُ مِنْ عِتَابِكَ وَاعْفُ عَنْهُ ... فَإِنَّ الْعَفْوِ شِيمَةُ كُلَّ حُرّ
شِعْرًا: ... لا تَهْجُرَنَّ أَخَاكَ إِنْ أَبْصَرْتَهُ ... لَكَ جَافِيًا وَلِمَا تُحِبُّ مُجَافِيَا
فَالْغُصْنُ يَذْبُلُ ثُمَّ يُصْبِحُ مَورِقًا ... وَالْمَاء يَكدُّرُ ثُمَّ يُصْبِحُ صَافِيًا
فقَالَ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَنْ ربه تبارك وتَعَالَى: «حقت محبتي على الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فِيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فِيَّ. هم على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء والصديقون» . رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه.
وعن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأثر عَنْ ربه تبارك وتَعَالَى يَقُولُ: «حقت محبتي للمتحابين فِيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فِيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فِيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فِيَّ» . رَوَاهُ أحمد بإسناد صحيح.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله عباد ليسوا بأنبياء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء» . قِيْل: من هم لعلنا نحبهم. قَالَ: «هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوهم نور على منابر من نور لا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس» .
ثُمَّ قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . رَوَاهُ النسائي فِي صحيحه واللفظ لَهُ وَهُوَ أتم.
وعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فأخبرنا من هم.(2/306)
قَالَ: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوهم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس» . وقرأ هَذِهِ الآية
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} رَوَاهُ أبو داود.
وعن عمار بن ياسر أن أصحابه كَانُوا ينتظرونه فَلَمَّا خَرَجَ قَالُوا: ما أبطاك عنا أيها الأمير قَالَ: أما إني سوف أحدثكم أَنَّ أخًا لكم ممن كَانَ قبلكم وَهُوَ مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يا رب حدثني بأحب النَّاس إليك قَالَ: ولم. قَالَ: لأحبه بحبك إياه.
قَالَ: «عبد فِي أقصى الأرض أَوْ طرف الأرض سمَعَ به عبد آخر فِي أقصى أَوْ طرف الأرض لا يعرفه فَإِنَّ أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكتة فكأنَّما شاكته لا يحبه إلا لي فَذَلِكَ أحب خلقي إِلَي» .
قَالَ: يَا رب خلقت خلقًا تدخلهم النار أَوْ تعذبهم فأوحى الله إليه» . كلهم خلقي. ثُمَّ قَالَ: ازرعْ زرعًا فَزَرَعَهُ فقَالَ: اسقه. فسقاه ثُمَّ قَالَ: قم عَلَيْهِ ما شَاءَ الله من ذَلِكَ فحصده ورفعه
فقَالَ: ما فعل زرعك يَا مُوَسى؟ قَالَ: فرغت منه ورفعته. قَالَ: ما تركت منه شَيْئًا؟ قَالَ: ما لا خَيْر فيه أَوْ ما لا حَاجَة لي فيه. قَالَ: فكَذَلِكَ أَنَا لا أعذب إلا من لا خَيْر فيه» .
قَالَ: ولو لم يكن فِي محبة الله إلا أنها تنجي محبة من عذابه لكَانَ ينبغي للعبد أن لا يتعوض عَنْهَا بشَيْء أبدًا. وسئل بَعْض الْعُلَمَاء: أين تجد فِي القرآن أن الْحَبِيب لا يعذب حبيبه؟ فقَالَ فِي قوله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} . الآية(2/307)
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التامل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين
" موعظة "
عباد الله لَقَدْ غفلت الألسُنَّة الْيَوْم عَنْ ذكر الله غَفْلَة تسر إبلَيْسَ وجنوده ولما غفلت الألسُنَّة غفلت الْقُلُوب عَنْ مُرَاقَبَة الله فِي السِّرّ والعلانية، ولما غفلت الْقُلُوب والألسُنَّة عَنْ ذكر الله اندفعت الْجَوَارِح فِي ميدان المعاصى إندفاعًا لا يصدق به إلا من تأمل النَّاس فِي تفننهم فِي الشرور وتسابقهم إليها.
من تقليد للأجانب وشرب لدخان ومعاملات لا تجوز ونفاق وغش ونهش لأعراض الغافلين وخداع ومكر ورياء وربا وكبر وحسد وسماع للملاهي وحضورها وعقوق وشهادة زور ورشاء ومداهنات ونم وكذب ونحو ذَلِكَ.
ولو تحركت الألسُنَّة بذكر الله لاستيقظت الْقُلُوب من غفلاتها القاتلات ولو استيقظت الْقُلُوب والتفتت إِلَى ذكر علام الغيوب ما رأيت جارحة من الْجَوَارِح تلتفت لشئ من المحظورات فَإِنَّ الغَفْلَة عَنْ ذكر الله هي أصل الشرور واليقظة هِيَ أصل الْخَيْر والسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة بإذن الله تَعَالَى.
وإليك نماذج من كنوز ذكر الله تَعَالَى أولها كلمة الإخلاص لا إله إلا الله فَإِنَّهَا ترجح بكل ما سواها حَتَّى على الأرض والسماوات، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. فقَدْ رُوِي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إِلَى مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشمس» . رَوَاهُ مُسْلِم والترمذي.(2/308)
شِعْرًا: ... وَمَنْ يُنْفِقُ السَّاعَاتِ فِي الذِّكْرِ رَابِحٌ ... يَفُزْ يَوْمَ لا ظِلٌّ سِوَى ظِلِّ رَبِّهِ
آخر: ... مَنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنُ ... فَإِنَّ أَوْقَاتَهُ نَقْصٌ وَخُسْرَانُ
وعن أم هانئ قَالَتْ: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كبرت سني وضعفت أَوْ كما قَالَتْ: فمرني بعمل أعمله وأنَا جالسة.
قَالَ: «سبحي الله مائة مرة فَإِنَّهَا تعدل مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عَلَيْهَا فِي سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة بدنة متقلبة، وهللي الله مائة تهليلة» .
قَالَ أبو خلف أحسبه قَالَ: تملأ ما بين السماء والأرض ولا يرفع يومئذ لأحد عمل أَفضل مِمَّا يرفع لَكِ إلا أن يأتي بمثل ما أَتيت» . رَوَاهُ أحمد بإسناد حسن واللفظ لَهُ والنسائي ولم يقل ولا يرفع إِلَى آخره ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الْهَّمّ كما فِي الْحَدِيث الذي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ.
ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ كنز من كنوز الْجَنَّة وقول أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ من شر ما خلق حفظ لقائلها من العقرب ونحوها. ومن قَالَ: رضيت بِاللهِ ربًا وبالاسلام دينًا وبمُحَمَّد رسولاً فليبشر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زعيم لمن قالها: إِذَا أصبح أن يدخل الْجَنَّة.
وقل: إِذَا أصبحت اللَّهُمَّ ما أصبح بي من نعمة أَوْ بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لَكَ، فلك الحمد ولك الشكر لتؤدي شكر يومك وقل مثلها إِذَا أمسيت لتؤدي شكر ليلتك.
شِعْرًا: ... إِذَا مَا الْمَرْءُ أَخْطَأه ثَلاثٌ ... فَبِعْهُ وَلَوْ بِكَفٍ مِنْ رَمَادٍ
رِضَا الرَّحْمَن مَعَ صِدْقٍ وَزُهْدٍ ... فَخُذْهَا وَاحْفَظَنْهَا فِي الْفُؤادِ(2/309)
شِعْرًا: ... وَلوْلا ثَلاثٍ هُنَّ مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى ... وَرَبُّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
سِيَاحَةُ قَلْبِي فِي رِيَاضٍ أَرِيضَةً ... مِن الْعِلْمِ مُجْتَازًا عَلَى كُلِّ مَوْرِدِ
وَتَسْبِيحُنَا للهِ جَلَّ جَلالُهُ ... عَشِيًّا وَبِالإِبْكَارِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ
وَتَرْتلُ آيَاتِ الْكِتَابِ مُنَوِّرًا ... بِهَا جَوْفَ لَيْلَ فِي قِيَامِ التَّهَجُّدِ
اللَّهُمَّ يا حي يَا قيوم يَا من لا تأخذه سُنَّة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنَّا على القيام بِطَاعَتكَ والانتهاء عَنْ معصيتك، اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإِنَّا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسبلت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤلمه من الخيرات معطيًا سواك يا رب العالمين. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
"فَصْلٌ "
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أيها النَّاس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عَزَّ وَجَلَّ عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله» .
فجثى رجل من الأعراب من قاصية النَّاس وألوى بيده إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لَنَا جلهم لَنَا - يعني صفهم لَنَا -. فسر وجه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الأعرابي. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هم ناس من أفناء النَّاس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا فِي الله وتصافوا يضع الله لَهُمْ يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عَلَيْهَا فيجعل وجوهم وثيابهم نورًا يفزع النَّاس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون» . رَوَاهُ أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقَالَ: صحيح الاسناد(2/310)
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة لعمدًا من ياقوت عَلَيْهَا غرف من زبرجد لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب الدري: قَالَ: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ من يسكنها؟ قَالَ: «المتحابون فِي الله والمتباذلون فِي الله والمتلاقون فِي الله» . رَوَاهُ البزار.
وعن بريدة رضي الله عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة غرفًا تَرَى ظواهرها من بواطنها وبواطنها من ظواهرها أعدها الله للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتباذلين فيه» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوسط.
وعن أَنَس رضي الله عَنْهُ أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: متى الساعة؟ قَالَ: «وما أعددت لها» . قَالَ: لا شَيْء إلا إني أُحبُّ الله ورسوله. قَالَ: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» . قَالَ أَنَس: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» . قَالَ: أَنَس فأنَا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم» . رَوَاهُ مُسْلِم.
ففي هَذَا الْحَدِيث بشارة لمن أحب الله ورسوله وأصحابه ومن اتبعهم واقتدى بِهُمْ ولهَذَا فرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهَذَا النبأ الحسن واغتبطوا لَهُ اغتباطًا فائقًا وإنما سروا به وفرحوا لأنهم كَانُوا يقيسون أنفسهم على شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي العبادة وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالْقَصْد فيها والرفق بأنفسهم.
ففي حديث الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أمرهم، أمرهم من الأَعْمَال ما يطيقون، ويقولون: إِنَّا لسنا مثلك يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الله قَدْ غفر لَكَ ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيغضب حَتَّى يعرف فِي وحهه.
ثُمَّ يَقُولُ: «أما وَاللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ» . وكأنهم يقولون أَنْتَ(2/311)
مغفور لَكَ فلا تحتاج إِلَى كثرة أعمال بخلافنا فرد عَلَيْهمْ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أَنَا أولاكم بذَلِكَ لأني أتقاكم وأعلمك بِاللهِ» .
مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يكثر أعماله وتعظم عبادته لشدة خوفه من ربه وتمام معرفته بما يليق بجلال الله وعظمته ولأن نعم الله عَلَيْهِ أكثر من غيره قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ولهَذَا سر الصحابة بما قاله النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لهَذَا الرجل السائل.
وقَالُوا: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ مَعَ من أحببت لما وفقك الله لَهُ من حسن النِّيْة والْقَصْد من غير اجهاد فِي الْعَمَل وزيادة فِي العبادة.
والحق أنه لا يتم ولا يكتمل إيمان الإنسان إلا بإيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحبة والتعَظِيم على سائر خلق الله ففي الْحَدِيث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب إليه من والده وولده» . وفي رواية: «والنَّاس أجمعين» .
ومن علامَاتَ محبته إيثار رضاه والْعَمَل بشريعته ونصر سنته والتآسي به فِي شمائله وسيرته الكريمة المباركة أما من ادَّعَى محبته ولم يؤثر بالْعَمَل شريعته فتلك دعوى باطلة وتبجح كاذب لأن صاحبها لم يقم حجة على صحة دعواه وأحقية ما ادعاه.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين واغفر لَنَا اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وامنن عَلَيْنَا بالعفو والعتق من النار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/312)
" فَصْلٌ "
عن الوليد بن أبي مغيث عَنْ مجاهد قَالَ: إِذَا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما. قَالَ: قُلْتُ لمجاهد: بمصاحفة لهما؟ قَالَ مجاهد: أما سمعته يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . فقَالَ الوليد لمجاهد: أَنْتَ أعْلَمُ مني.
وعن سلمان الفارسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن المسلم إِذَا لقى أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عَنْ الشجرة اليابسة فِي يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار» .
وقَالَ أبو عمرو الأوزعي حدثني عبدة بن لبابة عَنْ مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقَالَ: إِذَا التقا المتحابان فِي الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهم كما تحات ورق الشجر. قَالَ عبدة: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا يسير؟ فقَالَ: لا تقل ذَلِكَ فَإِنَّ الله يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} . قَالَ عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
" مَوْعِظَةٌ مِن كلامِ ابنِ الجَوْزِىْ رَحِمَهُ اللهُ "
يا من يرجى الثواب بغير عمل ويرجى التوبة بطول الأمل تَقُول فِي الدُّنْيَا قول الزاهدين وتعمل فيها عمل الراغبين لا بقليل مَنْهَا تقنع، ولا بكثير مَنْهَا تشبع تكره الموت لأجل ذنوبك وتقيم على ما تكره الموت لَهُ من عيوبك.
تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستقين، ما تثق من الرزق بما ضمن لَكَ، ولا تعمل من الْعَمَل ما فرض عَلَيْكَ وتستكثر من معصية غيرك ما تحتقره من نفسك.
أما تعلم إِنَّ الدُّنْيَا كالحية لين ملمسها والسم الناقع فِي جوفها يهوى ألبها.(2/313)
الصبي الجاهل ويحذرها اللبيب العاقل كيف تقر عين من عرفها وما أبعد أن يفطم عَنْهَا من ألفها فتفكروا إخواني فِي أهل الصلاح والفساد وميزوا بين أهل الْخُسْرَانُ وأهل الأرباح فيا سرعان عمر يفنيه المساء والصباح.
" شِعرٌ لبَعْضِ الصَّالِحِيْنَ فِي مَدْحِ رَبِّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى "
يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً ... رِزْقَ الْجَمِيعِ سِحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ
يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ السِّـ ... ـتْرِ الْجَمِيلِ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يَا عَالِمَ السِّرِّ الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ ... وَعْدِ الْوَفِيِّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ إِنَّ ... يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ
الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ ... وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ
رَبٌّ يُرَبِي الْعَالَمِينَ بِبِرِّهِ ... وَنَوَالُهُ أَبَدًا إِلَيْهِمْ وَاصِلُ
تَعْصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِمًا ... مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ
مُتَفَضِّلٌ أَبَدًا وَأَنْتَ لِجُودِهِ ... بِقَبَائِح الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ
وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ ... سُبْلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ
وَآيَسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَا لَهَا ... سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَناوَلُ
يَأْتِيك مِنْ أَلْطَافِهِ الْفَرَجُ الَّذِي ... لَمْ تَحْتَسِبْهُ وَأَنْتَ عَنْهُ غَافِلُ
يَا مُوجِدُ الأَشْيَاءِ مِنَ أَلْقَى إِلَى ... أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ
وَمَنْ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا ... أَحَدًا سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ
عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ ... عَمَلُ وَإِنْ زَعَمَ الْمُرَائي بَاطِلُ
وَإَذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ ... وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ
أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى ... مَوْلاهُ أَوْزَارُ الْكَبَائِرِ حَامِلُ
قَدْ أَثَقَلَتْ ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ ... صُحُفِي الْعُيوُبُ وَسِتْرُ غَفْوِكَ شَامِلُ
هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي ... وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمَعٌ سَائِلُ
فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ ... فِيقًا لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامْلُ(2/314)
.. وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ ... وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ
اللَّهُمَّ إِنَا ظلمنا أنفسنا فاغفر لَنَا ذنوبنا وهب لَنَا تقواك واهدنا بهداك ولا تلكنا إِلَى أحد سواك. واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجًا ومن كُلّ ضيق مخرجًا. اللَّهُمَّ أعذنا بمعافتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك. اللَّهُمَّ إِنَا نسالك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ونعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآلِهِ وسلم.
" فَصْلٌ "
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
لذة كُلّ أحد على حسب قدره وهمته وشرف نَفْسهُ فأشرف النَّاس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرًا من لذته فِي معرفة الله ومحبته والشوق إِلَى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته فِي إقباله عَلَيْهِ وعكوف همته عَلَيْهِ.
ودون ذَلِكَ مراتب لا يحصيها إلا الله حَتَّى تنتهي إِلَى من لذته فِي أخس الأَشْيَاءِ من القاذورات والفواحش فِي كُلّ شَيْء من الكلام والأفعال والأشغال فلو عرض عَلَيْهِ ما يلتذ به الأول لم تسمح نَفْسهُ بقبوله ولا الالتفات إليه، وَرُبَّمَا تألمت من ذَلِكَ كما أن الاول إِذَا عرض عَلَيْهِ ما يلتذ به هَذَا لم تسمح نَفْسهُ به ولم تلتفت إليه ونفرت نَفْسهُ منه، وأكمل النَّاس لذة من جمَعَ لَهُ بين لذة الْقَلْب والروح ولذة البدن فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخِرَة ولا يقطع عَلَيْهِ لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه فهَذَا ممن قَالَ تَعَالَى فيه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(2/315)
وأبخسهم حظًا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخِرَة فيكون ممن يقَالَ لَهُمْ يوم استيفاء اللذات {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} . فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا وافترقوا فِي وجه التمتع فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن فيه فجمَعَ لَهُمْ بين لذة الدُّنْيَا والآخِرَة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أذن لَهُمْ فيه أم لا انقطعت عنهم لذة الدُّنْيَا وفاتهم لذة الآخِرَة. فلا لذة الدُّنْيَا دامت ولا لذة الآخِرَة حصلت لَهُمْ فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدُّنْيَا موصلة إِلَى لذة الآخِرَة بأن يستعين على فراغ قَلْبهُ لله إرادته وعبادته فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى وإن كَانَ ممن زويت عَنْهُ لذات الدُّنْيَا فليجعل ما نقص مَنْهَا زيادة فِي لذة الآخِرَة ويجم نَفْسهُ ها هنا. بالترك ليستوفيها كاملة هناك. فطيبات الدُّنْيَا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخِرَة وكَانَتْ همته لما هناك. وبئس القاطع لمن كَانَتْ هِيَ مقصوده وهمته وحولها يدندن وفواتها فِي الدُّنْيَا نعم العون لطالب الله والدار الآخِرَة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخِرَة فمن أخذ منافع الدُّنْيَا على وجه لا ينقص حظه من الآخِرَة ظفر بهما جميعًا وإلا خسرهما جميعًا.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
سبحان الله رب العالمين لو لم يكن فِي ترك الذُّنُوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة الْمَال الَّذِي جعله الله قوامًا لمصالح الدُّنْيَا والآخِرَة ومحبة الخلق وجواز القول بينهم.(2/316)
وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة الْقَلْب وطيب النفس ونعيم الْقَلْب وانشراح الصدر والأمن من مخاوف الفساق والفجار وقلة الهم والغم والحزن وعز النفس عَنْ احتمال الذل وصون نور الْقَلْب أن تطفئه ظلمة المعصية وحصول المخَرَجَ لَهُ مِمَّا ضاق على الفساق والفجار.
وتيسير الرزق عَلَيْهِ من حيث لا يحتسب وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي وتسهيل الطاعات عَلَيْهِ وتيسير العلم والثناء الحسن فِي النَّاس وكثرة الدُّعَاء لَهُ والحلاوة التِي يكتسبها وجهه والمهابة التِي تلقى لَهُ فِي قُلُوب النَّاس.
شِعْرًا: ... يَشْقَى رِجَالُ وَيَشْقَى آخَرُونَ بِهُمْ ... وَيُسْعِدُ الله أَقْوَامًا بِأَقْوَامِ
وَلَيْسَ رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ ... لَكِنْ حُظُوظُ مِنَ اللهِ لأَقْوَامِ
كَالصَّيْدِ يُحْرمُهُ الرَّامِي الْمُجِيدُ وَقَدْ ... يَرْمِي فَيَرْزُقُهَ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي
وَانْتِصَارُهُمْ لَهُ وحميتهم لَهُ إِذَا أوذي أَوْ ظلم وذبهم عَنْ عرضه إِذَا اغتابه مغتاب وسرعة إجابة دعائه وزَوَال الوحشة التِي بينه وبين الله وقرب الملائكة منه. وبعد شياطين الإنس والجن منه وتنافس النَّاس على خدمته.
وخطبهم لمودته وصحبته وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه لَهُ ومصيره إليه وصغر الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ وكبر الآخِرَة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العَظِيم فيها وذوق حلاوة الطاعة ووَجَدَ حلاوة الإِيمَان ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة لَهُ وفرح الكرام الكاتبين به ودعاءهم لَهُ كُلّ وَقْت والزيادة فِي عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله لَهُ وإقباله عَلَيْهِ وفرحه بتوبته.
فهَذَا بَعْض آثار ترك المعاصي فِي الدُّنْيَا فإذا مَاتَ تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالْجَنَّة وبأنه لا خوف عَلَيْهِ ولا يحزن وينتقل من سجن الدُّنْيَا وضيقها إِلَى روضة من رياض الْجَنَّة ينعم فيها إِلَى يوم القيامة(2/317)
فإذا كَانَ يوم القيامة كَانَ النَّاس فِي الحر والعرق وَهُوَ فِي ظِلّ العرش فاذا انصرفوا بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مَعَ أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العَظِيم وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم
"فَصْلٌ "
وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَمِمَّا ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إِلَى الْعَبْد وإن كرهتها نَفْسهُ وشقت عَلَيْهَا فهذه هِيَ الرحمة الحقيقية. فارحم النَّاس بك من شق عَلَيْكَ فِي إيصال مصالحك ودفع المضار عَنْكَ.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأديب بالعلم والْعَمَل ويشق عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التِي تعود بضرره ومتى أهمل ذَلِكَ من ولده كَانَ لقلة رحمته به. وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم لهَذَا كَانَ من تمام رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ تسليط أنواع البَلاء على الْعَبْد فإنَّه أَعْلَمُ بمصلحته فابتلاؤه لَهُ وامتحانه ومنعه من أغراضه وشهواته: من رحمته به ولكن الْعَبْد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلاءه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
وقَدْ جَاءَ فِي الأثر: أن المبتلى إِذَا دُعِيَ لَهُ: اللَّهُمَّ ارحمه يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: كيف أرحمه من شَيْء به أرحمه. وفي أثر آخر: إن الله تَعَالَى إِذَا أحب عبده حماه الدُّنْيَا وطيباتها وشهواتها كما يحمى أحدكم مريضه.
فهَذَا من تمام رحمته به لا من بخله عَلَيْهِ. كيف وَهُوَ الجواد الماجد الَّذِي لَهُ الجود كله وجود الخلائق فِي جنب جوده أقل من ذرة فِي جبال الدُّنْيَا ورمالها.(2/318)
فمن رحمته سُبْحَانَهُ بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حَاجَة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلاً منه عَلَيْهمْ بما نهاهم عَنْهُ فهو الجواد الكريم.
ومن رحمته أن نغص عَلَيْهمْ الدُّنْيَا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فِي النَّعِيم الْمُقِيم فِي داره وجواره فساقهم إِلَى ذَلِكَ بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعاقبهم وأماتهم ليحييهم.
ومن رحمته بِهُمْ: أن حذرهم نَفْسهُ لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} . قَالَ غير واحد من السَّلَف: من رأفته بالعباد حذرهم من نَفْسهُ لئلا يغتروا به.
اللَّهُمَّ قابل سيئاتنا بإحسانك واستر خطئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك واقهر عدونا بعز سلطانك فما تعوذها منك إلا الجميل، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
شِعْرًا: ... أَتَأَمَلُ فِي الدُّنْيَا تُجِدُ وَتَعْمُرُ ... وَأَنْتَ غَدًا فِيهَا تَمُوتُ وَتُقْبَرُ
تُلَقِّحُ آمَالاً وَتَرْجُو نِتَاجَهَا ... وَعُمْرُكَ مِمَّا قَدْ تَرْجِيهِ قَصرُ
تَحُومُ عَلَى إِدْرَاكِ مَا قَدْ كُفِيتَهُ ... وَتَقْبَل فِي الآمَالِ فِيهَا وَتُدْبِر
وَهَذَا صَبَاحُ الْيَوْم يَنْعَاكَ ضُوءه ... وَلَيْلَتِهِ تَنْعَاكَ إِنْ كَنْتَ تَشْعُر
وَرِزْقَكَ لا يَعَدُوكَ إِمَّا مُعَجّل ... عَلَى حَالِهِ يَوْمًا وَإِمّا مؤخر
فَلا تَأَمَنِ الدُّنْيَا وَإِنْ هِيَ أَقْبَلَتْ ... عَلَيْكَ فَمَا زَالَتْ تَخُونُ وَتَغْدُرُ
فَمَا تَمَّ فِيهَا الصَّفْو يَوْمًا لأَهْلِهِ ... وَلا الرَّنْقَ إِلا رَيْثَمَا يَتَغَيّرُ(2/319)
شِعْرًا: ... وَمَا لاحَ نِجْمٌ لا وَلا ذَرَّ شَارِق ... عَلَى الْخَلْقِ إِلا بِحَبْلِ عُمْرِكَ يَقْصُرُ
تَطَهَّرْ وَالْحِقْ ذَنْبَكَ الْيَوْم تَوْبَة ... لَعَلَّكَ مَنْهَا إِنْ تَطَهَّرَتْ تَطْهُرْ
وَشَمِّرْ فَقَدْ أَبَدَى لَكَ الْمَوْتُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ يَنَالُ الْفَوْز إِلا مُشَمِّر
فَهَذِه الليَالِي مُؤْذِنَاتِكَ بِالْبَلَى ... تَرُوحُ وَأَيْامِ كَذَلِكَ تُبَكَّر
وَاخْلِصْ لِدِينِ الله صَدْرًا وَنِيَّةً ... فَإِنَّ الَّذِي تُخْفِيهِ يَوْمًا سَيَظْهَرُ
تَذَكَّرْ وَفَكَّرْ بِالَّذِي أَنْتَ صَائِرٌ ... إِلَيْهِ غَدًا إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يُفَكِّر
فَلابُدَّ يَوْمًا إِنْ تَصِيرَ لِحُفْرَةٍ ... بِأَثْنَائِهَا تُطْوَى إِلَى يَوْمِ تُنْشَرُ
اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ وَالْعِتْقِ مِنْ النَّار واحفظنا من المعاصي فيما بَقي من الأعمار وأحسن بكرمك قصدنا واحشرنا فِي زمرة عبادك المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وإياك وَجَمِيع المسلمبن لما يحبه الله ويرضاه أن الصبر من أجل صفات النفس وأعلاها قدرًا وَهُوَ لغة حبس النفس عَنْ الجزع أي منعها من الاستسلام للجزع كى لا يترتب عَلَيْهِ فعل ما لا ينبغى فعله وبعبارة أخرى الصبر ثبات القوة المضادة للشهوة فِي مقاومتها.
وما شرعًا فهو أعَمّ من ذَلِكَ لأنه حبس النفس عَنْ الجزع ومنعها عَنْ محارم الله، وإلزامها بأداء فرائض الله يدل عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء فرائض الله وصبر عَنْ محارم الله، وصبر على المصيبة عَنْدَ الصدمة الأولى.
شِعْرًا: ... وَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ حَمِيدَةٌ ... وَأَفْضَلُ أَخْلاقِ الرِّجَالِ التَّدَيُّنُ(2/320)
وَلا عَارَ إِنْ زَالَتْ عَنْ الْمَرْءِ نَعْمَةٌ ... وَلَكِنْ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّدَيُّنُ
آخر: ... إِذَا قُدِّرَ عَلَيْكَ أُخَّيَّ أَمْرًا ... بِمَكْرُوهٍ تَعَاظَمَ أَوْ بَلِيَّهْ
فَلا تَعْجَلْ وَثِقْ بِاللهِ وَاصْبِرْ ... فَلِلرَّحْمَنِ أَلْطَافٌ خَفِيَّهَ
وَإِيَّاكَ الْمَطَامِعَ وَالأَمَانِي ... فَكَمْ أُمْنِيَّةِ جَلَبَتْ مَنِيَّهْ
وَقَالَ ابن القيم: الصبر حبس النفس عَنْ التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عَنْ الشكوى، وحبس الْجَوَارِح عَنْ المعصية. فمدار الصبر على هَذِهِ الأركَانَ الثلاثة فإذا قام بها الْعَبْد كما ينبغي انقلبت المحنة فِي حقه منحة واستحالة البلية عطية وصار المكروه محبوبًا.
فإن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه لميتحن صبره وعبوديته، فَإِنَّ لله تَعَالَى على الْعَبْد عبودية فِي الضراء كما لَهُ عَلَيْهِ عبودية فِي السراء، وله عبودية عَلَيْهِ فيما يكره كما لَهُ عَلَيْهِ عبودية فيما يحب. أ. هـ.
شِعْرًا: ... اذا اشتد عسر فارج يسرًا فإنه ... قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
وعرف الصبر بَعْضهمْ بأنه باعث الدين أمام باعث الهوى، فَأَمَّا باعث الدين فهو قدرة العقل على قهر الشهوة والْغَضَب، لأنهما بطغيانهما يقودان المرء إِلَى ما لا يقره الدين ولا يرضاه العقل، فإذا ثَبِّتْ العقل أمام الشهوة والْغَضَب وقام بوظيفته على الوجه المطلوب فلا يجعل لهما عَلَيْهِ سلطانًا.
ولا يسمح لهما بالطغيان، فينقاد لهما صاغرًا بل يكون هُوَ الآمْر الناهي فيسلك بهما سبيل الاعتدال، بلا إفراط ولا تفريط فإنه بذَلِكَ يستطيع بإذن الله أن يظفر بالصبر، عَنْ ما حرم الله والصبر على طاعته، وأن يحبس نَفْسهُ عَنْ الجزع عَنْدَ المصيبة، فلا يستفزه الجزع إِلَى قوله، أَوْ عمل ما لا يرضاه الله مهما كَانَ لنفسه فيه لذة.
ومن ذَلِكَ الصبر على ايذاء النَّاس إياه، فإنه إِذَا اغضبه أحد بقول أَوْ(2/321)
عمل، فَإِنَّ غضبه لا يطغى عَلَيْهِ، فيحمله على تعدى حُدُود اللهِ بل يكفيكهم غضبه حَتَّى يجرى على سنن الدين من القصاص العادل، أَوْ العفو إن كَانَ فيه مصلحة.
وقِيْل فِي تعريفه هُوَ الثبات على الكتاب والسُنَّة، والتمشى مَعَ إرشاداتهما، لأن من ثَبِّتْ عَلَيْهِمَا فقَدْ صبر على المصائب، وعلى أداء العبادات، وعلى اجتناب المحرمَاتَ.
ثُمَّ ان الصبر يسمى بأسماء مختلفة فمثلاً الصبر عَنْ شهوة الفرج والبطن أَوْ الْمَال الحرام يسمى عفة وورعًا ومنعها عن الجزع والفرار عَنْدَ لقاء الْعَدُوّ يسمى شجاعة ويقابله الجبن، ومنعها عَنْ التعدي على الغير عَنْدَ ثورة الْغَضَب يسمى حلمًا، وشجاعة، ويقابله التذمر والطيش.
وعن إفشاء السِّرّ يسمى كتمان السِّرّ، وعن الإسراف فِي المآكل والمشارب يسمى زهدًا، وعن الغرور بالثروة والْمَال يسمى ضبط النفس، ويقابله البطر والخلاصة أن الصبر فضيلة يحتاجها المسلم فِي دينه ودنياه.
فيجب على الإنسان أن يوطن نَفْسهُ على احتمال الشدائد والمكاره دون ضجر وانتظار النتائج مهما بعدت فكل ما هُوَ آت قريب، وعَلَيْهِ أن يوطنها على مواجة الأعباء مهما ثقُلْتُ بقلب لم تعلق به ريبة وعقل لا تطيش به كربة.
وقَدْ أكد الله جَلَّ وَعَلا أن ابتلاء النَّاس أمر لا محيص عَنْهُ حَتَّى يأخذوا الأهبة، والاستعداد للنوازل، فلا تذهلهم المفاجاة، قَالَ تَعَالَى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وقَالَ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وقَالَ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(2/322)
وقَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله سُلَيْمَانٌ عَلَيْهِ السَّلام {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقَالَ تَعَالَى {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} . الآية
اصبر على مضض الادلاج فِي السحر ... وَفِي الرواح إِلَى الطاعات والبكر
إني رأيت وَفِي الأَيَّام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلَّبَهُ ... وَاسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلا فَازَ بِالظَّفَرِ
آخر: ... يَقُولُ لَكَ الإِثْبِات أَهْلُ التَّجَارِبِ ... تَصَبَّرْ فَعُقْبَى الصَّبْرِ نَيْلُ الْمَآرِبِ
وَنَصُّ - كِتَابِ - اللهِ بِالصَّبْرِ - آمِرٌ ... وقَدْ وَعَدَ الصُّبَّارَ حُسْنَ الْعَوَاقِبِ
وَيَقُولُ آخر:
وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ ... لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ
وَيَقُولُ آخَر:
بَنَى اللهُ لِلأَخْيَارِ بَيْتًا سَمَاؤهُ ... هُمُومٌ وَأَحْزَانٌ وَجُدْرِانُهُ الضُّرُّ
وَادْخَلَهُمْ فِيهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ ... وقَالَ لَهُمْ مِفْتَاحُ بَابِكِمْ الصَّبْرُ
آخر: ... فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّة الْعُلْيِا فَلَمْ أَرَهَا ... تُنَال إِلا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
فِي الصَّالِحَاتِ بِإِخَلاصٍ لِخَالِقنَا ... اجْهَدْ زَمَانَكَ إِنَّ الْوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ
آخر: ... أَيَطْمَعُ فِي الْعَلْيِاءِ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا ... وَلَنْ يَبْلُغَ الْعَلْيَاءَ إِلا الْمُوحِّدُ
آخر: ... يُرِيدُ الْمَعَالِي عَاطِلٌ مِنْ أَدَاتِهَا ... وَهَيْهَاتَ مِنْ مَقْصُوصَةٍ طَيَرَانُهَا
وَلَوْ خَلالٌ سَنَّهَا الشَّرْعُ مَا دَرَى ... بُغَاةُ الْعُلَى مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْمَكَارِمُ
آخر: ... دَبُّوا إِلَى الْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا ... جُهْدَ النُّفُوسِ وِشَدُّوا نَحْوَهُ الأُزَرَا
وَسَارُوا الْمّجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ ... وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا
لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكله ... لَنْ تَبْلُغُ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ
آخر: ... مُسْتِشْعِرُ الصَّبْرِ مَقْرُونٌ بِهِ الْفَرَجُ ... يُبْلَى وَيَصْبِرُ وَالأَشْيَاءِ تُنْتَهَجُ(2/323)
حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مَقْدُورَ غَايَتِهَا ... جَاءَتْكَ تَضْحَكُ عَنْ ظَلمَائِهَا السُّرُجُ
يُقَدر اللهُ فَارْجُ اللهَ وَارضَ بِهِ ... فَفِي إِرَادَتِهِ الْغَمَاءُ تَنْفَرِجُ
آخر: ... قُلِ الله مَنْ يَطْلُبْ رِضَاهُ يَنَلْ أَجْرَا ... وَيَسْتَسْهِلُ الأَخْطَارَ وَالْمَرَكَبَ الْوَعْرَا
وَيُرْخِصُ فِي إِدْرَاكِهِ كُلَّ مَا غَلا ... وَيُنْفِقُ فِي أَدْنَى رَغَائِبِهِ الْعُمْرَا
آخر: ... فَلا تَيْأَس إِذَا مَا سُدَّ بَابٌ ... فَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الْمَسَالِكْ
وَلا تَجْزَعْ إِذَا مَا اعْتَاصَ أَمْرٌ ... لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكْ
آخر: ... بِقَدْرِ الْجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا سَهِرَ اللَّيَالِي
تَرُومُ الْعزِّ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهُ ... يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلِي
آخر: ... إِنَّ الأُمُورَ إِذَا انْسَدَّتْ مَسَالِكُهَا ... فَالصَّبْرُ يَفْتَحُ مِنْهَا كُلَّ مَارَتَجَا
لا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مَطَالِبُهُ ... إِذَا اسْتَعَنْتَ بَصَبْرِ أَنْ تَرَى فَرَجَا
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يُحْظَى بِحَاجَتِهِ ... وَمُدْ مِن الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا
اللَّهُمَّ انظمنا فِي سلك حزبك المفلحين وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وأمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللَّهُمَّ اعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجوه واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر فإنك تمحو ما تشاء وتثَبِّتْ وعندك أم الكتاب. اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا ممن يأخذ الكتاب باليمين، وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر آمنين وأوصلنا بِرَحْمَتِكَ وكرمك إِلَى جنات النَّعِيم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى آله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ " وقَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} . وقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .(2/324)
فمن ابتلاه الله بنقص فِي ماله أَوْ منعه شَيئًا من شهوات الدُّنْيَا ولذاتها الفانية وعجز عَنْ تحصيله بالوسائل المشروعة أَوْ قبض لَهُ نفسًا أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ أُمًا أَوْ ولد أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ خاف من عدو فإنه لا دواء لَهُ إلا الصبر على ما أصابه.
فإذا صبر المبتلى وعمل بقول ربه عَزَّ وَجَلَّ فقَدْ هانت عَلَيْهِ البلوى وضاع أثرها فاستراح من عذابها فِي الدُّنْيَا وفاز بالآخِرَة بالجزاء الحسن، فالفقير الَّذِي لا يذهب بلبه متاع الحياة وزينتها ولا يحزنه ما لا يستطيع الوصول إليه من المتاع الفاني سائر على ضوء إرشادات القرآن الكريم، مثل قوله تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . وقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} بل مطمئن إِلَى ما قدره الله لَهُ فِي هَذِهِ الحياة من تعب ونصب، ويرضى بما قسم لَهُ فلا يسخط، ولا يفعل محرمًا فإنه لا بد أن يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا فِي حَيَاتهُ الدُّنْيَا كما قَالَ تَعَالَى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وإذا اشتهت نَفْسهُ شَيْئًا وعدها بالْخَيْر وصبرها ومشى أموره عَلَى قَدْرِ حاله، ولا يكلف نَفْسهُ بالدين والقرض، قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . وقَالَ بَعْضهمْ:
إِذَا رُمْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الانْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِنْضَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنَّ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مَنُوع بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ
آخر: ... أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ ... وَأَيُّ غِنىً أَعَزُّ مِن الْقَنَاعَةِ(2/325)
فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأَسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ
تَحُزْرِ بِحِينِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ ... وَتَنْعَمُ بِالْجِنَانِ بَصَبْرِ سَاعَةْ
آخر: ... عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَة ... وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهْ
وَقَدْ عَلِمُوا بِأَنِّي حِينَ شَدُّوا ... عُرَى الأَطْمَاعِ فَارَقْتُ الْجَمَاعَهْ
إِذَا مَا فَاقَةٌ قرنت بِعِزٍّ ... وَكَانَتْ فِي التبذل لي ضراعَهْ
نَفَضْتُ يَدَيَّ عَنْ طَمْعِي وَحِرْصِي ... وَقُلْتُ لِفَاقَتِي سَمْعًا وَطَاعَهْ
آخر: ... أَلا إِنَّ رِزْقَ الله لَيْسَ يَفُوتُ ... فَلا تُرَعَنْ إِنَّ الْقَلِيلَ يَفُوتُ
رَضِيتُ بِقَسِم اللهِ حَظًّا لأَنَّهُ ... تَكَفَّلَ رِزْقِي مِنْ لَهُ الْمَلَكُوتُ
سَأَقْنَعُ بِالْمَالِ الْقَلِيلِ لأَنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَا الْمَالِ الْكَثِيرِ يَمُوتُ
آخر: ... أَبَا مَالِكٍ لا تَسْأَل النَّاسَ وَالْتَمِسْ ... بَكَفيكَ فَضْل اللهِ وَاللهُ مُوسعُ
وَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأوَشَكُوا ... إِذَا قِيْل هَاتُوا أَنْ يَمِلُّوا وَيَمْنَعُوا
آخر: ... لا تَقُولَنَّ إِذَا مَا لَمْ تَرُدْ ... أَنْ تَتِمّ الْوَعِدُ فِي شَيْء نَعَمْ
حَسَنٌ قَوْلُ نَعَمْ مِنْ بَعْدِ لا ... وَقَبِيحُ قَوْلٌ لا بَعْدَ نَعَمْ
إِنَّ لا بَعْدَ نَعَمْ فَاحِشَةٌ ... فَبِلا فَابْدَأ إِذَا خِفْتَ النَّدَمْ
وَإِذَا قُلْتَ نَعَمْ فَاصْبِرْ لَهَا ... بِنَجَاحِ الْوَعْدِ إِنَّ الْخُلْفَ ذَمْ
قَنُوعُ النَّفْسِ يَعْقُبهُ رَوَاح ... وَحِرْصُ النَّفْسِ لِلذُّلِّ الْهَوَانِ
وَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِي الرِّزْقِ حِرْصٌ ... وَلَيْسَ بِنَاقِصٍ مَعَهُ التَّوَانِ
إِذَا الرَّحْمَنُ سَبَّبَ رِزْقُ عَبْدٍ ... أَتَاهُ فِي التَّنَائِي وَالتَّدَانِ
أما الفقير الَّذِي يزين لَهُ الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء ما فِي أيدي النَّاس، فيفسد عَلَيْهِ قَلْبهُ بالوساوس الضارة، والأماني الكاذبة، والأحلام الباطلة، فيحسد النَّاس على ما أتاهم الله من فضله، مبعدًا عَنْ الصبر على الحالة المرضية لا يبالي بأي وسيلة يتمسك بها من الوسائل المحرمة، فِي الوصول إِلَى لذة محرمة لا تغني عَنْهُ شَيْئًا ولا تسد فقره فهو من(2/326)
أشقى خلق الله لأنه بعمله هَذَا يكون قَدْ خسر دنياه وآخرته، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المبين.
وكَذَلِكَ الغني يحتاج إِلَى الصبر على غناه لأنه مكلف بحقوق وواجبات لا يسهل على النفس فعلها من زكاة مال وإنفاق على من يُمُونُه وإغاثة ملهوف ... إلخ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن إظهار البلوى سواء كَانَتْ مرضًا أَوْ فقرًا أَوْ غيرهما إما أن يكون لله تَعَالَى كما قَالَ أيوب عَلَيْهِ السَّلام {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وكما قَالَ يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} فهَذَا لا ينافي الصبر.
وإما أن يكون لغير الله فَإِنَّ كَانَ لحاجة كشرح العلة للطبيب أَوْ بيان المظلمة لمن يقدر على رفعها فإنه لا ينافي الصبر أيضًا ما دام راضيًا بقضاء الله وقدره، فلا يضجر ولا يتبرم مِمَّا ينْزِل به من البَلاء فَإِنِ اشتكى لغير الله من دون فائدة تبرمًا وتضجرًا لم يكن من الصابرين، ولم يستفد من مصيبته سِوَى عذاب الدُّنْيَا.
شِعْرًا: ... ثَلاثٌ يَغُورُ الصَّبْرُ عِنْدَ حُلُولِهَا ... وَيَذْهَلُ عَنْهَا عَقْلُ كُلِّ لَبِيب
خُرُوجُكَ قَهْرًا مِنْ بِلادٍ تَحُبُّهَا ... وَفِرْقَةُ إِخْوَان وَفَقْدُ حَبِيبِ
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وقوله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} .
وَكُلُّ مُصِيبَاتٍ أَتَتْنِي وَجَدْتُهَا ... سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ
فالمراتب ثلاث أخسها أن تشكو الله إِلَى خلقه وأعلاها أن تشكو نفسك إليه وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. انتهى. قَالَ بَعْضُهُمْ:(2/327)
وَيَمْنَعُنِي شَكْوَاي لِلنَّاسِ أَنَّنِي ... عَلِيلٌ وَمَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ عَلِيلُ
وَيَمْنَعُنِي شَكْوَاي لله إِنَّهُ ... عَلِيمٌ بِمَا أَشْكُوهُ قَبْلَ أَقُولُ
آخر: ... لا تَشْكُونَّ إِلَى صَدِيقٍ حَالَةً ... فَاتَتْكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
فَلِرَحْمَةِ الْمُتَوَجَّعِينَ مَضَاضَةٌ ... فِي الْقَلْبِ مِثْلُ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ
وقَدْ أمر الله بالصبر فقَالَ جَلَّ وَعَلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} وقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} وقَالَ {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} وأثنى الله على الصابرين فقَالَ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
وأخبر تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فقَالَ {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهذه معية خاصة تقتضي الحفظ والنصر والتأييد، وأخبر جَلَّ وَعَلا أن الصبر خَيْر لأصحابه، قَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وقَالَ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وإيجاب الجزاء لَهُمْ بأحسن أعمالهم فقَالَ: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأخبر جَلَّ وَعَلا أن جزاءهم بغير حساب، فقَالَ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}
شِعْرًا: ... اصْبِرْا أُخَيَّ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ... وَلا تَقُولَنَّ ذَرْعِي مِنْهَا قَدْ ضَاقَا
فَبِالنَّوَائِبِ مَعَ صَبْرٍ يَجِدْ شَرَفًا ... كَالْبَدْرِ يَزْدَادُ فِي الظَّلْمَاءِ إِشْرَاقَا
فَإِنَّ كَانَ للتسلي أَوْ المواساة فلا بأس
شِعْرًا: ... وَأَبْثَثْتُ عُمْرا بَعْضَ مَا فِي جَوَانِحِي ... وَجَرَّعْتُهُ مِنْ مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ
وَلا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي حَفِيظَةٍ ... يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ
وسيسأل عَنْ ضجره يوم القيامة خُصُوصًا إِذَا كانت شكواه مصحوبة ببَعْض العبارات التِي فيها جراءة على الله لأنه يشكو الإله القادر على المسكين.(2/328)
الضعيف العاجز الَّذِي لا يغني عَنْهُ شَيْئًا كما قِيْل:
(وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابنِ آدَمَ إِنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لا يَرْحَمُ)
فتجد بعض الناس كثير التشكي إلى الناس يستأنس بالشكوى ويتلذذ بها كما قِيْل:
تَلَذُّ لَهُ الشَّكْوَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهَا ... صَلاحًا كَمَا يَلْتَذُّ بِإِلْحَكِّ أَجْرَبُ
فالجاهل يشكو الله إِلَى النَّاس وَهَذَا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف النَّاس لما شكا إليهم لأنهم مساكين عاجزون. وَرُبَّمَا كَانُوا من المتشمتين الَّذِينَ يفرحون عليه ويفرحون بموته.
وَلا تَشَكُّ إِلَى خَلْقٍ لِتُشْمِتَهُ ... شَكْوَى الْجَرِيحِ إِلَى الْغُرْبَانِ وَالرَّخَمِ
آخر: ... كَمْ عَائِد رَجُلاً وَلَيْسَ يَعُودُهُ ... إِلا لِيَنْظُرَ هَلْ يَرَاهُ يَمُوتُ
ورأى بَعْض السَّلَف رجلاً يشكو إِلَى رجل فاقته وضرورته فقَالَ: يَا هَذَا وَاللهِ ما زدت على أن شكوت من يرحمك إِلَى من لا يرحمك والعارف إنما يشكو إِلَى الله وحده.
وأعرف العارفين من جعل شكواه إِلَى الله من نَفْسهُ لا من النَّاس فهو يشكو من موجبات تسليط النَّاس عَلَيْهِ فهو ناظر إِلَى قوله، وأخبر جَلَّ وَعَلا أنه ما يلقى الأَعْمَال الصَّالِحَة وجزاءها والحظوظ عَلَيْهَا إلا الصابرون فقَالَ عَنْ ما قَالَهُ أهل العلم والإيمان {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} . وأخبر جَلَّ وَعَلا أنه ما يلقى الخصلة التِي هِيَ دفع السئة بالحسُنَّة إلا الَّذِينَ صبروا فقَالَ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} الآية.
والصبر أنواع صبر على طاعة الله بالمحافظة عَلَيْهَا دومًا وبرعايتها(2/329)
إخلاصًا. ومن الصبر على طاعة الله وبر الوالدين ما داما موجودين وعدم التضجر والتأفف منهما واحتمال الأذى من القريب والجار والصديق والزميل، ومنه صبر الأستاذة على الطلبة وإحتمال التعب فِي ذَلِكَ، وكَذَلِكَ الأطباء المستقيمين المخلصين فِي معالجة المرضى، وصبر الغني على إخراج زكاته بدقة وصبر المريض والمسافر على الصَّلاة والطهارة لها، وصبر المجاهد والمتعلم والصادق فِي طلبه للعلم والحاج والساعي على الأرَامِل والمساكين.
ومن مشقة السفر وعناء الطلب ومكافحة الأعداء والصبر على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وقول الحق وإن كَانَ مرًا ومساعدة الضعيف والعاجز والعدل فِي الحكم وحفظ الأمانة والإنصاف من النفس والأقارب ومواصلة السعي فِي ما يرضي الله عَزَّ وَجَلَّ وحسن الخلق وإيناس المسلم الغريب والصمت عَنْ الكلام إلا فيما يعود إليك نفعه ومُرَاقَبَة الله فيما يقوله ويفعله.
ودوام الشكر لله وصرف نعمه فِي طاعته، وإحترام أهل الدين وتقديرهم والذب عَنْ إعراضهم إِذَا إنتهكت، والصبر على الأولاد والأهل وحثهم على الصَّلاة والزَّكَاة وسائر الطاعات. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
" فَصْلٌ "
النوع الثانى: الصبر عَنْ معصية الله خوفًا من الله ورجَاءَ ثوابه وحياء من الرب جَلَّ وَعَلا أن يستعان بنعمه على معاصيه، فالصبر عَنْ المعاصي لازم لسعادة الإنسان فِي دنياه وآخرته، فَإِنَّ الله نهى عباده عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ليعيشوا فِي هَذِهِ الحياة الدُّنْيَا مطمئنين، لا ينال أحدهم من عرض أخيه بالقول والْفِعْل ولا يتعدى أحدهم على غيره فِي ماله وبدنه، ولا تغرهم الحياة الدُّنْيَا.(2/330)
وزينتها فيسعون فِي الأرض فسادًا من أجل الحصول على لذاتها المضمخلة الفانية وشهواتها الخداعة الفاسدة.
فمن يصبر على ضبط لِسَانه عَنْ الكلام المحرم فلا يغتاب ولا ينم ولا ينافق بالقول، ولا يكذب ولا يساعد بقوله ظالمًا، ولا يجادل بالْبَاطِل ولا يسخر بالمسلمين ولا يحلف إلا بِاللهِ صادقًا ولا يقذف مسلمًا ولا يخاصم ليقطع حق مُسْلِم ولا يشهد الزور ولا يؤذي مسلمًا بالفحش والبذاء، فإنه بذَلِكَ يتقى آفات لِسَانه التِي تفضي بالمرء إِلَى الهلاك.
ومن صبر على حفظ فرجه فلا يستعمله إلا فيما أحله الله عملاً بقوله تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإنه بذَلِكَ ينجو من شر غوائل الزنا واللواط وكَانَ أمينًا على سلامة عرضه وحفظه من الضياع.
ومن صبر وربط عقله عَنْدَ غضبه فلا يبطش بيده ولا يحقَدْ بقَلْبهُ، وقَدْ ضبط لِسَانه فقَدْ سلم من مظَالِم خلق الله، وكَانَ مسلمًا حقاً كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لِسَانه ويده» . قصة يوسف مَعَ امرأة العزيز وهي تتعلق فِي الصبر، وَمَمْلُوكًا وَالْمَمْلُوك أَيْضًا لَيْسَ وَازِعَهُ كَوَازِعِ الْحُرَّ وَالْمَرْأَة جميلة، وذات منصب وهي سيدة وقَدْ غاب الرقيب وهي الداعية إِلَى نفسها، والحريصة على ذَلِكَ أشد الحرص ومَعَ توعدته بالسجن إن لم يفعل والصغار ومَعَ هَذِهِ الدواعي كُلّهَا صبر اختيارًا وَإيثَارًا لِمَا عَنْدَ الله وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صَبْرِهِ فِي الجب على ما كسبه وكَانَ يَقُولُ: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمَاتَ. وأفضل فَإِنَّ مصلحة فعل الطاعة أحب إِلَى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية. انتهى.(2/331)
قَالَ الإِمَام أحمد رَحِمَهُ اللهُ: ذكر الله سُبْحَانَهُ الصبر فِي القرآن فِي تسعين مَوْضِعًا. انتهى. وهي أنواع: مَنْهَا تعليق الإمامة فِي الدين به وباليقين، قَالَ الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . فبالصبر واليقين، تنال الإمامة فِي الدين. ومنها ظفرهم بمعية الله سُبْحَانَهُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
قَالَ أبو علي الدَّقَّاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته ومنها: أنه جمَعَ للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي الصَّلاة منه عَلَيْهمْ ورحمته لَهُمْ، وهدايته إياهم، قَالَ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وقَالَ بَعْض السَّلَف: وقَدْ عُزِيَ على مصيبة نالته فقَالَ: ما لي لا أصبر وقَدْ وعدني الله على الصبر ثلاث خِصَال، كُلّ خصلة مَنْهَا خَيْر من الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا ومنها: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَهُمْ أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثُمَّ أقسم قسمًا مؤكدًا غاية التأكيد أن صبرهم خَيْر لَهُ فقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} .
فتأمل هَذَا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثُمَّ باللام بعده ثم باللام التِي فِي الجواب. ومنها: أنه سُبْحَانَهُ حكم بالْخُسْرَانُ حكمًا عامًا على كُلّ من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر وَهَذَا يدل على أنه لا رابح سواهم فقَالَ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} .
ولهَذَا قَالَ الشافعى: لو فكر النَّاس كلهم فِي هَذِهِ السورة لوسعتهم وَذَلِكَ أن الْعَبْد كما لَهُ فِي تكميل قوتية، قوة العلم وقوة الْعَمَل وهما الإِيمَان والْعَمَل الصالح وكما هُوَ محتاج إِلَى تكميل نَفْسهُ فهو محتاج إِلَى تكميل غيره وَهُوَ التواصي.(2/332)
بالحق والتواصي بالصبر وَأَخِيَّة ذَلِكَ وقاعدته وساقه الَّذِينَ يقوم عَلَيْهِ إنما هُوَ الصبر.
ومنها: أنه سُبْحَانَهُ خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الَّذِينَ قامت بِهُمْ هاتان الخصلتان ووصوا بها غيرهم فقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} .
وقَالَ: الإنسان لا يستغنى عَنْ الصبر فِي حال من الأحوال فإنه بين أمر يجب عَلَيْهِ امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عَلَيْهِ اجتنابه وتركه، وقَدْ يجري عَلَيْهِ اتفاقًا، ونعمة يجب شكر المنعم عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم إِلَى الْمَمَات.
شِعْرًا: ... كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّينِ
آخر: ... هَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ يَنْقَطِعُ ... وَخَلِّ عَنْكَ عِنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ
فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ ... وَكَلُّ أَمْرٍ إِذَا ما ضَاقَ يِتَّسِعُ
إنَّ الْبَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهدتين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين
" فَصْلٌ "
وكَانَ ما يلقى الْعَبْد فِي هَذِهِ الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومراده، والآخر مخالفه وَهُوَ محتاج إِلَى الصبر فِي كُلّ منهما، أما النوع الموافق لغرضه: فكالصحة والسلامة والجاه والْمَال وأنواع الملاذ المباحة وَهُوَ أحوج شَيْء إِلَى الصبر فيها من وجوه:
أحدهما: أن لا يركن إليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الَّذِي لا يحبه الله وأهله.(2/333)
الثانى: أن لا ينهمك فِي نيلها ويبالغ فِي استقصائها فَإِنَّهَا تنقلب إِلَى أضدادها. فمن بالغ فِي الأكل والشرب والجماع انقلب ذَلِكَ إِلَى ضده وحرم الأكل والشرب والجماع.
الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها.
الرابع: أن يصبر عَنْ صرفها فِي الحرام، فلا يمكن نَفْسهُ من كُلّ ما تريده مَنْهَا فَإِنَّهَا توقعه فِي الحرام، فَإِنَّ احترز كُلّ الاحتراز أوقعته فِي المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون. وقَالَ عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
ولِذَلِكَ حذر الله عباده من فتنة الْمَال والأزواج والأولاد فقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .
ولَيْسَ المراد من هَذِهِ العداوة ما يفهمه كثير من النَّاس، إنها عداوة البغضاء والمحادة بل، إنما هِيَ عداوة المحبة الصادة للأباء عَنْ الهجرة والجهاد وتعلم العلم والصداقة وغير ذَلِكَ من أمور الدين وأعمال البر.
كما فِي جامَعَ الترمذى، مِنْ حَدِيثِ إسرائيل حدثنا سماك عَنْ عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عَنْ هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: هؤلاء رِجَال أسلموا من أهل مَكَّة فأرادوا أن يأتوا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فَلَمَّا أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأوا النَّاس قَدْ فقهوا فِي الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية. قَالَ الترمذى: هَذَا حديث حسن صحيح.
وما أكثر ما فات الْعَبْد من الكمال والفلاح بسبب زوجته وولده وَفِي(2/334)
الْحَدِيث: «الولد مبخلة مجبنة» . وقَالَ الإِمَام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب قَالَ حدثني زيد بن واقَدْ قَالَ حدثني عَبْد اللهِ بن بريدة قَالَ سمعت أبي يَقُولُ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا فَجَاءَ الحسن والحسين عَلَيْهِمَا قميصان أحمران يمشيان ويعثران. فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثُمَّ قَالَ: «صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إِلَى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حَتَّى قطعت حديثي ورفعتهما» . وهذ من كمال رحمته - صلى الله عليه وسلم - ولطفه بالصغار وشفقته عَلَيْهمْ، وَهُوَ تعليم منه للأمة الرحمة والشفقة واللطف بالصغار.
وإنما كَانَ الصبر على السراء شديد لأنه مقرون بالقدرة والجائع عَنْدَ غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عَنْدَ حضوره، وكَذَلِكَ الشبق عَنْدَ غيبة المرأة أصبر منه عَنْدَ حضورها
مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إِلَى الْفِعْل وسهولته على الْعَبْد، فإذا اجتمَعَ فِي الْفِعْل هَذَا الأمران كَانَ الصبر عَنْهُ أشق شَيْء على الصابر وإن فقدا معًا سهل الصبر عَنْهُ، وإن وَجَدَ أحدهما وفقَدْ الآخر سهل الصبر من وجه وصعب من وجه، فمن لا داعي إِلَى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هُوَ مسهل.
فصبره عَنْهُ أيسر شَيْء وأسهله، ومن أشتد داعيه إِلَى ذَلِكَ وسهل عَلَيْهِ فعله فصبره عَنْهُ أشق شَيْء ولهَذَا كَانَ صبر السُّلْطَان عَنْ الظلم، وصبر الشاب عَنْ الفاحشة، وصبر الغنى عَنْ تناول اللذات والشهوات عَنْدَ الله بمكَانَ.
وَفِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «عجب ربك من شاب لَيْسَتْ لَهُ صبوة» . ولِذَلِكَ استحق السبعة المذكورون فِي الْحَدِيث الَّذِينَ يظلهم الله في ظِلّ عرشه لكمال صبره ومشقته، فَإِنَّ صبر الإِمَام المتسلط على العدل فِي قسمه وحكمه.(2/335)
ورضاه وغضبه وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه.
وصبر الرجل على ملازمة المسجد وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حَتَّى عَنْ بعضه وصبر المدعو إِلَى الفاحشة مَعَ كمال جمال الداعي ومنصبه، وصبر الْمُتَحَابِّينَ فِي الله على ذَلِكَ فِي حال اجتماعهما وافتراقهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذَلِكَ وإظهاره للناس من أشق الصبر.
شِعْرًا: ... أَمَا وَالَّذِي لا يَمْلُكُ الأَمْرَ غَيْرُهُ ... وَمَنْ هُوَ بِالسِّرِّ الْمُكَتَّمِ أعْلَمُ
لَئِنْ كَانَ كِتْمَانُ الْمَصَائِبِ مُؤْلِمًا ... لإِعْلانِهَا عِنْدِي أَشَدُّ وَأَعْظَمُ
وَبِي كُلُّ مَا يُبْكِي الْعُيُونَ أَقَلَّهُ ... وَإِنْ كُنْتَ مِنْهُ دَائِمًا أَتَبَسَّمُ
آخر: ... وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ خَزَّ الثِّيَابْ ... وَمِنْ دُونِهَا حَالَةٌ مُضِنيَهْ
كَمَنْ يَكْتَسِي خَدَّهُ حُمْرَةٌ ... وَعَلَّتُهَا وَرَمٌ فِي الرِّيَهْ
ولهَذَا كَانَتْ عقوبة الشَّيْخ الزاني والملك الكذاب والفقير المحتال أشد العقوبات لسهولة الصبر عَنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المحرمَاتَ عَلَيْهمْ لضعف دواعيها فِي حقهم، فكَانَ تركهم الصبر عَنْهَا مَعَ سهولته عَلَيْهمْ دليلاً على تمردهم على الله وعتوهم عَلَيْهِ، ولهَذَا كَانَ الصبر عَنْ معاصى اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتها.
فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضًا وتصريحًا، وحكاية كلام النَّاس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذَلِكَ.
فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر ولهَذَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «أمسك عَلَيْكَ لسانك» . فقَالَ: وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقَالَ: «وهل يكب النَّاس فِي النار على مناخرهم إلا حصاد أَلْسِنَتِهِمْ» .
ولا سيما إِذَا صَارَت المعاصي اللسانية معتادة للعبد، فإنه يعز عَلَيْهِ الصبر(2/336)
عَنْهَا ولهَذَا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النَّهَارَ ويتورع من استناده إِلَى وسادة حرير لحظة واحدة ويطلق لِسَانه فِي الغيبة والنميمة والتفكه فِي أغراض الخلق.
وَرُبَّمَا خص أهل الصلاح والعلم بِاللهِ والدين والقول على الله ما لا يعلم وكثير ممن تجده يتورع عَنْ الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد.
" فَصْلٌ "
وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: يندفع شر الحاسد عَنْ المحسود بعشرة أسباب: أحدهما: التعوذ بِاللهِ من شره والتحصن به واللجأ إليه، والله تَعَالَى سميع لإستعاذته، عليم بما يستعيذ منه. والسمَعَ هنا المراد به سمَعَ الإجابة لا السمَعَ العام فهو مثل قوله: (سمَعَ الله لمن حمده) .
وقول الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} ومرة يُقْرِنَهُ بِالعلم ومرة بالصبر لإقتضاء حال المستعيذ ذَلِكَ.
فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ويعلم كيده وشره فأخبر الله تَعَالَى هَذَا المستعيذ أنه سميع لإستعاذته أي مجيب عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره ليبسط أمل المستعيذ ويقبل بقَلْبهُ على الدُّعَاء.
السبب الثانى: تقوى الله وحفظه عَنْدَ أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إِلَى غيره. قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} . وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس: «احفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك» . فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كَانَ الله حافظه وأمامه فمن يخاف ومن يحذر.
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث(2/337)
نَفْسهُ بأذاه أصلاً. فما نصر على حساده وعدوه بمثل الصبر عَلَيْهِ، ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عَلَيْهِ كَانَ بغيه جندًا وقوة للمبغي عَلَيْهِ المحسود يقاتل به الباغى نَفْسهُ، وَهُوَ لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نَفْسهُ إِلَى نَفْسهُ.
ولو رأى المبغي عَلَيْهِ ذَلِكَ لسره بغيه عَلَيْهِ، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره وماله. وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} فإذا كَانَ الله قَدْ ضمن لَهُ النصر مَعَ أنه قَدْ استوفى حقه أولاً.
فَكَيْفَ بمن لم يستوف شَيْئًا من حقه بل بغى عَلَيْهِ وَهُوَ صابر، وما من الذُّنُوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقَدْ سبقت سُنَّة الله: «أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكًا» .
السبب الرابع: التوكل على الله فمن يتوكل على الله فهو حسبه والتوكل من أقوى الأسباب التِي يدفع بها الْعَبْد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وَهُوَ أقوى الأسباب فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الله حسبه أي كافيه.
ومن كَانَ الله كافيه وواقيه فلا مطمَعَ فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش. وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا. وفرق بين الأذى الذي هُوَ فِي الظاهر إيذاء لَهُ وَهُوَ فِي الحَقِيقَة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضَّرَر الذي يتشفى به منه.
قَالَ بَعْض السَّلَف: جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عَلَيْهِ نفس كفايته لعبده فقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل نؤته كَذَا وَكَذَا من الأجر كما قَالَ فِي الأَعْمَال، بل جعل نَفْسهُ سُبْحَانَهُ كافي عبده المتوكل عَلَيْهِ وحسبه وواقيه، فلو توكل الْعَبْد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل لَهُ ربه مخرجًا من ذَلِكَ وكفاه ونصره(2/338)
السبب الخامس: فراغ الْقَلْب من الإنشغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كُلَّما خطر لَهُ، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه ولا يملأ قَلْبهُ بالفكر فيه، وَهَذَا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على على إندفاع شره فَإِنَّ هَذَا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه.
فإذا لم يتعرض لَهُ ولا تماسك هُوَ وإياه بل إنعزل عَنْهُ لم يقدر عَلَيْهِ. فإذا تماسكا وتعلق كُلّ منهما بصاحبه حصل الشَّر، وهكَذَا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبثها به وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومنامًا، لا يفتر عَنْهُ، وَهُوَ يتمنى أن تماسك الروحان ويتشبثا.
فإذا تعلقت روح كُلّ منهما بالأخرى عدم الْقَرَار، ودام الشَّر حَتَّى يهلك أحداهما، فإذا جبذ روحه منه وصانها عَنْ الفكر فيه والتعلق به، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إِلَى محو ذَلِكَ الخاطر، والإنشغال بما هُوَ أنفع لَهُ وأولى به، وبقى الحاسد الباغي يأكل بعضه بَعْضًا.
فإن الحاسد كالنار، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بَعْضًا، وَهَذَا باب عَظِيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النُّفُوس الشريفة والهمم العلية، وبين الكيس والفطن وبينه حَتَّى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب الْقَلْب والروح إشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شَيْئًا ألم لروحه من ذَلِكَ.
ولا يصدق بهذا إلا النُّفُوس المطمئنة الوادعة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وسكنت إليه، واطمأَنْتَ به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قِيلاً، فعلمت إن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم، وأعظم فائدة من نصرها هِيَ لنفسها، أَوْ نصر مخلوق مثلها، ولا يقوى على هَذَا السبب إلا بالسبب السادس.
وهو الإقبال على الله، والإِخْلاص لَهُ، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه فِي(2/339)
محل خواطر نَفْسهُ، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شَيْئًا فشَيْئًا حَتَّى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية.
فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كُلّهَا فِي محاب الرب، والتقرب إليه وتمليقه وترضيه، وإستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه المحسن إليه الَّذِي قَدْ امتلأت جوانحه من حبه، فلا يستطيع قَلْبهُ إنصرافًا عَنْ ذكره ولا روحه إنصرافًا عَنْ محبته.
فإذا صَارَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقَلْبهُ معمورًا بالفكر فِي حاسده والباغي عَلَيْهِ، والطَرِيق إِلَى الإنتقام منه، والتدبير عَلَيْهِ، هَذَا ما لا يتسع لَهُ إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته.
بل إِذَا مسه طيف من ذَلِكَ واجتاز ببابه من خارجه ناداه حرس قَلْبهُ: إياك وحمى الملك، اذهب إِلَى بيوت الخانات التِي كُلّ من جَاءَ حل فيها، ونزل بها، مالك ولبيت السُّلْطَان الَّذِي أقام عَلَيْهِ اليزك وأدار عَلَيْهِ الحرس، وأحاطه بالسور.
قَالَ تَعَالَى حكاية عَنْ عدوه إبلَيْسَ، أنه قَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، فقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
وقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وقَالَ فِي حق الصديق يوسف صلى الله عَلَيْهِ وسَّلم: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .
فأعظم سعادة من دخل هَذَا الحصن، وصار داخل اليزك، لقد آوى إِلَى حصن لا خوف على من تحصن به ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمَعَ للعدو فِي الدنو إليه منه. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/340)
" فصل ": السبب السابع: تجريد التوبة إِلَى الله مِنَ الذُّنُوب التي سلطت عَلَيْهِ أعداءه، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وقَالَ لخَيْر الخلق وهم أصحاب نبيه دونه - صلى الله عليه وسلم - {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} .
فما سلط على الْعَبْد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أَوْ لا يعلمه، وما لا يعلمه الْعَبْد من ذنوب أضعاف ما يعلمه مَنْهَا، وما ينساه مِمَّا عمله أضعاف ما يذكره، وَفِي الدُّعَاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنَا أعْلَمُ، واستغفرك مِمَّا لا أعْلَمُ» .
فما يحتاج الْعَبْد إِلَى الاستغفار منه مِمَّا لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عَلَيْهِ مؤذ إلا بذنب. ولقى بَعْض السَّلَف رجل فأغلظ لَهُ ونال منه، فقَالَ لَهُ: قف حَتَّى أدخل البيت، ثُمَّ أخَرَجَ إليك، ودخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إِلَى ربه.
ثُمَّ خَرَجَ إليه فقَالَ لَهُ: ما صنعت؟ فقَالَ: تبت إِلَى الله من الذنب الَّذِي سلطك به عليَّ. فلَيْسَ للعبد إِذَا بغى عَلَيْهِ وأوذي وتسلط عَلَيْهِ خصومه شَيْء أنفع لَهُ من التوبة النصوح. وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نَفْسهُ وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة مَنْهَا، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما أنزل به، بل يتولى هُوَ التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عَنْهُ ولا بد.
فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن آثارها عَلَيْهِ، ولكن التَّوْفِيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع. فما كُلّ أحد يوفق لهَذَا، لا معرفة به، ولا إرادة لَهُ، ولا قدرة عَلَيْهِ، ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/341)
" فصل ": السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فَإِنَّ لِذَلِكَ تأثيرًا عجيبًا فِي دفع البَلاء، ودفع العين، وشر الحاسد، ولو لم يكن فِي هَذَا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأَذَى يتسلط على محسن متصدق.
وَإِذَا أصابه شي من ذَلِكَ كَانَ معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد وكَانَتْ لَهُ فيه العافية الحميدة. فالمحسن المتصدق فِي خفارة إحسانه وصدقته، عَلَيْهِ من الله جنة واقية وحصن حصين.
والجملة: فالشكر حارس النعمة من كُلّ ما يكون سببًا لزوالها. ومن أقوى الأسباب: حسد الحاسد والعائن، فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قَلْبهُ حَتَّى تزول النعمة عَنْ المحسود فحينئذ يبرد أنينه، وتنطفئ ناره، لا أطفأها الله.
فما حرس الْعَبْد نعمة الله عَلَيْهِ بمثل شكرها، ولا عرضها للزَوَال بمثل الْعَمَل فيها بمعاصي الله، وَهُوَ كفران النعمة، وَهُوَ باب إِلَى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عَنْهُ وَهُوَ نائم على فراشه، فمن لم يكن لَهُ جند ولا عسكر، وله عدو، فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر، والله المستعان.
السبب التاسع: وَهُوَ من أصعب الأسباب على النفس وشقها عَلَيْهَا، ولا يوفق لها إلا من عظم حظه من الله وَهُوَ إطفاء نار الحسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكُلَّما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا، ازدادت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعَلَيْهِ شفقة.
وما أظنك تصدق بأن هَذَا يكون، فضلاً عَنْ أن تتعاطاه، فاسمَعَ الآن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(2/342)
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قَالَ: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . وتأمل حال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذ ضربه قومه حَتَّى أدموه، فجعل يسلت الدم عَنْهُ وَيَقُولُ: «اللهم اغفر لقومي فَإِنَّهُمْ لا يعلمون» . كيف جمَعَ فِي هَذِهِ الكلمَاتَ أربع مقامَاتَ من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه
أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لَهُمْ، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لَهُمْ بإضافتهم إليه " اغفر لقومي "، كما يَقُولُ الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به، هَذَا ولدي، هَذَا غلامي، هَذَا صاحبي، فهبه لي. واسمَعَ الآن ما الَّذِي يسهل هَذَا على النفس، ويطيبه إليها وينعمها به.
اعْلَمْ إن لَكَ ذنوبًا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عَنْهَا ويغفرها لَكَ ويهبها لَكَ، ومَعَ هَذَا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حَتَّى ينعم عَلَيْكَ ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله.
فإذا كنت ترجو هَذَا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله تلك المعاملة.
فإن الجزاء من حسن الْعَمَل، فكما تعمل مَعَ النَّاس فِي إساءتهم فِي حقك، يفعل معك فِي ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقًا، فانتقم بعد ذَلِكَ أَوْ اعف، وأحسن أَوْ اترك، فكما تدين تدان وكما تفعل معه يفعل معك.
فمن تصور هَذَا المعنى، وشغل به فكره، هان عَلَيْهِ الإحسان إِلَى من أساء إليه، وَهَذَا مَعَ ما يحصل لَهُ بذَلِكَ من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - للذي شكي إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم يسيئون إليه فقَالَ: «لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذَلِكَ» .(2/343)
هَذَا مَعَ ما يتعجله من ثناء النَّاس عَلَيْهِ ويصيرون كلهم معه على خصمه فَإِنَّ كُلّ من سمَعَ إنه محسن إِلَى ذَلِكَ الغير، وَهُوَ مسيء إليه وَجَدَ قَلْبهُ ودعاءه وهمته مَعَ المحسن على المسيء وَذَلِكَ أمر فطري، فطر الله عَلَيْهِ عباده، فهو بذَلِكَ الإحسان قَدْ استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه أقطاعًا ولا خيرًا.
هَذَا مَعَ أنه لا بد له من عدوه وحاسده من إحدى حالتين: أما أن يملكه بإحسانه، فيستعبده وينقاد لَهُ ويذل لَهُ ويبقى النَّاس إليه، وأما يفتت كبده ويقطع دابره، وإن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه.
ومن جرب هَذَا عرفه حق المعرفة، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ والمعين، بيده الْخَيْر كله، لا إله غيره، وَهُوَ المسئول أن يستعملنا وإخواننا فِي ذَلِكَ بمنه وكرمه وَفِي الجملة ففي هَذَا المقام من الفَوَائِد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة.
السبب العاشر: وَهُوَ الجامَعَ لِذَلِكَ كله، وعَلَيْهِ مدار هَذِهِ الأسباب وَهُوَ تجريد التَّوْحِيد، والترحل بالفكر فِي الأسباب إِلَى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بإن هَذِهِ الآيات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه.
فهو الَّذِي يحسن عبده بها، وَهُوَ الَّذِي يصرفها عَنْهُ وحده لا أحد سواه، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «واعْلَمْ أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشَيْء لم ينفعوك إلا بشَيْء كتبه الله لَكَ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشَيْء لم يضروك إلا بشَيْء كتبه الله عَلَيْكَ» .
فيرى أن أعماله فكرة فِي أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص(2/344)
توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكَانَ لَهُ فيه شغل شاغل والله يتولى حفظه والدفع عَنْهُ، ولا بد وإن مزج لَهُ وإن كَانَ مرة ومرة فالله لَهُ مرة ومرة.
كما قَالَ بَعْض السَّلَف: من أقبل على الله بكليته أقبل الله عَلَيْهِ جملة ومن أعرض عَنْ الله بكليته أعرض الله عَنْهُ جملة ومن كَانَ مرة ومرة فالله مرة ومرة، فالتَّوْحِيد حصن الله الأعظم الَّذِي من دخله كَانَ من الآمنين.
قَالَ بَعْض السَّلَف: من خاف الله خافه كُلّ شَيْء، ومن لم يخف الله أخافه من كُلّ شَيْء.
هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، ولَيْسَ لَهُ أنفع من التوجه إِلَى الله وإقباله عَلَيْهِ، وتوكله عَلَيْهِ، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده.
فلا يعلق قَلْبهُ بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قَلْبهُ بغيره ورجاه وخافه وكل إليه وخذل من جهته، فمن خاف شَيْئًا غير الله سلط عَلَيْهِ، ومن رجا شَيْئًا سِوَى الله خذل من جهته وحرم غيره، وهذه سُنَّة الله فِي خلقه، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً.
شِعْرًا: ... وَإِذَا اعْتَمَدْتَ عَلَى الإِلَهِ حَقِيقَةً ... نَمْ فَالْمَخَاوِف كُلّهُنَّ أَمَان
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل عَلَيْنَا بعافيتك وجزيل عفوك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا: ... أَرَى الصَّبْرَ مَحْمُودًا وعنَّهُ مُذَاهِبٌ فَكَيْفَ ... إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَذْهَب
هُنَاكَ يَحِقّ الصَّبْرَ وَالصَّبْر وَاجِب ... وَمَا كَانَ مِنه لِلضَّرُورَة أَوْجَب
هُوَ الْمَهْرَبُ الْمُنْجِي لَمَنْ أَحْدَقَتْ بِه ... مَكَارِه دَهْر لَيْسَ مِنْهُنَّ مَهْرَب(2/345)
اعد خِلالاً فَليه لَيْسَ لِعَاقِلٍ ... مِنَ النَّاس إِنْ انْصَفَن عَنْهُنّ مَرْغَب
لَبُوسُ جَمَالٍ جُنَّةٌ مِنْ شَمَاتَةٍ ... شِفَاءُ آسُّى يُثْنَى بِهِ وَيُثَوَّبُ
فَيَا عَجَبًا لِشَيءٍ هَذِي خِلاله ... وَتَارِكْ مَا فِيهِ مِنْ الْحَظِّ أَعْجَبُ
آخر: ... كُنْ حَلِيمًا إِذَا بُلِيتَ بغَيْضٍ ... وَصَبُورًا إِذَا أَتَتْكَ مُصِيبة
فَاللَّيَالِي كَأَنَّهُنْ حُبَالَى ... مُثْقلات يَلِدْنّ كُلّ عَجِيب
آخر: ... اصْبِرْ فَفِي الصَّبْرِ خَيْر لَوْ عَلِمْتَ بِهِ ... لَكُنْتَ بَارَكْتَ شُكْرَ أَصْحَابِ النِّعَمِ
آخر: ... إِنِّي رَأَيْتُ الصَّبْرَ خَيْر مُعَوَّل ... فِي النَّائِبَاتِ لَمَنْ أَرَادَ مُعَوَّلا
فَإِذَا نَبَا بي مَنْزِلٌ جَاوَزْتُهُ ... وَجَعَلْتَ مِنْهُ غَيْرَهُ لي مَنْزِلا
وَإِذَا غَلا شَيْء عَلَيَّ تَرَكْتُهُ ... فَيَكُونُ أَرْخَصُ مَا يَكُونُ إِذَا غلا
آخر: ... صَبِرْتُ عَلَى بَعْضِ الأَذَى خَوْف كله ... وَأَلْزَمْتُ نِفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَقَرَّت
وَجَرَّعْتُهَا الْمَكْرُوهَ حَتَّى تَدَرَّبَتْ ... وَلَوْ حُمِّلْتَهُ جَمْلَةً لاشْمَأَزَّتْ
فَيَا رَبِّ عِزّ جر لِلنَّفَسِ ذلةً ... وَيَا رَبّ نَفس بِالتَّذَلُل عَزَّتْ
وَمَا الْعِزّ إِلا خِيفَة الله وَحْدَهُ ... وَمَنْ خَافَ مِنْهُ خَافَهُ مَا أقُلْتُ
وَمَا صِدْقُ نَفْسِي إِنَّ فِي الصِّدْقِ حَاجَتِي ... فَارْضي بِدُنْيَايَ وِإِنْ هِيَ قَلَّت
وَاهْجُرْ أَبْوَابِ الْمُلُوكَ فَإِنَّنِي ... أَرَى الْحِرْصَ جَلابَا لِكُلّ مَذَلّة
إِذَا مَا مَدَدْتَ الْكَفَّ الْتَمْس الْغنى ... إِلَى غَيْرَ مَنْ قَالَ اسْأَلُونِي فَشُلَتْ
إِذَا طَرَقَتْنِى الْحَادِثَاتِ بِنَكْبَةِ ... تَذَكَّرْتُ مَا عُوفِيت مِنْه فَقَلَّتْ
وَمَا نَكْبَة إِلا وَللهِ مِنَّةٌ ... إِذَا قَابَلْتَهَا أَدْبَرْتَ وَاضْمَحَلْت
اللَّهُمَّ باعد بيننا وبين خطايانَا كما باعدت بين المشرق والمغرب ونقنا من الخطايا كما ينقى الثوب الأَبْيَض من الدنس، اللَّهُمَّ ظلمنا أنفسنا فاغفر لَنَا ذنوبنا وهب لَنَا تقواك واهدنا بهداك ولا تكلنا إِلَى أحد سواك واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجًا، ومن كُلّ ضيق مخرجًا، اللَّهُمَّ أعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك، واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك واغفر لَنَا(2/346)
ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
"فَصْلٌ "
وكما ورد فِي مدح الصبر والحث عَلَيْهِ آيات، ذكرنا طرفًا مَنْهَا فكَذَلِكَ وردت أحاديث نذكر إن شاء الله طرفًا مَنْهَا من ذَلِكَ ما ورد عَنْ صهيب بن سنان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمر المُؤْمِن إن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ لأحد إلا للمُؤْمِنِ إن أصابته سراء شكر فكَانَ خيرا لَهُ وإن إصابته ضراء صبر فكَانَ خيرًا لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الاشعرى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الطهور شطر الإِيمَان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأَرْض، والصَّلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلّ النَّاس يغدو فبائع نَفْسهُ فمعتقها أَوْ موبقها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
" ما يصيب المُؤْمِن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حَتَّى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أراد الله بعبده الشَّر أمسك عَنْهُ بذنبه حَتَّى يوافى به يوم القيامة» . وَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء، وإن(2/347)
الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا ومن سخط فله السخط» . رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عَنْدَ الْغَضَب» . متفق عَلَيْهِ. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ الترمذي. وقَالَ: حديث حسن صحيح.
وعن مصعب بن سعد عَنْ أبيه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أي النَّاس أشد بَلاء، قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فَإِنَّ كَانَ فِي دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كَانَ فِي دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البَلاء فِي الْعَبْد حَتَّى يمشي على الأَرْض وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والترمذي وقَالَ: حديث حسن صحيح.
عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي جسده وَفِي ماله وَفِي ولده حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة» . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: دخل أعرابي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ لَهُ رسول الله: «أخذتك أم ملدم "؟ قَالَ: وما أم ملدم؟ قَالَ: «حر يكون بين الجلد واللحم» . قَالَ: ما وجدت هَذَا قط. قَالَ: «فهل أخذك الصداع» . قَالَ: وما الصداع. قَالَ: «عرق يضرب على الإِنْسَان فِي رأسه» . قَالَ: ما وجدت هَذَا قط فَلَمَّا ولى قَالَ: «من أحب أن ينظر إِلَى رجل من أهل النار فلينظر إِلَى هَذَا» . رَوَاهُ أحمد.
وعن جابر قَالَ: استأذنت الحمى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «من هَذِهِ» قَالَتْ: أم ملدم فأمر بها إِلَى أَهْل قباء فلقوا مَنْهَا ما يعلم الله فأتوه فشكو ذَلِكَ إليه قَالَ: «ما شئتم إن شئتم أن أدعو الله فيكشفها عنكم وإن شئتم أن تَكُون لكم طهورًا» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ يفعل. قَالَ: «نعم» قَالُوا: فدعها يَا رَسُولَ اللهِ.(2/348)
شِعْرًا: ... تَطْرُقُ أَهْلُ الْفَضْلِ دَونَ الْوَرَى ... مَصَائِب الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا
كَالطَّيْرِ لا يُسْجَنُ مِنْ بِيْنَهَا ... إِلا الَّتِي تُطْرَبُ أَصْوَاتُهَا
ولابن حبان فِي صحيحه من رواية العلاء بن المسيب عَنْ أبيه عَنْ سعد قَالَ: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي النَّاس أشد بَلاء قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس على حسب دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بَلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البَلاء حَتَّى يمشي فِي النَّاس وما عَلَيْهِ خطيئة» .
وعن أبي سعيد أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ موعوك عَلَيْهِ قطيفة فوضع يده فوق القطيفة، فقَالَ: ما أشد حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا البَلاء ويضاعف لَنَا الأجر» .
ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ من أشد النَّاس بَلاء؟ قَالَ " الأَنْبِيَاء "، قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الْعُلَمَاء» . قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الصالحون كَانَ أحدهم يُبْتَلى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُله وَيُبْتَلى أَحدهم بالفقر حَتَّى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولا أحدهم كَانَ أَشد فَرَحًا بالبَلاء من أحدكم بالعطاء» . رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والحاكم واللفظ لَهُ وقَالَ: صحيح على شرط مُسْلِم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليكون لَهُ عَنْدَ الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حَتَّى يبلغه إياها» . رَوَاهُ أبو يعلى وابن حبان فِي صحيحه من طريقه وَغَيْرِهمَا.
وعن مُحَمَّد بن خالد عَنْ أبيه عَنْ جده وكَانَتْ لَهُ صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إن الْعَبْد إِذَا سبقت لَهُ من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله فِي جسده، أَوْ ماله، أَوْ فِي ولده، ثُمَّ صبر على ذَلِكَ حَتَّى يبلغه المنزلة التي سبقت لَهُ من الله عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود وأبو يعلى والطبراني فِي الكبير والأوسط.(2/349)
وَرُوِيَ فيه أيضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليجرب أحدكم بالبَلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنه ما يخَرَجَ كالذهب الإبريز فذاك الَّذِي حماه الله من الشبهات ومنه ما يخَرَجَ دون ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي يشك بَعْض الشك ومنه ما يخَرَجَ كالذهب الأسود فَذَلِكَ الَّذِي افتتن» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
"موعظة "
عباد الله كلنا ولله الحمد قَدْ رضي بِاللهِ ربًا وبالإسلام دينًا، وبمُحَمَّد نبيًا ورسولاً، وبالقرآن إمامًا، والكعبة قبلة، وبالْمُؤْمِنِينَ إِخوانًا وتبرأنَا من كُلّ دين يخالف دين الإِسْلام، وآمنا بكل كتاب أَنزله الله وبكل رسول أرسله الله، وبملائكة الله وبالقدر خيره وشره وبالْيَوْم الآخِر وبكل ما جَاءَ به مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الله، على ذَلِكَ نحيا وعَلَيْهِ نموت، وعَلَيْهِ نَبْعَث إنشاء الله من الآمنين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون بفضله وكرمه.
ثُمَّ اعلموا معاشر الإِخْوَان أنَّه من رضي بِاللهِ ربًا لزمه أن يرضى بتدبيره، واختياره لَهُ، وبمر قضائه، وأَن يقنع بما قسم لَهُ من الرزق، وأن يداوم على طاعته، ويحافظ على فرائضه، ويجتنب محارمه، ويكون صابرًا عَنْدَ بلائه، موطنًا نَفْسهُ على ما يصيبه من الشدائد، بعيدًا كل البعد عَنْ نار الجزع، التي تتأجج فِي قلب كُلّ امرئ يجهل بارئه ومولاه.
فإن رَأَيْت نفسك أيها الأخ تريد أن تجزع عَنْدَ ملمة، فقف أمامها موقف الناصح القدير، أفهمها أنها هِيَ السبب فيما أنزل الله بها من بَلاء صغير أَوْ كبير.
وإن لم تصدقك فاقرأ عَلَيْهَا قول الله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} فإنها إِذَا سمعت ذَلِكَ وجهت اللوم(2/350)
إلى نفسها على معاصيها، وهدأت الثورة الثقِيْلة.
وأفهمها أن لَيْسَ بينها ولا بين ربها عداوة، فإنه بعباده الرءوف الرحيم، وأفهمها أن البلايا قَدْ تلزم الْعَبْد حَتَّى يصبح مغفورة ذنوبه كُلّهَا، صغيرها، والكبير، وأفهمها أن نتيجة ذَلِكَ أن صَاحِب البلايا يأتي يوم القيامة فِي أمن مولاه الكريم.
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يصب منه» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَفِي حديث أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا» .
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء وإن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم» . الْحَدِيث.
وفي حديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزل البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله تَعَالَى وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ الترمذي، وقَالَ: حديث حسن صحيح، أَفْهِمْ نفسك كُلّ ذَلِكَ فإنه يخفف عَنْهَا آلام البلايا، وَرُبَّمَا جعلها من المحبوبات.
وأفهمها أن الله وعد الصابرين أن يجزيهم أجرهم بغير حساب وأفهمها أن الله حكيم فِي كُلّ تصرفاته، وقل لها أن الجزع لا يرد ما نزل من البلاء أبدًا، بل ما دبره الحكيم العليم لا بد من وقوعه فلا فائدة فِي الجزع والحزن، وقل إن عاقبة الجزع والتسخط النار، وعاقبة الصبر والرِّضَا بما قضاه الله الْجَنَّة، وقل أن شماتة الأعداء فِي الجزع، وغيظهم فِي الصبر، الَّذِي يتأكد لزومه على الرِّجَال والنساء.
وتأكد واطمئن أنها إِذَا سمعت منك كُلّ ذَلِكَ رضيت بإذن الله كُلّ الرِّضَا، ولزمت الآداب، فتعيش كُلّ حياتها تروح وتغتدي فِي جنة رضاها،(2/351)
مهما برحت بها البلايا والأوصاب، وبذَلِكَ مَعَ توفيق الله تَعَالَى تجمَعَ بين سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة وهكَذَا تَكُون عواقب الصابرين الأبطال.
شِعْرًا: ... وَأَصْبَحْتُ فِيمَا كُنْتُ أَبْغِي مِنَ الْغِنَا ... إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَحْوَجَا
وَحَسِبْتُ نَفْسِي بَيْنَ وَبَيْتِي وَمَسْجِدِي ... وقَدْ صِرْتُ مِثْل النِّسْرِ أَهْوَى التَّعَرّجَا
آخر: ... مَا أَحْسَنَ الصَّبْر فِي الدُّنْيَا وَأَجْمَلَهُ ... عَنْدَ الإِلَهِ وَأنْجَاهْ مِنْ الْجَزَعِ
مَنْ شَدَّ بِالصَّبْرِ كَفًا عِنْدَ مُؤْلِمَةٍ ... أَلْوَتْ يَدَاهُ بِحَبْلٍ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ
اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا ويسر أمورنا وأحسن منقلبنا وأيدنا بروح منك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه وثبتنا بالقول الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة واغفر لَنَا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وأصلح ذات بينا وألف فِي طَاعَتكَ وطاعة رسولك بين قلوبنا واغفر لَنَا ولوالدين وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
ويكفي فِي مدح الصبر وشرفه وعلو مكانته وأَنَّه لا يناله إلا من وفقه الله، أن الصبر طريقة الرسل عَلَيْهمْ أفضل الصَّلاة والسَّلام، فقَدْ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وصفوة خلقه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} ، وقَالَ: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
فبين تَعَالَى أن كُلَّ رسول أرسله إِلَى أمة من الأمم لاقى أذىً وألمًا من قومه وتكذيبًا، وقَالَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: آمرًا ومسليًا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الآية.
ألا وإن من حكمة الله فِي تعريض صفوة خلقه لهذه المكاره والأذايا(2/352)
وفي أمرهم بالصبر عَلَيْهَا إفهامًا لخلقه أَنَّ الدُّنْيَا دار بَلاءٍ واختبارٍ، لا دار مقامٍ ولذةٍ، واستقرارٍ، وأنها محدودة الأجل، مقصود مَنْهَا صالح الْعَمَل.
فَانْظُرْ إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلام وما نزل به الآلام والأحزان أَخْرَجَهُ الله بفتنة إبلَيْسَ من جنته وأهبطه إِلَى الأَرْض ليعمرها هُوَ وأبناؤه، وهي دار العناء والفناء وذاق ثكل ولده هابيل باعتداء أخيه عَلَيْهِ قابيل.
وانظر أول رسول أرسل إِلَى أَهْل الأَرْض نوح عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام وقَدْ مكث يدعو قومه ألف سُنَّة إلا خمسين عامًا (950) وهم يهزؤون ويسخرون منه يدعوهم ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا ولم يتوانَا ولم يضجر ولم يمل بل واصل الجهود النبيلة الْخَالِصَة الكريمة بلا مصلحة لَهُ ولا منفعة مِنْهُمْ.
ويحتمل فِي سبيل هَذِهِ الدعوة الاستكبار والإعراض، هَذِهِ المدة الطويلة والمستجيبون لا يزيدون، والمعرضون فِي زيادة، ولما أيس من إيمانهم أمر أن يصنع الفلك فكَانُوا إِذَا مروا عَلَيْهِ ضحكوا منه وسخروا وقَالُوا كَانَ بالأمس نبيًا والْيَوْم نجارًا ولا يزيد من جوابه على أن يَقُولُ: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحَِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .
وزَادَ بلاؤه أن أُغْرِقَ ابنه ينظر إليه ولا يستطيع لَهُ إنقاذًا إذ قَدْ غلب على الابن الشقاء فناجى ربه نوح فقَالَ لَهُ ربه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
ثُمَّ انظر إِلَى شيخ المرسلين وَجَدَ الْمُسْلِمِين خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلام وما تجرع من الغصص والآلام فقَدْ جد فِي دعوة أبيه إِلَى التَّوْحِيد حَتَّى هدده أبوه بالرجم والتعذيب وقومه قَالُوا: اقتلوه أَوْ احرقوه ثُمَّ ما جرى عَلَيْهِ حين أمر بذبح ابنه فأقَدِمَ عَلَى ذلك.(2/353)
ثُمَّ انظر إِلَى مُوَسى وما جرى عَلَيْهِ وما لا قى فِي أول أمره وآخره مَعَ فرعون لعنه الله وقومه ثُمَّ انظر إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام وما لقيه من قذف أمه وقذفه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا واضطهاد بنى إسرائيل قومه حَتَّى ائتمروا على صلبه.
ثُمَّ انظر إِلَى لوط عَلَيْهِ السَّلام وما جرى لَهُ مَعَ قومه المنحرفين الشاذين المستهترين بالنذر، قَالَ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الآية، فصبر إِلَى أن نصره الله وأرسل على قومه حاصبًا وجعل عاليها سافلها واللهُ على كُلّ شَيْء قدير وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير.
شِعْرًا: ... ثَمَانِيَةٌ حَتْمٌ عَلَى سَائِرِ الْوَرَى ... فَكُلّ امْرِئٍ لا بُدَّهُ مِنْ ثَمَانِيَهْ
سُرُورٌ وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَة ... وَعُسْر وَيُسْر ثُمَّ سِقَم وَعَافِيَهْ
آخر: ... إِنَّ الْحَيَاةَ مَنَامٌ وَالْمَآل بِنَا ... إِلَى انْتِبَاه وَآتٍ مِثْل مُنْعَدِمِ
وَنَحْنُ فِي سَفَرٍ نَمْضِي إِلَى حُفَرٍ ... فَكُلُّ آنٍ لَنَا قُرْبٌ مِنْ عَدَمِ
وَالْمَوْتُ يَشْمُلُنَا وَالْحَشْرُ يَجْمَعُنَا ... وَبِالتُّقَى الْفَخْرُ لا بِالْمَالِ وَالْحَشَمِ
صُنْ بِالتَّعَفُّفِ عِزَّ النَّفْسَ مُجْتَهِدًا ... فَالنَّفْس أَعْلَى مِن الدُّنْيَا لِذِي الْهِمَم
وَاغْضُضْ عُيُونَكَ عَنْ عَيْب الأَنَام وَكُنْ ... بِعَيْبِ نَفْسِكَ مَشْغُولاً عَنْ الأُمَمِ
فَإِنَّ عَيْبَكَ تَبْدُو فِيكَ وَصَمْتُهُ ... وَأَنْتَ مِنْ عَيْبِهِمْ خَال مِنَ الوَصْم
جَازِي الْمُسِيء بِإِحْسِانٍ لِتَمْلِكَهُ ... وَكُنْ كَعَوْدٍ يِفُوحُ الطِّيب فِي الضَّرْمِ
وَمَنْ تَطَلَّبَ خِلا غَيْرَ ذَي عِوَجٍ ... يَكُنْ كَطَالِبِ مَاءٍ مِنْ لَظَى الْفَحْمِ
وقَدْ سَمِعْنَا حِكَايَاتِ الصِّدْيِق وِلَمْ ... نَخُلْهُ إِلا خَيَالاً كَانَ فِي الْحِلْمِ
إِنَّ الإقَامَةِ فِي أَرْضٍ تُظَام بِهَا ... وَالأَرْضُ وَاسِعَةٌ ذُلٌّ فَلا تُقِمِ
وَلا كَمِال بِدَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا ... فَيَا لَهَا قِسْمَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْقِسَمِ
دَارٌ حَلاوَتُهَا لِلْجَاهِلِينَ بِهَا ... وَمُرُّهَا لِذَوِي الأَلْبَاب وَالْهِمَمِ
أَبْغِي الْخَلاصِ وَمَا أَخْلَصْتَ فِي عَمَلٍ ... أَرْجُو النّجَاة وَمَا نَاجَيْتَ فِي الظُّلْمِ
لَكِنْ لِي أَملاً فِي الله يُؤْنِسُنِي ... وَحُسْنُ ظَنِّ بِهِ ذَا الْجُود وَالْكَرَمِ(2/354)
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكْ فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الأَبْرَار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللهم وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى خدمتك وحسن الآدَاب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحياء مِنْهُمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله صحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
ثُمَّ انظر إِلَى خطيب الأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلام، وما لا قى من قومه المتمردين على الحق والعدل، المفسدين فِي الأَرْض قطاع الطرق، والظلمة الَّذِينَ يفتنون النَّاس عَنْ دينهم، ويصدونهم، المقاتلين لمن يدعوهم إِلَى الأَعْمَال الصَّالِحَة والأَخْلاق الفاضلة بالقَسْوَة والغلظة، حيث يقولون: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ} الآية.
ثُمَّ انظر إِلَى صالح عَلَيْهِ السَّلام حين دعاء قومه وما قابلوه به حين جَاءَ بالبينة الدالة على صدقه، فيعتدون عَلَيْهَا ويتحدونه باستعجال الْعَذَاب.
ثُمَّ انظر إِلَى هود عَلَيْهِ السَّلام، واتهام قومه لَهُ بالسفاهة والكذب بلا ترو مِنْهُمْ ولا تدبر ولا دَلِيل، وأخيرًا يتحدونه بالْعَذَاب.
وانظر إِلَى يونس وما لقي من قومه حَتَّى ضاق صدره بتكذيب قومه فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضبًا آبقًا فقاده الْغَضَب إِلَى شاطئ
البحر، حيث ركب سفينةً مشحونةً وَفِي وسط لجة البحر ناوأتها الرياح والأمواج وأشرفت على الغرق، فساهموا على أن من تقع القرعة عَلَيْهِ يلقى فِي(2/355)
البحر لتخف السَّفِينَة فوقعت القرعة على يونس نَبِيّ اللهِ ثلاث مرات وهم يبخلون به أن يلقى من بينهم.
فتجرد من ثيابه ليلقي نَفْسهُ وهم يأبون عَلَيْهِ ذَلِكَ، وأمر الله تَعَالَى حوتًا من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عَلَيْهِ السَّلام، ولا يهشم لَهُ لحمًا ولا يكسر لَهُ عظمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الحوت وألقى يونس نَفْسهُ فالتقمه الحوت وذهب به.
ولما استقر يونس فِي بطن الحوت حسب أنه قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حرك رأسه ورجليه، وأطرافه، فإذا هُوَ حي فقام فصلى فِي بطن الحوت، وكَانَ من جملة دعائه يَا رب اتخذت لَكَ مَسْجِدًا فِي موضع لم يبلغه أحد من النَّاس، فهَذَا ما لقيه يونس عَلَيْهِ السَّلام، ذكر ذَلِكَ بَعْض الْعُلَمَاء رحمهم الله.
ثُمَّ إِلَى ما لقيه صفوة الخلق مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - من قومه، من التكذيب والاستهزاء، والإيذاء في نَفْسهُ، وفيمن يتبعه من المستضعفين، حَتَّى ائتمروا على قتله، فهاجر إِلَى الْمَدِينَة تاركًا وطنه وعشيرته، وانظر ما لقيه فِي حروبهم، وقَدْ جرحوه، وكسروا رباعيته حَتَّى سال دمه.
إذا نظرت إِلَى ذَلِكَ وإلى غيره علمت أنَّ الدُّنْيَا مشحونة بالمصائب والانكاد، وأنها دار ممر لا دار مقر، ولو كَانَتْ دار مقر واطمئنان، لكَانَ أولى بذَلِكَ رسل الله، وأنبياؤه، وأصفياؤه فالعاقل من يحرص على عقيدته الدينية كما يحرص على روحه فيحصنها من الزيغ والضلال، ويقوم بما فرض الله عَلَيْهِ، ويجتنب ما نهى الله عَنْهُ صابرًا على ما قدره الله عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن لتسهيل(2/356)
المصائب والشدائد البدنية والمالية أسباب إِذَا قارنت حزمًا وصادقت عزمًا هان وقعها، وقل تأثيرها على الدين والْقَلْب والبدن، بأذن الله تَعَالَى.
فأَوَّلاً الآيات وَالأَحَادِيث المتقدمة التي فيها مدح الصابرين وبشارتهم ووعدهم بالجزاء الحسن ومن ذَلِكَ أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة فِي الآخِرَة وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر من عكس ذَلِكَ.
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «حفت الْجَنَّة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "، وكَذَلِكَ قوله فِي الصحيح: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من أَهْل النار فيصبغ فِي النار صبغة، ثُمَّ يقَالَ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب، ويؤتى بأشد النَّاس بؤسًا فِي الدُّنْيَا من أَهْل الْجَنَّة فيصبغ فِي الْجَنَّة صبغة فيقَالَ لَهُ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب " الْحَدِيث.
ومن ذَلِكَ استشعار النفس بما تعلمه من نزول الْفَنَاء وتقضي المسار، وأن لها آجالاً منصرمةٌ ومددًا منقضيةً، إذ لَيْسَ للدنيا حالٌ تدوم ولا لمخلوق عَلَيْهَا بقاء كما قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} .
شِعْرًا: ... بَنُو الوَقْتِ مِنْ فَجَعَاتِهِ فِي تَمَزُّقٍ ... فَكُلَهُمْ يَغْدُو بِشَلْوٍ مُقَدَّدِ
وَإِنَّي رَأَيْتُ الوَقْتَ جَمًّا خُطُوبُهُ ... وَإِنْ لَمْ يُرَوْعْ حَادِث فكَأَنْ قَدِ
وروى ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ما مثلي ومثل الدُّنْيَا إلا كمثل راكب مال إِلَى ظِلّ شجرة فِي يوم صائف ثُمَّ راح وتركها» .
ومنها أن يتصور انحلال الشدائد وانكشاف الهموم وأن الله قدرها فأوقات لا تنصرم قبلها ولا تستديم بعدها فلا تقصر تلك الأوقات بجزع(2/357)
ولا تطول بصبر، وأن كُلّ يوم يمر بها يذهب مَنْهَا بشطر ويأخذ مَنْهَا بنصيب حَتَّى تنجلي وتنفرج ويزول ما كَانَ من المكاره والخطوب.
وقَدْ قص الله عَلَيْنَا فِي كتابه قصصًا تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة كما قص نجاة نوح ومن معه في الفلك من الكرب العظيم مع إغراق سائر أهل الأرض.
وكما قص نجاة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام من النار حين ألقاه المشركون فِي النار وأنه جعلها بردًا وسلامًا، وكما قص قصة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام مَعَ ولده الَّذِي أمر بذبحة، ثُمَّ فداه الله بذبح عَظِيم.
وكما قص قصة مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام مَعَ أمه لما ألقته فِي اليم حَتَّى التقطه آل فرعون، وقصته مَعَ فرعون لما نجى الله سُبْحَانَهُ مُوَسى وأغرق عدوه فرعون وقَوْمه.
وكما قص قصة أيوب ويونس ويعقوب، ويوسف عَلَيْهمْ السَّلام قصة قوم يونس لما آمنوا، وكما قص قصص مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ونصره على أعدائه بإنجائه مِنْهُمْ فِي عدة مواطن، مثل قصته فِي الغار، وقصة يوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين.
وكما قص الله قصة عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأرضاها فِي حديث الإفك وبرأها الله مِمَّا رميت به، وقصة الثلاثة الَّذِينَ خلفوا حَتَّى إِذَا ضاقت عَلَيْهمْ الأَرْض بما رحبت، وضاقت عَلَيْهمْ أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثُمَّ تاب عَلَيْهمْ ليتوبوا.
وَفِي السُنَّة من هَذَا المعنى شَيْءٌ كثير مثل قصة الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار فانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة، فدعوا الله بأَعْمَالُهُمْ الصَّالِحَة، ففرج الله عنهم، ومثل قصة إبراهيم وسارة مَعَ الجبار الَّذِي طلبها من إبراهيم ورد الله كيد الفاجر.(2/358)
وَإِذَا اشتد الكرب وعظم الخطب كَانَ الفرج قريبًا فِي الغالب بإذن الله قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} ، وقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .
وأخبر عَنْ يعقوب أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقَالَ لإخوته: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، وقَالَ: عَسَى الله إن يأتيني بِهُمْ جميعًا، ومن لطائف اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إِذَا اشتد، وعظم وتناهى، وُجِدَ الإياس من كشفه من جهة المخلوق، ووقع التعلق بالخالق.
كما قَالَ الإِمَام أحمد واستدل عَلَيْهِ بقول إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما عرض لَهُ جبريل عَلَيْهِ السَّلام فِي الهواء، وقَالَ: ألك حَاجَة، فقَالَ: أما أليك فلا وإما إِلَى الله فبلَى والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج.
فإن الله يكفي من توكل عَلَيْهِ كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، ومنها أن الْعَبْد إِذَا اشتد عَلَيْهِ الكرب فإنه يحتاج حينئذ إِلَى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه ومنها أن المُؤْمِن إِذَا استبطأ الفرج وآيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر لَهُ أثر الإجابة رجع على نَفْسهُ باللأَئِمَّة وَيَقُولُ لها إنما أتيت من قبلك ولو كَانَ فيك خيرًا لأجبت وَهَذَا اللوم أحب إِلَى الله من كثير من الطاعات. أ. هـ.
شِعْرًا: ... وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ تَنْقَطِعُ ... وَخَلّ عَنْكَ عَنَانَ يَنْدَفِعُ
فَكُلّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجُ ... وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا ضَاق يَتَّسِعُ
إِنَّ البَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... فَاللهُ يُفَرِّجَهُ وَسَوْفَ يَنْقَطِعُ
آخر: ... إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ ... وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَأَوْطَأَتْ الْمَكَارِهْ وَاطْمَأَنَّتْ ... وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبِ(2/359)
وَلَمْ تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ... وَلا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٍ ... يَمُنُّ بِهِ اللطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرِيبُ
آخر: ... إِنَّ الأُمُورَ إِذَا مَا اللهُ يَسَّرَهَا ... أَتَتْكَ مِنْ حَيْثُ لا تَرْجُو وَتَحْتَسِب
وَكُلُّ مَا لَمْ يُقَدِّرَهُ الإِلَهُ فَمَا ... يُفِيدُ حِرْصُ الْفَتَى فِيهِ وَلا النَّصَبُ
ثِقْ بِالإِلَهِ وَلا تَرْكَنُ إِلَى أَحَدٍ ... فَاللهُ أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَ وَيُرْتَقَبُ
آخر: ... وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ ... يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ ... وَفَرَّجَ لَوْعَةَ الْقَلْبِ الشَّجِيِّ
وَكَمْ هَمٍّ تُسَاءُ بِهِ صَبَاحًا ... فَتَعْقُبُهُ الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِي
إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الأَسْبَابُ يَوْمًا ... فَثِقْ بِالْوَاحِدِ الأَحَدِ الْعَلِيِّ
وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
" فَصْلٌ "
ومنها أن يتسلَّى بذوِي الغير، ويتسلَّى بأولى العبر، ويعلم أنهم الأكثرون عددًا والأسرعون مددًا، فيستجد من سلوة الأسى وحسن العزاء إِلَى ما يخفف حزنه ويقلل هلعه. وقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الصقوا بذوي الغير تتسع قلوبكم. أي الَّذِينَ تنتقل أحوالهم إذ يتسلى مرقع الخف بالَّذِي مخرق خفه، ويتسلى مخرق الخف بالحاسر الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، وتسلى الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء بالأعرج، والأعرج بالأقطع، وهكَذَا كُلّ يتسلى بمن هُوَ أعظم منه فِي المصيبة.
والدُّنْيَا إِذَا تأملها اللبيب وجدها كُلّهَا متاعب وبلايا ومصائب، وقَدْ أحاطت بِالنَّاسِ من رؤوسهم إِلَى أقدامهم، فتَرَى مصابًا بالعلل والأسقام كُلَّما برئ من علة أصابته علة أخرى، كُلَّما شفاه الله من مرض جاءه مرض(2/360)
آخر، وتجد هَذَا مصابًا بعقوق الأبناء لأنهم خرجوا عَنْ الصراط المستقيم، وسلكوا طَرِيق الشيطان، وتجد الآخر مصابًا بسوء خلق زوجته فهو معها دَائِمًا فِي شقاق وعناء ونشوز ولجاج.
وتجد مصابًا بالفقر المدقع وَهَذَا تجده مصابًا بالعقم، وَهَذَا تجده مصابًا بكساد تجارته، وَهَذَا مصابًا ببوار زراعته، أَوْ صناعته، وَهَذَا مصابًا بجيران سوء يذيعون ما يسوءُ ويكتمون الْخَيْر، وتجده معهم دَائِمًا فِي لجاج، وَهَذَا تجده مَعَ أقربائه فِي شقاق وقطيعة، وشكاوى وتردد بين المحاكم والمناطق، وَهَذَا تجدع مَعَ شركائه أَوْ مَعَ أرحامه كَذَلِكَ فِي نكد.
وتَرَى هَذَا لا حظ لَهُ فِي الحياة يجد ويجتهد ولا ينال مناه ويشقى ويتعب ولا يحصل على مبتغاه، وَهَذَا تجده مسلطين عَلَيْهِ والديه أَوْ أحدهما وَهَذَا تجده مظلومًا وَهَذَا مسجونًا، وهكَذَا إِلَى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عَنْدَ حد ولا يحصيها عد، ولَقَدْ صدق من قَالَ:
شِعْرًا: ... كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ يَشْكُو دَهْرَهُ ... لَيْتَ شِعْرِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِمَنْ
آخر: ... أَلَحَّ عَلَيَّ السُّقْمُ حَتَّى أَلِفْتُهُ ... وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ
آخر: ... تَعَوَّدْتُ مَسَّ الشَّرَّ حَتَّى أَلِفْتُهُ ... وَأَسْلَمَنِي طُولُ البَلاءِ إِلَى الصَّبْرِ
وَوَسَّعَ صَدْرِي لَلأَذَى كَثْرَةُ الأَذَى ... وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يضيق به صَدْرِي
إِذَا أَنَا لِمْ أَقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ كُلَّمَا ... تَكَرَّهْتُهُ قَدْ طَالَ عُتْبِي عَلَى الدَّهْرِ
آخر: ... رُوِّعْتُ بَالْبَيْنِ حَتَّى مَا أَرَاعَ لَهُ ... وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِ
آخر: ... تَعَزَّ بِحِسْنِ الصَّبْرِ عَنْ كُلِّ هَالِكِ ... فَفِي الصَّبْرِ مَسْلاةُ الْهُمُوم اللوَازِمِ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْبِرْ عَزَاءً وَحِسْبَةً ... سَلَوْتَ كَمَا تَسْلُو قُلُوبُ الْبَهَائِمِ
آخر: ... ولما رَأَيْتُ الوَقْتَ يُؤْذِنُ صَرْفُهُ ... بِتَفْرِيقِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَبَائِبِ
رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَوَطَّنْتُهَا عَلَى ... رُكُوبِ جَمِيل الصَّبْرِ عَنْدَ النَّوَائِبِ
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا ... فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ(2/361)
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا ... فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ
فَخُذْ خِلْسَةً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ تَعِيشُهُ ... وَكُنْ حَذِرًا مِنْ كَآمِنَاتِ الْعَوَاقِبِ
آخر: ... وَمَا خَيْرَ عَيْشُ نِصْفُهُ سِنَةُ الْكَرَى ... وَنِصَفٌ بِهِ نَعْتَلُ أَوْ نَتَوَجَّعُ
مَعَ الوَقْتِ يَمْضِي بُؤْسُهُ وَنَعِيمُهُ ... كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالوَقْتُ عُمْرُكَ أَجْمَعُ
آخر: ... طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا ... صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضَدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبُ فِي النَّارِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ... تَبْني الرَّجَاءَ عَلَى شَفِِيرٍ هَارٍ
آخر: ... وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْنِي فِرَاقًا رَأَيْتُهُ ... وَلا أَعْلَمَتْنِي غَيْرَ مَا الْقَلْبِ عَالِمُهُ
آخر: ... وَهَبْنِي مَلَكْتُ الأَرْضَ طُرَّا وَنِلْتُ مَا ... أُنِيلَ ابْنُ دَاودٍ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ
أَلَسْتُ أَخَلِّيهِ وَأُمْسِي مُسَلَّمًا ... بِرَغْمِي إِلَى الأَهْوَالِ فِي مَنْزِلٍ ضَنْكِ
آخر: ... مَتَى تَسْتَزِدْ فَضْلاً مِنَ الْعُمْرِ تَغْتَرِفْ ... بِسِجِلَّيْكَ مِنْ أَرْيِ الْخُطُوبِ وَصَابِهَا
يُسَرُّ بِعُمْرَانِ الدِّيَارِ مُظَلَّلٌ ... وَعُمْرَانُهَا يَدْنُوهُ بِهَا مِنْ خَرَابِهَا
وَلَمْ ارْتَضِ الدُّنْيَا أَوَانَ مَجِيئَهَا ... فَكَيْفَ أَرْتَضِائيها أَوْانَ ذَهَابِهَا
آخر: ... لَمْ يَبْقَ فِى الْعَيْشِ غَيْرَ الْبُؤْسِ وَالنَّكَدِ ... فَاهْرَبْ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ كَمَدِ
مَلأَتَ يَا دَهْرُ عَيْنِي مِنْ مَكَارِهِهَا ... يَا دَهْرُ حَسْبُكَ قَدْ أَسْرَفْتَ فَاقْتَصِدْ
قَالَ ابن الجوزى: ولولا الدُّنْيَا دارُ ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار ولم يضق العيش فيها على الأَنْبِيَاء والأخيار فآدم يعاني المحن إِلَى أن خَرَجَ من الدُّنْيَا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حَتَّى ذهب بصره، ومُوَسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن. وعيسى بن مريم لا مأوى لَهُ إلا البراري فِي العيش الضنك ومُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - يصابر الفقر وقتل عمه حمزة، وَهُوَ من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عَنْهُ، وقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن وجنة الكافر» . فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها وقَالَ: رَأَيْتُ جمهور النَّاس إِذَا طرقهم المرض أَوْ غيره من المصائب اشتغلوا تَارَّة بالجزع والشكوى، وتَارَّة بالتداوي، إِلَى أن يشتد عَلَيْهمْ فيشغلهم اشتداده عَنْ الالتفات إِلَى(2/362)
المصالح، من وصية أَوْ فعل خَيْر أَوْ تأهب للموت. فكم ممن لَهُ ذنوب لا يتوب مَنْهَا أَوْ عنده ودائع لا يردها، أَوْ عَلَيْهِ دين أَوْ زكاة أَوْ فِي ذمته ظلامة لا يخطر لَهُ تداركها، وإنما حزنه على فراق الدُّنْيَا إِذَا لا هم لَهُ سواها وَرُبَّمَا أفاق وأوصى بجور ... انتهى كلامه.
شِعْرًا: ... لَحَى اللهُ دُنْيَا لا تَكُونُ مَطِيَّةً ... إِلَى دَارِكَ الأُخْرَى تَزُمَّ وَتَرْكَبُ
عَجِبْتُ لَمَنْ يَرْجو الرِّضَا وَهُوَ مُهْمِلٌ ... وَتَسْوِِيفُنَا مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَعْجَبُ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلا مَرَاحِلُ ... وَأَجْدَر أبِهَا تُقْضَى قَرِيبًا وَتَنضِبُ
إِذَا كانَا الأَنْفَاسُ لِلْعُمْرِ كَالْخُطَا ... فَإِنَّ الْمَدَى أَدْنَى مَنَالاً وَأَقْرَبُ
وقَالَ بَعْضهمْ: إن المرء إِذَا طرقه عما يتحيف صبره ويضيق صدره يعود إِلَى علمه بالدُّنْيَا كيف نصبت على النقلة، وجنبت طول المهلة وابتدأت للنفاد وشفع كونها للخراب، وأن الثاوي فيها راحل، والأَيَّامُ فيها مراحل موهوبها مسلوب وان أرخى إِلَى مهل، وممنوحها محروم وإن أرخى إِلَى أجل ولو خلد من سبق لما وسعت الأَرْض ولِذَلِكَ جعلت الدُّنْيَا دار قلعة ومحل نجعة.
شِعْرًا: ... كم رأينا من أناس هلكوا ... وبكى أحبابهم ثُمَّ بُكُوا
تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ... وَدَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا
كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ سَوَقَةَ ... وَرَأَيْنَا سَوَقَةً قّدْ مَلَكُوا
هَذَا حُكْمٌ مِنْ حَكِيمٍ قَادِرٍ ... سَلَّمَ الأَمْرِ لِمَنْ أَجَرْى الْفَلَكُ
لا تَكُنْ مِمَّنْ يُقَلِّدُ مُلْحِدًا ... كَمْ جَهُولٍ بِاعْتِرَاضَاتٍ هَلَكَ
آخر: ... اطِل جَفْوَةَ الدُّنْيَا وَدَعْ عَنْكَ شَأْنَهَا ... فَمَا الغَافِلُ الْمَغْرُورُ فِيهَا بِعَاقِلٍ
وَلَيْسَ الأَمَانِي لِلْبَقَاءِ وَإِنْ جَرَتْ ... بِهَا عَادَةٌ إِلا تَعَالِيلُ بِاطِلِ
يُسَارُ بِنَا نَحْوَ الْمَنُونِ وَإِنَّنَا ... لَنُسْعَفُ فِي الدُّنْيَا بِطَيِّ الْمَرَاحِلِ
غَفَلْنَا عَنْ الأَيَّامِ أَطْوَلَ غَفْلَةٍ ... وَمَا حُوبُهَا الْمَجْنِيُّ مِنَا بغَافِلِ(2/363)
آخر: ... بِرُوحِي أُنَاسًا قَبْلَنَا قَدْ تَقَدَّمُوا ... وَنَادُوا بِنَا لَوْ أَنَّنَا نَسْمَعُ النِّدَا
وَسَارَتْ بِهِمْ سَيْرَ المَطِيِّ نُعُوشُهمْ ... وَبَعْضُ َأِنينِ الْقَادِمِينَ لَهُمْ حُدَا
وَأَمْسُوا عَلَى الْبِيْدَاءِ يَنْتَظِرُونَنَا ... إِلَى سَفَر يَقْضِي بَأَنْ نَتَزَوَّدَا
فَرِيدُونَ فِي أَجْدَاثِهِمْ بِفِعَالِهِمْ ... وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ جُنْدًا مُجَنَّدَا
تَسَاوَوْا عِدىً تَحْتَ الثُّرَى وَأَحِبَّةً ... فَلا فَرْقَ مَا بَينَ الأَحِبَّةِ وَالْعِدَى
سَلِ الدَّهْرَ هَلْ أَعْفَى مِنَ الْمَوْتِ شَائِبًا ... غَدَاةَ أَدَارَ الْكَأْسَ أَمْ رَدَّ أَمْرَدَا
آخر ... إِذَا مَا مَضَى الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمْ ... وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فأَنْتَ غَرِيبُ
وَإِنْ امْرأً قَدْ سَارَ خَمْسِينَ حَجَّةً ... إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
آخر ... وَإِذَا حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً ... فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ
آخر ... قِفْ بِالْمَقَابِرِ وَاذْكُرْ إِنْ وَقَفْتَ بِهَا ... للهِ دُرُّكَ مَاذَا تَسْتُرُ الْحُفَرُ
فَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مَوْعِظَةٌ ... وَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مُعْتَبَرُ
كَانُوا مُلُوكًا تُوَارِيهِمْ قُصُورُهُمْ ... دَهْرًا فَوَارَتْهُمُ مِنْ بَعْدِهَا الْحُفَرُ
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ "
وَمِمَّا يسلِي ويسهل المصائب أن يعلم الْعَبْد أنه لولا ما قدره الحكيم العليم على عباده من محن الدُّنْيَا ومصائبها لأصاب الإِنْسَان من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقَسْوَة الْقَلْب ما هُوَ سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أن يتفقده فِي الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تَكُون(2/364)
حمية لَهُ من هَذِهِ الأدوية، وتَكُون حفظًا لصحة عبوديته، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلى بنعائمه كما قِيْل:
شِعْرًا: ... (قَدْ يَنْعِمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ)
آخر: ... أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَنِي بَعْدَ حِدَّةٍ ... وَحَسْيُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وَتَسْلَمَا
وَلَنْ يَلْبَثِ الْعَصْرَ إِنْ يَوْمًا وَلَيْلَةً ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا
آخر: ... يَا سَائِلِي عَنْ حَالَتِي ... خُذْ شَرْحَهَا مُلَخَّصَا
قَدْ صِرْتُ بَعْدَ قُوَّةٍ ... تَقُصُّ أَصْلادَ الْحَصَا
أَمْشِي عَلَى ثَلاثَةٍ ... أَجْوَدُ مَا فِيهَا الْعَصَا
آخر: ... قَدْ أَمْشِي عَلَى ثِنْتَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْْرَى مِنَ الشَّجَرِ
آخر: ... إِذَا اشْتَدَّتِ الْبَلْوَى تُخَفَّفُ بِالرِّضَا ... عَنْ اللهِ قَدْ فَازَ الرَّضِيُّ الْمُرَاقِبُ
وَكَمْ نِعْمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِبَلِيَّةٍ ... عَلَى النَّاسِ تَخْفَى وَالْبَلايَا مَوَاهِبُ
فلولا أَنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا فدى الأَرْض. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} ، فَإِنَّ من شيم النُّفُوس إِذَا حصل لها صحة وفراغ وأمر ونهي وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وظلمت وسعت فِي الأَرْض فسادًا كما قِيْل:
(وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ)
ومِمَّا يسلي ويسهل المصائب ويكون سببًا للصبر على المصيبة أن يعلم الإِنْسَان أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها، فتزيد المصيبة وأن الجزع يشمت الْعَدُوّ ويسؤ الصديق، وينهك الجسم، ويسر شيطانه ويضعف النفس، وقَدْ يحبط الْعَمَل، وَإِذَا صبر واحتسب أخزى الشيطان وأرضى الرب، وسر الصديق، وساء الْعَدُوّ، وَهَذَا من الثبات فِي الأَمْر الديني. وَمِمَّا يسلي ويسهل المصائب أن يوطن الإِنْسَان نَفْسهُ أن كُلّ مصيبة تأتيه(2/365)
هي من عَنْدَ الله وأنها بقضائه وقدره وأنه سُبْحَانَهُ لم يقدرها عَلَيْهِ ليهلكه بها ولا ليعذبه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه.
شِعْرًا: ... وَكُلُّ مُصِيبَات أَتَتْنِي فَإِنَّهَا ... سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةُ الْخَطْبِ
فإِن وفق للرضا وَالشُّكْر فقَدْ أفلح، وإن تسخط ولم يرض فقَدْ خاب وخسر. قَالَ أبو الفرج بن الجوزي: علاج المصائب بسبعة أشياء. الأول: أن يعلم بأن الدُّنْيَا دار ابَتلاء وكرب لا يرجى منه راحة فِي الدُّنْيَا مهما طال العمر ومهما اجتمَعَ للإنسان فيها من أسباب الغنى والثروة وسواء فِي ذَلِكَ الصعاليك والمماليك والملوك فلَقَدْ أودع الله فِي كُلّ نفس ما شغلها.
ولو أن الإِنْسَان عرف قدر الدُّنْيَا وما طبعت عَلَيْهِ من الكدر والانكاد والمصائب والأحزان وعرف أن ما فيها محض خداع وسراب، بقيعة يحسبه الظمآن ماء حَتَّى إِذَا جاءه لم يجده شيئًا واستعان بما وهبه الله من نور الدين وقصر أمله لما آثرت فيه المصائب بإذن الله لأن قوة الإِيمَان بِاللهِ وقضائه وقدره يثمران الهدى وَالطُّمَأْنِينَة والرضي بما قسم وقدر.
الثاني: أن يعلم أن المصيبة ثابتة.
الثالث: أن يقدر وجود ما هُوَ أكثر من تلك المصيبة.
الرابع: النظر فِي حال من ابتلي بمثل هَذَا البَلاء فَإِنَّ التأسي راحة عظيمة يخفف الحزن أَوْ يزيله بالكلية.
قَالَتْ الخنساء:
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي
آخر: ... حَاسِبْ زَمَانَكَ فِي حَالِي تَصَرُّفِهِ ... تَجِدْهُ أَعْطَاكَ أَضْعَافَ الَّذِي سَلَبَا
نَفْسِي الَّتِي تَمْلِكُ الأَشْيَاءِ ذَاهِبَةً ... فَكَيْفَ أَبْكِي عَلَى شَيْء إِذَا ذَهَبَا(2/366)
آخر: ... لا تَعْتِبْ الدَّهْرَ فِي خَطْبٍ رَمَاكَ بِهِ ... إِذَا اسْتَرَدَّ فَقِدْمًا طَالَ مَا وَهَبَا
وَرَأْسُ مَالِكَ وَهِيَ الرَّوُحُ إِنْ سَلِمَتْ ... لا تَأْسَفَنَّ لِشَيْءٍ بَعْدَهَا ذَهَبَا
آخر: ... وَلَوْلا الأَسَى مَا عِشْتَ فِي النَّاسِ سَاعَةً ... وَلَكِنْ مَتَى نَادَيْتُ جَاوَبَنِي مِثْلِي
الخامس: مِمَّا يهون المصائب ويخففها ويبعث الإِنْسَان على حمد الله وشكره وينفي هموم الدُّنْيَا وغمومها النظر والتفكر والاعتبار فيمن هم أعظم مصيبة منك وانظر حالتك بعد زيارتك للمقبرة، وانظر فيمن قبر ومن سيقبر وحالتك بعد ما تمر بالسجن وتَرَى المعذبين فيه بأنواع الْعَذَاب كما قَالَ بَعْضُهُمْ واصفا للسجن ببغداد:
مَحَلُّ بِهِ تَهْفُو الْقُلُوبُ مِن الأَسَى ... فَإِنْ زُرْتَهُ فَارْبُطْ عَلَى الْقَلْبِ بَالْيَدِ
وانظر حالتك إِذَا دخلت المستشفيات ورَأَيْت الباكين والَّذِي يئن والَّذِي تحت العملية لقطع عضو أَوْ نحوه، وسائر أنواع البلايا تجدك إن كنت ممن وفقه الله مكثرًا لحمد الله وشكره حيث عَافَاكَ مِمَّا تَرَى وتسمَعَ.
وَكَمْ من إنسان أتى لعلاج بسيط فَلَمَّا رأى ما فِي الإسعاف، ومن تحت العمليات ومن يئن ومن يجر ليغسل ومن قَدْ مَاتَ، ومن يعمل لكسوره الجبس، خَرَجَ يحمد الله ورأى أنه ما فيه شَيْء يوجب العلاج.
السادس: رجَاءَ الخلف إن كَانَ من مضى يصح عَنْهُ الخلف كالولد والزوجة قِيْل للقمان: ماتت زوجتك. قَالَ: تجدد فراشي. وقَالَ الشاعر:
هَلْ وَصْلُ عَزَّةَ إِلا وَصْلُ غَانِيَةٍ ... فِي وَصْلِ غَانِيَةٍ مِنْ وَصْلِهَا خَلَفُ
آخر: ... قَدْ نَرْكَبُ الْكُرْه أَحْيَانًا فَيُفرِجُهُ ... رَبٌّ نرجِّيهِ فِي الضَّرَاء وَسَرَّائي
السابع: طلب الأجر بالصبر فِي فضائله وثواب الصابرين وسرورهم فِي صبرهم فَإِنَّ ترقى إِلَى مقام الرِّضَا فهو الغاية. انتهى كلامه بتصرف.
ومِمَّا يسلى ويسهل المصائب ويجلب الصبر بإذن الله أن يعلم أن تشديد(2/367)
البَلاء يخص الأخيار، ولهَذَا لما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي النَّاس أشد بَلاء؟
قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس عَلَى قَدْرِ دينهم فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاءه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصبه البَلاء حَتَّى يمشى على الأَرْض ما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ ابن حبان، ومنها أن يعلم أنه مملوك لله ولَيْسَ للملوك فِي نَفْسهُ شَيْء، ومنها أن يعلم أن هَذَا الواقع وقع برضى السيد فيرضى بما رَضِيَ به سيده ومولاه وَهُوَ الله جَلَّ وَعَلا رضينا به ربًا وبالإسلام دينا وبمُحَمَّدٍ رسولاً.
قَالَ بَعْضهمْ:
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرَ مُخَلَّدِ
فَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا ... فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيّ مُحَمَّدِ
آخر: ... لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا الأَمْرُ ضِقْتَ به ... ذَرْعاً ونَمْ مُسْتَريحاً خَالِي الْبَالِ
مَا بَيْنَ رَقْدَةِ عَيْن وانتبَاهَتِهَا ... يُقَلَّبُ الدَّهْرُ مِنْ حَالٍ إِلى حَالِ
ومن فَوَائِد المصائب والصبر عَلَيْهَا ما أجراه الله على الإِنْسَان مِمَّا يكرهه ما يعتاضه من الارتياض بنوائب عصره ويستفيده من استحكام الرأي والعقل بالتجارب ببَلاء دهره فيقوى عقله ويحصف رأيه بأذن الله ويكمل بأدنى شدته ورخائه ويتعظ بحالتي عفوه وبلائه.
شِعْرًا: ... إِنِّي أَقُولُ لِنَفْسِي وَهِيَ ضَيَّقَةٌ ... وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الضُّرُّ بِالْعَجَبِ
صَبْرًا عَلَى شِدَّةِ آلامِ إِنَّ لَهَا ... عُقْبَى وَمَا الصَّبْرُ إِلا عِنْدَ ذِي الْحَسَبِ
سَيَفْتَحُ اللهُ عَنْ قُرْبٍ بِنَافِعَةٍ ... فِيهَا لِمِثْلِكِ رَاحَاتٌ مِنَ التَّعَبِ
وأقل ما يؤتاه المُؤْمِن فِي المصائب الصبر الَّذِي يخفف وقعها على النفس وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إِلَى نعمة بما يستفيد منه الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.(2/368)
وقَدْ يبتلي الله المُؤْمِن ويمتحن صبره فتعطيه قوة إيمانه من الرجَاءَ ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حَتَّى تغلبها وقَدْ يأنس بالمصيبة لعظم رجائه وصبره وذا وإن كَانَ نادرًا فهو واقع حاصل.
قَالَ بَعْضهمْ:
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتَّى أَلِفْتُهُ ... وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ
آخر: ... وَوَسَّعَ صَدْرِي للأَذَى كَثْرَةَ الأَذَى ... وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرِي
ومنها أن يختبر أمور زمانه وينتبه على إصلاح شأنه فلا يغتر برخاء ولا يطمَعَ فِي استواء ولا يؤمل بقاء الدُّنْيَا على حالة فَإِنَّ من عرف الدُّنْيَا وخبر أحوالها هان عَلَيْهِ بؤسها ونعيمها، ولولا ما قدره الله من الحوادث والنوائب لم يعرف صبر الكرام ولا جزع للئام.
فإذا ظفر المصاب بأحد هَذِهِ الأسباب تخففت بإذن الله عَنْهُ أحزانه، وتسهلت عَلَيْهِ أشجانه فصار سريع النسيان للمصائب، قليل الجزع حسن الصبر والتجمل عَنْدَ المصائب.
شِعْرًا فِي ذَمِّ الدُّنْيَا:
سَلامٌ عَلَى دَارِ الْغُرُورِ فَإِنَّهَا ... مُنَغَّصَّةٌ لَذَّاتُهَا بِالْفَجَائِعِ
فَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ سَاعَةً ... فَعَمَّا قَلِيلٍ أَرْدَفَتْ بِالْمَوَانِعِ
آخر: ... وَمَا الْمَوْتُ إِلا رِحْلَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا ... مِن الْمَنْزِلِ الْفَانِي إِلَى الْمَنْزِلِ الْبَاقِي
آخر: ... رَأَيْت بَني الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا ... تَرَحَّلَ وَفْدٌ حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدُ
وَكُلِّ يَحُث السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا ... فَيَمْضِي بِذَا نَعْشٌ وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ
آخر: ... وَكُلِّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ مُتِّعَا مَعَا ... مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ
آخر: ... فَلا تَجْزَ عَنْ لِلْبَيْنِ كُلُّ جَمَاعَةٍ ... وَرَبِّكَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا التَّفَرُّقُ(2/369)
وَخُذْ بِالتَّعَزِّي كُلَّ مَا أَنْتَ لابِسُ ... جَدِيدًا عَلَى الأَيَّامِ يَبْلَى وَيَخْلَقُ
فَصَبْرُ الْفَتَى عَمَّا تَوَلَّى فَفَاتَهُ ... مِنْ الأَمْرِ أَوْلَى بِالسَّدَادِ وَأَوْفَقُ
وَإِنَّكَ بِالإِشْفَاقِ لا تَدْفَعُ الرَّدَى ... وَلا الْخَيْرُ مَجْلُوبٌ فَمَا لَكَ تُشْفِقُ
كَأَنْ لَمْ يَرُعْكَ الدَّهْرُ أَوْ أَنْتَ آمِنٌ ... لأَحْدَاثِهِ فِيمَا يُغَادِي وَيَطْرُقُ
إخواني أين الأمم الماضية، أين القرون الخالية أين من نصبت على مفارقهم التيجان، أين الَّذِينَ قهروا الأبطال والشجعان، أين الَّذِينَ دانَتْ لَهُمْ المشارق والمغارب، أين الَّذِينَ تمتعوا باللذات من المطاعم والمشارب، أين الَّذِينَ اغتروا بالأجناد والسُّلْطَان.
أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الأسرة والولايات، أين الَّذِينَ خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الَّذِينَ قادوا العساكر، أين الَّذِينَ عمروا القصور الشامخات والفلل الفسيحات، أين الَّذِينَ غرسوا النخيل والأشجار المثمرات.
أين الَّذِينَ ملؤوا ما بين الخافقين فخرًا وعزًا، أين الَّذِينَ فرشوا القصور خزَّا وقَزًّا، أفناهم الله مفنِي الأمم، وأبادهم مبيد الرمم، وأخرجهم من سعة المساكن، والقصور، وأسكنهم فِي ضيق اللحود وتحت الجنادل والصخور.
قَدْ خلت من كثرتهم أماكنهم ولم ينفعهم ما جمعوا من الحطام، ولا أغنى عنهم ما كسبوا من حلال أَوْ حرام أسلمهم الأحبة والأَوْلِيَاء، وهجرهم الإِخْوَان والأصفياء ونسيهم الأقرباء والبعداء.
شِعْرًا: ... مَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ ... فِي عُسْرِهِ مِنْ عُمْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ
يَلْقَى الْغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى ... أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الْفَقِيرُ لِفَقْرِهِ
فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلِّهِ ... وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كُثْرِهِ
عَمَّ الْبَلاءُ لِكُلِّ شَمْلٍ فُرْقَةٌ ... يُرْمَى بِهَا فِي يَوْمِهِ أَوْ شَهْرِهِ(2/370)
وَالْجِنُّ مِثْلُ الإِنْسِ يَجْرِي فِيهِمُوا ... حُكْمُ الْقَضَاءِ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ
فَإِذَا الْمَرِيدُ أَتَى لِيَخْطِفَ خَطْفَةً ... جَاءَ الشِّهَابُ بِحَرْقِهِ وَبِزَجْرِهِ
وَنَبِيُّ صِدْقٍ لا يَزَالُ مُكَذِّبًا ... يُرْمَى بِبَاطِلِ قَوْلِهِمْ وَبِسِحْرِهِ
وَمُحَقِّقٌ فِي دِينِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ... ضِدٍّ يُوَاجِهُهُ بِتُهْمَةِ كُفْرِهِ
وَالْعَالِمْ الْمُفْتِي يَظَلُّ مُنَازَعًا ... بِالْمُشْكِلاتِ لَدَى مَجَالِسِ ذِكْرِهِ
وَالْوَيْلُ إِنْ زَلَّ اللِّسَانُ فَلا يَرَى ... أَحَدًا يُسَاعِدُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ
وَأَخُو الدِّيَانَةِ دَهْرُهُ مُتَنَغِّصٌ ... يَبْغِي التَّخَلُّصَ مِنْ مَخَاوِفِ قَبْرِهِ
أَوْ مَا تَرَى الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بِجُنْدِهِ ... رَهْنَ الْهُمُومِ عَلَى جَلالَةِ قَدْرِهِ
فَيَسُّرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ ... هَمٌّ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ
وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفِكِّرٌ ... مِمَّا يُلاقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ
وَأَبُو الْعِيَالِ أَبُو الْهُمُومِ وَحَسْرَة الرَّ ... جُلِ الْعَقِيمِ كَمِينَةٌ فِي صَدْرِهِ
وَتَرَى الْقَرِين مُضْمِّرًا لِقَرِينِهِ ... حَسَدًا وَحِقْدًا فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ
وَلَرُبَّ طَالِبُ رَاحَةٍ فِي نَوْمِهِ ... جَاءَتْهُ أَحْلامٌ فَهَامَ بِأَمْرِهِ
وَالطِّفْلُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَخْرُجْ إِلَى ... غُصَصِ الْفِطَامِ تَرُوعُهُ فِي صِغْرِهِ
وَلَقَدْ حَسَدْتَ الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا
د ... فَوَجَدْتُ مِنْهَا مَا يُصَادُ بِوَكْرِهِ
وَالْوَحْشُ يَأْتِيهِ الرَّدَى فِي بَرِّهِ ... وَالْحُوتُ يَأْتِي حَتْفُهُ فِي بَحْرِهِ
وَلَرُبَّمَا تَأْتِي السِّبَاعُ لِمَيِّتٍ ... فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ قَرَارهِ قَبْرِهِ
كَيْفَ الْتِذَاذُ أَخِي الْحَيَاةَ بِعَيْشِهِ ... مَا زَالَ وَهُوَ مُرَوَّعٌ فِي أَمْرِهِ
تَاللهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ ... أَلْفًا مِن الأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ
مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ ... مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ
لا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ ... كَلا وَلا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ
مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي ... بِنُزُولِ أَوِّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ
كَيْفَ التَّخَلُّصُ يَا أَخِي مِمَّا تَرَى ... صَبْرًا عَلَى حُلْو الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ(2/371)
اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ " في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج حر المصيبة وحزنها
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها» .
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته. فإنها تتضمن أصلين عظيمين - إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته - (أحدهما) : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقةً.
وقد جعله عند العبد عاريةً فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير. وأيضًا فإنه ليس هو الذي أوجده من عدمه حتى يكون ملكه حقيقة؛ ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقى عليه وجوده.
فليس له في تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضًا فإنه متصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك. ولهذا لا يباح من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.(2/372)
وقال ابن سرين: (ما كان ضحكٌ قط، إلا كان من بعده بكاءٌ) .
وقالت هند بنت النعمان: (لقد رأينا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتُنَا ونحن أقل الناس، وإنه حقٌ على الله أن لا يملأ دارًا خيرةً إلا ملأها عبرةً) .
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت: (أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا) .
وبكت أختها حرقة بنت النعمان يومًا - وهي في عزها - فقيل لها: ما يبكيك؟ لعل أحد آذاك؟ قالت: (لا؛ ولكن رأيت غضارة في أهلي، وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا) .
قال إسحاق بن طلحة: (دخلت عليها يومًا فقلت لها: كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس؛ إنا نجد في الكنب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة، إلا سيعقبون بعدها عبرةً، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه) . ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضافعها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها: أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم - وهو من الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسيء صديقه،(2/373)
ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نَفْسهُ. وَإِذَا صبر واحتسب أقصى شيطانه، ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عَنْ إخوانه، وعزَّاهم هُوَ قبل أن يعزوه. فهَذَا هُوَ الثبات والكمال الأعظم؛ لا لطم الخدود، وشق الجيوب والدُّعَاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم ما يعقبه الصبر والاحتساب - من اللذة والمسرة - أضعاف ما كَانَ يحصل لَهُ ببقاء ما أصيب به، لو بقي عَلَيْهِ. ويكفيه من ذَلِكَ بيت الحمد الَّذِي يبنى لَهُ فِي الْجَنَّة، على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة؟ أَوْ مصيبة فوات بيت الحمد فِي جنة الخلد؟
وَفِي الترمذي مرفوعا: «يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كَانَتْ تقرض بالمقاريض فِي الدُّنْيَا، لما يرون من ثواب أَهْل البَلاء» .
وقَالَ بَعْض السَّلَف: (لولا مصائب الدُّنْيَا، لوردنا القيامة مفالَيْسَ) .
شِعْرًا: ... وَعُوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلا يَكُنْ ... فَقِيدُكَ لا يَأْتِي وَأَجْرُكَ يَذْهَبُ
ومن علاجها: أن يروح قَلْبهُ بروح رجَاءَ الخلف من الله، فإنه من كُلّ شَيْء عوض، إلا الله فما منه عوض. كما قِيْل:
شِعْرًا: ... لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فُقْدَ قَصْرٍ ... فَسِيحٍ مُنَيةٌ لِلسَّاكِتِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِن كَافِرِينَا
آخر: ... مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ الله إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه لَهُ، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط. فحظك مَنْهَا ما أحدثته لَكَ، فاختر أما خَيْر الحظوظ، أَوْ شرها. فَإِنَّ أحدثت لَهُ سخطًا وكفرًا كتب فِي ديوان(2/374)
الهالكين، وإن أحدثت لَهُ جزعًا وتفريطًا فِي ترك واجب، أَوْ فِي فعل محرم كتب فِي ديوان الهالكين، وإن حدثت لَهُ شكاية وعدم صبر كتب فِي ديوان المغبونين.
وإن أحدثت لَهُ اعتراضًا على الله وقدحًا فِي حكمته فقَدْ قرع باب الزندقة أَوْ ولجه، وان أحدثت لَهُ صبرًا وثباتًا لله: كتب فِي (ديوان الصابرين) . وان أحدثت لَهُ الرِّضَا: كتب فِي (ديوان الراضين) . وان أحدثت لَهُ الحمد وَالشُّكْر: كتب فدى (ديوان الشاكرين) ، وكَانَ تحت لواء الحمد مَعَ الحمَّادين، وإن أحدثت لَهُ محبةً واشتياقًا إِلَى لقاء ربه: كتب فِي (ديوان المحبين المخلصين) .
وَفِي مسند الإِمَام أحمد والترمذي - مِنْ حَدِيثِ محمود بن لبيد يرفعه -:
«إن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط» . زَادَ أحمد: «ومن جزع فله الجزع» .
ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فِي الجزع غايته فآخر أمره إِلَى صبر الاضطرار. وَهُوَ غيره محمود ولا مثاب.
قَالَ بَعْض الحكماء: (العاقل يفعل فِي أول من المصيبة، ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم) وَفِي الصحيح مرفوعًا: «الصبر عَنْدَ الصدمة الأولى» . وقَالَ الأشعث بن قيس: (إِنَّكَ إن صبرت إيمانًا واحتسابًا؛ وإلا سلوت سُلُوَّ البهائم) .
ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية لَهُ موافقة ربه وإلهه، فيما أحبه ورضيه لَهُ، وان خاصية المحبة موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثُمَّ سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقَدْ شهد على نَفْسهُ بكذبه، وتمقت إِلَى محبوبه.(2/375)
وقَالَ أبو الدرداء: (إن الله إِذَا قضى قضاء، أحب أن يرضى به) . وكَانَ عمران ابن الحصين يَقُولُ فِي علته: (أحبه إِلَيَّ أحبه إليه) . وكَذَلِكَ قَالَ أَبُو العالية.
وَهَذَا دواء وعلاج لا يعمل إلا مَعَ المحبين، ولا يمكن كُلّ أحد أن يتعالج به..
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومها: لذة تمتعه بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله لَهُ فَإِنْ ظهر لَهُ الرجحان، فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كُلّ وجه فليعلم أن مصيبته فِي عقله وقَلْبهُ ودينه، وأعظم من مصيبته التي أصيب بها فِي دنياه.
شِعْرًا: ... وَإِذَا تَصِبْكَ مُصِيبَة فَاصْبِرْ لَهَا ... عَظُمَتُ مُصِيبَةُ مُبْتَلَى لا يَصْبِرُ
ومن علاجها: أن يعلم أن الَّذِي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأنه سُبْحَانَهُ لم يرسل إليه البَلاء ليهلكه ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عَنْهُ وإيمانه، وليسمَعَ تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور الْقَلْب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه.
قَالَ الشَّيْخ عبد القادر: (يَا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك: يَا بني القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة) .
والمقصود: أن المصيبة كير الْعَبْد الَّذِي يسبك به حاصله، فَإِمَّا أن يخَرَجَ ذهبًا أحمر، وإما أن يخَرَجَ خبثًا كله. كما قِيْل:
سَبَكْبَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا ... فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فَإِنَّ لم ينفعه هَذَا الكير فِي الدُّنْيَا فبين يديه الكير الأعظم. فإذا علم الْعَبْد أن إدخاله كير الدُّنْيَا ومسبكها خَيْر لَهُ من ذَلِكَ الكير والمسبك، وأنه لابد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عَلَيْهِ فِي الكير العاجل.(2/376)
فلولا أنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء - من الابتلاء والامتحان - عَلَى قَدْرِ حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة؛ حَتَّى إِذَا هذبه وصفاه أهلَّه لأشرف مرا تب الدُّنْيَا - وهي عبوديته - وأرفع ثواب الآخِرَة، وَهُوَ رؤيته وقربه.
ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة الآخِرَة، يقابلها الله سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ؛ وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة، إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر لَهُ من عكس ذَلِكَ.
فَإِنَّ خفى عَلَيْكَ هَذَا فَانْظُرْ إِلَى قول الصادق المصدوق: «حفت الْجَنَّة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» .
وَفِي هَذَا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرِّجَال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة، على الحلاوة الدائِمَّة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد. فَإِنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإِيمَان ضعيفٌ، وسلطان الشهوة حاكم. فتولد مَعَ ذَلِكَ إيثار العاجلة، ورفض الآخِرَة.
وَهَذَا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الَّذِي يخرق حجب العاجلة، ويجاوزه إِلَى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر.
فادع نفسك إِلَى ما أعد الله لأوليائه وأَهْل طاعته من النَّعِيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأَهْل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب، والحسرات الدائِمَّة، ثُمَّ اختر أي القسمين أليق بك. و {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ، وكل أحد يصبو إِلَى ما يناسبه وما هُوَ الأولى به. ولا تستطل هَذَا العلاج فشدة الحاجة إليه - من الطبيب العليل - دعت إِلَى بسطه. وبِاللهِ التَّوْفِيق.(2/377)
شِعْرًا: ... نُعَلِّلُ بِالدَّوَاءِ إِذَا مَرَضْنَا ... وَهَلْ يَشْفِِِِي مِنَ الْمَوْتِ الدَّوَاءُ
وَنَخْتَارُ الطَّبِيبَ وَهَلْ طَبِيبٌ ... يُؤخِّرُ مَا يُقَدِّمُهُ الِْقَضَاءُ
آخر: ... اصْبِرْ عَلَى حُلْوِ الِْقَضَاءِ وَمُرِّهِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغْ أَمْرِهَ
فَالصَّدْرُ مَنْ يَلْقَى الْخُطُوبَ بِصَدْرِهِ ... وَبِصَبْرِهِ وَبِحَمْدِهِ وَبِشُكْرِهِ
الْحُرُّ سَيْفٌ وَالذُّنُوبُ لِصَفْوِهِ ... صَدَأ وَصَيْقَلُهُ نَوَائِبُ دَهْرِهِ
لَيْسَ الْحَوَادِثُ غَيْرَ أَعْمَالِ امْرِئٍ ... يُجْزَى بِهَا مِنْ خَيْرِهِ أَوْ شَرِّهِ
فَإِذَا أُصِبْتَ بِمَا أُصِبْتَ فَلا تَقُلْ ... أُوذِيتُ مِنْ زَيْدِ الزَّمَانِ وَعَمْرِهِ
وَاثْبُتْ فَكَمْ أَمْرٍ أَمَضَّكَ عُسْرُهُ ... لَيْلاً فَبَشَّرَكَ الصَّبَاحُ بِيُسْرِهِ
وَلَكُمْ عَلَى نَاسٍ أَتَى فَرَجُ الْفَتَى ... مِن سِرِّ غَيْبٍ لا يَمُرُّ بِفِكْرِهِ
فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ الْكَرِيمِ وَلا تَسِلْ ... بَشَرًا فَلَيْسَ سِوَاهُ كَاشِفَ سِرِّهِ
وَأَعْجَبْ لِنَظْمِي وَالْهُمُومُ شَوَاغِلٌ ... يُلْهِينَ عَنْ نَظْمِ الْكَلامِ وَنَثْرِهِ
لا تَخْشَ مِنْ غَمٍّ كَغَيْمٍ عَارِضٍ ... فَلَسَوْفَ يُسْفِرُ عَنْ إِضَاءَةِ بَدْرِهِ
إِنْ تُمْسِ عَنْ عَبَّاسِ حَالِكَ رَاوِيًا ... فَكَأَنَّنِي بِكَ رَاوِيًا عَنْ بِشْرِهِ
وَلَقَدْ تَمُرُّ الْحَادِثَاتُ عَلَى الْفَتَى ... وَتَزُولُ حَتَّى مَا تَمُرُّ بِفِكْرِهِ
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَرُبَّ أَمْرٍ هَائِلٍ ... دُفِعَتْ قُوَاهُ بِدَافِعٍ لَمْ تَدْرِهِ
وَلَرُبَّ لَيْلٍ بِالْهُمُومِ كَدُمَّلٍ ... صَابَرْتَهُ حَتَّى ظَفِرْتَ بِفَجْرِهِ
ثُمَّ الصَّلاةُ على النَّبِيّ وَآلِهِ ... مَعَ صَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَمْرِهِ
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأَبْرَار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ،، اللَّهُمَّ يَا من خلق الإِنْسَان فِي أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إِلَى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء(2/378)
والصالحين وأن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ فِي الخَوْفِ "
اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه أن الخوف عبارة عَنْ تألم الْقَلْب واحتراقه بسبب توقع مكروه فِي المستقبل وقِيْل الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام وقِيْل هرب الْقَلْب من حلول المكروه عَنْدَ استشعاره.
فالخوف لعام الْمُؤْمِنِينَ والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين، وعَلَى قَدْرِ العلم بِاللهِ ومعرفة الْعَبْد بنفسه يكون الخوف والخشية كما قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية» . وَفِي رواية: «خوفًا» .
وَإِذَا أكملت المعرفة أثرت الخوف ففاض أثره على الْقَلْب، ثُمَّ ظهر على الْجَوَارِح، والصفات النحول والاصفرار والبُكَاء والغشي، وقَدْ يفضي إِلَى الموت.
وأما ظهور أثره على الْجَوَارِح فبكفها عَنْ المعاصي، وإلزامها الطاعات تلافيًا، واستدراكًا لما فرط، واستعدادًا للمستقبل.
ومن ثمرات الخوف أنه يقمَعَ الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل واللبن مكروهًا إِذَا علم أن فيه سُمًّا، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الْجَوَارِح، ويذل الْقَلْب، ويستكين ويفارقه الكبر والحسد والحقَدْ، ويصير مستوعبًا الهم لخوفه والنظر فِي خطر عاقبته.
فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون لَهُ شغل ‘لا الْمُرَاقَبَة، والمحاسبة والمجاهدة، والبخل فِي الأنفاس، واللحظات، أن يصرفها فيما لا فائدة فيه، ومؤاخذة النفس فِي الخطرات، والخطوات، والكلمَاتَ، وقوة الخوف(2/379)
بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
ومقدمَاتَ الخوف أربع. الأولى: ذكر الذُّنُوب الكثيرة العظيمة التي سلفت فيما مضى وكثرة ذكر الخصوم الَّذِينَ مضوا وأَنْتَ مرتهن لم يتبين لَكَ الخلاص حَتَّى الآن. وَالثَّانِيَة: ذكر شدة العقوبة. والثالثة: ذكر قدرة الله عَلَيْكَ متى شَاءَ وكيف شَاءَ. والرابعة: ذكر ضعفك عَنْ احتمال العقوبة.
شِعْرًا: ... حَقِيق بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ ... وَيَكْفِي الْمَرْءُ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ
فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحَ ذَا هُمُومٍ ... وَحِرْصٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ النُّعُوتُ
فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَرِيبٍ ... إِلَى قَوْمٍ كَلامُهُمُ السُّكُوتُ
آخر: ... النَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا
لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا
آخر: ... وَمَا مَنْ يَخَافُ الْمَوْتَ وَالنَّارَ آمِنُ ... وَلَكِنْ حَزِينُ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ
إِذَا عَنْ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ... وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ
ثُمَّ اعْلَمْ أن الخوف يحث على العلم، والْعَمَل، قَالَ أبو حفص: الخوف سوط الله، يقوم به الشاردين عَنْ بابه. وقَالَ: الخوف سراج فِي الْقَلْب، به يبصر ما فيه من الْخَيْر والشَّر، وكل أحد إِذَا خفته هربت منه إِلا الله عز وجل فإنك إِذَا خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إِلَى ربه.
وقَالَ أبو سُلَيْمَانٌ: ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب. وقَالَ إبراهيم بن سفيان: إِذَا سكن الخوف الْقُلُوب أحرق مواضع الشهوات مِنْهَا وطرد الدُّنْيَا عَنْهَا. قَالَ فِي مختصر مناهج القاصدين: والخوف لَهُ إفراط وله اعتدال، وله قصور والمحمود من ذَلِكَ الاعتدال.(2/380)
وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فَإِنَّ الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عَنْ سوط ولَيْسَ المبالغة فِي الضرب محمودة، ولا المتقاصر عَنْ الخوف أيضا محمودًا، وَهُوَ كالَّذِي يخطر بالبال عَنْدَ سماع آية، أَوْ سبب هائل فيورث البُكَاء، فإذا غاب ذَلِكَ السبب عَنْ الحس رجع الْقَلْب إِلَى الغَفْلَة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع، وَهُوَ كالقضيب الضعيف، الَّذِي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألمًا مبرحًا، فلا يسوقها إِلَى المقصد ولا يصلح لرياضتها.
وَهَذَا هُوَ الغالب على النَّاس كلهم إلا العارفين والْعُلَمَاء أعنِي الْعُلَمَاء بِاللهِ وبآياته وقَدْ عز وجودهم، وأما المرتسمون برسوم العلم فَإِنَّهُمْ أبعد النَّاس عَنْ الخوف، وهل الْعُلَمَاء حَقِيقَة يأخذون من الدُّنْيَا إلا بقدر البلاغ.
وأما القسم الأول وَهُوَ الخوف المفرط فهو كالَّذِي يقوى ويجاوز حد الاعتدال، حَتَّى يخَرَجَ إِلَى اليأس والقنوط، فهو أيضًا مذموم لأنه يمنع من الْعَمَل، وقَدْ يخَرَجَ إِلَى المرض والوله والموت، ولَيْسَ ذَلِكَ محمودًا.
وكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضِي إِلَى المراد المقصود منه، وما يقصر عَنْهُ أَوْ يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع والتقوى والمجاهدة والفكر والذكر والتعبد وسائر الأسباب التي توصل إِلَى الله تَعَالَى وكل ذَلِكَ يستدعى الحياة مَعَ صحة البدن وسلامة العقل فإذا قدح فِي ذَلِكَ شَيْء كَانَ مذمومًا وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
وقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فَإِنَّ زَادَ على ذَلِكَ بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير فِي نوافل الطاعات، والانكفاف عَنْ دقائق المكروهات، والتبسط فِي فضول المباحات، كَانَ ذَلِكَ فضلاً محمودًا.(2/381)
شِعْرًا: ... خَفِ الله وَارْجُوهُ لِكُلِّ عَظِيمَةٍ ... وَلا تُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَ فَتَنْدَمَا
وَكُنْ بَيْنَ هَاتَيْنِ مِن الْخَوْفِ وَالرَّجَاءَ ... وَأَبْشِرْ بِعَفْوِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا
فإن تزايد على ذَلِكَ بأن أورث مرضًا أَوْ موتًا أَوْ همًا لازمًا بحيث يقطع عَنْ السعي فِي اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عَزَّ وَجَلَّ لم يكن ذَلِكَ محمودًا.
ولهَذَا كَانَ السَّلَف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الَّذِي أنساه القرآن وصار صَاحِب فراش، وَهَذَا لأن خوف العقاب لَيْسَ مقصودًا لذاته، إنما هُوَ سوط يساق به المتوانِي عَنْ الطاعة إليها ومن هنا كَانَتْ النار من جملة نِعَمِ الله على عباده الَّذِينَ خافوه واتقوه.
ولهَذَا المعنى عدها الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى من جملة آلائه على الثقلين فِي سورة الرحمان، وقَالَ سفيان بن عيينة: (خلق الله النار رحمةً يخوف بها عباده لينتهوا) . أَخْرَجَهُ أبو نعيم.
والمقصود الأصلي هُوَ طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ وفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته، ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته فِي الصدور وإجلاله مقصود أيضًا، ولكن القدر النافع من ذَلِكَ ما كَانَ عونًا على التقرب إِلَى الله، بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه.
ومتى صار الخوف مانعًا من ذَلِكَ وقاطعًا عَنْهُ فقد انعكس المقصود منه، ولكن إِذَا حصل ذَلِكَ عَنْ غلبةٍ كَانَ صاحبه معذورًا، وقَدْ كَانَ فِي السَّلَف من حصل لَهُ من خوف النار أهوال شتى لغلبة حال شهادة قُلُوبهمْ للنار، فمِنْهُمْ من كَانَ يلازمه القلق والبُكَاء وَرُبَّمَا اضطرب أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ إِذَا سمَعَ ذكر النار، مثل قوله تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .(2/382)
شِعْرًا: ... لَوْ يَعْلَمُ الرَّاقِدُ مَا فَاتَهْ ... وَأَيَّ مَجْدٍ هَدَّ أَبْيَاتَهُ
لَقَلَّلَ النَّوْمَ عَلَى فُرْشِهِ ... وَسَدَّ بِالْخِدْمَةِ أَوْقَاتَهُ
وَأَرْسَلَ الدَّمْعَةَ مَمْزُوجَةً ... عَلَى مَبِيتٍ طَالَ مَابَاتَهُ
ضَيَّعَ فِيهِ الْحَظَّ مِنْ قُرْبِهِ ... وَلَمْ يُبَالِ بِالَّذِي فَاتَهُ
آخر: ... فَبَادِرْ إِلَى الْخَيْرَاتِ قَبْلَ فَوَاتِهَا ... وَخَالِفْ مُرَادَ النَّفْسِ قَبْلَ مَمَاتِهَا
سَتَبْكِي نُفُوسٌ فِي الْقِيَامَةٍ حَسْرَةً ... عَلَى فَوْتِ أَوْقَاتٍ زَمَانَ حَيَاتِهَا
فَلا تَغْتَرِرْ بِالْعِزِّ وَالْمَالِ وَالْمُنَى ... فَكَمْ قَدْ بُلِينَا بِانْقِلابِ صِفَاتِهَا
آخر: ... تَزَوَّدْ مِن الدُّنْيَا بِسَاعَتَكَ الَّتِي ... ظَفَرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكِ الْعَوَائِقُ
فَلا يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِعَائِدٍ ... وَلا يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقٌ
" فَصْلٌ ": وَمِمَّا ورد فِي الخوف من الآيات وَالأَحَادِيث ما يلي قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} ، وقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
وقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . وقَالَ: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} الآيات، وقَالَ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .
وقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ، وقَالَ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .(2/383)
وقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
وَقَالَ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} الآيات، وقَالَ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
وقَالَ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وقَالَ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَهُمْ يَتَّقُونَ} .
وقَالَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وقَالَ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} .
وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} ، ولو لم يكن إلا هَذِهِ الآية لكَانَتْ كافية للتخويف، إذ شرط للمبالغة فِي مغفرته أربعة أمور، يعجز الْعَبْد عَنْ الواحد مهنا إن لم يعنه الله فأَوَّلاً: التوبة. والثاني: الإِيمَان. والثالث: الْعَمَل الصالح. والرابع: سلوك سبيل المهتدين
شِعْرًا: ... يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدِ ... وَمُشَاهِدٌ لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ
مَنَّيْتُ نَفْسَكَ ضِلَّةً وَأَبَحْتَهَا ... طُرْقَ الرَّجَاءَ وَهُنَّ غَيْرُ قَوَاصِدِ
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... سُكْنَى الْجِنَانِ بِهَا وَفَوْزَ الْعَابِدِ
وَنَسِيتَ أَنَّ اللهَ أخَرَجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ
وقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(2/384)
وقَالَ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} ، وقَالَ: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} الآية، ومن المخوفات قوله تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ثُمَّ ذكر أربعة شروط بها يقع الخلاص من الْخُسْرَانُ.
وهذه الآيات ونحوها هِيَ التي أقضت مضاجع السَّلَف، فلم يهنئوا بنوم ولم يستلذوا طعامًا وانحلت أجسامهم، وأضرت بعيونهم من كثرة البُكَاء على حد قوله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} .
شِعْرًا: ... إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ ... فَيُسْفِرُ عَنْهُمُوا وَهُمُوا رُكُوعُ
طَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمُوا فَقَامُوا ... وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ
لَهُمْ تَحْتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ ... أَنِينٌ مِنْهُ تَنْفَرِجُ الضُّلُوعُ
وَخُرْسٌ فِي النَّهَارِ لِطُولِ صَمْتٍ ... عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِمْ خُشُوعُ
آخر: ... أَهْلُ الْخُصُوص مِن الصُّوَامِ صَوْمُهُمُوا ... صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ الْبُهْتَانِ وَالْكَذِبِ
وَالْعَارِفُونَ وَأَهْلِ الإُنْسِ صَوْمُهُمُوا ... صَوْنُ الْقُلُوبِ عَنْ الأَغْيَارِ وَالْحُجُبِ
آخر: ... لَوْ يَعْلَمُ الرَّاقِدُونَ إِذْ رَقَدُوا ... مَا فَاتَهُمْ وَيْحَهُمْ وَمَا فَقَدُوا
مَا طَعَمَتْ فِي الظَّلامِ أَعْيُنهمْ ... غَمْضًا وَلا فِي النَّهَارِ مَا قَعَدُوا
وَلا ثَنَى عَزْمَهُمْ إِذْ عَزَمُوا ... أَهْلٌ وَلا صَاحِبٌ وَلا وَلَدُ
وَلَوْ دَرَوْا وَيْلَهُمْ نَدَامَتَهُمْ ... عَلَى زَمَانٍ ضَيَاعَهُ قَصَدُوا
إِلا انْصَدَعَتْ حَسْرَةً قُلُوبُهُمْ ... وَخَانَهُمْ عَنْ ذَاكُمُ الْجُلَدُ
آخر: ... يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أَجُودُ بِهِ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ
إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ يُمْكِنُنِي إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ
آخر: ... اجْعَلْ شِعَارَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ التُقَى ... قَدْ فَازَ مَنْ جَعَلَ التُقَى إِشْعَارَهُ(2/385)
وَاسْلُكْ طَرِيقَ الْحَقِّ مُصْطَحِبًا بِهِ ... إِخْلاصَ قَلْبَكَ حَارِسًا أَسْرَارَهُ
وَإِذَا أَرَدْتُ الْقُرْبَ مِنْ خَيْرِ الْوَرَى ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاتَّبِعْ آثَارُهُ
والآيات وَالأَحَادِيث فِي باب الخوف كثيرةٌ جدًا مَنْهَا ما ورد عَنْ أبي مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمَعَ خلقه فِي بطن أمه أربعين يَوْمًا نطفةً ثُمَّ يكون علقةً مثل ذَلِكَ ثُمَّ يكون مضغةً مثل ذَلِكَ ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمَاتَ بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أَوْ سعيد» .
«فوالَّذِي لا إله غيره أن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حَتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عَلَيْهِ الكتاب فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل النار حَتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة فيدخلها» . متفق عَلَيْهِ.
وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى يومئذ جهنم لها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن النعمان بن بشير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إن أَهْوَن أَهْل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يوضع فِي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا» . متفق عَلَيْهِ.
شِعْرًا: ... أَمَا سَمِعْتَ بِأَكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدَتْ ... خَوْفًا مِن النَّارِ فَانْحَطَّتْ إِلَى النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِضِيقٍ فِي مَكَانِهِمُوا ... وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْ صَالِي النَّارِ
أَمَا سَمِعْتَ بِحَيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا ... إِلَيْهِمُوا خُلِقَتْ مِنْ مَارِجِ النَّارِ
فَيَا إِلَهِي بِأَحْكَامٍ وَمَا سَبَقَتْ ... بِهِ قَدِيمًا مِنْ الْجَنَّاتِ وَالنَّارِ
أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي الْعَبْدَ الضَّعِيفَ فَمَا ... لِلْعَبْدِ مِنْ جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ
وَالشَّمْسُ مَا لِي عَلَيْهَا قَطُّ مِنْ جَلَدٍ ... فَكَيْفَ يَصْبُرُ ذُو ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ(2/386)
" موعظة "
عباد الله سيجيء يوم يتغير فيه هَذَا العَالِم ينفطر فيه السماء وينتثر فيه الكوكب وتطوى السماء كطي الصحيفة يزيلها الله ويطويها جَلَّ وَعَلا وتبدل الأَرْض غير الأَرْض وينفح فِي الصور فيقوم النَّاس من قبورهم أحياء كما كَانُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حفاةً عراةً غرلاَ.
وحينئذ يحشر الكافر أعمى لا يرى أصم لا يسمَعَ أخرس لا يتكلم يمشي على وجه ليعلم من أول أنه أَهْل للإهانة ويكون أسود الوجه أزرق العينين فِي منتهى العطش فِي يوم مقداره خمسين ألف سَنة لَيْسَ بينه وبين الشمس إلا مقدار ميل إذ ذاك يقف ذاهل العقل شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه وفؤاده هواء ويعطى كتابه بشماله أَوْ من وراء ظهره فيتمنى أنه لم يعطه.
ثُمَّ يؤمر به إِلَى النار ويسلك فِي سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا وبعد دخولها لا يخَرَجَ أبدًا ولا يزيده إلا عذابًا إِذَا استغاث من العطش يغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه ويذيب الأمعاء والجلود تحيط بِهُمْ جهنم من كُلّ ناحية وكُلَّما نضج جلده بدل غيره.
وله مقامَعَ من حديد، كُلّ هَذَا الْعَذَاب يعانيه ولا يموت ويأتيه الموت من كُلّ مكَانَ وما هُوَ بميت ومن ورائه عذاب غليظ كما قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} وسواء صبر أَوْ لم يصبر هُوَ خالد فِي هَذَا الْعَذَاب خلودًا لا نهاية لَهُ هَذَا أقصى عذاب يتصور لأنه جزاء أقصى جريمة هِيَ الكفر بِاللهِ هَذَا عذاب مجرد تصوره يطيش العقول ويذهل النُّفُوس ويفتت الأكباد فاستعذ بِاللهِ منه أيها المُؤْمِن وأسال الله التثبيت على الإِسْلام وحسن الاعتقاد.
شِعْرًا: ... إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَليَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ(2/387)
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ... ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى ... وَيَأْذَنَ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
أَقُولُ إِذَا ضَاقَتْ عَليَّ مَذَاهِبِي ... وَحَلَّ بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نَدُوبُ
لِطُولِ جَنَايَاتِي وَعُظمِ خَطِيئَتِي ... هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ نَصِيبُ
وَيُذْكِرُنِي عَفْوُ الْكَرِيمِ عَنْ الْوَرَى ... فَأَحْيَا وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَأُنِيبُ
آخر: ... الْحَمْدُ للهِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ ... كَمْ ذَاعَنِ الْمَوْتِ مِنْ سَاهٍ وَمِن لاهٍ
يَا ذَا الَّذِي هُوَ فِي لَهْوٍ وَفِي لِعبٍ ... طُوبَى لِعَبْدٍ حَقِيبِ الْقَلْبِ أَوَّاهِ
مَاذَا تُعَايُنُ هَذي الْعَيْنُ مِنْ عَجَبٍ ... عِنْدَ الْخُرُوجِ مِن الدُّنْيَا إِلَى الله
فَاخْضَعْ فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلاً ... عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عَليَّ يَتُوبُ
اللَّهُمَّ انظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين، اللَّهُمَّ أهدنا لصالح الأَعْمَال والأَخْلاق لا يهدي لأحسنها إلا أَنْتَ واصرف عنا سَيِّءَ الأَعْمَال والأَخْلاق لا يصرف عنا سَيِّئَهَا إلا أَنْتَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وعلى وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يعرق النَّاس يوم القيامة حَتَّى يذهب عرقهم فِي الأَرْض سبعين ذراعًا ويلجمهم حَتَّى يبلغ آذانهم» . متفق عَلَيْهِ. وعنه قَالَ: كنا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمَعَ وجبة فقَالَ: «هل تدرون ما هَذَا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «هَذَا حجر رمِيَ به في النار مُنْذُ سبعين خريفًا فهو يهوى فِي النار الآن انتهى إِلَى قعرها فسمعتم وجبتها» . رَوَاهُ مُسْلِم.(2/388)
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يحشر النَّاس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الرِّجَال والنساء جميعًا ينظر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض، قَالَ: «يَا عَائِشَة الأَمْر أشد من أن يهمهم ذَلِكَ» . وقَدْ مدح الله الخائفين منه وأثنى عَلَيْهمْ فِي كتابه فقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
شِعْرًا: ... مَا قِيمَةُ اللَّيْلِ لَمْ تَذْكُرْ بِظُلْمَتِهِ ... بِوَحْشَةِ الْقَبْرِ يَا مَنْ كَانَ يَعْتَبِرُ
اسْتَغْفِرِ اللهَ يَا مَنْ قَدْ ظَفِرْتَ بِهَا ... فِي هَجْعَةِ النَّاسِ إِذَا يَغْشَاهُمُ السُّحُرُ
إِذْ يَنْزِلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى ... دُنْيَا السَّمَاءِ لِكَيْ يَدْعُونَهُ الْبَشَرُ
وَفِي المسند والترمذي عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . أهو الَّذِي يزني ويشرب الخمر ويسرق، قَالَ: «لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» . قَالَ الحسن: عملوا وَاللهِ بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عَلَيْهمْ إن المُؤْمِن جمَعَ إحسانَا وخشية والمنافق جمَعَ إساءة وأمنا.
وَمِمَّا ورد فِي فضائل الخوف ما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله الإِمَام العادل وشاب نشأ فِي عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ ورجل قَلْبهُ معلق بالمساجد ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا على ذَلِكَ وتفرقا عَلَيْهِ ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ» .
ومِمَّا ورد فِي فضيلة الخوف ما فِي الْحَدِيث الأخر عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا اقشعر جلد الْعَبْد من مخافة الله عَزَّ وَجَلَّ تحات ذنوبه كما يتحات(2/389)
عن الشَّجَرَة اليابسة ورقها» . وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حَتَّى يعود اللبن فِي الضرع ولا يجتمَعَ غبار فِي سبيل الله ودخان جهنم فِي مِنْخَرَى مُسْلِم» . رَوَاهُ الترمذي.
وروى ابن حبان فِي صحيحة والبيهقي فِي الشعب مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فيما يرويه عَنْ ربه قَالَ الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: «وعزتي وجلالي لا أجمَعَ على عبدي خوفين، ولا أجمَعَ لَهُ أمنين إن أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة وأنى خافني فِي الدُّنْيَا أمنته يوم القيامة» .
ومقامَاتَ الخوف تختلف فمِنْهُمْ من يغلب على قَلْبِهِ خوف الموت قبل التوبة والْخُرُوج من المظَالِم، وَمِنْهُمْ من يغلب عَلَيْهِ خوف الاستدراج بالنعم أَوْ خوف الميل عَنْ الاستقامة على ما يرضي الله، وقسم يغلب عَلَيْهِ خوف خاتمة السُّوء والعياذ بِاللهِ من ذَلِكَ، وأعلى من هَذَا خوف السابقة لأن الخاتمة فرع السابقة، وقَدْ قَالَ: هؤلاء فِي الْجَنَّة ولا أبالي وهؤلاء فِي النار ولا أبالي.
ومن أقسام الخائفين من يخاف سكرات الموت، وشدته لاسيما إِذَا كَانَ قَدْ عاين من يعاني سكرات الموت، وَمِنْهُمْ من يخاف عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، وَمِنْهُمْ من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ، والخوف من مناقشة الحساب، والعبور على الصراط والخوف من النار وأنكالها وأهوالها أَوْ حرمان الْجَنَّة أَوْ الحجاب عَنْ الله تَعَالَى وَهُوَ خوف العارفين.
وما قبل ذَلِكَ هُوَ خوف الزاهدين والعابدين، وخوف عموم الخلق يحصل بأصل الإِيمَان بالْجَنَّة والنار وكونهما دارَى جزاء على الطاعة والمعصية وضعف هَذَا الخوف بسبب الغَفْلَة والركون إِلَى الدنيا، والانهماك فيها، وضعف الإيمان، وتزول تلك الغَفْلَة بالتذكر والوعظ وَالإِرْشَاد وملازمة الفكر(2/390)
فِي أهوال يوم القيامة، وشدائدها، والْعَذَاب فِي الآخِرَة وبالنظر إِلَى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فَإِنَّ فاتت المشاهدة فالنظر فِي سيرة الصالحين الَّذِينَ غلب عَلَيْهمْ الخوف، قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} .
وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} وأخبر عما يقولونه بعد دخولهم الْجَنَّة، {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} .
شِعْرًا: ... يَا نَفْسُ كُفِي فَطُولُ الْعُمْرِ فِي قِصَرٍ ... وَمَا أَرَى فِيكِ لِلتَّوْبِيخِ مِنْ أَثَرِ
يَا نَفْسُ قَضَيْتُ عُمْرِي فِي الذُّنُوبِ وَقَدْ ... دَنَا الْمَمَاتُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ الْوَطَرِ
يَا نَفْسُ غَرَّكَ مِنْ دُنْيَاكِ زُخْرُفُهَا ... وَلَمْ تَكُونِي بِهَوْلِ الْمَوْتِ تَعْتَبِرِي
يَا نَفْسُ بالَغْتِ بِالْعِصْيَانِ غَاوِيَةً ... وَلَمْ تُبَالِي بِتَحْذِيرٍ وَمُزْدَجَرِ
آخر ... يَا مَنْ يُجِيبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ ... يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السِّقَمِ
قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبِهُوا ... وَأَنْتَ عَيْنُكَ يَا قَيُّومُ لَمْ تَنَمِ
هَبْ لِي بِجُودِكَ فَضْلَ الْعَفْوِ عَنْ جُرَمِي ... يَا مَنْ إِلَيْهِ أَشَارَ الْخَلْقُ فِي الْحَرَمِ
إِنْ كَانَ عَفْوُكَ لا يُدْرِكْهُ ذُو سَرَفٍ ... فَمَنْ يَجُودُ عَلَى الْعَاصِينَ بِالْكَرَمِ
اللَّهُمَّ قو محبتك فِي قلوبنا وثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين سِلْمًا لأوليائك حربًا لأعدائك، اللَّهُمَّ حبب إلينا كتابك وارزقنا الْعَمَل بما أودعته فيه واجعله لقلوبنا ضياءً ولأسقامنا دواءً ولأبصارنا جلاءً ولذنوبنا ممحصًا وعن النار مخلصًا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/391)
" فَصْلٌ "
وعلى العاقل الناصح لنفسه أن يحذر من مُجَالَسَة الظلمة الأطغياء والجهلة ممن غلب عَلَيْهمْ الأمن من مكر الله حَتَّى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا بطش الله، وسطوته ولا نار الْعَذَاب ولا بعد الحجاب، قَالَ الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وقَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فهَذَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين كَانَ أشد النَّاس خوفًا ففي الصحيح: «أَنَا أعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية» .
وَفِي صحيح الْبُخَارِيّ عَنْ أم العلاء امرأة من الأنصار أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عَلَيْهمْ بالقرعة، قَالَتْ فطار لَنَا - أي وقع - فِي سهمنا عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم ومتعبديهم وممن شهد بدرًا.
فاشتكى فمرضناه حَتَّى إِذَا توفي وجعلناه فِي ثيابه دخل عَلَيْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: رحمة الله عَلَيْكَ أبا السائب، فشهادتي عَلَيْكَ لَقَدْ أكرمك الله تَعَالَى، فقَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك أن الله أكرمه» . فَقُلْتُ: لا أدري بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ.
فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما عثمان فقَدْ جاءه اليقين، وَاللهِ إني لأرجو لَهُ الْخَيْر» . أي فالإنكار عَلَيْهَا من حيث جزمها بتلك الشهادة من غير مستند قطعي، فكَانَ اللائق بها أن تأتي بها فِي صيغة الرجَاءَ لا الجزم كما فعل - صلى الله عليه وسلم -.
قُلْتُ: وكثيرًا ما أسمَعَ وأرى فِي الكتب قول بَعْض النَّاس (المرحوم) أَوْ (المغفور لَهُ) ولا أدري ما هُوَ مستندهم بإيرادها بصيغة الجزم والأولى أن يقَالَ المرجو لَهُ الرحمة والغفران. أهـ.(2/392)
ثُمَّ قال: - صلى الله عليه وسلم - «ما أدري، وأنَا رسول الله ما يفعل بي» . قَالَتْ: فوالله لا أزكي أَحَدًا بعده. أي على جهة الجزم وأما على جهة الرجَاءَ وحُسْن الظَّنِ بِاللهِ فجائز، قَالَتْ: وأحزنني فنمت فرَأَيْت لعثمان عينا تجري فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «ذَلِكَ عمله» .
ولما توفي عثمان هَذَا قَبَّلَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَدَّهُ وبكى حَتَّى سالت دموعه الكريمة على خد عثمان، وبكى القوم فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذهب عَنْهَا أي الدُّنْيَا أبا السائب لَقَدْ خرجت عَنْهَا ولم تلبس بشَيْء» . وسماه - صلى الله عليه وسلم - السَّلَف الصالح وَهُوَ أول من قُبِرَ بالبقيع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فتأمل زجره - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الجزم بالشهادة على عثمان هَذَا مَعَ كونه شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أطلع على أَهْل بدر فقَالَ: (اعملوا ما شَئتم فقَدْ غفرت لكم) وكونه قَبَّلَهُ وبكى ووصفه لَهُ بأعظم الأوصاف وَهُوَ أنه لم يتلبس من الدُّنْيَا بشَيْء وبأنه السَّلَف الصالح، تعلم أنه ينبغي للعبد وإن عمل من الطاعات وما عمل أن يكون على حيز الخوف والخشية من الله تَعَالَى.
شِعْرًا: ... يَا رَبِّ هَيِءْ لَنَا أَمْرَنَا رَشَدَا ... وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا
وَلا تَكِلْنَا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسَنَا ... فَالْعَبْدُ يَعْجَزُ عَنْ إصْلاحِ مَا فَسَدَا
أَنْتَ الْعَلِيمُ وَقَدْ وَجَّهْتُ يَا أَمَلِى ... إِلَى رَجَائِكَ وَجْهًا سَائِلاً أَبَدَا
وَلِلرَّجَاءَ ثَوَابٌ أَنْتَ تَعْلَمُه ... فَاجْعَلْ ثَوَابِي دَوَامَ السَّتْرِ لِي أَبَدَ
وروى شداد بن أوس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الكَيِّسُ من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني» .
وقَالَ علي بن أبي طالب: وقَدْ سلم من صلاة الفجر وقَدْ علته كآبة وَهُوَ يقلب يده، لَقَدْ رَأَيْت أصحاب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فلم أرى شَيْئًا يشبهم اليوم،(2/393)
لَقَدْ كَانُوا يصبحون شعثًا صفرًا غبرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قَدْ باتوا لله سجدًا، وقيامًا يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم.
فإذا أصبحوا ذكروا الله، فما دوا كما يميد الشجر فِي يوم الريح وهمت أعينهم بالدموع حَتَّى تبل ثيابهم، وَاللهِ كأني بالقوم غافلين.
ثُمَّ قام فما رُؤْيَ بعد ذَلِكَ ضاحكَا حَتَّى مَاتَ رحمة الله عَلَيْهِ.
شِعْرًا: ... لله دَرَّ رِجَالٍ وَاصَلُوا السَّهَرَا ... وَاسْتَعْذَبُوا الْوَجْدَ وَالتَّبْرِيحَ وَالْفِكَرَا
فَهُمْ نُجُومُ الْهُدَى وَاللَّيْلُ يَعْرِفُهُمْ ... إِذَا نَظَرْتَهُمُوا هُمْ سَادَةُ بُرَرَا
كُلٌّ غَدَا وَقْتُهُ بِالذِّكْرِ مُشْتَغِلاً ... عَمَّا سِوَاهُ وَلِلَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا
يُمْسِي وَيُصْبَحُ فِي وجْدٍ وَفِي قَلَقٍ ... مِمَّا جَنَاهُ مِن الْعِصْيَانِ مُنْذَعِرَا
يَقُولُ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا ... بِالذَّنْبِ فَاغْفِرْ لِي يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرَا
حَمَلْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا لا أَطِيقُ لَهُ ... وَلَمْ أَطِعْ سَيِّدِي فِي كُلِّ أَمْرَا
عَصَيْتُهُ وَهُوَ يُرْخِي سِتْرَهُ كَرَمًا ... يَا طَالمَا قَدْ عَفَا عَنِّي وَقَدْ سَتَرَا
وَطَالمَا كَانَ لِي فِي كُلَّ نَائِبَةٍ ... إِذَا اسْتَغَثْتُ بِهِ مِنْ كُرْبَةٍ نَصَرَا
وَإِنَّنِي تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وَقَدْ ... وَافَيْتُ بَابَكَ يَا مَوْلايَ مُعْتَذِرَا
لَعَلَّ تَقْبَلُ عُذْرِي ثُمَّ تَجْبُرُنِي ... يَوْمَ الْحِسَابِ إِذَا قُدِّمْتَ مُنْكَسِرَا
وَقَدْ أَتَيْتُ بِذُلٍّ رَاجِيًا كَرَمًا ... إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا
ثُمَّ الصَّلاة عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ... عِدَادَ مَا غَابَ مِنْ نَجْمٍ وَمَا ظَهَرَا
وقَالَ معاوية لضرار بن حمزة الصدائي: صف عليًا. قَالَ: ألا تعفيني. قَالَ: بل صفه. قَالَ ألا تعفيني. قَالَ: لا أعفيك. قَالَ: أما إنه لابد. فإنه كَانَ بعيد المدى، واسع العلوم والمعارف، لا تدرك غايته فيهما شديد الْقُوَى فِي ذات الله، ونصرة دينه، يَقُولُ فضلاً، ويحكم عدلاً، ينفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدُّنْيَا، وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته.(2/394)
كَانَ والله غزير الدمعة، طويل الفكر، يقلب كفه، تأسفًا وحزنًا، إذ هَذَا فعل المتأسف الحزين، ويخاطب نَفْسهُ، بالمزعجات، والمقلقات، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما حضر.
كَانَ والله كأحدنا إِذَا سألناه، ويأتينا إِذَا دعوناه، وَنَحْنُ وَاللهِ مَعَ تقربه لَنَا وقربه منا لا نكلمه هيبة لَهُ، فَإِنَّ تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أَهْل الدين ويحب المساكين، ولا يطمَعَ القوي فِي باطله ولا ييأس الضعيف من عدله.
واشهد الله لَقَدْ رأيته فِي بَعْض مواقفه، وقَدْ أرخى الليل ستوره، وغارت نجومه، وقَدْ تمثل فِي محرابه، قابضًا على لحيته، يتململ تململ اللديغ، ويبكى بُكَاء الحزين، وكأني سمعته يَقُولُ: يَا ربنا يَا ربنا. يضرع إليه.
ثُمَّ يَقُولُ: يَا دنيا يَا دنيا إِلَيَّ تعرضت أم تشوقتي هيهات هَيهات غري غيري، وقَدْ بَتَتْتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي فيك فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزَّاد، وبعد السفر، ووحشة الطَرِيق، فذرفت عين معاوية على لحيته، فما ملكها وَهُوَ ينشفها بكمه، وقَدْ اختنق القوم بالبكاء.
قَالَ معاوية: رحم الله أبا الحسن كَانَ وَاللهِ كذلك، فَكَيْفَ حزنك عَلَيْهِ يَا ضرار؟ قَالَ: حزن من واحدها فِي حجرها فلا ترقا عبرتها ولا يسكن حزنها.
وقَالَ أبو ذر وددت لو أني شجرة تُعْضَدُ وَكَذَا قَالَ طلحة ابن عبيد الله أحد العشرة.
وقَالَ عمران بن حصين: وددت أن أكون رمادًا تنسفه الرياح.
وكَانَ علي بن الحسين إِذَا توضأ أصفر لونه، فَيَقُولُ لَهُ أهله: ما هَذَا الَّذِي يعتادك عَنْدَ الوضوء، فَيَقُولُ: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم. وسئل ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ الخائفين، فقَالَ: قُلُوبهمْ، بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا والقيامة(2/395)
موعدنا، وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا، وَهَذَا منه بيانٌ عَنْ الخائفين بحسب حاله رَحِمَهُ اللهُ.
شِعْرًا:
وَمَا مَن يَخَافُ الْبَعْثَ وَالنَّارَ آمِنٌ ... وَلَكِنْ حَزِينٌ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ
إِذَا مَرَّ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ... وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ
ومر الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ بشاب وَهُوَ مستغرق فِي ضحكه جالس مَعَ قوم فقَالَ لَهُ الحسن: يَا فتى هل مررت بالصراط؟ قَالَ: لا. فقَالَ: فهل تدري إِلَى الْجَنَّة تصير أم إِلَى النار؟ قَالَ: لا. قَالَ: فما هَذَا الضحك. قَالَ: فما رُؤِيَ ذَلِكَ الفتى بعدها ضاحكًا.
وَرُوِيَ عَنْ ميسرة ابن أبي ميسرة أنه كَانَ إِذَا أوى إِلَى فراشه يَقُولُ: يَا ليتني لم تلدني أمي. فقَالَتْ لَهُ أمه حين سمعته: يَا ميسرة إن الله قَدْ أحسن إليك، هداك للإسلام. قَالَ: أجل ولكن الله قَدْ بين لَنَا أَنَا واردون عَلَى النَّارِ، ولم يبين لَنَا أَنَّا صادرون عَنْهَا. أي لا جزم عنده أنه من المتقين الناجين فلذا اشتد خوفه مَنْهَا.
وكَانَ عطاء السلمي من الخائفين، وقِيْل لَهُ فِي مرضه: ألا تشتهى شَيْئًا. فقَالَ: إن خوف جهنم لم يدع فِي قلبي مَوْضِعًا للشهوة.
وقِيْل لبَعْضهمْ: لماذا إِذَا وعظ بَعْض النَّاس خَوَّفَ وأبكى، وبَعْضهمْ يتكلم ويبكي ويخوف ولا يبكون، فقَالَ: لَيْسَتْ النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
وحكى أن قومًا وقفوا بعابدٍ وَهُوَ يبكي فَقَالُوا: ما الَّذِي يبكيك يرَحِمَكَ اللهُ قَالَ: قرحة يجدها الخائفون فِي قُلُوبهمْ قَالُوا: وما هي؟ قَالَ: روعة النداء بالعرض على الله عز وجل.(2/396)
وقَالَ معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن المُؤْمِن لا يسكن روعه، حَتَّى يترك جسر جهنم وراءه. هَذِهِ نماذج من مخاوف السَّلَف، وَنَحْنُ أجدر بالخوف مِنْهُمْ، لكن لَيْسَ بكثرة الذُّنُوب بل بصفاء الْقُلُوب وكمال المعرفة.
وإلا فلَيْسَ أمننا وعدم خشوعنا لقلة ذنوبنا، وكثرة طاعاتنا، بل قادتنا شهواتنا وغلبت عَلَيْنَا شقوتنا وإنهما كنا فِي الدُّنْيَا وزينتها وصدتنا عَنْ ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا بقرب الرحيل ننتبه، ولا بكثرة الذُّنُوب تتحرك، ولا بمشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا بخطر الخاتمة انزعجنا، فنسأل الله أن يتداركنا بلطفه وإحسانه وأن يجود عَلَيْنَا بفضله ورحمته إنه على كُلّ شَيْء قدير.
شِعْرًا: ... فَوَحَقِّ مَنْ سَمَّكَ السَّمَاءَ بِقُدْرَةٍ ... وَالأَرْضَ صَيَّرَ لِلْعِبَادِ مِهَادَا
إِن الْمُطرَّ على الذُّنُوبِ لَهَالِكٌ ... صَدَّقْتَ قَوْلِي أَوْ أَرَدْتَ عِنَادَا
شِعْرًا: ... أَجَلُّ ذُنُوبِي عِنْدَ عَفْوِكَ سَيِّدِي ... حَقِيرٌ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبِي عَظَائِمَا
وَمَا زِلْتَ غَفَّارًا وَمَا زِلْتَ رَاحِمَا ... وَمَا زِلْتَ سَتَّارًا عَلَى الْجَرَائِمَا
لَئِنْ كُنْتُ قَدْ تَابَعْتُ جَهْلِي فِي الْهَوَى ... وَقَضَيْتُ أَوْطَارَ الْبَطَالَةِ هَائِمَا
فَهَا أَنَا قَدْ أَقْرَرْتُ يَا رَبُّ بِالَّذِي ... جَنَيْتُ وَقَدْ أَصْبَحْتُ حَيْرَانَ نَادِمَا
آخر: ... أَتَذْهَلُ بَعْدَ إِنْذَارِ الْمَنَايَا ... وَقَبْلَ النَّزْعِ أَنْبَضَتِ الْحَنَايَا؟
رُوَيْدَكَ لا يَغُرُّكَ كَيْدُ دُنْيَا ... هِيَ الْمِرْنَانُ مُصْمِيَةُ الرَّمَايَا
أَتَرْجُو الْخُلْدَ فِي دَارِ التَّفَانِي ... وَأَمْنَ السِّرْبِ فِي خُطَطِ الْبَلايَا؟
وَتُغْلِقُ دُونَ رَيْبِ الدَّهْرِ بَابَا ... كَأَنَّكَ آمِنٌ قَرْعَ الرَّزَايَا
وَأَنَّ الْمَوْتَ لازَمَةٌ قِرَاهُ ... لُزُومَ الْعَهْدِ أَعْنَاقَ الْبَرَايَا
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ غَاز ... لَهُ الْمِرْبَاعُ مِنَّا وَالصَّفَايَا
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار(2/397)
واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فائدةٌ جليلةٌ من كلام ابن القيم وشيخ الإِسْلام رحمهما الله "
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .
فالآية الأولى فِي الجهاد الَّذِي هُوَ كمال القوة الغضبية، وَالثَّانِيَة فِي النكاح الَّذِي هُوَ كمال القوة الشهوانية فالْعَبْد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نَفْسهُ منه، وَهَذَا المكروه خَيْر لَهُ فِي معاشه ومعاده، ويجب الموادعة والمتاركة وَهَذَا المحبوب شر لَهُ فِي معاشه ومعاده.
وَكَذَا يكره المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها خَيْر كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها شر كثير لا يعرفه فالإِنْسَان كما وصفه خالقه ظلوم جهول. قُلْتُ: ولَقَدْ أجاد القائل:
شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ غَيْرُ اللهِ لِلْمَرْءِ عُدَّةً ... أَتَتْهُ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ
وَقَدْ جَرَّتْ الْحُنَفَاءُ حَتْفَ حُذَيْفَةٍ ... وَكَانَ يَرَاهَا عُدَّةً لِلشَّدَائِدِ
آخر: ... إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللهِ لِلْفَتَى ... فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذَلِكَ ما اختاره الله لَهُ بأمره ونهيه، فانفع الأَشْيَاءِ لَهُ على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه.
وأضر الأَشْيَاءِ عَلَيْهِ على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه فإذا قام بطاعته(2/398)
وعبوديته مخلصًا لَهُ، فكل ما يجري عَلَيْهِ مِمَّا يكرهه يكون خيرا لَهُ وَإِذَا تخلى عَنْ طاعته وعبوديته فكل ما هُوَ فيه محبوب هُوَ شر لَهُ.
فمن صحت لَهُ معرفة ربه والفقه فِي أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة الْعَبْد فيما يكره أعظم مَنْهَا فيما يحب.
فعامة مصالح النُّفُوس فِي مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها فِي محبوباتها، انظر إِلَى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعهدها بالسقي والإصلاح حَتَّى أثمرت أشجارها فاقبل عَلَيْهَا يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة.
حتى إِذَا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها، أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تَكُون بحضرة الملوك، ثُمَّ لا يدعها ودواعي طبعها من الشراب كُلّ وَقْت، بل يعطشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك عَلَيْهَا دَائِمًا وإن كَانَ ذَلِكَ أنضر لورقها وأسرع لنباتها.
ثُمَّ يعد إِلَى تلك الزينة التي تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما فِي شجرة العنب ونحوه، فهو يقطع أعضائها، بالحديد، ويلقي عَنْهَا كثيرًا من زينتها وَذَلِكَ عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالْحَيَوَان لتوهمت أن ذَلِكَ إفسادٌ لها وأضرارٌ بها، وإنما هُوَ عين مصلحتها.
وكَذَلِكَ الأب الشفيق على ولده العَالِم بمصلحته، إِذَا رأى مصلحته فِي أن يمسك عَنْهُ العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه، لعلمه أن ذَلِكَ أكبر الأسباب إِلَى فساده وهلاكه.(2/399)
وكَذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَهَوَاتِهِ حُمْيَةً لَهُ وَمَصْلَحَةً لا بُخْلاً عَلَيْهِ، فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَأَعْلَمُ الْعَالَمِينَ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَمِن آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، إِذَا أَنْزَلَ بِهِمْ مَا يَكْرَهُونَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ لا يُنْزِلَهُ بِهِمْ، نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَلُطْفًا بِهِمْ.
وَلَوْ مُكِّنُوا مِنْ الاخْتِيَارِ لأَنْفُسِهِمْ لَعَجِزُوا عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِم عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلاً، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَوَلَّى تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا، فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمُوقِنُونَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَلَمْ يَتَّهِمُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْجُهَّالِ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَنَازَعُوهُ تَدْبِيرَهُ وَقَدْ حُوا فِي حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِهِ، وَعَارَضُوا حُكْمَهُ بِعُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَسِيَاسَاتِهِمْ الْجَائِرَةِ فَلا لِرَبِّهِمْ عَرَفُوا وَلا لِمَصَالِحِهِمْ حَصَّلُوا. وَاللهُ الْمُوَفِّقُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُ الدِّينِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِن الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ وَلا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالإِنَابَةِ وَحَلاوَةِ الإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ.
وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجُدْبِ وَالضُّرِّ وَمَا يَحْصُلُ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ للهِ فَأَعْظَمُ مِن أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدَرِ إِيمَانِهِ وَلِهَذَا قِيْلَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَكَ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِكَ.
وَطَوْرًا تَكُونُ الْمَصَائِبُ انْتِقَامًا مِن اللهِ تَعَالَى لِمُخَالَفَةِ الْعَبْدِ أَمْرَ رَبِّهِ كَمَعْصِيَةِ آدَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنْ الأَكْلِ مَنْهَا فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ مَعْصِيَةٌ جَزَاءَ عِصْيَانِهِ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ مِنْ رِجْسِ الْمَعَاصِي.(2/400)
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِن مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ وَلا أَذَى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . أ. هـ.
وَالْحِكْمَةُ وَاللهُ أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مُرَبِيَة لِلنُّفُوس وَتُمُرِّنُهَا عَلَى احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى الإِنَاءَاتِ وَالرَّزَانَة وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فَتَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَبُلُوغِ الْغَايَاتِ لِذَلِكَ تَجِدُ الرِّجَالَ الأَمَجَادَ الَّذِينَ هُمْ أُشَدُّ مُعَانَاةً لِلشَّدَائِدِ فِي حَيَاتِهِمْ وَصَبَرُوا عَلَى الْمَصَائِبِ وَالآلامِ الَّتِي تَنَالُهُمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ ذِكْرُهُمْ بَاق عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ وَأَجْرُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَام.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ - صلى الله عليه وسلم - وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُطَمِّنَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تُصِيبُهُمْ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ تَفِيئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ الْمُجَذِّبَةَ عَلَى أَصْلِهَا لا يَفِيئُهَا شَيْءٌ يَكُونُ انْجَعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» .(2/401)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فِمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ جَابِرِ مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ البَلاءِ» .
وَعَنْ سَعْدِ بن أبِي وَقَّاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ يُبْتَلِيَ الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ، زِيدَ فِي بَلائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةً خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ البَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ولَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة: (يُبْتَلى الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُؤْمِنَةُ فِِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) . صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيّ وَرَوَى الثَّانِي مَالِكٌ وَأحمد.
وَوَرَدَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَة لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِي كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقْلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُحْتَضَرِ فيؤذيه فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ وَقَدْ روي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ إني أعوذ مِن بك الغَرقِ والحَرَقِ والهَدْمِ وأعُوذُ بكَ أن يَتَخَبَّطَنِي الشيطانُ عِنْدَ الموتِ» . أَخْرَجَهُ الطبراني.(2/402)
وَفِي حديث آخر أن إبليس لا يكون في حالِ أشدَّ منه على ابن آدم عند الموتِ يقول لأَعْوَانِهِ: دُونكُمُوه فإنه إن فَاتكم اليوم لم تَلْحَقُوه.
وقَدْ يَسْتَوْلى عَلَى الإِنْسَان حِينَئِذٍ فَيُضِلَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَرُبَّمَا حَالَ بينه وبينَ التوبة وَرُبَّمَا مَنَعَهُ مِن الْخُرُوجِ من مَظْلَمَةٍ أَوْ أَيَّسَهُ مِن رَحْمَةِ الله.
وَيَقُولُ لَهُ: قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْكَ سَكَرَاتُ الموت التي لا تطيقها الجبال وَنَزْعُ الموت شديد وَرُبَّمَا خَوَّفَهُ وأقلَقَهُ وَأَوْقَعَهُ فِي الوَسَاوِسَ والاعتراضِ على القدرِ والعياذُ بِاللهِ.
فينبغي لِلْمُؤْمِنِ أن يعلم أن هَذَا الساعة ساعةَ خُروجِ الروحُ حِينَ يحمى الوطِيس فَيَتَجَلَّد وَيَتَصَبَّر وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ الحي القيوم على هَذَا الْعَدُوّ المرصد ليرجع هَذَا الْعَدُوّ خائبًا.
عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِيُنْضِي شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكم بعيره فِي السفر» .
ويعلم أن الجزع لا يفيد شَيْئًا وعن عمر بن عَبْد الْعَزِيز رَحِمَهُ اللهُ أنه قَالَ: ما أحب أن تُهَوَّنَ عَليَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ إنه آخر ما يكفر به عَنْ المسلم.
وعن إبراهيم قَالَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمَرِيض أن يَحْمَدَ اللهَ عِنْدَ الموت، وعن ابن عباس أَنه قَالَ آخِرُ شِدَّةٍ يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الموت.
واعْلَمْ أنَّ المرضَ يُذْهِبُ الخَطَايا وكُلَّمَا اشْتَدَّ المرضُ كَانَ أَذْهَبَ لها عن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فَمَسَسْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فقَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ َرُجلانِ مِنْكُمْ» . قُلْتُ: ذَلِكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَها» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.(2/403)
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المسلم إلا كفر الله عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشوكة يشاكها» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالُ البَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وفي ماله وفي ولده» .
وعن صهيب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِبْتُ مِن قَضَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِ إِن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ إلا لِلْمُؤْمِنِ إن أصابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا وإن أصابته ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وعن أبي سعيد الخدري قَالَ: دَخَلْتُ على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فوجَدتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ (فَوق اللحاف) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أشدَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: «إِنَا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا البَلاء وَيُضَعَّفُ لَنَا الأجْر» .
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءُ؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاء» . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ لَيُبْتَلِي بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أحَدهم لَيَفْرَحُ بِالبَلاءُ كَما يَفْرَحُ أَحَدُكم بالرَّخَاء.» . رَوَاهُ ابن ماجه.
وعن عَبْد اللهِ بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حدثنا وكيع عَنْ أبي حيان عَنْ أبيه قَالَ: دَخَلُوا على سُوَيْدِ بن شُعْبَةَ اليَربُوعِي وقَدْ صَارَ على فراشِهِ كَأنَ فَرْخٌ وامرأتُه تُنَادِيهِ مَا نُطْعِمُكَ ما نَسْقِيكَ، فأجابها بِصوتٍ خِفَى دَبَرَتِ الْحَرَاقِفُ وَطَالَتِ الضَّجْعَةُ وَمَا أَحِبُّ أَن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَقَصَنِي مِنْهُ قُلامَةَ ظُفرُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكَانَ جماعة من السَّلَف يجعلون مكَانَ الأنين والتأوه من شدة المرض ذِكْرَ الله سُبْحَانَهُ والاستغفار والتعبد وَذَلِكَ لان الأنين ونحوه شكوى فَمَتَى أمكن التصبر عَنْهُ فينبغي أن يصبر.(2/404)
شِعْرًا: ... وَمَا هِيَ إلا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ... وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ
فإن غلب عَلَيْهِ المرض عذر، وقَالَ الإِمَام أحمد لابْنِهِ: أقرا عليَّ حديث طاووس أنه كره الأنين فِي المرض فقرأ عَلَيْهِ فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمِ وحضره أخوه فجعل يَتَقَلَّبُ قَالُوا: كَانَ لَهُ حاجة. قال: نَعَم.
فَقَالَتْ ابْنَتُهُ: مَا لَهُ مِنْ حَاجَةٍ إِلا أنه يُرِيدُ أَنْ تَقُومُوا عَنْهُ فَيَقُومُ فَيُصَلِّي، وَمَا ذَاكَ فِيهِ.
فقامَ القَومُ عَنْهُ وقامَ إِلَى مَسْجِدِه يُصَلِّي فصاحت ابنته بِهِمْ فدخلوا عَلَيْهِ فحملوه فمَاتَ.
ودخلوا على أحد السَّلَف وَهُوَ يعاني سكرات الموت فجعل يكبر ويُهَلل ويذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وجعل النَّاس يدخلون عَلَيْهِ أرسالاً يسلمون عَلَيْهِ فيرد عَلَيْهمْ ويخرجون.
فَلَمَّا كثروا عَلَيْهِ أقبل على ولده فقَالَ: يَا بُنَيَّ أَعْفِنِي رُدَّ السَّلام على هؤلاء لا يشغلوني عَنْ ربي عَزَّ وَجَلَّ.
وقَالَ أبو مُحَمَّد الحريري: حَضَرْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ قَبْلِ وَفَاتِهِ بِسَاعَتَيْنَ فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِم قَدْ بلَغَ بِكَ مَا أَرَى مِنْ الْجُهْدِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد أَحْوَجُ مَا كُنْتُ إِلَيْهِ هَذِهِ السَّاعَة فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مَنْهَا عَارِيًا كَمَا دَخَلَهَا عَارِيًا.
وَهَكَذَا كُلُّ بَنِي آدم يدخل الإِنْسَان مُجَرَّدًا مِن اللباس وَيَخْرُجُ مِنْهَا عَارِيًا إِلا مِنْ كَفَنِهِ كَمَا قِيْلُ:
شِعْرًا: ... نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءآنِ تُلْوَى فِيهِمَا وَحَنُوطُ(2/405)
آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوط غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
أَوْجَدَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْمل بِطاعة الله وَيَتَمَتَّعَ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُسْتَعِينًا فِيهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ حَتَّى إِذَا انْقَضَى أَجَلُهُ أَخْرَجَهُ اللهُ لِدَارِ الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ عَلَى عَمَلِهِ.
فإنْ أَحْسَنَ التَّصَرُّفَ وَأَطَاعَ رَبَّهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ لِيَسْعَد فِيهَا لِلأَبَد، وإِنْ أساء التَّصَرُف وَعَصَى رَبَّهُ أَدْخَلَهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَتَعَذَّبُ فِيهَا لِلأَبَد.
وكل ما فِي الدُّنْيَا من أَمْتِعَةٍ وَلَذَائِدَ قليلة وضئيلة ومحدودة بِالنِّسْبَةِ لِلَذَائِد الْجَنَّة بل موضع السوط فِي الْجَنَّة خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والمكث فِي الدُّنْيَا قليل فهو سنوات تمر كالبرق الخاطف لا يشعر الإِنْسَان إلا وقَدْ انْتَهَتْ كأنها سَاعة مِن نهار حَيَاتهُ كُلّهَا.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ومِن النَّاس مَن رَآها دَارَ قَرَار، وقَالَ: لا دَارَ لِيَ سِوَاهَا واعْتَنَى بِهَا وَبِزَخَارِفَِِها وَغَرَّهُ إِبْلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ وَزِيَّنَهَا لَهُ فَانْغَمَسَ فِيهَا، وَعَمِلَ لَهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَتَعِبَ فِيهَا مُسْتَمْتِعًا بِخَيْرَاتِهَا الْفَانِيَةِ وَمُلاقٍ بَلاءَهَا وَأَنْكَادَهَا وَأَكْدَارَهَا، وَبَعْدَ قَلِيل هَجَم عَلَيْهِ هَادِمُ اللَّذاتِ وَأَيْقَظَهُ من غَفْلَتِه بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ فَنَدَمَ حَيْثُ لا يَنْفَعُ النَّدَمِ وَعَرَفَ بَعْدَ الْفَوْت أَنَّ الدُّنْيَا دَارَ مَنْ لا دَارَ لَهُ وَلَهَا يَجْمَعُ من لا عَقْلَ لَهُ.
(فَصْلٌ) : وَقِسْمٌ مِن النَّاس وَفَّقَهُم اللهُ وَهُوَ أَعْلَمْ بالمهتدين فأسْعَدهم بالإسلام وَوَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ.(2/406)
قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وَهؤلاء تَمَشَّوْا مَعَ الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ أَصْلَحُوا دُنْيَاهُم وَجَدُّوا وَاجْتَهِدُوا وَعَمِلُوا لِلآخِرَةِ.
فَالدُّنْيَا نِعْمَ الْمطيةُ لِلْمُؤْمِنِ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْخَيْر وَيَنْجُو عَلَيْهَا مِن الشَّر فَاتَّخَذَهَا مَطِيَّةً فَعَمَرَهَا كَمَا أَمَرَهُ خَالِقُهُ وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِدَالِ وَتَوَازُنٍ وَلَمْ يُعْلق قَلْبهُ بِهَا.
فَأطَاعَ رَبَّهُ وَاسْتَعَدَّ لآخِرَتَهُ فَلَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى أَتَمِّ الاِسْتِعْدَادِ ومن النَّاس من رأى الدُّنْيَا تافهة وأيامها قليلة وعلم ما فِي الآخِرَة من نَعِيم مُقيم وَعَيْشٍ سَلِيم وعلم أنَّ الدُّنْيَا والآخِرَة ملك {اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {الَّذِي لَهُ} {الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
فأحب ربه واشتغل بعبادته وبالتقرب إليه بالعلم وفعل الْخَيْر وترك الدُّنْيَا وزينتها وزهد فيها.
وَهَذَا القسم نادر كندرة الماس والجوهر الثمين فسعدوا بطاعة الله والتقرب إليه وصرف الوَقْت فيما يرضيه. ومن النَّاس من جهل الدُّنْيَا والآخِرَة فعاش فيها عيش البهائم يعمل ليله ونهاره.
ويأكل كما تأكل الأنعام فلم يستفد من الدُّنْيَا ولم يستعد للآخرة هؤلاء هم الأكثرية الساحقة. وأسوء النَّاس من شغل عمره فِي خدمة مخلوق وضيع وقته فِي القِيْل والقَالَ والجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات.
وروي أن شر النَّاس منزلة عَنْدَ الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره.
شِعْرًا: ... وَأَسْوء النَّاس تدبيرًا لِعَافِيَةٍ ... مَن أَنفقَ العُمر فيما لَيْسَ يَنْفَعُهُ
أما الاعِتدال والتوسط بين الاستمتاع بالدُّنْيَا بلا إسراف ولا إِضَاعَةِ وَقْتٍ(2/407)
ولا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَكُونُ مُسْتَعِدًا للآخِرَةِ فهَذَا سِمَةُ الْعُقَلاءِ وَالسُّعَدَاء الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَصْرِيفَ أَوْقَاتِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ.
وَلِيَعْلَم الْمُؤْمِنُ أن الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِن الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا يَحْمِي الْمَرِيضَ أَهْلَهُ مِن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَخَافُونَ عَلَيْهِ.
وَعَلَى الإِنْسَان الْعَاقل أَنْ يَفْهَمْ الدُّنْيَا على حَقِيقَتِهَا فَيَنْظُرَ أَوَّلاً كَيْفَ وُلِدَ يَجِدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَارِيًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ حَتَّى مِن الثِّيَابِ ثُمَّ رَزَقَهُ اللهُ الْكِسْوَةَ مِن الْمَلابِسِ وَالْمَتَاعِ وَالسَّكَنِ وَالْمَالِ عَلَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ مُرَجَعَةُ.
فَإِذَا فَقَدْ مِنْهَا شَيْئًا فَلا يَحْزَنْ لأَنَّ مَنْ أَعَارَهُ شَيْئًا اسْتَرَدَّهُ وَسَوْفَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّ مَا أُعْطِي وَيَخْرُجُ مِن الدُّنْيَا تَارِكًا كُلَّ شَيْءٍ.
شِعْرًا: ... وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُونَ إلا وَدَائِعٌ ... وَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ
آخر: ... تَجَرَّدْ مِن الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدً
آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ تَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلَق
(حِكَمْ وَمَوَاعِظُ وَآدَاب)
قَالَ بَعْضُهُمْ يُوصِي ابْنه: يَا بُنَيَّ لا تدخل فِي الدُّنْيَا دُخُولاً يَضُر بِآخِرَتِكَ وَلا تَتْرُكْهَا تَرْكًا تَكُونُ بِهِ كلاً عَلَى النَّاسِ.
وقَالَ: أُتْرُكْ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ تَتْرُكَكَ، وَاسْتَرْض رَبَّكَ قَبْل لِقَائِهِ، وَأعْمُرْ بَيْتَكَ الَّذِي سَوْفَ تَسْكُنُه قَبْلَ انْتِقَالِكَ إِلَيْهِ.
قَالَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ لِمَنْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ: كَيْفَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا مَنْ تَأَمُرونَهُ بِتَرْكِ الدِّينَارِ وَالدِّرهِم وَهُم إِنْ الْقَوهَا أَخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ.
وَقَالَ آخر الْوَقْت آلة الرِّزْقِ إن اسْتُعْمِلَ، وآفةُ الرِّزْقِ إِذَا أُهْمِلْ.(2/408)
لا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الأَكْدَارِ، مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مَا أَبْرَزَتْ إِلا مَا هُوَ مُسْتَحَقُّ وَصْفِهَا وَوَاجِبُ نَعْتِهَا فَاحْذَرْهَا.
شِعْرًا: ... طُبِعَتْ على كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا ... صَفْوًا مِن الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
مَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَزْبَلَةٍ بِجَانِبِ مَقْبَرَةَ، فقَالَ: هَذِهِ كِنْزُ الرِّجَال، وَهَذِهِ كِنْزُ الأَمْوَالِ. خَلَق اللهُ جَلَّ وَعَلا الدُّنْيَا لِتَكُون فِي خِدْمَتِكَ، فَتَحَوَّلْتَ إِلَى خِدْمَتِهَا وَأَرَادَكَ مَلِكًا لَهَا وَأَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكًا لَهَا.
شِعْرًا: ... أَنْتَ الأَمِيرُ عَلَى الدُّنْيَا بِزُهْدِكَ فِي ... حُطَامِهَا وَطَرِيقُ الْحَقِّ مَسْلُوكُ
وَأَنْتَ عَبْدٌ لَهَا مَادُمْتَ تَعْشِقُهَا ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ مَمْلُوكُ
الدُّنْيَا مَحْبُوبَةٌ لِلإنْسِان ولكن يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لا نَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا كَرهَهُ اللهُ وَلا نَمْنَعْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَبَّهُ اللهُ وبذا لا يَضُرنا حُبُّنَا لَهَا.
الدُّنْيَا بَحْرٌ وَالآخِرَة سَاحِل والمركبُ التَّقْوَى والنَّاسُ سُفر.
الذنب يضر فاعله وقَدْ يضر غيره إن عَيَّرهُ ابتُلِي، وإن اغْتَابَهُ أثُِم، وإن رَضِي به شاركه، قِيْل: إن المسيح عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يَا رَبِّ مَن أَشرفُ النَّاسِ، فَأَوْحَى الله إليه أشرفُ النَّاس مَن إِذَا خلا علم أني ثانيه فأَجَلَّ قَدْرِي عَنْ أن يظهرني على معاصيه.
هجران المعاصي أفضل الهجرة والمحافظة على الفرائض أفضل الجهاد ولا يأتي أحد بشَيْء أحَبَّ إِلَى الله مِنْ ذِكْرِهْ. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} لا تَسْتَبْطِئ إجَابَةَ الدُّعَاء وقَدْ سَدَدَتَ طُرَقَهَا بالمعاصي.
التَّمَادِي بِالْمَعَاصِي يُوجِبُ الإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَالإِصْرَارُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ الله ومَن غَفَل عَنْ الله تَجَرَّأَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ.
أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ الْجَنَّةَ بِمَا فِيهَا بِشَهْوَة سَاعة، سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ مِنْ عَلامٍَة لِمَنْ قَبِلَهُ الله؟ فقَالَ: الله أعْلَمْ ولكن هنا قرائن ودلائل(2/409)
ومرجحات مِنْهَا إِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الله جَلَّ وَعَلا قَدْ عَصَمَكَ من المعاصي وَكَرَّهَهَا إليكَ وَوَفَّقَكَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِن الطاعات التي أمركَ بِهَا تَرَجّح عِنْدَكَ الْقُبُول لا تَتَهَاون بالذنب الصغير وانظر إِلَى مَن عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا السماوات والأَرْض جميعًا قبضتُه يوم القيامة.
شِعْرًا: ... أَفَقْ مِنْ غَفْلَةِ الآمَالِ تَسْلَمْ ... وَقُمْ للهِ أَوَّابًا مُطِيعَا
وَخَالِفْ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ... وَنَفْسِكَ وَالْهَوَى نُمَّ الرَّقِيعَا
فَنِعْمَ الْعَبْدُ أَنْتَ بِغَيْرِ شَكٍّ ... إِذَا أَصْبَحْتَ لِلدَّاعِي سَمِيعَا
بَصِيرًا بِالْعَوَاقِبِ فِي أُمُورٍ ... بِهَا أَحْسَنْتَ مَا عِشْتَ الصَّنِيعَا
تَمَسَّكْ بِالشَّرِيعَةِ وَاحْتَرِمْهَا ... تَنَلْ مِنْ فَضْلِهَا الشَّرَفَ الرَّفِيعَا
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.
(فَصْلٌ)
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آفَةُ الْكِبْرِ عَظِيمَةٌ وَفِيهِ يَهْلِكُ الْخَوَّاصُ وَقَلَّمَا يَنْفَكُ عَنْهُ الْعُبَّاد وَالزُّهَادُ وَالْعُلَمَاءُ وَكَيْفَ لا تعظم آفُتُهُ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّة لأَنَّهُ يحول بين الْعَبْد وبين أَخْلاق الْمُؤْمِنِينَ لأن صاحبه لا يقدر أنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فلا يَقْدِرُ على التَّوَاضُعِ وَلا عَلَى تَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغَضَبِ وَلا عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَقُبُولِ النُّصْحِ وَلا يَسْلِمْ مِنْ الازْدِرَاءِ وَالاحْتِقَارِ لِلنَّاسِ وَاغْتِيَابِهِمْ فَمَا مِنْ خُلُقٍ شَيْءٍ ذَمِيمٍ إِلا وَهُوَ مُتَّصِف به ومُضْطَرٌ إِلَيْهِ وَقَدْ شَرَحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الْكِبْر فقَالَ: «الْكِبْر بَطَر الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ يَدْعُوا إِلَى الْكِبْرِ تَتَوَلَّدُ الآفَاتُ الْكَثِيرَةُ وَهَذَا مَعَ الْخَلْقِ فَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ فَإِنَّ الْعُجْبَ بِالطَّاعَاتِ نَتِيجَةِ اسْتِعْظَامُهَا فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَيَنْسَى فَضْلَ اللهِ وَنِعْمَتَه عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لَهَا وَيَعْمَى عَنْ آفَاتِهَا الْمُفْسِدةِ لِهَا.(2/410)
نَظَرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وَالٍ ظَالِم استقبلهَ النَّاسُ بِالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ سُرُور الدُّنْيَا وَخِزْي الآخِرَة.
وَقَالَ آخر: إنما هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطِهِمْ الظُّلْم حَتَّى يفتدى مِنْهُمْ.
كَانَ عُمر بن عَبْد الْعَزِيز يجعل كُلّ يوم من ماله دِرْهَمًا فِي طعام الْمُسْلِمِين الفقراء ويأكل معهم.
وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ألا وإنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ كَافِلِ الْيَتِيم إِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوف.
ودخل بَعْضهمْ على سلمان الفارسي رضي الله عنه وَهُوَ والٍ على المدائن فوجَدَهُ يَعْمَل الخُوصَ بِيَدِه يُسَوِّي مِنْهُ قُفَفًا لِيَبِيعَهَا وَيَتَقَوَّتُ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ: تَعْمَلُ هَذَا وَأَنْتَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدَائِن وَيَجْرِي عَلَيْكَ الرِّزْقَ.
فَقَالَ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنِّي اشْتَرِي بدرهم خوصًا (سَعَفُ النخل) فأعمله قُفَفًا فأبيعه بثلاث.
أُنْفِقُ دِرْهَمًا عَلَيَّ وَعَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّق بِدِرهمٍ وَأُعِيدُ دِرْهَمًا فِيهِ وَاللهِ إنِّي أحِبُّ أَنْ آكل مِنْ عَمَلِ يَدِي.
ورآه بَعْض النَّاس فِي الطَرِيق وظنه من جملة الْحَمَامِيل الْفُقَراء فقَالَ: احْمِلْ لي هَذَا فَحَمَلَ لَهُ أَمْتِعَتَهُ وَمَشِيَ مَعَهُ فِي السُّوق، وَكُلَّما صَادَفَ إِنْسَانًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِير وَالْمَقَاضِي عَلَى رَأْسِهِ فَاسْتَغْرَبَ الرَّجُلَ ذَلِكَ وَخَجَلَ مِنْهُ وَقَالَ لِسَلْمَانَ: مَن الأَمِير؟ قَالَ: أَنَا. فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ وَيَطْلُبه السَّمَاحَ وَيَقُولُ: أَعْطِني مَتَاعِي جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا.
قَالَ: لا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ أَنَا خَادِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَى إِلا أَنْ يُوصِلَ الأَمْتِعَةِ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهَا.(2/411)
قِيْلَ لِعُمَرَ بن عَبْدِ الْعَزِيز جَزَاكَ اللهُ عَن الْمُسْلِمِين خَيْرًا فقَالَ: بَلْ جَزَى الْمُسْلِمِين عَنِّي خَيْرًا.
وَأَتَى إِلَيْهِ مَظْلُومٌ مِنْ الْيَمَنِ فَكَتَبَ لِعَامِلِهِ بِالْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ حَقَّهُ وَيُنْصِفَه مِمَّنْ ظَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَظْلُومِ: كَمْ نَفَقَتُكَ مِن الْيَمَنِ إِلَى هُنَا وَهَلْ بَلي مِنْ أَثْوَابِكَ شَيْء ثُمَّ دفعها إليه.
وَأَتَى إِلَيْهِ فَقِير وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَدَّتْ بِي الْحَاجَةُ وَبَلَغَتْ بِي الْفَاقَةُ واَللهُ سَائِلُكَ عَنْ مَقَامِي هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَبَكَى عُمَر حَتَّى بَلَّ الْقَضِيبَ الَّذِي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَقَالَ: كَمْ عِيَالكَ؟ قَالَ: خَمْسَة أَنَا وَامْرَأَتِي وَثَلاثَةُ أَوْلاد. فقَالَ عُمَرُ: فَرَضْنَا لَكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي الشَّهْرِ وَنَأْمُرُ لَكَ بِخَمْسِمَائَةِ دِرْهَمْ مَائتين مِنْ مَالِي وَثَلاثمائة مِنْ مَالِ اللهِ حَتَّى تَتَبَلَّغَ بِهَا حَتَّى يَخَرَجَ عَطَاؤك.
وَقُدِّمُ لَهُ هَدِيَّةٍ وَقَالُوا لَهُ: أقْبَلْهُاَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةِ، فقَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - هَدِيَّة وَهِيَ الآنَ لَنَا رِشْوَة وَرَفَضَهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : بَعْدَ الصُّلْحِ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالرُّوم قَدَّمَ قَائِدٌ رُومَانِي طَعَامًا فَاخِرًا لأَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَتُطْمِعُونَ الْجُنْدَ مِثْلَ هَذَا. قَالَ: لا.
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْنَا بِئْسَ أَبُو عبيدة وَقَدْ صَحِبَهُ جُنْدٌ مِن بِلادِهِمْ لِيُهْرِقُوا دِمَاءَهُمْ أَوْ لم يُهْرِقُوا فَاسْتَأْثَرَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بشَيْء لا نأكل إلا مِمَّا يأكلون.
رَكَبَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بنُ عِيسَى الظَّالِم فِي مَوْكِبٍ عَظِيم فَقَالَ النَّاس: مَنْ هَذَا مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ امرأةٌ: لِمَ تَقُولُونَ مَنْ هَذَا. هَذَا عَبْدٌ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ فَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللهِ تَعَالَى فَابْتَلاهُ اللهُ بِمَا تَرَوْنَ فَرَجَعَ الْوَزِيرُ إِلَى مَكَّة تَائِبًا مُجَاوِرًا.
كَتَبَ وَالٍ لِعُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إِنَّ قَوْمًا اخْتَلَسُوا مَالَ الدَّوْلَةِ فَأْذَنْ لِي فِي(2/412)
عِقَابِهِمْ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ لا تَظُنَّ أَنَّ رِضَائِي عَلَيْكَ وَمَشُورَتِي تُنْجِيكَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، لِذَا مِنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ فَجَازِهِ بِمَا يَسْتَحِق وَمَنْ أَنْكَر فَاسْتَحْلِفه وخلِّ سَبِيلَهُ فَلَعُمْرِي لأَنْ يلقَوُا اللهَ بِخِيَانَتِمِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُلْقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَهلك مَنْ كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطهم الظُّلْمِ حَتَّى يُفْتَدَى مِنْهُمْ.
(موعظة)
عِبَادَ اللهِ سُرُورَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَعْبُرُون الْقَنَاطِرَ وَيَأْمَنُونَ الْعَوَاثِرَ فَذَلِكَ يَوْمُ عِيدِهِمْ وَمَا دَامُوا فِي دَارِ الْغُرُورِ فَلا غِبْطَةَ وَلا سُرُورَ.
وَأَيَّ سُرُورٍ لِمَنْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَاصِيَتِهِ وَالذُّنُوبُ رَاسِخَةٌ فِي آنِيَتِهِ وَالنَّفْسُ تَقُودُهُ إِلَى هَوَاهَا وَالدُّنْيَا تَتَزَيَّنُ فِي عَيْنِهِ بِمُشْتَهَاهَا.
وَالشَّيْطَانُ مُسْتَبْطِنٌ فَقَارَ ظَهْرِهِ لا يَفْتَرُ عَنْ الْوَسْوَسَةِ فِي صَدْرِهِ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ بعَرْضِهِ لِلْحَوَادِثِ وَلا يَدْرِي فِي كُلِّ نَفَسٍ مَا عَلَيْهِ حَادِث.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلَهُمْ أَعْدَائِي
وَمِنْ وَرَائِهِ الْمُغِير وَمَسْأَلة مُنْكَرٍ وَنَكِير وَيَتَوَسَّدُّ التُّرَابَ إِلَى يَوْمِ النُّشُور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يَوْمٌ لا يُبْلَغُ وَصْفُ أَهْوَالِهِ وَلا شَرْحُ أَحْوَالِهِ مَا لا يَسَعُ الْمُؤمنَ بِهِ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ وَلا يَخْلُدُ إلى هَذِهِ الدَّار وَلا يَكُونُ لَهُ هَمٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلا التَّقَرُّبُ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِش وَالرَّيْبَ وَإِقَامَةِ الدِّين الَّذِي فِي إِقَامَتِهِ النَّجَاةُ وَفِي تَضْيِيعِهِ الْعَطَب العَظِيم.
شِعْرًا: ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ(2/413)
يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ
يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ ... فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ
يَوْمُ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمْ ... وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنْ الْعِقَبَاتِ
وَيَجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى ... يَتَلَمَّظُونَ تَلَمَّظَ الْعَطْشَانِ
وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّم ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنَ دَائِمَتَانِ
(فَوَائِد)
تَعَرَّفْ إِلَى الله بِمَا تَعَرَّف به إِلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَتَعَرَّفْ ما فَرَضَ عَلَيْكَ مَعْرِفَتَهُ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ.
ثَانِيًا: طَاعَتِهِ فِي فِعْلِ الواجبات وترك المحرمَاتَ.
ثَالِثًا: أَنْ تَشْتَاقَ إِلَى مَا شَوَّقَ إِلَيْهِ وَتَخَافَ مَا خَوَّفَ مِنْهُ لأَن العَالِم بأسماء اللهِ وصِفَاتِه وَأَحْكَامِهِ من أعْلم العَالِمين.
وَالْعَامِلُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ مِن أَعْمَلِ الْعَامِلِين.
إِن لم تقدر على الْجَدِّ فِي الْعَمَل فَقِفْ على باب الطَّلب وَتَعَرَّضْ لِنَفْحَةٍ مِنْ نَفَحَاتِ الربِّ فَفِي لَحْظَةٍ أَفْلَحَ السَّحَرة.
إِذَا رُزِقْتَ يَقَظَةً فَصُنْهَا فِي بَيْتِ عُزْلَةٍ فَإِنَّ أَيْدِي الْمُعَاشَرَةِ نَهَّابَةٌ وَاحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْبطَّالِينَ فَإِنَّ الطَّبْعَ لِصٌّ وَلا تُصَادِقَنَّ فَاسِقًا وَلا تَثِق إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ خَانَ أَوَّلَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لا يَفِي لَكَ أَبَدًا.
تَزَيَّنَتْ الْجَنَّةُ لِلْخُطَّابِ فجدوا واجْتَهِدُوا فِي تحصيل المهور.
تَعَرَّفَ رَبُّ الْعِزَّةِ لِلْمُحِبِّينَ فَعَمَلُوا لِلِقَاءِ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بِالْجِيَف.
ما يُسَاوِي ربع دينار خجل الفضيحة فَكَيْفَ بِأَلِمَ الْقَطْعِ.
لَيْسَ لِلْعَابِدِين مُسْتَرَاحِ إِلا تَحْتَ شَجَرَةَ طُوبَى.(2/414)
وَلا لِلْمُحِبِّينَ قَرَارٌ إِلا يَوْمَ الْمَزِيد فَمَثِّلْ لِقَلْبِكَ الاسْتِرَاحَة تَحْتَ شَجَرة طُوبَى يَهُنْ عَلَيْكَ النصب والتعب.
وَاسْتَحْضِر يَومَ الْمَزِيد يَهُنْ عَلَيْكَ مَا تَتَحَمَّلُ مِنْ أَجْلِهِ.
مَتَى رَأَيْتَ الْعَقْلَ يُؤَثِّرُ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ مُسِخَ.
وَمَتَى رَأَيْتَ الْقَلْب قَدْ ترحل عَنْهُ حب الله والاستعداد لِلقائه وحل فيه حب المخلوق والرِّضَا بالحياة الدُّنْيَا وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهَا فاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُسِفَ بِهِ.
وَمَتَى أَقْحَطَتِ الْعَيْنُ مِن الْبُكَاء مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّ قُحْطَهَا مِن قَسْوَةِ الْقَلْب.
وَمَتَى رَأَيْتُ نَفْسَكَ تَهْرَبُ مِن الأُنْسِ بِاللهِ إِلَى الأُنْسِ بِالْمَخْلُوق وَمِنْ الْخُلْوَة مَعَ اللهِ إِلَى الْخُلْوَة مَعَ الْمَخْلُوقِ فَاعْلَمْ أَنَّها لا تصلح لله.
مَن رَكِبَ ظهر التفريط والتواني والكسل نَزَلَ بدارِ الْعُسْرَةِ والندامة.
مَنْ أَدْلَجَ فِي غياهب الليل على نجائب الصبر صَبَّحَ منزل السرور.
وَمَنْ نَامَ عَلَى فِرَاشِ الْكَسَلِ أَصْبَحَ مُلْقًا بِوَادِي الأَسَف.
(فائدة نفيسة) : يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أن يتأملها ويأخذ لمستقبله فِكرة، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء: لَمْ أَزَلْ بُرْهَةً مِنْ عُمْرِي انْظُرُ اخْتِلافَ الأُمَّةِ وَالتمَسُ المنهاجَ الْوَاضحَ وَالسَّبِيل الْقَاصِدَ وَأطلبُ مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَاسْتَدِلُ عَلَى طَرِيقِ الآخِرَة بِإِرْشَادِ الْعُلَمَاء.
وَعَقَلْتُ كَثِيرًا مِن كَلام اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَأَوِيلِ الْفُقَهَاءِ وَتَدَبَّرْتُ أَحْوَالَ الأُمَّةِ وَنَظَرْتُ فِي مَذَاهِبِهَا وَأَقَاوِيلِهَا فَعَقَلْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا قُدِّرَ لِي.
وَرَأَيْت اخْتِلافَهُم بَحْرًا عَمِيقًا غَرِقَ فِيهِ نَاسٌ كَثِير وَسَلِمَ مِنْهُ عِصَابَةُ قَلِيلَة، وَرَأَيْتُ كُلَّ صَنْفٍ مِنْهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّجَاةَ لِمَنْ تَبِعَهُم وَأَن الْمَهَالِكَ لِمَنْ خَالَفَهَمْ. ثُمَّ رَأَيْتُ النَّاسَ أَصْنَافًا فَمِنْهُمْ الْعَالِمُ بِأَمْرِ الآخِرَة لِقَاؤُهُ عَسِير وَوُجُودُهُ عَزِيز. وَهُوَ يُعِدُّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا لِثَوَاب الآخِرَة وَالْقُرْبِ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.(2/415)
وَمِنْهُمْ الْجَاهِلُ فَالْبُعْد مِنْهُ غَنِيمَة.
وَمِنْهُمْ الْمُتَشبَهُ بالْعُلَمَاءِ مَشْغُوفٌ بِدُنْيَاهُ مُؤَثِّرٌ لَهَا.
وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ مَنْسُوبٌ إِلَى الدِّين مُلْتَمِسٌ بِعِلْمِهِ التَّعْظِيمَ وَالْعُلُوَّ، يَنَالُ بِالدِّينِ مِنْ عَرَض الدُّنْيَا.
وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا حَمَلَ.
وَمِنْهُمْ الْمُتَشَبِّهُ بِالنُّسَّاكَ مُتَحَرٍّ لِلْخَيْرِ لا غِنَاءَ عِنْدَهُ وَلا نَفَاذَ لِعِلْمِهِ وَلا مُعْتَمَدَ عَلَى رَأْيِهِ.
وَمِنْهُمْ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالدَّهَاءِ مَفْقُودُ الْوَرَعِ وَالتُّقَى.
وَمِنْهُمْ شَيَاطِينُ الإِنْسَ عَنْ الآخِرَة يَصُدُّونَ وَعَلى الدُّنْيَا يَتَكَالَبُون وَإلى جَمْعِهَا يُهْرَعُونَ وَفِي الاسْتِكْثَارِ مِنْهَا يَرْغَبُونَ.
فَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاء وَفِي الْعُرْفِ مَوْتَى.
فَتَفَقَّدْتُ فِي الأَصْنَافِ نَفْسِي وَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعَا فَقَصَدْتُ إِلَى هُدَى الْمُهْتَدِين بِطَلَبِ السَّدَادِ وَالْهُدَى وَاسْتَرْشَدْتُ الْعِلْمَ وَأَعْمَلْتُ الْفِكْرَ وَأَطَلْتُ النَّظَر.
فَتَبَيَّنَ لِي مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ أَنَّ إتِّبَاعَ الْهَوَى يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُطِيلُ عَنْ الْحَقِّ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ فِي الْعَمَى.
فَبَدَأْتُ أَوَّلاً بِإسْقَاطِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِي وَوَقَفْتُ عِنْدَ اخْتِلافِ الأُمَّةِ مُرْتَادًا لِطَلَبِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ.
حَذَرًا مِنْ الأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ وَالْفِرْقَةِ الْهَالِكَةِ مُتَحَرِّزًا مِنْ الاقْتِحَام قَبْلَ الْبَيَانِ وَالتَمِسُ سَبِيلَ النَّجَاةِ لِنَفْسِي.
ثُمَّ وَجَدْتُ بِاجْتِمَاعِ الأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّل أَنَّ سَبِيلِ النَّجَاةِ فِي التَّمَسُّكِ بِتَقْوَى اللهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالْوَرَعُ فِي حَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَجَمِيع حُدُودِهِ. وَالإِخْلاص لله تَعَالَى بِطَاعَتِهِ.(2/416)
وَالتَّأَسِّي بِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَلَبْتُ مَعْرِفَةَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الآثَارِ فَرَأَيْتُ اجْتِمَاعًا وَاخْتِلافًا وَوَجَدْتُ جَمِيعَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ وَأَمره الْفُقَهَاءِ عِنْدَ اللهِ الْعَامِلِينَ بِرِضْوَانِهِ، الْوَرِعِينَ عَنْ مَحَارِمِهِ الْمُتَأَسِّينَ بِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُؤْثِرِينَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا أُوَلئِكَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِأَمْرِ اللهِ وَسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ.
فَالْتَمَسْتُ مِنْ بَيْنِ الأُمَّةِ هَذَا الصَّنْفَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ وَالْمُوصُوفِينَ بِآثَارِهِمْ وَاقْتَبَسْتُ مِنْ عِلْمِهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ، وَرَأَيْتُ عِلْمُهُمْ مُنْدَرِسًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «بَدَا الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَا» . فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ وُهْم الْمُتَفَرِّدُونَ بِدِينِهِمْ.
فَعَظُمَتْ مُصِيبَتِي لِفَقْد الأَوْلِيَاءِ الأَتْقِيَاءِ الأَبْرَار وَخَشِيتُ بَغْتَةَ الْمَوْتِ أَنْ يَفْجَأَنِي عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ عُمْرِي لاخْتِلافِ الأُمَّةِ، فَانْكَمَشْتُ فِي طَالِبِ عِلْمٍ لَمْ أَجِدْ لِي مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا وَلَمْ أُقَصِّرْ فِي الاحْتِيَاطِ.
فَقُيِّضَ لِي الرَّءُوفُ بِعِبَادِهِ قَوْمًا وَجَدْتُ فِيهِمْ دَلائِلَ التَّقْوَى وَأَعْلامَ الْوَرَعَ وَإِيثَارَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا. وَوَجَدْتُ إِرْشَادِهُمْ وَوَصَايَاهُمْ مُوَافِقَةً لأَفَاعِيل أَئِمَّةِ الْهُدَى.
وَوَجَدْتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُصْحِ الأُمَّةِ لا يُرَجُّونَ أَبدًا فِي مَعْصِيَتِهِ وَلا يُقَنِّطُونَ أَبَدًا مِنْ رَحْمَتِهِ.
يَرْضُونَ أَبَدًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرْاءِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ عَلَى النعماء يُحَبِبُونَ اللهَ إِلَى الْعَبْدِ بِذِكْرِهِمْ أيادِيه وَإِحْسَانِهِ وَيَحُثُّونَ الْعِبَادَ عَلَى الإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظِيمِ قدرَتِهِ وَعُلَمَاءُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ فُقَهَاءُ فِي دِينِهِ عُلَمَاءُ بِمَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَرِعِينَ عَنْ الْبِدع وَالأَهْوَاءِ تَارِكِينَ لِلتَّعَمُّقِ وَالإِغلاءِ مُبْغِضِينَ لِلْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ مُتَوَرِّعِينَ عَنْ الاغْتِيَابِ وَالظُّلْمِ مُخَالِفِينَ لأَهْوَائِهِمْ مُحَاسِبِينَ لأَنْفُسِهِمْ مَالِكِينَ لِجَوَارِحِهِمْ وَرِعِينَ فِي مَطَاعِمِهِمْ(2/417)
وَمَلابِسِهم وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُجَانِبِينَ لِلشُّبُهَاتِ تَارِكِينَ لِلشَّهَوَاتِ مُجْتَزِئِينَ بِالْبُلْغَةِ مِنْ الأَقْوَاتِ مُتَقَلِّلِينَ مِنْ الْمُبَاحِ مُشْفِقِينَ مِنْ الْحِسَابِ وَجِلِينَ مِنْ الْمَعَادِ عُلَمَاءُ بِأَمْرِ الآخِرَة وَأَقَاوِيلَ الْقِيَامَةِ رَاجِينَ مِنْ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ جَزِيلَ الثَّوَابِ وَخَائِفِينَ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ أَوْرَثَهُمْ الْخَوْفَ الدَّائِمِ وَالْهَمَّ الْمُقِِيمِ فَشُغِلُوا عَنْ سُرُورِ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا فَتَبَيَّنَ لِي فَضْلُهُمْ وَاتَّضَحَ لِي نُصْحُهُمْ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُمْ الْعَامِلُونَ بِطَرِيقِ الآخِرَة وَالمتأسُونَ بِالْمُرْسَلِينَ وَالْمَصَابِيحِ لِمَنْ اسْتَضَاءَ بِهِمْ وَالْهَادُونِ لِمَنْ اسْتَرْشَدَ. أ. هـ.
قُلْتُ: فَبِمِثْلِ هَؤُلاءِ إِنْ وجدُوا فَلْيَقْتَدِ الْمُقْتَدُونَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابْنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ: لا يَكُونُ الْعَبْد مُتَحَقِّقًا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إِلا بِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الإِخْلاص لِلْمَعْبُودِ. وَالثَّانِي: الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَالنَّاس مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمْ أَهْل الإِخْلاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَقِيقَةً.
فَأَعْمَالُهُمْ كُلّهَا لله، وَأَقْوَالهُم للهِ، وَحُبُّهم للهِ، وَبُغْضُهُمْ للهِ.
فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللهِ وَحْدَهُ لا يريدون بذَلِكَ من النَّاس جَزَاءً وَلا شُكُورَا.
وَلا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ وَلا طَلَبَ الْمَحْمَدَةِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُوا أنفسهم من أصحابِ القبُور لا يملكون لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَا.
فَالْعَمَل لأجل النَّاسِ وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع مِنْهُمْ لا يكون من عارف بِهُمْ البتة، بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف النَّاس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص لَهُ أعماله وأقواله وعطاءه(2/418)
منعه وحبه ويغصه، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بِاللهِ وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف النَّاس آثر معاملة الله على معاملتهم.
القسم الثاني: من لا إخلاص لَهُ ولا متابعة فلَيْسَ عمله موافقا للشرع، ولَيْسَ هُوَ خالص للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لَهُمْ بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، ولهم أوفر نصيب من قوله تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا بإتباع السُنَّة والإِخْلاص.
وَهَذَا القسم يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إِلَى العلم والفقر والعبادة عَنْ الصراط المستقيم، فَإِنَّهُمْ يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإِخْلاص والعلم فهم أَهْل الْغَضَب والضلال.
القسم الثالث من هُوَ مخلص فِي أعماله لكنها على غير متابعة الأَمْر كجهال العباد والمنتسبين إِلَى طَرِيق الفقر والزهد، وكل من عَبْد اللهِ بغير أمره واعتقَدْ عبادته هَذِهِ قربة إِلَى الله فهَذَا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الْخُلْوَة التي يترك فيها الْجُمُعَة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النَّهَارَ بالليل قربة وأن صيام يوم يفطر النَّاس كلهم قربة وأمثال ذَلِكَ.
القسم الرابع من أعماله على متابعة الأَمْر لكنها لغير الله كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقَالَ، ويقرأ القرآن ليقَالَ، فهؤلاء أَعْمَالُهُمْ ظاهرها أعمال صَالِحَة مأمور بها لكنها غير صَالِحَة فلا تقبل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر.. انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.(2/419)
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ صلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: أعز الأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص. قِيْل: لما صار أعز. قَالَ: لأنه لَيْسَ للنفس فيه نصيب. وقَالَ آخر: أعز شَيْء فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص وَكَمْ اجتهد فِي إسقاط الرياء عَنْ قلبي فكأنه ينبت فيه على لون آخر.
فالإِخْلاص فِي غاية الصعوبة فلِذَلِكَ نجد كثيرًا من النَّاس يشرح أعماله للناس يذكر صدقاته وصيامه وصيام التطوع وَكَمْ حج من سُنَّة وَكَمْ عمرة اعتمر وَهُوَ ما سئل وأنه يحيي الليل بالصَّلاة والتلاوة.
ويذكر الَّذِينَ يساعدهم بجاهه وماله يريد بذَلِكَ المنزلة فِي قُلُوب العباد وأنه من المحسنين وَهَذَا غلط وضرر عَلَيْكَ فما دمت تعمل لله فما الداعي إِلَى ذكره لمن لا يملكون لا نفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورَا، فالرياء تعب ونصب ولغوب وخسران وذل فِي الدُّنْيَا وخزي وفضيحة وعذاب وندامة فِي الآخِرَة.
فالعاقل يعمل الْعَمَل خالصًا لله لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس وإلا دخل عَلَيْهِ مطالبه العوض أَوْ تشوق إِلَى حظ من حظوظ الدُّنْيَا.
والمهم أن يحرص على إخفاء أعماله لأن الجزاء عَنْدَ من يعلم السِّرّ وأخفى لا إله إلا هُوَ، إلا إن ترجحت مصلحة الإظهار على الإخفاء كَانَ يقتدي به فِي الصدقة أَوْ الزَّكَاة لإِزَالَة التهمة عَنْهُ بعدم إخراجها. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} .
عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من فارق الدُّنْيَا على(2/420)
الإِخْلاص لله وحده لا شريك لَهُ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكَاة فارقها والله عَنْهُ راض» . رَوَاهُ ابن ماجه والحاكم وقَالَ: صحيح على شرط الْبُخَارِيّ ومسلم.
وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ حين بعث إِلَى اليمن: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قَالَ: «أخلص دينك يكفيك الْعَمَل القليل» . رَوَاهُ الحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.
وعن ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «طُوبَى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كُلّ فتنة ظلماء» .
شِعْرًا: ... لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ فِي الْوَرَى ... وَزِينَةُ الْمَرْءُ تُقَىً مَعَ أَدَبْ
قَدْ يَشْرفُ الْمَرْءُ بِإِخْلاصِهِ ... صِدْقًا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ
آخر: ... وَذَكِّرْ بِالتُّقَى نَفَرًا غَفُولاً ... فَلَوْلا السَّقْيُ مَا نَمَتِ الزُّرُوعُ
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا ... وَنِيلَ الأَمَانِي وَاكْتِسَاب الْفَضَائِلِ
لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالِ للهِ وَحْدَهُ ... وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرٍ لَهُ فِي الْمَنَازِلِ
وَفِي الْمَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ يَذْكُرُهُ ... وَيُشْغِلُهُمْ فِي ذِكْرِهِ فِي الْمَحَافِلِ
وعن زيد بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «نضر الله امرئً سمَعَ منا حديثًا فبلغه غيره فرب حامل فقه إِلَى من هُوَ افقه منه ورب حامل فقه لَيْسَ بفقيه، ثلاث لا يغل عَلَيْهمْ قلب مُسْلِم إخلاص الْعَمَل لله ومناصحة ولاة الأَمْر ولزوم الجماعة فَإِنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا نيته فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأتيه من الدُّنْيَا إلا ما كتب لَهُ، ومن كَانَتْ الآخِرَة نيته جمَعَ الله أمره وجعل غناه فِي قَلْبهُ وأتته الدُّنْيَا وهي راغمة» . رَوَاهُ ابن حبان وَرَوَاهُ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وعن الضحاك بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تبارك وتَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْر شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يَا أيها النَّاس(2/421)
أخلصوا أعمالكم فَإِنَّ الله تبارك وتعالى لا يقبل من الْعَمَل إلا ما خلص لَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَزَّار بإسناد لا باس به.
وورد عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يقبل من الْعَمَل إلا ما كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه» . رَوَاهُ أبو داود والنسائي.
وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجهه» . أَخْرَجَهُ الطبراني بإسناد لا بأس به.
سئل الفضيل بن عياض ما أخلص الْعَمَل وما أصوبه، قَالَ: إن الْعَمَل إِذَا كَانَ خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وَإِذَا كَانَ صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حَتَّى يكون خالصًا صوابًا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السُنَّة.
شِعْرًا: ... هَمُّ الأَلِبَّاءِ إِخْلاصٌ لِخَالِقِهِمْ ... فِيمَا أَمَرْهُمْ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
وَهَمُّ غَيْرِهِمْ فِي الصُّحْفِ يَقْرَؤُهَا ... أَوْ حَوْلَ مِذْيَاعِهِ يَا خِيبَة الأَمَلِ
أَعْظِمْ بِهَا مِنْ نَدَامَاتٍ إِذَا اكْشفَتْ ... يَوْمَ الْجَزَاءِ لأَهْلِ اللَّهْوِ وَالزِّلَلِ
آخر: ... لِعَمْرِيَ إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا ... وَنِيلَ الأَمَانِي وَارْتِفَاعِ الْمَنَازِلِ
لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالَ للهِ وَحْدَهُ ... وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرٍ لَهُ فِي الْمَحَافِلِ
آخر: ... مَوَاهِبُ ذِي الْجَلالِ عَلَيْكَ تتَرَى ... بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ بِهَا كَنُودُ
يَزِيدُكَ مِنْهُ فَضْلاً كُلَّ يَوْمٍ ... وَأَنْتَ بِضِدِّهِ أَبَدًا تَزِيدُ
تَغُرُّكَ أُمُّ دَفْرٍ بِالأَمَانِي ... عَنْ الْعُقْبَى لِتَغْفُلَ يَا بَعِيدُ
أَلا فَانْهَضْ إِلَى الْوَهَّابِ وَاشْكُرْ ... لَهُ نِعَما غِزَارًا لا تَبِيدُ
اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأَبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(2/422)
(فَصْلٌ) : قَالَ ابن الجوز: تباعد عَنْ أَهْل السُّوء وباعد أولادك عنهم لا يعادونك بأفعالهم وأقوالهم وطباعهم ولا يزال يقسو قلبك حَتَّى يستأنس بِهُمْ فهناك الهلاك، والسُّوء يتفاوت فمن أهله أَهْل الفواحش وَمِنْهُمْ أَهْل اللهو وَمِنْهُمْ أَهْل الغيبة والنميمة وَمِنْهُمْ أَهْل الملاهي وآلات الطرب.
فَإِنَّهُمْ يسبون أَهْل العقول عقولهم حَتَّى ينحلوا عَنْ دينهم ومروءتهم فيعسر عَلَيْهمْ الخلاص لما يجدونه من لذة النعمَاتَ والأصوات، حَتَّى يكون عادة وطبع فربما يجلس الرجل إليهم وَهُوَ كاره لسماع لغواهم مستوحش من نَفْسهُ ثُمَّ لا يزال على ذَلِكَ حَتَّى يراه حسنا.
من كيد الشيطان أن يورد ابن آدم المورد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثُمَّ يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عَنْهُ ويسلمه للهلاك ويقف يتشمت به ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والقتل واللواط والزنا ويدل عَلَيْهِ ويفضحه، قَالَ الله تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} .
وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لعنه الله طلاع رصاد وما هُوَ بشَيْء من فخوخه بأوثق لصيده من النساء خُصُوصًا المسناة العجائز الماهرات بالحيل والمكر والخديعة، قَالَ بَعْضُهُمْ:
عَجُوزُ النَّحْسِ إِبلَيْسٌ يَرَاهَا ... تُعَلِّمُهُ الْخَدِيعَةَ فِي السُّكُوتِ
تَقُودُ مِن السِّيَاسَةِ أَلْفَ بَغْلٍ ... إِذَا انْفَرَدَتْ بِخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.(2/423)
(فَصْلٌ) : ذكر ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان الأول الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام.
الثاني قراءة المعوذتين فَإِنَّ لهما تأثيرًا عجيبًا فِي الاستعاذة بِاللهِ من شر الشيطان ودفعه، ولهَذَا قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» . وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بهما كُلّ ليلة عَنْدَ النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كُلّ صلاة وذكر - صلى الله عليه وسلم - أن من قرأهما مَعَ صورة الإِخْلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كُلّ شر.
الثالث قراءة آية الكرسي.
الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إن البيت الَّذِي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» .
الخامس خاتمة سورة البقرة فقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «من قرأ الآيتين من آخر البقرة فِي ليلةٍ كفتاه» .
السادس أول سورة حم المُؤْمِن إِلَى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ففي الترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حم المُؤْمِن إِلَى قوله {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حَتَّى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حَتَّى يصبح» .
السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة.
ففي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة،(2/424)
كَانَتْ عدل عشر رقاب وكتب لَهُ مائة حسُنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة وكَانَ حرزًا لَهُ من الشيطان يومه ذَلِكَ حَتَّى يمسي ولم يأت أحدٌ بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذَلِكَ» .
الثامن وَهُوَ أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا بعينه هُوَ الَّذِي دلت عَلَيْهِ سورة النَّاس، فانه وصف الشيطان فيها الشيطان بأنه الخناس الَّذِي إِذَا ذكر الْعَبْد ربه انخنس فإذا غفل عَنْ ذكر الله التقم الْقَلْب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز الْعَبْد نَفْسهُ من الشيطان بمثل ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ.
الحرز التاسع الوضوء والصَّلاة وَهَذَا من أعظم ما يحترز الْعَبْد به ولاسيما عَنْدَ الْغَضَب والشهوة فَإِنَّهَا نار تصلى فِي قلب ابن آدم، كما روى الترمذي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم فما أطفأ الْعَبْد جمرة الْغَضَب والشهوة بمثل الوضوء والصَّلاة» . فَإِنَّ الصَّلاة إِذَا وقعت بخشوعها والإقبال علي الله فيها أذهبت أثر ذَلِكَ جملة وَهَذَا أمر تجربته تغني عَنْ إقامة الدَلِيل عَلَيْهِ.
الحرز العاشر إمساك فضول الكلام فَإِنَّهَا تفتح أبوابًا من الشَّر كُلّهَا مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عَنْكَ تلك الأبواب.
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فَوَائِد ونصائح ومواعظ وحكم وآداب ووصايا)
من أَخْلاق المُؤْمِن حسن الْحَدِيث، وحسن الاستماع إِذَا حدث، وحسن البشر إِذَا لقي، ووفاء الوعد إِذَا عد ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
سوء الخلق سبب النكد فِي الحياة والشرور والآثام، فعلى العاقل اللبيب أن يعرف الأَخْلاق السيئة ليتنبها، وهي كثيرة ولا يخلوا احد مَنْهَا فتفقَدْ نفسك وأزل ما فيها.(2/425)
فمن ذَلِكَ المكر، والخديعة، والخيانة، والغش، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسعاية، والظلم، والرياء، والعقوق، والقطيعة، والكبر، والعجب، والزهو، والأنفة من المسكنة.
والنفاق، والخيانة، والغدر، والحسد، والغل، والحقَدْ، والشماتة، والبغضاء، وسوء الظن، والتجسس على الْمُسْلِمِين.
وإضمار السُّوء، والتربص بالدوائر، ومساعدة الهوى، ومخالفة الحق، والرضى بالهوى، والحب والبغض بالهوى، والجفاء.
والقَسْوَة، وقلة الرحمة، والحرص، والشره، والطمَعَ، والطيرة، والطغيان بالْمَال، والفرح بإقبال الدُّنْيَا، واستقلال الرزق، واحتقار النعم، والاحتقار بمصائب الدين، واستعظام الدُّنْيَا، والحزن على ما فات مَنْهَا.
والاستهانة بعلم الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْدَ فعلك للذنب والاستهانة بسماعه ما يصدر منك من المعاصي قولاً وفعلاً، وقلة الحياة من إطلاع الله عَلَيْكَ ومن إطلاع من عَنْ اليمين وعن الشمال قعيد، وأَنْتَ لو اطلع عَلَيْكَ مخلوق ضعيف وأَنْتَ تعمل معصية الله لانزعجت.
فتنبه لِذَلِكَ وراقب الله جَلَّ وَعَلا وتقدس وكن منه على حذر.
شِعْرًا: ... وَهُوَ الْحَلِيمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ... بِعَقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ ... فَهُوَ السَّتِيرُ وَصَاحِبُ الْغُفْرَانِ
وَهُوَ الْعَفُّوُ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الْوَرَى ... لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بِالسُّكانِ
وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ ... شَتَمُوهُ بَلْ نَسَبُوهُ لِلْبُهْتَانِ
قَالُوا لَهُ وَلَدٌ وَلَيْسَ يُعِيدُنَا ... شَتْمًا وَتَكْذِيبًا مِن الإِنْسَانِ
هَذَا وَذَاكَ بِسَمْعِهِ وَبِعِلْمِهِ ... لَوْ شَاءَ عَاجَلهُمْ بِكُلِّ هَوَانِ
لَكِنْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ ... يُؤْذُونَهُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ(2/426)
ج
(فَصْلٌ) : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إخواني إِذَا تقرب النَّاس إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بأنواع البر الظاهرة مثل الجهاد والحج والصوم والزَّكَاة والصدقة وتلاوة القران وغير ذَلِكَ، فنافسوهم فيها واجعلوا أعظم الرغبة فِي طاعة الْقُلُوب التي لا يطلع عَلَيْهَا الإنس ولا الملائكة ولا الجن، ولا يعلمها إلا علام الغيوب، فَإِنَّ القليل من أعمال البر كثير لسلامته من الرياء وَجَمِيع المكدرات.
ألا فتقربوا إِلَى الله بطاعة الْقُلُوب فَإِنَّ فيها المعرفة بعظمة الله وكبريائه وجلاله وقدرته وعَظِيم قدرته سُبْحَانَهُ وتقربوا إليه بمحابه، وبغض مكارهه، والرِّضَا والْغَضَب لَهُ وفيه، وتقربوا إليه بشدة الحب لَهُ، والحب فيه والغض من أجله، وتقربوا إِلَى الله بالمعرفة بأياديه الحسُنَّة ونعمه الظاهرة والباطنة، وأفعاله الجميلة، ومننه المتواترة على تواتر الإساءة منا، وَهُوَ جَلَّ وَعَلا وتقدس يعود بأنواع النعم عَلَيْنَا.
ألا فتقربوا إليه بالخوف من زَوَال النعم وشدة الحياء من التقصير فِي الشكر، وتقربوا بالوجل من مكر الله تَعَالَى والإشفاق على إيمانكم، وتقربوا إِلَى الله بشدة الخوف منه، وحَقِيقَة الرجَاءَ فيه، والسرور بذكره، ومناجاته، والشوق إليه، والرغبة فِي جواره، وتقربوا إِلَى الله بصدق اليقين والتوكل عَلَيْهِ والثِّقَة به وَالطُّمَأْنِينَة إليه والأُنْس به والانقطاع إليه.
وتقربوا إليه بالوفاء ولين الجانب والجناح والتواضع والخشوع والخضوع، وتقربوا إليه بالحلم والاحتمال وكظم الغيظ وتجرع المرارة، وتقربوا إليه بسلامة الصدر وإرادة الْخَيْر للأمة وكراهة الشَّر لَهُمْ، وتقربوا إِلَى الله بالرأفة والرحمة والشفقة والحوطة على الْمُسْلِمِين، وتقربوا إليه بالجود والكرم والتفضل والإحسان وصدق الوفاء.
وتقربوا إليه بالقناعة والعفاف والكفاف والرضى وبالبُلْغَةِ واليأس من نائل(2/427)
النَّاس، وتقربوا إليه بالتدبير لكتابه وتفهمه والْعَمَل به والإِخْلاص، وتقربوا إليه بمجاهدة إبلَيْسَ لعنة الله ومخالفة الهوى والنفس الأمارة بالسُّوء والتفقَدْ لأحوالكم والتقوى فِي كُلّ أموركم وتقربوا إِلَى الله بأداء الأمانات، وتقربوا إليه بالإحسان إِلَى المسيء والإيثار على أنفسكم وإن كَانَ بكم خصاصة، وارغبوا فِي مكارم الأَخْلاق.
شِعْرًا: ... وَيَا سَائِلِي عَنْ حِرْفَتِي قُلْتُ حِرْفَتِي ... صِيَانَةُ أَوْقَاتِي بِطَاعَةِ خَالِقِي
فقَالَ لَقَدْ أَحْسَنْتَ تَصْرِيفَ مُدَّةٍ ... لِعُمْرِكَ فَالْزِمْهَا تَفُزْ بِالسَّعَادَةِ
وتقربوا إِلَى الله بالتواضع والابتعاد عَنْ الترفع على عباد الله الْمُؤْمِنِينَ، وتقربوا إِلَى الله بالفرح بمصائب الدُّنْيَا، والرِّضَا بقضاء الله وقدره وتقربوا إِلَى الله بالاستعداد للموت والبعث والنشور والحساب.
شِعْرًا: ... دَعِ التَّعْلِيلَ وَالتَّسْوِيفَ وَاقْبِلْ ... عَلَى مَوْلاكَ تَغْنَمْ نَيْلَ حَظِّ
أَدِمْ بِالْحَزْمِ إِقْبَلاً عَلَيْهِِ ... عَسَى تَحْظَى بِتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ
وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُِبُهَاةِ زَيْغٍ ... تَرَاهُ مَعْنَوِيًّا ثُمَّ لَفْظِي
وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ ... وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ
وَرَقِّ النَّفْسَ بِالْعُرْفَانِ تَزْكُو ... وَتَظْفَر بِالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
من أنفع الحياء أن تستحي من الله أن تسأله ما تحب وتأتى ما يكره. قَالَ بَعْضُهُمْ: ربما أصلي لله ركعتين فانصرف وأنَا من الخجل بمنزلة من ينصرف عَنْ السرقة حياء من الله عَزَّ وَجَلَّ لأني لم أوفها حقها.
قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (الدُّنْيَا كُلّهَا غموم فما كَانَ مَنْهَا من سرور فهو ربح) . وقَالَ الجنيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لست اسْتَبْشِعُ ما يرد علي لأني قَدْ أصلت أصلاً وَهُوَ أَنَّ الدُّنْيَا دار هم وغم وبَلاء وفتنة وإن العَالِم كله شر.(2/428)
ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فَإِنَّ تلقاني بما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هُوَ الأول.
وقَالَ بَعْضهمْ: يَا أيها النَّاس أنتم تحبون الروح والروح لله وتحبون الْمَال والْمَال للورثة وتطلبون اثنين ولا تجدونهما الرَّاحَة والفرح وهما فِي الْجَنَّة. فالواجب على الْعَبْد أن لا يوطن نَفْسهُ على الرَّاحَة فِي الدُّنْيَا ولا يركن فيها إِلَى ما يقتضي فرحًا وأنسًا وأن يعمل على قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن» .
فتوطين الْعَبْد نَفْسهُ على المحن يهون عَلَيْهِ ما يلقاه ويجد السلوان عَنْدَ ما يهواه.
شِعْرًا: ... يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي لُبِّهِ ... شَدَائِدَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا
فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ ... لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهُ مَثَلا
رَأى الأَمْر يُفْضِي إِلَى آخِرِ ... فَصَيِّرَ آخِرَهُ أَوَّلا
وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنْ أَيَّامَهُ ... وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا
فَإِنْ دَهَمَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ ... بِبُغْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا
وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمَ فِي نَفْسِهُ ... لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلا
فعلى الإِنْسَان العاقل أن يتلقى ما يرد عَلَيْهِ من المصائب والهموم والغموم والانكاد بالصبر والرِّضَا والاستسلام عَنْدَ جريان الِقَضَاءِ.
فعن قريب إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ينجلي الأَمْر ويستوجب من الله جَلَّ وَعَلا جزيل الأجر والثواب والله ولي التَّوْفِيق. وقَالَ أحد الزهاد: جوع قليل، وَعُرْيٌ قليل وذل قليل، وصبر قليل وقَدْ انقضت عَنْكَ أيام الدُّنْيَا. وقَالَ آخر: الصبر جماع كُلّ فضيلة وملاك كُلّ فائدة جزيلة ومكرمة نبيلة.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ(2/429)
بِمَا صَبَرُواْ} ، وقَالَ جل وعلا وتقدس: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
من أنزل حوائجه بِاللهِ تَعَالَى والتجأ إليه وتوكل فِي أمره كله عَلَيْهِ كفاه كُلّ مؤنة، وقرب عَلَيْهِ كُلّ بعيد، ويسر عَلَيْهِ كُلّ عسير، ومن سكن إِلَى علم نَفْسهُ وعقله، واعتمد على قوته وحوله وكله الله إِلَى نَفْسهُ وخذل وحرم التَّوْفِيق فلم تنجح مطالبه ولم تتيسر مآربه.
شِعْرًا: ... أَقَرَّ عَلَى حُكْمِ الرَّدَى الْمُتَخَمِّطُ ... وَقَرَّ كَأَنْ لَمْ يُصْرَعِ الْمُتَخَبِّطُ
عَلَيْكَ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَانْظُرْ إِلَى الَّذِي ... تَأَبَّطَ شَرًّا هَلْ نَجَا الْمُتَأَبِّطُ
وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فِي الْبِرِّ وَالتُّقَى ... فَكَمْ قَرَعَ السِّنَّ الذُّهُولُ الْمُفَرِّطُ
وَحَاوِلْ مِن الدُّنْيَا الدَّنِيةِ مَخْلِصًا ... وَأَنَّى وَأَنْتَ النَّاشِبُ الْمُتَوَرِّطُ
لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْر مَا عَزَّ قَاسِطٌ ... وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَلا ذَلَّ مُقْسِطُ
تَبَرَّأَ غَالٍ مِنْ مَسَاعِيهِ مُسْرِفٌ ... وَأَحْمَدَ عُقْبَى أَمْرِهِ الْمُتَوَسِّطُ
سَيَنْخَفِضُ الطَّمَّاحُ إِثْمًا وَعِزَّةً ... وَيَنْقَبِضُ التَّلْعَابَةُ الْمُتَبَسِّطُ
آخر: ... سَهَوْنَا عَنْ مُسَاوَرَةِ الْمَنَايَا ... فَيَا للهِ مِنْ سَهْوِ الْعِبَادِ
وَغَرَّتْنَا مُسَاعَدَةُ الأَمَانِي ... فَلَمْ نَحْزَنْ عَلَى الْعُمْرِ الْمُبَادِ
وَكَمْ نَادَتْ فَأَسْمَعَتِ اللَّيَالِي ... وَلَكِنْ لا مُصِيخَ إِلَى مُنَادِ
مُجَاهَرَةٌ بِنُكْرٍ دُونَ عُرْفٍ ... وَتَنْدِيدٌ يُعَادُ بِكُلِّ نَادِ
يَطُولُ تَعَجُّبِي مِنَّا حَلَلْنَا ... وَلَمْ نَخَفِ السُّيُولَ بِبَطْنِ وَادِ
وَلَمْ أَرَ مِثْلَنَا سَفَرًا تَبَارَوْا ... إِلَى الْغَايَاتِ سَيْرًا دُونَ زَادِ
اللهم وَفَّقَنَا توفيقًا يَقِينَا عَنْ معاصيك وأرشدنا إِلَى السعي فيما يرضيك وأجرنا يَا مولانَا من خزيك وعذابك وهب لَنَا ما وهبته لأوليائك وأحبابك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/430)
(فَصْلٌ) : فائدة - قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: لشهادة أن لا إله إلا الله عَنْدَ الموت تأثير عَظِيم فِي تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قَدْ ماتت منه الشهوات ولانت نَفْسهُ المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد أعراضها، وذلت بعد عزها وخَرَجَ مَنْهَا حرصها على الدُّنْيَا وفضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كَانَتْ لَهُ وأرجى ما كَانَتْ لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد مَنْهَا التَّوْحِيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه.
فزالت مَنْهَا تلك المنازعات التي كَانَتْ مشغولة بها، واجتمَعَ همها على من أيقنت بالقدوم عَلَيْهِ والمصير إليه، فوجه الْعَبْد وجهه بكليته إليه، واقبل بقَلْبهُ وروحه وهمه عَلَيْهِ، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته.
فقَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا من قَلْبهُ وقَدْ تخلص من التعلق بغيره والالتفات إِلَى ما سواه، قَدْ خرجت الدُّنْيَا كُلّهَا من قَلْبهُ وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قَلْبهُ من الآخِرَة، فصَارَت نصب عينيه، وصَارَت الدُّنْيَا وراء ظهره.
فَكَانَتْ تلك الشهادة الْخَالِصَة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقِيَ ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها وعلانيتها فلو حصلت لَهُ الشهادة على هَذَا الوجه فِي أيام الصحة لا ستوحش من الدُّنْيَا وأهلها وفر إِلَى الله من النَّاس وأنس به دون من سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إِلَى غير الله فلو تجردت كتجردها عِنْدَ الموت لكَانَ لها نبأ آخر وعيش آخر سِوَى عيشها البهيمي. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
شِعْرًا: ... إِذَا مَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا ... حَيَاةً حُلْوَةَ الْمَحْيَا
فَلِلْفُرُوضِ لا تَهْمَلْ ... وَذِكْرُ اللهِ لا تَنْسَى(2/431)
شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْأَ يَحْبِسُ مَالَهُ ... وَوَارِثَهُ فِيهِ غَدًا يَتَمَتَّعُ
كَأَنَّ الْحُمَاةَ الْمُشْفِقِينَ عَلَيْكَ قَدْ ... غَدَوْا بِكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا
وَمَا هُوَ إِلا النَّعْشُ لَوْ قَدْ أَتَوَ بِهِ ... تُقَلَّ فَتُلَقَى فَوْقَهُ ثُمَّ تُرْفَعُ
وَمَا هُوَ إِلا حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ ... عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الْحَوَادِثِ تَجْزَعُ
وَمَا هُوَ إِلا الْمَوْتُ يَأَتِي لِوَقْتِهِ ... فَمَالكَ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْكَ مَدْفَعُ
أَلا وَإِذَا وُدِّعْتَ تَوْدِيعَ هَالِكٍ ... فَآخِرُ يَوْمٍ مِنْكَ يَوْمَ تُوَدَّعُ
أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَائِزًا ... فأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ
رَأَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا ... وَإِنَّكَ فِي الدُّنْيَا لأَنْتَ الْمُرَوَّعُ
وَصَفْتَ التُّقَى وَصْفًا كَأَنَّكَ ذُو تُقَى ... وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ
وَلَمْ تُعْنَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَاقِعُ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَعْنَى بِمَا يَتَوَقَّعُ
وَإِنَّكَ لِلْمَنْقُوصِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... وَكُلُّ بَنِي الدُّنْيَا عَلَى النَّقْصِ يُطْبَعُ
وَمَا زِلْتُ أَرْمي كُلَّ يَوْمٍ بِعِبْرَةٍ ... تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَالِ تَصْدَعُ
فَمَا بَالُ عَيْنِي لا تَجُودُ بِمَائِهَا ... وَمَا بَالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ
تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ الْمُلْكَ غَيْرُهُ ... مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ
وَأَيُّ امْرئٍ فِي غَايَةٍ لَيْسَ نَفْسُهُ ... إِلَى غَايَةٍ أُخْرَى سِوَاهَا تَطَلَّعُ
وَبَعْضُ بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيعَةٌ ... وَكُلٌّ بِكُلَّ قَلَّمَا يَتَمَتَّعُ
يُجِبُّ السَّعِيدُ الْعَدْلَ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ ... وَيَبْغِي الشَّقِيُّ الْبَغْيَ وَالْبَغْيُ يَصْرَعُ
اللَّهُمَّ ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقها عيشة الأَبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(2/432)
(موعظة)
عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزَوَال، وكَذَلِكَ كُلّ واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختيار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، سيصبح الواحد منا عما قريب فِي حفرة وحيدًا لَيْسَ معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تَكُون أيها الأخ كأنك ما رَأَيْت الدُّنْيَا ولا هِيَ رأتك لحظة من اللحظات.
ويا ليتك إِذَا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عَلَيْهَا آثار لو كَانَ ذَلِكَ لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام لكنك تعلم أنه يعقب ذَلِكَ الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كَانَ منك قبل الموت فِي الاختيار.
فإن كنت قَدْ أحسنت، رَأَيْت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات.
عن البراء بن عازب قَالَ: كنا فِي جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهينا إِلَى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «إن المُؤْمِن إِذَا احتضر أتاه ملك الموت فِي أحسن صورة، وأطيب ريحًا، فجلس عنده لِقَبْضِ رُوحِهِ، وأتاه ملكَانَ بحنوط من الْجَنَّة وكانَا منه على بعيد فاستخَرَجَ ملك الموت روحه من جسده رشحًا.
فإذا صَارَت إِلَى ملك الموت ابتدرها الملكَانَ فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الْجَنَّة وكفناها بكفن من الْجَنَّة ثُمَّ عرجا بها إِلَى الْجَنَّة، فتفتح لَهُ أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون: لمن هَذِهِ الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء.
ويسمى بأحسن الأسماء التي كَانَ يسمى بها فِي الدُّنْيَا، فيقَالَ هَذِهِ روح(2/433)
فلان فإذا صَعَدَا بها إِلَى السماء شيعها مقربوا كُلِّ سماء حَتَّى توضع بين يدي الله عَنْدَ العرش، فيخَرَجَ عملها من عليين فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ للمقربين: اشهدوا أني قَدْ غفرت لصَاحِب هَذَا الْعَمَل. ويختم كتابه فيرد فِي عليين.
فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: ردوا روح عبدي إِلَى الأَرْض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها.
ثُمَّ قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} فإذا وضع المُؤْمِن فِي لحده تَقُول لَهُ الأَرْض: إن كنت لحبيبًا إِليَّ وأَنْتَ على ظهري، فَكَيْفَ إذ صرت الْيَوْم فِي بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح لَهُ فِي قبره مد بصره.
وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا وضع الكافر فِي قبره أتاه منكر ونكير فيجلِسَانه فيقولان لَهُ: من ربك؟ فَيَقُولُ: لا أدري. فيقولان لَهُ: لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثُمَّ يعاد فيجلس فيقولان لَهُ: ما قولك فِي هَذَا الرجل. فَيَقُولُ: أي رجل؟ فيقولان: مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ: قَالَ النَّاس إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضربانه ضربة فيصير رمادًا» .
ويا ليت الأَمْر ينتهي ويقف عَنْدَ هَذَا الحد، فتبقى فِي قبرك على الدوام، فإنه أخف مِمَّا بعده، فتَكُون آلامك فيه أخف إن كنت من أَهْل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وَهُوَ القيام من القبور، قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إِلَى الْجَنَّة وإما إِلَى السعير، من كَانَ مكذبًا بهَذَا والعياذ بِاللهِ فلا كلام لَنَا معه، لأن مآله إِلَى جهنم وبئس المهاد لأنه من الكافرين، وإن كَانَ مؤمنًا بذَلِكَ كما أخبر الله ورسوله فهو الَّذِي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقَالَ: لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك.(2/434)
شِعْرًا: ... فَأَكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُّكَ قَوْلُهُ ... وَلَكِنْ مَنْ يَسُرُّكَ فِعْلُهُ
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَخِتَامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ الْمَدى ... وَحَتَّام لا يَنْجَابُ عَنْ قَلْبِكَ السُّكْرُ
بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ... وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
آخر: ... وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ
لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنَ ... وَأَفْعَالُهُ أَفْعَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ
" فَصْلٌ يَحْتَوِيْ عَلَى الإِنْكَارِ عَلَى المُنْحَرِفِيْنْ "
نراك فِي ليلك ونهارك فِي ما يغضب مولاك فلسانك فِي ميدان الفحش، ومنكر القول جواد عَظِيم وعينك فِي أودية النظرات الخائبة دَائِمًا تجول وتهيم، وفرجك لا يتهيب أن يتجاوز أرضه الطيبة إِلَى الأَرْض الوبيئة الخبيثة وأما بطنك فلا يعف عَنْ أخبث المأكولات، وأما أذنك فمصغية وسامعة إِلَى ما لا يحل من الكلام.
وأما رجلك فساعية إِلَى المعاصي والآثام، وأما يدك فباطشة بالضعيف دون توقع، فيا مسكين أن المعاصي عدو مبين، يعلم ذَلِكَ كُلّ مُؤْمِن عاقل فضلاً عَنْ المُؤْمِن يلقي نَفْسهُ فيها، فاتعظ وتنبه أيها الأخ وبرهن على إِنَّكَ تميز بين النافع والضار.
شِعْرًا: ... إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلاً ... وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا(2/435)
فَاغْتَنِمْ خِصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا ... صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا
آخر: ... فَبَادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابَهُ ... وَتُطْوَى عَلَى الأَعْمَالِ صُحْفُ التَّزَوُّدِ
وَمَثْلُ وُرُودَ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتَهُ ... لِنَفْسِكَ نِفَاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَدِ
آخر: ... يَا طَالِبًا رَاحَةً مِنْ دَهْرِهِ عَبَثًا ... أَقْصِرْ فَمَا الوَقْتِ إِلا بِالْهُمُومِ مُلِي
كَمْ مَنْظَرٍ رَائِقٍ أَفْنَتْ جَمَالَته ... يَدُ الْمَنُونِ وَأَعْيَتْهُ عَنْ الْحِيَلِ
وَكَمْ هُمَامٍ وَكَمْ قَرْمٍ وَكَمْ مَلِكٍ ... تَحْتَ التُّرَابِ وَكَمْ شَهْمٍ وَكَمْ بَطَلِ
وَكَمْ إِمَامٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي دُوَلٌ ... قَدْ صَارَ بِالْمَوْتِ مَعْزُولاً عَنْ الدُّوَل
وَكَمْ عَزِيزٍ أَذَلَّتْهُ الْمَنُونُ وَمَا ... أَنْ صَدَّهَا عَنْهُ مِنْ مَالٍ وَلا خَوَلِ
يَا عَارِفًا دَهْرَهُ يَكْفِيكَ مَعْرِفَةً ... وَإِنْ جَهلْتَ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ سَلِ
هَلْ فِي زَمَانِكَ أَوْ قَبْلَهُ سَمِعَتْ ... أُذْنَاكَ أَنَّ ابنَ أُنْثَى غَيْرُ مُنْتَقِلِ
وَهَلْ رَأَيْتَ أُنَاسًا قَدْ عَلوا وَغَلَوا ... فِي الْفَضْلِ زَادُوا بِمَا نَالُوا عَنْ الأَجَلِ
أَوْ هَلْ نَسِيتَ (لِدُوا لِلْمَوْتِ) أَوْ عَمِيَتْ ... عَيْنَاكَ عَنْ وَاضِعٍ نَعْشًا وَمُحْتَمِلِ
وَهَلْ رَعَى الْمَوْتُ ذَا عِزِّ لِعِزَّتِهِ ... أَوْ هَلْ خَلا أَحَد دَهْرًا بِلا خَلَلِ
المَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ... لَكِنْ ذَا الْفَضْلِ مَحْمُولٌ عَلَ عَجَلِ
ولَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ ... كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلا عَمَلِ
ولَيْسَ مَوْت الَّذِي مَاتَتْ لَهُ أُمَمٌ ... كَمَوْتُ شَخْصٍ مِنْ الأَوْغَادِ وَالسَّفَلِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي إيماننا بك وملائكتك وكتبك ورسلك والْيَوْم الآخِر والقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ وأَنْتَ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ فِي الرَّجَاء "
الرجَاءَ قِيْل فِي تعريفه هُوَ ارتياح لانتظار ما هُوَ محبوب عَنْدَ الإِنْسَان(2/436)
ولكن ذَلِكَ المتوقع لابد لَهُ من سبب حاصل، فَإِنْ لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتقاء سمي تمنيًا لأنه انتظار من غير سبب ولا يطلق اسم الرجَاءَ والخوف إلا على ما يتردد فيه.
فأما ما لا يتردد فيه ويقطع به فلا إِذًا، لا يقَالَ أرجو طلوع الشمس ولكن يقَالَ أرجو نزول المطر، وأخاف انقطاعه وضد الرجَاءَ اليأس وَهُوَ تذكر فوت رحمة الله، وقطع الْقَلْب عَنْ ذَلِكَ، واليأس معصية، قَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله يعقوب {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} .
شِعْرًا: ... لا تَرْجُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ ... وَاقْطَعْ عُرَى الآمَالِ مِنْ خَلْقِهِ
لا تَطْلُب الْفَضْلَ مِنْ غَيْرِهِ ... وَاضْنُنْ بِمَاءِ الْوَجْهِ وَاسْتَبْقِهِ
فَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ وَمَا لامْرِئٍ ... يَكُونُ طُولَ الدَّهْرِ فِي رِقِّهِ
آخر: ... التَمِسِ الأَرْزَاقِ عَنْ الَّذِي ... مَا دُونَهُ إِنْ سُئِلَ مِنْ حَاجِبِ
وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ ... بِغَيْرِ تَوْقِيعٍ مِنْ الْكَاتِبِ
ومقدمَاتَ الرجَاءَ أربع، الأولى: ذكر سوابق فضل الله إِلَى الْعَبْد. وَالثَّانِيَة: ذكر ما وعد الله من جزيل ثوابه وعَظِيم كرمه وجوده دون استحقاق أَوْ سؤال. الثالثة: ذكر كثرة نعم الله عَلَيْكَ فِي أمر دينك وبدنك ودنياك فِي الحال من أنواع الإمداد والألطاف من غير استحقاق أَوْ سؤال. والرابعة: ذكر سعة رحمة الله تَعَالَى وسبقها غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغنى الكريم الرؤوف بعباده الْمُؤْمِنِينَ، وقوة الرجَاءَ على حسب قوة المعرفة بِاللهِ وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه.
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ فالرجَاءَ ضروري للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أَوْ كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها.(2/437)
وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها والرجَاءَ من الأسباب التي ينال بها الْعَبْد ما يرجوه من ربه بل هُوَ من أقوى الأسباب. أهـ.
وقَالَ فِي مختصر منهاج القاصدين: وقَدْ علم أرباب الْقُلُوب أنَّ الدُّنْيَا مزرعة الآخِرَة والْقَلْب كالأَرْض والإيمان كالبذر فيها والطاعات جارية مجرى تنقية الأَرْض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.
وأن الْقَلْب المستغرق بالدُّنْيَا كالأَرْض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة هُوَ يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإِيمَان، وقل أن ينفع إيمان مَعَ خبث الْقَلْب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو البذر فِي الأَرْض السبخة.
فينبغي أن يقاس رجَاءَ الْعَبْد المغفرة برجَاءَ صَاحِب الزرع، فكل من طلب أرضًا طيبةً وألقى فيها بذرًا جيدًا غير مسوسٍ وعفنٍ، ثُمَّ ساق إليها الماء فِي أوقات الحاجة ونقى الأَرْض من الشوك والحشيش وما يفسد الزرع.
ثُمَّ جلس ينتظر من فضل الله تَعَالَى دفع الصواعق والآفات المفسدة إِلَى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهَذَا يسمى انتظاره رجَاءَ، فَأَمَّا إن بذر فِي أرض سبخة صلبة مرتفعة لا يصل إليها الماء ولم يتعاهدها أصلاً ثُمَّ انتظر الحصاد فهَذَا يسمى انتظاره حمقًا وغرورًا لا رجَاءً.
وإِنْ بث البذر فِي أرض طيبة، ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار سمي انتظاره تمنيًا لا رجَاءً، فَإِنَّ اسم الرجَاءَ إِنما يصدق على انتظار محبوب، تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار الْعَبْد، ولم يبق إلا ما لَيْسَ إِلَى اختياره، وَهُوَ فضل الله سُبْحَانَهُ بصرف الموانع المفسدات.
فالْعَبْد إِذَا بث بذر الإِيمَان وسقاه ماء الطاعات، وطهر الْقُلُوب من شوك الأَخْلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تَعَالَى ثباته على ذَلِكَ إِلَى الموت، وحسن(2/438)
الخاتمة المفضية إِلَى المغفرة كَانَ انتظاره لِذَلِكَ رجَاءً محمودًا باعثًا على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإِيمَان إِلَى الموت.
شِعْرًا: ... تَرَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَصْبُو ... وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قَلْبُ
فُصُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ ... وَأَكْثَرَ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ
فَلا يَغْرُوكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ ... وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأعْطَافِ رَطْبُ
وإن قطع بذر الإِيمَان عَنْ تعهده بماء الطاعات أَوْ ترك الْقَلْب مشحونًا برذائل الأَخْلاق وانهمك فِي طلب لذات الدُّنْيَا، ثُمَّ انتظر المغفرة كَانَ ذَلِكَ حمقًا وغرورًا، قَالَ الله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} وذم القائل {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} .
شِعْرًا: ... أَفِي السَّبَخَاتِ يَا مَغْبُونُ تَبْنِي ... وَمَا أَبْقَى السِّبَاخُ عَلَى الأَسَاسِ
ذُنُوبُكَ جَمَّةٌ تَتْرَى عِظَامًا ... وَدَمْعُكَ جَامِدٌ وَالْقَلْبُ قَاسِي
وَأَيَّامًا عَصَيْتَ اللهَ فِيهَا ... وَقَدْ حَفِظْتُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ نَاسِي
فَكَيْفَ تُطِيقُ يَوْمَ الدِّين حِمْلاً ... لأَوْزَارِ الْكَبَائِرِ كَالرَّوَاسِي
هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لا وِدَّ فِيهِ ... وَلا نَسَبٌ وَلا أَحَدٌ مُوَاسِي
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يَا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألَكَ أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(موعظة) : عباد الله يَقُولُ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} عباد الله إن الصَّلاة عماد الدين وأعظم أركَانَ الإِسْلام بعد الشهادتين، وهي قرة عين المُؤْمِن وطمأنينة قَلْبهُ تبدو(2/439)
واضحة فِي وقوفه بين يدي ربه، وخشوعه وانكساره، عِنْدَمَا يتجه إليه فِي عبادته، ويقف خاضعًا ذليلاً بين يدي العزيز الحكيم.
عباد الله من حافظ على الصَّلاة فهو السَّعِيد الرابح، ومن أضاعها فهو الشقي الخاسر، وإن اللبيب العاقل من إِذَا حضر للصلاة اقبل بقَلْبهُ وقالبه، وطرح الدُّنْيَا وشؤنها ومتعلقاتها جانبًا وتدبر ما يتلوه إن كَانَ وحده أَوْ إمامًا. وأنصت وأحضر قَلْبهُ إن كَانَ مأمومًا وتفهم ما يسمَعَ وابتهل وتضرع إِلَى مولاه.
(موعظة) : عباد الله إن الخشوع فِي الصَّلاة هُوَ روحها، والمحور الَّذِي تدور عَلَيْهِ سائر أفعالها، والخشوع فيها مَعَ الإِخْلاص لله آية الإِيمَان وسبب الفلاح وأمان من وساوس الشيطان. ألا وإن الصَّلاة بلا خشوع كجسد بلا روح قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (لَيْسَ لَكَ من صلاتك إلا ما عقُلْتُ مَنْهَا) .
وَفِي المسند مرفوعًا: «إن الْعَبْد ليصلي الصَّلاة ولم يكتب لَهُ إلا نصفها أَوْ ثلثها أَوْ ربعها حَتَّى بلغ عشرها» . وقَدْ علق الله فلاح المصلين بالخشوع فِي صلاتهم فدل على أن من لم يخشع فلَيْسَ من أَهْل الفلاح ولو اعتد لَهُ بها ثوابًا لكَانَ من المفلحين هكَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء.
قَالُوا: وأما الاعتداد بها فِي أحكام الدُّنْيَا وسقوط الِقَضَاءِ فَإِنَّ غلب الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكَانَتْ السُّنَن والأذكار وعقبها جوابر ومكملات لنقصها، وإن غلب عَلَيْهِ عدم الخشوع فيها وعدم تعلقها.
فقَدْ اختلف الْعُلَمَاء فِي وجوب إعادتها واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عَلَيْهَا، ولم يضمن لَهُ فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته مَنْهَا، ويسقط الِقَضَاءِ عَنْهُ كصلاة المرائي قَالُوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصَّلاة، ومقصوها ولبها،(2/440)
فَكَيْفَ يعتد بصلاة فقدت روحها، ولبها وبقت صورتها وظاهرها.
قَالُوا: ولو ترك الْعَبْد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بَعْضًا من ابعاضها منزلة فوات عضو من أعضاء الْعَبْد المعتق فِي الكفارة، فَكَيْفَ إِذَا عدمت روحها ومقصودها، وصَارَت بمنزلة الْعَبْد الميت فإذا لم يعتد بالْعَبْد المقطوع اليد يعتقه تقربًا إِلَى الله تَعَالَى فِي كفارة واجبةٍ فَكَيْفَ يعتد بالْعَبْد الميت.
وقَالَ بَعْض السَّلَف: الصَّلاة كجارية تهدى إِلَى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أَوْ عوراء أَوْ عمياء أَوْ مقطوعة اليد أَوْ الرجل أَوْ مريضة أَوْ دميمة أَوْ قبيحة حَتَّى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فَكَيْفَ بالصَّلاة التي يهديها الْعَبْد ويتقرب بها إِلَى ربه تَعَالَى والله طيب لا يقبل إلا طيب ولَيْسَ من الْعَمَل الطيب صلاة لا روح فيها كما أنه لَيْسَ من العتق الطيب عتق بلا روح.
قَالُوا: وتعطيل الْقَلْب عَنْ عبودية الحضور والخشوع تعطيل لملك الأعضاء عَنْ عبوديته وعزل لَهُ عَنْهَا فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقَدْ عزل ملكها وتعطل.
قَالُوا: والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وَإِذَا فسدت عبوديته بالغَفْلَة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون.
قَالُوا: ولأن عبودية من غلبت عَلَيْهِ الغَفْلَة والسهو فِي الغالب لا تَكُون مصاحبة للإخلاص فَإِنَّ الإِخْلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغَافِل لا قصد لَهُ فلا عبودية لَهُ.(2/441)
قَالُوا: وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، ولَيْسَ السهو عَنْهَا تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما السهو عَنْ واجبها إما عَنْ الحضور أَوْ الخشوع.
والصواب أنه يعم النوعين فإنه سُبْحَانَهُ أثَبِّتْ لَهُمْ صلاة ووصفها بالسهو عَنْهَا، فهو السهو عَنْ وقتها الواجب أَوْ عَنْ إخلاصها وحضورها الواجب، ولِذَلِكَ وصفهم بالرياء، ولو كَانَ السهو سهو ترك لما كَانَ هناك رياء أ. هـ.
وبالتالي فَإِنَّ الْعَبْد إِذَا مرن نَفْسهُ وقَلْبهُ على التفهم والتدبر والخشوع والخضوع فِي الصَّلاة انغرست فِي قَلْبهُ خشية الله ومحبته والرغبة فيما لديه وحضرته هيبة خالقه فِي جميع أحواله وَفِي جميع أعماله.
فإذا سولت لَهُ نَفْسهُ أمرًا أَوْ زين لَهُ الشيطان سوءًا تبرأ منهما قائلاً إِني أخاف الله رب العالمين فكن فِي صلاتك خاشعًا خاضعًا مخبتًا.
فإذا قُلْتُ الله أكبر فاستحضر عظمة الله وأنه لا شَيْء أكبر منه ولا شَيْء أعظم منه وأنه مستحق لأن يعظم ويجل ويقدر وأنه لَيْسَ أحد يساويه أَوْ يدانيه فِي عظمته.
وإذا قُلْتُ الحمد لله رب العالمين فاستحضر أنه المستحق للثناء وأنه المربي لجميع الخلق التربية العامة والمربي لخواص خلقه التربية الخاصة، وهي تربية الْقُلُوب على العقائد النافعة، والأعمال الصَّالِحَة، والأَخْلاق الفاضلة.
وَإِذَا قُلْتُ الرحمن الرحيم استحضرت لرحمته العامة والخاصة راجيًا منه أن يجعلك ممن كتبها لَهُمْ فإذا قُلْتُ مالك يوم الدين مجدته واستحضرت لوقوفك بين يديه وَهُوَ أحكم الحاكمين.
فإذا قُلْتُ إياك نعبد وَإِيَّاكَ نستعين استحضرت أنَّكَ تخصه وحده بالعبادة(2/442)
والاستعانة، المعنى نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.
فإذا قُلْتُ أهدنا الصراط المستقيم استحضرت أنَّكَ تتضرع إليه وتسأله أن يدلك ويرشدك ويوفقك إِلَى سلوك الصراط المستقيم وأن يثبتك عَلَيْهِ فهَذَا الدُّعَاء من أجمَعَ الأدعية وأنفعها للعبد ولهَذَا وجب على الْعَبْد أن يدعو به فِي كُلّ ركعة من صلاته لضرورته إِلَى ذَلِكَ وَهَذَا الصراط هُوَ صراط المنعم عَلَيْهمْ من النبيين.
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وافعل فِي باقي صلاتك كما فعلت فِي أولها من التدبر والتفهم محضرًا قلبك لمعاني ما تقوله وما تسمعه حَتَّى تكتب لَكَ كاملة.
عباد الله إن من حافظ على الصلوات فِي أوقاتها وواظب على الْجُمُعَة والجماعات وأداها تأدية تامة بخشوع وخضوع، استنار قَلْبهُ وقويت الصلة بينه وبين ربه، وتهذبت نَفْسهُ وحسنت مَعَ الله والنَّاس معاملته،
وحيل بينه وبين المحرمَاتَ وكَانَ على البؤساء عطوفًا وبالضعفاء رحيمًا، وأفلح فِي دينه وكَانَ من المحبوبين عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه.
عباد الله النفس آمرة بالسُّوء، والشيطان يأمر بالفحشاء والْمُنْكَر والسيف القاطع والدواء النافع الَّذِي جعله الله وقاية للإنسان من شر النفس والشيطان، إنما هُوَ الصَّلاة، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} .
عباد الله احذروا أن تستهينوا بالصَّلاة وأن لا تهتموا لها، فَإِنَّ هَذِهِ صفة الَّذِينَ خلت صلاتهم من التذلل والخشوع كما ترونهم يسرعون فِي أدائها وهم عَنْهَا غافلون لا يعرفون لها معنى ولا يعقلون لها سرًا ولم تشعر قُلُوبهمْ بحلاوتها ولا بلذة المناجات قَدْ ملكتهم الوساوس، وامتلأت قُلُوبهمْ بشواغل(2/443)
الدُّنْيَا ولذاتها، واستحوذ عَلَيْهمْ الشيطان فأنساهم ذكر الله.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ومن النَّاس من عميت بصائرهم، وتحجرت ضمائرهم، فأضاعوا الصَّلاة واتبعوا الشهوات، وأهملوا أوامر بديع السماوات وغفلوا عَنْ واجب شكره ولم يخافوا سطوة جبروته وبطشه، ولا سوء الحساب، ولا نار الْعَذَاب {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
فيا أيها المسلمون اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوانه وتكونوا من المفلحين.
شِعْرًا: ... للهِ دَرُّ السَّادَةِ الْعُبَّادِ ... فِي كُلِّ كَهْفٍ قَدْ ثَوَوْا أَوْ وَادِي
أَلْوَانُهُمْ تُنْبِيكَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ ... وَدُمُوعُهُمْ عَنْ حُرْقَةِ الأَكْبَادِ
كَتَمُوا الضَّنَى حِفَظًا لَهُمْ وَتَحَمَّلُوا ... سُقْمَ الْهَوَى وَمَشَقَّةَ الأَجْسَادِ
هَجَرُوا الْمَرَاقِدَ فِي الظَّلامِ لِرَبِّهِمْ ... وَاسْتَبْدَلُوا سَهَرًا بِطِيبِ رُقَادِ
لا يَفْتُرونَ إِذَا الدُّجَى وَافَاهُمُوا ... مِنْ كَثْرَةِ الأَذْكَارِ وَالأَوْرَادِ
وَرَأَوْا عَلامَاتِ الرَّحِيلِ فَبَادِرُوا ... تَحْصِيلِ مَا الْتَمَسُوا مِن الأَزْوَادِ
فَإِذَا اسْتَمَالَ قُلُوبَهُمْ دَاعِي الْهَوَى ... ذَكَرُوا الْبِلَى فِي ظُلْمَةِ الإِلْحَادِ
نَظَرُوا إِلَى الدُّنْيَا تَغُرُّ بِأَهْلِهَا ... بِوِصَالِهَا وَتَكِرُّ بِالإِبْعَادِ
فَتَجَنَّبُوهَا عِفَّةً وَتَزَهُّدًا ... وَتَزَوُّدُوا مِنْ صَالِحِ الأَزْوَادِ
وَمَضُوا عَلَى مِنْهَاجِ صَحْبِ نَبِيِّهِمْ ... فَنَجَوْا غَدًا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ مَعَادِ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ) : روى شداد بن أوس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها وتمنى على الله الأماني» .(2/444)
وَمِمَّا ورد فِي الحث على الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، وقَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} ، وقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
وقَالَ: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} ، وقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} وقَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .
شِعْرًا: ... إِذَا شَدَّ زَنْدِي حُسْنُ ظَنِّي بِمَنْ عَلَى ... عَلَى خَلْقِهِ فَهُوَ الَّذِي كُنْتُ أَطْلُبُ
آخر: ... وَإِنِّي لآتِي الذَّنْبَ أَعْرِفُ قدْرَهُ ... وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ
لَئِنْ عَظَّمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا ... وَإِنْ عَظُمَتْ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ
وقَالَ: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، وقَالَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إِلَى قوله: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، وقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} .
وقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وقَالَ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ووجه الدلالة مِنْهَا حيث أوصى الله بالإحسان إِلَى القاذف.
ومن جانب الرجَاءَ ما كَانَ من أمر السحرة المبارزين لمُوَسى عَلَيْهِ السَّلام فما كَانَ إلا أن رأوا آية مُوَسى فعرفوا الحق ووقعوا سجدًا {قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة فهَذَا حال من عرف الله ووحده بعد كُلّ ذَلِكَ السحر والكفر والضلال والفساد فَكَيْفَ حال من أفنى عمره فِي توحيد الله.(2/445)
وَكَذَا قصة أصحاب الكهف إذ آمنوا بِاللهِ كيف لطف بِهُمْ، وأكرمهم وألبسهم المهابة حَتَّى إن بركتهم شملت كلبهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحالة وصار لَهُ ذكر وشان وخبر يتلى وهذه فائدة صحبة الأخيار فما ظنك بالمُؤْمِن الَّذِي عَبَّد الله ووحده ولهج بذكره آناء الليل وآناء النَّهَارَ، وعادى فيه ووالى فيه سنين عديدة وبوده لو عمر زيادة تابع فيها خدمة سيده ومولاه جَلَّ وَعَلا.
ومن جانب الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} .
شِعْرًا: ... تَفِيضُ عُيُونِي بِالدُّمُوعِ السَّوَاكِبِ ... وَمَالِي لا أَبْكِي عَلَى خَيْرِ ذَاهِبِ
عَلَى عُمْرِي إِذْ وَلَّى وَحَانَ انْقِضَاؤُهُ ... بِآمَالِ مَغْرُورٍ وَأَعْمَالِ نَاكِبِ
عَلَى غُرَرِ الأَيَّامِ لَمَّا تَصَرَّمَتْ ... وَأَصْبَحْتُ مِنْهَا رَهْنَ شُؤْمِ الْمَكَاسِبِ
عَلَى زَهَرَاتِ الْعَيْشِ لَمَّا تَسَاقَطَتْ ... بِرِيحِ الأَمَانِي وَالظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
عَلَى أَشْرَفِ الأَوْقَاتِ لَمَّا غُبِنْتُهَا ... بِأَسْوَاقِ غَبْنٍ بَيْنَ لاهٍ وَلاعِبِ
عَلَى أَنْفَسِ السَّاعَاتِ لَمَّا أَضَعْتُهَا ... وَقَضَّيْتُهَا فِي غَفْلَةٍ وَمَعَاطِبِ
عَلَى صَرْفِيَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ ... وَلا نَافِعٍ مِنْ فِعْلِ فَضْلٍ وَوَاجِبِ
عَلَى مَا تَوَلَّى مِنْ زَمَانٍ قَضَيْتُهُ ... وَرَجَّيْتُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ وَصَائِبِ
عَلَى فُرَصٍ كَانَتْ لَوْ أَنِّي انْتَهَزْتُهَا ... لَقَدْ نِلْتُ فِيهَا مِنْ شَرِيفِ الْمَطَالِبِ
وَأَحْيَانَ آنَاءٍ مِنْ الدَّهْرِ قَدْ مَضَتْ ... ضَيَاعًا وَكَانَتْ مُوسِمًا لِلرَّغَائِبِ
عَلَى صُحُفٍ مَشْحُونَةٍ بِمَآثِمٍ ... وَجُرْمٍ وَأَوْزَارٍ وَكَمْ مِنْ مَثَالِبِ
عَلَى كَمْ ذُنُوبٍ كَمْ عُيُوبٍ وَزَلَّةٍ ... وَسَيِّئَةٍ مَخْشِيَّةٍ فِي الْعَوَاقِبِ
عَلَى شَهَوَاتٍ كَانَتْ النَّفْسُ أَقْدَمَتْ ... عَلَيْهَا بِطَبْعٍ مُسْتَحَثٍّ وَغَالِبِ
عَلَى أَنَّنِي آثَرْتُ دُنْيَا دَنِيَّةً ... مُنَغَّصَةً مَشْحُونَةً بِالْمَعَائِبِ(2/446)
عَلَى عَمَلِ لِلْعِلْمِ غَيْرِ مُوَافِقٍ ... وَمَا فَضْلُ عِلْمٍ دُونَ فِعْلٍ مُنَاسِبِ
عَلَى فِعْلِ طَاعَاتٍ بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ ... وَمِنْ غَيْرِ إِحْضَارٍ وَقَلْبٍ مُرَاقِبِ
أُصَلِّي الصَّلاةَ الْخَمْسَ وَالْقَلْبُ جَائِلٌ ... بِأَوْدِيَةِ الأَفْكَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
عَلَى أَنَّنِي أَتْلُو الْقُرْآنَ كِتَابَهُ ... تَعَالَى بِقَلْبِ ذَاهِلٍ غَيْرَ رَاهِبِ
عَلَى طُولِ آمَالٍ كَثِير غَرُورُهَا ... وَنِسْيَانِ مَوْتٍ وَهُوَ أَقْرَبُ غَائِبِ
عَلَى أَنَّنِي قَدْ أَذْكُرُ اللهَ خَالِقِي ... بِغَيْرِ حُضُورٍ لازِمٍ وَمُصَاحِبِ
عَلَى أَنَّنِي لا أَذْكُرُ الْقَبْرَ وَالْبَلَى ... كَثِيرًا وَسَفْرًا ذَاهِبًا غَيْرَ آيِبِ
عَلَى أَنَّنِي عَنْ يَوْمِ بَعْثِي وَمَحْشَرِي ... وَعَرْضِي وَمِيزَانِي وَتِلْكَ الْمَصَاعِبِ
مَوَاقِفُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَخُطُوبِهَا ... يَشِيبُ مِنْ الْولْدَانِ شَعْرُ الذَّوَائِبِ
تَغَافَلْتُ حَتَّى صِرْتُ مِنْ فُرْطِ غَفْلَتِي ... كَأَنِّي لا أَدْرِي بِتِلْكَ الْمَرَاهِبِ
عَلَى النَّارِ أَنِّي مَا هَجَرْتُ سَبِيلَهَا ... وَلا خِفْتُ مِنْ حَيَّاتِهَا وَالْعَقَارِبِ
عَلَى السَّعْيِ لِلْجَنَّاتِ دَارِ النَّعِيمِ وَالْـ ... ـكَرَامَةِ الزُّلْفَى وَنَيْلِ الْمَآرِبِ
مِنْ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْمُخَلَّدِ وَالْبَقَا ... وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ كُلِّ طَالِبِ
وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا رِضَا الرَّبِّ عَنْهُمْ ... وَرُؤْيَتُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِبِ
فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا ... هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ
وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ
وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ ... عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ... وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ... وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ ... وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ
عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ... وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ
عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ... وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ
وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ ... وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ(2/447)
.. فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا ... وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ
وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ
وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ ... وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ... وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ... وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ
عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ ... وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ
عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ... وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ
عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ... وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ
وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ ... وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ
إِلَيْهِ مآبِي وَهُوَ حَسْبِي وَمَلْجَئِي ... وَلِي أَمَلٌ فِي عَطْفِهِ غَيْرُ خَائِبِ
وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا بَقِي لِمَا ... يُحِبُّ وَيَرْضَى فَهُوَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ
وَأَنْ يَتَغَشَّانَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةٍ ... وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَسَتْرِ الْمَعَائِبِ
وَأَنْ يَتَوَلانَا بِلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ ... وَحِفْظٍ يَقِينَا شَرَّ كُلِّ الْمَعَاطِبِ
وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةٍ ... عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ خَيْرِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيمِينَ لِلْقُرْآنِ وَالسُنَّةِ الَّتِي ... أَتَانَا بِهَا عَالِي الذُّرَى وَالْمَرَاتِبِ
مُحَمَّدٌ الْهَادِي الْبَشِيرُ نَبِيُّنَا ... وَسَيِّدُنَا بَحْرُ الْهُدَى وَالْمَنَاقِبِ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... وَآلٍ وَأَصْحَابٍ لَهُ كَالْكَوَاكِبِ
(موعظة) : عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها فَإِنَّ متاعها قليل ولا تطمعوا بالإقامة فيها فَإِنَّ البقاء فيها مستحيل كيف لا والمنادي ينادي كُلّ يوم يَا عباد الله الرحيل، هُوَ الموت ما منه فوت ولا تعجيل ولا يقبل الفداء فاستعدوا لَهُ فإنه سيأتيكم عَنْ قريب.عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها وإيثارها على الآخِرَة فَإِنَّ هَذَا الفساد يقعد المسلم عَنْ التطلع إِلَى الآخِرَة والْعَمَل لها وإتعاب الجسد فِي سبيل الله والدعوة إليه وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على مهام الدعوة إِلَى الله،(2/448)
إِنَّ الدُّنْيَا فيها قابلية الإغراء للتعلق بها وحبها. ولهَذَا وصفها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِنَّ الدُّنْيَا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدُّنْيَا واتقوا النساء» . وقَدْ حذرنا ربنا من الوقوع فِي شباكها والتعلق بها فقَالَ عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . ووجه الاغترار بالدُّنْيَا أن فيها مباهج ومناظر وملذات للأنفس والأعين والأسماع تهواها نَفْسهُ بطبيعتها وتؤثرها على ما سواها، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والآخِرَة * وَالآخِرَة خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وقَالَ عز من قائل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَة} . فإذا تركت النفس وشانها زَادَ تعلقها بالدُّنْيَا وزَادَ التصاقها بها حَتَّى تصبح هِيَ كُلّ غايتها ومنتهى أملها ومبلغ علمها، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} . وإذا ما وصلت النفس إِلَى هَذَا الحد فقدت حاسة القبول والاعتبار وعَنْدَ ذَلِكَ لا يجدي معها وعظ ولا تذكير مهما بالغت فيه. فما هُوَ العلاج لمن وصل إِلَى هَذِهِ الدرجة العلاج بإذن الله هُوَ تخليص الْقَلْب من أسرارها وتعلقه بها وَذَلِكَ بان يجعل زَوَال الدُّنْيَا نصب عينيه ويتيقن لقاء الآخِرَة وبقاءها وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم. ويتدبر الآيات مثل قوله تَعَالَى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} . وقوله تَعَالَى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَة خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} ، وقوله: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَة إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وقوله تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ} . وقوله {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ} الآية. ويتدبر الأحاديث مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر: «كن فِي الدُّنْيَا غريب أَوْ عابر سبيل» . الْحَدِيث. وقوله: «ما لي وللدنيا» . ونحو ذَلِكَ من الآيات وَالأَحَادِيث التي مرت سابقًا حول أمثلة الدُّنْيَا.(2/449)
ويقارن بين الأمرين فَإِنَّ كَانَ ذا عقل راجح آثر الآخِرَة على الدُّنْيَا وأيضًا لابد من قطع التسويف وطول الأمل حَتَّى يحس أنه فِي غربة وأنه مسافر عَنْ هَذِهِ الدار وأنه سيرحل عَنْهَا فِي أَيَّةِ ساعةٍ رغم أنفه شاء أم أبى.
شِعْرًا: ... وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلةٍ حَدْبَاء مَحْمُول
آخر: ... وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا لَهُ مِنْ دَوَاعِي الْمَوْتِ تَثْوِيبُ
وَإِن وسوس لَهُ الشيطان وألقى فِي روعه إِنَّكَ شاب قوي موفور الصحة مشدود أسرك وَفِي إمكانك الرجوع إِلَى الطاعة والإقبال إِلَى الآخِرَة فليطرد وساوسه باستحضار الَّذِينَ رحلوا شبابًا وكهولاً وهم الآن تحت الثرى.
شِعْرًا: ... يُعَمَّرِ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ... وَيُنْسَى مَنْ يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ
آخر: ... لا تَغْتَزِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ
ويخَرَجَ إِلَى المقابر ويتفكر فيمن جمعوا الأموال وقتلوا أوقاتهم فِي طلبها واتعبوا أبدانهم وأنهم سيحاسبون عَلَيْهَا، ويفكر فيمن تعود عَلَيْهمْ بعده ربما أنهم لا يذكرونه بخَيْر ويتمنون موته فلماذا يحرق نَفْسهُ فِي جمعها لَهُمْ.
شِعْرًا: ... وقَدْ يُورِثُ الْمَال الْبَعِيدَ مُظَلَّلٌ ... مِن النَّاس يَأْبَى وَضَعْه فِي الْقَرَائِب
آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
آخر: ... شَقِيتُ بِمَا جَمَعْتُ فَلَيْتَ شِعْرِي ... وَرَائِي مَنْ يَكُونَ بِهِ سَعِيدَا؟!
أُعَايِنُ حَسْرَةً أَهْلِي وَمَالِي ... إِذَا مَا النَّفْسُ جَاوَزَتِ الْوَرِيدَا
أُعِدُّ الزَّادَ مِنْ تَقْوَى فَإِنِّي ... رَأَيْتُ مَنِيَّتِي السَّفَرَ الْبَعِيدَا
تَبَدَّل صَاحِبي فِي اللَّحْدِ مِنِّي ... وَهَالَ عَلَى مَنَاكِبَى الصَّعِيدَا
فَلَوْ أَبْصَرْتَنِي مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ ... رَأَيْتَ مَحَاسِنِي قَدْ صِرْنَ دُودَا
وَحِيدًا مُفْرِدًا يَا رَبِّ [لُطْفًا] ... بِعَبْدِكَ حِينَ مَا يُتْرَكْ وَحِيدَا(2/450)
فإذا قصر أمله فِي الحياة انَبْعَث إِلَى التجهز للآخرة بعمل الطاعات إذ لا يدري متى ينادى عَلَيْهِ بالرحيل فإذا تخلص من التعلق بالدُّنْيَا وأفرغ ما فِي قَلْبهُ من سمومها وأقبل على الآخِرَة أحس بغربة شديدة فِي الدُّنْيَا ولكن مَعَ خفة فِي روحه وإقبال شديد على مراضي الله وعلى رأسها الدعوة إليه وهداية الحيارى من عباد الله.
لا يعوقه عَنْ ذَلِكَ عائقٌ من تعبٍ ولا نصبٍ ولا سفرٍ ولا سهرٍ ولا بذلٍ ولا تضحيةٍ لأن ذَلِكَ كله من الزَّاد المؤكد نفعه وفائدته فِي سفره الطويل الْبَعِيد إِلَى الآخِرَة بل إنه سيعقب تعبه راحةٌ وألمه لذة وَفِي بذله ربحًا وَفِي تضحيته عوضًا مضمونَا.
وَفِي وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوه باليقين ونوره بالحكمة وَذَلِلّهُ بذكر الموت وقرره بالفناء وبصره بفجائع الدُّنْيَا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأَيَّامُ وأعرض عَلَيْهِ أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كَانَ قبلك من الأولين وسر فِي ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم قَدْ انتقلوا عَنْ الأحبة وحلوا فِي دار غربة وكأنك عَنْ قليل قَدْ صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع أخرتك بدنياك إِلَى أن قَالَ: يَا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عَلَيْهِ وتفضي بعد الموت إليه حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت وشددت لَهُ أزرك ولا يأتيك بغتة فيبهرك وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها وتكالبهم عَلَيْهَا فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونعت لَكَ نفسها وتكشف لَكَ عَنْ مساويها فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها بَعْضًا أي ينبح بعضها على بَعْض ويأكل عزيزها ذليلها ويقهر كبيرها صغيرها نَعَمٌ معلقة وأخرى مهملة قَدْ أضلت عقولها وركبت مجهولها سروح عاهة لَيْسَ راع يقيمها ولا مقيم يَسِيسُهَا سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى وأخذت(2/451)
بأبصارهم عَنْ منار الهدى فتاهوا فِي خيراتها وغرقوا فِي نعمتها واتخذوها رَبًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها ونسوا ما وراءها، واعْلَمْ أن من كَانَ مطيته الليل والنَّهَارَ فإنه يسار به وإن كَانَ واقفًا ويقطع المسافة وإن كَانَ مقيمًا.
شِعْرًا: ... يَا جَامِعَ الْمَالِ إِنَّ الْعُمْرَ مُنْصَرِمٌ ... فَابْخَلْ بِمَالِكَ مَهْمَا شِئْتَ أَوْ فَجُدِ
وَيَا عَزِيزًا يَخِيطُ الْعُجْبُ نَاظِرُهُ ... أُذْكُرْ هَوَانَكَ تَحْتَ التُّرْبِ وَاتَّئِدِ
قَالُوا تَرَقَى فُلانُ الْيَوْمَ مَنْزِلَةً ... فَقُلْتُ يُنْزِلُهُ عَنْهَا لِقَاءُ غَدِ
كَمْ وَاثِقٍ بِاللَّيَالِي مَدَّ رَاحَتَهُ ... إِلَى الْمَرَامِ فَنَادَاهُ الْحِمَامُ قَدِ
وَبَاسِطٍ يَدَهُ حُكْمًا وَمَقْدِرَةً ... وَوَارِدُ الْمَوْتِ أَدْنَى مِنْ فَمٍ لِيَدِ
كَمْ غَيَّرَ الدَّهْرُ مِنْ دَارِ وَسَاكِنِهَا ... لا عَنْ عَمِيدِ ثَنَى بَطْشًا وَلا عَمَدِ
زَالَ الَّذِي كَانَ لِلْعَلْيَا بِهِ سَنَدٌ ... وَزَالَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ
تَبَارَكَ اللهُ كَمْ تَلْقَى مَصَائِدَهَا ... هَذِي النُّجُوم عَلَى الدَّانِينَ وَالْبُعَدِ
تَجْرِي النُّجُومُ بِتَقْرِيبِ الْحِمَامِ لَنَا ... وَهُنَّ مِنْ قُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى أَمَدِ
لا بُدَّ أَنْ يَغْمِسَ الْمِقْدَارُ مُدْيَتَهُ ... فِي لَبَّةِ الْجَدْيِ مِنْهَا أَوْ حَشَى الأَسَدِ
عَجِبْتُ مِنْ آمِلٍ طُولَ الْبَقَاءِ وَقَدْ ... أَخْنَى عَلَيْهِ الَّذِي أَخْنَى عَلَى لُبَدِ
يَجُرّ خَيْطُ الدُّجَى وَالْفَجْرِ أَنْفُسَنَا ... لِلتُّرْبِ مَا لا يَجُرُّ الْحَبْلُ مِنْ مَسَدِ
هَذِي عَجَائِبُ تَثْنِي النَّفْسَ حَائِرَةً ... وَتُقِعِدُ الْعَقْلَ مِنْ عِيِّ عَلَى ضَمَدِ
مَا لِي أُسَرٌ بِيَوْمٍ نِلْتُ لَذَتَهُ ... وَقَدْ ذَوَى مَعَهُ جُزْءٌ مِن الْجَسَدِ
لا تَرْكَنَّ فَرِيدًا فِي التُّرَابِ غَدًا ... وَلَوْ تَكَثَّرَ مَا بَيْنَ الْوَرَى عَدَدِي
مَا نَافِعِي سَعَةٌ فِي الْعَيْشِ أَوْ حَرَجٌ ... إِنْ لَمْ تَسَعْنِي رُحْمَى الْوَاحِدِ الصَّمَدِ
اللَّهُمَّ قنعنا من الدُّنْيَا باليسير وسهل عَلَيْنَا كُلّ أمر عسير وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وأسكنا دار كرامتك يَا من هُوَ ملجؤنا وملاذنا وإليه المصير واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجَا ومن كُلّ ضيق مخرجَا،(2/452)
اللَّهُمَّ أحيي قلوبًا أماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ "
ومِمَّا ورد فِي فضيلة الرجَاءَ من الأحاديث ما فِي الصحيحين عَنْ أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قتل تسعةً وتسعين نفسًا، ثُمَّ ندم وسأل عابدًا من عباد بني إسرائيل هل لَهُ من توبة فقَالَ لا فقتله وأكمل به مائةً، ثُمَّ سأل عالمًا من علمائهم هل لَهُ من توبة فقَالَ ومن يحول بينك وبين التوبة.
ثُمَّ أمره بالذهاب إِلَى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت فِي أثناء الطَرِيق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة الْعَذَاب، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كَانَ أقرب فهو مَنْهَا فوجدوه أقرب إِلَى الأَرْض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عَنْدَ الموت، وأن الله تبارك وتَعَالَى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلد أن تتباعد. هَذَا معنى الْحَدِيث.
وعن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، وأن مُحَمَّد عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق والنار حق، أدخله الله الْجَنَّة على ما كَانَ من الْعَمَل» . متفق عَلَيْهِ. وَفِي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا رسول الله حرم الله عَلَيْهِ النار» .(2/453)
وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله عز وجل من جَاءَ بالحسُنَّة فله عشر أمثالها، أو أزيد ومن جَاءَ بالسيئة فجزاء سَيِّئَة مثلها أَوْ أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب منى ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً، ومن لقيني بقراب الأَرْض خطيئةً لا يشرك بي شَيْئًا لقيته بمثلها مغفرة» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جاء أعربي إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما الموجبتان؟ قَالَ: «من مَاتَ لا يشرك بِاللهِ شَيْئًا دخل الْجَنَّة، ومن مَاتَ يشرك به شَيْئًا دخل النار» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث معاذ: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ» .
وَفِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عَنْ الْجَنَّة» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث عتبان قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنَّ الله قَدْ حرم عَلَى النَّارِ من قَالَ لا إله إلا الله يبتغي بذَلِكَ وجه الله» . متفق عَلَيْهِ.
وعن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أترون هَذِهِ المرأة طارحة ولدها فِي النار» ؟ قلنا: لا وَاللهِ. فقَالَ: «لله أرحم بعباده من هَذِهِ بولدها» . متفق عَلَيْهِ.
وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ الله يَا ابن آدم إِنَّكَ ما دعوتني ورجوتني، غفرت لَكَ على ما كَانَ منك ولا أبالي، يَا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثُمَّ استغفرتني غفرت لَكَ، يَا ابن آدم(2/454)
إِنَّكَ لو أتيتني بقراب الأَرْض خطايا، ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شَيْئًا، لا تيتك بقرابها مغفرة» . رَوَاهُ الترمذي.
وعنه عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن الكافر إِذَا عمل حسَنَةً أطعم بها طعمة من الدُّنْيَا، وأما المُؤْمِن فَإِنَّ الله تَعَالَى يدخر لَهُ حسناته فِي الآخِرَة ويعقبه رزقًا فِي الدُّنْيَا على طاعته» .
وَفِي رواية: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسَنَةً يعطى بها فِي الدُّنْيَا ويجزى بها فِي الآخِرَة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفضى إِلَى الآخِرَة لم يكن لَهُ حسَنَةً يجزى بها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنتم فِي أَهْل الشرك إلا كالشعرة البيضاء فِي جلد الثور الأسود أَوْ كالشعرة السوداء فِي جلد الثور الأحمر» . متفق عَلَيْهِ.
وَفِي حديث ابن عباس قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «ما من رجل مُسْلِم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بِاللهِ شَيْئًا إلا شفعهم الله فيه» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حديث أبي هريرة فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اذهب فمن لقيت وراء هَذَا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النَّهَارَ ويبسط يده بالنَّهَارَ ليتوب مسيء الليل حَتَّى تطلع الشمس من مغربها» . رَوَاهُ مُسْلِم.
شِعْرًا:
تَتَبَّعْ مَرَاضِي اللهَ وَادْعُ وَالْحِفَا ... لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتَسْعَدا
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا ... وَلاتتوانى عَندما تسمع الندا(2/455)
عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يُدْنَى المُؤْمِن يوم القيامة من ربه حَتَّى يضع عَلَيْهِ كنفه فيقرره بذنوبه فَيَقُولُ: أتعرف ذنب كَذَا أتعرف ذنب كَذَا فَيَقُولُ: ربي أعرف، قَالَ: فإني سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فيعطى صحيفة حسناته» . متفق عَلَيْهِ.
وينبغي لمن قربت مفارقته الدُّنْيَا أن يكون على باله ما تقدم من آيات الرجَاءَ وأحاديث الرجَاءَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
شِعْرًا: ... نَادَتْ بِوَشْكَ رَحِيلِكَ الأَيَّامُ ... أَفْلَسَتْ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ
وَمَضَى أَمَامَك مَنْ رَأَيْتُ وَأَنْتَ لِلْـ ... بَاقِينَ حَتَّى يَلْحَقُوكَ إِمَامُ
مَا لِي أَرَاكَ كَأَنَّ عَيْنَكَ لا تَرَى ... عِبَرًا تَمُرُّ كَأَنَّهُنَّ سِهَامُ
تَأْتِي الْخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهُ لَهَا ... فَإِذَا مَضَتْ فَكَأَنَّهَا أَحْلامُ
قَدْ وَدَّعَتْكَ مِن الصِّبَا نَزَوَاتُهُ ... فَاجْهَدْ فَمَالَكَ بَعْدَهُنَّ مَقَامُ
وَأَرْضَ الْمَشِيبَ مِن الشَّبَابِ خَلِيفَةً ... فَكِلاهُمَا لَكَ خِلْفَةٌ وَنِظَامُ
وَكِلاهُمَا حُجَجٌ عَلَيْكَ قَوِيَّةٌ ... وَكِلاهُمَا نِعَمٌ عَلَيْكَ جِسَامُ
وَلَقَدْ غَنِيتَ مِنَ الشَّبَابِ بِغِبْطَةٍ ... وَلَقَدْ كَسَاكَ وِقَارُهُ الإِسْلامُ
أَهْلاً وَسَهْلاً بِالْمَشِيبِ مُؤَدِّبًا ... وَعَلَى الشَّبَابِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ
مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ ... أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَاب رُكَامُ
وَلَكَمْ رَأَيْتُ مَحَلَّةً أَقْوَتْ وَكَمْ ... جَدَثٌ رَأَيْتُ تَلُوحُ فِيهِ عِظَامُ
وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ ... تَلْهُو وَتَعْبَثُ بِالْمُنَى وَتَنَامُ
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ دَائِمٌ ... أَبَدًا وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ
وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لِجَلالِهِ ... وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَحْلامُ
وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ لَمْ يَزَلْ ... لا تَسْتَقْلُ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ
سُبْحَانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ ... وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإِكْرَامُ(2/456)
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغار إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لَنَا ولوالدينا ولجميع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ ": إِذَا فهمت ما تقدم فاعْلَمْ أن الْعَبْد المُؤْمِن لا بد أن يجمَعَ بين الرجَاءَ والخوف، وَهَذَا الطَرِيق هُوَ طَرِيق الاعتدال، لأنه إن غلب عَلَيْكَ الرجَاءَ حَتَّى فقدت الخوف البتة وقعت فِي طَرِيق الأمن من مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وإن غلب عَلَيْكَ الخوف حَتَّى فقدت رجَاءَ الله وقعت فِي طَرِيق اليأس، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، وإن جمعت بين الخوف والرجَاءَ فهو طَرِيق أَوْلِيَاء الله وأصفيائه.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وجملة الأَمْر أنَّكَ إِذَا تذكرت سعة رحمة الله تَعَالَى التي سبقت غضبه ووسعت كُلّ شَيْء ثُمَّ أن كنت من هَذِهِ الأمة المرحومة الكريمة على الله تَعَالَى ثُمَّ غاية فضله العَظِيم وكمال جوده الكريم وجعل عنوان كتابه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ كثرة أياديه إليك ونعمته عَلَيْكَ ظاهرة وباطنة من غير شفيع أَوْ قدم سابقة لَكَ.
شِعْرًا: ... يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا ... عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلانِي وَإِسْرَارِي
أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا ... فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي
آخر: ... أَيَا رَبِّ قَدْ أَحْسَنْتَ عَودًا وَبَدْأَةً ... إِليَّ فَلَمْ يَنْهَضْ بِإِحْسَانِكَ الشُّكْرُ
فَمَنْ كَانَ ذَا عُذْرٍ لَدَيْكَ وَحُجَّةٍ ... فَعُذْرِي إِقْرَارِي بِأَنْ لَيْسَ لِي عُذْرُ
وتذكرت من جانب آخر كمال جلاله وعظمته وعظم سلطانه وهيبته(2/457)
ثُمَّ شده غضبه الَّذِي لا تَقُوم لَهُ السماوات والأَرْض، ثُمَّ غاية غفلتك وكثرة ذنوبك وجفوتك مَعَ دقة أمره، وخطر معاملته فِي إحاطة علمه وبصره بالعيوب والغيوب، ثُمَّ حسن وعده وثوابه الَّذِي لا يبلغ كنهه الأوهام وشدة وعيده وأليم عقابه الَّذِي لا يحتمل ذكره الْقُلُوب.
تَارَّة تنظر إِلَى عذابه وتَارَّة تنظر إِلَى رأفته ورحمته، وتَارَّة تنظر إِلَى نفسك فِي جفواتها وجناياتها فإذا فعلت ذَلِكَ أدى بك جميع ذَلِكَ إِلَى الخوف والرجَاءَ وَكُنْت قَدْ سلكت سبيل الشارع الْقَصْد وعدلت من الجانبين المهلكين، الأمن واليأس ولا تتيه فيهما مَعَ التائهين، ولا تهلك مَعَ الهالكين وشربت الشراب الممزوج العدل فلا تهلك ببرودة الرجَاءَ الصرف، ولا بحرارة الخوف الصرف.
وكأني بك قَدْ وصلت إِلَى المقصود غانمًا وشفيت من العلتين سالمًا ووجدت النفس قَدْ انبعثت للطاعة ودانت فِي الخدمة ليلاً ونهارًا من غير فترةٍ ولا غَفْلَةٍ، واجتنبت المعاصي والمخازي وهجرنها وصرت حينئذ من الأصفياء الخواص العابدين، الَّذِينَ وصفهم الله تَعَالَى بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .
وَاللهُ سُبْحَانَهُ المسئول أن يمدك وإيانَا بحسن توفيقه وتسديده إنه أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وأجود الأجودين ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلي العَظِيم.
اللَّهُمَّ إنََّا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الْحَبِيب بحبيبه عَنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إِلَى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء(2/458)
والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فَصْلٌ ": قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: الْقَلْب فِي سيره إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجَاءَ جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ومتى قطع الرأس مَاتَ الطائر متى فقَدْ الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
وقِيْل أكمل الأَحْوَال الاعتدال.أهـ. قَالَ الله تَعَالَى مخبرًا عَنْ أوليائه وأصفيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقَالَ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وقِيْل: إن كَانَ الغالب على الْقَلْب الأمن من مكر الله فالخوف أفضل وَكَذَا إن كَانَ الغالب على الْعَبْد المعصية، وإن كَانَ الغالب عَلَيْهِ اليأس والقنوط فالرجَاءَ أفضل.
والَّذِي تطمئن إليه النفس سلوك الاعتدال إلا عَنْدَ فراق الدُّنْيَا فيغلب جانب الرجَاءَ.
لما ورد عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه سمَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يَقُولُ: «لا يموتن أحدكم إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي وأنَا معه حيث ذكرني» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة وقَدْ رئي بَعْضهمْ بعد موته فسئل عَنْ حاله فأنشد:
شِعْرًا: ... نُقِلْتُ إِلَى رِمْسِ الْقُبُورِ وَضِيقَهَا ... وَخَوْفِي ذُنُوبِي أَنَّهَا بِي تَعْثُرُ(2/459)
فَصَادَفْتُ رَحْمَانًا رَؤُوفًا وَأَنْعُمًا ... حَبَانِي بِهَا سَقْيًا لِمَا كُنْتُ أَحْذَرُ
وَمنْ كَانَ حُسْنُ الظَّنِ في حَالِ مَوْتِهِ ... جَمِيلاً بِعَفْوِ اللهِ فَالْعَفْوُ أَجْدَرُ
آخر: ... رَجَوْتُكَ يَا رَحْمَنُ إِنَّكَ خَيْرُ مَنْ ... رَجَاهُ لِغُفْرَانِ الْجَرَائِمِ مُرْتَجِي
فَرَحْمَتُكَ الْعُظْمَى الَّتِي لَيْسَ بَابُهَا ... وَحَشَاكَ فِي وَجْهِ الْمُسِيء بِمُرْتَجِ
آخر: ... يَا مَنْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ يَبْتَهِلُوا ... وَكُلُّ حَيّ عَلَى رُحْماهُ يَتَّكِلُ
يَا مَنْ نَأَى فَرَأى مَا فِي الْقُلُوبُ وَمَا ... تَحْتَ الثَّرَى وَحِجَابُ اللَّيْلِ مُنْسَدِلُ
يَا مَنْ دَنَا فَنَأَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْـ ... أَفْكَارُ طُرًّا أَوْ الأَوْهَامُ وَالْعِلَلُ
أَنْتَ الْمَلاذُ إِذَا مَا أَزْمَتٌ شَمِلَتْ ... وَأَنْتَ مَلْجَأُ مَنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ
أَنْتَ الْمُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ حَادِيَةٍ ... أَنْتَ الإِلهُ وَأَنْتَ الذُّخْرُ وَالأَمَلُ
أَنْتَ الْغِيَاثُ لِمَنْ سُدَّتْ مَذَاهِبُهُ ... أَنْتَ الدَّلِيلُ لِمَنْ ضَلَّتْ بِهِ السُّبُلُ
إِنَّا قَصَدْنَاكَ وَالآمَالُ وَاقِعَةٌ ... عَلَيْكَ وَالْكُلُّ مَلْهُوفٌ وَمُبْتَهِلُ
فَإِنْ غَفَرْتَ فَعَنْ طُولٍ وَعَنْ كَرَمٍ ... وَإِنْ سَطَوْتَ فَأَنْتَ الْحَاكِمُ الْعَدِلُ
وأخَرَجَ الإِمَام أحمد وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي عَنْ حيان أبي النضر قَالَ: خرجت عائدًا ليزيد بن الأسود، فلقيت واثلة بن الأسقع وَهُوَ يريد عيادته، فدخلنا عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل واثلة حَتَّى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه، فقَالَ لَهُ واثلة: كيف ظنك بِاللهِ؟ قَالَ: ظني بِاللهِ حسن. قَالَ: فأبشر فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله» .
وروى الطبراني عَنْ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: والَّذِي لا إله غيره لا يحسن عبد بِاللهِ الظن إلا أعطاه ظنه، وَذَلِكَ بأن الْخَيْر فِي يده.
وروى البيهقي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بعبد إِلَى النار فَلَمَّا وقف على شفتها التفت فقَالَ: أما وَاللهِ يا رب إن كَانَ ظني(2/460)
بك لحسن فقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ردوه أَنَا عَنْدَ حسن ظن عبدي بي» .
ولما حضرت الإِمَام أحمد الوفاة قَالَ لولده عَبْد اللهِ: أذكر لي أحاديث الرجَاءَ، وأنشد بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ:
شِعْرًا: ... أَرَانِي إِذَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِتَوْبَةٍ ... تَعَرَّضَ لِي مِنْ دُونِ ذَلِكَ عَائِقُ
تَقَضَّتْ حَيَاتِي فِي اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ ... وَأَعْمَالِ سُوءٍ كُلُّهَا لا تُوَافِقُ
طُرِدْتُ وَغَيْرِي بِالصَّلاحِ مُقَرَّبٌ ... وَدُونَ بُلُوغِي مَسْلَكٌ مُتَضَايقُ
وَكَيْفَ وَزَلاتُ الْمُسِيءِ كَثِيرَةٌ ... أَيَقْرُبُ عَبْدٌ عَنْ مَوَالِيهِ آبِقُ
إِلَى اللهِ أَشْكُو قَلْبَ سُوءٍ قَدْ احْتَوَى ... عَلَيْهِ الْهَوَى وَاسْتَأْصَلَتْهُ الْعَلائِقُ
وَلِي حُزْنٌ يَزْدَادُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَدَمْعُ جُفُونِي لِلْبُكَاءِ يُسَابِقُ
فَإِنْ يَغْفِرْ الْمَوْلَى الَّذِي قَدْ أَتَيْتُه ... فَذَاكَ الرَّجَا وَالظَّنُّ حِينًا يُوَافِقُ
(عَلامَةُ مَا يُولِي مِن الْفَضْل إِنْ أَنَا ... هَجَرْتُ الدُّنَا أَوْ قُلْتُ إِنَّكَ طَالِقُ)
(وَأَقْبَلْتُ فِي تَصْلِيحِ أَخْرَايَ مُدْلِجًا ... أُحَاسِبُ نَفْسِي كُلِّ مَا ذَرَّ وَشَارِقُ)
" فَصْلٌ "
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن حُسْن الظَّنِ بِاللهِ إنما يكون مَعَ الإحسان فَإِنَّ المحسن حَسَنُ الظَّنِ بربه أنه يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فَإِنَّ المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسْن الظَّنِ بربه وَهَذَا موجود فِي الشاهد فَإِنَّ الْعَبْد الآبق المسيء الخارج عَنْ طاعة سيده لا يحُسْن الظَّنِ به، ولا يجامَعَ وحشة الإساءة إحسان الظن أبدًا، فَإِنَّ المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن النَّاس ظنًا بربه أطوعهم لَهُ، كما قَالَ الحسن البصري: إن المُؤْمِن أحُسْن الظَّنِ بربه فأحسن الْعَمَل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء الْعَمَل.(2/461)
وكيف يكون محُسْن الظَّنِ بربه من هُوَ شارد عَنْهُ، حال مرتحل فِي مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قَدْ هان حقه وأمره عَلَيْهِ فأضاعه، وهان نهيه عَلَيْهِ فارتكبه وأصر عَلَيْهِ وكيف يحُسِّن الظَّنِ بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه ووالى أعداءه، وجحد صفات لَهُ وأساء الظن بما وصف نَفْسهُ ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وظن بجهله أن ظاهر ذَلِكَ ضلال وكفر.
وكيف يحُسْن الظَّنِ بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي حق من شك فِي تعلق سمعه ببَعْض الجزئيات، وَهُوَ السِّرّ فِي القول (41: 23) {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} .
فهؤلاء لما ظنوا أن الله سُبْحَانَهُ لا يعلم كثيرًا مِمَّا يعملون كَانَ هَذَا إساءة لظنهم بربهم، فأرداهم ذَلِكَ الظن. وَهَذَا شأن كُلّ من جحد صفات كماله ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، إِذَا ظن هَذَا أنه يدخله الْجَنَّة كَانَ هَذَا غرورًا وخداعًا من نَفْسهُ، وتسويلاً من الشيطان، لا إحسان ظن بربه.
فتأمل هَذَا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمَعَ فِي قلب الْعَبْد تيقنه بأنه مُلاقٍ الله، وأن الله يسمَعَ كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عيه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسئول عَنْ كُلّ عمل وَهُوَ مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه، وَهُوَ مَعَ هَذَا يحُسْن الظَّنِ به.
وهل هَذَا إلا من خدع النُّفُوس وغرور الأماني، وقَدْ قَالَ أبو سهل ابن حنيف: (دخلت أَنَا وعروة بن الزبير على عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: لو رأيتما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مرض لَهُ، وكَانَتْ عنده ستة دنانير أَوْ سبعة دنانير، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أفرقها، فشغلني وجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى عافاه(2/462)
الله ثُمَّ سألني عَنْهَا فقَالَ: «ما فعلت أكنت فرقت الستة دنانير» . فَقُلْتُ: لا وَاللهِ، لَقَدْ كان شغلني وجعك، قَالَتْ: فدعا بها فوضعها فِي كفه، فقَالَ: «ما ظن نَبِيّ اللهِ لو لقي الله وهذه عنده» .
فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بِاللهِ إِذَا لقوه ومظَالِم العباد عندهم، فَإِنْ كَانَ ينفعهم قولهم: حسَّنَّا ظنونَنَا بك إِنَّكَ لم تعذب ظالمًا ولا فَاسِقًا، فليصنع الْعَبْد ما شَاءَ، وليرتكب كُلّ ما نهاه الله عَنْهُ، وليحسن ظنه بِاللهِ، فالنار لا تمسه، فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالْعَبْد، وقَالَ إبراهيم لقومه (37: 86) {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . أي ما ظنكم به إن يفعل بكم إِذَا لقيتموه وقَدْ عبدتم غيره.
ومن تأمل هَذَا الموضع حق التأمل علم أن حُسْن الظَّنِ بِاللهِ هُوَ حسن الْعَمَل نَفْسهُ، فَإِنَّ الْعَبْد يحمله على حسن الْعَمَل حُسْن الظَّنِ بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عَلَيْهَا ويتقبلها منه، فالَّذِي حمله على حسن الْعَمَل حُسْن الظَّنِ، فكُلَّما حسن ظنه بربه حسن عمله.
وإِلا فَحُسْن الظَّنِ مَعَ اتباع الهوى عجز، كما فِي الترمذي والمسند مِنْ حَدِيثِ شداد ابن أوس عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني» .
وبالجملة فَحُسْن الظَّنِ إنما يكون مَعَ انعقاد أسباب النجاة وأما مَعَ انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن.
فَإِنَّ قِيْل: بل يتأتى ذَلِكَ، ويكون مستند حُسْن الظَّنِ على سعة مغفرة الله ورحمته، وعفوه وجوده، وأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَأَنَّهُ لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو.(2/463)
قِيْلَ: الأَمْر هكَذَا، وَالله فوق ذَلِكَ وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذَلِكَ فِي محله اللائق به، فإنه سُبْحَانَهُ موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كَانَ مُعَوَّلُ حُسْن الظَّنِ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك فِي ذَلِكَ البر والفاجر، والمُؤْمِن والكافر، ووليه وعدوه.
فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقَدْ باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته، ووقع فِي محارمه وانتهك حرماته، بل حُسْن الظَّنِ ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسُنَّة، واستقبل بقية عمره بالْخَيْر والطاعة، ثُمَّ أحُسْن الظَّنِ بعدها فهَذَا هُوَ حُسْن الظَّنِ، والأول غرور وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
يفرق بين حُسْن الظَّنِ بالله وبين الغرور به قَالَ الله تَعَالَى (2: 218) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ} فجعل هؤلاء أَهْل الرجَاءَ، لا الباطلين والفاسقين، وقَالَ تَعَالَى (16: 119) {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأخبر سُبْحَانَهُ أنه بعد هَذِهِ الأَشْيَاءِ غفور رحيم لمن فعلها، فالعَالِم يضع الرجَاءَ مواضعه، والجاهل المغتر يضعه فِي غير مواضعه.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تائبين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ فِي نَمَاذِج مِنْ أََخْلاَقِ السَّلَفِ رَحِمهُم اللهُ)
من ذَلِكَ توصية بَعْضهمْ بَعْضًا وقُبُولهمْ لها وشكرهم للواعظ لَهُمْ، ومن وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن قَالَ فيها:(2/464)
أي بني.. إني لما رأيتني قَدْ بلغت سنًا، ورأيتني أزداد وهنًا بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً مِنْهَا قبل أن يُعَجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما فِي نفسي، وأن أنقص فِي رأيي كما نقصت فِي جسمي، أَوْ يسبقني إليك بَعْض غلبات الهوى وفتن الدُّنْيَا، فتَكُون كالصعب النفور.
وإنما قلب الحدث كالأَرْض الخالية ما ألقي فيها من شَيْء قبلته، فبادرتك بالأَدَب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الأَمْر ما قَدْ كفاك أَهْل التجارب بغيته وتجربته، فتَكُون قَدْ كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذَلِكَ ما قَدْ كنا نأتيه، واستبان لَكَ ما ربما أظلم عَلَيْنَا منه.
أي بني.. إني وإن لم أكن عمرت عمر من كَانَ قبلي، فقَدْ نظرت فِي أَعْمَالُهُمْ، وفكرت فِي أخبارهم، وسرت فِي آثارهم حَتَّى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهِيَ إِلَيَّ من أمورهم قَدْ عمرت مَعَ أولهم إِلَى آخرهم، فعرفت صفو ذَلِكَ من كدره ونفعه من ضرره.
فاستخلصت لَكَ من كُلّ أمر نخيله وتوخيت لَكَ جميله، وصرفت عَنْكَ مجهوله، ورَأَيْت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عَلَيْهِ من أدبك أن يكون ذَلِكَ وأَنْتَ مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة ونفس صافية.
وأن إبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله، وشرائع الإِسْلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذَلِكَ بك إِلَى غيره، ثُمَّ أشفقت أن يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الَّذِي التَبَسَ عَلَيْهمْ، فكَانَ أحكام ذَلِكَ على ما كرهت من تنبيهك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك الله لما فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك بوصيتي هَذِهِ.(2/465)
واعْلَمْ يَا بني، إن أحب ما أَنْتَ آخذ به إِلَيَّ من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عَلَيْكَ، والأخذ بما مضى عَلَيْهِ الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فَإِنَّهُمْ لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أَنْتَ ناظر.
وفكروا كما أَنْتَ مفكر، ثُمَّ ردهم آخر ذَلِكَ إِلَى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فَإِنَّ أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذَلِكَ بتفهم وتعلم، ولا بتورط الشبهات وعلوا الخصومَاتَ.
وابدأ قبل نظرك فِي ذَلِكَ بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه فِي توفيقك، وترك كُلّ شائبة أَوْلجتك فِي شبهة أَوْ أسلمتك إِلَى ضلالة، فإذا أيقنت أن قَدْ صفا قلبك فَخَشَعَ، وتم رأيك فاجتمَعَ، وكَانَ همك فِي ذَلِكَ همًا واحدًا، فَانْظُرْ فيما فَسَّرْتُ لَكَ.
وإن لم يجتمَعَ لَكَ ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعْلَمْ أنَّكَ إنما تخبط العشواء وتتورط الظلماء، ولَيْسَ طالب الدين من خبط أَوْ خلط، والإمساك على ذَلِكَ أمثل.
فتفهم يَا بني وصيتي، واعْلَمْ أنَّ مالك الموت هُوَ مالك الحياة، وأنَّ الخالق هُوَ المميت، وأن المفني هُوَ المعيد، وأن الله هُوَ المعافي، وأن الدُّنْيَا لم تكن لتستقر إلا على ماجعلها الله عَلَيْهِ من النعماء والابتلاء، والجزاء فِي المعاد أَوْ ما شَاءَ مِمَّا لا نعلم.
فإن أشكل عَلَيْكَ شَيْء من ذَلِكَ فاحمله على جهالتك به، فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثُمَّ علمت، وما أكثر ما تجهل من الأَمْر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثُمَّ تبصره بعد ذَلِكَ، فاعتصم بالَّذِي خلقك ورزقك وسواك، وليكن لَهُ تَعَبُّدُكَ، وإِليه رغبتُك، ومنه شفقتك.(2/466)
واعْلَمْ يَا بني أن أحدًا لم ينبئ عَنْ الله كما أنبأ عَنْهُ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - فارض به رائدًا، وإلى النجاة قائدًا، فإني لم آلُكَ نصيحة، وإنك لن تبلغ فِي النظر لنفسك - وإن اجتهدت - مبلغ نظري لَكَ.
واعْلَمْ يَا بني أنه لو كَانَ لربك شريك لأتتك رسله، ولرَأَيْت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إلهٌ واحدٌ كما وصف نَفْسهُ، لا يضاده فِي ملكه أَحَدًا، ولا يزول أبدًا، ولم يزل أول قبل الأَشْيَاءِ بلا أولية، وآخر بعد الأَشْيَاءِ بلا نهاية، عَظُمَ عَنْ أن تَثْبُتَ ربوبيته بإحاطة قلب أَوْ بصر، فإذا عرفت ذَلِكَ فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله فِي صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعَظِيم حاجته إِلَى ربه، فِي طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عَنْ قبيح.
يا بني.. إني قَدْ أنبأتك عَنْ الدُّنْيَا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عَنْ الآخِرَة وما أعد لأهلها فيها، وضربت لَكَ فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عَلَيْهَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والْجَنَّة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللَّهُمَّ ارحمنا إِذَا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" فَصْلٌ ": إنما مثل من خَبَرَ الدُّنْيَا كمثل قوم سَفرٍ نَبَا بِهُمْ منزل جديب فأَمَّوا منْزِلاً خصيبًا وجنابًا مريعًا فاحتملوا وعثاء الطَرِيق وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم، ليأتوا سعة دراهم، ومنزل قرارهم، فلَيْسَ(2/467)
يجدون لشيء من ذَلِكَ ألَمًا، ولا يرون فِي نفقه مغرمًا، ولا شَيْء أحب إليهم مِمَّا قربهم من منزلهم، وأدناهم عَنْ محلهم.
ومثل من اغتر بها كمثل قوم كَانُوا بمنزل خصيب، فَنَبَا بِهُمْ إِلَى منزل جديب، فلَيْسَ شَيْء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كَانُوا فيه إِلَى ما يهجمون عَلَيْهِ ويصيرون إليه.
يا بني.. اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره لَهُ ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من النَّاس بما ترضاه لَهُمْ من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقَالَ لَكَ.
وَاعْلَمْ أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع فِي كدحك ولا تكن خازنًا لغيرك، وَإِذَا هديت لقصدك، فكن أخشع ما تَكُون لربك.
واعْلَمْ أن أمامك طريقًا ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة، وأنه لا غنى لَكَ فيه عَنْ حسن الارتياد، قَدْرَ بلاغك من الزَّاد مَعَ خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذَلِكَ وبالاً عَلَيْكَ.
وَإِذَا وجدت من أَهْل الفاقة من يحمل لَكَ زادك إِلَى يوم القيامة، فيوافيك به غدًا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمله إياه، وأكثر من تزويده وأَنْتَ قادر عَلَيْهِ، فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك فِي حال غناك، ليجعل قضاءه لَكَ فِي يوم عسرتك.
واعْلَمْ أن أمامك عقبة كؤودًا، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطي عَلَيْهَا أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة على جنة أَوْ على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فلَيْسَ بعد الموت مستعتب، ولا إِلَى الدُّنْيَا منصرف.(2/468)
واعْلَمْ أن الَّذِي بيده خزائن السماوات والأَرْض، قَدْ أذن لَكَ فى الدُّعَاء، وتكفل لَكَ بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك تسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عَنْكَ، ولم يلجئك إِلَى من يشفع لَكَ إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عَلَيْكَ فِي قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة.
بل جعل نزوعك عَنْ الذنب حسُنَّة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشرًا، وفتح لَكَ باب المتاب، فإذا ناديته سَمِعَ نداءك، وَإِذَا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسأتله من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق.
ثُمَّ جعل فِي يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لَكَ من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدُّعَاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطك إبطاء إجابته، فَإِنَّ العطية عَلَى قَدْرِ النية، وَرُبَّمَا أخرت عَنْكَ إجابة ليكون ذَلِكَ أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل.
وَرُبَّمَا سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرًا منه عاجلاً أَوْ آجلاً، أَوْ صرف عَنْكَ لما هُوَ خَيْر لَكَ، فلرب أمر قَدْ طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لَكَ جماله، وينفى عَنْكَ وباله. فالْمَال لا يبقى لَكَ ولا تبقى لَهُ.
واعْلَمْ أَنَّكَ إنما خلقت للآخرة لا الدُّنْيَا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك فِي منزل قلعة ودار بلغة، وطَرِيق إِلَى الآخِرَة.(2/469)
وأنك طريد الموت الَّذِي لا ينجو منه هاربه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر إن يدركك وأَنْتَ على حال سَيِّئَة قَدْ كنت تحدث نفسك مَنْهَا بالتوبة، فيحول بينك وبين ذَلِكَ، فإذا أَنْتَ قَدْ أهلكت نفسك.
يا بني.. أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عَلَيْهِ، وتفضي بعد الموت إليه، حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت منه حذرك، وشددت لَهُ أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك، وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها، وتكالبهم عَلَيْهَا.
فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونَعَتَتْ لَكَ نفسها، وتكشفت لَكَ عَنْ مساويها، فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها.
نعم معقلة، وأخرى مهملة، قَدْ أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة بواد وعث. لَيْسَ لها راع يقيمها، ولا مقيم يسميها، سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى، وأخذت بأبصارهم عَنْ منار الهدى، فتاهوا فِي حيرتها، وغرقوا فِي نعمتها، واتخذوها ربًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها.
رويدًا يسفر الظلام، كَأنْ قَدْ وردت الأظغان، يوشك من أسرع أن يلحق، واعْلَمْ أن من كانت مطية الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفًا ويقطع المسافة وإن كان مقيمًا وادعًا.
واعلم يقينا إِنَّكَ لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وإنك فِي سبيل من كَانَ قبلك فخفض فِي الطلب، وأجمل فِي المكتسب فانه رب طلب قَدْ جر إلى حرب، فلَيْسَ كُلّ طالب بمرزوق، ولا كُلّ مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عَنْ دنية، وان ساقتك إِلَى الراغائب، فانك لن تعتاض بما تبذل(2/470)
من نفسك عوضًا، ولا تكن عبد غيرك وقَدْ جعلك الله حرًا، وما خَيْر، لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال الا بعسر.
وَإِيَّاكَ أن توجف بك مطايا الطمَعَ، فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت أن يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله سُبْحَانَهُ أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كَانَ كُلّ منه.
كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ بِأَخْبَارِ مَنْ مَضَى ... وَلَمْ تَرَ فِي الْبَاقِينَ مَا يَصْنَعُ الدَّهْرُ
فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ دِيَارُهُمْ ... عَلَيْهَا مَجَالُ الرِّيحِ بَعْدَكَ وَالْقَطْرُ
وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ حَيًّا بِمَنْزِلٍ ... عَلَى الأَرْضِ إِلا بِالْفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ
وَأَهْلُ الثَّرَى نَحْوَ الْمَقَابِرِ شُرّعٌ ... وَلَيْسَ لَهُمْ إِلا إِلَى رَبِّهِمْ نَشْرُ
عَلَى ذَاكَ مَرُّوا أَجْمَعُونَ وَهَكَذَا ... يَمُرُّونَ حَتَّى يَسْتَرِدُّهُمْ الْحَشْرُ
فَلا تَحْسَبَنَّ الْوَفْرَ مَالاً جَمَعْتَهُ ... وَلَكِنَّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ صَالِحٍ وَفْرُ
قَضَى جَامِعُوا الأَمْوَالِ لَمْ يَتَزَوَّدُوا ... سِوَى الْفَقْرُ يَا بُؤْسًا لِمَنْ زَادُهُ الْفَقْرُ
بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ... وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
وَمَا بَيْنُ مِيلادُ الْفَتَى وَوَفَاتِهِ ... إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفُسَهُمْ عُمْرُ
لأَنَّ الَّذِي يَأْتِي كَمِثْلِ الَّذِي مَضَى ... وَمَا هُوَ إِلا وَقْتُكَ الضَّيِّقُ النَّزْرُ
فَصَبْرًا عَلَى الأَوْقَاتِ حَتَّى تَحُوزَهَا ... فَعَمَّا قَلِيلٍ بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ
اللَّهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا وبفنائك أنخنا وَإِيَّاكَ أملنا ولما عندك من الكرم والجود والإحسان طلبنا ومن عذابك أشفقنا ولغفرانك تعرضنا فاغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(2/471)
(وَصِيَّةُ أَبِيْ حَازِمٍ الأَعْرَجِ لِلزُّهْرِي)
عافانَا الله وَإِيَّاكَ أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقَدْ أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك مَنْهَا، أصبحت شيخًا كبيرًا قَدْ أثقلتك نعم الله عَلَيْكَ، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله تَعَالَى مِمَّا حَمَلَكَ من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سُنَّة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فرمى بك فِي كُلّ نعمة أنعمها عَلَيْكَ وكل حجة يحتج بها عَلَيْكَ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .
انظر.. أي رجل تَكُون إِذَا وقفت بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ فسألك عَنْ نعمه عَلَيْكَ كيف رعيتها، وعن حججه عَلَيْكَ كيف قضيتها، ولا تحسبن الله راضيًا منك بالتغرير، ولا منك التقصير، هيهات لَيْسَ كَذَلِكَ.
أخذ على الْعُلَمَاء فِي كتابه إذ قال {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} .. الآية.
إنك تَقُول إِنَّكَ جدل، ماهر عَالِم، قَدْ جدلت النَّاس فجدلتهم، وخاصمتم فخصمتهم، إذلالاً منك بهمك، وإقتدارًا منك برأيك، فأين تذهب من قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .. الآية
اعْلَمْ أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقيت، أن آنست الظَالِم وسهلت لَهُ طَرِيق الغي بدنوك حين أدنيت، وأجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدا مَعَ الْجُمُعَة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عَنْ ظلم مظلمة.
إنك أخذت ما لَيْسَ لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقًا، ولا ترك باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدلَيْسَ بدعائه إياك حين دعاك.
جعلوك قطبًا تدور باطلهم عَلَيْكَ، وجسرًا يعبرون بك إِلَى بلائهم،(2/472)
وسلمًا إِلَى ضلالتهم، وداعيًا إِلَى غيهم، وسالكًا سبيلهم، يدخلون بك الشك على الْعُلَمَاء، ويقتادون بك قُلُوب الجهال إليهم، فلم تبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لَهُمْ إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لَكَ فِي جنب ما خرجوا عَلَيْكَ، وما أقل ما أعطوك فِي كثير ما أخذوا منك، فَانْظُرْ لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول.
وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرًا وكبيرًا، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه فِي النَّاس بخيلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرَا، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تَكُون منه قريبَا.
ما لَكَ لا تنتبه من نفسك، وتستقِيْل من عثرتك، فَتَقُول: وَاللهِ ما قمت لله مقامًا واحدًا أحيي لَهُ فيه دينًا، ولا أميت لَهُ فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحَمَلَكَ كتابه، واستودعك علمه.
ما يؤمنك أن تَكُون من الَّذِينَ قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} ... الآية.
إنك لست فِي دار مقام، قَدْ أذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طُوبَى لمن كَانَ مَعَ الدُّنْيَا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده.
إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ولَيْسَ أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك. ذهبت اللذة وبقيت التعبة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، إحذر فقَدْ أتيت، وتخلصت فقَدْ أدهيت إِنَّكَ تعامل من لا يجهل، والَّذِي يحفظ عَلَيْكَ لا يغفل.
تجهز فقَدْ دنا منك سفر، وداو دينك فقَدْ دخله سقم شديد، ولا(2/473)
تحسبن أني أردت توبيخك أَوْ تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تبنش ما فات من رأيك، وترد ما عزب عَنْكَ من حلمك، وذكرت قوله تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فَانْظُرْ هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أَوْ دخلوا فِي مثل ما دخلت فيه، هل تراه إِدَّخَرَ لَكَ خيرًا منعوه أَوْ علمك عِلْمًا جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك فِي صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن حللت أحلوا، وإن حرمت حرموا، ولَيْسَ ذَلِكَ عندك، ولكن إكبابهم عَلَيْكَ، ورغبتهم فيما فِي يديك، ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عَلَيْكَ وعَلَيْهمْ، وطلب حب الرياسة وطلب الدُّنْيَا منك وَمِنْهُمْ.
أما تَرَى ما أَنْتَ فيه من الجهل والعزة، وما النَّاس فيه من البَلاء والفتنة، وابتليتهم بالشغل عَنْ مكاسبهم وفتنتهم، بما رأوا من اثر العلم عَلَيْكَ، وتاقت أنفسهم إِلَى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الَّذِي بلغت، فوقعوا بك فِي بحر لا يدرك قعره، وَفِي بَلاء لا يقدر قدره، فالله لَنَا ولك ولهم المستعان.
واعْلَمْ أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تَعَالَى على يدي أوليائه لآوليائه، الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولَقَدْ جَاءَ نعتهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الَّذِينَ إِذَا غابوا لم يفتقدوا، وَإِذَا شهدوا لم يعرفوا، قُلُوبهمْ مصابيح الهدى، يخرجون من كُلّ فتنة سوداء مظلمة» .
فهؤلاء أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(2/474)
وجاه يجريه الله تَعَالَى على يدي أعدائه لأوليائه، وَمِقَةٌ يقذفها الله فِي قُلُوبهمْ لَهُمْ، فيعظمهم النَّاس بتعَظِيم أولئك لَهُمْ ويرغب النَّاس فيما فِي أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
وما أخوفني أن تَكُون ممن ينظر لمن عاش مستورًا عَلَيْهِ فِي دينه، مقتورًا عَلَيْهِ فِي رزقه، معزولة عَنْهُ البلايا، مصروفة عَنْهُ الفتن فِي عنفوان شبابه وطهور جلده، وكمال شهوته.
فعني بذَلِكَ دهره، حَتَّى إِذَا كبر سنه، ورق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته، فتحت عَلَيْهِ الدُّنْيَا شر فتوح فلزمته تبعتها وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها.
فسبحان الله ما أبين هَذَا الغبن، وأخسر هَذَا الأَمْر، فهلا إِذَا عرضت لَكَ فتنتها ذكرت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي كتابه إِلَى سعد.. حين خاف عَلَيْهِ مثل الَّذِي وقعت فيه عِنْدَمَا فتح الله على سعد.
أما بعد فأعرض عَنْ زهرة ما أَنْتَ فيه حَتَّى تلقى الماضين الَّذِينَ دفنوا فِي أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، لَيْسَ بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدُّنْيَا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا.
فإذا كَانَتْ الدُّنْيَا يبلغ من مثلك هَذَا فِي كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث فِي سنه، والجاهل فِي علمه، والمأفون فِي رأيه المدخول فِي عقله (إنَا لله وإنَا إليه راجعون) على من المعول، وعَنْدَ من المستعتب.
نحتسب عَنْدَ الله مصيبتنا.. وما نرى منك، ونحمد الله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلاك به. والسَّلام عَلَيْكَ ورحمة الله وبركاته..(2/475)
شِعْرًا: ... يَمْشُونَ نَحْوَ بُيُوتِ اللهِ إِذَا سَمِعُوا ... اللهُ أَكْبَرُ فِي شَوْقٍ وَفِي جَذَلِ
أَرْوَاحُهُمْ خَشَعَتْ للهِ فِي أَدَبِ ... قُلُوبُهُمْ مِنْ جَلالِ اللهِ فِي وَجَلِ
نَجْوَاهُمُ رَبَّنَا جِئْنَاكَ طَائِعَةً ... نُفُوسَنَا وَعِصْيَانَا خَادِعَ الأَمَلِ
إِذَا سَجَى اللَّيْلُ قَامُوهُ وَأَعْيُنُهُمْ ... مِنْ خَشْيَةِ اللهِ مِثْلَ الْجَائِدِ الْهَطَلِ
هُمُ الرِّجَال فَلا يُلْهِيهِمْ لَعِبٌ ... عَن الصَّلاةِ وَلا أَكْذُوبَةُ الْكَسَلِ
آخر: ... لا فِي النَّهَارَ وَلا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَحٌ ... فَمَا أُبَالِى أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا
لأَنَّنِي طُولَ لَيْلِى هَائِمٌ دَنِفٌ ... وَبِالنَّهَارَ أُقَاسِي الْهَمَّ وَالْفِكَرَا
آخر: ... لَعَمْرِي لَقَدْ نُودِيتَ لَوْ كُنْتَ تَسْمَعُ ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا لَيْسَ يَدْفَعُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّاسَ فِي غَفَلاتِهِمْ ... وَأَنَّ الْمَنَايَا بَيْنَهُمْ تَتَقَعْقَعُ
أَلَمْ تَرَ لَذَّاتِ الْجَدِيدِ إِلَى الْبَلَى ... أَلَمْ تَرَ أَسْبَابَ الأُمُورِ تَقَطَّعُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَوْتَ يَهْتَزُّ سَيْفُهُ ... وَأَنَّ رِمَاحَ الْمَوْتِ نَحْوَكَ شُرَّعُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الوَقْتَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... لَهُ عَارِضٌ فِيهِ الْمَنِيَّةُ تَلْمَعُ
أَيَا بَانِي الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَبْتَنِي ... وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
وقَالَ رجل لمُحَمَّد بن سيرين: أوصني. فقَالَ: لا تحسد أَحَدًا فإنه إن كَانَ من أَهْل النار فَكَيْفَ تحسده على دنيا فانية مصيره بعدها إلى النار، وإن كَانَ من أَهْل الْجَنَّة فاتبعه فِي إعمالها واغبطه عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أولى من حسدك لَهُ على الدُّنْيَا.
وقَالَ رجل للحسن البصري: أوصني. فقَالَ: لا تذنب فتلقى نفسك فِي النار من إِنَّكَ لو رَأَيْت أَحَدًا يلقى برغوثًا فِي النار لا نكرت عَلَيْهِ، وأَنْتَ تلقى نفسك فِي النار كُلّ يوم مرات، ولا تنكر عَلَيْهَا. ومن ذَلِكَ حسن أدبهم مَعَ الصغير والكبير ومَعَ الْبَعِيد فضلاً عَنْ القريب.
والأصل فِي الأَدَب شهود النقص فِي النفس والكمال فِي الغير عكس من(2/476)
كَانَ قليل أدب متكبر، وكَانَ ميمون بن مهران إِذَا دُعِي إِلَى وليمة جلس مَعَ الصبيان والمساكين من الرِّجَال وترك الأغنياء، وكَانَ بكر بن عَبْد اللهِ المزني يَقُولُ: إِذَا رَأَيْت من هُوَ أكبر منك فعظّمْه وقل إنه سبقني إِلَى الإِسْلام والْعَمَل الصالح وَإِذَا رَأَيْت من هُوَ أصغر منك فعظمه وقل فِي نفسك إني سبقته إِلَى الذُّنُوب، وَإِذَا أكرمك النَّاس فقل هَذَا من فضل الله علي لا أستحقه وَإِذَا أهانوك فقل هَذَا بذنب أحدثته.
ومن أخلاقهم انخلاع قُلُوبهمْ من خوف الله من ذَلِكَ ما ذكر أنه لما حضرت الوفاة سلمان الفارسي بكى، وقَالَ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عهد إلينا وقَالَ: «ليكن بلغة أحدكم من الدُّنْيَا كزَادَ الراكب " وها أَنَا قَدْ جمعت هَذِهِ الأمتعة وأشار إليها وهي أجانة وحفنة ومطهرة فَلَمَّا مَاتَ قوموها بخمسة عشر درهمًا.
شِعْرًا: ... مَا ضَرَّ مَنْ كَانَتْ الْفِرْدَوْسُ مَسْكَنَهُ ... مَاذَا تَحَمَّلَ مِنْ بُؤْسٍ وَإِقْتَارِ
تَرَاهُ يَمْشِي كَئِيبًا خَائِفًا وَجِلاً ... إلى الْمَسَاجِدِ يَسْعَى بَيْنَ أَطْمَارِ
ومِمَّا ينسب إِلَى الشَّافِعِي:
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى شَيْئَيْنِ لَوْ جُمِعَا ... عِنْدِي لَكُنْتَ إِذَا مِنْ أَسْعَدِ الْبَشَرِ
كَفَافِ عَيْشٍ يَقِينِي شَرَّ مَسْأَلَةٍ ... وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يَنْتَهِي عُمُرِي
آخر: ... قَطَعَ اللَّيَالِي مَعَ الأَيَّامِ فِي خَلِق ... وَالنَّوْمُ تَحْتَ رِوَاقِ الْهَمِّ وَالْقَلَقِ
أَحْرَى وَأَعْذَرُ لِي مِنْ أَنْ يُقَالَ غَدًا ... إِنِّي التَمَسْتُ الْغِنَى مِنْ كَفِّ مُخْتَلِقِ
قَالُوا قَنِعْتَ بِذَا قُلْتُ الْقُنُوعُ غِنَى ... لَيْسَ الْغِنَى كَثْرَةُ الأَمْوَالِ وَالْوَرَقِ
آخر: ... لا تَضْرَعَنَّ لِمَخْلِوقٍ عَلَى طَمَعٍ ... فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْكَ فِي الدِّينِ
وَاسْتَرْزِقْ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ ... فَإِنَّمَا الأَمْرُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ
آخر: ... كَمْ فَاقَةٍ مَسْتُورَةٍ بِمُرُوءَةٍ ... وَضَرورَةٍ قَدْ غُطِّيَتْ بِتَجَمُّلِ
وَمنِ ابْتِسَامٍ تَحْتَهُ قَلْبٌ شَجِي ... قَدْ خَامَرَتْهُ لَوْعَةٌ مَا تَنْجَلِي(2/477)
آخر: ... إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا نَالَتْهُ مَخْمَصَةٌ ... أَبْدَى إِلَى النَّاسِ رَيًّا وَهُوَ ظَمْآنُ
يَطْوِي الضُّلُوعَ عَلَى مِثْلِ اللَّظَى حُرَقًا ... وَالْوَجْهُ طلق بِهِ وَالْبشَّر رَيّانُ
آخر: ... نَهَارٌ مُشْرِقٌ وَظَلامُ لَيْلٍ ... أَلَحَّا بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ
هُمَا هَدَمَا دَعَائِمَ عُمْرِ نُوحٍ ... وَلُقْمَانٍ وَشَدَّادٍ وَعَادِ
فَيَا بَكْرَ بن حَمَّادٍ تَعَجَّبْ ... لِقَوْمٍ سَافَرُوا مِنْ غَيْرِ زَادِ
تَبِيتُ عَلَى فِرَاِشَك مُطْمَئِنًا ... كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ مِنَ الْمَعَادِ
فَيَا سُبْحَانَ مَنْ أَرْسَى الرَّوَاسِي ... وَأَوْفَدَهَا عَلَى السَّبّعُ الشِّدَادِ
آخر: ... مَنْ رَاقَبَ الْمَوْتَ لَمْ تَكْثُرْ أَمَانِيهِ ... وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا مَا لَيْسَ يَعْنِيهِ
آخر: ... رُبَّ بَاتَ يُمَنِّي نَفْسَهُ ... حَالَ مِنْ دُونِ مُنَاهُ أَجْلُهْ
آخر: ... إِذَا أَمْسَيْتَ فَابْتَدِرِ الصَّبَاحَا ... وَلا تُمْهِلْهُ تَنْتَظِرِ الصِّيَاحَا
وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ فَكَمْ أُنَاسٍ ... قَضَوْا نَحْبًا وَقَدْ نَامُوا صِحَاحَا
آخر: ... وَلا تُرْجِ فِعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
احتضر بَعْض العباد فقَالَ: ما تأسفي على دار الهموم والأحزان والانكاد والخطايا والذُّنُوب، وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عَنْ ذكر الله، وقَالَ إبراهيم بن أدهم: فرغ قلبك من ذكر الدُّنْيَا يفرغ عَلَيْكَ الرضاء إفراغًا. خطب الحجاج فقَالَ: إن الله أمرنا نطلب الآخِرَة وكفانَا مؤنة الدُّنْيَا فليته كفانَا مؤونة الآخِرَة وأمرنا بطلب الدُّنْيَا. فقَالَ الحسن البصري: ضالة المُؤْمِن عَنْدَ فاسق فليأخذها.
وقَالَ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن الله جعل الدُّنْيَا دار بلوى والآخِرَة دار عقبى، فجعل بلوى الدُّنْيَا لثواب الآخِرَة سببًا، وثواب الآخِرَة من بلوى الدُّنْيَا عوضًا فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي. وقَالَ بَعْضهمْ: إن امرأ ذهبت ساعة من عمره فِي غير ما خلق لَهُ لحري أن يطول عَلَيْهَا حزنه.(2/478)
وقَالَ آخر: ما ابتلى أحد بشَيْء أشد من الغَفْلَة والقَسْوَة إنما كره المُؤْمِن الموت لانقطاع الأَعْمَال الصَّالِحَة وخوف الذُّنُوب، ومن شغله طلب الدُّنْيَا عَنْ الآخِرَة ذل إما فِي الدُّنْيَا وإما فِي الآخِرَة وإما بهما جميعًا.
من نظر فِي سيرة السَّلَف عرف تقصيره وتخلفه عَنْ درجات الكمال، تعرف نفسك فِي ثلاثة مواضع: إِذَا عملت فَانْظُرْ نظر الله إليك وَإِذَا تكلمت فاذكر سمَعَ الله إليك وَإِذَا سكت فاذكر علم الله فيك، تهاون بالدُّنْيَا حَتَّى لا يعظم بعينك أهلها ومن يملكها.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: كَانَ الرجل فِي أَهْل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركًا لها، والْيَوْم يزداد الرجل بعلمه حبًا للدنيا وطلبًا لها وكَانَ الرجل ينفق ماله على علمه والْيَوْم يكسب الرجل بعلمه مالً وكَانَ يرى على طالب العلم زيادة فِي باطنه وظاهره والْيَوْم يرى على كثير من أَهْل العلم فساد فِي الظاهر والباطن.
شِعْرًا: ... يَا عَامِرَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْبَتِهْ ... فِيكَ أَعَاجِيبُ لِمَنُ يَعْجَبُ
مَا عُذْرُ مَنْ يَعْمُر بُنْيَانَهُ ... وَعُمْرُهُ مُسْتَهْدَمٌ يَخْرَبُ
آخر: ... عَجِبْتُ لِتَغْرِيسِي نَوَى النَّخْلِ بَعْدَمَا ... طَلَعْتَ عَلَى السِّتِّينَ أَوْ كِدْتُ أَفْعَلُ
وَأَدْرَكْتُ مِلأَ الأَرْضِ نَاسًا فَأَصْبَحُوا ... كَأَهْلِ دِيَارٍ أَدْلَجُوا فَتَحَمَّلُوا
وَمَا النَّاسُ إِلا رُفْقَةٌ قَدْ تَحَمَّلَتْ ... وَأُخْرَى تُقَضَّى حَاجَهَا ثُمَّ تَرْحَلُ
ولما حضرت إبراهيم النخعى الوفاة بكى فقِيْل لَهُ فِي ذَلِكَ فقَالَ: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالْجَنَّة أَوْ بالنار. ولما حضرت عمر بن عَبْد الْعَزِيز الوفاة، قَالَ: اللهم إني أذنبت فَإِنَّ غفرت لي فقَدْ مننت وإن عذبتني فقَدْ عدلت، وما ظلمت لكن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثُمَّ قضى نحبه.
وكَانَ يتمثل بهذه الأبيات:(2/479)
تَرَاهُ مَكِينًا وَهُوَ لِلَّهْوِ مَاقِتٌ ... بِهِ عَنْ حَدِيثِ الْقَوْمِ مَا هُوَ شَاغِلُهْ
وَأَزْعَجَهُ عِلْمٌ عَنْ الْجَهْلِ كُلِّهِ ... وَمَا عَالِمٌ شَيْئًا كَمَنْ هُوَ جَاهِلُهْ
عَبُوسٌ عَنْ الْجُهَّالِ حِينَ يَرَاهُمُوا ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمْ خَدِينٌ يُهَازِ لَهْ
تَذَكَّرَ مَا يَلْقَى مِنْ الْعَيْشِ آجِلاً ... فَاشْغَلهُ عَنْ عَاجِلِ الْعَيْشِ آجِلُهْ
ولما حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى وقَالَ: إني لم أبك جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدُّنْيَا، ولكن على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل فِي أيام الشتاء.
وكَانُوا يبكون إِذَا فاتتهم تكبيرة الإحرام مَعَ الجماعة، وكَانَ المحدث الثِّقَة بشر بن الحسن يقَالَ لَهُ الصفي لأنه كَانَ يلزم الصف الأول فِي مسجد البصرة خمسين سُنَّة.
مثله إبراهيم بن ميمون المروزي أحد الدعاة المحدثين الثقاة من أصحاب عطاء بن أبي رباح وكَانَتْ مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة قَالُوا: كَانَ فقيهًا فاضلاً من الأمارين بالمعروف. وقَالَ ابن معين: كَانَ إِذَا رفع المطرقة فسمَعَ النداء لم يردها.
وقِيْل لكثير بن عبيد الحمصى عَنْ سبب عدم سهوه فِي الصَّلاة وقَدْ أم أَهْل حمص ستين سُنَّة كاملة فقَالَ: ما دخلت من باب المسجد قط وَفِي نفسي غير الله.
وقَالَ سُلَيْمَانٌ بن حمزة المقدسى وَهُوَ من ذرية ابن قدامة صَاحِب كتاب المغنى " لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلها قط مَعَ أنه قارب التسعين» .
وذكر عَنْ الأعمش أنه قَالَ: لم تفتني صلاة الجماعة ما يقرب من أربعين سُنَّة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها.(2/480)
وذكر عن بَعْضهمْ أنه لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين سُنَّة وكَانَ بَعْضهمْ يصيبه مرض إِذَا فاتته صلاة الجماعة.
نَحْنُ بالعكس ربما يصيبنا مرض أَوْ جنون إِذَا فاتنا شَيْء من حطام الدُّنْيَا والسبب الوحيد إِنَّ الدُّنْيَا ما تهمهم وأما الآخِرَة فهي نصب أعينهم فِي كُلّ ساعة يستعدون لها والدُّنْيَا جعلوها مطية الآخِرَة.
نسال الله الحي القيوم العلى العَظِيم القوى العزيز أن يوقظ قلوبنا من هَذِهِ الرقدة اللَّهُمَّ صلى على مُحَمَّد.
شِعْرًا: ... أَفَلَسْتَ تَدْرِي أَنَّ يَوْمَكَ قَدْ دَنَا ... أَوَ لَسْتَ تَدْرِي أَنَّ عُمْرَكَ يَنْفَدُ
فَعلامَ تَضْحَكُ وَالْمَنِيَّةُ قَدْ دَنَتْ ... وَعَلامَ تَرْقُدُ وَالثَّرى لَكَ مَرْقَدُ
آخر: ... الْوَقْت سَاوَمَنِي عُمْرِي فَقُلْتُ لَهُ ... لا بِعْتُ عُمْرِي بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَفْرِيقًا بِلا ثَمَنِ ... ثَبِّتْ يَدَا صَفقَةٍ قَدْ خَابَ شَارِيهَا
آخر: ... وَمَا فُرْشُهُمْ إِلا أَيَامِنَ أُزْرِهِمْ ... وَمَا وُسْدُهُمْ إِلا مِلاءٌ وأَذْرُعُ
وَمَا لَيْلُهُم فِيهِنَّ إِلا تَخَوُّفٌ ... وَمَا نَوْمُهُمْ إِلا عِشَاشٌ مُرَوَّعُ
وألوانهم صفر كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ... عَلَيْهَا جِسَامًا مَا بِهِ الْوَرْسُ مُشبْعُ
نَوَاحِلُ قَدْ أَرْزَى بِهَا الْجُهْدُ وَالسَّرَى ... إِلَى اللهِ فِي الظُّلْمَاءِ وَالنَّاسُ هُجَّعُ
وَيَبْكُونَ أَحْيَانًا كَأَنَّ عَجِيجَهُمْ ... إِذَا نَوَّمَ النَّاسُ الْحَنِينُ الْمُرَجَّعُ
وَمَجْلِسِ ذِكْرِ فِيهِمْ قَدْ شَهِدْتُهُ ... وَأَعْيُنُهُمْ مِنْ رَهْبَةِ اللهِ تَدْمَعُ
آخر: ... وَمَا النَّاسُ إِلا رَاحِلُونَ وَبَيْنَهُمْ ... رِجَالٌ ثَوَتْ آثَارُهُمْ كَالْمَعَالِمِ
بِعِزَّةِ بَأَسٍ وَاطِّلاعِ بَصِيرَةٍ ... وَهَزَّةِ نَفْسٍ وَاتِّسَاعِ مَرَاحِمِ
حُظُوظُ كَمَالٍ أَظْهَرَتْ مِنْ عَجَائِبٍ ... بِمِرْآة شَخْصٍ مَا اخْتَفَى فِي الْعَوَالِمِ
وَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ يَخْتَصُّ نَفْسَهُ ... أَلا إِنَّمَا التَّخْصِيصُ قِسْمَةُ رَاحِمِ
وَقَدْ يَفْسِدُ الْحُرَّ الْكَرِيمَ جَلِيسُهُ ... وَتَضْعُفُ بِالإِيهَامِ قُوَّةُ حَازِمِ
وَلَيْسَ بِحَيٍّ سَالِكٍ فِي خَسَائِسٍ ... وَلَيْسَ بِمَيْتٍ هَالِكٌ فِي مَكَارِمِ(2/481)
.. إِذَا لَجَّ لُؤْمٌ مِنْ سَفِيهٍ لِرَاشِدٍ ... تَوَهَّمَ رَشْدًا فِي سَفَاهَهِ لائِمِ
عَجِبْتُ مِنْ الإِنْسَانِ يَعْجَبُ وَهُوَ فِي ... نَقَائِصَ أَحْوَالٍ قَسِيمَ السَّوَائِمِ
يَرَى جَوْهَرَ النَّفْسِ الطَّلِيقَ فَيَزْدَهِي ... وَيَذْهَلُ عَنْ أَعْرَاضِ جِسْمٍ لَوَازِمِ
دُيُونُ اضْطِرَارٍ تَقْتَضِي كُلَّ سَاعَةٍ ... فَتُقْتَرَضُ الأَعْمَارُ بَيْنَ الْمَغَارِمِ
وَكُلُّ فَمَغْرُورٌ بِحُب حَيَاتِهُ ... وَيُغْرِيهِ بِالأَدْنَى خَفَاءُ الْخَوَاتِمِ
وَجَمَّاعُ مَالٍ لا انْتِفَاعَ لَهُ بِهِ ... كَمَا مَصَّ مَشْرُوطَا زُجَاجِ الْمَحَاجِمِ
وَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا تَيَقَّنَ أَنَّهَا ... مَطِيَّةُ يَقْظَانٍ وَطَيْفَةُ حَالِمِ
فَلِلَّهِ سَاعٍ فِي مِنْاَهجِ طَاعَةٍ ... لإيلافِ عَدْلٍ أَوْ لإِتْلاِفِ ظَالِمِ
ولما حضرت عَبْد اللهِ بن المبارك الوفاة قَالَ لغلامه: اجعل رأسي على الأَرْض. فَبَكَى غلامه قَالَ: ما يبكيك؟ قَالَ: ذكرت ما كنت فيه من النَّعِيم وأَنْتَ هُوَ ذا تموت على هَذِهِ الحال فقَالَ: إني سألت ربي أن أموت على هَذِهِ الحال.
ثُمَّ قَالَ: لقني يَا أخي لا إله إلا الله إِذَا الحال تغير، ولا تعد علي إلا إن تكلمت بعد بكلام. ودخل الحسن البصري على رجل وَهُوَ فِي سياق الموت يجود بنفسه فقَالَ: إن أمرًا هَذَا آخره لحقيق أن يزهد فِي أوله. ولما حضرت أبا ذر الوفاة قَالَ: يَا موت اخنق وعجل فإني أحب لقاء الله.
ودخل أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على رجل محتضر يجود بنفسه فوجده يَقُولُ: الحمد لله. فقَالَ لَهُ: أصبت يَا أخي أن الله إِذَا قضى أمرًا أحب من عبده أن يحمده عَلَيْهِ. ودخل سفيان الثوري على ولد يجود بنفسه وأبواه يبكيان عنده فقَالَ لهما: لا تبكيا فَإِنَّي قادم على من هُوَ أرحم منكما. ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى، قَالُوا: ما يبكيك؟ قَالَ: بعد السفر وقلة الزَّاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط فِي النار. وروي أن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما حضرته الوفاة قَالَ: أعوذ بِاللهِ من ليلة صباحها إِلَى النار.(2/482)
شِعْرًا: ... لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فَقْد قَصَرٍ ... فَسِيحٍ مُنْيَةِ لِلسَّاكِتِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا
ثُمَّ قَالَ: مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جَاءَ على فاقة، اللَّهُمَّ إني كنت أخافك وأنَا الْيَوْم أرجوك، اللهم إِنَّكَ تعلم أني لم أكن أحب الدُّنْيَا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة السَّاعَات ومزاحمة الْعُلَمَاء بالركب عَنْدَ حلق الذكر.
ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة وجعل يجود بنفسه وَيَقُولُ: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هَذَا ألا رجل يعمل لمثل يومي هَذَا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هَذِهِ. ثُمَّ قبض رَحِمَهُ اللهُ فيا أيها الغَافِل المهمل وكلنا كَذَلِكَ انتبه واغتنم أوقات الصحة والسلامة واملأ أوقاتك بالباقيات الصالحات قبل أن يفاجئك هاذم اللذات ويحال بينك وبين الأَعْمَال الصالحات وتندم ولات ساعة مندم.
شِعْرًا: ... تَغَنَّمْ سُكُونَ الْحَادِثَاتِ فَإِنَّهَا ... وَإِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيلٌ تَحَرَّكُ
وَبَادِرْ بَأَيَّامِ السَّلامَةِ إِنَّهَا ... رِهَانٌ وَهَلْ لِلرَّهْنِ عِنْدَكَ مَتْرَكُ
آخر: ... نَهَارُكُ بَطَّالٌ وَلَيْلُكَ نَائِمٌ ... وَعَيْشُكَ يَا مِسْكِينُ عَيْشُ الْبَهَائِم
آخر: ... وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ ... وَسُكَّانِهَا تَحْتَ التُّرَابِ خُفُوتُ
أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ ... لِمَنْ تَجْمَعِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ
وروى المزني قَالَ: دخلت على الشَّافِعِي فِي مرضه الَّذِي مَاتَ فيه فَقُلْتُ لَهُ: كيف أصبحت؟ فقَالَ: أصبحت من الدُّنْيَا راحلاً وللإِخْوَان مفارقًا ولسوء عملي ملاقيًا ولكأس المنية شاربًا وعلى الله واردًا فلا أدري أروحي تصير إِلَى الْجَنَّة فأهنؤها أَوْ إِلَى النار فأعزيها ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
وَلَمَّا قَسَى قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّمَا(2/483)
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوِكَ أَعْظََمَا
وَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنْ الذَّنْبِ لَمْ يَزَل ... تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
آخر: ... أَجَاعَتْهُمْ الدُّنْيَا فَخَافُوا وَلَمْ يَزَلْ ... كَذَلِكَ ذُو التَّقْوَى عَنْ الْعَيْشِ مُلْجَمَا
أَخُو طَيءٍ دَاوُدُ مِنْهُمْ وَمِسْعَرٌ ... وَمِنْهُمْ وَهَيْبٌ وَالْعَرِيبُ بنُ أَدْهَمَا
وَفِي ابنِ سَعِيدٍ قُدْوَةَ الْبِرَّ وَالنُّهَى ... وَفِي الْوَارِثِ الْفَارُوقِ صِدْقًا مُقَدِّمَا
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ بِالْفُضَيْلِ مَعَ ابْنِهِ ... وَيُوسُفَ إِنْ لَمْ يَأْلُ أَنْ يَتَسَلَّمَا
أُولِئكَ أَصْحَابِي وَأَهْلُ مَوَدَّتِي ... فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ذُو الْجَلالِ وَسَلَّمَا
فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى نِصَالُ أَسِنَّةٍ ... وَمَا زَالَ ذُو التَّقْوَى أَعَزُّ وَأَكْرَمَا
وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تُرِيكَ عَلَى الْفَتَى ... إِذَا مَحَّض التَّقْوَى مِنْ الْعِزِّ مِيسَمَا
آخر: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ وَاقْنَعْ بِرِزْقِهِ ... فَخَيْرُ عِبَادِ اللهِ مَنْ هُوَ قَانِعُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ بِهَا ... فَقَدْ تُهْلِكَ الْمَغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ
فَصَبْرًا عَلَى مَا نَابَ مِنْ تَبُعَاتِهَا ... فَمَا يَسْتَوِي عَبْدٌ صَبُورٌ وَجَازِعُ
أَعَاذِلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاء عَنْ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ فِي النَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالِعُ
آخر: ... امنع جفوننك طول الليل رقدتها ... وامنع حشاك لذيذ الري والشبعا
واستشعر البر والتقوى ودم بهما ... حتى تنال بهن الفوز والرفعا
آخر: ... فَخُضْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَاسْمُ إِلَى الْعُلا ... لِتَحْظَى بِعِزِّ فِي حَيَاتِكَ دَائِمِ
فَلا خَيْرَ فِي مَنْ لا يَخَافُ إِلَهَهُ ... وَلا هِمَّةٍ تَصْبُو لِنَيْلِ الْمَآثِمِ
آخر: ... وَرَبِّكَ لَوْ أَبْصَرْتَ يَوْمًا تَتَابَعَتْ ... عَزَائهُمْ حَتَّى لَقَدْ بَلَغُوا الْجُهْدَا
لأَبْصَرْتَ قَوْمًا جَانَبُوا النَّوْمَ وَارْتَدَوْا ... بَارْدِيَةِ التَّسْهَادِ وَاسْتَقْرَبُوا الْبُعْدَا
وَصَامُوا نَهَارًا دَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرُوا ... عَلَى بُلَغ الأَقْوَاتِ وَاسْتَعْمَلُوا الْكَدَّا
أُولَئِكَ قَوْمٌ حَسَّنَ اللهُ فِعْلَهُمْ ... وَأَوْرَثَهُمْ مِنْ حُسْنِ فِعْلِهِمْ الْخُلْدَا
آخر: ... صَفَوْا فَلا غُرْوَ أَنْ تَصْفُوا مَشَارِبَهُمْ ... وَفِي الْمَصَافَتِ لِلأَحْبَابِ أَسْرَارُ
يَرْوِي عَلِيلُ الصِّبَا صَحِيحَ هَوَى ... مِنَ الشَّذَا فَهُوَ نَقَّالٌ وَمِعْطَارُ(2/484)
.. هُمُ الرِّجَالُ فَإِنْ تَسْلُكْ طَرِيقَهُمُوا ... نِلْتَ الْمُنَى لَيْسَ بَعْدَ الْعَيْنِ آثَارُ
سَلْهُمْ وَسَلْ عَنْهُمُوا مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ ... فَعِنْدَهُمْ لِمُقِيمِي الدِّينِ أَقْدَارُ
أَنْعَمْ إِذَا كُنْتَ تَهْوَاهُم بِقُرْبِهِمُوا ... وَاصْحَبْهُمُوا إِنْ نَأَتِ يَوْمًا بِكَ الدَّارُ
وَاحْلُلْ بِسَاحَتِهِمْ تَسْعَدْ بِجَيْرَتِهِمْ ... يَحْمُوا النَّزِيلَ وَلا يُؤْذَى لَهُمْ جَارُ
آخر: ... اعتزلْ ذكر الغواني وَالْغَزَلْ ... وَقُلِ الْفَصْلَ وَجَانِبْ مِنْ هَزَلْ
وَدَعِ الذِّكْرَى لأَيَّامِ الصِّبَا ... فَلأَيَامِ الصِّبَا نِجْمٌ أَفَلْ
إِنّ أَهْنَا عَيْشَةٍ قَضَّيْتَهَا ... ذَهَبَتْ لَذَّاتُهَا وَالإثْمُ حَلّ
وَاتْرُكِ الْغَادَةَ لا تَحْفَلْ بِهَا ... تُمْس فِي عَزّ رَفِيع وَتُجَلّ
وَافْتَكِرْ فِي مُنْتَهَى حُسْنِ الَّذِي ... أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمْرًا جَللْ
وَافْتَكِرْ فِي مُنْتَهَى حُسْنِ الَّذِي ... أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمْرًا جَللْ
وَاهْجُرْ الْخَمْرَةَ إِنْ كُنْتَ فَتَىً ... كَيْفَ يَسْعَى فِي جُنُونٍ مِنْ عَقَلْ
وَاتَّقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا ... بَاشرَتْ قَلْبَ امْرِئٍ إِلا وَصَلْ
لَيْسَ مَنْ يَقْطَعُ طُرْقًا بَطَلاً ... إِنَّمَا مَنْ يَتَّقِي اللهَ بَطَلْ
صَدِّقِ الشَّرْعَ وَلا تَرَكَنْ إِلَى ... رَجُلٍ يَرْصُدُ فِي اللَّيْلِ زُحَلْ
حَارَتِ الأَفْكَارُ فِي قُدْره مَنْ ... قَدْ هَدَانَا سُبْلَنَا عَزَّ وَجَلَّ
أَيْنَ نَمْرُودُ وَكَنْعَانُ وَمَنْ ... مَلَكَ الأَرْضَ وَوَلَّى وَعَزَلْ
أَيْنَ عَادٌ أَيْنَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ ... رَفَعَ الأَهْرَامَ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ
أَيْنَ مَنْ سَادُوا وَشَادُوا وَبَنُوا ... هَلَكَ الْكُلُّ فَلَمْ تُغْنِ الْقُللْ
أَيْنَ أَرْبَابُ الْحِجَى أَهْلُ النُّهَى ... أَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ وَالْقَوْمُ الأَوَلْ
سَيُعِيدُ الله كلاً مِنْهُمُ ... وَسَيَجْزِي فَاعِلاً مَا قَدْ فَعَلْ
يَا بُنَيّ اسْمَعْ وَصَايَا جَمَعتْ ... حِكَمًا خُصّتْ بِهَا خَيْرُ الْمِلَلْ
اطْلبِ الْعِلْمَ وَلا تَكسَلْ فَمَا ... أَبْعدَ الْخَيْرَ عَلَى أَهْلِ الْكَسَلْ
وَاحْتَفِلْ لِلْفِقْه فِي الدِّينِ وَلا ... تَشْتَغِلْ عَنْهُ بِمَالٍ وَخَولْ(2/485)
.. وَاهْجُرْ النَّوْمَ وَحَصِّلْهُ فَمَنْ ... يَعْرِفِ الْمَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ
لا تَقُل قَدْ ذَهَبَتْ أَرْبَابُه ... كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ
فِي ازْدِيَادِ الْعِلْمِ إِرْغَامُ الْعِدَى ... وَجَمَالُ الْعِلْمِ إِصْلاحُ الْعَمَلْ
جَمِّلِ الْمَنْطِقَ بِالنَّحوِ فَمَن ... حُرِمَ الإِعْرَابَ بِالنُّطْقِ اخْتَبَلْ
أُنْظمِ الشِّعْرَ وَلازِمْ مَذْهَبِي ... فِي اطِّرَاح الرِّفد لا تَبْغِ النِّحَلْ
فَهُوَ عُنْوَانٌ عَلَى الْفَضْلِ وَمَا ... أَحْسَنَ الشِّعْرَ إِذَا لَمْ يُبْتَذَلْ
مَاتَ أَهْل الْجُودَ لَمْ يَبْقَ سِوَى ... مُقْرِفٌ أَوْ عَلَى الأَصْلِ اتَّكَلْ
أَنَا لا أَخْتَارُ تَقْبِيلَ يَدٍ ... قَطَعُهَا أَجْمَلُ مِنْ تِلْك الْقُبَلْ
إِنْ جَزَتْنِي عَنْ مَدِيحِي صِرْتُ فِي ... رِقِّهَا أَوْ لا فَيَكْفِينِي الْخَجَلْ
مُلْكُ كسرى عَنْهُ تُغْنِي كِسْرَةٌ ... وَعَنْ الْبَحْرِ اكْتِفَاءٌ بِالْوَشَلْ
أَعْذَبُ الأَلْفَاظِ قَوْلِي لَكَ خُذْ ... وَأَمْرِّ اللَّفْظِ نُطْقِي بِلَعَلّ
لَيْسَ مَا يَحْوِي الْفَتَى مِنْ عَزْمِه ... لا وَلا مَا فَاتَ يَوْمًا بِالْكَسَلْ
اطْرحِ الدُّنْيَا فَمِنْ عَادَاتِهَا ... تَخْفِضُ الْعَالِي وَتُعْلِي مِن سَفَلْ
عَيْشَةُ الرَّاغِبُ فِي تَحْصِيلِهَا ... عَيْشَةُ الزَّاهِدُ فِيهَا أَوْ قَلّ
كَمْ جَهُولٍ وَهُوَ مُثْرٍ مُكْثِرٌ ... وَعَلِيمٍ مَاتَ مِنْهَا بِالْعِلَلْ
كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى ... وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الأَمَلْ
فَاتْرُكِ الْحِيلَة فِيهَا وَاتَّئِدْ ... إِنَّمَا الْحِيلَةُ فِي تَرْكِ الْحِيَلْ
أَيُّ كَفٍّ لَمْ تَنَلْ مِمَّا تُفِدْ ... فَرَمَاهَا اللهُ مِنْهُ بِالشَّلَلْ
لا تَقُلْ أَصْلِي وَفَصْلِي أَبَدًا ... إِنَّمَا أَصْلُ الْفَتَى مَا قَدْ حَصَلْ
قَدْ يَسُودُ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ... وَبِحُسْنِ السَّبكِ قَدْ يُنْفَى الزَّعَلْ
وَكَذَا الْوَرْدُ مِنَ الشَّوْكِ وَمَا ... يَطْلَعُ النَّرجسُ إِلا مِنْ بَصَلْ
مَعَ أَنِّي أَحْمَدُ اللهَ عَلَى ... نَسَبِي إِذْ بأَبِي بَكْرٍ اتَّصَلْ
قِيمَةُ الإِنْسَانِ مَا يُحْسِنُهُ ... أَكْثَرَ الإِنْسَانُ مِنْهُ أَوْ قَلّ(2/486)
.. أُكْتُم الأَمْرَيْنِ فَقْرًا وَغِنَىً ... وَاكْسَبِ الْفِلْسَ وَحَاسِبْ مِنْ مَطَلْ
وَادَّرِعْ جَدًّا وَكَدًّا وَاجْتَنِبْ ... صُحْبَةَ الْحَمْقَى وَأَرْبَابَ الدُّوَلْ
بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رَتْبَةٌ ... وَكِلا هَذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ
لا تخُضْ فِي حَقِّ سَادَاتٍ مَضَوْا ... إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلزِّلَلْ
وَتَغَافِلْ عَنْ أُمُورٍ إِنَّهُ ... لَمْ يَفُزْ بِالْحَمْدِ إِلا مَنْ غَفَلْ
لَيْسَ يَخْلُوا الْمَرْءُ مِنْ ضِدٍّ وَلَوْ ... حَاوَلَ الْعُزْلةَ فِي رَأْسِ جَبَلْ
مِلْ عَنْ النَّمَّامِ وَازْجُرْه فَمَا ... بَلَغَ الْمَكْرُوهَ إِلا مَنْ نَقَلْ
دَارِ جَارَ السُّوءِ بِالصَّبْرِ فَإِنْ ... لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النُّقَلْ
جَانِبْ السُّلْطَانَ وَاحْذَرْ بَطْشَهُ ... لا تُعَانِدْ مَنْ إِذَا قَالَ فَعَلْ
لا تَلِي الْحُكْمَ وَإِنْ هُمْ سَأَلُوا ... رَغْبَةً فِيكَ وَخَاَلِفْ مَنْ عَذَلْ
إِنَّ نِصْفَ النَّاسِ أَعْدَاءٌ لِمَنْ ... وَلِيَ الأَحْكَامَ هَذَا إِنْ عَدَلْ
فَهُوَ كَالْمَحْبُوسِ عَنْ لَذَّاتِهِ ... وَكِلا كَفَّيْهِ فِي الْحَشْرِ تُغَلّ
إِن لِلنَّقْصِ وَالاسْتِثْقَالِ فِي ... لَفْظَةِ الْقَاضِي لَوَعظًا وَمَثْل
لا تَوَازِي لَذَّةُ الْحُكْمِ بِمَا ... ذَاقَهُ الشَّخْصُ إِذَا الشَّخْصُ انْعَزَلْ
فَالْوِلايَاتُ وَإِنْ طَابَتْ لِمَنْ ... ذَاقَهَا فَالسُّمُّ فِي ذَاكَ الْعَسَلْ
نَصَبُ الْمنْصِبِ أَوْهِى جَلَدِي ... وَعَنَائِي مِنْ مَدَارَاِة السَّفَلْ
قصِّر الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فَدَلِيلُ الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلْ
إِنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ الْمَوْتُ عَلَى ... غِرَّةٍ مِنْهُ جَدِيرٌ بِالْوَجَلْ
غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ ... أَكْثَرَ التِّرْدَادَ أَقْصَاهُ الْمَلَلْ
خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غِمَدَهُ ... وَاعْتَبِرْ فَضْلَ الْفَتَى دُونَ الْحُلَلْ
لا يَضُرُّ الْفَضْلَ إِقْلالٌ كَمَا ... لا يَضُرُّ الشَّمْسُ إِطْبَاقُ الطِّفَلْ
حُبَّكَ الأَوْطَان عَجْزٌ ظَاهِرٌ ... فَاغْتَرِبْ تَلْقَ عَنْ الأَهْلِ بَدَلْ
فَبِمُكثِ الْمَاءِ يَبْقَى آسِنًا ... وَسُرَى الْبَدْرِ بِهِ الْبدرُ اكْتَمَلْ(2/487)
.. أَيُّهَا الْعَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا ... إِنَّ طِيبَ الْوَرْدِ مُؤْذٍ لِلْعَجَلْ
عَدِّ عَنْ اسْهُمِ قَوْلِي وَاسْتَتِرْ ... لا يُصِيبَنَّكَ سَهْمٌ مَنْ ثُعَلْ
لا يَغُرَّنَكَ لِينٌ من فَتَىً ... إِنَّ لِلْحَيَّاتِ لِينًا يُعْتَزَلْ
أَنَا مِثْلُ الْمَاءِ سَهْلٌ سَائِغٌ ... وَمَتَى سُخِّنَ آذَى وَقَتَلْ
أنَا كَالْخَيْزور صَعْب كَسْرَهُ ... وَهُوَ لَدْن كَيْفَ مَا شِئْتَ انْفَتَل
غَيْرَ أَنِّي فِي زَمَانٍ مَنْ يَكُنْ ... فِيهِ ذَا مَالٍ هُوَ الْمَوْلَى الأَجَل
وَاجِبٌ عِنْدَ الْوَرَى إِكْرَامُهُ ... وَقَلِيلُ الْمَالِ فِيهُمْ يُسْتَقَل
كُلُّ أََهْلِ الْعَصْرِ غمر وَأَنَا ... مِنْهُمْ فَاتْرُكْ تَفَاصِيل الْجمل
وَصَلاةٌ وَسَلامٌ أَبَدًا ... لِلنَّبِيِّ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الدّول
وَعَلَى الآلِ الْكِرَامِ السُّعَدَا ... وَعَلَى الأَصْحَابِ وَالْقَوْمِ الأُوَل
مَا ثَوَى الرَّكْبُ بِعشَاقٍ إِلَى ... أَيْمَن الْحَيّ وَمَا غَنَّى رَمْل
" موعظة "
إخواني: إن الليل كما علمتم فيه فضل عَظِيم وثواب جزيل لمن وفقه الله جَلَّ وَعَلا،
وَهُوَ من أثقل شَيْء على النفس ولا سيما بعد أن يرقَدْ الإِنْسَان، وإنما يكون خفيفًا بالاعتياد، وتوطين النفس وتمرينها عَلَيْهِ والمداومة والصبر على المشقة والمجاهدة فِي الابتداء، ثُمَّ بعد ذَلِكَ ينشرح وينفتح باب الأُنْس بِاللهِ وتلذ لَهُ المناجاة والْخُلْوَة، وعَنْدَ ذَلِكَ لا يشبع الإِنْسَان من قيام الليل، فضلاً عَنْ أن يستثقله أَوْ يكسل عَنْهُ كما وقع لكثير من السَّلَف. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْل الليل فِي ليلهم ألذ من أَهْل اللهو فِي لهوهم ويا بعدها بين الحالتين، فسبحان من وفق أقوامًا فتقربوا إليه بالنوافل، وأبعد بحكمته وعدله آخرين فهم عَنْ ما ينفعهم فِي حاضرهم ومآلهم غافلون.
شِعْرًا: ... ولا خَيْر فِي مَنْ لا يُوَطِّنُ نَفْسهُ ... عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِمَا فِي كِتَابِهِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبة أجمعين.(2/488)
" فَصْلٌ "
اعْلَمْ يَا أخي أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من سؤال الله ويتحرى أوقات الإجابة لعل الله جَلَّ وَعَلا أن يستجيب لَهُ، قَالَ الله تبارك تَعَالَى وَهُوَ أصدق القائلين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، وقَالَ تبارك وتَعَالَى وَهُوَ أوفى الواعدين: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقَالَ تَعَالَى {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وقَالَ تَعَالَى {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ، وقَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وأن يفتح الدُّعَاء بالثناء على الله والصَّلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
شِعْرًا: ... وأقوم خلق الله لله بالَّذِي ... يحب ويرضاه النَّبِيّ المبجل
فتى جمعت فيه المكارم شملها ... فما فاته مَنْهَا أخَيْر وأول
عنايته بالدين تشهد أنه ... نبي من الرحمن قَدْ جَاءَ مرسل
له مني عظمى على كُلّ مُسْلِم ... وطاعته فرض من الله منزل
دعانَا إِلَى الإِسْلام بعدا اندراسه ... وقام بأمر الله والأَمْر مهمل
وأصلح بين الْمُسْلِمِين بيمنه ... واطفأ نيرانًا على الدين تشعل
يعاقب تأديبًا ويعفو تطولاً ... ويجزى على الحسنى ويعطى فيجزل
ولا يتبع المعروف منا ولا أذى ... ولا البخل من عاداته حين يسأل
رعاه الَّذِي استرعاه أمر عباده ... وكافاه عنا المنعم المتفضل
اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات وَوَفِّقْنَا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته ودعا لَكَ فأجبته، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى صحبه وسلم أجمعين.(2/489)
" فَصْلٌ "
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ولن ينفع حذر من قدر، ولكن الدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل، فعليكم بالدُّعَاء عباد الله» . رَوَاهُ أحمد والطبراني عَنْ معاذ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حيى كريم يستحى إِذَا رفع الرجل يديه إن يردهما صفرًا خائبتين» . رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجه والحاكم عَنْ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ادعوا الله وأنتم موقنين بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غَافِل لاه ". رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب لَهُ، فَإمَّا أن يعجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يؤخر لَهُ فِي الآخِرَة وإما يكفر عَنْهُ من ذنوبه بقدر ما دعاء، ما لم يدع بإثُمَّ أَوْ قطيعة رحم، أَوْ يستعجل يَقُولُ: دعوت ربى فما استجاب لي» . رَوَاهُ الترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من سره إن يستجيب الله لَهُ عَنْدَ الشدائد والكرب فليكثر الدُّعَاء فِي الرخاء» . رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولَقَدْ علم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أمته كيف تدعو فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إذ صلى أحدكم فليبداء بتحميد الله تَعَالَى والثناء عَلَيْهِ ثُمَّ ليصل على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ليدع بما شَاءَ» . رَوَاهُ أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقى عَنْ فضالة بن عبيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دعا أحدكم فليؤمن على دعاء نَفْسهُ» . رَوَاهُ ابن عدي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.(2/490)
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " لا يجتمَعَ ملأ فيدعوا بَعْضهمْ ويؤمن بَعْضهمْ الا أجابهم الله» . رَوَاهُ الطبراني والحاكم والبيهقى عَنْ حبيب بن سَلَمَة الفهري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» . رَوَاهُ أبو داود والبيهقى عَنْ ابن عباس رضي الله عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدعو على أنفسكم إلا بخَيْر فَإِنَّ الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". رَوَاهُ أحمد ومسلم وَأَبُو دَاود عَنْ أم سَلَمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا على تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافق من الله ساعة نيل فيها عطاء مستجاب لكم» . رَوَاهُ أبو داود عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «تفتح أبواب السماء ويستجاب الدُّعَاء فِي أربعة مواطن: عَنْدَ التقاء الصفوف فِي سبيل الله، وعَنْدَ نزول الغيث، وعَنْدَ إقامة الصَّلاة، وعَنْدَ رؤية الكعبة» . رَوَاهُ الطبراني عَنْ أبي إمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من كَانَتْ لَهُ إِلَى الله حَاجَة فليدع بها دبر كُلّ صلاة مفروضة» . رَوَاهُ ابن عساكر عَنْ أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإِمَام العادل، والصائم حَتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، وَيَقُولُ الرب تبارك وتَعَالَى: وعزتي لا نصرنك ولو بعد حين» . رَوَاهُ أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عَنْدَ رأسه ملك موكل به، كُلَّما دعا لأخيه بخَيْر قَالَ الملك: آمين ولك مثل(2/491)
ذَلِكَ. رَوَاهُ أحمد ومسلم وابن ماجه عَنْ أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله حوائجكم حَتَّى الملح» . رَوَاهُ البيهقى عَنْ بكر بن عَبْد اللهِ المزني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرسلاً.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا تبارك وتَعَالَى كُلّ ليلة إِلَى السماء الدُّنْيَا حين يبقى الثلث الليل الآخِر فَيَقُولُ: من يدعوني فاستجيب لَهُ، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فاغفر لَهُ» . رَوَاهُ أحمد والْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أقرب ما يكون الرب من الْعَبْد فِي جوف الليل الآخِر فَإِنَّ استطعت أن تكون مِمَّا يذكر الله فِي تلك الساعة فكن» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم عَنْ عمرو بن عنبسة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يدعو الله بالمُؤْمِن يوم القيامة حَتَّى يوقفه بين يديه، فَيَقُولُ: عبدي، إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لَكَ، فهل كنت تدعوني؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: أما إِنَّكَ لم تدعنى بدعوة إلا استجيب لَكَ، ألَيْسَ دعوتني يوم كَذَا وَكَذَا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ ففرجت عَنْكَ؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني عجلتها لَكَ فِي الدُّنْيَا، ودعوتني يوم كَذَا وَكَذَا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ فلم تر فرجًا؟ قَالَ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني ادخرت لَكَ بها فِي الْجَنَّة كَذَا وَكَذَا. ودعوتني فِي حَاجَة اقضيها لَكَ فِي يوم كَذَا وَكَذَا فقضيتها؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني عجلتها لَكَ فِي الدُّنْيَا. ودعوتني يوم كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَة أقضيها لَكَ فلم تر قضاء. فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: ادخرتها لَكَ فِي الْجَنَّة كَذَا وَكَذَا» .
وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلا يدع الله دعوة دعا عبده المُؤْمِن إلا بين لَهُ، إما أن يكون عجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يكون ادخر لَهُ فِي الآخِرَة» . قَالَ(2/492)
فَيَقُولُ المُؤْمِن فِي ذَلِكَ المقام: يَا ليته لم يكن عجل لَهُ شَيْئًا من دعائه» . رَوَاهُ الحاكم عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " أيها النَّاس إن الله طيب لا يقبل إلا طيب. وإن الله أمر الْمُؤْمِنِينَ بما أمر به المرسلين فقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إِلَى السماء: يَا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لِذَلِكَ» . رَوَاهُ أحمد ومسلم والترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. عَنْهُ فمن أراد أن تجاب دعوته فليطب مطعمه.
" فَصْلٌ "
فيا أيها الغَافِل المهمل المفرط وكلنا كَذَلِكَ انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه.
وتصور بُدُوَّ الملك لجذب روحك من قدميك ثُمَّ الاستمرار ليجذب الروح مِنْ جَمِيعِ بدنك فَنُشِطَتْ من أسفلك متصاعدة إِلَى أعلاك حَتَّى إِذَا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرِّضَا وإما الْغَضَب.
فبينما أَنْتَ فِي كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقابك أحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم والحزن أَوْ الفرح والأُنْس والسرور قلبك حين أقضت من الدُّنْيَا مدتك وانقطع مَنْهَا آثرك وحملت إِلَى دار من سلف من الأمم قبلك.
وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وَسُرُورًا وملئ رعبًا وحزنًا وعبرة وبزيارة القبور وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالها لَكَ فِي(2/493)
القبر عَنْ ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك والثاني ما دينك والثالث من نبيك.
فتصور أصواتهما عَنْدَ ندائهما لَكَ لتجلس لسؤالهما لَكَ فيه فتصور جلستك فِي ضيق قبرك وقَدْ سقط كفنك عَنْ حقويك والقطن من عينيك. ثُمَّ تصور شخوصك ببصرك اليهما وتأملك لصورتهما فَإِنَّ رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك.
شِعْرًا: ... وللمرء يوم ينقضي فيه عمره ... وموت وقبر ضيق فيه يولج
ويلقى نكيرًا فِي السؤال ومنكرًا ... يسومان بالتنكيل من يتلجلج
آخر: ... تفكر فِي مشيبك والمآب ... ودفنك بعد عزك فِي التراب
إذا وافيت قبرًا أَنْتَ فيه ... تقيم به إِلَى يوم الحساب
وفى أوصال جسمك حين تبقى ... مقطعة ممزقة الاهاب
فلولا القبر صار عَلَيْكَ سترًا ... لأنتنت الأباطح والروابي
خلقت من التُّرَاب فصرت حيًا ... وعلمت الفصيح من الخطاب
فطلق هَذِهِ الدُّنْيَا ثلاثًا ... وبادر قبل موتك بالمتاب
نصحتك فاستمَعَ قولي ونصحي ... فمثلك قَدْ يُدَلُّ على الصواب
خلقنا للممَاتَ ولو تركنا ... لضاق بن الفسيح من الرحاب
ينادى فِي صبيحة كُلّ يوم ... لدوا للموت وابنو للخراب
ثُمَّ تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله عَزَّ وَجَلَّ ونظرت إلى ما أعد الله لَكَ وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعانيه من النَّعِيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مِمَّا يسوؤك.
وان كَانَتْ الأُخْرَى فتصور ضد ذَلِكَ من انتهارك ومعينتك جهنم(2/494)
وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقَالَ.
ثُمَّ بعد ذَلِكَ الْفَنَاء والبَلاء حَتَّى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حَسْرَة روحك وغمومها وهمومها، حَتَّى إِذَا تكاملت عدة الأموات وقَدْ بقى الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثُمَّ لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جَلَّ وَعَلا.
قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يأمر الله ملكًا ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقه والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل الِقَضَاءِ.
فتصور وقوع الصوت فِي سمعك ودعائك إِلَى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جَلَّ وَعَلا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .
فبينما أَنْتَ فِي فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأَرْض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصًا ببصرك نَحْوَ النداء، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} ، وقَالَ: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} .
فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك فِي زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة، قَالَ تَعَالَى {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، وقَالَ تَعَالَى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} .
اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفى الآخِرَة واتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة(2/495)
وفى الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين.
اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار واعتق رقابنا ورقاب إبائنا من النار يَا عزيز يَا غفار ويا كريم يَا ستار ويا حليم ويا جبار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فصل ": ثُمَّ تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور، قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} .
وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مَعَ كثافة سمكها فيا هول صوت ذَلِكَ الانشقاق.
والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء، قَالَ تَعَالَى {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} . وقَالَ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} . قِيل تذوب كما تذوب الفضة فِي السبك وتتلون كما تلون الأصباغ التي يدهن بها فتَارَّة حمراء وتَارَّة صفراء وزرقاء وخضراء وَذَلِكَ من شدة الأَمْر وهول يوم القيامة، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} قِيْل كالفضة المذابة أَوْ الرصاص المذاب، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} .
فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقَدْ أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق ولا ظِلّ إلا ظِلّ عرش رب العالمين، فبينما أَنْتَ على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثُمَّ ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العَظِيم.(2/496)
وانضاف إِلَى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأَرْض حَتَّى استنقع ثُمَّ ارتفع على الأبدان عَلَى قَدْرِ مراتبهم ومنازلهم عَنْدَ ربهم بالسعادة والشقاوة.
ثُمَّ تصور مجئ جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .
فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الا جثا لركبته يَقُولُ: يَا رب نفسي نفسي. فتصور ذَلِكَ الموقف المهيل المفزع الَّذِي قَدْ ملا الْقُلُوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يَا لَهُ من موقف ومنظر مزعج.
وأَنْتَ لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقَدْ علاك العرق والفزع والرعب الشديد والنَّاس معك منتظرون لفصل الِقَضَاءِ إِلَى دار السعادة أَوْ إِلَى دار الشقاء، قَالَ تَعَالَى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} .
فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كُلّ واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي، قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآية.
فتصور نفسك وحالتك عِنْدَمَا يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصَاحِب لما فِي ذَلِكَ الْيَوْم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت الْقُلُوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
ولولا عظم هول ذَلِكَ الْيَوْم ما كَانَ من الكرم والمروة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إِلَى ذَلِكَ فلا تلام على فرارك مِنْهُمْ ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فروا منك، قَالَ الله تَعَالَى:(2/497)
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وقَالَ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
فبينما أَنْتَ فِي تلك الحالة مملوء رعبًا قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ مِنْ شِدَّةِ الأَهْوَال وَالْمُزْعِجَات وَالْخَوف الْعَظِيم إِذَا ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عَلَيْهمْ ويلقيهم فِي النار فتبتلعهم ثُمَّ تصور الميزان وعظمته وقَدْ نصب لوزن الأَعْمَال وتصور الكتب المتطايرة فِي الإِيمَان والشمائل وقلبك واجف مملوءًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك فِي يمينك أَوْ فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك.
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" فصل ": فالأتقياء يعطون كتبهم بإيمانهم والأشقياء بالشمال أَوْ من وراء الظهر، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، وقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} .
قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيات، وقَالَ {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} الآيات.(2/498)
فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المُؤْمِن بها حَقًّا.
عَنْ الحسن أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ رأسه فِي حجر عَائِشَة فنعس فتذكرت الآخِرَة فبكت فسالت دموعها على خد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقَالَ: «ما يبكيك» ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكرت الآخِرَة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة.
قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده فِي ثلاثة مواطن فَإِنَّ أَحَد لا يذكر إلا نَفْسهُ: إِذَا وضعت الموازين ووزنت الأَعْمَال حَتَّى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل وعَنْدَ الصحف حَتَّى ينظر أبيمينه أم بشماله وعَنْدَ الصراط» .
وعن أَنَس بن مالك قَالَ: يؤتى بابن آدم يوم القيامة حَتَّى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فَإِنَّ ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمَعَ الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
وإن خف ميزانه نادى بصوت فيسمَعَ الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
وتصور بينما أَنْتَ واقف مَعَ الخلائق الَّذِينَ لا يعلم عددهم إلا الله جَلَّ وَعَلا وتقدس إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان هَلُمَّ إِلَى العرض على الله عَزَّ وَجَلَّ.
فقمت أَنْتَ لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أَنْتَ المطلوب فقمت ترتعد فرائضك وتضطرب رجلاك وَجَمِيع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول فِي أشد الخفقان مرتفعًا إِلَى الحنجرة.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .(2/499)
فتصور خوفك وَذُلُّكَ وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قَدْ حَلَّ بِكَ الْغَمِّ وَالْهَمَّ والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورَأَيْت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، فيا من يوم، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} والآية بعدها.
وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأَرْض الَّذِي الأَرْض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويان بيمينه القوي العزيز وقلبك خائف مملؤء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل.
وجوارحك مرتعدة بيدك صحيفة فيها الدقيق والجليل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الَّذِي لم يزل أليك محسنًا وعَلَيْكَ سَاتِرًا.
فبأي لسان تجيبه حين يسألك عَنْ قبيح فعلك وعَظِيم جرمك وبأي قدم تقف غدًا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العَظِيم الجليل ومساءلته وتوبيخه.
وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأَرْض كخردلة فِي كفة الكبير المتعال شديد المحال الَّذِي ما من دابة إلا هُوَ آخذ بناصيتها وقُلُوب العباد بين أصابعه لا إله الا هُوَ القوي العزيز.
وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قَدْ نسيتها أثبتها عَلَيْكَ الملك وَكَمْ من بلية أحدثتها فذكرتها وَكَمْ من سريرة قَدْ كنت كتمتها قَدْ ظهرت وبدت.(2/500)
وَكَمْ من عمل قَدْ كنت تظن أنه قَدْ خلص لَكَ وسلم فإذا هُوَ بالرياء قَدْ حبط بعد ما كَانَ أملك فيه عظيمًا فيا حَسْرَة قلبك وتأسفك على ما فرطت فِي طاعة ربك، قَالَ تَعَالَى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وقَالَ تَعَالَى {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
حتى إِذَا كرر عَلَيْكَ السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عَنْ مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا وقَدْ ظهرت قلة هيبتك وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك لَهُ بفعل ما نهاك عنه.
فما ظنك بسؤال من قَدْ امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك أن ذكرك مخالفتك لَهُ وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك فِي الدُّنْيَا بطاعته.
وماذا تَقُول إن قَالَ: يَا عبدي أما استحيت مني أما راقبتني استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عَلَيْكَ ما غرك مني.
شبابك فيما ابليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه.
وورد عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «ليقفن أحدكم بين يدي الله تبارك وتَعَالَى لَيْسَ بينه وبينه حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عَنْهُ فَيَقُولُ ألم أنعم، ألم آتك مالاً فَيَقُولُ: بلى. فَيَقُولُ: ألم أرسل أليك رسولاً فَيَقُولُ: بلى. ثُمَّ ينظر عَنْ يمينه فلا يرى إلا النار ثُمَّ ينظر عَنْ شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فَإِنَّ لم يجد فبكلمة طيبة " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عَلَيْهِ خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت فِي طاعته(2/501)
وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عَنْدَ الملاهي والمنكرات، قَالَ الله تَعَالَى عَنْ حال المجرمين المفرطين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، وقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} الآية.
وكيف تَثْبُتُ رجلاك عَنْدَ الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عِنْدَمَا يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جَلَّ وَعَلا ويقدرك على ذَلِكَ فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الْغَضَب أَوْ الرِّضَا عَنْكَ.
فإما أن يَقُولُ: يَا عبدي أَنَا سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فقَدْ غفرت لَكَ كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك فَيَسْتَطِيرُ قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لِذَلِكَ وجهك.
فتصور نفسك حين ما يقَالَ لَكَ وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال.
وتصور رضاه عَنْكَ حينما تسمعه منه فثار فِي قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عَزَّ وَجَلَّ.
اللَّهُمَّ اغفر لَنَا ما قطع قلوبنا عَنْ ذكرك واعف عَنْ تقصيرنا فِي طَاعَتكَ وشكرك وأدم لَنَا لزوم الطَرِيق إليك وهب لَنَا نورًا نهتدي به إليك، واسلك بنا سبيل أَهْل مرضاتك واقطع عنا كُلّ ما يبعدنا عَنْ سبيلك ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا وحقق بكرمك قصدنا واسترنا فِي دنيانَا وأخرتنا واحشرنا فِي زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين، اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا(2/502)
وقواتنا يَا رب العالمين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
" فَصْلٌ "
وتصور نفسك وقَدْ بدا لَكَ منه الرِّضَا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحًا فَكَيْفَ لو سمعت من الله عَزَّ وَجَلَّ الرِّضَا عَنْكَ والمغفرة لَكَ فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدًا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحًا وأبيض وجهك وأشرق وأنار.
ثُمَّ خرجت إِلَى الخلائق مستنير الوجه قَدْ حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقَدْ شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لَكَ وتأسفًا على أن ينالوا من الله عَزَّ وَجَلَّ مثل ما نلت.
وتصور نفسك إن لم يعف عَنْكَ ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إِلَى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك تنادي بالويل ولثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هَذَا فلان بن فلان قَدْ شقي شقاء لا يسعد بعدها أبدًا.
وتصور الصراط وَهُوَ الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته ودحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته.
فيا لَهُ من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيضها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقَدْ اضطررت على المشي عَلَيْهِ وقَدْ مرت عَلَيْكَ صفته.(2/503)
ثُمَّ قِيْل لَكَ وأَنْتَ تنظر إِلَى الجسر بفظاظته وفظاعته وقِيْل للخلق معك اركبوا الجسر الَّذِي هُوَ الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مِمَّا عانيت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والرَّاحَة.
ولما قِيْل: اركب طار عقلك رعبًا وخوفًا ثُمَّ إِذَا رفعت رجلك وأَنْتَ تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأُخْرَى وأَنْتَ مضطرب تمروج من شدة الخوف العَظِيم وقَدْ أثقلتك الأوزار وأَنْتَ حاملها على ظهرك وأَنْتَ تنظر إِلَى النَّاس من يتهافتون من بين يديك ومن ورائك.
فتصور مرورك عَلَيْهِ بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقَدْ تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يتخطفون بالكلاليب وتسمَعَ العويل والبُكَاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور.
فيا له من منظر فظيع ومر تقي ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكَانَ ما أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوءًا من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا وشمالاً إِلَى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك فِي جهنم وأَنْتَ تخشى أن تتبعهم إِلَى قعر جهنم.
فتصور هَذَا بعقلك ما دمت فِي قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوأ بالفشل والخيبة والحرمان.
وتصور حالتك إن يؤت بالْخُسْرَانُ وزلت رجلك على الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثُمَّ زلت رجلك الأُخْرَى فنكستَ على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قَدْ دخل فِي جلدك ولحمك.(2/504)
فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على ضيعتها فيما يسخط الله.
وتصور سماعك لنداء النار بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلِ امْتَلَأْتِ} وسمعت أجابتها {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وهي تلتهب فِي بدنك لها قصيف فِي جسدك ثُمَّ لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك.
محترق تطلب مِنْهُمْ ماء أَوْ نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حَسْرَة وأسفًا.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فيا خيبة من هَذَا حاله وَهَذَا مآله.
لَقَدْ تقطع قلبك حزنًا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رَأَيْت من غضبهم عَلَيْكَ لغضب رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ ففزعت إِلَى الله بالنداء بطلب الْخُرُوج مَنْهَا فبعده مدة الله أعْلَمْ بها جَاءَ الجواب {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
فَلَمَّا سمعت النداء بالتخسئة لَكَ ولأمثالك بقى نفسك من شدة الضيق والألم والحَسْرَة مترددًا فِي جوفك لا مخَرَجَ لَهُ فضاقت نفسك ضَيِّقًا شَدِيدًا لا يعمل مداه ألا الله.
وبقيت قَلِقًا تَزْفر ولا تطيق ثُمَّ أتاك زيادة حَسْرَة وندامة حيث أطبق أبواب النار عَلَيْكَ وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليًا.
فيا إياسك ويا أياس سكَانَ جهنم حين يسمعوا وقع أبوابها تطبق عَلَيْهمْ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} .
فعلموا عَنْدَ ذَلِكَ أن لا فرج أبدًا ولا مخَرَجَ ولا محيص لَهُمْ من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زَوَال لَهُ عَنْ ابدأنهم ودوام حرق قُلُوبهمْ.(2/505)
أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك، قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} .
وقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
ثُمَّ اطلعت النار على ما فِي جوفك فأكلت ما فيه وأَنْتَ تنادى وتستغيث فلا ترحم حَتَّى إِذَا طال فيها مكثك واشتد بك العطش.
فذكرت الشراب فِي الدُّنْيَا فزعت إِلَى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فَلَمَّا تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثُمَّ قربته إِلَى فمك والألم بالغ منك كُلّ مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه.
ثُمَّ تجرعته فسلخ حلقك ثُمَّ وصل إِلَى جوفك فقطع أمعاءك، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} .
ثُمَّ ذكرت شراب الدُّنْيَا وبرده ولذاته فبادرت إِلَى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت فِي الدُّنْيَا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثُمَّ بادرت إِلَى النار رجَاءَ أن تَكُون أَهْوَن منه ثُمَّ اشتد عَلَيْكَ حريق النار فرجعت إِلَى الحميم قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، وقَالَ فِي الآية الأُخْرَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} .
فقدر نفسك مَعَ الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأَبْرَار(2/506)
والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كُلّ مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم.
وهاجت الأحزان وهاجت غصة فِي فؤادك إِلَى حلقك أسفًا على ما فات من رضي الله عَزَّ وَجَلَّ حزنًا على نعيم الْجَنَّة.
ثُمَّ ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بَعْض القرابة من أب أَوْ أم أَوْ ابن أَوْ أخ أَوْ غيرهم من القرابة أَوْ الأصدقاء فِي الدُّنْيَا فناديتهم بقلب محزون لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عَنْدَ تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقَالَ عثرتهم غضب الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهمْ فلا يرضى عنهم أبدًا فمثل نفسك بهَذَا الوصف إن لم يعف عَنْكَ ربك لعلك أن تستيقظ فتستدرك.
فلو رَأَيْت المعذبين قَدْ أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقَدْ قلقوا من شدة تكرار الْعَذَاب الأَلِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبُكَاء والعويل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ، وقَالَ: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} .
فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعًا ورعبًا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فَكَيْفَ لو نظرت نفسك وأَنْتَ لعلك فيهم وقَدْ زال من قلبك الأمل والرجَاءَ ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله.
ونظرت إِلَى النار وهي تشتعل فِي أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عَنْكَ لملازمتها لَكَ، قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات(2/507)
والندامة، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} الآية.
فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمتُ فِي قيد الحياة وتب إِلَى الله توبة نصوحًا عَنْ ما يكره مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقِيْل عثرتك فَإِنَّ الخطر عَظِيم والبدن ضعيف والموت منك قريب، انتهى بتصريف من كلام المحاسبي رَحِمَهُ اللهُ.
شِعْرًا: ... مِثْلَ وُقُوفِكَ يَوْمَ الْحَشْرِ عُرْيَانًا ... مُسْتَعْطِفًا قَلَقَ الأَحْشَاء حَيْرَانا
النَّارُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ وَمِنْ حَنَقٍ ... عَلَى الْعُصَاةِ وَتَلْقَ الرَّبَ غَضْبَانَا
اقْرَأْ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهْلٍ ... وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَرَى هَلْ كَانَ مَا كَانَ
لَمَّا قَرَأْتَ كَتِابًا لا يُغَادِرُ لِي ... حَرْفًا وَمَا كَانَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانَا
قَالَ الْجَلِيلُ خُذُوهُ يَا مَلائِكَتِي ... مُرُوا بِعَبْدِي إِلَى النِّيرَانِ عَطْشَانَا
يَا رَبّ لا تُحْزِنَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَلا ... تَجْعَلْ لِنَارِكَ فِينَا الْيَوْم سُلْطَانَا
اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
" موعظة ": لله در أقوام تركوا الدُّنْيَا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مَعَ التحقيق ثُمَّ تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
قَالَ عمرو بن ذر: لما رأى العابدون الليل قَدْ هجم عَلَيْهمْ، ونظروا إِلَى أَهْل الغَفْلَة قَدْ سكنوا إِلَى فرشهم ورجعوا إِلَى ملاذهم.(2/508)
قاموا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فرحين مستبشرين بما قَدْ وهب الله لَهُمْ من السهر وطول التهجد.
فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا مَلَّتْ أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقَدْ ولى الليل بربح وغبن.
فاعملوا فِي هَذَا الليل وسواده، فَإِنَّ المغبون من غبن الدُّنْيَا والآخِرَة، وكم من قائم لله تَعَالَى فِي هَذَا الليل قَدْ اغتبط بقيامه فِي ظلمة حفرته.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتَرَى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم على الجهاد ويقمَعَ أَهْل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله.
" فصل ": ويقابل دار الأشقياء التي تقدمت قريبًا دار أخرى دار قرار ونعيم وسرور وحبور وأمن وصحة وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
دار جعلها الكريم جَلَّ وَعَلا دار ضيافة يكرم فيها عباده الأخيار الَّذِينَ وفقهم لخدمته والْعَمَل بطاعته.
ولا تظن هَذِهِ الضيافة محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي بل كُلّ ما تحبه وتتمناه أمامك إن كنت من أَهْل العفو والتجاوز فتوهم إن تفضل الله عَلَيْكَ بالعفو والتجاوز (أي تصور ممرك على الصراط) .
ونورك يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابك بيمينك مبيض الوجه.(2/509)
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ، وقَدْ أيقنت برضاه عَنْكَ وأَنْتَ على الصراط مَعَ زمرة العابدين ووفود المتقين.
والملائكة تنادى: سلم سلم، والوجل مَعَ ذَلِكَ لا يفارق قلبك ولا قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ، تنادي وينادون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نورهم، وهاج الوجل فِي قُلُوبهمْ، فدعوا بتمام النور والمغفرة.
فتوهم أي تصور وتخيل وتمثل نفسك، وأَنْتَ تمر خفيفًا مَعَ الوجل وتصور ممرك عَلَى قَدْرِ خفة أوزارك وثقلها وقَدْ انتهيت إِلَى آخره. فغلب على قلبك النجاة، وقَدْ عاينت نعيم الجنان وأَنْتَ على الصراط، فحن قلبك على جوار الله عَزَّ وَجَلَّ، واشتاق إِلَى رضا الله، حَتَّى إِذَا صرت إِلَى آخر خطوات بأحد رجليك إِلَى العرصة (أى عرصة القيامة) التي بين آخر الجسر وبين باب الْجَنَّة، فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدم الأُخْرَى على الصراط، والخوف والرجَاءَ قَدْ اعتليا فِي قلبك وغلبا عَلَيْكَ.
ثُمَّ ثنيت بالأخرى، فجزت الصراط كله واستقرت قدماك على تلك العرصة، وزلت عَنْ الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك، وجهنم تضطرب من تحت من يمر عَلَيْهَا، وتثب على من زل عَنْهُ مغتاظة تزفر عَلَيْهِ وتشهق إليه.
ثُمَّ التفت إِلَى الجسر فنظرت إليه باضطرابه، ونظرت إِلَى الخلائق من فوقه، وإلى جهنم من تحته تثب وتزفر على الَّذِينَ زلزلوا عَنْ الصراط، لها فِي رؤوسهم وأنحائهم قصيف، فطار قلبك فرحًا إذ نجوت بضعفك من النار وخافت النار وجسرها من وراء ظهرك، متوجها إِلَى جوار ربك.
ثُمَّ خطوت أمنا إِلَى باب الْجَنَّة امتلأ قلبك سرورًا وفرحًا، فلا تزال فِي ممرك بالفرح والسرور حَتَّى توافي أبوابها، فإذا وافيت بابها استقبلك بحُسْنِهِ،(2/510)