موارد الظمآن لدروس الزمان
خطب وحكم وأحكام وقواعد ومواعظ وآداب وأخلاق حسان
تَأْلِيفُ
الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض - سابقاً
الطبعة: الثلاثون، 1424 هـ(/)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الأول
بالله يا ناظرًا فيه ومنتفعًا ... مِنْهُ سَلِ اللهَ تَوْفِيقًا لِجَامِعِهِ
وَقُلْ أنلْهُ إِلَهَ الْعَرْشِ مَغْفِرَةً ... وَاقْبَلْ دُعَاه وَجَنِّبْ عن مَوَانِعِهِ
وَخُصَّ نَفْسَكَ مِنْ خَيْرٍ دَعَوْتَ بِهِ ... ومَن يَقُومُ بِمَا يَكْفِي لِطَابِعِهِ
وَالْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا مَا بَدَا قَمَرٌ ... أَو كَوْكَبٌ مُسْتَنِيرٌ مِن مَطَالِعهِ
آخر:
وما اكْتَسبَ المَعَالِيَ طَالِبُوْهَا ... بِمِثْلِ أَداءِ مَا افْتَرَضَ الجَلِيْلُ(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
فوائد عَظِيمَة النفعِ
قال بعضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَبِيْلِ النُصْحِ والإِرْشَادِ: يَا هَذَا إنَّمَا خُلِقَتِ الدُّنْيَا لِتَجُوزَهَا لا لِتَحُوزَهَا، ولِتَعْبُرَها لا لِتَعْمُرها فاقْتُلْ هَوَاكَ الْمَائِلَ إِلَيْهَا ولا تُعَوّلْ عَلَيهَا. واعْلَمْ أَنَّ الدُنْيَا مَزْرعةُ النَّوائِبِ ومَشْرَعَةُ المَصَائِبِ ومُفَرّقَةُ المَجَامِعِ ومُجْرِيَةُ المَدَامِعْ.
(1)
اللِّيْلُ والنَّهار يَعْمَلان فِيْكَ فاعْمَلْ فيهما أَعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَحَ وتَحْمَدِ العَاقِبةَ الحَمَيْدَة إن شاء الله تعالى.
فائدة: حفْظُ الأَوْقَاتِ تُفيْد الأَعْمَارَ وَتُكْثِرُ الآثارْ والله الموفق.
وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ... وَأرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ
آخر: ... والعُمر أنفسُ مَا لإنسان مُنْفِقُهُ ... فاجْعَلْهُ في طَاعَةِ الرحمنِ مَصْرُوْفًا
(2)
المَلائِكةُ يَكْتُبَان مَا تَلفَّظُ به، فَاحْرَصْ عَلَى أنْ لا تَنْطِقَ إلاَّ بِمَا يَسُرُّكَ يَوم القِيَامِة مِن ذِكر الله وما وَلاه.
(3)
اعْلَم أنَّ قِصَرَ الأمَلِ عليه مَدِارٌ عظيم وحِصْنُ قِصَرِ الأمَلِ ذِكْرُ الموِتِ وحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فِجْأَةِ الموتِ وَأخْذُ الإِنسان على غِرَّةٍ وغَفْلةٍ، وهُوَ في غِرُرٍ وفُتُور عن العمل للآخرة، فأحفظ هذه الفوائد وأعمل بها تُفْلح وتَربَحْ إنْ شاءَ الله تعالى.(1/1)
وَقَالَ بَعْضهم: الواجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ المُبَادَرَةُ إلَى الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ عَلَى أَيَّ حَالٍ كَانْ وَأنْ يَنْتَهِزَ فُرصْةَ الإمْكَانِ قَبْلَ مُفَاجأَةِ هَادِمِ اللَّذَاتِ وأَنْ يَتَوكِّلَ عَلَى اللهِ وَيَطْلُبَ مِنْهُ العَوْنَ في تَيْسِيْرهَا إلَيْهِ وَصَرْفِ المَوانِعِ الحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
آخر: ... مُنَايَ مِن الدُّنْيَا عُلُومٌ أبثُهَا ... وأنْشُرُهَا في كُلِ بَادٍ وحَاضِرِ
دُعَاءً إِلَى القُرْآنِ والسُنَّةِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجُالٌ ذِكْرَهَا في المَحاضِرِ
وَقَدْ أبْدِلُوهَا الجَرَائِد تَارةً ... وتِلْفَازِهِمْ رأَسُ الشُرور المنَاكِرِ
ومِذْيَاعهِمْ أيْضًِا فلا تَنْس شَرَّهُ ... فكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بِهَا بالخَسَائِرِ
آخر: ... كُلُ امْرئٍ فِيمَا يَدِينُ يُدَانُ ... سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَخْلُ مِنْ عِلْمِهِ مَكَانُ
يَا عَامِرَ الدُّنْيَا لِيَسْكُنَها وَمَا ... هِيَ باللَّتي يَبْقَى بِهَا سُكَّانُ
تَفْنَى وتَبْقَى الأَرضُ بَعْدَكِ مِثْلَمَا ... يَبْقَى المَكَانُ وتَرْحَلْ الرُّكْبَانُ
أَأُسَرُّ بالدنيا بكُلِّ زِيَادَةٍ ... وزِيَادَتِيْ فِيهَا هِيَ النُقْصَانٌ
آخر: ... كَأَنَّكَ لم تَسْمعْ بأخْبَار مَن مَضَى ... ولمْ تَرَ في البَاقِينَ مَا يَصْنَعُ الدَّهرُ
فِإِنْ كُنِتَ لا تَدري فَتِلْكَ دِيَارُهُم ... عَليها مَجَالُ الرِّيحِ بَعَدكَ والقَطْرُ
وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَينَاكَ حيًّا بِمنزِلٍ ... عَلَى الأَرضِ إِلاَّ بالفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ
وَأَهْلُ الثَّرَى نَحْوَ المَقَابِرِ شُرّعٌ ... وَلَيْسَ لَهْمُ إِلاَّ إِلَى رَبَّهمْ نَشْرُ
على ذَاكَ مَرُّوا أجْمَعُونَ وهكذا ... يَمُرُّونَ حتّى يَسْتَردُّهُم الحَشْرُ
فَلاَ تَحْسَبنَّ الوَفْرَ مَالاً جَمْعَتَهُ ... ولكنَّ مَا قَدَّمْتَ مِن صَالِحِ وَفْرُ
وَلَيْسَ الذِي يَبْقَى الذِي أَنْتَ جَامعٌ ... ولكنَّ مَا أَوْلَيْتَ مِنْهُ هُوَ الذُّخْرُ
قَضَى جَامِعُوا الأَمْوَالِ لَمْ يَتَزَوَّدُوا ... سِوَى الفَقْرِ يَا بُؤْسًا لِمَنْ زَادُهُ الفَقْرُ
بَلَى سَوفَ تَصْحُو حِيْنَ يَنْكَشِفُ الغَطَا ... وَتَذْكرُ قَوْلي حِيْنَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
وَمَا بَيْنَ مِيُلادِ الفَتَى وَوَفَاتِهِ ... إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفسَهُمْ عُمْرُ
لأَنَّ الذِي يَأْتِي كَمِثْلِ الذِي مَضَى ... وما هُو إِلاَّ وَقْتُكَ الضَّيِّقُ النَّزْرُ
فصَبْرًا على الأَوقاتِ حَتَّى تَحُوْزَهَا ... فَعَمَّا قَلِيْلٍ بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ
تَقْضِي المآربَ والسَّاعَاتُ سَاعِيَةٌ ... كأنَّهُنَّ صِعَابٌ تَحتَنَا ذُلُلُ
آخر: ... طالَ التَّبَسُط مِنَّا في حَوَائِجنَا ... وَإنَّمَا نَحْنُ فَوق الأرض أَضْيَافُ(1/2)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ أَحَدُ العُلَماءِ رَحِمَهُ الله تَعالى: عَلَيْكَ يَا أَخِي بمُحَارَبَةِ الشَّيْطَانِ، وقَهْرِهِ، وذَلِكَ لِخَصْلَتَيْن أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَدُوٌ مُظلٌ مُبين، لا مَطْمَعَ فِيهِ بِمُصَالحَة وَاتَّقَاءِ شَرّه أَبَدًا، لأِنَّه لاَ يُرْضِيْهِ وَيُقْنِعُهُ إِلاَّ هَلاَكُكَ أَصْلاً، فَلا وَجْهَ إِذًا للأَمْنِ مِنْ هَذَا الْعَدُوْ وَالْغَفْلَةِ عَنْهِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وعَلاَ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، وَالخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى عَدَاوَاتِكَ، ومُنْتَصِبٌ لِمُحَارِبَتِكَ، في اللَّيْلِ والنَّهَارِ يَرْمِيْكَ بسِهَامِهِ، وأَنْتَ غَافِلٌ عَنْهُ، ثُمَّ هُوَ لَهُ مَعَ جَمِيْعِ المؤمِنِيْنَ عَدَاوَةٌ عَامَةٌ، وَمَعَ المُجْتَهِدِ في العِبَادَةِ وَالعِلْمِ عَدَاوَةٌ خَاصَةٌ، ومَعَهُ عَلَيْكَ أَعْوَانُ: نَفْسُكَ الأمَّارَةِ بالسَّوْء، والهَوَى، والدُّنْيَا، وَهُوَ فارِغٌ وَأَنْتَ مَشْغُول، وَهُوَ يَرَاكَ وَأَنْتَ لاَ تَرَاه، وأَنْتَ تَنْسَاهُ وَهَوَ لاَ يَنْسَاكَ، فَإِذًا لاَ بُدَّ مِن مُحَارَبَتِهِ وَقَهْرِهِ، وَإِلاَّ فَلا تَأَمَنْ الفَسَادَ وَالهَلاكَ وَالدَّمَار، وَمُحَارَبَتُهُ بالاسْتِعَاذَةِ باللهِ والإِكثارِ من ذِكْرِهِ.
شعرًا: ... إِذَا شئتَ أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِمًا ... فَتُحْرِقَهُ حُزُنًا وَتَقْتُلَهُ غَمًّا
فَعَلَيْكَ بالإِخْلاصِ وَالزُّهْدِ والتُّقَى ... فَمَنْ فَازَ فِيهَا مَاتَ حُسَّادُهُ هَمًّا
آخر: ... وَلِمَ أَرَى كَالإِخْلاصِ للهِ وَحَدَهُ ... وَلا مِثل تقوْاهُ وَإكْثَارِ ذِكْرِهِ
فَصْلٌ
اعْلَمْ وَفَّقَنا اللهُ وَإيَّاكَ وَجَمِيْعَ المُسْلِميْنَ أنَّهُ لَم يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وتَابِعْيِهْم بإِحْسَانٍ تَعْظِيْمُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ وَالمُوَالِيْنَ لأَهْلِ البِدَعِ وَالمُنَادِيْنَ بِمُوَالاتِهمْ، لأَنّ أَهْلِ البِدَعِ مَرْضَى قُلُوب، وَيُخْشَى عَلَىَ مَنْ خَالطَهُمْ أَو اتَّصَلَ بِهِمْ أَنْ يَصِلَ إِلِيْهِ مِنْ مَا بِهِِِمْ مِنَ هَذَا الدَّاءِ العُضَال، لأِنّ المَرِيْضَ يُعْدِي الصَّحَيْحَ وَلاَ عَكسْ، فَالْحَذَرَ الحذرَ مِنْ جَمِيعِ أهْلِ(1/3)
البدَعِ، وَمِنْ أهْلِ البِدَعِ الذَيْنَ يَجِبُ البُعْدُ عَنْهُمْ وَهِجَرانُهُمْ: الجَهْمِيَّةُ، والرَّافضَةُ، وَالْمُْعَتِزلَةُ، والْمَاتُرِيْدِيَّةُ، وَالخَوَارُِج، والصُّوْفِيَّةُ، والأَشَاعَرة، وَمَنْ عَلَىَ طَريْقَتِهمْ مِنَ الطَّوَائِف المُنْحَرِفَةِ عن طريقة السَّلَفْ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أنْ يَحْذّرَهُمْ وَيُحَذِرَّ عَنْهُمَ وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فائدة: وَقْتُ الإِنسان هُو عُمره وَمَادَة حَيَاتِه الأبدِيَّة في النَّعِيم المقيم وَمَادةُ المعِيْشَةِ الضَّنْكِ في العَذَابِ الأَلِيْم وَهو يَمَرُ مَرَّ السِّحَابْ.
شعرًا: ... إني أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... إِنَّ الحَدِيثَ لَهُ شُجُونُ
غَيَّرْتَ مَرْقَدَ نَوْمِي ... لَيلاً فَفَارَقَنِي السُّكُونُ
قُلْ لِي فَأَوَّلَ لَيْلَةٍ ... في القَبْرِ كَيْفَ تَرَى يَكُونُ
آخر: ... يَا مَنْ سِينَا عَنْ بَنِيهْ ... جَاءَ اليَقِينُ فَوَجَّهُوهْ
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ اليَقِينُ فَوَجَّهُوهْ
وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قِبْلَ المَمَاتِ وَحَلِّلُوهُ
آخر: ... أَعْوامُ لَهْوٍ كَانَ يُحْزِنُ ذِكْرُهُا ... قَلْبُ اللَّبِيبُ لِفَقْدِهَا لِلطَّاعَةِ
لَوْ أَنَّهَا مُلِئَتْ بِذِكْرِ إِلهِنَا ... وَتِلاَوَةِ القُرْآنِ زَالَتْ نَدَامَتِي
آخر: ... بِطَاعَتِكَ الإله تَنَالُ عِزًا ... وَتَسْعَدُ يَا فَتَى يَوْمَ الجَزَاءِ
آخر: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
لَوْ يَعْلَمُ العَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ
فائدة: العِلْمُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ جَلَّ جَلاَلُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤهُ وَمَا جَاءَ عَن رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرُ مِيْرَاثٍ والتَّوفيقُ مِن اللهِ خَيْرُ قاَئِدْ، والاجْتِهَادُ في طاعَةِ اللهِ خَيْرُ بِضَاعَة، ولا مَالَ أَحْسَنُ مِن عَمِل الرَّجُلِ في يَدِهُ، ولا مُصِيْبَةَ أَعْظم مِن الكُفْرِ باللهِ ولا عَوِينَ أَوْثَقَ من الاعْتِمَادِ على اللهِ جَلَّ جَلاَلُهْ، ثم مُشَاوَرَةِ(1/4)
أَصْحَابِ الرَّأْي السَّدِيد مِن المُؤْمِنِيْن، وَلا أَوْحَشَ مِن الكِبْرِ، والكُفْرِ والعُجْبِ، والنَّفَاق، والإِلْحَادْ.
وقال يحيى بنُ معاذ: عَجِبْتُ مِن ثلاثة: رجُل يَرائي بَعِمْلِهَ مخُلوقًا مِثْلَه وَيتركُ أنْ يَعْمَلَهُ للهِ، وَرَجُل يَبْخَلُ بِمالهَ وَربهُ يستقرْضُه مِنه فلا يُقْرِضُهُ مِنه شَيْئًا، وَرَجُل يَرغَبُ في صُحْبةِ المخُلوقَين وَمَوَّدتِهَم والله يَدْعِوهُ إِلَى صُحْبَتِهِ وَمَودَتهِ.
ملاحظة: لا يسمح لأي إنسان أن يَخْتَصِرَهُ أوْ يَتَعَّرضَ له بما يُسَمُّونَه تَحقِيقًا لأِنَّ الاختصار سَبَبٌ لِتعطيِلٍ الأصْلِ والتحقيق أرَى أَنَّهُ اِتِهَامٌ لِلْمُؤُلِف، ولا يُطْبع إلا وقفًا لله تعالى على مَن يَنْتَفِعُ بِهِ مِن المسلمين.
فائدة عَظِيْمَةُ النَّفَعْ لِمَْن وَفَّقَهُ الله
ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لا إِلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمِلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إِليْهَا.
شعرًا: ... عَلَيكَ مِنَ الأُمورِ بِما يُؤَدِي ... إِلى سُنَنِ السَلامَةِ وَالخَلاصِ
وَما تَرْجُو النَجاةَ بِهِ وَشيكاً ... وَفَوزاً يَومَ يُؤخَذُ بِالنَواصِي
آخر:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْمُرُ قُصُورًا فَسِيحَةً ... لِيَسْكُنَهَا وَقْتًا قَلِيلاً وَيَرْحَلُ
وَيَتْرُكَ قَبْرًا فِِيهِ يَسْكُنُ وُحْدَهُ ... زَمَانًا طَوِيلاً ثُمَّ يَأْتِي يُهَرْوِلُ
إِلِى مَوْقِفٍ فِيهِ يِشِيبُ وَلِيدُهُ ... وَتُسْقِطُ ذَاتَ الحَمْلِ فِيهِ وَتَذْهَلُ
وَمِنْ بَعْدِهِ الأَهْوَالُ لَوْ قَدْ رَأَيْتَهَا ... لَطَلَّقْتَ دُنْبًا بِالثَلاَثِ مُعَجِّلُ
فَلِلِهِ دُرُّ الزَّاهِدِينَ بِجَيْفَةٍ ... عَلَيْهَا أُنَاسٌ جَاهِلُونَ وَغُفَّلُ
آخر:
آخِرُ يُسَّرُ بِصَفْوِ عَيْشَتِهِ الجَهُولُ ... وَتُعْجِبُهُ الإقَامَةُ وَالحُلُولُ
وَدُونَ مُقَامُه حَادٍ حَثِيثٌ ... عَنِيفُ السَّوْقِ وَالمَوْتُ السَّبِيلُ(1/5)
سَبِيل مَا تَوَجَّهَ فِيهِ سَفُرٌ ... فَكَانَ لهُمْ إَلَى الدُّنْيَا قُفُولُ
طَرِيقٌ يَسْتَوِي لِلْخَلْقِ فِيهِ ... مَسَالِكَهم وَيَخْتَلِفُ المُقِيلُ
يُطَافُ عَلَيهِمُ بكُؤوس لَهْوِ ... وَمَزْجُ كُؤُوسِهَا الدَّاءُ الدَّخِيلُ
وَتَصْقَلُ وَجْهَهَا لَهُمُ خِدَاعًا ... وَتَحْتَ صِقَالِهَا السَّيفُ الصَّقِيلُ
آخر: ... أَكَبَّ بَنُوا الدُّنْيَا عَلَيهَا وَإِنَّهُمْ ... لَتَنْهَاهُمْ التَّقْوىَ عَنْهَا لَو انْتَهَوْا
أَيُّهَا النَّاظِرُ بَعْدِي في كِتَابِي ... مُسْتَفِيدًا مِنْهُ مَرْغُوبَ الطُّلاَبِ
قَاطِفًا مِنْهُ ثِمَارًا نُسِّقَتْ ... بِاجْتِهَادِي بِمَشِيبِي وَالشَّبَابِ
اهْدِ لِي مِنْكَ دُعَاءً صًالحًِا ... وَتَحَرَّى فِيهِ أَوْقَاتَ الإِجَابِ
آخر: (تَضَرُّعٌ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ)
قَرُبَ الرَّحِيلُ إِلى دِيَار الآخرة ... فَاجْعَلْ بِفَضْلِكِ خَيْرُ عَمْرِي آخِرَهْ
وَارْحَمْ مَقِيلِي في القُبُور وَوِحْدَتِي ... وَارْحَمْ عِظَامِي حِينَ تَبْقَى نَاخِرَةْ
فَأَنَا الْمُسَيَكينُ الذي أَيَامُهُ ... وَلَّتْ بِأَوْزَارٍ غَدَتْ مُتَوَاتِرْةْ
فَلَئِنْ طُرِدْتُ فَمَنْ يَكُنْ لِي رَاحِمًا ... وَبِحَارُ جُودِكَ يَا إَلهِي زَاخِرَةْ
يَا مَالِكِي يِا خِالِقِي يِا رِازِقِي ... يِا رَاحِمِي الشيخ الكَبِيرِ وَنِاصِرُهْ
مَا لِي سِوَى قَصْدِي لِبَابِكَ سَيِّدِي ... فَاجْعَلْ بِفَضْلِكَ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهْ
آخر: ... دَعْ عَنْكَ ذِكْرَ فُلانَةً وَفُلانِ ... وَاتْرُكْ لِمَا يُلْهِي عَنِ الرَّحْمَنِ
وَاعْلَمْ بَأَنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً ... وَجِمِيعَ مَا فَوْقَ البَسِيطَةِ فَانِ
فَإِلى مَتَى تَلْهُو وَقَلْبُكَ غَافِلٌ ... عَنِ ذِكْرِ يَوْمِ الحَشْرِ وَالِميزَانِ
أَتَرَاكَ لَمْ تَكُ سَامِعًا مَا قَدْ أَتَى ... في النَّصِ في الآيَاتِ بِالقُرْآنِ
فَانْظُرْ بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ وَلا تَكُنْ ... ذَا غَفْلَةٍ عَنْ طَاعَةِ الدَّيَانِ
(فَصْلٌ)
(1) (فوائدُ عظيمةُ النفعَ جِدًّا مما قاله العلماء: إعْلَمْ أنَّ قِصَرَ الأمل عليه مَدَارٌ(1/6)
عظيم، وَحِصْنُ قِصَرِ الأمَلِ ذكْرُ الموت، وحِصْنُ حصْنِهِ ذكر فجأة الموت وَأخْذُ الإَنْسَانِ على غِرَّةٍ وغِفْلُةٍ وفي غُرور وفُتُورِ عن العمل للآخِرةْ) .
(2) (اللَّيْلُ والنَّهارُ يَعْمَلان فيْكَ، فاعْمَلْ فيهما أعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَح وَتَحْمِدَ العَاقِبةَ الحَمِيْدَة إنْ شاءَ الله تَعالى) . والله الموفق.
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: عَجبْتُ لِثلاثةٍ: لِغَافل ولَيْسَ بِمَغْفُولِ عَنْهْ، ومُؤَمِّلٍ دُنْيَاهُ والموتُ يَطلُبه، وبَانٍ قَصْرًا والقَبْرُ مَسْكَنُهُ.
(3) (الملائكةُ يَكْتُبَان مَا تلَفَّظُ به، فاحْرَصْ عَلَى أن لا تَنْطِقَ إلا بِمَا يَسُرَّكَ يَوْمَ القِيَامَةْ كالْباقِيَاتِ الصَّالِحاتِ وَمَا وَالاهَا) .
شِعرًْا: ... وَإِنَّ أَحْسَنَ بَيْتٍ قَالَهُ رَجُلٌ ... بَيْتٌ تَضَمَّنَ تَوحِيدَ الذِّي خَلَقَ
آخر:
إِذَا المرءُ لَمْ يَعْصِي الإلَهَ بِفِعْلِهِ ... وَلا قَوْلِهِ فَهُوَ الأَدِيبُ المُهَذَّب
آخر:
تَمْضِي حَيَاتُكَ ثُمَّ تَبْقَى صَفْحَةٌ ... كَتَبْتَ يَدَاكَ سُطُورُهَا قَبْلَ الرَّدَى
مَهْمَا مَكَثْتَ فَأَنْتَ ضَيْفٍ رَاحِلٌ ... عَنْ ذِي الدِّيَار اليومَ حَتْمًا أَوْ غَدَا
فَاتْرُكْ إِذًا أَثَرًا لِذِكْرِكَ صَالحًا ... إِنْ كُنْتَ تَبْغِي أَنْ يَدُومَ مُخَلَّدا
(وَاسْأَلْ بِمَا سَأَلَ الخَلِيلُ إَلَهَهُ ... فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء سُؤَالاً مُسَدَّدًا)
(فصل)
ومَن أرادَ طِبَاعَتِهِ ابْتغَاءَ وَجْه الله تَعَالى لا يُريْدُ به عرضًا مِن الدُّنيا، فقد أُذِنَ لَه في ذلك وَجَزَى الله خيرًا مَن طَبََعَهُ وَقْفًا لِلَّهِ، أو أعانَ على طبعِهِ، أو تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وتوزيعه على إخوانه المسلمين. فقد وَرَدَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ الله يُدْخِلُ في السَّهْمِ الوَاحِدِ ثلاثة نَفَرٍ الجَنَّة: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخيْرَ، والرَّامِيْ بِهِ، ومُنْبِلَه» الحديث. رواه أبو دود.
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له» . الحديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/7)
وَعَنْ زَيْدْ بن خَالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ جَهَزَ غَازيًا في سَبيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلف غازيًا في أهْله بِخَير فَقَدْ غزا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يلحَقُ المؤْمِن مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ ونَشَرهُ، وَوَلدًا صَالحًا ترَكَهُ، أو مُصْحَفًا ورَّثهُ، أو مَسْجِدًا بَنَاهُ، أوْ بَيْتًا لاِبْن سَبِيْل بَنَاه، أوْ نَهْرًا أجْرَاهُ، أوْ صَدَقَةَ أخْرِجَهَا مِنْ مَالِهِ في صِحَّتِهِ وحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ» . رواه ابن ماجَة، وابن خُزَيْمَة.
وَرَوَاهُ البَزَّارُ مِن حَدِيث أنسٍ إِلا أَنَّهُ قال: «سَبْعٌ تَجْرِي للْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وهو في قبره: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أوْ كَرى نهَرًا، أَوْ حَفَرَ بئرًا، أوْ غَرسَ نَخْلاً، أوْ بَنَى مَسْجِدًا، أوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ له بَعْدَ مَوْتِهِ» .
فائدة عظيمة النَّفع
وَقَفَ قومَ على عَالِمَ فَقَالوا: لَهُ إِنَّا سَائِلِوُكَ أفَمُجِيبُنَا أَنْتَ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثُرُوْا فإِنَّ النَّهار لَنْ يَرْجِعَ، والعُمَرَ لَنْ يَعُودْ، والطَّالِبَ حَثْيث في طَلَبَه، قالوا: فأوْصِنَا، قال: (تَزوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفرِكْمْ، فَإنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أبْلَغَ البُغْيَةَ، ثُمَّ قَالَ:الأيَّامُ صَحَائِفَ الأعمال فخلِدُهْا أحْسَنَ الأعمال، فإنَّ الفُرصَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَاب والتَّوانِيَ مِن أخْلاق الكُسالى، ومنَ اسْتَوطْنَ مَرْكَبَ العَجْز عَثَرَ بِه، وتَزَوَّجَ التَّوانِيَ بالكَسل فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الخُسْران) أ. هـ.
شعرًا:
مَا مَضَى فَاتَ وَالمُؤَمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ التي أَنْتَ فِيهَا
فائدة عظيمة النَّفع
أَشْرَفُ الأشْيَاءِ قَلْبُكَ وَوَقْتُكَ، فإذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وضيَّعْتَ وَقْتَكَ، فَمَاذَا بَقِيَ مَعَك، كلُ الفَوَائِدِ ذَهَبَتْ.
شعرًا:
وَذَكِّرْ بَالْتُقَى قَلْبًا غَفُولاً ... فَلَوْلا السَّقْيُ مَا نَمَتْ الزُّرُوعُ(1/8)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
خُطْبَةِ الْكِتَاب
الحمدُ للهِ الذي تَفَرَّدَ بالجلالِ والعظمةِ والعِِزِ والكبرياءِ والجَمَالِ وأَشْكرُهُ شُكرَ عَبدٍ مُعْترفٍ بالتقصيرِ عن شكرِ بعض ما أوليهُ مِن الأنعام والأفضال وأَشهد أنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيَكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم -.
وَبَعْدُ فَبِمَا أَنِي رَأَيتُ كِتَابَ المَنَاهلِ الحسان مطلوبًا ومرغوبًا فيه ورأَيتُ أَني أَوّسِعُهُ وَأَزِيدُ فيهِ زِيادَاتٍ كَثِيْرَةً مَا بَيْنَ حِكَمٍ وأَحْكامٍ وَقَوَاعِدَ وَمَوَاعظَ وآدابٍ وأخلاقٍ وقصائِدَ زُهْدياتٍ لِيَكُونَ جَامِعًا نَافِعًا صَالِحًا ومُنَاسِبًا لِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ وِللْعَالِمِ والمُتَعَلِّمِ وِللأئَمَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَبَذَلْتُ وُسْعِي وَاعْتَنَيْتُ جُهْدِي في تَهْذِيْبِهِ وَتَنْقِيْحِهِ وَتَرْتِيْبِهِ وَقَدْ أكْمَلتُ تَشْكِيْلَهُ لِيَعْذُبَ لِلسِّامِعِ والقَارِئِ وَيَسْهُلَ عَلَيهِ.
وأَسْأَلُ اللهَ الحَيَّ القَيُّومَ العَلِيَّ العَظِيمَ القَويَّ العَزِيزَ ذَا الجَلالِ والإِكرامِ الوَاحدَ الأحدَ الفردِ الصَّمدَ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدْ الحَلَيمَ الكَريمَ القَريبَ المُجِيْبَ أَنْ يَجْعَلَ عَملَنَا خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ مُقَرِّبًا لَنَا وَلِمنْ قَرَأَهُ وَسَمِعَهُ لَدَيْهِ في جَناتِ النَعِيْمِ وأَنْ يَأَجرَ مَنْ طَبَعَهَ وَمَنْ أَعَانَ عَلى طَبْعِهِ وَمَنْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ مَدَى اللَّيَالي والأَيَّام وأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلَهُ وَلِوَالِدِيْنَا وَوَالِدَيْهِ، وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِهِ إِنَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين، وصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
عبد العزيز بن محمد السَّلمان(1/9)
آخر:
لا تَبْكِ للدُّنْيَا وَلا أَهْلَهَا ... وَابْكِ لِيوْمٍ تَسْكُنِ الْحَافِرَةْ
وَابْكِ إِذَا صِيحَ بأَهْلِ الثَّرَى ... فاجْتَمَعُوا في سَاعَةِ السَّاهِرَةْ
وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ ... آمَالُ مَنْ يَسْكُنُكِ الآخِرَةْ
آخر:
قِفْ دُونَ دِينِكَ فِي الْحَيَاةِ مُجَاهِدًا ... إِنَّ الْحَيَاة عَقِيدَةٌ وَجِهَادُ
آخر:
إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرِكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِن الإِنْفَاقِ في غَيْرِ وَاجِبِ
وَسَمَّيْتُ هَذَا الكِتَابَ الجَامِعَ المُسَلِّي لِقَاِرِئِه وَسَامِعِهِ:
(مَوَارِدَ الظَّمْآنِ لِدُرِوْسِ الزَّمَان)
حِكَم وأَحْكَام وَقَواعِد وَمَوَاعِظ وآداب وأَخْلاق حِسان
أَسِيرِ خَلْفَ رِكَابِ النُّجْبِ ذَا عَرَجٍ
>
مُؤَمَّلاً جَبَرَ مَا لاقَيْتُ مِنْ عِوَجِ
فَإِنَّ لَحِقْتُ بِهِمْ مِنْ بَعدِ مَا سَبَقُوا
>
فَكَمْ لِرَب السَّمَا فِي النَّاسِ مِنْ فَرجِ
وَإِنْ ظَلَلْتُ بقَفْرِ الأرضِ مُنْقَطِعًا
>
فَمَا عَلَى عَرَجٍ فِي ذَاكَ مِنْ حَرَجِ
(هَذَا الكِتَاب وقف لله تَعَالى عَلَى طَلبة العلمْ) وَغَيرهمْ مِمَنْ يُريد الانتفَاع به واحْذر أُيُّهَا الأخ من بَيْعِهِ أوْ تَعْطِيْلِهِ.
بِاللهِ يَا قَارِئًا كُتُبِي وَسَامِعَهَا ... أَسْبِلْ عَلَيْهَا رِدَاءَ الْحُكْمَ والْكَرَمِ
وَاسْتُرْ بِلُطْفِكَ مَا تَلْقَاهُ مِنْ خَطَاءٍ ... أَوْ أَصْلِحَنْهُ تُثَبْ إِنْ كُنْتَ ذَا فَهَمِ
فَكَمْ جَوادٍ كَبَى والسَّبْقُ عَادَتُه ... وَكَمْ حُسَامٍ نَبَا أَوْ عَادَ ذُو ثُلْمٍ
وَكُلُّنَا يَا أَخِي خَطَآءُ ذُو زَلَلٍ ... والْعُذْر يَقْبَلُهُ ذُو الْفَضْلِ والشِّيَمِ(1/10)
آخر:: ... مَن الذِّي مَا سَاءَ قَطْ ... وَمَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ
آخر:
أَخَا الْعِلْمِ لا تَعْجَلْ لَعِيْب مُصَنِّفٍ ... وَلَمْ تَتَيَقَّنْ زَلَّةً مِنْهُ تَعْرَفُ
فَكَمْ أَفْسَدَ الرَّاوِي كَلامًا بِنَقْلِهِ ... وَكَمْ حَرَّفَ الْمَنْقُول قَوْمٌ وَصَحَّفُوا
وَكَمْ نَاسِخٍ أَضْحَى لِمَعْنَى مُغَيَّرًا ... وَجَاءَ بِشَيْءٍ لَمْ يُرِدْهُ الْمُصَنَّفِ
آخر ... سَلِ الإِلَهَ إِذَا نَابَتُكَ نَائِبَةٌ ... فَهُوَ الذِيِ يُرْتَجَى مِنْ عِنْدِهِ الأَمَلُ
فَإِنْ مُنِحَتَ فَلا مَنٌ وَلا كَدَرٌ ... وَإِنْ َرَدِدْتَ فَلا ذِلٌ وَلا خَجَلُ
(فصل)
الأركان الستة وكيفية الإيمان بها:
الأولُ: الإيمانُ بالله جَلَّ جَلالُه:
وهو الاعتقاد الجازم بأن الله رَبَّ كُلّ شَيءٍ ومَلِيكهُ وأنَّه الخَالِق الرازق المُحْيِي المِمُيْت المُدَبِّر لِجمَيع الأُمور.
وأنه المستحق لأنْ يُفْرَدَ بالعُبُودِيَّةِ والذَّلِ والخُضُوعِ وجَمِيعِ أَنواع العِبادة، وأنه المتصفُ بصفاتِ الكمال المنزه عن كل عيبٍ ونقص، وهذا هو الأساس الأول الذي يَقُوم بِنَاء شَخْصِيَّةِ المُسْلِمِ عليه.
شعرًا: ... عَلَيْكَ بِتَوْحِيدِ الإِلِهِ فَإِنَّهُ ... هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى بِهَا يُتَمَسَّكُ
آخر ... تَأَمَّلْ صحِيفَاتِ الْوُجُود فَإِنَّهَا ... مِنْ الْجَانِبِ السَّامِي إِلَيْكَ رَسَائِلُ
وَقَدْ خَطَّ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ... أَلا كُلَّ شَيْء مَا خَلا الله بَاطِلُ
2- الركن الثاني: الإيمان بالملائكة:
الإيمان بالملائكة: هو التصديقُ الجازمُ بأَنَّ لله ملائكةً مَوْجُودِينَ مَخلوقِينَ مِن نُور، وأنهم كَما وصَفَهم الله عبادٌ مُكْرمُونَ يُسبحونَ الليلَ والنهارَ لا يَفْتُرون وأنهم لا يَعْصُون الله ما أَمرهم وَيَفعلون مَا يُؤَمَرون، وأنَّهم قَائِمِونُ بِوَظائِفهم التِي أَمَرَهَمُ الله بالقيام بها.(1/11)
ويِجبُ الإِيمانُ على التفصيَلِ بمن وَرَدَ تَعْيينهُ باسمهِ المخصوصِ كَجبرِيل ومكيائيل وإسرافيل ورضوان ومَالك، فَجبريلُ هو الموكلُ بأَداءِ الوَحْي وهو الروحُ الأمين، ومِيْكَائِيلُ المُوكلُ بالقَطْرِ، وإسرافيلُ الموكلُ بالصورِ، ومَلَكُ الموتِ الموكلُ بِقَبْضِ الأَرْوَاحِ.
ومنهم الموكلُ بأعمالِ العِباد، وهُمْ الكرَامُ الكَاتُبِون، ومنهم الموكلُ بِحفْظِ العَبْدَ مِن بينَ يديهِ ومن خَلْفهِ وهُمُ المعَقّبَاتُ، ومنهم الموكلُ بالجنةِ ونَعيْمِهَا وهُمْ رِضوانُ ومَن مَعَهُ.
ومنهم الموكلُ بالنَّارِ وعَذابها وهُمْ ماَلِكُ ومَن مَعَه، ومنهم الموكلُ بِفتنةِ القبر وَهم مُنْكَرٌ ونكِير، ومنهم حملةُ العرشِ.
ومنهم الموكلُ بالنُّطَف في الأرحامِ وكتابة ما يراد بها، ومنهم ملائكةٌ يَدخُلُون البيَتَ المعمورَ يَدخُلُه كُلَّ يومٍ سَبْعُونَ ألفًا ثم لا يَعُودُون، ومنهم ملائكةٌ سَيَّاحُونَ يَتّبعُون مَجالِسَ الذِكرِ وغير ذلك.
ويَجِبُ الإِيمانُ بِمن لم يَردْ تعْيِينهُ باسمهِ المخصوصِ أو تَعْيِينُ نوعِهِ المخصوصِ إجمالاً والله أعلم بعَدَدِهَم، قال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ} الآية، وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ} الآية.
فجعل الإيمانَ هو الإيمانُ بهِذِه الجملةِ، وسَمَّى مَن آمنَ بهذه الجملةِ مُؤْمِنين كما جَعَلَ الكافرين مَن كَفَر بهِذِه الجُملةِ بقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ} الآية.
وفي حديث جبريل: «أن تُؤْمِنَ باللهِ وملائكتهِ وكُتُبِه» الحديث فهذه الأصول اتَّفقَتْ عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا الرسلُ وَأتباع الرسل.(1/12)
إيمَانُنَا بالله ثُمَّ برُسلِهِ ... وَبِكُتبِهِ وَقِيَامَةِ الأبدَانِ
وَبِجُندِهِ وَهُم الملاَئِكَةُ الأولَى ... هُم رُسلُهُ لمصَالِحِ الأكوَانِ
هَذِي أصُولُ الدِّين حَقًّا لاَ أصُـ ... ـولُ الخَمسِ للقَاضِي هوَ الهَمَدَانِ
آخر ... وَبَعْدَ حَمْد الله أنّي أَشْهَدُ ... أنْ لا إله مُسْتَحِقًا يُعْبَدُ
إِلا إِلا لَهُ الْوَاحدُ الْفَردُ الصَّمَدْ ... مَن جَلَّ عَنْ زَوْجٍ وَكُفْء وَوَلَدْ
وَأَنَّ طَه خَيْرُ مَنْ قَدْ أَرْسِلا ... يَدْعُو إِلى التَّوْحِيد سَائِرَ المَلا
صَلَّى عَلَيْهِ الله ذو الجلالِ ... مَا دَامَتِ الأَيْام والليالي
وآله وصَحْبهِ الْكِرَامِ ... السَّادَةِ الأَئمَّةِ الأَعلامِ
(فصل) :
3- الركن الثالث: الإيمان بكتب الله:
الإيمان بكتب الله هو التصديق الجازم بأن لله كتبًا أنزلها على أنبيائه ورسله وهي من كرمه حقيقة، وأنها نور وهدى، وأن ما تضمنته حق وصدق ولا يعلمن عددها إلا الله.
وأنه يجب الإِيمان بها جملة إلا ما سمي منها وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وموسى فيجب الإيمان بها على التَّفْصِيل.
قال الله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} ، وقال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ، وقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} فيجب الإيمان بها على التفصيل والبقية إجمالاً.
ويجب مع الإيمان بالقرآن وأنه منزل من عند الله الإيمان بأن الله تكلم به حقيقة، كما تكلم بالكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، وأنه المخصوص بمزية الحفظ من التغيير والتبديل والتحريف.
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .(1/13)
ومنزلة القرآن من الكتب المتقدمة كما ذكر الله فيه قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ، وقال: {َمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
قال المفسرون: مهيمنًا مؤتمنًا وشاهدًا على ما قبله من الكتب، ومصدقًا لها يعني: يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتغيير وتبديل، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو المردود.
وله يخضع كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} .
ويجب على كل أحد إِتباعُه ظاهرًا وباطنًا والتمسك به والقيام بحقه، قال الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} .
وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله فقال: «خذوا بكتاب الله وتمسكوا به» . وفي حديث علي مرفوعًا: «إنها ستكون فتن» . قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله» وذكر الحديث.
ومعنى التمسك به والقيام بحقه حفظه وتلاوته، والقيام به آناء الليل والنهار، وتدبر آياته وإحلال حلاله وتحريم حرامه، والانقياد لأوامره، والانزجار بزواجره، والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه، والعمل بمحكمه،(1/14)
والإيمان بمتشابهه، والوقوف عند حدوده، والذب عنه لتحريف الغالين المبطلين والنصيحة له بكل معانيها والدعوة إليه على بصيرة.
وفي جواب أهل العلم والإيمان: السلف متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أعلى منها درجة، فإنه قرر ما فيها من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلاً.
وبين الأدلة والبراهين على ذلك وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين.
وبين عقوبات الله لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها وبين ما حرف منها وبدل وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضًا ما كتموه مما أمر الله بِبَيَانِهِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِظْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزِقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا، واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ.
مِنْ أَهْمَلَ الدِّيْنَ لا تَأْمَن عَقَارِبَهُ ... وَلَوْ تَسَمَّى بإِخْلاصِ بِنِيَّاتِ
لآِدَمَ جَاءَ إِبْلِيْسٌ وَقَال لَهُ ... إِنّيْ لَكُمْ نَاصِحٌ فاسْمَعْ مَقَالاتِي
فَاقْسَمَ الخُبْثُ في رَبِيْ وَنَزَلَّهُمْ ... مِن الجِنَانِ إِلىَ دَارِ الأَذَيَّاتِيْ
وصلى الله عَلَى محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.(1/15)
(فصل) :
4- الركن الرابع: الإيمان بالرسل:
الإيمان بالرسل هو التصديق الجازم بأن لله رسلاً أرسلهم لإِرشاد الخلق في معاشهم ومعادهم. اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن لا يهمل خلقه، بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين.
فيجب الإيمان بمن سمى الله منهم في كتابه على التفصيل، والإِيمان جملة بأن لله رسلاً غيرهم، وأنبياء لا يحصى عددهم إلا الله ولا يعلم أسماءهم إلا هو جل وعلا.
قال الله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وعَدَدُ المذكورين في القرآن خمسة وعشرون وهم: آدم، نوح، إدريس، صالح، إبراهيم، هود، لوط، يونس، إسماعيل، إسحق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسى، هارون، اليسع، ذو الكفل، داود، زكريا، سليمان، إلياس، يحيى، عيسى، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ أَتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بِإصْلاحِ قُلُوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِه.
(فَصْلٌ) : وَمَوْضُوعُ الرِّسَالةِ: التَّبْشِيرُ والتَّنْذِير، قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
والحكمةُ في ذلك دعوةُ أُممهم إِلى عِبادةِ اللهِ وَحْدَهُ. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} وأفضل المرسلين أولو العزم، وهم المذكورون في سورة الشورى.
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ(1/16)
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} الآية، وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .
وأفضل أولياء الله أنبياؤه، وأفضل أنبيائه المرسلون، وأفضل المرسلين أولوا العزم، وأفضل أولي العزم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا.
صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد والحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس.
وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرق فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقًا وأولهم بعثًا، ومن حين بعثه الله جعله الفاروق بين أوليائه وبين أعدائه.
فلا يكون وليًا لله إلا من آمن به وبما جاء وابتعه ظاهرًا وباطنًا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أوليائه، بل من خالفه كان من أعدائه وأولياء الشيطان. أ. هـ. واللهُ أعْلَمْ، وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمْ.
(فَصْلٌ)
مَا يَجُوز عَلَى الرُسُلِ وما يَجِبُ عَلَينا نَحْوهمْ
الواجب علينا نحو الرسل والأشياء التي تجوز عليهم والأدلة على صدقهم وما أيدهم الله به: يجب علينا تصديقهم وأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمروا به وبينوه بيانًا واضحًا شافيًا كافيًا لا يسع أحدًا ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه.(1/17)
قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} ، وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، ويجب علينا الإيمان بأنهم معصومون من الكبائر.
وأما الصغائر فقد تقع منهم، والكتاب والسنة يدلان على ذلك ولكن لا يقرون عليها، بل يوفقون للتوبة منها ويجب احترامهم وأن لا يفرق بينهم.
ومَن كَفَر بنبيٍّ مِِن الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض.
فمن رد نبوته للحسد أو للعصبية أو للتشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا وإنما هو عن غرض وهوى وعصبية. أ. هـ.
ويجب الاهتداء بهديهم والائتمار بأمرهم، والكف عن ما نهوا عنه، ويجب الاعتقاد أنهم أكمل الخلق علمًا وعملاً، وأصدقهم وأبرهم وأكملهم أخلاقًا، وأن الله خصهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحد، وبرأهم من كل خلق رذيل.
ويجب محبتهم وتعظيمهم، ويحرم الغلو فيهم ورفعهم فوق منزلتهم، ويجوز في حقهم شرعًا وعقلاً: النوم، والنكاح، والأكل، والشرب، والجلوس، والمشي، والضحك، وسائر الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العالية.
فهم بشر يَعْتَرِيهم ما يعتري سائر أفراده فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام وتمتد إليهم أيدي الظلمة وينالهم الاضطهاد، وقد يقتل الأنبياء، كما أخبر الله بذلك في كتابه بقوله سبحانه: {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} .
ومن الأدلة على ما ذكرنا أولاً من أنه يجوز في حقهم أشياء قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي(1/18)
الْأَسْوَاقِ} وقال عز من قال: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} .
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء» ، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمرض ويتألم ويشتكي، وكان يصيبه الحر والبرد، والجوع والعطش والغضب والضجر والتعب، ونحو ذلك مما لا نقص عليه فيه.
شِعْرًا:
وَأَهَوَى مِن الفِتْيَان كُلَّ مُوَحِّدٍ ... مُلازِم ذِكْرِ الله في كُلِّ لَحْظَةِ
لَهُ هِمَّةٌ تَعلوُ عَلَى كُلِّ هِمَّةٍ ... كَمَا قَدْ عَلاَ القُطْبُ النُّجُوم العَلِيَّةِ
اللَّهُمَّ إِنَا نَسأَلُكَ باسْمِكَ الأَعْظم الأَعَز الأَجَلَ الأَكرمِ الذي إذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وإذَا سُئِلْتَ بِهِ أعْطَيْتَ، ونَسْأَلُكَ بوجهِكَ الكَريم أكْرَمَ الوُجُوه وأَعَزَّ الوُجُوه، يَا مَنْ عَنَتْ لَهُ الوُجُوهُ، وخَضَعَتْ لَهُ الرّقابُ، وخَشَعَتْ لَهُ الأَصْواتُ، يا ذَا الجَلال والإِكرام، يَا حَيُّ يا قَيُّوم يا مَالِكَ الملك يا مَن هُو على كل شيء قدير، وبكُلّ شيءٍ عليم، وبكل شيءٍ مُحِيط، يا مَن لا يَعْزُبُ عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، نسأَلُكَ أن تَغْفِر سِيئاتِنَا وتُبَدْلْهَا بِحَسَنَات يا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ أنظِمْنَا في سِلْكِ عِبَادكَ المخلصينَ ووفقْنَا للقِيَامِ بأَرْكانِ دِينكِ القَويمِ وَنَجِّنَا مِن لَفَحَاتِ الجَحِيمِ وأَسْكِنَّا في جَناتِ النَّعيم، واغفرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وَأَمَّا الأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِ الرُسُلِ فَكَثِيرة، وأَعْظَمُهَا شَهَادَةُ اللهِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقون. قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وقال عز شأنه: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} .(1/19)
وقال عز من قائل عن إسماعيل عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ، وقال عن إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} ، وقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب إلى غير ذلك من الأدلة، فهم أصدق الخلق على الإطلاق، عليهم أفضل الصلاة والسلام، وأيدهم بالدلائل الدالة على صدقهم في دعواهم الرسالة.
فمن أعلام نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن العظيم الذي أعجز الورى كلهم، ومثل انشقاق القمر، وحراسة السماء بالشهب ومعراجه إلى السماء، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكفاية الله أعداءه وعصمته من الناس، وإجابة دعائه، وإعلامه بالمغيبات الماضية، والمستقبلة.
فالقرآن جاء به ذكر عن آدم ونشأته وما وسوس به إليه إبليس وما وقع له من الهبوط إلى الأرض بعد أن كان في الجنة وحدثنا عن نوح عليه السلام وما لقيه من قومه من أذى وسخرية.
وما دعا الله به وما أرشده الله إليه من صنع الفلك وركوبه وإنجائه وأصحاب السفينة ودعوته لابنه وعصيانه له، وانهمار السماء، وتفجر الأرض عيونًا، وغرق الكافرين، ونجاة المؤمنين.
وأخبر القرآن عن موسى عليه السلام، وما تم عند ولادته، وما وقع له في مصر، وما حدث له في مدين، وما رآه في جبل طور، وما كف به من أعباء الرسالة، وما دار بينه وبين فرعون من حوار، وما جرى من السحرة، وما انتهى إليه أمر فرعون وملئه وموسى وقومه.
وأخبر القرآن الكريم عن عيسى وأمه عليهما السلام، وما وقع لهما من(1/20)
الخوارق، وما صنعه لهما بنوا إسرائيل من مكائد، وأخبره عن غيرهم من الأنبياء. قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الآيات.
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} الآية. وقال: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} .
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلمها عن مشاهدة ولكن أعلمه إياها الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} .
وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور غيبية عن القرآن. قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} الآية، وتحقق الوعد وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} الآية. وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} ، وقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية، فكان ما أخبر به على أتم الوجوه.
ومن هذا الباب إخباره عن مكنون الضمائر فيما أتى به من القرآن فقال: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وقال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} إلى غير ذلك من الآيات.
قال الشيخ: ومثل إخبار أهل الكتاب قبله، وبشارة الأنبياء به. ومثل إخبار الكهان والهواتف به، ومثل قصة الفيل، التي جعلها الله آية في عام مولده من العجائب الدالة على نبوته.
ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي ترجم بها الشياطين، بخلاف(1/21)
ما كانت العادة عليه قبل مبعثه، وبعد مبعثه، ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله من غير أن يعلمه إياها بشر. أ. هـ.
وكما أيد الله موسى بالآيات البينات، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وكما أيد الله سائر رسله، مع انضمام ذلك إلى أحوالهم الجليلة، وأخلاقهم الفاضلة الجميلة، من سلامة الفطرة والعفاف، والكرم والشجاعة، والعدل والنصح.
وقال: ولا ريب من أن من لقي الله بالإِيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملاً مقرًا بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها أن يكون بذلك من المؤمنين، إذ الإِيمان بكل فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول. أ. هـ.
وقال: ضمن الله السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك، فطاعة الرسول هي مناط السعادة وجودًا وعدمًا، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق بين الناس فدل الخلق بما بينه لهم.
وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فمن اجتهد بطاعة الله ورسوله بحسب الاستطاعة كان من أهل الجنة والله يرفع درجات المتقين المؤمنين بعضهم على بعض بحسب إيمانهم وتقواهم. أ. هـ.
أَلا إِنَّ السِباقَ سِباقُ زُهدٍ ... وَما في غَيرِ ذَلِكَ مِن سِباقِ
وَيَفنى ما حَواهُ المُلكُ أَصلاً ... وَفِعلُ الخَيرِ عِندَ اللَهِ باقِ
سَتَألَفُكَ النَدامَةُ عَن قَريبٍ ... وَتَشهَقُ حَسرَةً يَومَ المَساقِ
أَتَدري أَيُّ ذاكَ اليَومِ فَكِّر ... وَأَيقِن أَنَّهُ يَومُ الفِراقِ(1/22)
فِراقٌ لَيسَ يُشبِهُهُ فِراقٌ ... قَدِ اِنقَطَعَ الرَجاءُ عَنِ التَلاق
آخر:
إني أبثك من حديثي ... إن الحديث له شجونُ
فارقت موضع نومي ... ليلاً ففارقني السكونُ
قل لي فأولَ ليلةٍ ... في القبر كيف تَرى تَكُونُ
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمهَا وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ ثَبّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثّابِتِ وَأَيدنَا بِنَصْرِكَ وَارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِكَ.
اللَّهُمَّ وَفِقنا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وأيْقِظْنَا مِن سِنةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَأرزِقْنَا الاستعدادَ لذَلِكَ اليَوْم الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإِحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنَانِكَ واجعلنا مِن عِبادِكَ الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تَحرِمِنَا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : 5- الركن الخامس: الإيمان بالبعث:
البعث لغة: التحريك والإثارة. وشرعًا: إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها، فيخرجون من الأَجْداث أحياء مهطعين إلى الداعي، كما ذكر الله تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} .
وقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} الآيتين.
وقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .
{وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُل كُونُواْ(1/23)
حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
وقال: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} .
وقال: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} .
وقال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} .
وقال: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} الآيتين.
وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} ، وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
وقال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} .
وقال: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} .
وقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} .
وقال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} .
وقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} .
6- الركن السادس: الإيمان بالقدر:
الإيمان بالقدر: التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج عن مشيئته.
وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ، وأن الله خالق أفعال العباد من الطاعات والمعاصي.
ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم وجعلهم مختارين لأفعالهم غير مجبورين(1/24)
عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم وإرادتهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وبهذا الركن تتم الأركان.
أَفْعَالُنَا مَخْلُوقَةٌ لله ... لَكِنَّها كَسْبٌ لَنا يَا لاهِيْ
وكُلَُّ مَا يَفْعَلُه العَبادُ ... مِن طَاعَةٍ أو ضِدّهَا مُرَادُ
لِرَبِّنَا مِن غَيْرِ ما اضْطِرارِ ... مِنْهُ لَنَا فافْهَمْ وَلا تُمارِي
(فائدة عظيمة النفع)
ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أًفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لا إِلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمِلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إِليْهَا. قَال بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا:
فَقُمْ وَحقّقْ دِينَكَ القَوِيمَا ... بِفَهْمِ مَعْنَاهَا لِتَسْتَقِيمَا
وَهُوَ بِأَنْ ثُثبِتَ مَا قَدْ أَثْبَتَتْ ... لِرَبِنَا كَذَاك تَنْفِي ما نَفَتْ
اللَّهُمَّ إِلَيْكَ بِدُعَائِنَا تَوَجَّهْنَا وَبِفنائكَ أَنَحْنَا وَإِيَّاكَ أَمَّلْنَا وَلِمَا عِنْدَكَ مِن الكَرَمِ وَالجُودِ وَالإحْسَانِ طَلَبْنَا وَمِنْ عَذَابِكَ أَشْفَقْنَا وَلِغُفَرانِكَ تَعَرَّضْنَا فاغَفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
الفصل الأول
في التوبة من المعاصي
اعْلَمْ وَفَقَنَا اللهُ وإياكَ وَجَميعَ المُسلمينَ: أن الذنوبَ حجابٌ عن اللهِ، والانصرافُ عن كِلِ ما يُبْعِدُ عن اللهِ واجبٌ، وإنما يَتمُ ذلكَ بالعلم والندمِ والعزمِ، فإنَه مَتَى لَمْ يَعْلَمْ أَنْ الذنوبَ أسْبابُ البُعْدِ عن اللهِ لَمْ يَنْدَم على الذنوب ولم يَتَوَجَّعْ بِسَبَبِ سُلُوكِهِ طَرِيقَ البُعْدِ، وإِذَا لَمْ يَتَوَجَّعْ لَمْ يَرْجِعْ، والتَّوْبَةُ: الرجوعُ عَن المَعْصِيةِ إلى الطاعةِ وهِيَ واجبةٌ مِنْ كل(1/25)
ذَنْبٍ، فإن كانت المعصية بينَ العبدِ وبينَ ربِهِ تَعالى لا تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدمِيٍ، فلها ثَلاثَةُ شُروطٍ:
الأولُ: الإِقلاعُ عَنْ المعْصِيةِ التي هُو مُتَلَبِّسٌ بِهَا، وَعَلامَتُهُ مُفَارَقَةُ الذنب فَوْرًا.
الثاني: النَّدَمُ عَلَى فِعْلَها، وَعَلامَتُهُ طُوْلُ الحُزْنِ على مَا فَاتَ وورد عن ابن مسعودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «النَدمُ تَوبة» .
شِعْرًا:
يَتُوبُ عَلَى يَدِي قَوْمٌ عُصَاةُ ... أَخَافَتْهُم مِنَ البَارِي ذُنُوبُ
وَقَلْبِي مُظْلِمٌ فِي طُولِ مَا قَدْ ... جَنَى فَأَنَا عَلَى يَدِ مَن أتُوبُ
كَأنِّي شَمْعَةٌ مَا بَيْنَ قَوْمٍ ... تُضِيء لَهُمْ وَيُحْرِقُهَا اللَّهِيبُ
آخر:
أَلا مَنْ لِقَلبٍ في الهَوى غَيرَ مُنتَهِ ... وَفي الغَيِّ مِطواعٍ وَفي الرَشدِ مُكرَهِ
أُشاوِرُهُ في تَوبَةٍ فَيَقولُ لا ... وَإِِْن قُلتُ تَأتي فِتنَةٌ قالَ أَينَ هي
آخر:
عَلامَةُ مَنْ يَخْشَى الإِلهِ فؤادُهُ ... إذا صَدَرَتْ مِنْه المعاصِي تألْمَا
وأتَبْعَهَا حَالاً بِتَوبَةِ صَادِقٍ ... عن الذَّنْبِ في عَزْمٍ لهُ مُتَنَدِّمَا
الغَفْلة عن ذِكر الله وما ولاه أشد الأعداء ضَررًا على الإِنسان فإيَّاك أن تغفل عن ذكر الله ولا لحظة.
الثالثُ: العَزْمُ أَنْ لا يَعُوْدَ إلى معْصِيةٍ أبَدًا، وَعَلامَتُهُ التَّدَارُكُ لِمَا فَاتَ وَإصْلاحُ مَا يَأتي، فإنْ كَانَ المَاضِيْ تَفْرِيطًا في عِبادةٍ قَضَاهَا، أَوْ مَظْلَمةٍ أدَّهَا، أَوْ خَطِيئَةٍ لا تُوجِبُ غَرَامَةً حَزِنَ إِذْ تَعَاطَاهَا.
فإن فُقِدَ أَحَدُ الشُرُوطِ الثَّلاثِةِ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ. وإنْ كَانَتْ المعصيَةُ تَتَعَلَّقُ بآدميٍ، فَشُرُوطُها أرْبَعَةُ: الثلاثةُ الشُروطُ المذكورةُ، والرابعُ: أن يَبْرَأَ مِنْ حَقّ صَاحِبها، فإنْ كَانتْ مالاً أو نحوَهُ رَدَّهُ إِليهِ، إِنْ كانَ مَوْجُودًا(1/26)
أَوْ رَدَّ بدَلَهُ عندَ تَلَفِهِ مِن قِيْمَةٍ أو مِثْلٍ، وإنْ كَانَتْ حَدَّ قذفٍ وَنَحْوَه مَكّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وإنْ كَانَتْ غِيْبَةٍ اسْتَحَلَّهُ مِنْهَا إنْ كَانَ عَاقِلاً حَلِيمًا، يَغْلِبُ عَلَى الظَن أَنَّهُ إِذَا جَاءَهُ أخُوُهُ المُسْلِمُ نادِمًا تائبًا عَفَا عَنْهُ وَسَامَحَهُ، وَإِلا فَلْيَسْتَغْفرَ لَهُ. لِمَا وَرَدَ عَن أنس قال: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنْ مِنْ كَفَّارَةِ الغِيْبَةِ أَنْ تَستغفرَ لِمن اغْتَبْتَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِنَا وَلَهُ» .
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَاْنَتْ عِنْدَهُ مظلمةٌ لأخِيهِ ِمْن عِرْضٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منهُ اليومَ قَبلَ أنْ لا يكونَ دِرْهَمٌ ولا دينارٌ، إنْ كانَ له عملٌ صالحٌ أُخِذَ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِئآتِ صَاحِبِهِِ فَحُمِلَ عَليه» .
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتًعالَى بِالتَّوْبَةْ، وَبيَّنَ مَا لِلِتَّائِبِينَ مِنَ الكَرَامَةِ والأِجْرِ، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
(فَائِدَةٌ عَظِيمَةُ النَّفْعِ)
مِنْ أَصُولِ النِّعَم نِعمةَ العِلْمِ فَهْيَ نِعْمَةٌ كُبْرَىَ يتَوقَّفُ عَليهَا رُقِيُّ الإِنْسَانِ وَسَعَادَتُهُ فَتَحْصِيلُهُ نِعْمَة والانتِفَاعُ بِهِ نِعْمَةْ، وَالنَّفْعُ بِهِ نِعْمَةْ، وتَخْلِيدُهُ وَنَقْلُهُ لِلأَجْيَال نِعْمَةْ، وَنَشْره للِنَّاسِ نِعْمَةْ، والدَّعْوَةُ إِلَيْهِ نِعْمَةْ، وَهَكَذَا ... إلخ. واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : قال ابنُ القَيّم رحمهُ الله: والنُّصْحُ في التوبِة يَتَضَمَّنُ ثَلاثَةَ أَشْيَاء: الأَولُ: تَعْمِيمُ جَمِيْعَ الذُنُوبِ واستغْراقُهَا بها بِحَيْثُ لا تَدَعُ ذَنْبًا إِلا تَنَاوَلَتْهُ، وَالثاني: إجماعُ العَزْم والصِّدْقِ بَكُلِّيَتِهِ عَلَيْهَا بحَيْثُ لا يَبْقَى تَرَدُدٌ ولا تَلَوُّمٌ ولا انْتظِارٌ بَلْ يُجْمِعُ كلَّ إِرَادَتِهِ وَعَزِيْمَتِهِ مُبَادِرًا بِهَا.(1/27)
الثالثُ: تَخْلِيصُهَا مِن الشَّوَائِبِ والعِلَلِ القَادِحَةِ في إخْلاصِهَا وَوُقُوعِهَا لِمَحْضِ الخَوْفِ مِن خَشْيَةِ اللهِ، والرَّغْبَةِ فِيمَا لَديْهِ، والرَّهْبَةِ مِمَّا عِندَهُ لا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وحرْمَتِهِ وَمَنْصِبهِ ورياسَتِهِ، أو لِحفْظِ حَالِهِ أو لِحِفْظِ قُوَّتِهِ وَمَالِهِ أو اسْتِدْعَاء حَمْدِ النَّاسِ أو لِهَربٍ مِن ذَمِّهمْ أَوْ لِئَلا يَتَسَلَّطْ عَلَيْهِ السُفَهَاءُ أو لِقَضَاءِ نَهْمَتِهِ مِن الدنيا أو لإِفلاسِهِ وَعَجْزِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِن العِلَلِ التي تَقدَح في صِحَّتِهَا وَخُلُوصِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أ. هـ.
وأخْبَرَ أَنَّهُ غَفَّارٌ لِذُنُوبِ التَّائِبينَ، فقال عَزَّ شأَنُه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وأخبرَ سبحانَه أنه يُحِبُ التوابين، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} .
وقال النَبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيُها النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ واستَغْفِرُوهُ فإني أَتُوبُ في اليوم مائةَ مَرة» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني لأستغفرُ اللهِ وأَتُوبُ إليهِ في اليومِ أكثرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّة» . رواه البخاري.
شعرًا:
لَيْسَ الظَرِيفُ بِكَامِلٍ في ظَرْفِهِ ... حَتَّى يَكُونَ عَن الحَرَام عَفِيفًا
فإذا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمِ رَبِهِ ... فَهُنَاكَ يُدْعَى في الأنامِ ظَرِيفًا
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهُ أَشَدُ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِليهِ مِنْ أَحدِكُم كانَ على رَاحِلتِه بأرض فلاةٍ فانفَلَتَتْ منه وَعَليهَا طَعامُه وَشَرَابُه فأَيس منها، فأتَى شَجرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا وَقَدْ أَيسَ مِن رَاحلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُو كَذَلِكَ(1/28)
إِذْ هُوَ بِهَا قائِمةً عندهُ فأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَال مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وأنا رَبُكَ، أخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ» . الحديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَعَالى يَبْسُطُ يَدَهِ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسيءُ النهارِ ويَبْسُطُ يَدَهَ بالنهار ليَتُوبَ مُسِيءُ الليلُ حتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مَغُرِبِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
والأحاديثُ في هذا كَثِيرةٌ، والإجماعُ مُنْعَقِدٌ عَلى وُجُوبِ التَّوبَةِ لأَمْرِ اللهِ ورسولِهِ بها، ولأن الذنوبَ مُهْلِكاتٌ مُبْعداتٌ عن اللهِ فَيَجِبُ الهَرَبُ مِنْها على الفَورِ ولْيَحْذَرْ الإِنسانُ كُلَّ الحذرِ مِن الذنوبِ الكبَائِر والصَّغائِر. وُوُجُوبُ التوبةِ مِن الكبائر أَهَمُّ وآكدُ، والإصْرارُ على الصغيرةِ أيضًا كبيرةٌ، فلا صَغِيرةَ مع الإِصْرارِ ولا كَبيرةَ مَعَ التوبةِ والاسْتِغْفارِ. وَتَواتُرُ الصَّغَائِرِ عظيمُ التأْثيرِ في تسْويدِ القلب وهوَ كَتَواتُر قَطَراتِ الماءِ على الحَجَر، فإِنه يُحْدِثُ فيهِ حُفْرَةً لا مَحَالةَ مَعَ لِينَ الماءِ وَصَلابةِ الحجرِ فَعَلَى العاقِل أن يَسْتَرصِدَ قَلبَهُ باسْتِمْرَارٍ ويُراقِبَ حركاتِهِ وَيُسجّلَ تَصَّرُفَاتِهِ ولا يَتَسَاهلَ ولا يقولَ إنها مِن التوافِهِ الصِغارِ وَصَدَقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ يقولُ: «إِياكُمْ وَمُحَقّراتِ الذُنُوب فإِنهنَّ يجْتمعْنَ عَلَى الرَّجُل يُهْلكنَهْ» .
فوائد: انبَسَطَ آدَمُ في أكْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فيهَا فَكَانَتْ سَبَبَ نُزُولِهِ مِنَ الجَنِّة وَنوح كَلِمَة وَاحِدَةٌ عَلَى غَيْرَ وجْههَا نُوْدِي {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ} - الآية، وخليل الرَّحمنُ لَم يَكُن منه إلا هَفْوةٌ وَاحِدَةٌ فكَم تضرع واسْتَغْفَر، ثم يُونُسَ غَضْبَةٌ واحِدة فَسُجِنَ في بَطْن الحُوتْ. أ. هـ.
شِعْرًا:
ولا تَحِتقر كيدَ الضعِيف فربما ... تِموت الأفاعي من سُمُوم العَقَارِبِ
وقد هدَّ قَدْمًا عَرشَ بِالْقِيس هُدهُدٌ ... وَخرب حَفر الفأر سَدَّ مآربِ
آخر:
لا تَحْقِرَنَّ عَدُوًا لأنَ جَانِبُهُ ... وَلَوْ يَكُونُ قَلِيلَ الْبَطْشِ والْجَلَدِ
فَلِذُبَابَةِ في الْجُرْحِ الْمَدِيدِ يَدٌ ... تَنَالَ مَا قَصَّرَتْ عنه يَدُ الأسَدِ(1/29)
آخر: ... ولا تَحْقِرَنَّ عَدوًا رَمَا ... ك وإنْ كان في سَاعِدَيْهِ قِصَرْ
فَإنَّ السُّيُوفَ تَحُزُّ الرِّقَا ... بَ وَتَعْجَزُ عَمَّا تَنَالُ الإِبَرْ
آخر: ... لا تَهَاوَنْ بِصَغِيرٍ من عَدَا ... فَقَدِيمًا كَسَرَ الرُّمْحَ الْقَلَمُ
آخر ... لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرًا في مُخَاصَمَةٍ ... إِنَّ الْبَعُوضَةَ تُدْمِي مُقْلَةَ الأَسَدِ
وكما أنَّ خيرَ الأعْمالِ الصالحةِ أدْوَمُها وإنْ قَلَّ، وأيضًا الكبائرُ قَلَّما تَقَعُ مِن غِير سَوابِقَ وَمُقَدِّماتٍ من الصَغَائِر، فَمَثَلاً الزنا - والعِياذُ باللهِ - قَلّمَا يَقَعُ فَجَأَةً بل تَتَقَدَّمُ عليهِ مُرَاوَدَةٌ أو قُبْلَةٌ أو لمسٍ.
شعرًا ... أَأَحُورُ عَنْ قََصْدِي وَقَد بَرَحَ الخَفا ... وَوَقََفْتُ مِنْ عُمْرِي القَصِيرِ عَلى شَفا
وَأَرَى شُؤونَ العَينِ تُمسِكُ ماءَهَا ... وَلَقَبلَ ما حَكَتِ السَحابَ الوُكَّفا
وَأَخالُ ذاكَ لِعِبرَةٍ عَرَضَت لَها ... مِن قَسوَةٍ في القَلبِ أَشبَهتِ الصَفا
وَلَقَلَّ لي طولُ البُكاءِ لِهَفوَتي ... فَلَرُبَّما شَفَعَ البُكاءُ لِمَن هَفا
إِنَّ المَعاصِيَ لا تُقيمُ بِمَنزِلٍ ... إِلا لِتَجعَلَ مِنهُ قاعاً صَفصَفا
وَلَو أَنَّني داوَيتُ مَعطَبَ دائِها ... بِمَراهِمِ التَقوى لَوافَقتِ الشِفا
وَلَعِفتُ مَورِدَها المَشوبَ بِرَنقِها ... وَغَسَلتُ رَينَ القَلبِ في عَينِ الصَفا
وَهَزَمتُ جَحفَلَ غَيِّها بِإِنابَةٍ ... وَسَلَلتُ مِن نَدَمٍ عَلَيها مُرهَفا
وَهَجَرتُ دُنيا لَم تَزَل غَرّارَةً ... بِمُؤَمِّليها المُمحِضينَ لَها الوَفا
سَحَقَتهُمُ وَدِيارَهُم سَحقَ الرَحا ... فَعَلَيهُمُ وَعَلى دِيارِهُم العَفا
وَلَقَد يُخافُ عَلَيهِمُ مِن رَبِّهِم ... يَومَ الجَزاءِ النارَ إِلا إِن عَفا
إِنَّ الجَوادَ إِذا تَطَلَّبَ غايَةً ... بَلَغَ المَدى مِنها وَبَذَّ المُقرِفا
شَتّانَ بَينَ مُشَمِّرٍ لِمَعادِهِ ... أَبَداً وَآخَرَ لا يَزالُ مُسَوِّفا
إِنّي دَعَوتُكَ مُلحِفاً لِتُجيرَني ... مِمّا أَخافُ فَلا تَرُدَّ المُلحِفا
قال بَعضُ العُلمَاء: مِن عَجيب ما نقَدْتُ مِن أَحْوالِ الناس كَثْرةَ ما(1/30)
ناحُوا على خرَابِ الدِّيارِ ومَوتِ الأقارِب والأسلافِ والتَّحَسُّرِ على الأرْزَاقِ بذمِ الزمانِ وأهلهِ وذِكرِ نكدِ العَيْشِ فيه.
وقَدْ رَأوَا مِن انهدامِ الإِسلامِ وَشعَثِ الأَديانِ وموت السُّننِ وظهورِ البدع وارتكاب المعاصِي وتقضي العُمَر في الفارغِ الذي لا يُجْدِي والقبيحِ الذي يُؤبق ويُؤذِي.
فلا أجدُ منهم مَن ناح على دِينِه ولا بَكى عَلى فارِطِ عُمِرهِ ولا آسَى على فائتِ دَهِره.
وما أرَى لذَلك سَبَبًا إلا قِلةَ مُبَالاتِهم في الأديان وعظمَ الدنيا في عُيونهم ضِدَّ ما كان عليه السلفُ الصالحُ يَرْضَون بالبلاغِ وَيَنُوحُونَ على الدين. أ. هـ.
وكُلُ كَسْرٍ فإِنْ اللهِ يَجْبُرُهُ ... وما لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ
آخر:
تُفَكّرُ في نُقْصَان مَالِك دَائِمًا ... وتَغْفل عن نُقْصَانِ دِينَكَ والعُمْرِ
وَيَثْنِيكَ خَوْفُ الفَقْرِ عن كُلِّ طاعةٍ ... وخِيفَةُ حَالٍ الفَقْرِ شَرٌ مِن الفَقْرِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوفيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكِ وَأَرَشِدْنَا إلى السَّعْيِ فِيمَا يُرْضِيكَ وأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، وَمَتَّعْنا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهكَ الكريم في جَنَّاتِ النَّعيمْ مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عليهم من النبيينَ والصّدّيقينَ والشَّهداءِ والصّالِحين، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمينَ، الأَحياءِ منهم والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/31)
الفَصْلُ الثَّاني: قال ابنُ القَيمِ رَحِمهُ اللهُ: وللمَعَاصِي من الآثارِ المُضِرَّةِ بالقلبِ والبَدَن في الدنيا والآخرةِ ما لا يَعْلمُهُ إلا الله، فمنها: أنها مَدَدٌ مِنَ الإِنسانِ يَمُدُّ بِهِ عَدُوَّهُ عليهِ وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بهِ على حَرْبِهِ ومِن عُقُوباتِها أَنَّهَا تَخُونُ العَبْدَ أَحْوَجَ ما يكون إلى نفْسِهِ. ومنها: أنها تُجَرِّئُ العبدَ على مَنْ لم يكُنْ يَجْتَرئُ عَليهِ. وَمنها: الطَبْعُ على القلب إذا تكاثَرَتْ حتى يَصيرَ صَاحبُ الذَنْب منَ الغافِلين، كما قال بعضُ السَلَفِ في قوله تَعَالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هو الذَنْبُ بعدَ الذنْب، وقال: هو الذَنْبُ على الذنْبِ حتى يَعْمَى القلبُ. وأصْلُ هذا أنَّ القَلْبَ يَصْدأُ مِنَ المعصيةَ فإِذا زادَتْ غَلَبَ الصدأُ حتى يَصيرَ رَانًا ثم يغلبُ حتى يَصِيرَ طَبْعًا وَقَفْلاً وَخَتْمًا فَيَصِيرَ القلبُ في غِشَاوةٍ وَغِلافٍ.
ومنها: إفْسادُ العقلِ فإنَّ العقلَ نُورٌ والمعصيةُ تُطْفئُ نُورَ العقلِ.
ومنها: أن العبدَ لا يَزالُ يَرْتَكِبُ الذُنوبَ حتى تَهونَ عليهِ وَتَصْغُرَ في قلبِهِ.
ومنها: أنْ يَنْسَلخَ مِنَ القلبِ اسْتِقْباحُها فتصيرَ لهُ عادةً.
ومنها: أنَّ المعاصِيِ تَزْرَعُ أَمْثَالَها وَيُوَلِّدُ بعضُها بَعضًا.
ومنها: ظُلْمَةٌ يَجِدُها في قلبِهِ يُحِسُّ بِها كما يُحِسُّ بِظُلْمَةِ الليلِ.
ومنها: أَنَّ المعاصِيَ تُوهنُ القلبَ والبَدَنَ أَمّا وَهَنُها لِلْقِلب فَأمْرٌ ظاهِرٌ بل لا تَزَالُ تُوهِنُهُ حتى تُزيلَ حَيَاتَهُ بالكُلِّيةِ وأمَّا وَهَنُها للبَدَنِ فإنّ المؤمن قُوتُهُ في قلبِهِ وكُلّما قَويَ قلبُهُ قَوِيَ بَدَنُه.
ومَنْها: أَنّ المعاصِيَ تَمْحَقُ بَرَكَةَ العُمْرَ إذْ أنَّ المَعاصِيَ كُلَّها شُرُورٌ.
وَمِنْهَا: شَمَاتةُ الأَعْدَاءِ فَإِنّ المَعَاصِيَ كُلَّها أَضْرارٌ في الدِّينِ والدُّنْيَا وَهَذَا مَا يُفَرِّحُ العَدُوَّ وَيُسِيءُ الصَّديقَ.(1/32)
وَمِنْهَا تَعْسِيرُ أُمُوِرِهِ فَلا يَتَوَجَّهُ لأِمْرٍ إِلا يَجِدُهُ مغْلَقًًَا دُوْنَه أَوْ مُتَعسِّرًا عَلَيْه.
وَمِنْهَا الْوَحْشَةُ التي تَحْصُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاس وَلاسِيَّمَا أَهلُ الخَيْر. وَمِنْهَا حِرْمَانُ دَعْوَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَعُوَةِ الملائِكَةِ لِلَذِيْنَ تَابُوا وَمِنْهَا أنَّ الذُنُوبَ تَدْخُلُ العَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
شِعْرًا:
ألا طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى وأضْحَى ... خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ ثِقْلِ الذُنُوبِ
يَغِيْبُ عَنِ الأباعِدِ والأدَانِيْ ... لِخَلْوتِهِ بِعَلام الغُيُوبِ
آخر:
لا تَقْنَطَنْ مِن عِظَمِ الذُنُوب ... فَرَبُّ العباد رحِيمٌ رؤوف
ولا تَمْضِيَنَّ عَلَى غَيْرِ زَادْ ... فإنَّ الطَّرِيقُ مَخَوْفٌ مَخُوفْ
وَمِنْهَا: أَنَّها تُحْدِثُ في الأرْضِ أَنَواعًا مِنَ الفَسَادِ في المِيَاهِ وَالهَوَاءِ والزّروِع وَالثَّمَارِ والمَسَاكِن.
وَمِنْهَا: أَنَّها تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نارَ الغَيرَةِ.
وَمِنْهَا: ذَهَابُ الحيَاءِِ الذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ القلبِ.
وَمِنْهَا: أَنَّها تُضْعِفُ في القلبِ تَعْظِيمَ الرّبِّ وَتُضْعِفُ وَقَارهُ في قَلْبِ العَبْدِ.
وَمِنْهَا: أَنّها تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللهِ لِعَبْدِهِ وَتَركهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُخْرِجُ العَبْدَ مِنْ دَائِرةِ الإِحْسَانِ وَتَمْنَعُهُ ثَوابَ المُحْسِنِين.
وَمِنْهَا: أَنَّها تُضْعِفُ سَيْرَ القَلبِ إلى اللهِ والدّارِ الآخِرَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّّها تَصْرِفُ القلب عنْ صِحَّتِهِ واسْتِقَامَتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّها تُعْمِي بَصِيرَةَ القلبِ وَتَطْمِسُ نُورَهُ وَتَسدُّ طُرقَ العِلْم.
وَمِنْهَا: أَنَّها تُصَغِّرُ النَفْسَ وَتَحْقِرُهَا وَتَقْمَعُهَا عن الخير.
وَمِنْهَا: أنَّ العَاصِيَ في أَسْرِ شَيْطَانِهِ وَسِجْنِ شَهَواتِهِ.
وَمِنْهَا: سُقُوطُ الجَاهِ والمَنْزلَةِ والكَرَامَةِ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّها(1/33)
تُوجِبُ القَطيعَةَ بينَ العبْدِ وَبينَ رَبِّهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَسْلُبُ صَاِحِبِهَا أَسْمَاءَ المَدْحِ والشرَفِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَجْعَلُ صَاحِبهَا من السَفَلَةِ. انتهى.
شعرًا: ... تَبِيتُ عَلَى المَعَاصِي والمَسَاوِي ... فَأَنْتَ بِغَفْلةٍ والله بِتَّا
يُديمُ عليكَ إِحْسَانًا وفَضْلاً ... وَأْنَت تُدِيمُ لُؤْمًا أًيْنَ كُنْتَا
وبالعِصْيَانِ تَخطُرُ باخْتيالٍ ... سَكِرْتَ مِنَ الغُرورِ وما صَحَوْتَا
أَفِقْ مِنْ َغَفْلَةٍ وَأِنْب لِرَبٍّ ... تَنَلْ منهُ السَّماحَ إذَا أَنَبْتَا
وتَظْفَرُ بِالقَبُولِ وبالأمَاني ... وفي الدَّارَيْن بالإِسْعَادِ فُزْتَا
آخر ... أَلا أَيُّها المُسْتَطْرِفُ الذَّنْبَ جَاهِدًا ... هُوَ اللهُ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ السَّرَائِرُ
فإنْ كُنْتَ لَمْ تَعْرِفْهُ حِينَ عَصَيْتَهُ ... فإنَّ الذِي لاَ يَعْرِفُ اللهُ كَافِرُ
وإِنْ كُنْتَ عن عِلْمٍ وَمَعُرفَةٍ بِهِ ... عَصَيْتَ فَأَنْتَ المُسْتَهِينُ المُجَاهِرُ
فَأَيَّةُ حَالَيْكَ اعْتَقَدْتُ فإنَّهُ ... عَليمٌ بِمَا تُطْوَى عَلَيْهِ الظَّمائِرُ
آخر ... أَحذِرْكَ أَحذِرْكَ لا أَحذِرْكَ واحدةً ... عَنِ المَعَاصِي وخُصَّ الشِرْكَ باللهِ
فإنَّهُ أَعْظَمُ الآثامِ أَجْمَعِهَا ... وَصَاحِبُ الشِّرْكِ أَعْدَى الناسِ لِلهِ
ومِن عُقُوباتِ الذُنُوب أنها: تَصْرِفُ القَلْبَ عن صِحَّتِهِ واسْتِقَامَتِهِ إلى مَرَضِهِ وانْحِرَافِهِ، فَلا يَزَالُ مَرِيضًا مَعْلُولاً لا يَنتفعُ بالأغذيةِ التي بها حَياتُه وصَلاحهُ.
فإن تأثير الذنوب في القلب كتأثير الأمراض في الأبدانِ، بل الذنوب أمراضُ القلوب ودَاؤُها، ولا دَواءَ لَهَا إلا تَركُها.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِجَ المُتَّقِينِ، وَخُصَّنَا بِالتَّوْفيقِ المُبِينُ، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنَ المقَرَّبِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وقد أجمع السائرون إلى الله أنَّ القلوبَ لا تُعطي مُنَاهَا حَتَّى تصل إلى(1/34)
مَوْلاَهَا، وَلا تَصِلُ إِلَى مَوْلاَهَا حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، ولا تكون صَحِيحَةٌ سَلِيمَةً حَتَّى يَنْقَلِبَ دَاؤُهَا فَيَصِيرَ نَفْسَ دَوَائِهَا.
ولا يَصِحُ لَهَا ذَلكَ إَلا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا، فهواها مرضُها، وشفاها مخالفتهُ، فإن استحكم المرض قتل أو كاد.
وكما أنَّ مَن نَهَى نفسهُ عن الهوى كانت الجنة مأواه، كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نَعيمًا البتة.
بل التفاوتُ الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نَعِيمَ الدنيا ونعيم الآخرة، وهذا أمر لا يصدق به إلا من بَاشَرَ قلبه هذا وهذا.
ولا تحسب أن قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة كذلك.
أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ .
وأي عذابٍ أَشَدُّ مِنَ الخوفِ والهمَّ والحزنِ وضيقِ الصدرِ وإعراضِهِ عن الله والدار الآخرة وَتَعَلُّقِهِ بغيرِ اللهِ وانقطاعِهِ عن اللهِ؟ بكل واد منه شعبة، وكل شيء تعلق به وأَحَبَّهُ مِن دونِ اللهِ فإنه يَسُومُه سُوءَ العذاب.
فَكُلُ مَنْ أَحَبَّ شيْئًا غيرَ اللهِ عُذِبَ به ثَلاثَ مَرَّات: في هذه الدار، فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل، فإذا حَصَل عُذِّبَ به حَال حُصولِهِ بالخوفِ مِن سَلْبِهِ وفواتِهِ والتنغيصِ والتنكيدِ عليه وأنواع المعارضات، فإذا سُلِبَهُ اشْتَدَّ عَذَابهُ عليه.
فهذه ثلاثةُ أنواع من العذاب في هذه الدار. وأما في البرزخ فعذاب يقارنه أَلَمُ الفراق الذي لا يرجى عوده، وألم فوات ما فاته مِن النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحِجَابِ عن الله، وألم الحسرةِ التي تقطع الأَكباد.(1/35)
فالهَمُ والغَمُ والحسرةُ والحزنُ تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عَمَلُها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذٍ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر.
فأين هذا مِن نعيم مَنْ يرقص قلبه طربًا وفرحًا وأُنسًا بربه، واشتياقًا وارتياحًا بحبه وطمأنينة بذكره؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه: وأطرباه. ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إِنهم لفي عَيْشٍ طيب.
وقال الآخر: مَسَاكينُ أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لَذيذَ العيشِ فيها وما ذاقوا أَطْيَبَ ما فيها. ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
ويقول الآخر: إِنَّ في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخر. فيا مَن باع حظه الغالي بأبخس الثمن، وغبن كُلَّ الغبنِ في هذا العقد وهو يرى أنه قد غَبَنَ، إذا لم تكن لك خبرة بقيمة السلعة فاسأل المقومين.
فيا عجبًا مِن بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللهُ مُشْتَرِيها، وثَمَنُها جَنَّةُ المأْوىَ، والسفيرُ الذي جرى على يده عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بِعْتَهَا بغايةِ الهوان!! .
هَل الدُّنْيَا وما فيهَا جَمِيعًا ... سِوَى ظِلٍّ يَزُولُ مَعَ النَّهَارِ
تَفَكَّر أَيْنَ أَصْحَابُ السَّرَايَا ... وَأَرْبَابُ الصَّوافِنِ والعِشَارِ
وَأَيْنَ الأَعْظَمُونَ يَدًا وَبَأْسًا ... وَأَيْنَ السَّابِقُونَ لِذِي الفِخَارِ
وَأَيْنَ القَرْنُ بَعْدِ القَرْنِ مِنهُمْ ... مِنْ الخُلَفَاء والشُمِ الكِبَارِ
كأَنْ لَمْ يُخْلَقُوا أَوْ لَمْ يَكُونُوا ... وهَلْ أَحَدٌ يُصَانُ مِنَ البَوارِ
واللهُ أَعْلَمْ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(1/36)
(فَصْلٌ) : ومن عقوباتها أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تَجدُ عاقِلين أَحَدهما مُطِيعٌ والآخرُ عاصٍ إِلا وَعَقْلُ المطيع منها أَوْفَرُ وأَكْمَلُ وفِكْرُهُ وَرَأَيُهُ أَسَدُّ والصوابُ قَرِينه.
ولِهَذا تِجَدُ خِطاب القُرآن إنما هو مَعَ أولى الألباب والعقول كقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله: {فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ونظائر ذلك كثيرة.
وكيف يكون عاقلاً وَافِرَ العقل مَن يَعصِي مَن هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده فيعصيه، وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مَسَاخِطه ويَستدعِي كل وقت غَضَبَه عليه ولَعْنَتَهُ له وإِبعادَهُ مِن قُرْبِهِ، وطَرْدهُ من بابه وإعراضَه عنه وخذلانَه له والتخليةَ بينه وبين نفسه وعدوه وحرمانه من رضاه وحبه، وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف ذلك مِن كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك مِن عقوبة أهل المعصية.
شِعْرًا ... يَا ذا الذي حَمَّلَهُ جَهْلُهُ ... مِن الْمَعَاصِي فَوْقَ ما يَقْوَى
البَسْ مِنْ التَّوْبَةِ دِيباجةً ... مُعْلَمَةً بالنُسْكِ والتَقْوَى
واعْلَمْ بأنْ لَسْتَ تُرَى نَاجِيًا ... إِنْ لَمْ تُطِعْ مَنْ يَعْلم السِّرَ والنَّجْوى
آخر:
قِفَا نَبْكي مِن عظمِ الذُنُوبِ وَفتكِها ... وَتَضْيِيْعِنا الأَوقات في غَيْر وَاجِبِ
ونَسْتَدْركُ الماضِي بِتَوبَةِ صَادِقٍ ... وَنَسْتَقْبِل الآتِي بِجِدِّ المُوَاضِبِ
وَنَعْمَلُ أَعْمَالاً حِسَانًا لَعَلّهَا ... تُكَفِّرُ عَنَّا مُفْضِعَات المَعَائِبِ
آخر: ... إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ لِبَاسًا من التُقَى ... تَقَلَّبَ عرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا
وَخَيْرُ خِصَالِ المرءِ طَاعَةُ رَبِهِ ... ولا خَيْرَ في مَنْ كَان لِلَّهِ عَاصِيًا
فأي عقل لمن آثر لذة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة.
ولولا العقل الذي تَقُوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون(1/37)
المجانين أحسن حالاً منه وأسلم عاقبة، فهذا مِن هذا الوجه.
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظَهَرَ لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ عقل عاصينا، ولكن الجائحة عامة، والجنون فنون.
ويا عجبًا لو صَحَّتِ العُقُولُ لَعَلمت أَنَّ الطرِيقَ الذي يحصل به اللذةُ والفرحةُ والسرورُ وطيّبُ العيشِ إنما هو في رضاء مَن النعيمُ كُلُه في رِضَاه والألمُ والعذابُ كله في سَخَطِهِ وغَضَبِهِ.
ففي رضاه قرةُ العيون، وسرورُ النفوس، وحياةُ القلوب، ولَذَّةُ الأرواح، وطِيبُ الحياةِ ولذةُ العَيشِ وأَطْيَبُ النعيم ممَّا لَو وُزنَ منه مثقالُ ذَرةٍ بنعيم الدنيا لم تَفِ بِهِ بل إذا حَصلَ لِلقلْبِ مِن ذلكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لم يَرْضَ بالدنيا وما فيها عَوضًا منه.
ومَعَ هذا فهو يَنْعَمُ بنَصِيبِهِ أَعْظَمُ مِن تَنَعُّم المترفين فيها، ولا يَشُوبُ تَنَعُّمهُ بذلك الحظِ اليسيرِ ما يشوبُ تَنَعُمُّ المترفين مِن الهموم الغموم والأحزانِ والمعارضاتِ، بل قد حَصَلَ على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما. انتهى.
لِلَّهِ قَومٌ أَطَاعُوا الله خَالقَهُمْ ... فآمَنُوا واسْتَقامُوا مِثْلَ ما أَمروا
والوَجُدُ والشوقُ والأفْكارُ قُوتُهمُوا ... ولازَمُوا الجِد والادْلاجَ في البُكَرِ
آخر ... إِذا ما كَسَاكَ لله سِرْبَاك صِحَّةٍ ... وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتًا يَحِلٌ ويعذُبُ
فلا تَغْبِطَنَّ المُتْرَفِينَ فَإِنَّهُمْ ... بِمِِقْدَارِ مَا يُكْسُونَ في الوْقَتِ يُسْلَبُ
آخر:
أَفادَتْني القَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ ... وَأَيُّ غِنىً أعَزَ مِنَ القَنَاعَةْ
فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ... وصَيّرْ بَعْدَهَا التَّقْوى بضَاعَةْ
تَحُزْ رِبْحَيْنِ تَغْنَى عن بَخِيلٍ ... وتَنْعَمُ في الجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَةْ
آخر ... أَخَصُّ الناس بالإِيمانِ عَبْدٌ ... خَفِيفُ الحَاذِ مَسْكَنُهُ القِفَارُ
لَهُ في اللِّيْلِ حَظٌ مِن صَلاةٍ ... ومِن صَوْمٍ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ(1/38)
وقُوتُ النَفسِ يَأتِي في كَفَافٍ ... وكَانَ لَهُ على ذَاكَ اصْطِبَارُ
وفيه عِفَّةُ وبِهِ خُمُولٌ ... إِليْهِ بالأَصَابعَ لا يُشَارُ
وقَلَّ البَاكِيَاتُ عَليّه لَمَّا ... قَضَى نَحْبًا ولَيْسَ لَهُ يَسَارُ
فَذَالِكَ قَدْ نَجا مِنْ كُلِّ شَرٍّ ... ولَمْ تَمْسَسْهُ يَوْمَ البَعْثِ نارُ
اللَّهُمَّ قَوِ إِيمانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وباليومِ الآخر وبالقدرِ خيرِه وشرِّهِ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِطَاعَتِكَ وَحُلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ وألْهِمْنَا ذِكرَكَ وَشُكْرَكَ واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلَّى اللهُ عََلَى نَبينا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ.
الفصل الثالث: قَالَ ابنُ القَيّم رَحمَه اللهُ تعالى: ممَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الذنوبَ والمَعَاصيَ تَضُرُ ولا بُدَّ أَنَّ ضَرَرَهَا في القَلْبِ كَضَرِرِ السُّمُومِ في الأبدان على اختلاف دَرَجَاتِها في الضَرَرِ. وهَلْ في الدُنيا والآخِرَةِ شَرٌّ وداءٌ، إِلا بِسَبَبِ الذُنوبِ والمعاصي؟
إِلى أَنْ قالَ رحِمَهُ اللهُ: فَمَا الذِي أَخْرَجَ الأَبَوَيْنَ مِنَ الجنةِ والنَعيمِ واللَّذةِ والبَهْجَةِ والسُرور إِلى دَارِ الآلام والأحْزَانِ والمصائِب وما الذي أَخْرجَ إبْليسَ مِنْ مَلَكوتِ السَمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وبَاطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَة وأَشْنَعَهَا وبَاطنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأشْنَعَ وَبُدّلَ بالقُرْب بُعْدًا، وبالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وبالجَمَال قُبْحًا، وبالجنةِ نارًا تَلظَّى، وبالإيمانِ كُفْرًا، وَبِمْوَالاةِ الوَليّ الحَميدِ عَدَاوَةً وَمُشَاقّةً، وبزَجَلِ التَّسْبيحِ والتَّقْدِيسِ والتَّهْلِيل زَجَلَ الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيَانِ، فَهَانَ عَلى الله تعالى غَايَة الهَوَانِ وسَقطَ مِنْ عَيْنِهِ غايَةَ السُقوط وحَلَّ عليْهِ غَضَبُ الربِّ تعالى فأهْوَاهُ، وَمَقتهُ أَكْبَرَ المَقْتِ فأرْدَاهُ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فاسِقٍ ومُجْرِمٍ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بالقِيادِةِ بَعْدَ تِلْكَ العِبَادَةِ والسِّيادَةِ.(1/39)
فَعِياذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخالفَةِ أَمْرِكَ وارْتِكَاب نَهْيِك.
وَمَا الذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الأَرْض كُلَّهمْ حَتَّى عَلا المَاءُ فَوقَ رُؤُوسِ الجِبَال. وَمَا الذي سَلّطَ الريحَ على قَومِ عادٍ حتى ألْقَتْهم مَوْتَى على وَجْهِ الأرض كأنَّهم أعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ودمَّرَتْ مَا مَرّتْ عليه مِنْ دِيارِهِمْ وحُرُوثِهِمْ وزُرُوعِهِمْ وَدَوابِّهِمْ حتى صارُوا عِبْرةً للأُمَمِ إلى يومِ القِيامة.
وَمَا الذي أرْسل على قومِ ثَمُودَ الصَيْحَةَ حتى قَطَعَتْ قُلوبَهم في أَجْوَافِهِمْ وَماتُوا عن آخِرِهم، وما الذي رَفَعَ قُرى اللُوطيّةِ حتى سَمعتْ الملائكةُ نِبَاحَ كِلابِهم ثم قَلَبَها عليهم فَجَعَل عالِيها سافِلَها فأهلكهم جميعًا ثم أَتْبَعَهم حجارةً مِنْ السماءِ أَمرَها عليهم فجمع عليهم مِنْ العُقوبَةِ ما لم يَجْمعه على أًمَّةٍ غيرِهِم، ولإِخوانِهِم أمثالهُا قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} .
وَمَا الذي أرسل عَلى قَوم شُعَيْبٍ سَحَابَ العذاب كالظُّلَل فَلَمَّا صَارَ فوقَ رؤوسِهمْ أَمْطَرَ عليهم نارًا تلظَّى. وَمَا الذي أَغْرَقَ فرعونَ وقومَهُ في البحر ثم نُقِلَتْ أرْوَاحُهُم إلى جَهَنَّمَ، فالأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ والأَرواحُ لِلْحَرَقِ، وَمَا الذي خَسَفَ بقارُونَ ودَارِهِ ومالِهِ وأهْلِهِ. وَمَا الذِي أهلَكَ القُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بأنواع العُقوباتِ ودَمَّرها تدميرًا. وَمَا الذي أهلكَ قومَ صاحِبِ يس بالصيحِة حتى خَمَدُوا عنْ آخِرِهِم.
وَمَا الذي بعثِ على بني إسْرائيلَ قومًا أُولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خِلال الدِّيارِ وَقَتلوا الرِجالِ وسَبَوُا الذُرّيةَ والنساءَ، وأحْرقوا الديارَ ونَهبُوا الأموالَ، ثم بَعَثَهُم عليهم مَرَّةً ثانِيَةً فأَهْلَكُوا ما قَدِرُوا عليه وتَبَّروا ما عَلَوْا تتْبيرًا، وَمَا الذِي سَلَّط عليهم أنواعَ العُقوباتِ مَرَّةً بالقتل والسَّبْي وخَراب البلادِ ومِرَّةً بِجَور الملوكِ ومَرَّةً بمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وخنازيرَ وآخِرُ ذلك أقسم الربُّ تبارك وتعالى لَيَبْعَثنَّ عليهم إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العذاب. اللَّهُمَّ أتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ(1/40)
الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاص فِيْ أعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاح قُلُوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شِعْرًا:
دَعُونِي عَلَى نَفْسِيْ أَنُوحُ وأَنْدُبُ ... بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
دَعُونِي عَلَى نَفْسِيْ أَنُوحُ فإِنَّني ... أَخُافُ على نَفْسِي الضَّعِيفةِ تَعْطَبُ
وَإِنِي حَقِيقٌ بالتَضرُّع والبُكَا ... إذا مَا هَذَا النُّوامُ واللَّيْلُ غَيْهَبُ
وَجَالَتْ دَوَاعِي الحُزِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ... وغَارَتْ نُجُومُ اللَّيْلِ وانْقضَّ كَوْكَبُ
كَفَى أَنَّ عَيْنِي بِالدُمُوعِ بَخِيْلَةٌ ... وأَنِّي بآفَاتِ الذُنُوبِ مُعَذَّبُ
فَمَنْ لِي إِذا نَادَىَ المُنادِي بِمَنْ عَصَى ... إِلَى أَيْنَ إِلْجَائِي إِلَى أَيْنَ أَهْرُبُ
وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الفَضَائِحُ كُلُّهَا ... وَقَدْ قُرِّبَ المِيزانُ والنارُ تَلْهَبُ
فَيَا طُولَ حُزْنِي ثُمَّ يَا طُولَ حَسْرَتِي ... لَئِنْ كُنْتُ في قَعْرِ الجحِيمِ أُعَذَّبُ
فَقَد فَازَ بالمُلْكِ العَظيمِ عِصَابةٌ ... تَبيتُ قِيَامًا في دُجَى اللَّيلِ تَرْهَبُ
إِذا أَشْرَفَ الجَبَّارُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ ... وقد زُيِّنتْ حُورُ الجِنانِ الَكوَاعِبُ
فَنَادَاهُمُ أَهْلاً وسَهْلاً وَمَرْحَبًا ... أَبَحْتُ لَكُمْ دَارِي وما شِئْتُمُ اطْلُبُوا
قال العلماءُ: وتعظُمُ الصغيرةُ بأسبابٍ منها: أنْ يَسْتَصْغِرَها الإِنسانُ ويَسْتَهينَ بها فلا يَغْتمَّ بسبَبِها ولا يُبَالي، ولكنَّ المؤمنَ المُجِلَّ للهِ المُعَظِّمَ له هو المستعظمُ لِذَنْبِهِ وإنْ صَغُر فإنَّ الذنْبَ كُلَّما استعظَمَهُ العَبْدُ َصَغُرَ عِنْدَ اللهِ تعالى وكُلَّما استصغرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللهِ تعالى فإنَّ استعظامَهُ يَكونُ عَنْ نُفُورِ القلبِ مِنْهُ وكَراهيَتِهِ لَهُ.
قال ابنُ مسعودٍ: إنَّ المؤمنَ يَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ في أَصلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذَنْبَهُ كذُبابٍ وقَعَ على أنفِهِ فقال بِهِ هَكَذَا، أخْرجاه في الصحيحين. وفي البُخاري مِنْ حَديثِ أنسٍ رضي الله عنه:(1/41)
إنكُمْ لَتَعْلَمون أَعْمَالاً هِي أَدَقُّ في أعْينِكُم مِنْ الشَّعْر كُنَّا لَنَعُدُّها على عَهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقَاتِ.
وقَالَ بلالُ بنُ سعدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الخَطِيئةِ ولكنْ انظُرْ إلى عَظَمَةِ مَنْ عَصَيْتَ. ومنها: السُرورُ بِها والتَبَجُّجُ بسبَبها واعتِقَادُ التَّمَكُّنِ منها نِعْمةً حتى إنَّ المُذنِبَ المُجاهِر بالمَعَاصِي لَيَفْتخِرُ بها فيقولُ: ما رَأَيْتَنِي كَيف شَتَمتُهُ وكَيْفَ مَزَّقْتُ عِرْضَه وَكَيْفَ خَدَعْتُهُ في المُعَامَلةَ.
ومنها: أن يَتَهَاونَ بِستْرِ اللهِ عَلَيهِ.
ومنها: أن يُجاهِرَ بالذنْبِ ويُظْهِرَهُ وَيَذْكُرَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلُ أُمَّتِي مُعًافى إِلا المُجاهِرُون» . ومِنها أنْ تَصْدُرَ الصغيرةُ عنْ عالمِ يُقْتَدَى بِهِ فَذَلِكَ عظيمٌ، لأَنه يَتْبَعُهُ عليها خَلْقٌ كثيرٌ، ويَبْقَى أثَرُهَا بَعْدَهُ. واللهُ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا وَأَكَنَّتْهُ سَرَائِرَنَا واغفر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصلى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.
(فَصْلٌ) : مِن نَصِيحَةِ وَالدٍ لَوَلَدِهْ
اعْلَمْ أَنَّ مَن تفكر في الدنيا قبلَ أن يُوجد رَأَى مُدَّةً طَوِيلَةً، فإذَا تَفَكَّرَ فيها بَعدَ أَن يَخْرُجُ منها رأيي مدةً طويلةً وعَلَمَ أن اللبُثَ في القبور طويل، فإذَا تفكر في يوم القيامة عَلَم أنه خمسون ألف سنَة.
فإذا تفكرَ في اللبثِ في الجنةِ أو النار عَلِمَ أنه لا نهايةَ لَهُ. فإذا عَاد إلى النظر في مِقدار بَقَائِهِ في الدنيا فَرَضْنَا ستِين سنة مثلاً فإنه يَمضي منها ثلاثون سَنَة في النوم، ونحو مِن خمسَ عَشرَ في الصِبى.(1/42)
فإذا حسب الباقي كان أكثره في الشهوات والمطاعِم والمَكاسِبِ فإذا خَلَصَ ما لِلآخِرَةِ وَجَدَ فيه مِن الرياء والغَفْلَةِ كَثِيرًا، فبماذا تَشْتَري الحياةَ الأبديةَ وإنما الثمنُ هذهِ الساعات؟
فانتبه يا بُنَيَّ لنفسْك، واندم على ما مضى من تفريطك واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة. واسْقِ غُصْنَكَ، مادامتْ فيه رُطوبة، واذكر سَاعَتَكَ التي ضاعَتْ فكَفَى بها عِظَةٍ.
ذَهَبتْ لَذةُ الكَسَلِ فيها وفاتَتْ مراتبُ الفضائل.
وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يُحِبُّونَ جَمْعَ كُلِ فَضيلة ويبكون على فواتِ واحدةٍ منها.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دَخَلنَا على عابد مَريض، وهو يَنْظُر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: مَالَكَ تَبْكي؟ فقال: ما اَغَبَرَّتا في سبيل الله. وَبَكىَ آخرُ، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: عليّ يوم مضى ما صمتُهُ وعلي ليلةَ ذَهبتْ ما قمتها.
واعلم يا بُني أن الأيام تُبْسِطُ ساعات، والساعات تبسط أَنفَاسًا، وَكُلُ نَفَسٍ خِزَانَةٌ، فاحْذَرْ أَن يَذهبَ نَفَسٌ بغيرِ شَيء، فَتَرَى في القيامة خِزَانَةٌ فَاِرَغةً فَتَنْدَمَ وَلا ينفعكَ الندم.
آخر ... وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ
آخر:
يَا جَامِعَ المَالِ الكثيرِ لِغَيرِهِ ... إِنَّ الصغِّيرَ مِن الذُّنُوبِ كَبِيرُ
هَل في يَدَيْكَ عَلَى الحَوَادِثِ قُوَّةٌ ... أَمِ هَلِ عَليَكْ َمِنَ المنُونِ خَفَيرُ
أَمْ مَا تَقُولُ إِذَا ضَعَنْتَ إِلى الليلِي ... وإِذَا خلا بك مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ
آخر:
مَشَيبُ النَّوَاصِي لِلْمَنُونِ رَسُولُ ... يُخَبِّرُنَا أَنَّ الثَّواءَ قَلِيلُ
فَصيحُ إِذا نَادىَ وإَِنْ كَانَ صَامِتًا ... مُثيرُ المعَانِي لِلنُّفوسِ عَذُولُ
فُوا عَجَبًا مِن مُوقِنِ بِفَنَائِهِ ... وآمَالُه تَنْمُوا ولَيسَ يَحُولُ(1/43)
أَمِن بَعْدِما بعد جَاوَزْتَ سَبْعين حَجَّةً ... وقد آنَ مِنِّي لِلقُبورِ رَحِيلُ
أُئَمِلُ آمَالاً وأَرْغَبُ في الغِنَى ... بِدارٍ غنَاهَا يَنْقَضِي وَيزُولُ
وإِنَّ إمْرًا دُنْيَاهُ أَكْبَرُ هَمهِ ... وَيُؤْثِرُهَا حُبًا لَهَا لَجَهُولُ
فَكَمْ عَالِمٍ والجَهْلُ أَوْلَى بِعِلْمِهِ ... لَهُ مَقْوَلٌ عِنْدَ الخِطَابَ طَوِِيلُ
وَكَمْ مِنْ قَصِيرٍ في عُلُوم كَثِيرَةٍ ... لَهُ مَخْبَرٌ لِلصَّالِحَاتِ وَصُولُ
فَمَا العِلْمُ إلا خَشْيَةُ الله والتُقَى ... فكلُ تِقِي في العُيونِ جَلَيلُ
فيا رَبِ قَدْ عَلَّمْتَنِي سُبُلَ الهُدَى ... فأصْبَحْتُ لا يَخْفَى عَلّي سَبِيلُ
ويَا رَبَّ هَبْ لي مِنْكَ عَزمًا على التُقى ... فَأَنْتَ الذِي مَا لي سِوَاهُ يَنِيلُ
آخر:
المرءُ يَجْمعُ والدُّنيا مُفرِّقَةٌ ... والعُمْرُ يَذْهَبُ والأَيَّامُ تُخْتَلِسُ
ونَحْنُ نَخْبطُ في ظَلْمَاءَ لَيسَ بها ... بَدْرٌ يُضِيءُ ولا نَجْمٌ ولا قَبَسُ
فَكَمْ نُرِتِّقُ خَرْقًا لَيسَ مُرتَتِقًا ... فِيها ونَحْرُسُ شَيئًا لَيس يَنْحَرسُ
وكَمْ نَذِلُّ وفِينَا كلُّ ذِي أَنَفٍ ... وَنَسْتَكِينُ وفِينَا العزُّ والشَّوَسُ
وكيفَ يَرْضَى لَبِيبٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ ... ثُوْبٌ نَقِيٌ وعِرْضٌ دُونَه دَنِسُ
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا القيامَ بحقِك، وباركْ لنا في الحلالِ مِنْ رِزقِكَ، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خيرَ مَنْ دعاه داعٍ وأفضلَ مَنْ رجاه راج يا قاضِيَ الحاجات ويا مجيبَ الدعواتِ هَبْ لنا ما سألناه وحَقِّقْ رجاءَنا فيما تمنيناه وأمّلْناه يا مَنْ يملكُ حوائجِ السائلينَ ويعلمُ ما في ضَمائر الصامتين، أذنا بِردَ عفوك، وحلاوة مَغْفِرَتِك، يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبِنَا واجْعَلِ الإيمانَ لَنَا سِراجًا ولا تَجْعَلَهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا واجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إلى جَنَّتِكْ ولا تَجْعلهُ لنا مَكْرًا مِنْ مَشيئَتِكْ إِنَّك أنْتَ الحليمُ الغفورُ الشَّكُورُ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/44)
الفصل الرابع
واعلمْ أََنَّ التوبة إذا صحتْ بأَن اجْتمعتْ شروطُها وانْتفَتْ مَوانِعُها قُبِلتْ بلا شكٍ إذا وَقَعتْ قبلَ نزولِ الموتِ، لو كانتْ عن أيّ ذنْبٍ كانَ، وقبلَ طُلوع الشمسِ مِنْ مغْرِبِها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} .
وأخرجَ الإِمامُ أحمدُ، والترمذيُّ عن ابن عُمَر أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إنّ الله تعالى يَقْبَلُ توبةَ العبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ» . أيْ ما لم تَبْلُغْ روحُهُ حُلْقومَهُ فيكونُ بمَنْزلةِ الشيءِ الذي يَتَغَرغْر بِهِ المَرِيضُ، والغَرْغَرةُ أَنْ يُجْعلَ المَشْرُوبُ في الفمِ ويُرَدَّدَ إلى أصْل الحَلْقِ ولا يُبْلَعَ، فهذه الحالُة حَالَةُ حُضور الموتِ وبعدَ حُضوِر الموتِ لا يُقْبَلُ من العاصِين تَوبةٌ ولا مِنَ الكَافرينَ رُجوعٌ كما قال تعالى عن فِرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} .
ومِنَ المُعَوّقاتِ الضَّارَّةِ التَّسْويفُ بالتَّوْبَةِ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلمُ الإِنسانُ أنَه يَبْقَى إلى أنْ يَتوبَ فَتارِكُ المُبَادَرَةِ بالتوِبة بَيْن خَطَرَيْن عَظِيمَين، أحَدُهُما: أَنْ تَتَرَاكَمَ الظُلْمَةُ على قَلْبِهِ مِنَ المَعَاصِي حتى تَصِير رَيْنًا وَطَبْعًا، وثانِيهمَا:أنْ يُعَاجِلَهُ المَرَضُ فلا يَجِدَ مُهْلةً لِلاشْتِغالِ بِمَحْوِ مَا وَقعَ مِنَ الظلمةِ في القَلْبِ فَيَأتي رَبَّه بقلبٍ غيرِ سَليمٍ ولا يَنْجُو إلا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ.
ويَجبُ على الإِنسانِ أنْ لا يَمْتَنِعَ مِنَ التوبةِ خَشْية الوُقُوعِ في ذَنْبٍ مَرّةً أُخْرَى فإِنّ هذا ظنٌ يُدْخِلُهُ الشَّيْطَانُ في قلْبِهِ ليُؤخِرَ التوبةَ وَلَرُبَّمَا يَقُولُ في نَفْسِهِ سَأسْتَمِرُّ في المعاصِي أياَّمَ شَبَابي وصِحَّتي ثُمَّ أتوبُ بعدَ ذلك، وهكذا يُسَوِّفُ ويُؤخِّرُ، وإذا بالموتِ أو المرضِ يُفاجئُهُ فلا يَجدُ مُتَّسعًا للتوبةِ(1/45)
والرّجوع إلى الله. نعوذُ باللهِ مِنْ سوءِ الخاتِمَةِ. ولِذَلكَ كان السَّلَفُ الصالحُ تكَادُ تنخلعُ قلوبُهم في كلِ مَرْضةٍ يَمْرَضُونَها، لاحْتِمالِ أنْ تكون تلك المَرْضَةُ إخراجًا لهم مِنَ الدُنيا قبلَ أن يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَدارُكِ ما فاتَ مِنَ الهَفَواتِ بالتوبة النّصُوحِ ولِلاسْتِكْثَارِ مِنَ الباقياتِ الصالحاتِ. ومَرِضَ مرةً بعضُ الصالحينَ فدخَلَ عليهِ أصحابُهُ يَعُودُونَهُ فقالوا له: كيفَ تجدُكَ؟ قال: مُوَقِّرًا بالذنوبِ، فقالوا: هَلْ تَشْتَهي شيئًا؟ قال: نعم! أنْ يَمُنَّ عليَّ ربي بالتوبةِ عن كلِ ما يَكَرَهُ قبلَ موتي.
وقد قال العلماءُ: ما مِثالُ المُسَوّفِ بالتوبةِ إلا مثال مَنْ احتاج إلى قلْع شجرةٍ فرآها قَويةً لا تنقلعُ إلا بمشقةٍ شديدةٍ فقال: أوْ أَخِّرُها سنة ثُم أعودُ إليها وهو يعلمُ أنّ الشجرة كُلما بَقِيتْ ازدادتْ قوةً لرُسُوخِها وكلما طال عُمُرُهُ ازْدَادَ ضَعْفُه فلا حَماقةَ في الدنيا أعظمُ مِن حَماقِتهِ إذْ عَجَزَ معَ قُوَّتِهِ عن مُقاومةِ ضعيفٍ فأخَذَ يَنْتَظِرْ الغَلَبَةَ عليه إذا ضعُفَ هو في نفسِهِ وقويَ الضعيفُ.
قال ابُن القيمِ رحمه الله: إذا أرادَ اللهُ بعبدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لهُ أبوابَ التوبةِ والندَمِ والانكِسارِ والذُلِ والافتقارِ والاستِعانَةِ بِهِ وصِدْق اللجأ إليهِ ودوامَ التضرُّع والدعاءِ والتقرب إليه بما أمكنَ مِنَ الحسنات ما تكون تلكَ السَّيئَةُ به سببَ رحمتِهِ حتى يقولَ عدُوُّ اللهِ: يالَيتَني تركتُهُ ولمْ أُوقِعْهُ وهذا معنى قول بعض السلفِ: إنّ العبدَ لَيَعْمَلُ الذنبَ يَدْخُلُ بِهِ الجنةَ، ويَعملَ الحسنةَ يدخلُ بها النارَ، قالوا: كيفَ؟ قال: يعملُ الذنبَ فلا يزالُ نُصْبَ عينيهِ خائفًا منهُ مُشْفِقًا وَجلاً باكيًا نادِمًا مُسْتَحْيًا مِنْ رَبِّهِ تعالى ناكِسَ الرأسِ بَينَ يدَيهِ مُنْكسرَ القَلْبِ له فيكونُ ذلك الذنبُ أنفعَ له مِنْ طاعات كثيرةٍ بما ترتَّبَ عليه مِنْ هذه الأموِر التي بها سعادُة العبدِ وفلاحُهُ حتى يكونَ ذلك الذنبُ سبَبَ دخولِ الجنةِ.
ويَفْعَلُ الحَسَنةَ فلا يَزَالُ يَمُنُّ بها على ربِّهِ ويَتَكَبَّرُ بها وَيَرَى نَفْسَهُ شيئًا(1/46)
ويُعجَبُ بها ويَسْتَطيلُ بها ويقولُ بها ويقولُ: فَعَلْتُ وفَعَلْتُ، فيُورِثُهُ مِنَ العجبِ والكِبْرِ والفجْرِ والاسْتِطالَةِ ما يكونُ سبَبَ هلاكِهِ.
فإذا أرادَ اللهُ تعالى بهذا المسكينِ خيْرًا ابْتَلاهُ بأمرٍ يَكْسرُهُ به ويُذِلُّ به عُنقَهُ ويُصَغِّرُ بِهِ نَفْسَهُ عندَه، وإذا أراد بهِ غيرَ ذلك خَلاهُ وعجبهُ وكبرهُ وهذا هو الخذْلانُ المُوجِبُ لِهَلاكِهِ فإنَّ العارفينَ كلَّهمْ مُجْمعون على أن التوفيقَ: هو أنْ لا يَكِلَكَ اللهُ تعالى إلى نفسِكَ، والذلَّ أنْ يَكِلَكَ الله إلى نفسِكَ. انتهى.
يا مَنْ يُغِيْثُ الوَرَى مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا
ارْحَمْ عِبادًا أَكُفَّ الفَقْر قَدْ بَسَطُوا
عَوَّدْتَهُمْ بَسطَ أرْزَاقٍ بِلا سَببٍ
سِوى جَمِيلِ رَجَاءٍ نَحْوَهُ انْبَسَطُوا
وَعَدْتَ بالفَضْلِ في وِرْدٍ وفي صَدَرٍ
بالجُودِ إنْ أَقْسَطُوا والحِلْمِ إنْ قَسَطُوا
عَوارِفُ ارْتَبَطَتْ شُمُّ الأُنُوفِ بها
وكُلُّ صَعْبٍ بقَيْدِ الجُودِ يَرْتَبِطُ
يا مَنْ تَعَرّفَ بالمَعْرُوفِ فاعْتَرَفَتْ
بِجَمِّ إنْعامِهِ الأَطْرافُ والوَسَطُ
وعَالِمًا بخَفِيَّات الأُمُورِ فلا
وَهْم يَجُوزُ عليهِ لا ولا غَلَطُ
عَبْدٌ فَقِيرٌ بِبَابِ الجُودِ مُنْكَسِرًا
مِنْ شأنِهِ أنْ يُوافي حِينَ يَنْضَغِطُ
مَهْمَا أَتَى لِيَمُدَّ الكَفَّ أخْجَلهُ
قَبَائِحٌ وخَطايَا أَمْرُها فَرَطُ(1/47)
يا واسِعًا ضَاقَ خَطْوُ الخَلْقِ عنْ نِعَمٍ
مِنْهُ إذا خَطبُوا في شُكْرِها خَبَطُوا
وناشِرًا بِيَدِ الإِجْمالِ رَحْمَتَهُ
فلَيْسَ يَلْحَقُ منه مُسْرِفًا قَنَطُ
ارْحَمْ عِبادًا بضَنْكِ العَيشِ مَا لَهُمُوا
غَيرُ الدُجْنةِ لُحْفٌ والثَّرى بُسُطُ
لَكِنَّهُمُ مِنْ ذُرَي علْياكَ في نَمَطُ
سَامٍ رفيع الذُرَى ما فَوقَه نَمَطُ
وَمَنْ يَكُنْ بالذِي يَهْواهُ مُجْتمِعًا
فما يُبالي أقَامَ الحَيُّ أَمْ شَحَطُوا
نَحْنُ العَبِيدُ وأَنْتَ المَلكُ لَيْسَ سِوَى
وكُلُّ شَيءٍ يُرَجَّى بَعْدَ ذا شَطَطُ
اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصاَلح الأَعْمَالَ، ونَجِّنَا من جميعِ الأَهْوَالِ، وأَمنا مِنَ الفَزَع الأكْبَر يومَ الرْجْفِ والزلْزَالْ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : كان سَلَفُنَا الصالحُ حَرِيصينَ على الوقتِ وعلى حِفْظِ الكَلامِ فلا يَصرفونَ أوقاتَهم إلا للآخِرة ولا يَتَكَلَمُون إِلا لَهَا مُبْتَعِدِينَ عن النِفَاقِ والرِياءِ والكَلامِ الفَارِغِ.
فقد كان الفضيل رحمه الله جالسًا وَحْدَهُ في المسجد الحرام فجاء إليه أَخٌ له فقال له: ما جَاءَ بكَ؟ قال: المؤانَسَةِ يا أَبَا عَلي. فقال: هِيَ والله بالمواحَشَةِ أَشْبَهْ. هَلْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَزَيَنَ لِي وأتَزَينُ لَكَ، وتَكْذِبُ لِي وأكْذِبُ لَكَ، فإِمَّا أَنْ تَقُومَ عَنِي أو أقومَ عَنْك.(1/48)
لِقَاءُ الناسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيئًا ... سِوَى الهَذَايانِ مِن قِيل وقَال
فَاقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ الناسِ إِلا ... لأَخْذِ العِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَالِ
وهكذا كان السلف لا يَتَلاقَون إلا لله ويحترزون في جميع أعمالهم وأقوالهم حتى كيف أصبحتَ وكيفَ أمسيتَ وكيفَ حَالُكَ وفي الجواب عن ذلك.
فقد قال حاتمُ الأَصَمُ لِحَامِدُ اللَّفَافِ: كَيفَ أَنْتَ في نَفْسِكَ؟ فقال: بسلامَةٍ وعَافِية. فَكَرِهَ حَاتمُ جَوابَهُ وقال: يا حَامِدُ السلامةُ مِن وَرَاءِ الصِّرَاطِ، والعافية في الجَنة.
وكان إذا قَيلَ لِعيسَى عليه السلام: كَيفَ أصبحَت؟ يَقُولُ: أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ تقدَيمَ ما أَرْجُوا ولا أسْتطيعُ دَفْعَ ما أُحَاذِرُ وأَصْبَحتُ مُرْتَهنًا بعَمَلِي والخَيْرُ كلهُ في يَدِ غيري ولا فقيرَ أفقَر مِني (أيْ إلى الله عَزَّ وَجَل صَاحبُ الخير والغِنى) .
وكان الربيعُ بنُ خيثم إذا قِيل لَهُ: كَيفَ أَصبحتَ؟ قال: ضَعِيفًا مُذْنِبًا أَسْتَوفي رزْقِي وأنتظُر أَجَلي. وقِيلَ لأُوَيْس القَرْنِي: كَيْفَ أَصْبَحَتَ؟ قال: كَيفَ يُصِحُ رَجُلٌ إذا أمْسَى لا يدْرِي أنه يُصْبِحُ، وَإِذَا أَصْبَحَ لا يَدْري أَنَّهُ يمُسِي.
وهكذا كانَ سَلَفُنا الصالحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ومع هذا فقد كانوا دائمًا يَسْأَلُونَ اللهَ العَونَ والنَّصْرَ والرُشْدَ والتَّوفِيقَ لِمَا يُحُبِهُ وَيَرضَاه.
شِعْرًا:
إِذَا لَمْ يُعنكَ اللهُ فِيمَا تُرِيدُهُ ... فَلَيْسَ لِمَخْلُوق إِليهِ سَبِيلُ
وَإِنْ هُوَ لم يَنْصُرْكَ لم تَلْقَ نَاصِرًِا ... وإِنْ عَزَّ أنْصَارٌ وجَلَّ قَبِيلُ
وإِنْ هُو لَمْ يُرْشِدْكَ في كُلِّ مَسْلَكٍ ... ضَلَلْتَ وَلَو أنَّ السِّمَاكَ دَلْيلُ
قال بَعْضُ العُلمَاء: أَعْظَمُ المعاقَبةِ أَنْ لا يُحِسَّ المعاقَبُ بالعقوبة، وأشَدُ مِن ذلك أَنْ يَقَعَ السرورُ بما هو عُقُوبة، كالفَرَحِ بالمِالِ الحَرامِ، والتَّمكُّنِ مِن الذُنُوب، ومَن هَذِهِ حَالُه لا يَفُوزُ بطاعَةْ. وقال آخر: الغُمُومُ ثَلاثَةْ: (1) غَمُّ الطَّاعَةْ أَنْ لا تُقْبَلْ، (2) غَمُّ المَعْصِيةِ أنْ لا تُغْفَر، (3) غَمُّ المَعْرِفَة أَنْ تُسْلَبْ.
وقال آخِر: إذا عَصَيْتَ الله في مَوْضعِ فلا تفارقَ الموضعَ حَتَّى تعمل فيه(1/49)
طَاعة وَتقيم فيه عِبَادَة فَكَما يشهد عَلَيْكَ إِذَا اسْتُشْهِدْ يَشهد لك، وكذَلِكَ ثوبك إِنْ عَصَيْتَ الله فِيه فكن كما ذكرته لك.
شِعْرًا ... يا نَاظِرًا يَرْنوا بِعَيْنِيَ راقِدِ ... ومُشَاهِدِ لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلى الذُّنُوبِ وتَرتَجي ... فَوْزَ الجِنَانِ ونَيْل أَجْرِ العَابِدِ
ونَسِيتَ أنَّ اللهَ أَخْرجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلىَ الدُنْيَا بِذَنْبٍ واحِدِ
وَقَال: وَإنِّي تَدَبَّرْتُ أَحْوالَ أَكْثَرِ العُلَماءِ المُتَزهِّدِين فَرأَيتُهمْ في عُقوباتٍ لا يحُسُّونَ بها، وَمُعْظَمُهَا مِن قِبَل طَلَبِهم لِلرِّيَاسَةِ. فالعَالِمُ مِنهم يَغْضَبُ أَنْ رُدَّ عليه خَطَؤُه، وَالوَاعظُ مُتَصَنَّعٌ بِوَعْظِهِ، والمُتَزَهِّدُ مُنَافِقٌ أَوْ مُرَاءٍ.
فأولُ عُقُوباتِهم إعراضُهم عن الحَقِ شُغْلاً بالخَلقِ، ومن خفيِّ عُقوباتِهم سَلبُ حَلاوةِ المناجاةِ، ولَذةِ التَّعَبُدِ.
إلا رجَالٌ مُؤمنونَ ونساءٌ مؤمنات، يَحفظُ الله بهم الأرضَ، بَواطِنُهم كَظَوارِهِم بل أَحْلى، وسرَائُرهم كَعَلانِيتِهمْ بل أحلى، وهِمَمُهُمْ عند الثُريَا أعلى.
إن عُرفَوا تَنَكَّرُوا، وإن رُئِيُتْ لهم كرامةٌ أنكَرُوا. فالناسُ في غَفَلاتِهم، وهم في قَطْعِ فَلاتِهم تُحِبُّهُم بِقَاعُ الأرضِ، وتَفْرَحُ بِهم أَمْلاكُ السماء. نسأل الله عز وجل التوفيقَ لإتباعهم، وأَن يَجْعَلَنَا مِن أتباعهم.
شِعْرًا ... خُذْ مِنْ شَبَابِكَ قَبْل الموتِ والهَرَم ... وَبَادِرِ التَّوبَ قَبْلَ الفَوتِ والنَّدَمِ
واعْلَمْ بأنَكَ مَجْزِيٌّ ومُرْتَهُنٌ ... وَرَاقَب الله واحْذَرْ زلَّةَ القَدمِ
فَلَيْسَ بَعْدَ حُلُولِ المَوْتِ مَعْتَبةٌ ... إلا الرُّجاءُ وعَفْوُ اللهِ ذِي الكَرَمَ
آخر ... يَقَولُون: أسْبَابُ الحَيَاةِ كَثِيرةٌ ... فَقُلْتُ: وأَسْبَابُ المَنُونِ كَثِيرُ
وما هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَصَائِدٌ ... وأَشْرَاكُ مَكْرُوه لَنَا وغُرورُ
يُسَارُ بِنا فِي كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ ... فكَمْ ذَا إِلى ما لاَ نُريدُ نَسِيرُ
وما الدَّهرُ إلا فَرْحَةٌ ثُمَّ تَرْحَةٌ ... وما النَّاسُ إلا مُطْلَقٌ وأَسِيرُ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرِكَ وشُكْركَ وَوَفِقْنَا لِمَا وَفّقْتَ لَهُ الصّالحين من خَلْقِكَ،(1/50)
واغْفَرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : قال أحد العلماء وأما زَمَانَنَا فقد قَيَّدَ الطَّمَعُ أَلْسُنَ العُلماء فَسَكَتُوا إذْ لَمْ تُسَاعِدْ أقْوَالَهُم أفْعَالُهُم ولو صَدُقوا الله لكانَ خيرًا لهم.
فإذا نَظَرْنا إلى فَسَادِ الرَّعِيَّةِ وَجَدْنا سَبَبَهُ فَسَادَ المُلُوكِ.
وَإِذَا نَظرْنَا إِلَى فَسَادِ المُلوكِ وَجَدْنا سَبَبَهُ فسادَ العُلماء والصَّالِحين.
وإِذَا نَظَرْنَا إِلى فَسَادِ العُلماءِ والصَّالِحِينَ وَجَدْنَا سَبَبَهُ ما اسْتَولى عَلَيْهم مِن حُبِّ المالِ والجاهِ وانْتِشَارِ الصِّيْتِ ونَفَاذِ الكَلِمةِ ومُداهَنَةِ المَخْلُوقِين وَفَسَادِ النِّياتِ في الأقْوال والأَعْمالِ.
فإذِا أرَادَ وَاحِدٌ منهم أَنْ يُنْكِرَ على وَاحِدٍ مِن الرَّعِيةِ لم يَسْتَطِعْ ذلك.
وقال وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: لَو أَنَّ عُلمَاءَنا عَفَا الله عنا وعنهم نَصَحُوا لله في عِبَادِهِ، فَقَالُوا: يَا عِبَادَ الله اسْمَعُوا ما نُخْبركُمْ عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وصالح سَلَفِكم مِن الزُّهْدِ في الدنيا فاعْمَلُوا بِهِ. ولا تَنْظُروا إِلى أَعْمَالِنَا هَذِهِ الفَسْلَةِ، كانُوا قد نصَحُوا لِلَّهِ في عِبَادِهِ، ولَكّنِهم يَأْبَونَ إلا أَنْ يَجُرُّوا عِبادَ اللهِ إِلى فِتنهِم وما هُم فيه.
وقال بعضُ العُلماء: اعْلَمْ أنَّ لِلْعَالِِمِ العَامِلِ بِعِلْمِهِ حَقِيقَةً عَلاماتَ وَأَمَارَات تُفَرِّقُ بينَه وبَيْنَ عُلماءِ اللِّسَانِ المُخَلِّطِينَ المُتِبعِين لِلْهَوى المَؤثَرين للدنيا على الآخرة.
فَمِن عَلاماتِ العَالِمِ الحَقِيقِي المُمْتَاز أَنْ يَكُونَ مُتَواضِعًا خَائِفًا وَجَلاً مُشْفِقًا مِن خَشَيَةِ اللهِ زَاهِد في الدنيا قَانِعًا باليَسِير مِنها هَمُّهُ وشُغْلُه فِيمَا يُصْلحُ آخِرَتَه.
مُلْتَمِسًا لِلْفُقَراءِ المُتَمَسِّكِينَ بِدينِهِم الخَالِية بُيُوتُهم مِن المَلاهِي والمُنكراتِ الذِين لَيْسَ لَهم مَوَارِد ولا مَسَاكِن لِيُسْعِفَهم بِمَا يَقْدِرُ عَليه مِن مال وَجَاه مُخْلِصًا لِلَّهِ في ذلك لا يُريدُ مِنه جَزَاءً ولا شكورًا.(1/51)
ناصِحًا لِعبادِ الله شَفيقًا عليهم رَحِيمًا بِهم، آمرًا بالمعروف فاعِلاً لَهُ وناهيًا عن المنكر، ومُجْتَنَبًا لَهُ ومُسارعًا في الخَيرات ملازمًا للعبادات ليلاً ونهارًا، سِرًا وجهارًا وملازمًا لذكر الله وحمده وشكره.
دالاً على الخير داعيًا إلى الهدى، ذَا صَمْتٍ وتَوأدَة وَوَقار وسَكينَةِ محبًا لأهل الطاعة سالكًا طريق أهل السنة والجماعة، حَسَنُ الأخلاق، واسِعَ الصَّدْر، ليِّن الجَانِب، مَخْفُوض الجنَاح للمؤمنين، لا متكبرًا، ولا مُتَجَبرًا، ولا طامعًا في الناس، ولا حريص على الدنيا، ولا مؤثرًا لها على الآخرة.
ولا منهمكًا بجمع المال، ولا مانعًا عن حقه، ولا فظًا ولا غليظًا، ولا مُمَاريًا، ولا مُخاصمًا بالباطل، ولا سَيء الأخلاق، ولا ضَيِّقَ الصدر محبًا لأولياء الله ومبغضًا لأعدائه.
ولا مُدَاهَنًا، ولا مُخَادعًا، ولا غشَّاشًا، ولا مُقَدِّمًا للأغنياء على الفقراء، ولا مُرائِيًا، ولا مُحبًا للْولايات والرياسات.
وبالجملة فيكون مُتَّصفًا بجميع ما يحثُّه عليه الكتاب والسنة مُؤْتَمِرًا بما يأمُرانِهِ به مِن الأخلاقِ المحمودةِ والأعمالِ الصالحةِ.
مُجَانِبًا لما يَنْهى عنه كتابُ الله وسنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن الأخلاقِ والأعمالِ المذمومةِ، وهذه صفاتٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ وَيَتَحَلَّى بها كُلُ مُؤمنٍ، إلا أنَّ العالمَ وطَالبَ العِلم أَوْلَى أن يتصفَ بها ويحافظ عليها ويدعوَا إليها لأنه قدوةٌ يُقْتَدَى به.
ويَنْبَغِي لِلْعَالِمَ أَنْ يَكُونَ حَديثهُ مَعَ العَامَّةِ في حَالِ مُخَالَطَتِهِ لَهمُ في بيان الواجباتِ والمحرماتِ ونوافلَ الطاعاتِ وذكِرِ الثوابِ والعقابِ على الإحسانِ والإِساءَة لِيَصُونَ وقْتَهُ وَوَقْتَهُم عَمَّا لا يَنْفَعُ فيه، ويكونُ كلامهُ بعِبارةٍ يَعْرَفُونَها ويَفْهَمُونَها، ويُبَيِّنُ لهَمُ الأمُورَ التِّي هم مُلابسُونَ لها ولا يَنْبَغِي له أنْ يَسْكُتَ حتى يُسْأَل وهو يَعْلَمُ أَنّهمُ مُحَتاجُونَ إليهِ أَوْ مُضْطَرُّون.(1/52)
إلَهِي لا تُعَذّبْنِي فَإنِّي ... مُقِرٌّ بالذّي قَدْ كانَ مِنِّي
وَمَا لِي حِيْلَةٌ إلا رَجَائِي ... وَعَفْوكَ إنْ عَفَوْتَ، وَحُسْنُ ظَني
فكَمْ مِنْ زَلّةٍ لِي في البَرايَا ... وأَنْتَ عَليّ ذُو فَضْلٍ وَمَنٍّ
يَظُنُّ النّاسُ بِي خَيْرًا، وإِنِّيْ ... لشَرُّ النّاسِ إنْ لم تَعْفُ عَني
أُجَنُّ بِزهْرَةِ الدّنْيَا جُنُونًا ... وَأُفِِنْي العُمْرَ فيها بالتَّمَني
وَبَيْنَ يَدَيَّ مُحْتَبسُ ثَقِيلٌ ... كأنِّي قد دُعِيْتُ لَهُ كَأنِّي
وَلَوْ أَنِّي صَدَقْتُ الزُّهْدَ فيها ... قَلَبْتُ لأَهْلِهَا ظَهْرَ المِجَنِّ
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤمِنُ بِلقَائِكْ وتَرْضَى بِقَضائِكْ، وتَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، يا أرْأفَ الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ التوفيق لما تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وحُسْنَ الظَنِّ بِكَ يَا رَبَّ العالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المُخْبِتِين، الغُرِّ المُحَجَّلِين الوَفْدِ المُتَقَبِّلين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، ونَفْسًا تَقِيَّةً، وعِيْشَةً نَقِيَّةً ومِيْتَةً سَويَّةً، ومَرَدًّا غَيْرَ مُخْزِي ولا فاضح.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهلِ الصَّلاحِ والنَّجَاحِ والفَلاحِ، ومِن المُؤَيَّدِينَ بِنَصْرِكَ وتَأْييدِكَ ورِضاكَ.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنا بابَ القَبُولِ والإِجَابةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) قال ابنُ رجب رحمه اللهِ: مِن لَطَائِفِ البَلايَا وفوائِدِها تكفيرُ الخطايا بها والثواب على الصبر عليها، وهل يثاب على البلاء نَفْسِهِ، فيه اختلاف بين العلماء.
ومنها: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب ورجع منها إلى الله عز وجل.
ومنها: زوالُ قسوة القلوب وحدوثُ رقَّتِها. قال بعضُ السلف إن العبدَ(1/53)
لَيُمْرضُ فيذكرُ ذُنُوبَهَ فَيَخْرُجَ منه مثلُ رَأَسِ الذباب من خشيةِ اللهِ فيغفرُ له.
ومنها: انْكِسارُهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَ وذِلَّهُ وذلك أَحَبُ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِن طاعاتِ الطائعين.
ومنها: أنها تُوجِبُ لِلعبدِ الرجُوعَ بِقلبه إلى الله عز وجل والوقوفَ ببابه والتضرعَ لَهُ والاستكانة وذلك مِن أعظَمِ فوائِدِ البَلاءِ وقد ذَمَّ اللهُ مَن لا يَسْتكينُ لَهُ عند الشدائد.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76) وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (الأنعام: 42) .
وفي بعضِ الكتبِ السابقةِ: إِن الله لَيبتلِي العبدَ وهو يُحبُّه لِيَسْمَعَ تَضَرُعَه.
وقال سعيدُ بنُ عبد العزيز قال داودُ عليه السلام: سبحانَ مُستخرجِ الدعاء بالبَلاء وسبحانَ مُستخرجِ الشكرِ بالرَّخَاءِ.
ومَرَّ أبو جعفر محمدُ بنُ علي بمحمدِ بن المنكدر وهو مَغْمُومٌ فسأل عن سبب غمه فقيل له: الديْنَ قَد فَدحَه. فقال أَبو جعفر: أفِتحَ له في الدعاء؟ قِيلَ: نعم، قال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر منها من دعاء ربه كائنه ما كانت. وكان بعضهم في الدعاء عند الشدائد يحب تعجيل إجابته خشية أن يُقطع عما فتح له.
وقال ثابت: إذا دعا الله المؤمنُ بدعوة وكلَّ الله جبريل بحاجته فيقول الله: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمعَ صوتَ عبدِي المؤمن.
وَرُوِيَ مرفوعًا من وجوه ضعيفة: رأى بعضُ السلف رب العزة في نومه فقال: يا رب كم أدعوك ولا تجيبني. قال: إني أحب أن أسمع صوتك. ومنها أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه أو الرضا به وذلك مقام عَظِيم جدًا. وقد تقدمت الإشارة إلى فضل ذلك وشرفه. ومنها أن البلاء يقطع قلب(1/54)
المؤمن عن الإلتفات إلى المخلوق ويوجب له الإقبال على الخالق وحده.
وقد حكى الله عن المشركين إخلاص الدعاء له عند الشدائد فكيف بالمؤمنين.
شِعْرًا:
لَحَىَ الله مَنْ لا يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ ... ومَنْ حَبْلُهُ في الدِّينْ غَيرِ مَتِينِ
ومَن هُو ذُوْ لَوْنَيْنِ شَرُّ مُنَافِقٍ ... ومَنْ هُو للأسْرَارِ غير مَكِينِ
والبلاء يوجب للعبد تحقيق التوحيد بقلبه وذلك على أعلى المقامات وأشرف الدرجات.
وفي الإِسرائيليات يقول الله عز وجل: البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريبًا في الغالب. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف 110) .
وقال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة 214) .
وأخبر عن يعقوب عليه السلام أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقال لإخوته: {اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ} . وقال: {عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} (يوسف 83) .
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجُدِ الإِياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق استجاب له وكشف عنه.
فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين كما قال الإمام أحمد. واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام لما عرض عليه جبريل في الهواء وقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.(1/55)
والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال: {َمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق 3) .
قال الفضيل والله ولو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كما تريد، قال بعضهم:
قَالُوا حُظُوضٌ وَأَقسَامٌ فقُلَتُ لَهُمْ ... نَعَمْ ولَكِنْ عَلَيْنَا السَّعْيُ والطَّلَبُ
ولِلْمَطَالِبِ أَسْبَابٌ مُقَدَّرةٌ ... وَبَذْلُ سَعيِكَ في مَطْلُوبِكَ السَّبَبُ
آخر:
عَلامَ سُؤَالُ الناسِ والرِّزْقُ وَاسعٌ ... وأَنْتَ صَحِيحٌ لم تَخُنْكَ الأصَابعُ
فَكُنْ طَالِبًا لِلرِّزْقِ من رَازِقِ الغِنَى ... وخَلِّ سُؤالَ الناسِ فالله صَانِعُ
ومنها: أن العبد إذا اشتد عليه الكرب فإنه يحتاج حينئذٍ إلى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه فيكون في مجاهدة عدوه ودفعه دفع البلاء عنه.
ولهذا في الحديث الصحيح: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي فيدع الدعاء» .
ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج وأيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر له أثر الإِجابة رجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أُتِيتُ من قِبلِك ولو كان فيك خير لأجبت.
وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. على قدر الكسر يكون الخير.
قال وهب: تعبد رجل زمانًا ثم بدت له إلى الله حاجة فصام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت أحد عشرة تمرة ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه فقال منك أُتيت، لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك.(1/56)
فنزل إليه عند ذلك ملك فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك.
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه علم أن نعم الله على عبده المؤمن في البلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء.
وهذا تحقيق معنى الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك إلا للمؤمن» .
ومن ها هنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين على الأخرى بل أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة.
وفي المسند، والترمذي عن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عرض علي ربي بطحاءِ مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإن جعت تضرعت إليك وذكرتك وإن شبعت شكرتك وحمدتك» .
قال عمر: ما أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.
وَكَنُ بالذي قد خَطَّ باللوح رَاضِيًا ... فلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ
وإنَّ مَعَ الرِزْقِ اشْتراطُ التِمَاسِهِ ... وقد يَتَعَدَّى إن تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ
فلو شاء ألْقَى في فِمَ الطيْرَ قُوتَهُ ... ولكنَّّهُ أوْحَى إلى الطَّيْرِ لَقْطَهُ
فائدة عظيمة النفع:
التَّوحِيدْ مَفْزَعُ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَوْلِيائِهِ فَأمَّا أَعْدَاؤُه فيُنجِيهِم مِن كربِ الدنيا.
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ فَيُنَجِيهِم بِهِ مِن كربِ الدنيا والآخرة وَشدَائدِها.(1/57)
ولِذَلِكَ فَزِعَ إِليه يُونُسُ فنجَّاه الله مِن تِلكَ الظُلماتِ وفَزِعَ إِليهِ أَتْبَاعُ الرُسُل فنجَو به مِمَّا عَذَّبَ بِِهِ المشركون في الدنيا وما أَعَدَّ لَهُمْ في الآخِرة.
ولما فَزِعَ إِليه فِرْعون عندَ مُعَايَنة الهَلاك وإدْرَاكِ الغَرقِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ.
لأِنَّ الإِيمانَ عِنْدَ المعاينة لا يُقْبَل هذه سنة الله في عِبادِهِ.
فما دُفِعَتْ شَدَائِدُ الدنيا بِمِثْلِ التَّوْحِيدْ.
ولذلِكَ كَان دُعَاء الكَرْبِ التوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فَرَّج اللهُ كَرْبَهُ بالتوحيد.
فلا يُلْقِي في الكرَبِ العَظائم إلا الشِّرك.
ولا يُنْجِي منها إلا التوحيد.
فهو مَفْزعُ الخَلِيقَةِ ومَلْجَؤهَا وحِصْنُها وغِيَاثُها.
شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِتَوحِيدِ الإِله فَإِنَّهُ ... نَجَاةٌ فَلا تُهْمِلْ كَلامي وَخُذْ بِهِ
شِعْرًا:
أذَلّ الحَرْصُ والطّمَعُ الرِّقابَا ... وقَد يَعْفو الكَريمُ إذا اسْتَرَابًا
إذا أتَّضَحَ الصّوابُ فلا تَدَعْهُ ... فإِنّكَ قَلّمَا ذُقتَ الصَّوابًا
وَجَدْتَ لَهُ على اللَّهَواتِ بَرْدًا ... كَبَرْدِ الماءِ حِينَ صَفَا وطابًا
ولَيس بحاكِمٍ مَنْ لا يُبَالي ... أأخطَأ في الحُكُومَةِ أَمْ أصابًا
وإن لِكُلِّ تَلْخِصٍ لَوجْهًا ... وإنَّ لِكُلّ ذِي عَمَلٍ حِسَابًا
وإنَّ لِكُلِّ مُطّلَع لَحَدا ... وإنَّ لِكُلّ ذِي أجَلٍ كِتابًا
وكُلُّ سَلامَةٍ تَعِدُ المنَايَا ... وكُلُّ عِمارَةٍ تَعِدُ الخَرابًا
وكُلُّ مُمَلَّكٍ سَيَصِيرُ يَوْمًا ... وما مَلَكَتْ يَدَاهُ مَعًا تُرابًا
أَبَتْ طَرَفَاتُ كُلِّ قَريرِ عَين ... بها إلا اضْطِرابًا وانْقِلابًا
كَأَنَّ مَحَاسِنَ الدّنْيا سَرابٌ ... وأيُّ يَدٍ تَنَاوَلتِ السرَّابًا
وإنْ يَكْ مُنْيَةٌ عَجِلَتْ بِشَيءٍ ... تُسَرُّ به فإِنَّ لَهَا السَّرابًا
فَيا عَجَبًا تَمُوتُ، وأَنتَ تَبْني ... وتَتَّخِذ المَصَانِعَ والقِبابًا(1/58)
أَرَاكَ وكُلَّمَا فَتَّحْتَ بَابًا ... مِنَ الدّنْيا فَتَحْتَ عَلَيْكَ نَابًا
ألمْ تَرَ أنّ غُدْوَةَ كُلِّ يَوْمٍ ... تَزِيدُكَ مِن مَنِيَّتِكَ اقْتِرَابًا
وحُقّ لِمُوقِنٍ بالمَوْتِ أَنْ لا ... يُسَوِّغَهُ الطَّعامَ ولا الشّرَابًا
يُدَبِّرُ ما تَرَى مَلِكٌ عَزِيزٌ ... بِهِ شَهِدَتْ حَوادِثُهُ وغَابًا
أَلَيْسَ اللهُ في كُل قَريبًا؟ ... بَلَى! مِن حَيثُ مَا نُودِي أَجَابًا
ولم تَرَ سَائِلاً لِلَّهِ أَكْدَى ... ولمْ تَرَ راجِيًا لِلَّهِ خَابًا
رَأَيْتَ الرُّوحَ جَدْبَ العَيشِ لَمَّا ... عَرفتَ العَيشَ مَخْضبًا واحْتِلابًا
وَلسْت بِغَالِب الشَّهَوَاتِ حَتَّى ... تُعِدَّ لَهُنَّ صَبْرًا واحْتِسَابًا
فَكُلُّ مُصِيبَةٍ عَظُمَتْ وَجَلّتْ ... تَخِفُّ إذا رَجَوْتَ لَها ثَوَابًا
كَبرنا أَيُّهَا الأَتْرابُ حتى ... كأنا لم نَكُنْ حِينًا شَبَابًا
وَكَنَّا كالغُصُونِ إذا تَثَنَّتِ ... مِنَ الرّيحانِ مُونِعَةً رِطَابًا
إلى كَمْ طُولُ صَبْوتَنا بِدارٍ ... رَأْيَتَ لها اغْتِصابًا واسْتِلابًا
ألا ما لِلكُهُولِ ولِلتَّصَابِي ... إذا مَا اغْتَرَّ مُكْتَهِلٌ تَصَابَى
فَزعْتُ إلى خِضَابِ الشّيِبِ مِنّي ... وإنَّ نُصُولَهُ فَصَحَ الخِضَابَا
اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لما خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بما تَكَفَّلْتَ لنا به واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بلقَائِك ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك ويخشَاكَ حَقَّ خَشْيَتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
حكم وفوائد
قال أحدُ العُلَمَاءِ: لا يَكُنْ همُّ أحدِكم في كثرةِ العَمَلَ، ولكن ليكن هَمُّه في إحكامِهِ وإتقانِهِ، وتحسينِهِ.(1/59)
فإن العبدَ قد يُصَلِّي وهو يَعْصِي الله في صلاتِهِ، وقد يَصومُ وهو يَعْصِي الله في صِيامِهِ.
وقِيل لآخر: كيفَ أصْبَحتَ؟ فبكى، وقال: أَصْبَحتُ في غفْلةٍ عن الموتِ مَعَ ذُنُوبٍ كثيرةٍ قد أحَاطَتْ بِي وأجلٍ يُسْرِعُ كُلَّ يومٍ في عُمُري، ومَوئْل لَسْتُ أدْرِي علامَا أَهْجِمُ ثم بَكَى.
وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيءٍ يَضُرُكَ غَدًا (أَيْ في الآخرة) ولا تَفْرَحْ بشيءٍ لا يَسرُكَ غدًا، وأنفعُ الخوفِ ما حَجزَكَ عن المعاصي، وأطالَ الحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتَكَ مِن الطاعِة، وألْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقيةِ عُمُرِكَ.
وقال آخر: عليكَ بصُحْبةِ مَن تُذَكِّرُكَ اللهَ عزَّ وَجَلَّ رُؤيَتُهُ، وتَقَعُ هَيْبَتُه على باطِنِكَ، ويَزيُدُ في عَمَلِكَ مَنْطِقُه.
ويُزَهِّدُكَ في الدنيا عَمَلهُ، ولا تَعْصِي اللهِ مادُمْت في قُرْبِهِ يَعِظكَ بلِسانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسانِ قَوْلِهِ.
قال إسرافيل: حَضَرتُ ذِي النون المِصِري وهو في الحَبْسِ وقد دَخَلَ الشُرطِيُّ بِطعامٍ لَهُ فقامَ ذُو النونِ فَنَفَضَ يَدَهُ (أيْ قَبضها عن الطعام) .
فقيل له: إن أخاك جَاءَ به، فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، وقَالَ بعضُهم يُوبِّخُ نَفْسَهُ وَيَعِظُها: يا نَفْسُ بادِرِي بالأوقاتِ قبلَ انْصِرامها، واجْتَهدي في حَراسَةِ لَيَالي الحَياةِ وأَيَّامِهَا.
فكأنَّكِ بالقُبورِ قد تَشَقَّقَتْ، وبالأمُوُر وقد تَحَقَّقَتْ، وبِوجُوُه المتقينَ وقد أشْرَقَتْ، وبرُؤُوسِ العُصَاةِ وقدَ أَطْرَقَتْ قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} يا نفس أمَّا الوُّرعون فقد جَدَّوا، وأما الواعظُون فقد نَصَحُوا. انْتَهى.(1/60)
واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) اعلَمْ أنَّ صَاحِبَ البصِيرةِ إذا صَدَرَتْ منه الخَطِيئةُ فلهُ نَظَرٌ إلى أُمور أَحَدُهَا: أنْ ينظرَ إلى أمرِ اللهِ ونَهْيِهِ فيُحْدِثَ له ذلك الاعترافَ بكونِهَا خَطِيئَةً، والإِقْرَارَ على نفسِه بالذَنْب، والثاني: أنْ ينظرَ إلى الوعدِ والوعيدِ فيُحِدَث له ذَلِكَ خوفًا وخشْيةً تحْمِلُهُ على التوبةِ، والثالثُ: أَنْ يَنْظُرَ إلى تَمْكِينِ اللهِ لَهُ مِنهَا وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَه وَبَيْنَها وَتَقْدِيرِها عليه وأنه لو شاء لَعَصَمَهُ مِنْهَا فَيُحْدثَ له ذلك أنواعًا مِنَ المعرفِة باللهِ وأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ وعَفوِهِ وحِلمِهِ وكرمِِهِ وتوجبُ له هذه المعرفةُ عُبوديةً بهذه الأسماءِ لا تحصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا البَتَّةَ وَيَعْلَمُ ارتباطَ الخلق والأمرِ والجزاءِ والوعْدِ والوعيدِ بأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وأنَّ ذلك بموجبِ الأسماءِ والصفاتِ وأثرها في الوجودِ وأنَّ كلَ اسم وصِفةٍ مُقْتَضٍ لأثَرهِ وَمُوجِبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ لا بُدَّ منه.
وَهَذَا المَشْهَدُ يُطْلِعُهُ على رِياضٍ مُونِقَةً مِن المَعَارِفِِ والإيمانِ وأسْرَارِ القَدَرِ والحِكمَةِ يَضِيقُ عن التعبيرِ عنها نِطاقُ الكَلِمِ فَمِنْ بَعضِهَا ما ذكره الشيخُ (يُريدُ صاحِبَ المنازلِ) : أنْ يَعْرِفَ العبدُ عِزَّتَهُ في قَضَائِهِ وَهُوُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ العَزِيز الذي يَقْضِي بما يشاءُ وأنه لِكمالِ عزتِهِ حَكَمَ على العبدِ وقضى عليهِ بأنْ قلبَ قَلْبِهُ وصرَّفَ إرَادَتَه على ما يَشَاءُ وحالَ بين العَبْدِ وقلبِهِ وَجَعَلَهُ مُريدًا شائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وهذا مِنْ كَمالِ العِزَّةِ، إذْ لا يَقْدِرُ عَلى ذلِكَ إلا اللهُ وغايةُ المَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في بَدَنِكَ وظاهِرِكَ، وأمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شائيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فلا يَقْدرُ عليهِ إلا ذُو العِزَّةِ البَاهِرَةِ.
فإذا عرف العبدُ عِزَّ سيدِهِ ولا حظَ بقلبِهِ وتمكَّنَ شهودُهُ مِنْهُ كان الاشتغالُ بهِ عن ذُلِّ المَعصيةِ أولى بهِ وأنفعَ له لأِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللهِ لا مَعَ(1/61)
نَفْسِهِ، ومِنْ مَعْرِفِة عِزتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَعْرِفَ أنه مُدَبَّر مَقْهُورٌ ناصيتُهُ بِيدِ غيرِهِ لا عِصْمَةَ لَه إلا بِعِصْمَتِهِ ولا تَوفيقَ له إِلا بِمَعُونَتِهِ فهُوَ ذَليلٌ حقيرُ في قبضةِ عَزيزٍ حميدٍ.
وَمِنْ شُهودِ عزَّتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَشْهَدَ أنَّ الكَمَالَ والحَمْدَ والغِنَى التامَّ والعزةَ كلهَا لِلهِ وأنَّ العَبْدَ نَفْسَهُُُ أوْلى بالتقصيرِ والذمِ والعَيبِ والظُلمِ والحَاجةِ وكُلَّمَا ازدادَ شُهودُهُ لِذِلّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ ازدادَ شهودُهُ لِعزَّةِ اللهِ وَكَمالِهِ وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ وكذلك بالعكسِ فنقْصُ الذنْبِ وذِلتُهُ يُطْلعُهُ على مَشْهَدِ العِزّةِ.
ومنها: أن العبدَ لا يُريدُ مَعْصِيَةَ مَوْلاهُ مِنْ حَيثُ هِيَ مَعْصِيةٌ فإذا شَهِدَ جَرَيَانَ الحُكْمِ وَجَعْلَهُ فَاعلاً لِمَا هُوَ مُختارٌ، له مُرِيدًا بإرَادتِهِ وَمَشيئِتِه واختيارِهِ فكأنَهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ مُرِيدٌ شاءٍ غيرُ شاءٍ فهذا يَشْهَدُ عِزةَ اللهِ وعَظَمَتَهُ وكَمَالَ قُدْرَتِهِ.
شعرًا:
أَحْسِنْ بربِّك ظَنًا إنَّهُ أَبَدًا ... يَكْفي المُهِمَّ إِذا مَا عَزَّ أَوْ نابًا
لا تَيأَسَنَّ لِبَابَ سُدَّ في طَلَبٍ ... فالله يَفْتَحُ بَعْدَ البَابِ أَبْوابًا
ومِنْ ذلك أن يَعرفَ بِرَّهُ سبحانَه في سَتْرِهِ عليهِ حالَ ارتكابِ المعصيةِ معَ كمالِ رؤيتِهِ لهُ ولو شاء لَفَضَحَهُ بينَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوه وهذا مِن كمالِ بِرِّهِ ومِنْ أسمائِه البَرُّ، وهذا البرُّ من سيدِهِ كان عن كمالِ غِنَاهُ وَكمالِ فقْرِ العبدِ إليهِ فيشتغلُ بمطالعَةِ هذه المِنةَ وَمُشَاهَدَةِ هَذَا البِرِّ والإحسانِ والكرم فيَذهَلُ عن ذِكرِ الخَطِيئَةِ فَيَبْقَى مَعَ اللهِ سبحانه وذلك أَنْفَعُ لهُ مِن الاشتغالِ بجنايَتِهِ وَشُهُودِ ذُلِّ المَعْصِيَةِ فإنَّ الاشْتِغَالَ باللهِ والغَفْلةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ المَطْلَبُ الأعلى والمقصَد الأسْنَى.(1/62)
ومنها: شُهودُ حِلْمِ اللهِ سبحانه وتعالى في إمْهَالِ رَاكِبِ الخَطِيئَةِ مُطْلقًا ولو شاءَ لَعاجَلَه بالعُقُوبَةِ ولكِنَهُ الحَلِيمُ الذي لا يَعْجَلُ فَيُحْدِثُ له ذلك مَعْرِفةَ رَبِهِ سبحانه باسْمِهِ الحليمِ ومُشَاهَدَةَ صفةِ الحِلْمِ والتَّعَبُدِ بهذا الاسمِ. والحكمةُ والمصلحةُ الحاصلةُ ومن ذلك بتوسّطِ الذَنْبِ أحبُّ إلى اللهِ وأصلحُ للعبدِ وأنفَعُ من فَوْتِها، ووجودُ الملزومِ بدونِ لازمِهِ مُمْتَنِعٌ ومنها مَعْرِفَةُ العَبْدِ كَرَمَ رَبِهِ في قُبولِ العذرِ منه إذا اعتذرَ إليهِ بنحْوِ ما تقدم مِن الاعتذارِ لا بالقَدَرِ فإنه مخاصَمَتُه وَمُحَاجّة.
ومنها: أنْ يَشهدَ فضلَهُ في مَغفرتِهِ فإن المَغْفِرَةَ فضْلٌ مِن اللهِ وإلا فَلَو أَخَذَ بمحْض حَقِّهِ كان عادِلاً مَحْمُودًا.
وإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لا باسْتِحْقاقِكَ فَيُوجِبُ ذَلِكَ شُكرًا وَمَحَبةً وإنابَةً إليه وفَرَحًا وابْتِهَاجًا بِهِ ومَعْرِفَةً لَهُ باسْمِهِ الغَفَّارِ وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ وَتَعَبُّدًا بِمُقْضَاهَا وَذَلِكَ أَكْمَل ُفي العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ والمَعْرِفَة.
وَمِنْهَا: أَنْ يُكْمِلَ لِعبدِهِ مَرْتَبَةَ الذُلِ والخُضُوعِ والانْكِسَارِ بَينَ يَدَيْهِ والافتقارِ إِليه.
إِنِّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا حِكَمًا ... وَأَوْرَثَتَنَا أَفَانِينَ المُوَدَّاتِ
وَهَلْ رَأيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً ... لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَامَاتِ
اللَّهُمَّ أَيْقظَ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرفَةَ بكَ عَنْ بَصِيرَةً وَأَلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْركَ وَوَفّقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : ومنها: أنَّ أَسْمَاءَ الربِ تَقْتَضِي آثارَها اقْتضاءَ الأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسبَّباتِها فاسمُ السميعِ البصيرِ يَقْتَضِي مسْمُوعًا وَمُبْصرًا واسْمُ الرَّزَّاقِ(1/63)
يَقْتَضِي مَرْزُوقًا واسْمُ الرحيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا وكذلك أسماء: (الغَفورِ، والعَفُوِّ، والتوابِ، والحَليم) يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَيَتُوبُ عليه وَيَعْفو وَيَحْلُم وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيْلُ هَذِهِ الأسْمَاءِ والصفاتِ إذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ وَنُعوتُ جَلالٍ وأَفعالُ حِكمةٍ وإحسانٍ وَجُودٍ فلا بدّ مِن ظهورِ آثارِها في العالَم.
وإلى هذا أشار أعلمُ الخلقِ باللهِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ حيثُ يَقولُ «لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكمْ وَلَجَاء بقوم يُذْنِبُونَ ثم يسْتَغْفرُونَ فَيَغْفِرُ لهم» وأَنْتَ إذا فرضْتَ الحيوان بجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سبحانه وإذا فَرَضَتْ المَعْصِيَةَ والخَطِيئَةَ مُنْتَفِيةً عن العالَم فلِمَنْ يغفرُ؟ وعمَّنْ يَعْفُو؟ وعلى مَن يتوبُ وَيَحْلَم؟ وإذا فرضْتَ الفاقات كُلَها قد سُدَّتْ والعبيدَ أغنياءَ مُعَافِين فأَيْنَ السُؤالُ والتَّضَرُّعُ والابْتِهَالُ والإِجَابةُ وَشُهودُ المنةِ والتخصيصُ بالإنعام والإكرامِ فسُبْحانَ مَنْ تَعرَّف إلى خَلقِهِ بجميعِ أنواعِ التعرّفاتِ وَدَلّهم عليه بأنواعِ الدلالاتِ. انتهى.
شعرًا:
دَع المَعَاصِي عَنْكَ في مَعْزلٍ ... وتُبْ إلى مَن هو نِعْمَ الغِيَاثْ
فليْسَ يُحْظَ بِجَدِيد الرّضَا ... عَبْدٌ عَلَيه حَسَنَاتٌ رِثَاثْ
آخر:
وذُقْتُ مَرَارةَ الأشْيَاطُرًا ... فما طَعْمٌ أَمَرّ مِنَ المعَاصِي
آخر:
حَتَّى مَتَى تُسْقَى النُفوسُ بكأسِها
رَيْبَ المَنونِ وأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ
عَجَبًا لأَمْنِكَ والحَيَاةُ قَصِيرَةٌ
وَبِفَقْدِ إلفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ
أَفَقَدْ رَضِيتَ بأنْ تُعلّلَ بالمُنَى
وإِلَى المنِيَّةِ كُلَّ يَومٍ تُدْفَعُ(1/64)
لا تَخْدعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجارُبٍ
دُنْيًا تَغُرُّ بوصْلِهَا وسَتُقْطَعُ
أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَايلٍ
إِنّ اللَّبيبَ بِمِثْلِها لا يُخْدَعُ
وَتَزَوَّدَنَّ لِيَومَ فَقْرِكَ دَائِمًا
أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ تَجْمَعُ
آخر: ... يا عَبْدُ كَمْ لَكَ مِن ذَنْبٍ وَمَعْصِيةٍ ... إنْ كُنْتَ نَاسِيهَا فالله أحْصَاها
يا عَبْدُ لا بُدَّ مِنِ يومٍ تَقَوم لَهُ ... وَوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي الكَفَّ ذِكْرَاها
إذَا عَرَضْتُ على نَفسي تَذكُرَهَا ... وَسَاءَ ظنَّي قُلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ
آخر:
ما زُخْرُفُ الدُّنْيَا وزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
ولَرُبَّ أَقْوَام مَضَوا لِسَبِيلِهمْ ... ولَتمضِينَّ كَمَا مَضَى الأقْوَامُ
ولَرُبَّ ذِي فُرشٍ مُمَهَّدَة لَهُ ... أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَابِ رُكَامُ
والموتُ يَعمل والعُيونُ قَريرةٌ ... تلْهُوا وتَلْعَبُ بالمنَى وتَنَامُ
كُلٌ يَدُورُ على البَقَاء مُؤَملاً ... وَعَلى الفَنَاءِ تُدِيرُهُ الأيامُ
والدَّائِمُ الملكوتِ رَبٌ لم يَزَلْ ... مَلِكًا تَقَطَّعُ دُونَهُ الأوهَامُ
فالحمدُ لله الذِي هُوَ دَائِمٌ ... أَبَدًا ولَيْسَ لِمَا سواهُ دَوَامُ
اللَّهُمَّ اعْتقْنَا مِن رقِّ الذُّنُوبْ، وخَلِّصْنَا مِن أَشَرِ النُّفوسْ، وأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ وطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذُّنُوبَ، وباعِدْ بَيْنَنا وبَيْنَ الخَطَايَا وأجِرْنا مِن الشيطان الرجيم.
آخر ... أَقُولٌ وطَرْفي غَارقٌ بِدُمُوعِهِ ... لِمَا قَدْ جَرَى لِي في الذُنُوب تَمادِي
فَهَلْ مِن تَلافي سَاعَةٍ أَشْتَفِي بهَا ... أُجَدِّدُ فيهَا تَوْبَةَ بِسَدَادِ
وأَسْأَلُ مَوْلاي القَبُول لِدْعوتِيْ ... فَغَايَةُ سُؤْلي هَذِهِ وَمُرَادِي(1/65)
آخر: ... يا أَيُهَا الزاهِدُ بالزُّهْدِ ... عَرِّجْ مِن الهَزْلِ إلى الجِدِّ
فَبَعْدَ نُورِ الشَيْبِ لا يُرْتَجى ... لِلْمَرءِ إِلا ظُلْمَةُ اللّحْدِ
فاحْتَلْ مِن التَّوبةِ في أجْرِه ... إن شِئْتَ سُكْنى جَنّةِ الخُلْدِ
اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ إنكَ جَوادٌ كريم رؤوفٌ غفور رحيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
(فَصْلٌ) وقالَ رَحِمَهُ اللهُ: لِلتَوْبةِ المقبولةِ علاماتٌ:
مِنْهَا: أنْ يكونَ بعدَ التوبةِ خيرًا مِمّا قبلَها. ومنها: أنَّه لا يزالُ الخوفُ مُصَاحِبًا لهُ لا يأمنُ مكرَ اللهِ طرْفةَ عيْنٍ، فخوفُهُ مُسْتَمِرُّ إلى أنْ يَسْمَعَ قولَ الرُسُلَ لِقبِض رُوُحِهِ (41: 30) {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فهُنا يَزُوْلُ الخوفُ.
ومنها: انْخِلاعُ القَلْبِ وَتَقَطُّعُهُ نَدَمًا وَخَوْفًا وهذا على قَدْرِ عِظَمَ الجِنَايةِ وَصِغَرهَا. وهذا تأويلُ ابنُ عُيَيْنةَ لقولِهِ تعالى (9: 110) : {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} . قال: تَقْطعُها بالتَّوْبَةِ. وَلا رَيْبَ أنَّ الخَوفَ الشدِيدَ مِنَ العُقوبةِ العَظيمَةِ يُوجِبُ انْصِداعَ القَلْبِ وانْخِلاعَهُ.
وهذا هُوَ تَقَطُعُهُ وهذا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ لأَنَهُ يَنْقَطِعُ قَلْبُهُ حَسْرَةً على ما فَرَطَ منهُ وَخَوفًا مِنْ سُوء عاقَبتِهِ فمَنْ لم يَنْقَطِعْ قَلْبُهُ في الدنيا على مَا فَرَّطَ حَسْرةً وَخَوْفًا تَقَطَّعَ في الآخِرَةِ إذا حُقَّتِ الحَقَائِقُ وعايَنَ ثَوابَ المُطِيعينَ وَعِقَابَ العاصينَ فلا بُدَّ مِنْ تَقَطّعَ القَلْبِ إما في الدُنيا وإما في الآخرة.
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ من التُقى ... وأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتَ مَنْ قَدْ تَزَّوَدَا
نَدِمْتَ عَلَى أنْ لا تكُون كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَان أَرْصَدَا(1/66)
آخر:
وما أقَبَحَ التفّرْيط في زَمَنِ الصّبَا ... فكيَفْ به والشّيْبُ في الرَّأس شَامِلٌ
تَرَحَّلْ مِنَ الدنْيَا بِزَاد مِن التّقَى ... فَعُمْرَكَ أَيْامٌ تُعَدٌّ قَلائِلُ
آخر:
وَإِذَا رُزِقْتَ مِن الحَلال تجاةً ... فابْذِلَ لَهَا في مَرَاضي الله مُجْتَهِدًا
ومِنْ مُوْجِباتِ التوبةِ الصحيحةِ أَيْضًا كَسْرَةٌ خاصَّةُ تَحْصُلُ لِلْقَلْبِ لا يشْبِهْهَا شَيءٌ، ولا تكونُ لِغَيْرِ المُذْنِبِ لا تَحْصُلُ بجُوعٍ ولا رِياضَةٍ ولا حُبٍ مُجرَّدٍ وإنَّمَا هِيَ أمْرٌ، وَرَاءَ هذا كُلِّهِ تُكَسِّرُ القَلْبَ بَيْنَ يَدَي الرَّب كَسْرةً تامةً قد أَحَاطَتْ بهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ وألقَتْهُ بين يَدَي رَبِهِ طَرِيحًا ذَلِيلاً خَاشِعًا كََحَالِ عَبْدٍ جَانٍ أَبَقَ مِنْ سَيّدِهِ فَأُخِذَ فأُحضِرَ بينَ يَدَيهِ ولم يَجدْ مَنْ يُنِجيهِ مِن سَطْوتِهِ وَلَم يَجْدْ منه بُدًا ولا عنه غَناءً ولا مِنْهُ مَهْرَبًا وَعَلِمَ أنّ حَيَاتَهُ وَسعادَتَه وفلاحَه ونجاحَه في رِضَاهُ عنهُ، وقدْ عَلِمَ إحاطةَ سَيّدِهِ بِتَفَاصِيلِ جِنَايَاتِهِ، هذا مَع حُبِّهِ لِسَيّدِهِ وشِدَّةِ حاجتهِ إليهِ وعِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَعَجَزِهِ وَذُلِّهِ وَقُوَّةِ سيدِهِ وَعِزَّتِهِ. فَيَجْتَمِعُ في هَذِه الأَحْوَالِ كَسْرَةٌ وذُلٌ وَخُضُوعٌ ما أنفعَهَا لِلْعَبِدِ وما أجْدَى عائِدَتُهَا عليهِ وما أعظمَ جبْرُهُ بها وما أقرَبَهَ بها مِن سَيِّدِهِ فليْسَ شَيءٌ أحَبَّ إلى سَيِّدِهِ مِن هذِهِ الكسْرةِ والخُضوعِ والتذللِ والإخْباتِ والانطِراحِ بَيْنَ يَدَيْهِ والاسْتِسْلامِ لَهُ.
فلِلهِ مَا أَحْلَى قَوْلَهُ في هذِهِ الحَالِ أَسْأَلُكَ بعِزّكَ وَذُلِي إلا رَحِمْتَنِي. أسألك بقٌوتكِ وَضعْفِي، وبِغِنَاكَ عَنّي وَفَقْرِي إليكَ هذِهِ ناصِيَتِي الكاذبةُ الخاطئةُ بينَ يَدَيْكَ، عَبِيدُكَ سِوَايِ كثيرٌ وليسَ لي سَيِّدٌ سِوَاكَ لا مَلجأَ ولا مَنْجَى مِنْكَ إلا إليكَ أسْأَلُكَ مَسْألةِ المِسكينِ، وأبْتَهِلُ إليكَ ابْتِهَالَ الخَاضِعِ الذليل، وأدعُوكَ دُعاءَ الخائِفِ الضَرِيرِ سُؤالَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبتُهُ، وَرَغِمَ لك أنفُه، وفاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذَلَّ لَكَ قَلْبُهُ.
فَهَذَا وأمثالُه مِنْ آثَارِ التَوبةِ المَقْبُولَةِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذلِك في قَلْبِهِ(1/67)
فَليتَّهِمْ تَوبَتَهِ وَلْيَرْجِعْ إلى تَصْحِيحِها فَمَا أصْعَبَ التَوبةَ الصَّحِيحَةَ بالحَقِيقَةِ وَمَا أَسْهَلَها باللسانِ والدَّعْوَى، وَمَا عَالجَ الصَّادِقُ بِشيءٍ أَشَدّ عَلَيهِ مِنَ التَّوْبَةِ الخالِصةِ الصَّادِقةِ ولا حَوْلَ وَلا قُوةَ إِلا باللهِ.
وَحَقائِقُ التَّوْبَةِ ثَلاثَةٌ: وَعَدَّ منها اتْهامَ التوبةِ قال: لأنها حقٌ عليهِ لا يَتَيَقّنُ أنه أدَّى هذا الحقَ على الوجهِ المطلوبِ مِنْهُ الذي يَنْبَغِي لهُ أَنْ يُؤدّيِهُ عليه، فيخافُ أنه ما وفَّاها حَقَها وأنها لم تُقبلْ منه وأنه لمْ يبذلْ جُهدَه في صِحَّتِها، وأنها تَوْبَةُ عِلّةٍ وهو لا يَشْعُرُ بها كَتَوْبةِ أرْبَابِ الحَوَائِجِ والإِفلاسِ والمُحَافِظِينَ على حَاجَاتِهِم وَمَنازِلِهمْ بينَ النَّاسِ.
أَوْ أَنَّهُ تَابَ مُحَافَظَةً على حَالِهِ فَتَابَ لِلْحَالِ لا خَوْفًا مِن ذِي الجَلال، أو أنه تَابَ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ مِنَ الكدِّ في تَحْصِيلْ الذنْبِ أو اتِّقاءِ ما يَخافُهُ على عِرْضِهِ وَمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ أو لِضَعْفِ داعِي المعصيةِ في قلبِهِ وَخُمُودِ نارِ شَهْوتِهِ أو لِمُنافاةِ المعصِيَةِ لِمَا يَطْلِبُهُ مِنَ العلمِ والرزقِ وَنَحْوِ ذلك مِنَ العِلَلِ التي تَقْدَحُ في كونِ التَّوْبةِ خَوْفًا مِنَ اللهِ وتعظيمًا لَهُ ولِحُرُمَاتِهِ وإجْلالاً لَهُ وَخَشْيَةً مِنْ سُقُوطِ المنْزِلةِ عندَهُ وعن البُعْدِ والطردِ عَنْهُ والحِجابِ عن رُؤْيةِ وَجْهِهِ في الدَارِ الآخِرَةِ فَهَذِهِ التَوْبَةُ لَوْنٌ وَتَوْبَةُ أَصحابِ العِللِ لَوْن قال:
ومِنَ اتّهِامِ التَّوْبَةِ ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ والتِفَاتُ الْقَلْب إِلى الذَّنْبِ الْفَيْنَةَ بَعدَ الفينةِ وتذكُّرُ حَلاوَةِ مُوَاقَعَتِهِ. ومِنَ اتّهَامِ التَّوْبَةِ طُمَأْنِينَتُهُ وَوثوقُهُ مِنْ نفسِهِ بأنَهُ قَدْ تَابَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مَنْشُورًا بالأمانِ فَهَذِهِ مِن عَلامَاتِ التُّهْمَةِ.
وَمِنْ عَلامِاتِهَا جُمُودُ الْعَيْنِ واسْتِمْرَارُ الْغَفْلَةِ وأنْ لا يَسْتَحْدَثَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْمَالاً صَالِحةُ لَمْ تَكُنْ له قَبْلَ الْخَطِيئةِ.
شِعْرًا:
خُذْ مِن شَبَابِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ والْهَرَمِ ... وَبَادِرِ التَّوبَ قَبْلَ الْفَوتِ وَالنَّدَمِ
واعْلَمْ بأنَّكَ مَجْزِيٌ وُمرْتَهَنٌ ... وَرَاقِب الله واحْذَرْ زلَّةِ الْقَدَمِ(1/68)
فَلَيْسَ بَعْدَ حُلُولِ الموتِ مَعْتَبَةٌ ... إِلا الرَّجاَءُ وعَفْو الله ذِي الكَرَمِ
آخر:
احْفَظْ مَشِيبَكَ مِنْ عَيْبٍ يُدَنِّسُهُ ... إِنَّ البَيَاضَ سَرِيعُ الحَمْلِ لِلدَّنَسِ
واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) فِي وَصَايَا وَفَوَائِدَ وَمَوَاعِظَ وَآدَابْ
أَوْصَى بَعضُهم، فقال: إذا عَصَيْتَ الله بِمَوضعٍ بأن حَصل مِنكَ ذَنْبٌ فاعْمَلْ في ذَلِكَ الموضعِ طَاعةً كاسْتِغْفَارٍ وذِكْرٍ لِلَّهِ ونَحْوِ ذَلِكَ فكما يَشْهَدُ عَليكَ يَشهَدُ لَكَ.
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} . وَكُلَّمَا تَذَكَّرْتَ ذَنْبًا صَدَرَ مِنْكَ فَتُبْ عَقِبَ ذِكْركَ إَيَّاهُ تَوبةً نَصُوحًا وأَكْثِرْ مِنَ الاستغفار.
قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
احْرِصْ عَلى أن تَنْوِيَ فِعْلَ الخير، وإذا حَدَّثَتْكَ نفسُكَ بِشَرٍ فاعْزِمْ على تَرْكِهِ لِلَّهِ.
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: (إِذَا تَحَدَّثَ عَبدي بَأَنْ يَعمل حَسَنَةً فأنا أكتُبُها له حَسَنَةً ما لم يعمل، فإذا عَمِلَهَا فأنا أكتُبُها بعَشْرِ أَمْثالِها) .
وإذا تَحَدَّثَ بأن يَعْمَلَ سَيِئَةً فأنا أغْفِرُهَا لَهُ ما لم يَعْمَلْها فإذا عَمِلَهَا فأنا أكتُبَها له بِمِثْلِهَا. ومما أوصَى به بعضُهم قال عَلَيكَ بِذِكْرِ اللهِ قَائمًا وقَاعدًا وعَلى جَنْبِكَ في السر والعلانية وفي الملا.
قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ(1/69)
جُنُوبِهِمْ} . وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} .
وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} .
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله دَوْمًا فإنَّهُ ... بِهِ يَطْمَئِنُّ القَلْبُ فالْزَمْهُ تَسْعَدِ
فلا تُبق في يَوْمِ السلامَةِ لحَظَةً ... تفوتُكَ لم تذكُر به الله وَحْدَهُ
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إِنْ ذَكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في مَلأ ذكْرته في مَلأ خَيرٍ منهم، وإن تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعًا، وإن تَقَرَّبَ إِليّ ذراعًا تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا، وإن أَتانِي يَمْشِي أَتَيْتًه هَرْولَةِ» .
احْرِصْ على صِيَانَةِ الوَقْتِ وَثابْر على إتْيَانِ جَميعِ مَا يُقَرِّبُك إلى الله مِن الأعمال وبالأخص الإكثار مِن كلمة الإخلاص وهي: لا إلهَ إلا الله.
واعلم أنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شيء، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة الحق، ودعوة الحق.
وهي أعلا كلمة وأشرف كلمة وأحسن كلمة وأفضل كلمة وأنجى كلمة وما أنعم الله على عبد نعمةً أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله وفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا وَوَفَّقَهُ لِلْعَملِ بِمُقْتَضَاهَا وعليكَ بالقِيامِ بما افْتَرضَ اللهُ عَلَيْكَ ومُلاَزَمَتِهِ على الوَجهِ الأكمَلِ الذي أمركَ اللهُ جَلَ وَعَلاَ أن تقومَ فيه.
قال الله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} . وفي حديث سفيان بن عبد الله قال: قلتُ: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غَيْركَ قال: «قل آمنتُ بالله ثم اسْتَقِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفي حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَقِيمُوا ولن تُحْصُوا وأعلموا(1/70)
أَنَّ خَيرَ أَعْمَالِكم الصلاة ولا يُحَافِظ على الوضوءِ إلا مُؤمن» . وفي روايةٍ للإِمام أحمد: «سَدِدُوا وقاربُوا ولا يُحَافِظُ على الصلاة إلا مُؤمنِ» . وعليكَ بمراعاةِ أَقْوَالِكَ كَما تُرَاعِي أَعْمَالَك فإنَّ أَقوالَكَ مِن جملةِ أَعْمَالِكَ قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} واحْذّرْ الإقامةَ بينَ أَظْهُرِ الكفار فإن في ذلك تشجيعًا للكفار وإهانةً لِدين الإسلام وإعلاءً لِكَلِمَةِ الكفر. نسأل اللهُ العافية، فَعَلى المسلم أنْ يَحْفَظَ أولادَهُ عن الذهاب إلى بلاد الكفار ويَنْصَحَ مَنْ يَقْبَلَ منه مِن قَرَابَتِهِ وأصْدِقائِهِ وجميع المسلمين.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بَريءٌ مِن كل مسلم يُقِيمُ بين أظهُر المشركين لا تَرَآءى نَارَاهُما» . رواه أبو داود، والترمذي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن جَامَعَ المشركَ وَسَكَنَ مَعَهُ فإنه مثلُه» . رواه أبو داود.
وعليك بتلاوة القرآن بِتَفَهُّمٍ وتَدَبُرَّ وتَفكُرٍ ونَظَرٍ فيما تَتْلُوهُ إلى ما حُمِدَ فيه مِنَ النُعُوتِ والصِفاتِ التي وَصَفَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بها مَن أَحَبَّهُ مِن عِبَادِهِ فاتَّصِفْ بها.
وما ذَمَّهُ اللهُ في القرآن مِن الصفاتِ فاجْتَنِبْهَا فإنَّ الله جَلَ وَعَلاَ ما أنْزَلَهَا في كتابِهِ وذَكَرَهَا لك وَعَرَّفَكَ بِهَا إلا لِتَعْمَلَ بِهَا.
فإذا قَرَأْتَ القُرآنَ فاجْمَعْ قَلْبَكَ وحَضِّرْه وفَكِّرْ فِيمَا تَتْلُو وما أشكلَ عَلَيْكَ فَطَالِعْ مَعْنَاهُ في التَّفْسِيرْ إِنْ كُنْتَ تُحْسِنُ ذَلِكَ وإلا فاسْأل أهْل الذِكْرِ.
قال الله جَل وَعَلاَ وتقَدس: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . ولا أفضلَ مِن تِلاوَةِ كلامِ اللهِ فأفْضَلُ الكلامِ كلامُ الملكِ العَلاَّم جل وعلا وتقدس.
وكُلُ ذِكْرٍ وَرَدَ فَضْلُهُ في خَبرَ أَوْ أَثَرٍ فهو بعدَ كلام الله فالتَّسْبِيحُ والتهليلُ والتكبيرُ والتحميدُ بَعْدَ التِلاوةِ وَبعدَهُنَّ الصلاةُ على رسَول - صلى الله عليه وسلم -.
وعليك بمُجَالَسَةِ مَن تَنْتَفِعُ بمُجَالَستِهِ في دِينِكَ مِن عِلْمِ تَسْتَفيِدُهُ أو عَمَل(1/71)
يَكونُ فيهِ أوْ خُلُق حَسَن يكون عليه تَكْسِبُهُ مِن صُحْبَتِِهِ.
وعَلَيْكَ بالبَذَاذَهة فإنها مِن الإِيمَانِ وهيَ تَرْكُ الزِّينَةِ وعَدَمُ التّرَفُّهِ ورثَاثَةُ الهَيْئَةِ والرِضَا بالدُونِ مِن الثِياب لِمَا وَرَدَ في الحديث: «إن البَذَاذَةَ مِن الإيمان» وفي الحديث الآخر: «إن الله عز وجل يُحِبُّ المُتَبَذِّلَ الذِي لا يُبَالِي مَا لَبسَ» وفي الحديث الآخر: «ومَن تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ وهو يَقْدِرُ عليهِ - أَحْسِبُهُ قال تواضعًا - كَسَاهُ الله حلة الكرامة» . رواه أبو داود.
شِعْرًا:
ومَن يَرْتَضِِي أَدْنَى اللِّباسِ تَواضُعًا ... سَيُكْسَى الثِّيَابَ العَبْقَرِيَّاتِ في غَدِ
آخر:
اطْلُبْ كَفافًا فما في الأرض مِنْ أَحَدٍ ... نَالَ الكَفَافَ عَلى تَقْوَى وإِرْشَادِِ
مِنْ مَلْبَسٍ وَشَرَابٍ بَعْدَ مَطْعَمِهِ ... في حَيْثُ خَيَّمَ في غَوْرِ وإنْجَادِ
إِلا حَوَى الفَوْزَ في الدنيا وَآجِلِهَا ... إذا أَعِينَ بِنَفْسٍ شِحُّّّهَا زَادِ
لاَ تَتْعَبَنَّ فإنَّ الرِّزْقَ عَنْ قَدَرٍ ... يَأْتِيكَ طَالِبُهُ مِنْ غير مِيعَادِ
واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
[فائدة عظيمة النفع]
اعْلَمْ أَنَّ مَن كان دَاؤُهُ المعصية فَشِفَاؤهُ الطاعة، وَمَن كان دَاؤهُ الغَفْلَةُ فشِفاؤه اليَقَظة، ومَن كان داؤهُ كَثْرةُ الأشغال فشفاؤه في تفريغ البال.
فمن تَفَرَّغَ مِن هُموم الدنيا قلبُه، قَلَّ تَعَبُه وتَوَفَّر مِنَ العِبَادة نصيبه، واتصل إلى الله مَسِيرهُ، وارتفع في الجنة مَصيره، وتمكن مِن الذِكر والفِكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس والشيطان، وغوائل النفس.
ومن كثر في الدنيا هَمُّه، أظلم طريقُهْ، ونصَبَ بَدَنُه، وضَاعَ وَقتُه، وتَشَتَّتَ شملُه، وطاشَ عَقْلُه، وانعقد لِسَانُه عن الذكر لِكثَرْة هُمومه(1/72)
وغمُومه، وصار مُقَيَّدَ الجوارح عن الطاعة، مِن قلبِه في كل وادٍ شُعْبَة، ومِن عُمرِه لكل ِ شغل حِصَّة.
فاستعذ بالله من فضول الأعمال والهموم فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشئوم، ومن فاته رضى مَولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر لو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماءِ البارد لأجل مَرضِ في جَسَدِك لأطعتَه في ترك ما نهاك عنه، وأنتَ تعلم أن الطبيب قد يَصْدُق وقد يكذب وقد يُصْيبُ وقد يخُطئ وقد يَنصَحُ وقد يَغشُ، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصحُ الناصحين وأصدق القائلين وأوفى الواعدين لأَجْلِ مَرَضِ القلب الذي إذا لم تشفَ منه فأنتَ من أهْلَكِ الهالكين.
تَبْغِيْ الوُصُولَ بسَيْرَ فيه تَقْصِيْرُ ... لاَ شَكَّ أنَّكَ فِيْما رُمْت مغْرُوْرُ
قَدْ سَار قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُواْ ... هَذا وفي سَيْرهَمْ جِدٌ وَتَشْمِيْرُ
يا مُدَّعِي الحُبَّ في شَرْعِ الغَرامِ وَقَدْ ... أَقَامَ بَيَّنَةً لَكِنّهَا زُوْرُ
أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ في لَهْوٍ وفي لَعِبٍ ... هَذَا وَأَنْتَ بَعْيدُ الدَّارِ مَهْجُوْرُ
لَوْ كَانَ قَلْبُكَ حَيًا ذُبْتَ مِنْ كَمَدٍ ... مَا لِلْجرَاح بَجِسْمِ المَيْتِ تَأْثِيْرُ
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ نَفْسًا مُطْمئنةً تُؤمِنُ بِلقَائِكَ وَتَرضَى بقَضَائك، اللَّهُمَّ إنا نَسأَلُكَ باسْمِكَ الطاهِرِ الطَّيبِ المُبَارَكِ الأحَبِّ إليك الذي إذا دُعِيتَ به أَجَبْتَ، وإذا سُئِلْتَ به أعْطَيْتَ، وإذا اسْتُرْحِمْتَ به رَحِمْتَ، وإذا استفرجْتَ به فَرَّجَتْ أَنْ تَغْفِرَ سَيئاتنا وتُبدلها لنا بِحَسَنات يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(1) موعظة
كَتَبَ عَليُّ بنُ أبي طالبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى وَلَدِهِ الحُسَيْن مِنْ عبدِ اللهِ(1/73)
عَليٍّ أمِير المؤمنينَ الوَالِدِ الْفَانِي الذَّامِّ للدُّنْيَا السَّاكِن مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، إِلى الْوَلَدِ الْمُؤمِّلِ مَا لا يُدْرَكُ السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، عُرْضَةُ الأَسْقَامِ وَرَهِينَةُ الأيامِ وأَسِير الْمَنَايَا وَقَرِينُ الرَّزَايَا وَصَرِيعُ الشَّهَوَاتِ وَنُصُب الآفاتِ وَخَلِيفَةُ الأَمْوَاتِ.
يا بُنيَّ إِنْ بَقيْتُ أو فَنِيْتُ فإني أُوصِيكَ بِتَقْوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ والاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ فإنَّ الله يَقُولُ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} الآية وأيُّ سَبَبٍ يا بُنَيَّ أَوْثَقُ مِنَ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَبيْنَ اللهِ عزَّ وجلّ.
أَحْيي قلبَكَ بالمَوْعِظَةِ وَنَوِّرْهُ بالحِكْمَةِ وَقَوِّهِ بالزُهْدِ وَذَلِّلْهُ بالَمْوتِ وَقرّرْهُ بالفَنَاءِ وَحَذِّرْهُ صَوْلةَ الدَهْر وَتَقَلُّبَ اللَيَالي.
واعْرضْ عليهِ أَخْبَارَ الماضِينَ وَسِرْ في دِيارهِمْ وآثارِهْمْ فانظُرْ مَا فَعَلُوا وأيْنَ حَلُّوا فَإَنَكَ تَجِدُهُم قَدِ انْتَقَلُوا مِنْ دَارِ الغُرورِ وَنَزَلُوا دارَ الغُرْبَةِ.
شِعْرًا:
سَلِ الأَيَّامَ مَا فَعَلَتْ بِكِسْرى ... وقَيْصَرَ والقُصُورَ وَسَاكِنيْهَا
أما اسْتَدَعَتْهُم لِلْمُوتِ طُرًا ... فَلَمْ تَدَعِ الحَلِيمَ ولا السَّفيهَا
دَنَتْ نحَو الدَّني بسَهْمِ خطْبٍ ... فأصْمَتْهُ ولَمْ تدَعِ الوَجِيهَا
أَما لَوْ بِيعَتِ الدُّنْيَا بِفِلْسٍ ... أنِفْتُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشْتَرِيهَا
وكأَنك عنْ قَليلٍ يا بُنيَ قد صِرْتَ كأحَدِهِمْ فبعْ دُنْيِاكَ بِآخِرَتِِكَ وَلاَ تَبعُ آخِرَتَك بدُنياكَ وَدَع القَوْلَ فِيمَا لا تَعْرفُ والأمْرَ فِيمَا لا تُكَلَّفُ وَمُرْ بالمعروفِ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ وَكُنْ مِن أَهْلِهِ وأَنْكِرِ المُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ وَبَايْنْ مَنْ فَعَلَهُ.
وَخضْ الغَمَرَاتِ إِلى الحَقِّ وَلاَ تَأخُذْكَ في اللهِ لَوْمَةُ لائِمَ واحْفَظْ(1/74)
وَصِيَّتي فلا خَيْرَ في عِلْمٍ لا ينفَعُ، واعْلَمُ أنه لا غِنَى بك عن حُسْن الارتِيَادِ مَعَ بَلاغِكَ مِنَ الزادِ.
فإنْ أَصبْتَ مِنْ أهلِ الفَاقَة مَنْ يَحْتَمِلُ عَنْكَ زَادَكَ فيُوَافِيكَ بهِ في مَعَادِكَ فاغْتَنِمْهُ فإنَّ أمامَكَ عقبةً كَؤُودًا لا يُجاوزُها إلا أخَفُّ الناسِ حِمْلاً.
وَأَجْمِلْ في الطَلَبِ وَأَحْسِنْ في المَكْسَبِ فَرُبَّ طَلَبٍ قدْ جَرَّ إلى حَرْبٍ وإنَّمَا المَحْروبُ مَنْ حُربَ دِينَهُ والمَسلوبُ مَنْ سُلِبَ يَقينَهُ، واعْلَمْ أَنهُ لا غِنَى يَعْدِلُ الجَنةَ ولاَ فقرَ يَعْدِلُ النارَ والسلام عليكَ ورحمةُ الله.
وَقال بَعْضُهم: لا غِنَى يَعْدِل رَضِى الله ولا فَقْرَ يَعْدِلُ سَخْطَهُ. قال النَّاظم:
وكُنْ بينَ خَوفٍ والرَّجَا عاملاً لِمَا ... تَخَافُ وَلاَ تَقْنَطْ وُثُوقًا بِمَوعِدِ
تَذَكَّرْ ذُنوبًا قَدْ مَضَيْن وَتُبْ لَهَا ... وَتُبْ مُطْلقًا مَع فَقْدِ عِلْمِ التَّعَمُّدِ
وبادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابُهُ ... وَتُطوَى على الأعمالِ صُحْفُ التزَوُّدِ
فحِينَئِذٍ لا يَنْفَعُ المَرْءَ تَوْبَةٌ ... إذا عَايَنَ الأَمْلاكَ أَوْ غَرْغَرَ الصَّدِي
ولا تَجْعَلِ الآمَالَ حِصْنًا فَإِنَّهَا ... سَرَابٌ يَغُرُّ الغافلَ الجاهلَ الصَّدِي
فَبَيْنَا هُوْ مُغْتَرًا يُفُاجِئُهُ الرَّدَى ... فَيُصْبحُ نَدْمَانًا يَعَضُّ على اليَدِ
وَتَوْبَةُ حقِّ اللهِ يَسْتَغْفرُ الفَتَى ... وَيَندمُ يَنْوِي لا يَعودُ إِلَى الرَّدَي
وإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ ظَاهِرًا ... فَسِتْرُكَ أَوْلَى مِنْ مُقِرٍّ لِيُحْدِدَ
وإِنْ تَابَ مِنْ غَصْبٍ فيُشرَطُ رَدُّهُ ... وَمَعْ عَجْزِهِ يَنْوي مَتَى وَاتَ يَرْدُدِ
وَمِنْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ مَتَابُهُ ... بِتَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ مَا أَبْتُدِي
وَتَحْلِيلُ مَظْلُومٍ مَتَابٌ لِنَادِمٍ ... تَدَارُكُ عُدْوَانِ اللِسَانِ أَوِ اليَدِ
لِلَّهِ دَرّ قَومٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات.(1/75)
والليلُ لدَيْهِمُ يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ، فإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات.
فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على الموبقات. قال الله جل وعلا: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} .
شِعْرًا:
أَفْنَيْتَ عًمْرَكَ والذُنُوبُ تَزِيدُ ... والكَاتِبُ المُحْصِي عَلَيْكَ شَهِيدٌ
كم قُلْتَ لَسْتُ بِعَائِدٍ في سَوْءَةً ... وَنَذَرْتَ فيها ثُمَّ تَعُودُ
حَتَّى مَتَى لا تَرْعَوِي عَنْ لَذَّةٍ ... وحِسَابُهَا يومَ الحِسَابِ شَدِيدُ
وَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ أَتَتْكَ مَنِيِّةٌ ... لا شَكَ أَنَّ سَبِيلِهَا مَوْرُودُ
شِعْرًا:
أَخِي قَدْ طَالَ لبثُكَ فِي الفَسَاد ... وَبِئْسَ الزَّادُ زَادُكَ لَلْمَعَادِ
صَبَِا مِنْكَ الفُؤَادُ فَلَمْ تَزَعْهُ ... وَجِدْتَ إَلَى مُتَابَعَةِ الفُؤَادِ
وقادَتْكَ المَعَاصَي حَيْثُ شَاءَتْ ... وَأَلْفَتْكَ امْرَءًا سَلِسَ القِيادِ
لَقَدْ نُودِيتَ لِلتِّرْحَالَ فاسْمَعْ ... ولا تَتَصامَمَنَّ عن المُنَادِي
كَفَاكَ مَشِيبُ رأسِكَ مِنْ نَذِيرٍ ... وَغالَبَ لَونُهُ لَوْنَ السَّوَادِ
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَتَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ إِيمَانِنا بِكَ عَمِيقًا وسَهِّلْ لَنَا إِلَى مَا يُرْضِيكَ طَرِيقًا وَالطَفْ بِنَا يَا مَوْلاَنَا وَوَفِقْنَا لِلْبَاقِياتِ الصَّالِحَاتِ تَوْفِيقًا، واغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وصَحْبِهِ.
(فَصْلٌ) فِيمَا يَنْبَغِي التَّنْبِِيهُ عَلَيْه والتحذير مِن ارتِكَابِهِ
قال ابنُ الجوزي رحمه الله: المسلمون المُغترّون طبقاتٌ:(1/76)
الطبقةُ الأولى: (طَبَقَةُ العُلُمَاءِ) : وَهُمْ قَوْمٌ أَحْكَمُوا العِلْم وَتَركُوا العملَ بِهِ ظنًا منهُم أنَّهُمْ قد حَفِظُوا الشريعَة فَلَهُم عِندَ اللهِ قَدْرٌ، ولو حَقَّقُوا النَّظَرَ، لَعِلمُوا أنَّ العِلْم لا يُرادُ إلا لِلْعَمَلِ وكأنّهم يَزِيدُونَ مِنَ الحُجَّةِ عليهِم.
ومنهم قومٌ أحْكموا العِلْمِ والعَمَلَ إِلا أنَهُمْ لم يُصْلِحُوا الصِّفَاتِ البَاطِنَة المَذْمُومَةَ مِنَ الكِبْرِ والحَسَدِ والرِّياءِ ولَمْ يَدْرُوا أنَّ هَذِهِ شُعَلٌ تَعْمَلُ في بَيْتِ القَلبِ فَتُحْرِقُ بَوَاطِنَ الْمَعْرِفَةِ.
قُلْتُ: وَهؤلاءِ كَمَريضٍ ظَهَرَ بهِ جُرُوحٌ أَصْلُها في البَاطِن فأمَرَ الطَّبِيبُ مَنْ بهِ ذلكَ أنْ يَغْسِلَ الظَّاهرَ بدَوَاءٍ وأمَرَهُ بشُرْب دَوَاءٍ آخَرَ لِمَا نَشَأَ عنه الظاهرُ فاسْتَعْمَل ما لِلَّظاهِرِ وَتَرَك ما لِلْبَاطِنِ فأزال مؤقتًا ما بظاهِرِه وَأَمَّا مَا في بِاطِنِهِ فِعَلَى حَالِهِ.
فَلَوْ شَرِبَ ما لِلْبَاطِنِ مِنَ الدَّوَاءِ بَرِئَ الظاهرُ إذا أَرَادَ اللهُ واسْتراحَ ظَاهرُهُ وبَاطنُه، فكذلك الذنوبُ والمعاصِي إذا اخْتَفَتْ في القلبِ ظهرَ أثرُها على جَوَارِحِ الإنسانِ.
ومِن العُلَمَاءِ قومٌ سَلِمُوا مِنْ هذِهِ الآفاتِ، لَكِنَّهم في خِدْمةِ الهَوَى مِنْ حيثُ لا يعلمون فهم يُصَنِّفون وَيَتَكَلَّمُون ومُرادُهم ذِكْرُهم بذلكَ وَمَدْحُهم وَكَثَرَةُ إتباعِهِم وهذهِ الآفةُ مِن خَبَايَا النفوسِ لا يَفْطِنُ لها إلا الأكياسُ مِن الناسِ.
الطبقة الثانية: (طبقةُ العُبَّاد) : فمنهم مَن حققوا التَّعبُّد إلا أنه يَرى نفسَهُ فهو مَغرورٌ بذلكَ، ومنهم: مَن ترَكَ كثيرًا مِنَ الفَرائضِ شُغْلاً بالنَّوافِلِ فَمِنْهُمْ مِنْ يُدْرِكُهُ الوَسْواسُ في نِيَّةِ الصلاةِ ثم يَتْرُكُ قَلْبَه في باقِيها يَسْرَحُ في الغَفَلاتِ.
وَمنهم: مَن يُكْثِرُ التِلاَوَةَ ولا يعملُ بما يَتْلو، ومنهم مَنْ يصومُ ولا يتحفَّظُ(1/77)
مِنْ غَيْبتِهِ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يخرجُ إلى الحجِّ ولا يخرجُ من المظالمِ، ولا يَنْظُرُ في نَفَقَتِهِ، ومنهم: مَنْ يجاورُ بمكةَ وَيَنْسى الحُرمَة، ومنهم: مَنْ يأمرُ بالمعروفِ وَيَنْسَى نفسَه. قلتُ: وأهلَه وأولاَدَهُ.
ومنهم: مَنْ يَزْهَدُ في المالِ وهو راغبٌ في الرياسةِ بالزُهْدِ. ومنهم: مَنْ يتخلقُ بأخلاقِ الفقراء فِي صُوَرِ ثيابهِمْ وَمُرَقَّعَاتِهِمْ وَيَتْرُك أخلاقَهُم الباطِنَة، فيشبعُ من الشهواتِ، وينامُ الليلَ ولا يعرفُ واجباتِ الشرْع.
قلتُ: وهؤلاءِ غرورُهم عظِيمٌ كما قال بعضُ العلماءِ لأنهمْ يظنون أنهم يُحبون في اللهِ ورسولهِ وما قَدروا على تحقيق دقائق الإخلاصِ إلا وهم مُخلِصون، ولا وَقَفوا على خبايا النفس إلا وهم مُنَزَّهون، وهم أَحَبُّ في الدنيا مِنْ كل أحد وَيُظهرون الزُّهدَ في الدنيا لِشِدَّةِ حِرصِهِم عليها وَقوةِ رغبتهمْ فيها. قال بعضهم فيمن يُظْهِرُ الزهدَ في الدنيا وهو حريصٌ عليها:
أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْدًا ... وعلى الدِّينَار دَارُوا
وَله صَلُّوا وصَامُوا ... وله حَجُوا وزَارُوا
لَو يُرى فَوْقَ الثُريَّا ... وَلَهُمُ رِيشٌ لَطَارُوا
يَحُثُّون على الإخلاصِ وهُمْ غيرُ مخلصينَ وَيُظْهرونَ الدُعاءَ إلى اللهِ وَهُمْ منه فارُّونَ، وَيُخَّوِّفُونَ باللهِ وهُمْ آمِنون. ويذُكِّرون باللهِ وهُمْ له ناسُون، ويحُثُّون على التمسكِ بالسنةِ بالدقيقِ والجليلِ وهم لها نابِذُون وَيَذمّون الصفاتِ المذمومةَ وهُمْ بها مُتَّصِفونَ، وكأنه لمْ يَطرُقْ أسمْاعَهُمْ قولُهُ تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . وقولُهُ تعالى حكايةً عمَّا قال شُعيبُ:(1/78)
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وَوَرَدَ عن ابنِ عباسٍ: أنه جاءه رجلٌ فقال: إني أُريد أن آمُرَ بالمعروفِ وأنهَى عن المُنْكَر. قال: أبَلَغْتَ ذلك؟ قال: أرجو. قال: إنْ لَمْ تَخشَ أن تَفْتَضِحَ بثلاثِ آياتٍ من كتابِ اللهِ فافْعَلْ. يشيرُ ابنُ عباس إلى الآياتِ المتقدمةِ.
الطبقةُ الثالِثةُ: (أَرْبابُ الأموالِ) فَمِنْهم: قومٌ يَحْرِصِونَ على بناءِ المساجدِ والْمدَارسِ ويَكْتُبونَ أَسْمَاءَهُم عليها لِتَخْلِيدِ ذِكْرهِمْ وَمَنْ أرادَ وجهَ اللهِ لَمْ يُبالِ بِذْكر الخَلْقِ وهؤلاء قَال بعضُ العلماءِ: إنهم اغْتَرُّوا مِن وَجْهَيْن: أَحَدُهُما: أنَّهم اكْتَسَبوها مِنَ الظُلْمِ والشُبُهاتِ والرُشَاءِ والجِهَاتِ المَحْظُورةِ، فهؤلاءِ تَعَرَّضُوا لِسَخَطِ اللهِ في كَسْبِها فإذا عَصَوُا اللهَ في كَسْبِها فالواجبُ عليهمْ التَوْبةُ وَرَدُّ الأموالِ إلى أربابها إنْ كانُوا أحْيَاءً، وإلى وَرَثَتِهِمْ إنْ كانُوا أَمْوَاتًا، وإنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ وَرَثَةٌ فالواجِبُ عليهمْ أنْ يَصْرِفُوها في أهمِّ المَصَالِحِ وَرُبما يكُونُ الأهَمُّ تَفْرِقَتَها على المساكينِ.
والوجهُ الثاني: أنَّهمُ يَظُنُونَ بأنفُسِهِمْ الإِخْلاصَ وَقَصْدَ الخَيرِ في الإنفاقِ وعُلوِّ الأبْنِيَة. ولو كُلِّفَ واحدٌ منهم أنْ يُنْفِقَ دِينارًا على مِسكينٍ لم تَسْمَحْ َنْفُسُه بذلك، لأنَّ حُبَّ المدْحِ والثناءِ مُسْتَكِنٌّ في باطِنِهِ.
ومنهُمْ: قَومٌ يَتَصَدَّقُونََ ولكنْ في المَحَافِلِ وَيُعطُون مَنْ عادتُهُ الشُكرُ وإفشاءُ المعروفِ.
ومنهُمْ: مَنْ يُكْثِرُ الحَجَّ وَرُبما تركَ جِيرانَهُ جياعًا.
ومنهم: قومٌ يَجْمَعُون المالِ وَيَبخَلونَ بإخراجِهِ، ثم يَشْتَغِلُونَ بالعَباداتِ البَدَنِيَّةِ التي لا تحتاجُ إلى نفقةٍ كالصيامِ والصلاةِ، ولا يَدْرونَ أَنَّ جِهادَ النفسِ في البخلِ المُهلِكِ أوْلى.
شِعْرًا:
لَقَدْ خَابَ مَنْ غَرَّتْهُ دُنْيًا دَنِيَّةٌ ... وما هِيَ أنْ غرَّتْ قُرُونًا باطَائِلِ(1/79)
أَتَتْنَا عَلى زِيِّ العَزيزِ بِثَينَةٍ ... وَزِينَتِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الشَّمَائِلِ
فَقُلْتُ لَهَا غُرِي سِوَايَ فإِنَّنِي ... عَزوفٌ عن الدُّنْيَا وَلسْتُ بِجَاهِل
وَهَبْها أَتَتْنا بالكُنوزِ وَدُرِّهَا ... وأَمْوَالِ قَارُونٍ وَمُلْكِ القَبائِل
أَليْسَ جَمِيعًا لِلفَنَاءِ مَصِيرُهَا ... وَيُطْلبُ مِنْ خُزَّانِها بالطَّوائِلِ
فَغُرِّي سِوايَ إِنَّنِي غَْيُر رَاغِبٍ ... لِمَا فِيكِ مِنْ غِرٍ وَمُلْكٍ ونائِلِ
وَقَدْ قَنِعَتْ نَفْسي بِمَا قد رُزِقْتُهُ ... فَشَأْنِكِ يا دُنْيَا وأَهْلَ الغَوَائِلِ
فإِنّي أَخَافُ اللهُ يَوْم لِقَائِهِ ... وأَخْشَى عِقَابًا دَائِمًا َغَيْرَ زَائِل
اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهْتَدِين وآتِنا في الدُّنيا حَسَنَةً وفي الآخِرِةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النارِ واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(2) موعظة: اعلم يا بُنَيَّ وَفَّقَكَ اللهُ لِلصَّواب أنه لم يتميز الآدمي ُّبالعقل إلا لِيَعْمَل بمُقتضاه، فاسْتَحْضر عَقْلَكَ، وأَعْمِلْ فِكْرَكَ، واخْل بِنَفْسِكَ تَعْلَم بالدليلَ أنكَ مَخْلُوق مُكَلَّف، وأنَّ عليكَ فرائض أنتَ مُطَالبٌ بها.
وأن الملكَين يُحْصِيَان أَلفاظَكَ وَنَظَرَاتِكَ، وَأنَّ أنفاسَ الحي خُطَاه إلى أَجَلِهِ، وَمِقْدارُ اللُّبثِ في الدنيا قَلِيل، والحبسُ في القُبور طَوِيل، والعذابُ على مُوافَقَة الهَوى وبيل.
فأينَ لَذّةُ أَمْس؟! رَحَلَتْ وأَبْقَتْ نَدَمًا، وأينَ شَهْوةُ النفسِ؟ كم نَكَّسَتْ رَأْسًا، وَزَلَّتْ قَدَمًا، وما سَعِدَ مَن سَعِدَ إلا بِخِلاف هَواهُ، ولا شَقِيَ مَن شَقِيَ إلا بإيثار دُنياه.(1/80)
فاعتبرْ بِمَنْ مَضَى مَن المُلُوكِ والزُهَّادِ، أَيْنَ لَذَّةُ هَؤلاءِ وأَيْنَ تَعَبُ أولئك؟ بَقِيَ الثوابُ الجزيلُ، والذِكرُ الجميلُ لِلصَّالِحينَ، والمقالةُ القَبِيحَةُ والعقابُ الوبيلُ لِلعاصِين.
وكَأَنَّه ما جَاعَ مَن جَاعَ وَلا شَبعَ مَن شَبعَ، واعْلَمْ أنَّ الكَسَلَ عن الفضائِل بِئسَ الرَّفِيقِ، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة، فانتبه واتعب لنفسك.
واعلم أَنَّ طَلَبَ الفَضائِل نِهَايَةُ مُرَادِ المُجْتَهِدين، ثم الفضائلُ تَتَفاوتُ، فَمِن الناسِ مَن يَرى الفضائلَ الزُهْدَ في الدنيا، ومنهم مَن يراهَا التَّشَاغُلَ بالتعبدِ، وعلى الحقيقةِ فَليستَ الفضائلُ الكاملةُ إلا الجمع بينَ العلم والعمل.
شِعْرًا:
حَيَاةُ الفَتَى والله بالعلِمِ والتّقُىَ ... إذَا لَمْ يَكُونَا لا اعتبارَ لِذَاتِهِ
وَمَنْ لَمْ يَذُقْ ذلَّ التَّعَلُم سَاعَة ... تَجَرَّع كَأْسَ الذُّلِ طُولَ حَيَاتِهِ
فوائِدْ: مِنْ حِكَمِ أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: العلم خير من المال، العلمَ يَحرسك وأنت تَحرس المال، المال تنقصه النفقة والعلم يَزكُو على الإنفاق، بالعلم يَكسِبُ الإنسانُ الطاعةَ في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، العلم حاكم والمال محكوم عليه.
فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية المقصودة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وليس كل ما يريد مرادًا ولا كل طالب وَاجِدًا، ولكن على العبد الاجتهاد وكل ميسر لما خلق له والله المستعان.
يَا خَالِقِي عبدُكَ الخاطِي الحَزينُ لَقَدْ ... أتاكَ مُنْكَسِرًا فاجْبُرْ لِمُنْكَسِرِ
مُسِتَغْفِرًا مِن ذُنُوبٍ لاَ عِدَادَ لَهَا ... بِعَفْوِكَ الجمّ يَا رَحْمَنُ لا تَذَرِ
فلاَ تَدَعْني مَلِيكَ العَرْش مُطَّرحًا ... بَينَ النَّوَائِب والأسْدَامِ والغِيرَ(1/81)
حَسْبِي لَدَىَ المُوبِقَاتِ الصُّمِ أَنْتَ فَلاَ ... نَرجُو سِواكَ لِنَيْلِ السُؤْلِ والوَطَر
عَليكَ يا ذا العَطَا والمنِ مُعْتَمَدِي ... في كُلِّ خَطبٍ أتَى بالغَيْرِ والضَّرَرِ
فَاغْفِرْ وَأَكْرِمْ عُبَيْدًا مَالَهُ عَمَلٌ ... من الصَّوالح يا رَحْمنُ في العُمُرِ
لَكِنَّهُ تَائِبٌ ممَّا جَنَاهُ فَقَدْ ... أَتَاكَ مُسْتَغْفِرًا يَخْشَى مِن السَّقَرِ
فإِن رَحِمْتَ على مَنْ جَاء مُفْتَقِرًا ... فأنْتَ أهْل به يا ربِّ فاغْتَفِرِ
وإنْ تُعَذِّبْ فإني أَهْلُ ذاكَ وذا ... عَدْلٌ قَوِيم بلا لَوْمٍ ولا نُكُرِ
ثم الصلاةُ على خَير الخليقةِ مَن ... كَفَاهُ مُعْجِزَةً الشقُ في القَمَرِ
وآلهِ الطيبينَ الطُهْرِ قَاطَبِةٍ ... وَصَحبهِ المُكْرَمِينَ السَّادَةِ الغُرَرِ
مَا هَبِّتِ الريحُ واهْتَزَ النباتُ بِها ... وما تَغَنَّتْ حَمَامُ الأَيْكِ فِي السَّحَرِ
فائدة: قال أَحَدُ العُلَمَاءِ رَأَيْتُ كَثِيرًا مَا يُزَيَّنُ لِطَالِبِ العِلْمِ أّيَّامَ الاخْتِبَارِ قِرَأَةُ مَا لَيْسَ مُطَالِبًا بِهِ في الاخْتِبَارِ، وَهَذَا مِنْ مَرَضِ النَّفْسِ وَتَسْوِيلِ الشَّيطَانِ تَضْعِيفًا لِلْهِمَّةِ والنَّشَاطْ، فإِنَّ العِلْمَ المُطَالِبَ بِهِ فِيه تَكْلِيفٌ وَإِلزَامَ وَتحمُّلٌ وَأَدَاء، فَهْوَ ثَقِيلَ عَلَى النَّفْسِ الوَانِيَةِ، والعِلْمُ الذِي لَمْ يُطَالَبْ بِهِ لاِ تِكْلِيفَ بِهِ فَهوَ خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ وَهَذَا مِن هَوَى النَّفْسِ وَسَرِقَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ لأَنَّهُ اِنْحرَاف عن الصَّوابِ النافِع.
اللَّهُمَّ أعْطِنا من الْخَيْرِ فَوقَ ما نَرْجُو، واصْرِفْ عنَّا مِن السُّوءِ فَوقَ ما نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجائِكَ واقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فاسْتُرْهَا وتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وليًّا وكَفَى بِكَ نَصِيرًا يا رَبَّ العالمينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيارِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمتكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمِّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الفصل الثامن: الطبقةُ الرابعةُ طبقةُ العَوامّ وغُرورُهُمْ ِمْن وُجوهٍ: فمنهم: مَنْ يُصَلِّي كَيْفَمَا اتَّفَقَ ولا يَسْأَلُ عَمَّا يُصْلِحُ الصلاة وما يُفسِدُهُا. ومنهم مَنِ(1/82)
يُواظِبُ على النوافِل كالتراويحِ، ولا تكادُ تَجِدْهُ في صلاةِ الجَماعةِ، ومنهم: مَنْ يلازِمُ مَجَالِسَ الوَعْظِ ولا يَعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُ ولا يَنْتَهِي عَنْ قَبيحِ ما يَأْتي، كأَنَّ المقصودَ الحُضُورُ فقطْ. قُلْتُ: لأنّ مَجَالسَ الذِكْرِ والإرْشادِ إنّما تُفيدُ لِكَوْنِهَا مُرَغِّبَةً في الخَيْرِ وباعِثةً في الغالِبِ عليه فإنَّ لَمْ يَنْشَأُ عنها ذَلِكَ فلا خيرَ فيها وصِفةُ هؤلاءِ كما قال بعضُ العُلماءِ: كمِثْلِ مريض يَحْضُرُ مَجَالِسَ الأطباءِ وَيَسْمَعُ مِنهم ما يَصِفونَهُ مِن الأدويةِ ولا يَفْعَلُها ولاَ يَشْتَغِلُ بها فأيُّ فائِدةٍ يَحْصُلَ عَليها.
فكُل وَعْظٍ لا يُغيّرُ مِنكَ صِفةً تَتَغَيَّرُ بِها أفعالُك حتى تُقْبِلَ على اللهِ عزَّ وجَلَّ وَتُعْرِضُ عن الدُّنْيَا وَتُقْبِلُ إِقْبالاً قويًّا، فإِنْ لَمْ تَفْعلْ فذلكَ كان زيادَة حُجةٍ عليكَ، وهذا غُرورٌ عظيمٌ.
ومنهم: مَنْ يَتَنَفَّلُ بالعباداتِ وَيُهْمِلُ الفرائضَ.
ومنهم: مَنْ يَتَطَّوعُ بالخيرِ وَيُكثرُ التسبيحَ معَ معامَلَتِهِ بالرِّبا واسْتِعْمَالِ الغِشِّ، وَرُبَما صاحَ على وَالِدَيهِ وَأَخذَ أَعْراضَ الناسِ، وَجُمهورُ الناسِ قد اتَّكَلوا على العفْو والحلمِ فهُمْ مُصِرّون على ذُنوبٍ وخطايا فإذا ذَكَرْت لهمُ العُقوبَةَ قالُوا: هو كريمٌ وَينْسَوْنَ أنه شَدِيدُ العِقابِ، ومنهم: أقوامٌ يَسْتَعْجِلُون المعصيةَ مُوَافقةً لِلْهَوى وَيُضْمِرون أننا سَنَتُوبُ وَيُسَوِّفُونَ بالتوبةِ، ومِنَ العُصاةِ مَنْ يَغْتَرُّ بِفِعْلِ خيرٍ فربما تَصَدّقَ أوْ سبَّحَ وَظَنَّ أَنَّ هذا يُقاوَمُ ذُنوبَهُ.
وَيَنْسَى مَا حَصَلَ مِنه مِنَ الغِيبَةِ والكَذِبِ والرِّياءِ وغيرِ ذلكَ مِن المعاصِي التي تَقْضِي على الحَسَنَاتِ التي أمثالُ الجبالِ.
ومِنَ المغترِّين مَنْ َيغرُّهُ صلاحُ آبائِهِ وربما قال: أبِي يَشْفَعُ لي ولا يَدْري أنَّ أباه فُضِّل بالتقوَى وكان مَعَ التَّقْوى خائفًا؟ ومِنْ أينَ له أن يَشْفَعَ(1/83)
لَهُ، أو مَا سَمِعَ قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} .
ولَمْ يعلمْ أنَّ نوحًا عليهِ السلامُ أرادَ أنْ يَحْمِلَ ابْنَهُ مَعَهُ في السفينةِ فَمُنِعَ منْ ذلكَ وَأغرَقَ اللهُ ابَنَهُ مَعَ المُغرَقِينَ.
وفي الحديث الصحيحِ أنَّ رسولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «يا فاطمَةُ لا أُغْنِي عنكِ مِنَ اللهِ شيئًا» . فالعاقلُ مَنْ عَمِلَ على الحِرْصِ وأخَذٍ بالأَحْوَطِ فَمَنْ تأمَّلَ العِلمَ وَتَصَفَّحَهُ وَشاوَرَ العقلَ دَلّهُ على الحزْمِ فَسَلِمَ مِنَ الاغْتِرَارِ. واللهُ الموفِّقُ.
وطبقةٌ أخرى أَكَبُّوا على تِلاوةِ كِتابِ اللهِ وَتَرَكُوا تَدَبُّرَهُ والعملَ بهِ، وَرُبما خَتَموه في يَومٍ وَليلةٍ بِألْسِنَتِهِمْ، أما قلوبُهُمْ فهي في أوديةِ الدنيا تَردَّدُ، ولا تَتَفَكَّر في معاني القرآنِ لِتَنْزجِرَ بزواجرِه وَتتعظَ بمواعِظِهِ وتقِفَ عندَ أوامِرِه ونَواهِيه وَتَعْتَبِرَ بمواضِعِ الاعْتبارِ. فَمَنْ قَرَأَ كتابًا عِدَّة مرَاتٍ وَتَركَ العَمَلَ بهِ يُخْشَى عَليهِ مِن العُقُوبَةِ.
وَطَبَقَةٌ اغْتَرُّوا وَأَكْثرُوا الصِّيامَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يَحْفَظُونَ ألْسِنَتَهُمْ عن الغِيبَةِ والنميمةِ والكذِبِ والتمَلُّقِ عندَ الفُسَّاقِ وأعْدَاءِ الدِينِ وَلا يَعْرِفُونَ الوَلاءَ والبَراءَ ولا يَحْفَظُونَ بُطُونَهُمْ عن الْحَرامِ وَلا أَعْيُنَهُم عن النَّظَر المُحَرَّمِ وَلا أسْمَاعَهُم عنِ الملاهِي والمُنكَراتِ وَلاَ يَقُومُونَ عَلى أَولادِهِمْ وَيَأْمُرُونهم.
وطبقةٌ أخْرَى أَكثَرتْ مِنْ نَوافِلِ الحَجِّ مِنْ غَيرِ خُرُوجٍ مِنَ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُيُونِ، واسْتِرْضَاءِ الوَالِدَيْن وَلا طَلَبُوا لِذلِكَ الزَّادَ الحلاَلَ، وَرُبَّمَا ضَيَّعُوا صَلاَة الجَمَاعَةِ أو الصَّلاَةِ المكتُوبَةَ، وَرُبَّمَا كانُوا لا يُبالُونَ بالنَّجَاسَاتِ، وَرُبَّمَا كان نَفَقَةُ أَحَدِهِمْ حَرَامًا كُلَّه َهوَ وَرُفَقَاؤُهُ، وَرُبَّمَا كانَ(1/84)
مُرَائِيًا في إنْفَاقِهِ فَيَعْصِي اللهَ في كَسْبِ الحرَامِ أولاً وفي إنفاقِهِ لِلرّياءِ ثانيًا. نَعُوذُ باللهِ من الغُرورِ. وفِرقةٌ أخذَتْ في طَرِيقِ الأَمِر بالمَعْرُوفِ وإرْشادِ الخَلْقِ وأنكَرُوا على الناسِ وتَركُوا أَنْفُسَهُم وَأوْلادَهُم وَمَنْ يَخْشَوْنَهم أو يَرجُونهم. وَفِرْقَةٌ أُخرى غَلَبَ عليها البُخلُ فلا تَسْمَحُ نُفوسُهم بأداءِ الزكاةِ كَامِلةً مُكَمّلةً يُخْرِجُ مِقدارَ رُبْعِهَا فقط وَيَتَأولُ الباقِي وَيَعِدُ أنه إذا وَجَدَ فقيرًا أعطاهُ وَيَرى أنَّ ما يدفُعهُ إذا تقدَّم فقيرٌ في بعضِ الأيامِ وأعطاهُ كافيًا ورُبما كانتْ زكاتُهُ عدَدَ أيامِ السنةِ مئاتٍ مِنَ الريالات نعوذُ بالله من الغُرورِ.
قُلْتُ: ومنهم مَن يَدفعُ زكاتَه إلى مَن يَخْدِمه أَوْ يَخْدِم أَهْلَه وهذا خَطَأ فانْتِبهْ ونَبِّهْ فإنَّ هذا العَملَ وقَايَةً لِمَالِهِ وَلَيْسَ زَكَاةَ وَلا يَخْفَى إلا عَلَى مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتَهُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ البُخْلُ والشُحُ.
اللَّهُمَّ أَنظِمْنا في سِلكِ حِزبِكَ المُفلِحِين، واجْعلنا مِنْ عبادِكَ المُخْلِصين وآمِنَّا يومَ الفَزَع الأكَبرِ يومَ الدِين، واحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَليهَم مِنَ النَبيين والصِّدِّيقين والشُهداء والصالحينِ واغْفِرْ لَنَا، وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحياءِ منهمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
الموتُ في كُلِّ حِينٍ يَنْشُرُ الْكَفَنَا ... ونَحْنُ في غَفْلَةٍ عما يُرَادُ بِنَا
لا تَطْمَئِنَّ إلى الدُّنْيَا وَبَهْجتها ... وإنْ تَوَشَّحْتَ مِنْ أَثْوَابِهَا الحَسَنَا
أَيْنَ الأَحِبَّةُ والجِيرانُ ما فَعلُوا ... أينَ الذين هُمُ كانُوا لَنَا سَكَنَا
سَقَاهُم الموتُ كأسًا غَيْرَ صَافِيَةً ... فَصَيَّرَتْهُمْ لأطْبَاقِ الثَّرَى رُهُنَا
تَبْكِي المَنَازِلُ مِنْهُمْ كُلَّ مُنْسَجِمٍ ... بالمَكْرُمَاتِ وتَرْثِي البِرَّ والمِنَنَا
حَسْبُ الحِمَام لَو أَبْقاهُمْ وأَمْهَلَهُمْ ... أَلا يَظُنُّ عَلَى مَعْلُومِهِ حسَنَا
اللَّهُمَّ أظِلنَا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلّ إلا ظِلَّكَ وَلا بَاقٍ إلا وَجْهُكَ(1/85)
وَاسْقِنا مِنْ حَوْضِ نَبيّك شرْبةَ هَنيئَةً لا نَظْمَأً بَعْدَهَا أَبَدًا حَتَّى نَدْخُلَ الجَنَّةْ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكِ وَشُكْرِكَ وَوَفِقْنَا لِمَا وَفّقْتَ لَهُ الصّالِحِينَ مِنْ خَلْقِكَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة: خطب عمرُ بنُ عبدِ العزيز آخرَ خطبةٍ خَطَبَهَا فَقَالَ فيهَا: أمَا بَعدُ: (إنكمْ لمْ تُخلقوا عَبَثًا، ولَنْ تُتْرَكُوا سُدَى، وإنَّ لَكُمْ مَعَادًا ينزلُ اللهُ فيهِ للفَصْلِ بينَ عبادِهِ، فقدْ خابَ وخسِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رحمةِ اللهِ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالأرضُ، أَلا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ في أَسْلابِ الهَالِكِينَ، وَسَيَرِثُهَا بَعْدَكُمْ البَاقُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تُرَدُّ إِلَى خَيْرِ الوَارِثِينَ، وَفي كُلِّ يَوْمٍ تَشَيِّعُونَ غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللهِ قَضَى نَحْبَهُ وَانْقَضَى أَجَلُهُ فَتَدَعُونَهُ في صَدْعٍ مِن الأَرْضِ غَيْرَ مُوَسَّدٍ وَلاَ مُمَهَّدٍ، قَدْ خَلَعَ الأَسْبَابَ، وَفَارَقَ الأَحْبَابَ، وَسَكَنَ التُرَابَ، وَوَاجَهَ الحِسَابَ، غَنِيَا عَمَّا خَلَفْ، فَقِيرًا إَلَى مَا أَسْلَفَ، فَاتَّقُوا اللهَ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ وَانْقِضَاءََ مَوَاقِيتِهِ، وَإِنِّي لأََقُولُ لَكُمْ هَذِِهِ الْمَقَالَةَ وَمَا أَعْلَمُ عِنْدَ أََحَدٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرُ مِمَّا أَعْلَمُ عِنْدِِي، وَلَكِنْ أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ طَرَفَ رِدَائِهِ وَبَكَى حَتَّى شَهَقَ ثُمَّ نَزَلَ، فَمَا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَهَا حَتَّى مَاتَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ ... وَلكِنَّ الْتَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ
وَتَقْوَى اللهُ خَيْرِ الزَّادِ ذِخْرًا ... وَعِنْدَ اللهَ لِلأتْقَى مَزِيدُ
وَمَا لاَبُدَّ أَنْ يَأْتَي قَرْيبٌ ... وَلَكِنَّ الذِّي يَمْضَي بَعِيدُ
آخر:
أَتَبْكِي لِهَذَا الْمَوْتِ أَمْ أَنْتَ عَارْف ... بِمَنْزِلَةٍ تَبْقَى وَفِيها المَتَالِفُ
كَأَنَّكَ قَدْ غُيِّبْتَ في اللَحْدِ والثَرَى ... فَتَلْقَى كَمَا لاَقَى القُرونُ السَّوَالِفُ
أَرَى الْمَوْتَ قَدْ أَفْنَى القُرون التي مَضَتْ ... فَلَمْ يَبْقَ ذُو أُلْفٍ يَبْقَ آلِفُ(1/86)
كَأَنَّ الفَتَى لَمْ يَغْنَ في الناسِ سَاعَةً ... إذا عُصِبَتْ يَوْمًا عليهَ اللَّفَائِفُ
وَقَامَتْ عَلَيهِ عُصْبةٌ يَنْدُبُونَهُ ... فَمُسْتَعْبِرٌ يَبْكِي وَآخَرُ هاتِفُ
وَغُودِرَ في لَحْدٍ كَرِيهٍ حُلُولُهُ ... وَتُعْقَدُ مِنْ لِبْنٍ عَلَيْهِ السَّقَائِفُ
يَقِلُّ الغنَى عَنْ صاحِبَ اللَّحدِ والثَرَى ... بِمَا ذَرَفَتْ فيهِ العُيُونٌ الذَّوَاِرفُ
ومَا مَنْ يَخَافُ الْبَعْثَ والنارَ آمِنٌ ... وَلَكِن حَزِينٌ مُوجِعُ القلبِ خَائِفُ
إذا عَنَّ ذِكْرُ الموتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ... وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ
اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ الْعَفْو، يَا وَاسِعَ المَغْفِرَةِ يَا قَرٍيبُ الرَّحْمَةِ، يَا ذا الجلالِ والإكرامِ، هَبْ لَنَا العَافِيةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ وَيَا قَيُّوم فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلاَ تُشْغِلْنَا بِمَا تكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ، واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بِلقَائِكِ، ويَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَيَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، وَيَخْشَاكَ حَقَّ خَشْيَتِكْ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدًا، ولا تُشْمِتْ بِنَا أَحَدَ. اللَّهُمَّ أنظْمْنَا في سِلْكِ حِزْبِكَ المُفْلِحِين، واجْعلنا مِنْ عِبَادِكَ المُخْلَصِينَ وآمِنَّا يَوْمَ الفَزَعِ الأكْبَرِ يَوْمَ الدِّين، واحشُرْنَا معَ الذينَ أنعمْتَ عَليهم مِنَ النَّبِيين والصِّدِّيقينَ والشُهداء والصالحين، واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصلٌ في العِلْمِ وفضْلِهِ
العِلْمُ صفةٌ يُمَيَّزُ المُُتَّصِفُ بِهَا تميزًا جَازِمًا، وقيلَ: هو إدراكُ الشيءِ بحَقيقتِهِ، والعلِمُ فضلُهُ أُشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِ مَا اكْتَسَبَهُ الإنسانُ وأَشْرَفُ مُنْتَسِبٍ وأنْفَسُ ذَخيرةٍ تُقْتَنَى وأطلب ثمرةٍ تُجْتَنَى، بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى الحَقَائِقِ وَإِذَا عَمِلَ بِهِ الإِنْسَانُ على وَفْقِ الشريعةِ أَدْرَكَ رِضَا الخَالِقِ.
والعِلْمُ لاَ يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِهِ وَجَلاَلَةِ قَدْرِهِ إِلا بِالعِلْمِ وَلاَ(1/87)
يَضِيعُ صَاحِبُ العِلْمُ الدِّينِيّ الصَّحِيحِ الذِّي جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَفْتَقِرُ كَاسِبُ الِعْلِم وَلاَ يَخيبُ طَالِبُهُ وَلا تَنْحَطُّ مَرَاتِبُهُ ما دامَ مُطَبِّقًا لِعِلْمِهِ بِالعَمَلِ وَلا يَجْهَلُ شَرَفَ العِلْمِ إِلا الجَاهِلُ لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنْ عَظِيمِ مَنَافِعِهِ وَكَريمَ مَواقِفِهِ، وَحامِلُُهُ الصائنُ له عن الأدْنَاسِ عَزيزٌ عندَ الناسِ إِنْ قَالَ فَكلامُهُ مَرْمُوقٌ بعَينِ التَّقْدِير وَإِنْ أَمَر فأمرُهُ مَسْمُوع.
وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلْفَضائِلِ وهو نُورٌ زَاهِرٌ لِمَنْ اسْتضاءَ بِهِ وَقُوتٌ هَنِيءٌ لِمَنْ تَقوَّتَ بِهِ تَرْتَاحُ بِهِ الأَنْفُسُ إِذْ هُوَ غِذَاءُهَا وَتَفْرَحُ بِهِ الأَفئِدةُ إَذْ هُوَ قُوَاهَا.
شِعْرًا:
أَجَلُّ مَا يُبْتَغَى دَوْمَا وَيُكْتَسَبُ ... وَيُقْتَنَى مِنْ حُلَى الدُّنْيَا وَيُنْتَخَبُ
عِلْمُ الشَّرِيَعَةِ عِلْمُ النَّفْعِ قَد رُفِعَتْ ... لِمَنْ يُزَاولُهُ بَيْنَ الوَرَى رُتَبُ
إِنْ عَاشَ عَاشَ سَعِيدًا سَائِدًا أَبَدًا ... لا يُسْتَظَامُ ولا يُشْنَا فَيُجْتَتَبُ
وَإِنْ يَمُتْ فَثَنَاءٌ سَائِدٌ أَبَدًا ... وَبَعْدَهُ رَحْمَةٌ ترجَى وَتُرْتَقَبُ
وَهُوَ يَدُلُّ على الخيرِ، وَعَوْنٌ على المُروءَةِ وَهُوَ الصَّاحِبُ في الغُرْبَةِ والمُؤْنِسُ في الْخَلْوَةِ، والشَّرَفُ في النَسَبِ وَلِلْعِلْمِ آثارٌ جليلةُ القدْرِ كَمْ جَلَّ بِهِ مِنْ حَقيرٍ.
وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْلَمَ كَانَ جَلِيلاً عِنْدَنَا. مَضَى سَلَفُنَا الصَّالِحُ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الوَرِعُونَ الذين لا تأخُذُهم في اللهِ لَوْمةُ لاَئِمٍ الذَّينَ إِذَا ذُكِرُوا وَمَا قَامُوا بِهِ مِنْ نَصْرِ دِينِ اللهِ والدعوةِ إِلَيْهِ استَنَارْتَ المَجَالِسُ وَأَسْفَرَتْ الوُجُوهُ وَارْتَاحَتْ الأَنْفُسُ وَقَوِيَتْ الْقُلُوبُ وَنَشِطَتْ الأبْدَانُ عَلَى الطَّاعَاتِ والعِبَادَاتِ وَوَدَّ المُسْتَمِعُونَ المُحِبُّونَ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَزْدادُوا مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَذَلِكَ بِمَا وَهبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ الدِّيني وَالتَّمَسُّكِ بِهِ(1/88)
وَآثارِهِ الجَليلةِ، وَكَانُوا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيينَ وَكَانُوا أَشْجَعَ الناسِ لأنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الأجَلَ لاَ يُطِيلُهُ الجُبْنُ وَكَانُوا أَغْنَى الْعَالَمِ نُفُوسًا وَأَقْوَاهُمْ تَوَكُّلاً عَلَى اللطِيفِ الخبيرِ لأنَّهُمْ رَضُوا بِقِسْمَةِ مَوْلاَنَا العليمِ الحكيمِ، وَكَانُوا مَحَطَّ رِحَالِ الكَرَمِ والجُودِ لأنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ البُخلَ لاَ يُرْضِي اللهَ، وَكَانُوا في الحِلْمِ كَالجبالِ الرَّاسِياتِ لأنَّهُم عَرَفُوا مَا لِلْحِلْمِ مِنْ مَزَايَا دُنْيَا وَأُخْرَى.
وَكَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الَبلاَيَا بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا بِتَقْدِيرٍ وَتَصْرِيفِ الحَكِيمِ الخَبيرِ وَكَانُوا دَائِمًا يَسْتَقْبِلُونَ النِعَمَ بِالشُكِرِ وَالحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ لِجَزْمِهِمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ وَلاَ مِنْ سَائِرِ المَخْلُوقِينَ بَلْ مِنْ الكَرِيمِ الدَّائِمِ الإِحْسَانِ الذِّي عَمَّ إِحسانُهُ الخَلايَقَ كُلَّهُمْ، وَكَانُوا يُحِبُّون الخيرَ لِبَعْضِهِمْ كَمَحَبَّتِهِمْ لأنْفُسِهِمْ عَمَلاً بِقَوْلِ الرسولِ الكريمِ: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُ لِنَفْسِهِ» وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ لاَ تُحْدِثُ أيَّ تَغَيّرُ وَقَدْ عَرَفُوا قَوْلَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنِ عباسٍ: «يَا غُلامُ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ... » الحَديث رواهُ الترمذي.
وَكَانُوا لا يُحُّبونَ الشرَّ وَأْهَلُه وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. وَكَانُوا يُرَاقِبُونَ مَوْلاَهُمْ دَائِمًا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم وأَنَّه أَحَاطَ بِكُلِّ شيءٍ عِلْمًا فَلِهَذَا كَانُوا إِذَا قَالُوا أَوْ فَعَلُوا تَحَرَّوْا مَا يُرْضِيهِ جَلَّ وَعَلاَ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ وَهَكَذَا كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَتَحَرَّكُوا أَوْ يَسْكنوا باسْتِشَارَةِ مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ العِلمِ الدِّينِي يَتَحَرَّكُون وَيَسْكنون لِهَذَا كانوا لليومِ مَوْضِعَ إِعْجَابٍ وَنَالُوا فوقَ هَذا رِضَى رَبِّ العَالمينَ هكذا كَانُوا بِبَرَكَاتِ مَا وَهَبَهُمْ مَوْلاَهُمْ مِنَ العلمِ الدِيني والتمسُّكِ بِهِ تَمَامًا.
وَكَانُوا أَزْهَدَ النَّاسِ في الدُّنْيَا لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَارَتِهَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا(1/89)
وَكَثْرَة هُمُومِهَا وَغُمُومِهَا وإِشْغَالِهَا عَنْ طَاعةِ اللهِ وَلذلكَ كَانَ النَّاسُ يُقَدِّرُونَهُمْ وَيَضَرِبُونَ بِهِمُ الأَمثالَ وَأَنْتَ تَرَى أَنه على قَدْرِ قَنَاعَةِ العُلَمَاءِ في الدُّنْيَا تَكُونُ مَكَانتُهُمْ في نُفُوسِ النَّاسِ والتَفَافُهُم حَوْلَهم والاسْتِمَاعُ لِنَصائِحِهمْ والانقيادُ لإِرْشَاداتِهِمْ وَالرُّجوعُ إِليهِمْ فَيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى قَدْرِ تَعَلّقِ العُلََمَاءِ بَالدُّنْيَا وَتَوَجُهِهِمْ إِليها تَكُونُ زَهَادَةُ الناسِ في العُلماءِ وَعَدمُ الثِّقَةِ بَهَمْ واتِّهَامُهُمْ وَالنُفْرَةُ مِنْهُمْ وأَكْلُ لُحُومِهِمْ وَعَدَمُ قُبُولِ كَلاَمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَنَصَائِحِهِمْ فَلاَ يَسْمَعُونَ لَهُمْ قَوْلاً وَلاَ يُعَوِّلُون عَلَيهِمْ في مَا يَجْهَلُونَهُ وَيَحْرَصُونَ عَلَى البُعْدِ عَنْهُمْ وَيَسْتَثْقِلُونَهَمْ والسَّبَبُ الوَحِيدُ كَمَا عَلِمْتَ أَولاً هو التعلقُ بالدُّنْيَا ضِدَّ مَا عَلَيْهِ السلفُ الصَّالِحُ.
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَيَّهَا الإِنْسَانُ أَنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلةٌ وَلَيْسَتْ بِدَارِ قَرارٍ وَالإِنْسَانُ مُسَافر فَأَوّلُ مَنَازِلهِ بَطْنُ أمهِ وَآخرُ مَنَازِلهِ لحَدُ قَبْرِهِ، وَإِنمَّا وَطَنُهُ وَقَرَارُهُ وَمُكْثُهُ واسْتِقْرَارُهُ بَعْدَهَا في هَذَا.
وَاخْتَصَرُ أَحَدُ العُبَّادِ فَقَالَ: مَا تأَسُّفِي عَلَى دَارِِ الهُمُوم والأَنْكاَدِ وَالأَحْزَانِ وَالخَطَايَا والذُّنُوبِ، وَإنَّمَا تَأُسُّفِي عَلَى لَيْلَةٍ نِمْتُهَا، وَيَوْمٍ أَفْطَرْتُهُ، وَسَاعَةٍ غَفَلْتُ فِيهَا عَنْ ذِكْرِ الله ثّمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَقَالَ مُطَرِّفُ بنُ الشَّخِيرِ: إِنَّ هَذَا الموتَ نَغَّصَ عَلَى النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ، فاطْلُبُوا نَعِيمًا لاَ مَوْتَ فيهَ، فَكيْفَ وَوَرَاءَهُ يوم يُعَدُّ فيهِ الجَوَابُ وَتَدْهَشُ فيهِ الأَلْبَابُ، وَتفْنَى في شَرْحِهِ الأَقْلاَمُ والكُتَّابُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ سَنَةٍ تَنْقَضِي مِنَ الإِنْسَانِ فَكَالمرحَلةِ. وَكُلَّ شَهْرٍ يَنْقَضِي مِنْهُ فَكَاسْتِرَاحَةِ المُسَافِر في طَرِيق، وَكُلُّ أُسْبُوعٍ فَكَقَرية تَلقَاهُ. وكُلُّ يَوْمٍ فَكَفَرْسَخٍ يَقْطَعُهُ.
وَكُلُّ نَفَس كَخَطْوةٍ يَخْطُوهَا. وَبقَدرِ كُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَّسُهُ يَقْرُبُ مِنَ الآخِرَةِ وَهَذِهِ الدُّنْيَا قِنْطَرَةٌ فَمَنْ عَمَّرَ القَنْطَرةَ وَاسْتَعْجَلَ بِعمارتِهَا فَنيَ فِيهَا زَمَانُهُ.(1/90)
وَنَسِيَ المنزِلةَ التي هِيَ مَصيرُهُ وَمَكَانُه. وَكَانَ جَاهِلاً غَيْرَ عَاقلٍ.
وَإِنمَّا العاقلُ الذِّي لاَ يَشْتَغِلُ في دُنْياهُ إِلا لاِسْتِعْدَادِهِ لِمَعادِهِ وَيْكَتَفِي مِنْهَا بِقدَرِ الحاجةِ وَمَهْمَا جَمَعَهُ فَوقَ كِفَايَتِهِ كَانِ سُمًّا نَاقِعًا وَيَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ جَميعُ خَزَائِنِهِ وَسَائِرِ ذَخَائِرِهِ رَمَادًا وَتُرَابًا لاَ فِضَّةً ولاَ ذَهَبًا وَلَوْ جَمَعَ مَهْمَا جَمَعَ.
فَإنَّ نَصِيبَهُ مَا يَأْكُلَهُ وَيَلْبِسُهُ لا سِوَاهُ وَجَمِيعُ مَا يُخلّفهُ يَكُونُ عَلَيْهِِ حَسْرَةً وَنَدَامَةً وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ نَزْعُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَحلاَلُهَا حِسَابٌ. وَحَرامُهَا عَذَابْ. إِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ المَالَ مِنْ حَلاَلٍ طُلِبَ مِنْهُ الحِسَابَ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ مِنْ حَرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ العَذَابُ. وَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَسْرَتِهِ حُلُولُ العَذَابِ في حُفْرَتِهِ وَمَعَ هَذَا جَمِيعُهُ إِذَا كَانَ إِيمانُه صَحِيحًا سَالِمًا لِحَضْرَةِ الدَّيَانِ. فَلا وَجْه لِيَأْسِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ والرضوان. فَإِنَّ الله جَواد كَريمٌ غَفُورٌّ رَحِيم.
واعْلَمْ أَنَّ رَاحَةَ الدُّنْيَا أَيامٌّ وَأَكْثَرُهَا مُنَغَصٌّ بالتّعب مَشُوبٌ بِالنَّصبَ. وَبِسَبَبِهَا تَفُوتُ رَاحَة الآخرةِ التي هِيَ الدائمةُ والمُلْكُ الذي لاَ نِهَايَةَ لَهُ وَلا فَنَاء. فَيَسْهُلَ عَلَى العاقل أنْ يَصْبِرَ في هذهِ الأَيَّامِ القَلاَئِل لِينالُ رَاحةً دَائِمَةً بِلا انقضاء.
شِعْرًا:
وَمَنْ يَصْطَبِرْ لِلْعِلْمِ يَظْفَرْ بِنَيْلِهِ ... وَمَنْ يَخْطُبُ الحَسْنَاءَ يَصْبِر عَلَى البَذْلِ
وَمَنْ لاَ يُذِلُّ النَّْفَس في طَلَبِ العُلَى ... يَسِيرًا يَعَشْ دَهْرًا طَوِيلاً أَخَاذْلُ
قَالَ ابْنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهُ:
كُلُّ مَنْ أَثَرَ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ واسْتَحَبَّهَا فَلا بُدَّ أنْ يَقُولَ عَلى اللهِِ غَيرَ الحقّ في فَتْوَاهُ وَحُكْمِهِ في خَبَرِهِ وَإِلزَامِهِ لأِنَّ أَحكامَ الربِّ سُبْحَانَهُ كَثِيرًا مَا تَأْتِي عَلى خِِلافِ أَغْراضِ النَّاسِ، وَلاَ سِيَّمَا أهلُ الرِّيَاسَةِ والذِّين يَتَّبِعُون الشُّبُهاتِ فإِنَّهُمْ لا تَتِمُّ لَهُمْ أَغْرَاضُهُمْ إَلا بِمُخَالَفَةِ الحقِّ وَدَفْعِهِ كَثِيرًا فَإِذَا كَانَ العَالِمُ والحَاكِمُ مُحِبِّينَ لِلرِّيَاسَةِ مُتَّبِعِينَ لِلْشَهَوَاتِ(1/91)
لَمْ يَتِمَّ لَهُمَا ذَلِكَ إِلا بِدَفْعِ مَا يُضَادُّهُ مِنَ الحَقِّ وَلاسِيَّمَا إَذَا قَامَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتَتَّفِقُ الشُّبْهَةُ وَالشَّهْوَةُ وَيثُورُ الهَوَى فَيَخْفَى الصَّوَابُ وَيَنْطَمِسُ وَجْهُ الحَقِّ، وَإِذَا كَانِ ظَاهرًا لا خَفَاءَ بِهِ وَلا شُبْهَةَ فِيهِ أَقْدَمَ عَلَى مُخُالَفَتِهِ وقال لِي: مَخْرَجٌ بِالتَّوْبَةِ وَفي هَؤلاءِ وَأَشْبَاهِهِِمْ قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا العَرَضَ الأَدْنَى مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ عَرَضَ لَهُمْ عَرَضٌ آخَرُ أَخَذُوهُ فَهُمْ مُصِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الحَامِلُ لَهُمْ عَلى أَنْ يَقُولُوا عَلى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ فَيَقُولُونَ هَذَا حُكْمُهُ وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَحُكْمَهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ أَوْ لا يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ دِينُه وَشَرْعُه وَحُكْمُه فَتَارَةً يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا يَعْلَمُونَ وَتَارَةً يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُونَ بُطْلانَهُ. قَالَ وَهَؤُلاءِ لا بُدَّ أَنْ يَبْتَدِعُوا في الدِّينِ مَعَ الفُجُورِ في العَمَلِ فَيَجْتَمِعُ لَهُمْ الأَمْرَانِ فَإِنَّ إتِّبَاعْ الهَوَى يُعْمِي عَيْنَ القَلْبِ فَلا يُمِيزِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالبِدْعَةِ أَوْ يُنَكِسُهُ فَيَرَى البِدْعَةَ سُنَّةً وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً فَهَذِهِ آفَةُ العُلَمَاءِ إِذَا آثَرُوا الدُّنْيَا وَاتَّبَعُوا الرِيَّاسَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَهَذِهِ الآيَاتِ فِيهِمْ إَلَى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} . فَهَذَا مَثَلُ عَالِمِ السُّوءِ الذي يَعْمَلُ بِخَلافِ عِلْمِهِ.
وَخِتَامًا فَإِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبِ يِتَأَسَّفُ عَلِى إِهْمَالِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ(1/92)
رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُتُبِ أَهْلَ العِلْمِ وَالإِيمَانِ يَبْنَى عَلَيْهِمَا الغُبَارُ وَيُسْتَبْدَلُ بِهِمُا قَتْلُ الوَقْتِ في أَلُوْوَ كَمْ بَاعَ فُلاَنٌ وَكَمْ شَرَىَ فُلاَنٌ وَأَيْنَ قَضَيْتَ العُطْلَةَ فِيهِ وَأَيْنَ تَقْضِي المُسْتَقْبَلَةَ وَارْفَعْ الجَرِيدَةَ وَأَعْطِنِي الأُخْرَى وَأَيْنَ المَجَلَّةُ الفُلانِيَّةُ وَمَا الذي ظَهَرَ في التِّلِفِزْيُونِ وَمَاذَا بِالإذَاعَةِ الفُلانِيَّةِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ كُثِيرٌ مِنْ نَوَاحِي مَعْلُومَاتِنَا مَعْشَرَ هَذَا الجِيلِ يَشِّبُ الوَاحِدُ مِنَّا وَيَشِيبُ وَهُوَ جَاهِلٌ بِسَيرِ سَلَفِنَا وَتَطْبِيقِهِا وَالإقْتِدِاءِ بِمَنْ أَمَرَنَا سَيَّدُنُا ومولانا بِإتِّبَاعِهِمْ مِنْ رُسُلِهِ الكِِرَامِ وَمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ وَحَذَا حَذْوَهُمْ وَنَهَجَ مَنْهَجُهُمْ مِمَّنْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقهمْ مولاهم يُنفِقُونَ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر السورة.
اللَّهُمَّ إَليْكَ بِدُعَائِنَا تَوَجَّهْنَا وَبِفَائِكَ أَنَخْنَا وَإِيَاكَ أَمَّلْنَا وَلِمَا عِنْدِكَ مِنَ الجُودِ وَالإِحْسَانِ طَلَبْنَا وَلِرَحْمَتِكَ رَجَوْنَا وَمِِنْ عَذَابِكَ أَشْفَقْنَا وَلِغُفْرَانِكَ تَعَرَّضْنَا. اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ وَلا تُعَذِّبْنَا بَأَلِيمِ عَقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأَفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكِ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنِا بِعَفْوِكَ وَغُفْرِانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
هَذِهِ قَصِيدَةٌ تَحْتَوِي عَلَى الحَثِّ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ وَالزُّهْدِ في الدُّنْيَا وَالإِقْبَالِ عَلَى الآخِرَةْ.
تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتًا
وَتَنْحَتُ جِسْمُكَ السَّاعَاتُ نَحْتًا(1/93)
وَتَدْعُوكَ الْمَنُونُ دُعَاءَ صَدْقٍ
أَلا يَا صَاحِ أَنتَ أُريدَ أَنْتَا
أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْسًا ذَاتَ غَدْرٍ
أَبَتَّ طلاقَها الأكْيَاسُ بَتًّا
تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ، فِي غَطِيطٍ
بِهَا حَتَّى إِذَا مِتَّ انْتَبَهْتَا
فَكَمْ ذَا أَنْتَ مَخْدُوعٌ فَحَتَّى
مَتَى لا تَرْعَوِي عَنْهَا وَحَتَّى؟!
أَبَا بَكْرٍ دَعَوْتُك لَوْ أَجبتَ
إِلى مَا فِيهِ حَظَّكَ لَوْ عَقِلْتَا
إِلى عِلْمٍ تكونُ بهِ إمامًا
مُطَاعًا إِنْ نَهَيْتَ وإِنْ أَمَرْتَا
وَيَجْلو ما بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاءٍ
وَيَهْدِيكَ الصِّراطَ إذا ضَلَلْتَا
وَتَحْمِلُ منهُ فِي نَادِيكَ تَاجًا
وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا اغْتَربْتَا
يَنَالُكَ نَفَعُهُ ما دُمْتَ حيًّا
وَيَبْقَى ذِكْرُهُ لَكَ إِنْ ذَهَبْتَا
هُوَ الْعَضْبُ الْمُهَنَّدُ لَيْسَ يَكْبُو
تَنَالُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ ضَرَبْتَا
وَكَنْزٌ لا تخافُ عليهِ لِصًّا
خَفِيفُ الْحَمْلِ يُوجَدُ حَيثُ كُنْتَا
يَزِيدُ بِكَثْرةِ الإِنْفَاقِ مِنْهُ(1/94)
وَيَنْقُصُ إِنْ بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا
فلو قَدْ ذُقْتَ مِنْ حَلْواهُ طَعْمًا
لآثرْتَ التَّعَلُّمَ وَاجْتهدْتَا
وَلَمْ يَشْغَلْكَ عنهُ هَوىً مُطاعٌ
وَلا دُنْيَا بِزُخْرِفُهَا فُتِنْتَا
وَلا يُلْهِيكَ عَنْهُ أَنِيقُ رَوْضٍ
ولا خَوْدٌ بزينَتِهَا كَلِفْتَا
فَقُوْتُ الرُّوحِ أرْواح الْمَعَالِي
وَلَيْسَ بَأنْ طَعِمْتَ وأنْ شَرِبْتَا
فَوَاظِبْهُ، وَخُذْ بالْجِدِّ فِيهِ
فَإِنْ أَعَطَاكَهُ البارِي أَخَدْتَا
وَإِنْ أُوتِيتَ فِيهِ بِطوُلِ بَاعٍ
وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّكَ قَدْ سَبَقْتا
فلا تَأمَنْ سُؤالَ اللهِ فِيهِ
بِتَوْبِيخٍ، عَلِمْتَ فهلْ عَمِلْتَا؟!
وَضَافِي ثَوْبِكَ الإحسان لا أنْ
وَلَيْسَ بأَن تَعَالى أَوْ رَئِسْتَا
وإنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ
فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا
إذا ما لمْ يُفِدْكَ العلمُ خَيْرًا
فَخيرٌ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَدْ جَهِلْتَا
سَتَجْنِي مِنْ ثِمَارِ اللَّهْوِ جَهْلاً(1/95)
وَتَصْغَرُ في العُيُونِ إذا كَبِرْتَا
وَتُفْقِدُ إِنْ جَهِلْتَ، وَأَنْتَ بَاقٍ
وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ إِذا فُقِدْتَا
سَتَذْكُرُ لِلنَّصِيحَةِ بَعْدَ حِينٍ
وَتَطْلُبُهَا إذا عَنْهَا شُغِلْتَا
وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا
وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا
إِذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ في سَمَاءٍ
وَقَدْ رُفِعُوا عَليكَ، وَقَدْ سُفِلْتَا
فراجعها وَدَعْ عَنْكَ الهُوَيْنَا
فَمَا بِالبُطْءِ تُدْرِكُ ما طَلَبْتَا
وَلا تَحْفِلْ بِمَالِكَ، وَالْهُ عنهُ
فَليسَ المَالُ إلا ما عَلِمْتَا
وَلَيسَ لِجَاهِلٍ في الناسِ مَغْنَىً
وَلَوْ مُلْكُ الأنَامِ لَهُ تَأَتَّى
سَيَنْطَقُ عَنْكَ مَالُكَ في نَدِيٍّ
وَيَكْتُبُ عنكَ يَومًا إِنْ كَتَبْتَا
وَما يُغْنِيكَ تَشْييدُ الْمَبَانِي
إذا بالجَهْلِ دِينَك قد هَدَمْتَا
جَعَلْتَ المَالَ فَوْقَ العِلْمِ جَهْلاً
لَعَمْرُكَ في القَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا
وَبَيْنَهُمَا بِنَصِّ الوَحْي فَرْقٌ
سَتَعْلَمُهُ إِذا (طَه َ) قَرَأْتَا(1/96)
لَئِنْ رَفَعَ الغَنِيُّ لِوَاءَ مَالٍ
فَأنْتَ لِوَاءَ عِلمِكِ قَدْ رَفَعْتَا
وَإِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحَشَايَا
فَأنْتَ عَلَى الْكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا
وَإِنْ رَكِبَ الْجِيادَ مُبسَوَّمَاتٍ
فَأنْتَ مِنْاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا
وَمَهْمَا افْتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي
فَكَمْ بِكْرٍ مِنَ الحِكَمِ افْتَضَضْتَا
وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئًا
إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا
فِيامَا عِنْدَهُ لَكَ مِنْ جَزِيلٍ
إِذَا بِفِنَاءِ طاعتِهِ أَنَخْتَا
فَقَابِلْ بالقَبُولِ صَحيحَ نُصْحِي
وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فقَدْ خَسِرْتَا
وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً
وَعَامَلْتَ الإِلَهَ بِهِ رَبِحْتَا
فَلَيْسَتْ هَذِه الدُّنْيَِا بشيءٍ
تَسُوؤكَ حُقْبَةً، وَتَسُرُّ وَقْتَا
وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيها
كَفِئكَ، أَوْ كَحُلْمِكَ إِنْ رَقَدْتَا
سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لَهَا مُحِبٌ
فكَيفَ تُحبُّ مَنْ فِيهَا سُجِنْتَا
وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَلِيلٍ(1/97)
.. سَتُطْعَمُ مِنْكَ مَا مِنْهَا طَعِمْتَا
وَتَعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَابًا
وَتُكْسَى إنْ مَلابِسَهَا خَلَعْتَا
وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْمٍ دَفْنَ خِلٍّ
كَأنك لا تُرادُ بِمَا شَهِدْتَا
وَلَمْ تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلَكِنْ
لِتَعْبُرَها فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا
وَإِنْ هَدَمْتَ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْمًا
وَحَصِّنُ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا
ولا تَحْزَنْ لِمَا قَدْ فَاتَ مِنْها
إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا
فَلَيْسَ بِنَافِعٍ ما نِلْتَ مِنْهَا
مِنْ الفانِي إِذَا الباقي حُرِمْتَا
وَلا تَضْحَكْ مَع السُّفَهَاءِ جَهْلاً
فَإنَّكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا
وَكَيْفَ بِكَ السُّرورُ وأنتَ رَهْنٌ
وَلا تَدْرِي غَدًا أَنْ لَوْ غُلَبْتَا؟!
وَسَلْ مِنْ رِبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا
وَأَخْلِصْ في الدُّعاء إِذَا سَأَلْتَا
وَنَادِ إذ سُجِنْتَ بِهِ اعْتِرافًا
كَمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ بنُ مَتَّى
وَلازِمْ بَابَهُ قَرْعًا عَسَاهُ
سَيَفْتَحُ بابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا(1/98)
وأكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأرِضِ دَابًّا
لِتُذْكَرَ في السماءِ إِذَا ذَكَرْتَا
وَلا تَقُلِ الصَّبَا فِيهِ امْتِهالٌ
وَفَكِّرْ كَمْ صَغِيرِ قَدْ دَفَنْتَا
وَقُلْ لِي: يَا نَصِيحِي لأَنْتَ أَوْلَى
بِنُصْحِكَ إِذْ بِعَقْلِكَ قَدْ عُرِفْتَا
فَتَعْذِلُني عن التَّفريطِ يَوْمًا
وَبَالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا
وَفِي صَغِرِي تُخوِّفُنِي الْمَنَايَا
وَمَا تَجْرِي بِبَالِكَ حِينَ شِخْتَا
وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلاً
فَمَا لَكَ بَعْد شَيْبِكَ قَدْ نُكِسْتَا
وَهَا أَنَا لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الخَطَايَا
كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا
وَلَمْ أَشْرَبْ حُمَيَّا أَمْ دَفْرٍ
وَأَنْتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا
وَلَمْ أحْلِلْ بَوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ
وَأَنْتَ حَلَّلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا
وَلَمْ أَنْشَأ بَعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ
وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ فَمَا انْتَفَعْتَا
وَنَادَاكَ الكِتَابُ فَلْم تُجِبْهُ
وَنَبَّهَكَ الْمَشِيبُ فما انْتَبَهْتَا
وَقَدْ صَاحبْتَ أعْلامًا كَثِيرًا(1/99)
فَلَمْ أَرَكَ انْتَفَعْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا
وَيَقْبُحُ بَالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي
وَأَقْبَحُ منه شَيْخُ قَدْ تَفَتَّى
فَأَنْتَ أَحَقُّ بَالتَّفِنِيدِ مِنِّي
وَلَوْ سَكَتَ الْمُسِيءُ لِمَا نَطَقْتَا
فَنَفْسَكَ ذُمَّ لا تَذْمُمْ سِوَاها
بَعْيبٍ فَهِي أَجْدَرُ إِنْ ذَمَمْتَا
وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفًا
لِذَنْبِكَ لَمْ أَقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا
فَمَنْ لَكَ بَالأمَانِ وَأَنْتَ عَبْدٌ
أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلا أَطَعْتَا
فَسِرْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوًا
لَعَمْرُكَ لَوْ وَصِلْتَ لَمَا رَجَعْتَا
ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى
لِجَهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذًا وُزِنْتَا
وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍٍ
وَنَاقَشَكَ الحِسَابَ إِذَا هَلَكْتَا
لَمْ يَظْلمْكَ فِي عَمَل وَلَكِن
عَسَيرٌ أَنْ تقُومَ بما حَمَلْتَا
تَوَجَّعُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الخَطَايَا
وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا
وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الْفَصْلِ فَرْدًا
وَأَبْصَرْتَ الْمَنَازِلَ فِيهِ شَتَّى(1/100)
لأعَظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لَهْفًا
عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا
تَفِرُّ مِنْ الْهَجِيرِ وَتَتَقِيهِ
فَهَلا مِن جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا!!
وَلَسْتَ تُطيقُ أَهْوَانَها عَذَابًا
ولو كُنْتَ الْحَدِيدَ بِها لَذُبْتَا
وَلا تكْذِبْ فَإنَّ الأَمْرَ جَدٌّ
وَلَيَسَ كَمَا حَسِبْتَ وَمَا ظَنَنْتَا
أَبَا بَكْرٍ كَشَفْت أَقَلَّ عَيْبِي
وَمَا اسْتَعْظَمْتَهُ مِنْهَا سَتَرْتَا
فَقُلْ مَا شِئْتَ فِي مِن الْمَخَازِي
وَضَاعِفْهَا فَإنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا
وَمَهْمَا عَبْتَنِي فَلِفَرْطِ عِلْمِي
بِبَاطِنَتِي كَأنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا
وَلا تَرْضَى الْمَعَائبَ فَهِيَ عارٌ
عَظِيمٌ يُورِثُ الإِنْسَانَ مَقْتَا
وَتَهْوَى بَالوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَا
وَتُبْدِلُهُ مَكانَ الْفَوْقِ تَحْتَا
كَذَا الطَّاعَاتُ ُتبِلِغُكَ الدَّرَارِي
وَتَجْعَلُكَ القَرِيبَ وإنْ بَعُدْتَا
وَتَنْشُرُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا جَمِيلاً
فَتَلْقَى البِرَّ فِيها حَيْثُ شِئْتَا
وتُمسِي في مَسَاكِنِهَا عَزِيزًا(1/101)
وَتَنْجِي الحَمْدَ مِمَّا قَدْ غَرَسْتَا
وَأَنْتَ اليومَ لمْ تُعْرِفْ بِعَيْبٍ
وَلا دَنَّسْتَ ثَوْبَك مُذْ نَشَأْتَا
وَلا سَابَقْتَ في مَيْدَانِ زُورٍ
وَلا أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلا خَبَبْتَا
فَإنْ لَمْ تَنْأَ عنهُ نَشَبْتَ فِيهِ
فَمَنْ لَكَ بَالخَلاصِ إِذَا نَشَبْتَا؟!
وَدَنِّسَ مِنْكَ مَا طَهَّرْتَ حَتَّى
كَأنَّكَ قَبْلَ ذلكَ مَا طَهُرْتَا
وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ فِي وِثَاقٍ
وَكَيْفَ لَكَ الفِكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا؟!
فَخَفْ أبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ
كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ والسَّبَنْتَا
فَخَالِطْهُم وَزَايلْهُمْ حِذارًا
وَكُنْ كالسَّامِري إِذَا لُمْستَا
وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيْكَ فَقُلْ سَلامٌ
لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ سَلِمْتَا
وَمَنْ لَكَ بالسَّلامَةِ فِي زَمَانٍ
يُزِلُّ الْعُصْمَ إِلا إِنْ عُصِمْتَا
وَلا تَلْبثْ بَحَيٌ فِيهِ ضَيْمٌ
يُمِيتُ القَلْبَ إلا أَنْ كُبِلْتَا
فَغَرِّبْ فالتَّغْرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ
وَشَرِّقْ إنْ بِرِيْقِكَ قَدْ شَرِقْتَا(1/102)
فَلَيْسَ الزُّهْدُ في الدُّنْيَا خُمُولاً
فأنْتَ بها الأميرُ إذا رَهِدْتَا
فَلَوْ فَوقَ الأَمِيرِ يكُونُ عَالٍ
عُلُّوًا وارْتِفَاعًا كُنْتَ أَنْتَا
فإنْ فارَقْتَهَا وَخَرجْتَ منها
إلى دارِ السَّلامِ فقد سَلِمْتَا
وإنْ أكْرَمْتَها وَنَظَرْتَ فِيهَا
بَإجْلالٍ فَنفسَكَ قَدْ أَهْنَتَا
جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائحَ فَامْتَثِلْهَا
حَيَاتَكَ فَهِيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثَلْتَا
وَطوَّلْتُ العِتَابَ وَزِدْتُ فيهِ
لأَنَّكَ في البَطَالةِ قَدْ أَطَلْتَا
فَلا تَأْخُذْ بَتَقْصِيرِي وَسَهْوي ... وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رُشِدْتَا
وَقَدْ أَرْفَقْتُهَا سِتًّا حِسَانًا ... فَكَانَا قَبْلَ ذَا مِأةً وَسِتًّا
وَصَلَّى اللهُ مَا أَوْرَقْ نَضَارٌ ... عَلَى الْمُخْتَارِ في شَجَرٍ وَحَنَّا
اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ نَسْأَلُكَ أَنْ تَهْدِينَا إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتِقيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة: عباد الله سَيَصْحُو السَّكرانُ من سُكْره، حِينَ لا يُمْكِنِهُ تَلافي أَمْرهْ وَسَيْنَدَمُ المضيع على تَضْييعه، إِذَا قَابلَهُ أَمْر صَنِيعهْ، وَسَيُقْصرُ الأَمَلَ من أمله وقْتَ هجُومِ أجَله، وتعذر الزيادة في عَمَله، والخروج من بين مالهِ وَأَهْلِهْ.(1/103)
هُنَالِكَ يَستحَيلُ حُلْوُ العيش مُرًا وَيَنْقَلبُ عُرْفُ الأمر نُكْرًا، ويَعْلمِ جَامِعُ الحطام الذِي أَضَاعِ بِهِ أَوْقَاتَهُ أن الباقيات الصالحات أَبْقَى ذِكرَا وأنفعُ ذُخْرَا، ليس في ظل الدنيا مقيل ولا على هَذِهِ الحياةِ تَعويلِ.
كَيْفَ يطمعُ عاقِلٌ في الإقامة بدار الرحيل، كيف يَضحَك من هو مَحْفُوفَ بمُوجبات البُكاء والعَويل، أسْمَعَنا النَّاصِحُ فَتَصَامَمْنَا، وَأيْقَظَتْنَا الغيَرُ فَتَنَاومْنَا، وَرَضِينَا بَالْحَياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرِة، واشْتَرَيْنَا مَا يَفْنَى بِمَا يَبْقَى فَتِلْكَ إِذًا صفقَةٌ خَاسِرَة.
أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية، قَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال رُسُلُ مَلَكِ الموت في كُل نَفَس تَدْنُوا إلى أنْفُسِنَا وأجْسَادُ أَحِبَّتِنَا تحتَ أطباق الثرى هَامدة.
قد أو حَشَتْ منهم دِيَارُهُمْ، وَدَرَسَتَ رُسُومُهَم وآثارُهم، وتقطعت بالبلاء أوَصالُهم، وَمَحَتْ أَيْدِي الحَوادثِ والقُبور مَحَاسِنَ تِلكَ الصُّورَ، وأطْبَقُت عَليهم ضُلَماتُ تِلْكَ الحُفَر.
فلا شَمس فيها ولا نُور ولا قَمر، ونَحْنُ عَمَّا قَريب إلى مَا صاروا إليه صائرون، وبالكأس الذي شربوا منه شارِبُون ثم مع هذا اليقين إلى دار الغرور راكنون.
طُوبَى لِمَنْ فِي مَراضي رَبِّه رَغَبَا ... وَعَنْ مَصَارِعِ أهلِ اللَّهْو قَدْ هَرَبَا
قَدْ وَطَّنَ النفسَ أنَّ اللهَ سَائلُهُ ... فَفَرَّ مِنْهُ إِلَيْهِ مُهِيبًا هَرَبَا
وَللتُقَى مَرْكَبٌ يَنْجُو برَاكِبِهِ ... فَيَا نَجَاةَ الذي مَعْ أَهْلِهِ رَكَبَا
وَلِلْهُدَى رُفْقَةٌ فَاسْعَدْ بِصُحْبَتِهْمِ ... فَيَا سَعَادَةَ مَن أَهلَ الهدُى صَحَبَا
لِلَّهِ دُرُّ عِبَادٍ قُرْبَهُ طَلَبُوا ... لَمْ يَطْلُبُوا فِضَّةً منه ولا ذَهَبَا
سَارُوا بَعْزِمِ وَتَشْمِير وَمَا اتَّخَذُوا ... فِي سَيْرِ دُنْيَاهُمُوا لَهْوًا وَلا لَعِبَا(1/104)
الصِّدْقُ مَرْكَبُهم والحقُ مَطْلَبُهُمْ ... لا زُورَ مَازَجَ دَعْواهُم ولا كَذِبَا
اللَّهُمَّ علمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي عُلومِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَعْمَارِنَا وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل)
ومما ورد في فضل العلمِ والحثِّ على تَعلُّمِهِ وتعليمِهِ ما يلي مِنَ الأحاديث:
1– فعن معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . رواهُ البخاريُّ، ومسلمُ.
2- وعن عبد الله يعني ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وألهمه رشده» . رواهُ البَزَّارُ، والطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ بإسنادٍ لا بَأْسَ بِهِ.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدنيا والآخرة، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا حَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ ونَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وأبو داوودَ، والتُّرْمُذِي، والنَّسائي، وابنُ ماجَة، وابنُ حِبَّان في صحيحِهِ، والحاكمُ وقال: صحيحٌ على شَرْطِهِمَا.(1/105)
4– وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بما يصنع وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حتى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وفَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي.
5– وعن صَفْوَانُ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بُرْدٍ لَهُ أحمر، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بطالبِ الْعِلْمِ، إنَّ طَالِبُ الْعِلْمِ تحُفُّهُ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ مَحُبِّتهِمْ لِمَا يَطْلُبُ» . رواه أحمد، والطبراني بإسناد جيدٍ واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وروى ابن ماجة نحوه باختصار ويأتي لفظه إن شاء الله تعالى.
تَرَفَّقَ بِمَنْ يَأْتِيكَ لِلْعِلْمِ طَالِبًا ... وَقُلْ مَرْحَبًا يَا طَالِبَ العِلْم مَرْحَبَا
فَهَذَا الذي أَوْصَى بِهِ سَيِّدُ الوَرَى ... كَمَا قَدْ رَوَى الخُدْريُّ عَنْهُ وَرَحَّبَا
وَمَنْ سَهَّلَ اللهُ الطَّرِيقَ لِجَنَّةٍ ... لَهُ الجَدِيرُ بِالتَّرحُّبِ وَالحِبَا
آخر:
مُنَايَ مِن النُيا عُلومٌ أَبُثُّهَا ... وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دُعَاءٌ إلَى القُرآنِ وَالسُّنَّةِ التِّي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرَهَا في المَحَاضِرِ
وَقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالجَرَائِدِ تَارَةً ... وَتِلْفَازِهْمِ رَأسُ الشُّرُورِ المَنَاكِرِ
وَمِذْيَاعِهِمْ أَيْضًا فَلا تَنْسَ شَرَّهُ ... فَكَمْ ضَاع مِنْ وَقْتٍ بِهِ بالخَسَائِرِ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(1/106)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ» . رواه ابن ماجة وغيره.
وَرُوِيَ عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءهُ أَجَلُهُ وهو يَطْلُبُ العِلْمَ لَقِيَ اللهَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبينَ النَّبيينَ إِلا دَرَجَةُ النُّبُوَّةِ» . رواهُ الطَبراني في الأوسط.
6– وَرُوِي عَنْ سَخْبَرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلانِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُذَكِّرُ، فَقَالَ: «اجْلِسَا فَإِنَّكُمَا عَلَى خَيْرٍ» ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، قَامَا، فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا: «اجْلِسَا، فَإِنَّكُمَا عَلَى خَيْرٍ» أَلَنَا خَاصَّةً، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فقَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَطْلُبُ الْعِلْمَ، إِلا كَانَ كَفَّارَةَ مَا تَقَدَّمَ» . رواه التُرْمُذِي مختصرًا، وَالطَّبَرَانِي في الكبير واللفظُ لهُ.
قال بَعضُ العلماء: مَن غَرَسَ العلم اجْتَنَى النباهَةِ، وَمَنْ غَرَسَ الزُّهْدَ اجْتَنَى العِزَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الإِحسان اجْتَنَى المحبةَ، وَمَنْ غَرَسَ الفكرة اجْتَنَى الحِكْمَةَ، وَمَنْ غَرَسَ الوَقَارَ اجْتَنَى المَهَابَة، وَمَنْ غَرَسَ المَدَارَة اجْتَنَى السَّلامَة، وَمَنْ غَرَسَ الكِبَرَ اجْتَنَى المَقْتَ، وَمَنْ غَرَسَ الحِرْصَ اجْتَنَى الذِّلَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الطَّمَعَ اجْتَنَى الخِزْيَ، وَمَنْ غَرَسَ الحَسَدَ اجْتَنَى الحُزْنَ والكَمَدَ.
7- وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما اكْتَسَبَ مُكْتَسِبٌ مِثْلَ فَضْلِ عِلْمٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلى هُدَى أَوْ يَرُدَّهُ عَنْ رَدَى وَمَا استقامَ دِينُهُ حتى يَسْتَقِيمَ عَمَلُه» . رواه الطبراني في الكبير واللفظُ والصغيرِ إلا أنه قَال فيهِ: حتى يَسْتَقِيمَ عَقلُهُ. وإسنادُهُمَا متقارِبٌ.
8- وَرُوِيَ عن أبي ذَرّ، وأبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنهُما قالا:(1/107)
لبابٌ يتعلمُهُ الرجلُ أحَبُّ إلى الله مِنْ أَلفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا وقالا: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا جاءَ الموتُ لِطَالِبِ العِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الحَالةِ ماتَ وهو شهيدٌ» . رواه البزارُ، والطبرانيُّ في الأوسطِ إلا أنه قال: «خيرٌ له مِنْ أَلفِ رَكْعة» .
9- وعنْ أبي ذَرّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ» . رواه ابن ماجة بإسنادٍ حسنٍ.
شِعْرًا:
إذا ما شِئتَ أَنْ تَسْمُو وَتُسْمَى ... وَتُدْرِكَ رَاحَةً رُوحًا وَجِسْمًا
فَقُمْ لِطَرِيقِ أَهْلَ العِلْمِ سَعْيًا ... لِتَقْفُوا مَعْهُمُوا أَثَرًا وَرَسْمًا
فَإِنْ حَصَّلْتَ مَطْلُوبًا وَإلا ... ظَفِرْتَ بِأَكْبَرِ الشَّرَفَيْنِ قَسْمَا
فَأَكْرَمُ مَا حَوَاهُ المَرْءُ عِلْمٌ ... بِهِ يُهَدَى وَيَهْدِي مَنْ أَلَمَّا
وَلَيْسَ يُفِيدُ الْكَوْنَ عَبْدًا ... إِلَى العَلْيَاءِ يَسْرِي وَهْوَ أَعْمَى
فَكَمْ أَبْدَى ضِيَاءُ العِلْمِ رُشْدًا ... وَأَذْهَبَ ظُلْمَةً وَأَزَالَ غَمًا
فَنَحْمَدُ رَبَّنَا إِذْ مَنَّ لُطْفًا ... بِهِ في رُشْدِنَا وَأزَالَ غَمًّا
آخر:
إذَا مِتُّ فانْعِيْنِقي إلِى العِلْمُ والنِّهَى ... وَمَا حَبُّرتْ كِفِّيْ بِمَا في المَحَابَرِ
فَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ بِهِمْ يَضِحُ الهُدَى ... إِذَا أَظْلَمَتْ بالقَوْمِ طُرْقُ البَصَائِرِ
10- وعن أبي هُريرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمًا ومُتَعَلِّمًا» . رواه التُرمُذِي، وابنُ ماجة، والبَيْهَقِي. وقالَ الترمذيُّ: حَدِيثٌ حَسَن.
11- وعن ابن مسعودٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ حَسَدَ إِلا فِي اثْنَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ،(1/108)
وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» . رواه البخاري، ومسلم.
12- وعن أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتْ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالى وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . رواه البخاري، ومسلم.
شِعْرًا:
اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تُؤْتَ حِكْمَةً إِنَّمَا ... جَدْوَى عُلومِ المَرْءُ نِهْجَ الأَقْوَمِ
وَإِذَا الفَتَى قَدْ نَالَ عِلْمًا ثُمَّ لَمْ ... يَعْمَلْ بِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ
آخر:
وَاعْلَمْ بأنَّ العِلْمَ أَرفعُ رُتْبَةً
وَأَجَلُّ مكتسبًا وَأَسْنَى مَفْخَرٍ
فَاسْلُكْ سبيلَ المُقْتَفِينَ لَهُ تَسُدْ
إِنَّ السِّيادَةَ تُقْتَنَى بالدَّفْتَر
والعالِمُ المدعُوُّو حَبْرًا إِنَّمَا
سَمَّاهُ باسمِ الحَبْرِ حَمْلُ المَحْبَرِ
تَسْمُوا إِلَى ذِي العِلْمِ أَبْصَارُ الوَرَى
وَتَغُضُّ عن ذِي الجَهْلِ لا بَلْ تَزْدَرِي
وَمُضَمَّرُ الأقلامِ يَبْلغُ أَهلُها
مَا ليسَ يُبْلغُ بِالعِتَاقِ الضُّمَّرِ
والعِلمُ ليس بنافِعٍ أَرْبَابَهُ(1/109)
ما لَمْ يُفْدْ عَمَلاً وَحُسْنَ تَبَصُّرِ
فاعْمَلْ بعلْمِكَ تُوفِ نَفسَك وزنْهَا
لا تَرْضَى بالتَّضييعِ وَزْنَ الْمُخْسِّرِ
آخر:
وَبَّخْتَ غَيْرَكَ بِالْعَمَى فَأفَدْتَهُ ... بَصَرًا وَأَنْتَ مُحَسِّنٌ لِعَمَاكَا
كَفَتِيلَةِ الْمِصْبَاحِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا ... وتُضِيءُ للأَعْشَى وأَنْتَ كَذاكَا
آخر:
جَزَى اللهُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مَثُوبَةً ... وَبَوأَهُم فِي الْخَلْدِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ
فَلَولا اعْتِنَاهُم بالْحَدِيثِ وحِفْظِهِ ... وَنَفْيهُمُ عَنْهُ ضُروبَ الأَبَاطِلِ
وَإنْفَاقَهُمْ أَعْمَارَهُمْ فِي طِلابِهِ ... وَبَحْثِهُمُ عَنْهُ بِجِدٍ مُوَاصلِ
لِمَا كَانَ يَدْرِي مَنْ غَدَا مُتَفَقهًّا ... صَحِيح حَدِيثٍ مِنْ سَقِيم وَبَاطِلِ
وَلَمْ يَسْتَبْنِ مَا كَانَ فِي الذِّكْرِ مُجْمَلاً ... وَلَمْ نَدْرِي فَرْضًا مِنْ عُمُومِ النَّوافِلِ
لَقَدْ بَذَلُو فِيهِ نُفُوسًا نَفِيسَةً ... وَبَاعُوا بِحَظِّ آجلٍ كُلَّ عَاجِلِ
فَحُبُّهمُ فَرْضٌ عَلَى كُلَّ مُسْلمٍ ... وَلَيْسَ يُعَادِيهم سِوَى كُلّ جَاهلِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَعْرِفَتِكَ بَأسْمَائِكَ وَصِفَاتِكَ وأَفْعَالِكَ وارْزُقْنَا الرِّضَا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ والتَّوكُّلَ عَلَيْكَ فِي كُلِّ ضَيْقٍ وَسَعَةٍ وَشَدَّةٍ وَرَخَاءٍ وَكَلَّ مَا تَيَسَّرَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ صِِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ وَجَنِّبْنَا جَمِيعَ مَا يُغْضِبُكَ يَا كَرِيمُ وَأَعِذْنَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ والْجَحِيمْ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ 11)
13- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابنِ(1/110)
السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» . رواهُ ابنُ ماجَة بإسنادٍ حَسنٍ، والبيهقيُّ.
14- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ ابن آدم انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ الناسُ بِهِ، أوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغيرُهُ.
15- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» . رواهُ التِّرْمِذِي. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عائشة مختصَرًا قَالَ: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لهُ كلُّ شَيءٍ حتَّى الْحِيتَانُ في الْبَحْرِ» .
16- ورُويَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَفَقِيهٌ واحدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ هَذَا الدِّينِ الْفِقْهُ» . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لأَنْ أَجْلِسَ سَاعَةً فَأَفْقَهَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أُحْيِىَ لَيْلَةً الْقدْر. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي، والْبَيْهَقِي. إِلا أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إليّ مِنْ أَنْ أُحْيِي لَيْلَةً إِلى الصَّبَاحِ. وقَالَ الْمَحْفُوظَ: هَذَا اللفْظُ مِنْ قَوْلِ الزُّهَرِيُّ.
شعرًا:
تَعَلَّمْ يَا فَتَى والْعُودُ رَطْبً ... وَطِينُكَ لَيِّنٌ والْعُمْرُ قَابلْ
وَحَسْبُكَ يَا فَتَى شَرفًا وَفَخْرًا ... سُكُوتُ الْحَاضِرينَ وَأَنْتَ قَائِلْ
17- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِسوقِ الْمَدِينةِ فَوقَفَ عليها، فقَالَ يَا أَهْلَ السُّوقِ مَا أَعْجَزَكُمْ؟ قَالَوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرُةَ؟(1/111)
قَالَ: ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَا هُنَا ألا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ. قَالَوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا سِرَاعًا وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ فقَالَوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا فيه فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: ومَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟ قَالَوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيْحَكُمْ فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الأَوْسَطِ بإسنادٍ حَسَنٍ.
18- وَعَنْ جَابَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِلْمُ عِلْمانِ: عِلْمُ في الْقَلْبِ فذاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وعِلْمٌ عَلَى اللَّسَانِ فَذَاكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ابْنِ آدمَ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطيبُ بإسْنَادٍ حَسَن. وَرَوَاهُ ابنُ عبدِ الْبَرِّ النَّمِرِي فِي كتابِ الْعِلْمِ عن الْحَسَن مُرْسَلاً بإسنادٍ صَحِيحٍ.
شعرًا:
لا خَيْرَ فِي الْعِلْمِ إنْ لَمْ يَرْقَ صَاحُبُه ... عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الأَخْلاقِ في الصِّغَرِ
كَمْ عَالمٍ فَاسِدٌ ضَلَّتْ مَذَاهِبُهُ ... وَقَدْ غَدَا عِلمُهُ شَرًا عَلَى الْبَشَرِ
إَبْلِيسُ أَعْلَمْ الْفِسْقِ قَاطِبةً ... والنَّاسُ تَلْعَنُهُ فِي الْبَدْوِ والْحَضَرِ
الْعِلْمُ كَالْغَيْثِ والأَخْلاقُ مَزْرَعَةٌ ... إِنْ تَخْبُثِ الأَرْضُ تَذْهَبِ نِعْمَةُ الْمَطَرِ
والجهلُ أَفْضَلُ مِنْ عِلْمٍ يُدَنِّسُهُ ... نُضْجُ الرَّذِيلَةِ مِنْ أَخْلاقِ مُقْتَدِرِ
19- وَعَنْ زَرِّ بن حُبَيْشٍ قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا جَاء بِكَ؟ قُلْتُ: الْعِلْمُ. قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ أَجْنَحَتِهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذيَّ وَصَحَّحه. وابنُ ماجَة واللفظُ لهُ، وابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمْ. وقَالَ: صَحيحُ الإِسْنَادِ.(1/112)
وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ أحدُهُما يذْكرون الله تعالى والآخرون يَتَفَقَّهُون، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلا مَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْر، وأَحَدُهَمَا أَحَبُّ إليّ مِنْ صاحِبِهِ. أَمَّا هَؤلاءِ فَيَسْأَلُونَ اللهَ تَعالى وَيَذْكُرُونَهُ فَإنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَأَمَّا الْمَجْلِسُ الآخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ الفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ وإنما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا» . وَجَلَسَ إِلى الْفقهِ. ورُوِي عَنْ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُها، وَخِيارُ عُلمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا» .
يَمُوتُ قَوْمٌ وَيُحْيِي الْعِلْم ذِكْرهُمُ ... والْجَهْلُ يُلْحِقُ أَحْيَاءٌ بأًمْوَاتِ
آخر: ... تَعَلَّمْ فإنَّ الْعِلْمَ زَينٌ لأهْلِهِ
وَفَضْلٌ وَعنوانٌ لِكُلِّ الْمَحَامِدِ
وَكُنْ مُسْتَفِيدًا كُلَّ يَومٍ زِيادَةً
مِنْ الْعِلْمِ واسْبحْ في بُحُورِ الْفَوَائِدِ
تَفَقَّهْ فإنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ قَائِدٍ
إِلى الْبِرِّ والتَّقوَى وَأَعْدَلُ قَاصِدِ
هُو الْعلْمُ الْهَادِي إلى سُنَنِ الْهُدَى
هُوَ الْحِصْنُ يُنْجِي مِنْ جَمِيعِ الشَّدائِدِ
فَإِنْ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَورِّعًا
أَشَدُّ عَلى الشَّيطانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدِ
آخر: ... وَعَابَ سَمَاعِي للْحَدِيثِ بُعَيْدَمَا ... كَبْرتُ أُنَاسٌ هُمْ إلى الْعَيْبِ أَقْرَبُ
وَقَالُوا إِمَامٌ فِي عُلُومِ كَثِيرَةٍ ... يَرُوحُ وَيَغْدُ سَامِعًا يَتَطَلَّبُ
فَقُلْتُ مُجِيبًا عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَقَدْ ... غَدَوْتُ لِجَهْلٍ مِنْهُمُ أَتَعَجَّبُ
إِذَا اسْتَدْرَكَ الإِنْسَانُ مَا فَاتَ مِنْ عُلا ... فِللْحَزْمِ يُعْزَى لا إلى الْجَهْلِ يُنْسَبُ
آخر: ... يَلُومُونِي إِنْ رُحْتُ فِي الْعِلْمِ دَائِبًا ... أَجْمَعُ مِنْ عَنْدِ الرُّوَاة فُنُونَهُ(1/113)
فَيَا عَاذِلي دَعْنِي أَغَالِي بقِيمَتِي ... فَقِيمَةُ كُلُّ النَّاسِ مَا يَحْسِنُونَهُ
آخر:
ذَوُوا الْعِلْمِ فِي الدُّنْيَا نُجومُ هِدَايةٍ
إِذَا غَابَ نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيدُ
بِهمْ عَزَّ دِينُ اللهِ طُرًّا وَهُمْ لَهُ
مَعَاقِلُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَجُنُودُ
آخر ... وَمَا أَنَا بَالْغَيْرَانِ مِنْ دُونِ جَارتي ... إذَا أَنَا لم أُصْبِحْ غَيوُرًا عَلَى الْعِلْمِ
آخر:
أَرَى الْعِلْمِ أَعْلَى رُتْبَةً فِي الْمَراتِبِ ... ومِنْ دُونِهِ عِزُّ الْعُلَى فِي الْمَوَاكِبِ
فَذُو الْعِلْم يَبْقَى عِزَّهُ مُتَضَاعِفًا ... وَذُو الْجَهْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَحْتَ التَّرَائِبِ
فَهَيْهَاتَ لا يَرْجُو مَدَاهُ مَنْ ارْتَقَى ... رُقِيَّ وَليّ الْمُلْكِ وَالي الْكَتَائِبِ
سَأُمْلِي عَلَيْكُمْ بَعْضَ ما فِيهِ فَاسْمَعُوا ... فَبِي حَصَرٌ عن ذِكْرِ كُلَّ الْمَنَاقِبِ
هُو النُّورُ كُلُّ النُّورِ يَهْدِي عن الْعَمَى ... وَذُو الْجَهْلِ مَرَّ الدَّهْرِ بَيْنَ الْغَيَاهِبِ
هُو الذُّرْوَةُ الشَّمْاءُ تَحْمِِي مَنْ الْتَجَا ... إِلَيْهَا وَيَمْشِي آمِنًا فِي النَّوَائِبِ
بِهِ يَنْتَجِي والنَّاسُ في غَفَلاتِهِمْ ... بِهِ يَرْتَجِي والرُّوحُ بَين التَّرَائِبِ
بِهِ يَشْفَعُ الإِنْسَانُ مَنْ رَاحَ عَاصِيًا ... إِلى دَرَكِ النِّيرَانِ شَرِّ الْعَواقِبِ
فَمَنْ رَامَه ُرَامِ الْمَآرِبَ كُلَّهَا ... وَمَنْ حَازَهُ قَدْ حَازَ كُلَّ الْمَطَالِبِ
هُوَ الْمَنْصِبُ الْعَالِي فَيَا صَاحِبَ الْحَجَا ... إِذَا نِلْتَهُ هَوِّنْ بِفْوتِ الْمَنَاصِبِ
فَإِنْ فَاتَتَ الدُّنْيَا وَطِيبُ نَعِيمِهَا ... [فَغَمَّضْ] فَإِنَّ الْعِلْمَ خَيْرُ الْمَوَاهِبِ
آخر: ... الْعِلْمُ إِنْ لَمْ تَكْتَنِفْهُ شَمَائِلٌ ... تُعْلِيهِ كَانَ مَطِيَّةَ الإِخْفَاقِ
لا تَحْسَبَنَّ الْعِلْم يَنْفَعُ وَحْدَهُ ... مَا لَمْ يُتَوَّجْ رَبُّهُ بِخَلاقِ
كَمْ عَالِمٍ مَدَّ الْعُلُومَ حِبَائِلاً ... لِوَقِيعَةٍ وَقَطِيعَةٍ وَفِرَاقِ(1/114)
وَفَقِيهِ قَوْمٍ ظَلَّ يَرْصُدُ فِقْهَهُ ... لِمَكِيدَةٍ أَوْ مُسْتَحِلَّ طَلاقِ
يَمْشِي وَقَدْ نُصِبَتْ عَلَيْهِ عمَامَةٌ ... كَالْبُرْجِ لَكْنِ فَوْقَ تلِّ نِفَاقِ
وَطَبِيبِ قَوْمٍ قَدْ أَحَلَّ لِطِبِّهِ ... ما لا تُخِلُ شَريعَةُ الْخَلاقِ
قََتَل الأجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَتَارةً ... جَمَعَ الدَّرَاهِمَ مِنْ دَمِ مِهرَاقِ
آخر:
مَا الْفَخْرُ إِلا لأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمْ ... عَلَى الْهُدَى لِمَنْ اسْتَهْدَى أدلاءُ
وَقِيمَة الْمَرْءِ ما قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ ... والْجَاهِلُونَ لأَهْلِ الْعِلْمِِ أَعْدَاءُ
فَعِشْ بِعِلْمِ تَفُزْ حَيًّا بِهِ أَبَدَا ... النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ 12) قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:
الأَصْلُ الأولُ فِي الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَبَيَانِ عُمُومِ الْحَاجَةِ إِليهِ وَتَوَقُّفِ كَمَالِ الْعبدِ ونَجَاتِهِ في مَعِاشِهِ وَمَعادِهِ عليهِ.
قَالَ اللهُ تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} استشْهدَ سبحانه بأولي العلمِ على أَجَلِّ مَشْهودٍ عَلَيْهِ وَهُو توحيدُهُ فقَالَ: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} وَهَذا يدلُّ على فضْلِ الْعِلْمِ وأهلِهِ مِنْ وُجوِهٍ. أَحدُها: استشهادُهُمْ دُونَ غَيْرِهمْ من الْبَشَر، والثاني: اقترانُ شهادَتِهِمْ بِشَهَادِتِهِ، والثالثُ: اقترَانُها بشهادَةِ مَلائِكتِهِ، والرابعُ: أنّ في ضِمْنِ هذا تزْكِيَتَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ فإنّ اللهَ لا يستشْهِدُ من خلقِهِ إلا العُدولَ ومنْهُ الأثَرُ الْمَعْرُوفُ عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ مِنْ كلِّ خَلَفِهِ عُدُوله ينفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالين وانْتِحَالَ الْمُبْطِلينَ وَتَأويلَ الْجَاهِلين» .(1/115)
والْخَامِسُ: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهمْ أَوْلَي الْعِلْمِ وهذا يدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بهِ وَأَنهُمْ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ لَيْسَ بِمُسْتَعَارٍ لَهُمْ.
السَّادِسُ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتشهد بنفسِهِ وَهو أجلُّ شاهدٍ ثُمْ بِخِيارِ خلقِهِ وهم ملائكتُهُ والْعلماءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَكْفِيهِمْ بِهَذَا فَضْلاً وَشَرفًا.
السَّابعُ: أَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِهمْ على أجَلِّ مشهودٍ بِهِ وَأَعظمِهِ وَأَكْبرهِ وَهو شهادةُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ والعَظِيمُ الْقَدْرِ إِنَّما يَسْتَشْهِدُ عَلى الأمرِ العظيمِ أكابِرَ الْخَلْقِ وَسَادَاتِهمْ.
الثامِن: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْمنكِرِينَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَدِلَّتِهِ وآيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّالة على توحيدِهِ.
التاسع: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفردَ الْفعلَ الْمُتضمنَ لِهَذِهِ الشَّهادَةِ الصَّادرةِ منهُ ومِنْ مَلائكتِهِ وَمِنْهُمْ وَلَمْ يعطِفْ شهادَتَهُمْ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرَ شِهادتِهِ.
وهذا يدلُ على شدةِ ارتباطِ شهادتِهمْ بشهادِتِهِ فكأنَّهُ سُبْحانَه شَهِدَ لنفْسِهِ بَالتَّوْحِيدِ على ألسِنَتهِمْ وأنْطَقَهُمْ بِهَذِهِ الشَّهْادةِ فَكَانَ هو الشاهدّ بِها لِنَفْسِهِ إِقامَةً وَإِنْطَاقًا وَتَعْلِيمًا وَهُمْ الشَّاهِدُونَ بِهَا لَهُ إقْرارًا واعْتِرَافًا وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا.
العاشرُ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ مؤدّينَ لحقِّهِ عندَ عبادِهِ بهذهِ الشهادةِ فَإِذَا أدَّوْهَا فَقَدْ أدّوا الحقَّ المشهودَ بِهِ فَثبتَ الحقُّ المشهودُ بِهِ فَوَجَبَ عَلى الْخَلْقِ الإقرارُ بِهِ وَكَانَ ذلك غايةَ سَعَادَتِهمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَكلُّ مَنْ نالهُ الْهُدَى بشهادتِهم وَأقرَّ بهذا الحقِّ بسببِ شهادتِهم فلهُمْ مِنَ الأَجْرِ مثلُ أَجْرِهِ أَيْضًا فَهِذِهِ عَشرةَ أوجُهٍ في هذه الآيةِ.
الحادي عَشَرَ: في تفضيلِ العلْمِ وأَهْلِهِ أَنَّهُ سبحانه نَفَى التسْويَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وبينَ غَيْرِهِمْ كما نفى التسويةَ بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.(1/116)
فقَالَ تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} كما قَالَ تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وَهَذا يَدُلُّ عَلى غايةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ.
الوجهُ الثاني عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَهْلَ الْجَهْلِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمْيانِ الذينَ لا يُبْصِرونَ فقَالَ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فَمَا ثَمَّ إِلا عَالِمْ أَوْ أَعْمَى وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَه أَهْلَ الْجَهْلِ بأنَّهمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ في غير مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ.
شعرًا:
مَا أَقْبَحَ الْجهْلَ يُبْدِي عَيْبَ صَاحِبهِ ... لِلنَّاظِرين وعن عَيْنَيْهِ يُخْفِيهِ
كَذَالِكَ الثُومُ لا يَشْمُمْهُ آكِلُهُ ... والناسُ تَشْتَمُّ نَتَنَ الرِّيحِ مِنْ فِيهِ
الوجهُ الثالثَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخبَرَ عَنْ أُولي الْعِلْمِ بَأنَّهُمْ يَرَوْن أنَّ مَا أُنْزِلَ إليهِ مِنْ رَبِّهِ حَقٌّ وَجَعل هذا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بهم. فقَالَ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} .
الوجهُ الرابعَ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِسُؤالهِمْ والرجوعِ إِلى أقْوَالِهمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ مِنْهُمْ. فقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وَأَهْلُ الذَّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لأَهْلِ الْعِلْمِ شَهَادَةً في ضِمْنِهَا الاسْتِشْهادُ بِهِمْ عَلى صِحَّةِ ما أَنْزَلَ اللهُ على رَسولِهِ فقَالَ تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصْلٌاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .(1/117)
الوجهُ السادسَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ سَلَّى نَبيَّهُ، بإيمانِ أهلِ الْعِلْمِ به وَأمَرَهُ أَنْ لا يَعْبَأ بَالجْاَهِلِينَ شَيْئًا. فقَالَ تَعَالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} وهذا شَرَفٌ عظيمٌ لأهْلِ الْعِلْمِ وَتَحْتَه أنَّ أَهْلَهُ الْعَالِمُونَ قَدْ عَرَفوهُ وآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا فَسواءٌ آمنَ بِهِ غيرُهُم أوْ لا.
الوجهُ السابعَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَشَرَّفَهُمْ بَأنْ جَعَلَ كِتَابَهُ آياتٍ بَيْناتٍ فِي صُدورِهِمْ وَهَذِهِ خاصةٌ وَمَنْقَبَةٌ لَهُمْ دَوُنَ غَيْرِهِمْ. فقَالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ.
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} وَسَواءً كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَقِرٌ فِي صُدُوِرِ الذين أوتوا الْعِلْمَ ثابتٌ فِيهَا مَحْفوظٌ وَهَو في نفسِهِ آياتٌ بيناتُ فيكونُ أَخبَرَ عَنهُ بَخَبَرَيْنِ. أَحدُهُمَا: أنه آياتٌ بيناتٌ. الثاني: أنهُ محفوظٌ مُسْتَقرٌّ ثَابتٌ في صدورِ الذين أوتوا العلمَ. أو كان الْمَعْنَى أَنَّهُ آيات بينات في صدورهم أي كونُه آياتٍ بيناتٍ مَعْلومٌ لَهمْ ثابتٌ في صدورِهِمْ والْقَوْلانِ مُتَلازِمانِ لَيْسَا بمُخْتَلِفَيْن. وَعلى التَّقْدِيرَيْنِ فَهوَ مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءُ عليهم في ضِمْنِهِ الاستشهادُ بِهمْ فتأمَّلْهُ.
الوجهُ الثامنَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ أمرَ نَبيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ فقَالَ تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وَكَفَى بِهَذَا شَرفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ(1/118)
الْمَزيدَ مِنْهُ. اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَانْفَعْنَا وَارْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا.
شعرًا: ... الْعِلْمُ مُبْلِغُ قَوْمٍ ذُرْوَةَ الشَّرَفِ
وَصَاحُب الْعِلْمِ مُحْفُوظٌ مِن التَّلَفِ
يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ مَهْلاً لا تُدَنّسَهُ
بَالْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ
الْعِلْمُ يَرَفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ
وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ والشَّرَفِ
الوجهُ التاسِعَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ رَفْعِهِ دَرَجاتِ أهلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ خَاصَّةً. فقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
قَصِيدةٌ في الْحَثِّ على طَلَبِ الْعِلْمِ:
يَا تَارِكًا لِمَرَاضِي اللهِ أَوْطَانًا
وَسَالِكًا فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ أَحْزَانَا
كُنْ باذِلَ الْجدِّ فِي عِلْم الحديثِ تَنَلْ
كُلَّ الْعُلومِ وَكُنْ بالأَصْلِ مُشْتَانَا
فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ وَطَالبُهُ
مِنْ أَكَمْلِ النَّاسِ مِيزَانًا وَرُجْحَانَا
وَالْعِلْمُ نُورٌ فَكُنْ بَالْعِلْمِ مُعْتَصِمًا
إِنْ رُمْتَ فَوْزًا لَدَى الرَّحْمَنِ مَوْلانَا
وَهُوَ النَّجَاةِ وَفِيهِ الْخَيْرِ أَجْمَعَهُ
وَالْجَاهِلُونَ أَخَفَّ النَّاسِ مِيزَانَا
وَالْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا كَانَ مُنْخَفِضًا(1/119)
وَالْجَهْلُ يَخْفِضُهُ لَوْ كَانَ مَا كَانَا
وأرفعُ الناسِ أهلُ الْعِلْمِ مَنْزِلةً
وَأَوْضَعَ النَّاسِ مَنْ قَدْ كان حَيْرَانَا
لا يَهْتَدِي لِطَرِيقِ الْحَقِّ مِنْ عَمَهٍ
بَلْ كَانَ بِالَجَهْلِ مِمَّنْ نَال خُسْرانَا
تَلقاهُ بَيْنَ الوَرَى بالْجَهْلِ مُنْكَسِرًا
لا يَدْرِ مَا زَانَهُ في النَّاسِ أَوْ شَانَا
وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ فَوْقَ الْوَرَى دَرَجَا
وَالنَّاسُ تَعْرفُهُ بالْفَضْلِ إِذْ عَانَا
وَطَالبُ العِلمِ إِنْ يَظْفَرْ بِبُغْيَتِهِ
يَنَالُ بالعلمِ غُفْرانًا وَرِضْوَانَا
فَاطْلُبْهُ مُجْتَهِدًا مَا عِشْتَ مُحْتَسِبًا
لا تَبْتَغِي بَدَلاً إِنْ كُنْتَ يَقْظَانَا
مَنْ نَالَهُ نَالَ فِي الدَّارَيْنِ مَنْزِلَةً
أَوْ فَاتَهُ نَالَ خُسرانًا وَنُقْصَانَا
وَبَاذِلُ الْجِدِّ فِي تَحْصِيلِهِ زَمَنًا
وَلَمْ يَكنْ نَالَ بَعْدَ الْجِدِّ عُرْفَانَا
فَلَنْ يَضِيعَ لَهُ سَعْيٌّ وَلا عَمَلٌ
عِنْدَ الإِلَهِ وَلا يُولِيهِ خَسْرَانَا
فَطَالِبُ الْعِلْمِ إِنْ أَصْفَى سَريرَتَهُ
يَنَالُ مِنْ رَبِّنَا عَفْْوًا وَرِضْوَانَا
فَالْعِلْمُ يَرْفَعُ فِي الْخُلْدِ مَنْزِلَةً
وَالْجَهْلُ يُصْلِيهِ يَوْمَ الْحَشْرِ نِيرَانَا(1/120)
.. والْجَهْلُ في هذِهِ الدُّنْيَا يَنْقُصْهُ
وَالْعِلمُ يَكْسُوهُ تاجَ الْعِزِّ إِعْلانَا
وَإِنْ تُرِدْ نَهْجَ هذا الْعِلْمِ تَسْلُكُهُ
أَوْ رُمْتَ يَوْمًا لِمَا قَدْ قُلْتَ بُرْهَانَا
فَألْقِ سَمْعًا لِمَا أُبْدِي وَكُنْ يَقْظًا
وَلا تَكُنْ غَافِلاً عَنْ ذَاكَ كَسْلانَا
قَدْ أَلَّفَ الشَّيْخَ فِي التَّوْحِيدِ مُخْتصَرًا
يَكْفِي أَخَا اللُبِّ إِيضَاحًا وَتِبْيَانَا
فِيهِ الْبيانُ لتَوْحِيدِ الإِلهِ بِما
قَدْ يَفْعَلُ الْعَبْدُ لِلطَّاعاتِ إِيمِانَا
حُبًّا وَخَوْفًا وَتَعْظِيمًا لَهُ وَرَجَا
وَخَشْيَةً مِنْهُ لِلرَّحْمَنِ إذْعَانَا
كَذَاكَ نَذْرًا وَذَبْحًا وَاسْتَغَاثَتُنَا
والاستعانةُ بالْمَعْبُودِ مَوْلانَا
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ
للهِ مِنْ طَاعَةٍ سِرًّا وَإِعْلانَا
وَفِيهِ تَوْحيدُنَا رَبَّ الْعِبَادِ بِمَا
قَدْ يَفْعَلُ اللهُ أَحْكَامًا وَإِتْقَانًا
خَلْقًا وَرِزْقًا وَإِحْيَاءً وَمَقْدُرةً
بالاخْتِرَاعِ لِمَا قَدْ شَاءَ أَوْ كَانَا
وَيَخْرُجُ الأمرُ عَنْ طَوْقِ الْعَبادِ لَهُ
وَذَاك مِنْ شَأْنِهِ أَعْظِمْ بهِ شَانَا
وَفِيهِ تَوْحِيدُنَا الرَّحْمَنَ أَنَّ لَهُ(1/121)
.. صِفَاتِ مَجْدٍ وَأسْمَاءً لِمَوْلانَا
تِسْعٌ وَتَسعُونَ اسْمًا غَيرَ مَا خَفِيتْ
لا يَسْتَطِيعُ لَهَا الإِنْسَانُ حُسْبَانَا
مِمَّا بِهِ اسْتَأْثَرَ الرَّحْمَنُ خَالِقُنَا
أَوْ كَانَ علَّمَهُ الرَّحْمَنُ إِنْسَانَا
نُمِرُّهَا كَيْفَ جَاءت لا نُكَيِّفْهَا
بَلْ لا نُؤَوِّلَهَا تَأْوِيلَ مَنْ مَانَا
وَفِيهِ تَبْيَانُ إِشْرَاكٍ يُنَاقُضُهُ
بَلْ مَا يُنَافِيهِ مِنْ كُفْرَانِ مَنْ خَانَا
أَوْ كَانَ يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ بِدَعٍ
شَنْعاءَ أَحْدَثَهَا مَنْ كان فَتَّانَا
أَوْ الْمَعَاصِي الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا
مِمَّا يُنَقِّصُ تَوْحِيدًا وَإِيمَانَا
فَسَاقَ أَنْوَاعَ تَوْحِيدِ الإِلهِ كَمَا
قَدْ كانَ يَعْرفُهُ مِنْ كَانَ يَقْظَانَا
وَسَاقَ فِيهِ الذي قد كان يَنْقُضُهُ
لِتَعْرِفَ الْحقَّ بالأضْدَادِ إِمْعَانَا
مُضْمِّنًا كُلَّ بَابٍ مِنْ تَرَاجُمِهِ
مِنْ النُّصوصِ آحَادِيثًا وَقُرْآنَا
فَالشيخُ ضَمَّنَهُ ما يَطْمَئِنَّ لَهُ
قَلْبُ الْمُوَحِّدِ إِيضَاحًا وَتِبْيَانَا
فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ فِي الأَصْلِ مُعْتَصِمًا
يُورِثْكَ فِيمَا سِوَاهُ اللهُ عِرْفَانَا(1/122)
وَانْظُرْ بِقَلْبِكَ في مَبْنَى تَرَاجُمِهِ
تَلقَى هُنالِكَ لِلتَّحْقِيقِ عُنْوَانَا
وَلِلْمَسَائِلِ فَانْظُرْ تَلْقَهَا حِكْمً
يَزْدَادَ مِنهنَّ أَهْلُ الْعِلْمِ إِتْقَانَا
وَقُلْ جَزَى اللهُ شَيْخَ الْمُسْلِمِينَ كَما
قَدْ شَادَ لِلْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ أَرْكَانَا
فَقَامَ لِلَّهِ يَدْعُو النَّاسَ مُجْتَهِدًا
حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ مَثْنَى وَوُحْدَانَا
وَوَحَّدُوا اللهَ حَقًّا لا شَرِيكَ لَهُ
مِنْ بَعْدِ مَا انْهَمَكُوا فِي الْكُفْرِ أَزْمَانَا
وَأَصْبَحَ الناسُ بعدَ الْجَهْلِ قَدْ عَلِمُوا
وَطَالَ مَا هَدَمُوا لِلدِّين بُنْيَانَا
وَأَظْهَرَ اللهُ هَذَا الدِّينَ وَانْتَشَرَتْ
أَحْكَامُهُ فِي الْوَرَى مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانَا
بَالْجَهْلِ وَالْكُفْرِ قَدْ أَرْسَتْ مَعَالِمُهُ
لا يَعْرِفُ النَّاسُ إِلا الْكُفْرِ أَزْمَانَا
يَدْعُونَ غَيْرَ الإِلِهِ الْحَقَّ مِنْ سَفَهٍ
وَيَطْلُبُونَ مِنَ الأَمْوَاتِ غُفْرَانَا
وَيَنْسِكُونَ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذَبَحُوا
وَيَنْذِرُونَ لَغَيْرِ اللهِ قُرْبَانَا
وَيَسْتَغِيثُونَ بَالأَمْوَاتِ إِنْ عَظُمَتْ
وَأَعْضَلَتْ شِدَّةُ مِنْ حَادِثٍ كَانَا
وَيَنْدِبُونَ لَهَا زَيْدًا لِيَكْشِفَها(1/123)
بَلْ يَنْدِبُونَ لَهَا تَاجًا وَشُمْسَانَا
فَزَالَ ثَمَّ بِهَذَا الشَّيخِ حِينَ دَعَا
مَنْ صَدَّ أَوْ نَدَّ عَنْ تَوْحِيدِ مَوْلانَا
فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو وَلِيجَتَهُ
يَوْمًا بِنَجْدٍ وَلا يَدْعُونَ أَوْثَانَا
بَلْ الدُّعَا كَلُّهُ وَالدِّينُ أَجْمعُهُ
للهِ لا لِسِوَى الرَّحْمَنِ إِيمَانَا
فَاللهُ يُعْلِيهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مَنْزِلَةً
فَضْلاً وَجُودًا وَتَكْرِيمًا وَإِحْسَانَا
وَاللهُ يُولِيهِ أَلْطَافًا وَمَغْفِرَةً
وَرَحْمَةً مِنْهُ إِحْسَانًا وَرِضْوَانَا
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمَعْصُومِ سَيَّدِنَا
أَزْكَى الْبَرِيةِ إِيمَانًا وَعِرْفَانَا
مَا نَاضَ بَرْقٌ وَمَا هَبَّ النَّسِيمُ وَمَا
مِسَّ الْحَجِيجُ لِبَيْتِ اللهِ أَرْكَانَا
أَوْ قَهْقَهَ الرَّعْدُ فِي هَدْبَاءَ مُدْجِنَةٍ
أَوْ نَاحَ طَيْرٌ عَلَى الأَغْصَانِ أَزْمَانَا
وَلآلِ والصَّحْبِ ثُمَّ التَّابِعينَ لَهُمْ
عَلَى الْمَحَجَّةِ إِيمَانًا وَإِحْسَانَا
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا وَقَدْ قَبِلْتَ اليسيرَ مِنَّا وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بَالإِسْلامِ قَائِمِينَ واحْفَظْنَا بَالإِسْلامِ قَاعِدِينَ واحْفَظْنَا بَالإِسْلامِ رَاقِدِينَ(1/124)
وَلا تُشمِتْ بنا الأَعْدَاءَ وَلا الْحَاسِدينَ، اللَّهُمَّ وَعَافِنَا مِنْ مِحَنِ الزَّمَانِ وعَوَارضِ الْفِتنِ فَإِنَّا ضُعَفَاءِ، عَنْ حَمْلِهَا وَإِنْ كُنَّا مِنْ أَهْلِهَا فَعَافيتُكَ أَوْسَعُ يَا واسعُ يا عليمُ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ 13) : وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحانَهُ فِي كِتَابِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا هَذَا. والثَّانِي قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . (والثالثُ) قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} (والرابعُ) قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فَهَذِهِ أَرْبَعةُ مَوَاضِعَ فِي ثَلاثةٍ مِنْهَا الرِّفَعةُ بالدرجاتِ لأهْلِ الرِّفْعةِ بالْجِهَاتِ فعادَتْ رِفْعَةُ الدرجاتِ كُلِّهَا إِلى الْعِلْم والْجِهَادِ اللذَيْنِ بِهِمَا قِوامُ الدِّينِ.
الوجهُ العشرون: أنَّهُ سُبْحَانَه اسْتَشْهَدَ بَأهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الْكُفَّارِ فقَالَ تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
الوجهُ الحادِي والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ. فقَالَ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} .(1/125)
شعرًا:
لا يَنَالُ الْعِلْمَ شَخْصٌ وَقْتُهُ
ضَائِعٌ عِنْدَ الْمَلاهِي والْكُرَهْ
والتَّلافِيزَ وَمِذْيَاعِ الضَّرَرْ
وَكَذَا الْفِدْيُو فَحَذِّرْ وَاحْذَرَهْ
(فَصْلٌ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}
وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ في أُولِي الْعِلْمِ. وقَالَ تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْل خَشْيَتِهِ هُمْ الْعُلَمَاءِ. فَدَلّ عَلَى أَنْ هَذَا الْجَزَاءِ الْمَذْكُورَ لِلعلماءِ بمجموعِ النَّصَّيْنِ. وقَالَ ابنُ مَسْعِودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَفَى بَخشيةِ اللهِ عِلْمًا، وَكَفَى بَالاغْتِرَارِ بَاللهِ جَهْلاً.
الوجهُ الثانِي والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْثَالِهِ التِي يَضْرُبها لِعبادِهِ يَدُلُّهم على صِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّ أَهْلَ العلمِ هُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا الْمُخْتَصُّونَ بعِلْمِهَا فقَالَ تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وفي القرآنِ بِضْعةٌ وَأَرْبَعونَ مَثَلاً وكان بعضُ السَّلَفِ إِذَا مَرَّ بِمَثَلٍ لا يفهَمُهُ يَبْكِي وَيَقَولُ: لَسْتَ مِنْ الْعَالِمِين.
الوجهُ الثالثُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مُنَاظَرَةَ إِبْرَاهِيمَ لأبيهِ وَقَوْمِهِ وَغَلَبتِهِ لَهُمْ بَالْحُجةِ وَأَخْبَر عَنْ تَفْضِيلِهِ بذلكَ وَرْفعِهِ دَرجَتَهُ بعلمِ الْحُجَّةِ فقَالَ تَعَالَى عُقَيْبَ مُنَاظَرَتِهِ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي سُورةِ الأنْعَامِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَرْفَعُ درجاتٍ مَنْ نَشاءُ بِعلمِ الْحُجَّةِ.(1/126)
الوجهُ الرابعُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ ووضَعَ بَيْتَهُ الْحَرامَ والشهرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائدَ لِيُعْلِمَ عِبَادَهُ أَنَّهُ بُكلِ شَيءٍ عَلِيمٌ وَعَلى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فقَالَ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فَدَلَّ عَلى أَنْ عِلمَ الْعِبَادِ بربِّهِمْ وَصِفَاتِهِ وَعبادَتِهِ وَحْدَهُ هُو الْغَايةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْخَلْق وَالأَمْرِ.
شعرًا:
الْعِلُم يَغْرِسُ كَلَّ فَضْلٍ فَاجْتَهِدْ
أَنْ لا يفوتَكَ فَضلُ ذَاكَ المَغْرسُ
وَاعْلَمْ بَأنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ يَنَالُهُ
مَنْ هَمُّهُ فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَلْبَسِ
إِلا أَخُو الْعِلْمَ الذي يَزْهُو بِهِ
فِي حَالَتَيْهِ عَارِيًا أَوْ مُكْتَسِي
فَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ مِنْهُ حَظًّا وَافِرًا
وَاهْجُرْ لَهُ طِيبَ الرُّقادِ وَعَبِّسِ
فَلَعلَّ يَوْمًا إِنْ حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ
كُنْتَ الَّرئِيسَ وَفَخْرَ ذَاكَ الْمَجْلِسِ
آخر:
شُغِلنا بِكَسبِ العِلمِ عَن مَكسَبِ الغِنى ... كَشُغلِهِمُ عَن مَكسَبِ العِلمِ بِالوَفرِ
فَصارَ لَهُم حَظٌّ مِنَ الجَهلِ وَالغِنى ... وَصارَ لَنا حَظٌّ مِنَ العِلمِ وَالفَقرِ
آخر: ... إِذَا مَا اعْتزَ ذُو عِلْمٍ بعِلمٍ ... فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلَى باعْتِزَازِ
فكَمْ طِيبِ يَفُوحُ ولا كَمِسْكٍ ... وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ ولا كَبَازِي
آخر:
لَيْسَ الْحَياةَ بَأنْفَاسٍ تُرددهَا ... إِنْ الْحَياةَ حَيَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ(1/127)
آخر:
يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَرْكَنْ إلى الْكَسَلِ ... واعْجَلْ فَقَدْ خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلِ
وَاسْتَعْمِلْ الصَّبْرَ فِي كَسْبِ الْعُلْومِ وَقُلْ ... أَعُوذُ بالله مِنْ عَلْمٍ بِلا عَمَلِ
آخر: ... الْفِقْهُ أَنْفَسُ شَيْءٍ أَنْتَ ذَاخِرُهُ ... مَنْ يَدْرُسِ الْعِلْمِ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُهُ
فَاكْسَبْ لِنَفْسِكَ مَا أَصْبَحْتَ تَجْهَلُهُ ... فَأوَّلُ الْعِلْمِ إِقْبَالٌ وَآخرُهُ
آخر:
وَمَنْ بَغَى نيل فِقْهٍ وَهُوَ فِي دَعَةٍ ... كَمَنْ بَغَى مِنْ صَفَاةٍ دَرَّ حَلابِ
آخر:
الْعِلْمُ يَمْنَعُ أَهْلَهُ أَنْ يُمْنَعَا ... فاسْمَحْ بِهِ تَنَلْ الْمَحَلَ الأَرْفَعَا
وَاجْعَلْهُ عِنْدَ الْمُسْتَحِقِّ وَدِيعَةً ... فَهُوَ الذِي مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُودَعَا
وَالْمُسْتَحِقُّ هو الذي إنْ حَازَهُ ... يَعْمَلْ بِهِ أَوْ إِنْ تُلْقِنَهُ وَعَا
آخر: ... إِذَا لَمْ يزِدْ عِلمُ الفتى قلبَهُ هُدىً ... وسيرتَهُ عَدلاً وأخلاقَهُ حُسْنا
فبَشِّرْهُ أنَّ اللهَ أولاهُ فِتنَةً ... تُغَشِّيهِ حِرماناً وتُوسِعُهُ حُزْنا
آخر: ... بِقَدْرِ الِجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا سَهِرَ اللَّيَالِي
نَزومُ العِزَّ ثُم تَنَامُ عَنْهُ ... يَغُوصُ الْبَحْرَ مِنْ طَلَبَ اللآلِي
آخر: ... عَوِّدْ بَنِيكَ عَلَى الآدَابِ فِي الصِّغَرِ
كَيْمَا تَقَرَّ بِهمْ عَيْنَاكَ فِي الْكِبَرِ
فَإِنَّمَا مَثَلُ الآدَابِ تَجْمَعُهَا
في عُنْفُوَانِ الصِّبَا كالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ
هِي الْكُنُوزُ الَّتِي تَنْمُو ذَخَائِرُهَا
وَلا يَخَافُ عَلَيْهَا حَادِثُ الْغِيَر
ج(1/128)
.. إِنَّ الأَدِيبَ إِذَا زَلَّتْ به قَدَمٌ
يَهْوِي على فُرُشِ الدِّيباجِ والسُّرُرِ
آخر:
حَاولْ جَسيمَاتِ الأُمُور ولا تِنِي ... إِنَّ الْمَحَامِدَ وَالعُلا أَرْزَاقُ
وَارْْغَبْ بنفسِكَ أَنْ تَكُونَ مُقْصِرًا ... عَنْ غَايةٍ فِيهَا الطُّلابُ سِبَاقُ
لَوْ لمَ ْيَكُنْ مِنْ فَضْلِ العِلْمِ إلاَّ أَنَّ الجُهَّالَ يَهَابُونَكَ وَيُجلُّونَكَ وَأَنَّ العُلماءَ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ البَعِيدُونَ عن الرِيَاءِ وَحُبِّ الظُّهُورِ يُحِبُونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا دَعِيًا إِلى وُجُوبِ طَلَبِهِ، فَكَيْفَ بِسَائِرِ فَضَائِلِهِ في الدُّنيا والآخِرَة.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَقصِ الجهلِ إلا صَاحِبَه يَحُسِدُ العُلماءَ وَيُحْتَقَرُ عندَ الناسِ حَتى عندَ أهلِهِ وأَقْرِبَائِهِ وجِيرَانِهِ فَكَيْف بسائِر رَذَائِلِه وَمَسَاوِيهِ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ.
ولو لم يكن مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ إِلا أَنَّهُ يُقْطَعُ المشتَغِلَ بِهِ عن الوَسَاوِسِ المُضنِيَةِ وَالأَفْكارِ الرَّدِيئَةِ ومَطَارِح الآمالِ التي لا تُفيد غَيْرَ الهمِ والغَمِ لكانَ ذلك أَعْظَمُ دَاعٍ فَكْيفَ وَلَهُ مِنْ الْفَضَائِلَ وَالْمَحَاسِن ما يَطُول ذِكْرُهُ.
أَلا رُبَّ مَنْ قَدْ أنْحَلَ الزُّهدُ جِسْمِهُ ... كَثِيرَ صَلاةٍ دَائمُ الصومِ عابِدُ
يَرُوم وِصَالاً وَهو بالطُرْقِ جَاهِلٌ ... إِذَا جُهِلَ الْمَقْصُودُ قََدْ خَابَ قاصِدُ
قليلٌ مِن الأَعمالِ بالعِلمِ نَافِعٌ ... كثيرُ مِن الأَعمَالِ بالجَهْلِ فاسِدُ
اللَّهُمَّ اعفُ عنْ تَقْصِيرنَا في طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ، وأَدِمْ لَنَا لُزومَ الطَّريقِ إلى ما يُقْرِّبُنَا إِليكْ وَهَبْ لَنَا نَورًا نَهْتِدِيَ بِهِ إِليكَ، وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأهْلِ مَحَبَّتِكَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلاتِنَا، وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ المتقين، وَأَلْحِقْنَا بِعبَادِك الصالِحينْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيَّتينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(1/129)
(فَصْلٌ)
الوجهُ الخامسُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَالْفَرَحِ، بِمَا آتَاهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعونَه الناسُ فقَالَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وَفَسَّرَ اللهُ الْفَضْلَ بالإيمانِ وَرَحْمَتَهُ بالقرآنِ والإيمانُ والقرآنُ هَما الْعِلمُ النافعُ والعملُ الصالحُ والهُدَى وَدينُ الْحَقِّ وَهُمَا أفضلُ عِلْمٍ وأفضلُ عَمَلٍ.
الوجهُ السادسُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِمَنْ آتَاهُ الْعِلْمَ بأنهُ قد آتاهُ خَيْرًا كثيرًا فقَالَ تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قَالَ ابن قُتَيْبَةَ، وَالْجُمْهورُ: الْحكمةُ: إصابةُ الحقِّ والعملُ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ النَّافُع والعَمَلُ الصالحُ.
الوجهُ السابعُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَّدَ نِعَمِهُ وَفَضْلَهُ على رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلَ مِنْ أَجَلِّهَا أَنْ آتَاهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَقَالَ تَعَالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} .
الوجهُ الثامِنُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكر عِبادَهُ الْمُؤْمِنينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا وَأَنْ يَذْكُرُوهُ عَلَى إِسْدَائِها إلَيْهِمْ فقَالَ تَعَالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} .
الوجهُ التاسعُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَا أَنْ عَرَّفَهُمْ فَضْلَ آدمَ بالْعِلْمِ وَعَجْزَهُم عَنْ مَعْرِفَةِ مَا عَلَّمَهُ قَالَ لَهُمْ: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} فَعَرَّفَهُمْ(1/130)
سبحانه نَفْسَهُ بالعِلمِ، وأنه أحاطَ عِلمُهُ بِظاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهمْ وَبِغيبِ السَّماواتِ وَالأرضِ، فَتَعَرَّفَ إَلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَعَرَّفَهُمْ فَضْلَ نَبَيِّهِ وَكَليمِهِ بالعِلْمِ وَعَجْزَهُمْ عَمَّا آتَاهُ آدمَ مِنْ العِلْمِ وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ.
وَبَيَانُ فَضْلِ العِلْمِ مِنْ هذه القصةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ في آدَمَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا كَانَ بِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقاتِ، وأرادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُظْهِرَ لِمَلائِكَتِهِ فَضْلَهُ وَشَرَفَهُ فَظَهَرَ لَهُمْ أَحْسَنَ مَا فِيهِ وَهُوَ عِلْمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا فِي الإِنْسَانِ وَأَنَّ فَضْلَهُ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا هُو بَالْعِلْمِ وَنَظِيرُ هذا ما فَعَلََهُ بِنَبِيِّهِ يُوسُفَ عليهِ السلامُ لَمَّا أَرَادَ إِظْهَارَ فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ كُلِّهِمْ أَظْهرَ للمَلِكِ وأَهلِ مِصرَ مِنْ عِلْمِهِ بتأْويلِ رؤياهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ علماءُ التعبيرِ فَحينئذٍ قَدَّمَهُ وَمَكَّنَهُ وَسَلَّم إليهِ خزائنَ الأرْضِ، وَكَانَ قَبلَ ذَلِكَ قَدْ حَبَسَهُ عَلى ما رآهُ مِنْ حُسْنِ وجهِهِ وَجَمَالِ صُورتِهِ، ولَما ظَهَرَ لَهُ حُسْنُ صُورةِ علمِهِ وَجَمالُ مَعْرِفَتِهِ أَطْلَقهُ مِنْ الْحَبْسِ وَمَكَّنَهُ في الأرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْعِلْمِ عِنْدَ بَنِي آدَمَ أَبْهَى وَأَحْسَنُ مِنْ الصورةِ الْحِسِّيَّةِ ولو كانتْ أجْملَ صُورةٍ. وَهَذا وجهٌ مستقلٌّ في تَفْضِيلِ الْعِلْمِ مضافٌ إِلى مَا تَقَدَّمَ فَتَمَّ بِهِ ثَلاثين وَجْهًا.
الوجهُ الحادِي والثلاثون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ أَهْلَ الْجَهْلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
الوجهُ الثانِي والثلاثون: أنَّ الْعِلْمَ حَياةٌ وَنُورٌ، وَالْخَيْرُ كله سَبَبُهُ النَّورُ والْحَياةُ، فَإنَّ النورَ يكشِفَ عَنْ حقائِقِ الأشْيَاءِ وَيُبَيِّنُ مَرَاتِبَها، وَالْحَياةُ هي الْمُصَحِّحَةُ لِصفاتِ الْكمالِ الْمُوجِبَةُ لِتَسْدِيدِ الأَقْوَالِ وَالأعْمَالِ فَكُلَّمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْحياةِ فَهُوَ خَيْرٌ كلُهُ كالْحَياءِ الذي سببُهُ كمالُ حياةِ القلبِ وَتَصَوُّرُهُ حَقيقةَ القُبْحِ وَنُفرتُهُ مِنْهُ وَضِدُّهُ الوَقاحةُ والفُحْشُ وَسَبَبُهُ موتُ(1/131)
القلبِ وعدمُ نُفْرتِهِ مِنَ القبيحِ وكالْحَيَا الذي هو المطرُ الذي بهِ حياةُ كلِّ شيءٍ قَالَ تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} كَانَ مَيْتًا بَالْجَهْلِ قَلْبُهُ فَأحياهُ بالعِلْمِ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الإِيمَانِ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ.
الوجهُ الثالثُ والثلاثون: أنَّ الله سُبْحَانَهُ جَعَلَ صَيْدَ الكلبِ الْجَاهِلِ مَيْتَةً يَحرُمُ أكلُها وأباحَ صَيْدَ الكلبِ الْمُعَلَّمْ وهذا أيضًا مِنْ شَرَفِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لا يُباحُ إلا صَيْدُ الكلبِ الْعَالِم، وَأَمَّا الْكَلْبُ الْجَاهلُ فَلا يَحِلُّ أَكلُ صَيْدِهِ فدلَّ عَلى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ.
شعرًا:
إِذَا مَا أُنَاسٌ فَاخرُونَا بِمَالِهمْ ... فَإنِّي بِمِيراثِ النَّبِيين فَاخِرٌ
أَلَمْ تَرَ الْعِلْمِ يُذْكَرُ أَهْلُه ... بِكُلِّ جَمِيلٍ فِيهِ وَالْعَظمُ نَاخرْ
سَقَى اللهُ أَجْدَاثًا أَجَنَّتْ مَعاشِرًا ... لهمُ أَبْحُرٌ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ زَوَاخِرُ
آخر:
الْعِلْمُ بالتَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مُكْتَسَبْ ... ثُمَّ الْحَدِيث يَتْلُوهُ فَنِعْمَ الأَدَبْ
فاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلَيْهِمَا ... فَلِحَبْلَيْهِمَا أَقْوى سَبَبْ
هَذَا هُو الْكِنْزُ الذي ... يَبْقَى إِذَا فَنِي الذَّهَبْ
وقَالَ رحمه الله:
الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونصب للعباد علمًا لا كمال لهم إلا به.
وهو: أن تكون حركاتهم كلها موافقة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله وأنزل كتبه، وشرع شرائعه.
فكمال العبد الذي لا كمال له إلا به: أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله منه ويرضاه له. ولهذا جعل إتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على محبته. قَالَ تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .(1/132)
فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه أن يتحرك بتحركة اختيارية في غير مرضاته، وإذا فعل فعلاً مما أبيح له بموجب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوب من الذنوب، ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده حتى تنقلب بها مباحاته كلها طاعات.
فيحتسب نومه وفطره وراحته كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده، وهو دائمًا بين سراء يشكر الله عليها، وضراء يصبر عليها، فهو سائر إلى الله تعالى دائمًا في نومه ويقظته.
قَالَ بعض العلماء: الأكياس عاداتهم عبادات الحمقى، والحمقى عباداتهم عادات.
شعرًا:
لا يحَقْرِ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ دَقِيقَةً ... فِي السَّهْوَ فِيهَا لِوضِيعِ مَعَاذِرُ
فَكَبَائِر الرجُل الصَّغِيرِ صَغَائِرٌ ... وَصَغَائِرُ الرجُل الْكَبِير كَبَائِرُ
آخر:
دَعْ التَّعْلِيلَ والتَّسْويفَ وَاقْبِلْ ... عَلى مَوْلاكَ تَغنَمْ نَيْلَ حَظِّ
أدِمْ بالْحَزْمَ إقْبَالاً عَليْهِ ... عَسَى تَحْظَى بَتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ
وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُبُهَاتِ زَيْغٍ ... تَرَاهُ مَعْنَويًّا ثُمَّ لَفْظِي
وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ ... وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ
وَرَقِّ النَّفْسَ بَالْعِرْفَانِ تَزْكُو ... وَتَظْفَرْ بَالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظِ
وقَالَ بعض السلف: حبذا نوم الأكياس وفطرهم يغبنون به سهر الحمقى وصومهم، فالمحب الصادق إن نطق نطق لله وبالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضات الله فهو لله وبالله ومع الله.
ومعلوم أن صاحب هذا المقام، أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها ولا السكون المحبوب لله من غيره إلا بالعلم. فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته.(1/133)
ولأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إليه كحاجته إلى ما به قوام نفسه وذاته.
ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وإنه من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة.
قَالَ ذو النون وقد سئل من السفلة؟ فقَالَ: من لم يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرفه.
وقَالَ أبو زيد: لو نظرتم إلى الرجل وقد أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود ومعرفة الشريعة.
وقَالَ أبو حمزة البزازي: مَن عَلِمَ طريقَ الحقِّ سُهِّلَ عليه سُلُوكُه، ولا دليل على الطريقةِ إلا متابعةُ الرسولِ في أَقواله وأفَعاله وأَحواله.
وقَالَ محمد بن الفضل الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس.
صِنْفٌ لا يَعْمَلُونَ بما يَعْلَمُون.
وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ بما لا يَعْلَمُون.
وَصِنْفٌ لا يَعْمَلونَ ولا يَعْلمَون.
وَصِنْفٌ يَمْنَعُونَ الناسَ مِن التَّعَلم.
قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومخسة.
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله.
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.(1/134)
فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة.
والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض، وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعة الأصناف، هم الذين ذكرهم هذا العارف رحمة الله عليه وهؤلاء كلهم على شفا جرف هار، وعلى سبيل الهلكة.
وما يَلْقَى العَالِمُ الداعِي إلى الله ورسوله ما يَلقَاهُ من الأذَى والمحاربةِ إلاَّ عَلى أَيْدِيهم.
والله يَسْتَعْمِل مَن يشاء في سَخَطِهِ، كما يَسْتَعْمِلُ مَن يَشاء في مَرْضَاتِهِ إنه بعباده خبير بصير.
ولا ينكشفُ سِرُّ هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم، فعاد الخير بحذافيره في العلم وموجبه، والشر بحذفيره إلى الجهل وموجبه.
شِعْرًا:
مَعَ الْعِلْمِ فَاسْلُكْ حَيْثَمَا سَلَكَ الْعِلْمُ ... وَعَنْهُ فَكَاشِفْ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ فَهْمُ
فَفِيهِ جَلاءٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ العَمَى ... وَعَوْنٌ عَلى الذِين الذي أمْرُهُ حَتْمُ
آخر: ... لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِلْمِ إِلا أَنَّهُ ... يَذَرَ الضَّئِيلَ مِن الرِّجَالِ مَهِيبَا
آخر:
ذَوُوا العِلْم في الدُّنْيَا نُجُومُ هِدَايَةٍ ... إِذَا غَابَ نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيدُ
بِهِمْ عَزَّ دِينُ الله طُرًّا وَهُمْ لَهُ ... مَعَاقِلُ مِن أَعْدَائِه وجُنُودُ
وَلَوْ لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الحديثِ بِنَقْلِهِ ... فَمَنْ كَانَ يَرْوِي عِلْمَهُ وَيُفِيدُ
هُمُوا وَرِثُوا عِلْمَ النَّبوةِ وَاحْتووْا ... مِنْ الْفَضل ما عنه الأَنامُ رُقُودُ
وَهُمْ كَمَصَابِيح الدُّجَى يُهْتَدَى بِهِمْ ... وَمَا لَهُمُوا بَعْدَ الْمَمَاتِ خُمُودُ
اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا أَمْرَ الرِّزْقِ وَاعْصِمْنَا مِِنْ الْحِرْصِ وَالتَّعَبِ في طلبهِ وَمِنْ شَغْل(1/135)
القَلْبِ وَتَعلُّقِ الْهَمِّ بِهِ، وَمِنْ الذُّلِّ لِلخَلْقِ بِسَبَبَهِ وَمِنْ التَّفْكِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي تَحْصِيلهِ، وَمِنْ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمَيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابن رجب: فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء والذين يُهتَدى بهم في ظلمات الجهل والشبهِ والضلالِ فإذا فُقدُوا ضَلَّ السالكُ.
وقد شُبِّهَ العلماءُ بالنجوم، والنجومُ فيها ثلاثٌ فوائد: يُهْتَدى بها في الظلمات، وهي زِينة للسماء، ورجومٌ للشياطين الذين يسترقون السمع منها.
والعلماءُ في الأرض يجتمع فيهم هِذِهِ الأَوْصافُ الثلاثةُ: بهم يُهْتَدى في الظلمات، وهُم زينةُ للأرض، وهم رجومٌ للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويُدْخِلونَ في الدين ما ليس منه مِن أهل الأهواء.
وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناسُ في هُدَى. وبقاءُ العلمِ بقاءُ حَمَلَتِهِ فإذا ذَهَبَ حَمَلتهُ ومَن يقوم به وقع الناسُ في الضلال كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صدور الرجال وَلَكِنْ يذهب الْعُلَمَاءِ فإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» .
شِعْرًا:
مَا أَكْثَرَ الْعِلْمِ وما أَوْسَعَهْ ... مَنْ ذَا الذي يَقْدِرُ مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَجْمَعَهْ
إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ لَهُ طَالِبَا ... فَجِدَّ فِيهِ وَالتَمِسْ أَنْفَعَهْ
وخرج الترمذي مِنْ حَدِيث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: «هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ» .(1/136)
فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللهُ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا الْعِلْم وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.
فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ» ؟ .
قَالَ جُبَيْرٌ بِنْ نُفَيْرَ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ.
فقَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَوْ شِئْتَ لأخَبَرْتُكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْجَامع فَلاَ تَرَى فِيهِ خَاشِعًا. وخرجه النسائي من حديث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه.
وفي حديثه (فذكر - صلى الله عليه وسلم - ضلالةَ اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله) ، قَالَ جبيرُ بنُ نفيرُ: فلقيت شدادَ بن أوس فحدثتهُ بحديث عوفِ بن مالك فقَالَ: صَدَقَ، ألا أخبرك بأول ذلكَ؟ يُرْفَعُ الخشوعُ حتى لا تَرى خَاشِعًا.
وخرج الإمام أحمد من حديث زياد بنْ عن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ» . فذكر الحديث وقَالَ فيه: «أَوَلَيْسَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا» ؟ ولم يذكر ما بعدها.
ففي هذه الأحاديث أنِ ذَهَابَ الْعِلْمِ بذَهَابِ العمل وأن الصحابة فسروا ذلك بذَهَابِ الْعِلْمِ الباطن من القلوب وهو الخشوع. كذا روي عن حذيفة: أن أول ما يرفع من العلم الخشوع.(1/137)
فإن العِلْمَ كَمَا قَالَ الحسنُ عِلْمَان: عِلْمُ اللسانِ فذاك حَجُةُ اللهِ على ابن آدم، وعلْمُ في القلبِ فذَاك العِلْمُ النافِعُ. وروي عن الحسن مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ وَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ» .
فالعلمُ النافعُ هو ما بَاشرَ القلبَ فأوْقَرَ فيه معرفَة اللهِ وعظمته وخَشْيتهِ وإجلالَه وتَعْظِيمهُ ومحبته، ومتى سَكَنَتْ هذِه الأشياءُ في القلبَ خَشَعَ فَخَشَعَتَ الجوارُح تَبَعًا لَهُ. وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ» .
وهذَا يَدُلُ على أن العلْمَ الذي لا يوِجِبُ الخشوعَ لِلْقَلْبِ فهو عِلْمٌ غَيْرُ نَافعٍ. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يَسْأَلُ الله علمًا نافعًا. وفي حديث آخر: «سَلُوا الله علمًا نافعًا وتَعوذُوا باللهِ مِنْ علمٍ لا ينفع» .
وأما العلمُ الذي على اللسان فهو حُجَّةُ اللهِ على ابنِ آدم كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «والقرآنُ حُجُّةٌ الله لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» . فإذا ذهبَ مِن الناسِ العلمُ الباطنُ بَقِيَ الظَّاهرُ على الألسنةِ حُجَّةً.
ثم يَذْهبُ الْعِلْمُ الذي هو حجةٌ بذَهَابِ حَملته ولا يَبْقَى مِن الدِّين إلا اسْمُهُ ولا مِن القرآن إلا رَسْمُهُ، فَيَبْقَى الْقرآنُ في المصاحفِ ثم يُسْرى به في آخر الزمان فلا يَبْقَى مِنْه في المصاحفِ ولا في القلوب شيء.
ومن هنا قَسَّم مَنْ قَسَّمَ مِن العلماء إلى باطنٍ وظاهر: فالباطن: ما باشَرَ القلوبَ فأثْمرَ لها الخشيةَ والخشوعَ والتعظيمَ والإِجلالَ والمحبةَ والأنْسَ والشوقَ. والظاهرُ: ما كان على اللسانِ فَبِهِ تَقُومُ حُجَّةُ الله على ابن آدم.(1/138)
وَكَتَبَ وَهْبُ بنُ مُنَبه إلى مكحول: إنكَ امرؤٌ قَدْ أصبْتَ بِما َظَهر مِن عِلْمِ الإِسْلام شَرفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عَلْمِ الإِسْلام مَحَبَّةً وَزُلْفىَ. وفي رواية أنه كَتَبَ إليه: أنكَ قد بَلَغْتَ بظاهرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاس مَنْزلةً وَشَرفًا فَاطُلب بباطِنِ عِلمكَ عندَ الله منزلةً وزُلْفَى. وَاعلم أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمنعُ مِن الأخُرْى.
فأشارَ وَهْبَ بِعلمِ الظاهرِ إلى علمِ الفَتَاوي والأَحْكَامِ، والحلالِ والحرام، والقصصِ والوعظِ وهو مَا يظهُر على اللسان، وهذا العلمُ يوجَبُ لِصَاحِبهِ مَحبة الناسِ لَهُ وَتَقَدُّمُه عندهم فَحَذَّرَهُ من الوقوفِ عندَ ذلكَ والركون إليهِ والالتفاتِ إلى تعظيمِ الناس ومحبتهم فإن مَن وَقَفَ مَعَ ذلك فقد انقطعَ عن الله وانْحَجَبَ بنظرهِ إلى الخلقِ عن الحق.
وأَشَاَر بعلمِ الباطنِ إلى العِلم الذي يُبَاشرُ الْقُلوبَ فيحدِثُ لها الخشيةَ والإجْلالَ والتعظيمَ، وأَمَرهُ أَن يَطْلُبِ بهذا المَحبةَ مِن الله والقربَ مِنهُ والزُلْفَى لَدَيه.
وكان كثيرٌ مِن السلفِ كَسُفْيَانِ الثوري وغيره يُقَسِّمُونَ العلماءَ ثلاثةَ أقسام: عالمٌ بالله وعالمٌ بأمرِ الله ويُشِيرُون بذلكَ إلى مَن جَمَعَ بَيْنَ هَذَين الْعَلْمَيْنِ الْمُشَارُ إليهما: الظاهر والباطنِ.
وهؤلاءُ أشرفُ العُلماء وهم المَمدُوحُونَ في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، وقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} إلى قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} .
وقَالَ كثير من السلف: ليس العلم كثرةُ الرواية ولكن العلمُ الخشيةُ. وقَالَ بعضهُم: كَفَى بِخَشَيةِ الله عِلْمًا وكفَى بالاغترار بالله جَهْلاً. ويَقُولُون أيضًا: عالمٌ بالله ليس عالم بأمر الله وهُم أصْحَابُ العِلم الباطن الذين(1/139)
يَخْشَونَ الله ولَيْسَ لَهم اتِّساعٌ في العلم الظاهر.
ويَقُولَونَ: عالمٌ بَأمرِ الله ليسَ بِعَالِمٍ بالله، وهم أصحابُ العلم الظاهر الذينَ لا نَفَاذَ لهَمُ في العلمِ الباطنِ وليس لهم خَشْيَةٌ وَلا خُشُوعٌ، وهؤلاءِ مَذْمُومُونَ عِند السلفَ. وكان بعضهُم يقول: هذا هو العلم الفَاجِرُ.
وهؤلاء الذينَ وَقَفُوا مَعَ ظاهرِ العِلمِ ولم يصل العلمُ النافعُ إلى قلوبهم ولا شَمُوا لَهُ رَائِحَتَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهم الغفلةُ والقَسوةُ والأعراضُ عن الآخرة والتنافُسُ في الدنيا ومحبةُ العُلوِ فيها والتقدم بينَ أَهلها.
وقد مُنعوا إحْسَانَ الظن بِمَنْ وَصَلَ الْعِلمُ النَّافعُ إلى قلوبهم فلا يُحبونهم ولا يُجالِسونهم وربما ذَمُّوهُم وقَالَوا: ليسوا بعلماء، وهذا مِن خداع الشيطان وغرُورُه لِيَحْرِمَهم الوصولَ إلى العلم النافعِ الذي مدحه اللهُ ورسولهُ وسلفُ الأمة وأئمتها.
ولهذا كانَ علماءُ الدنيا يُبغضُون علماءَ الآخرة وَيَسْعَونَ في أذاهم جُهْدَهُم كما سَعَوا في أذَى سَعيدِ بن المسيب، والحسنِ، وسفيان الثوري، ومالك، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين.
وذلك لأن علماءَ الآخرةِ خلفاءُ الرسل وعلماءَ السوءِ فيهم شبهٌ مِن اليهود وهم أعداءُ الرسلِ وقتلة الأنبياء ومَن يأمر بالقسطِ من الناس، وهم أشدُ الناس عَدَاوَةً وحسدًا للمؤمنين.
وَلِشِدَّةِ مَحبتهم للدنيا لا يُعظمُون علمًا ولا دِينًا وإنما يُعَظِمُونَ المالَ والجاهَ والتقدمَ عند الملوكَ.
إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعَمَلْ به كان حُجَّةً ... عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ حَامِلُ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا ... يُصَدِّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُ
آخر:
قالوا فلانٌ عالمٌ فاضلٌ ... فأكرمُوهُ مثلما يَرْتضي(1/140)
فقلتَ لما لمْ يكنْ ذا تقىً ... تَعَارَضَ المانعُ والمقتضي
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِج المتقِين وَخَصَّنَا بالتَّوفِيق المُبين واجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِين الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
[فَوائدُ نَافِعةٌ حَوْلَ الإِفْتَاءِ والاِسْتِفْتَاءِ]
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الفُتْيَا أمرها عظيم، ولقد كان السلف رحمهم الله يأبون الفُتْيَا، وَيُشَدِّدُونَ فيها ويَتَدَافَعُون عكس ما عليه علماء هذا العصر.
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلي قَالَ: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْئَلُ أَحَدُهُم عن المسألة فَيَرُدَّهَا هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وفي رواية ما منهم مَن يُحَدِّث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ود أَنَّ أخاه كفاه الفُتيا. وأنكر الإمام أحمد وغيره على مَن يَهْجمُ على الجواب لِخَبَرِ: أجْرَؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار.
وقَالَ الإمام أحمد: لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُسْتَفْتَى فيه، وقَالَ: لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه لِلْفُتْيَا حتى يكون في خمس خصال:
أحدها: أنْ تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عَرَّضَ نَفْسَه لَخَطَرٍ عظيم.(1/141)
الرابعة: الكفاية، وإلا أبْغَضَهُ الناس، لأنه احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه.
الخامسة: معرفة الناس بأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرًا منهم لئلا يوقعوه في المكروه.
وإليك ما ورد في ذلك، نقل الميموني عن الإمام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه سئل عن حديث، فقَالَ سلوا أصحاب الغريب فإني أخاف أن أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن فأخطي.
وقَالَ أبو داود الطيالسي: سَمعْتُ شُعْبةَ قَالَ: سألتُ الأصمعي عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لَيُغَانُ على قلبي» ، ما مَعْنَى يُغَان؟
قَالَ: فقَالَ لي هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقُلْتُ: نعم. فقَالَ: لو كان عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لَفَسَّرْتُ ذلك ولكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أَجْتَرِئُ عليه.
وعن الأصمعي عن مُعْتَمِرُ بنُ سُليمان عن أبيه قَالَ: كانوا يتقون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يتقون تفسير القرآن.
وكان الإمام أحمد يجيء إلى أبي عبيد يسأله في الغريب روى ذلك الخلال.
وقَالَ ابن عباس: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وقَالَ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء.
وقَالَ الشعبي: لا أدري نصف العلم.
وقَالَ أحمد في رواية المروذي: كان مالك يسْئَلَ عن الشيء فَيُقَدِّم ويؤخِّر يَتَثَبَّت وهؤلاء يقيسون على قوله ويقولون: قَالَ مالك.
وعن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: من عِلْمِ الرجل أن(1/142)
يقول لما لا يَعْلَم: الله أعْلم، لأن الله عز وجل قَالَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وصح عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: العلم ثلاثة: كتابٌ ناطِقٌ، وسنة ماضية، ولا أدري.
وقَالَ أحمد في رواية المروذي: ليس كل شيء ينبغي أن يُتَكلم فيه وذكر أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسْأل فيقول: «لا أدري حتى أسأل جبريل» .
وقَالَ عبد الله: سَمِعْتُ أبي يقول: كان سفيان لا يكاد يفتي في الطلاق ويقول مَنْ يُحْسِنُ ذا من يُحْسِنُ ذا.
وقَالَ في رواية الحارث: وَدِدْتُ أنه لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عن مسألة أو ما شيء أشد علي من أن أسأل عن هذه المسائل البلاء يُخْرِجُه الرجلُ عن عُنُقِه ويُقَلِّدك.
وخاصَّة مَسائل الطلاق والفُروج، ونقل الأثرم عنه أنه سأله عن شيء فقلت: كيف هو عندك؟ فقَالَ: وما عندي أنا.
وسَمِعْتُه يقول: إنما هو يعني العِلْمِ ما جاء من فوق. وقَالَ سفيان: من فتنة الرجل إذا كان فقيهًا أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت.
وقَالَ المروذي: قُلْتُ لأبي عبد الله: إن الْعَالِمَ يظنون عنده عِلْمُ كل شيء، فقَالَ: قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن الذي يُفْتِي الناسَ في كل ما يَسْتَفْتُونَه لمَجْوُن. وأنكر عبد الله على من يَتَهَجَّم في المسائل والجَوابات.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أبا عبد الله يقول: لِيَتَّقِ الله عَبْدٌ ولينظر ما يقول وما يتكلم فإنه مسئول.
وقَالَ: من أفتى الناس ليس يَنَبغِي له أن يُحِيلَ الناسَ على مذهبه ويُشَدِّد عليهم.(1/143)
وقَالَ في رواية القاسم: إنما يَنْبَغِي أن يُؤمر الناسُ بالأمر البين الذي لا شك فيه ولَيْتَ الناس إذا أمِرُوا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه.
ونقل محمد بن أبي طاهر عنه أنه سئل عن مسألةٍ في الطلاق، فقَالَ: سَلْ غيري ليس لي أن أفتي بالطلاق بشيء.
وقَالَ في رواية ابن منصور: لا ينبغي أن يُجِيبَ في كل ما يُسْتَفْتَى. وصح عن مالك أنه قَالَ: ذِلٌ وَإهَانَةٌ لِلْعَالِمْ أَنْ تجيب كُلَّ مَن سَأَلَكَ.
وقَالَ أيضاً: كلُّ مَن أَخْبَرَ النَّاسَ بكل مَا يَسْمَعُ فهُو مَجْنُون. وقَالَ أحمد: وفي رواية أحمد بن علي الأبار وقَالَ له رجل: حَلَفْتُ بِيَمِين لا أَدْرِي إيش هي. قَالَ: لَيْتَ أنك إذا دَرَيْتَ دَرَيْتَ أَنَا.
وقَالَ في رواية الأثرم: إذا هاب الرجل شيئًا فلا ينبغي أن يحمل على أن يقول.
وقَالَ في رواية المروذي: إن الذي يُفْتِي الناسَ يَتَقَلَّدُ أَمْرًا عَظِيمًا، وقَالَ يُقْدِمْ على أمرٍ عظيم يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُون عالمًا بقول مَن تقدم وإلا فلا يُفْتِي.
وقَالَ في رواية الميموني: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ.
وقَالَ الثوري: لا نزال نتعلم ما وجدنا من يعلمنا. وقَالَ أحمد: نحن الساعة نتعلم، وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» ما معناه.
قَالَ أبو عبد الله: يُفتي بما لم يسمع. وقَالَ محمد بن أبي حرب: سمعت أبا عبد الله، وسُئِلَ عنَ الرجل يفتي بغير علم، قَالَ: يروى عن أبي موسى قَالَ: يمرق من دينه.(1/144)
ونقل المروزي: أن رجلاً تكلم بكلام أنكره عليه أبو عبد الله قَالَ: هذا من حبه الدنيا يُسْئَلُ عن الشيء الذي لا يحسن فيحمل نفسه على الجواب.
ونحو هذا عن حماد، وقَالَ: كنت أسائل إبراهيم عن الشيء فيعرف في وجهي أني لم أفهم فيعيده حتى أفهم روَى ذلك الخلال وغيره.
اللَّهُمَّ نَجِّنَا برحمتك من النار وعافِنا من أُرِ الْخِزْي والبَوَارِ وأدْخِلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَةَ دارَ القرارِ وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجُودِكَ يا كريمُ يا غَفارُ، وَاغْفِرْ لنا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى الله على مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابن وهب عن يونس عن الزهري: أن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حدث رجلاً بحديث فَاستَفْهَمَهُ الرجل فقَالَ الصديق هو: كما حدثتك، أيُّ أرض تقلني إذا قلت بما لا أعلم.
وروى نحوه من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعًا: من أَفْتَى بفتيا غَير ثِبْتٍ فيها فإنما إثمه على الذي أفتاه. وفي لفظ: من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه. رواهما أحمد. وروى الثاني أبو داود، والأول ابن ماجة. وهو حديث جيد له طرق مذكورة في حواشي المنتقى.
وقَالَ الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قَالَ: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون، وقَالَ مالك: عن يحيى بن سعيد عن ابن عباس مثله.
وقَالَ الزهري عن خالد بن أسلم قَالَ: كنا مع ابن عمر فسأله أعرابي أَتَرِثُ العمة؟ فقَالَ: لا أدري، قَالَ: أنت لا تدري، قَالَ: نعم اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما أدبر الرجل قَبَّلَ ابن عمر يده فقَالَ: نِعْمَ ما قَالَ أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقَالَ: لا أدري.(1/145)
وقَالَ سفيان بن عيينة والثوري عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إيَّاهُ.
ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتوى. هذا لفظ رواية الثوري، ولفظ ابن عيينة: إذا سئل أحدهم عن المسألة ردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وقَالَ أبو حصين وعثمان بن عاصم التابعي: إن أحدكم يُفتى في المسألة ولو وَرَدَتْ على عمر لجمع لها أَهْلَ بَدْرٍ.
وقَالَ القاسم، وابن سيرين: لأن يَمُوتَ الرجل جاهلاً خير له مِن أن يقول ما لا يعلم، وقَالَ مالك عن القاسم بن محمد: إنَّ مِن إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ لِمَا لا يَعْلَمُ: إنِّي أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ مَالِكًا سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلانَ يَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيه عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ دَاوُد بنْ أَبِي الزُّبَيْر الزُّبَيْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَجْلانَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَهُ وَقَدْ سَبَقَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا فَأَجِبْنِي.
فَقَالَ: إنْ يَكُنْ فِي نَفْسِك مِنْهَا مِثْلُ أَبِي قُبَيْسٍ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفَسِي مِنْهَا مِثْلُ الشَّعْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَطَالَ تَرْدَادُهُ إلَيْهِ فِيهَا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا إنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ إلا فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَسْتُ أُحْسِنُ مَسْأَلَتَكَ هَذِهِ.(1/146)
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلا يَقُولُ شَيْئًا إلا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَنْ يُفْتِي يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْفَتْوَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَلا يَعْلَمُ النَّاسَ ذَلِكَ مِنْهُ.
فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إفْتَاءُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِلا إشْكَالٍ فَهُوَ يُسَارِعُ إلَى مَا يَحْرُمُ لا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا.
وَأَمَّا السَّلَفُ فَكَانُوا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا وَلَعَلَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَحْنُونٌ أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا. وقَالَ سَحْنُونٌ: أَشْقَى النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ.
وَقَالَ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّى لا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا. وَقَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا.
وَبَكَى رَبِيعَةُ فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: اُسْتُفْتِيَ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ. وَقَالَ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ.(1/147)
وقَالَ بعضُ العلماءِ لِبَعْض المفِتين: إذا سُئِلْتَ عن مسألة فلا يكن هَمُّكَ تَخْلِيصَ السَّائلَ، ولكن ليكُنْ هُمُّكَ تخليصَ نفسِكَ.
وقَالَ عمرو بن دينار لما جلس قتادة للفتيا: تدري في أي عمل وقعت؟ وقعت يا قتادة بين الله وبين خلقه، وقلت: هذا يصلح، وهذا لا يصلح.
وقَالَ بعضهم: إن العالم داخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ويقول: ما وجدت أحدًا تسأله غيري.
وقَالَ آخر: إذا سئلت عن مسألة فتفكر فإن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم وإلا فاسكت.
وعن مالك: أنه كان إذا سئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
وقَالَ النخعي: قد تكلمتُ ولو وجدت بدًا ما تكلمت وإن زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
وقَالَ ابن عيينة: ليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه إنما هذا الأمر لمن ود أنه وجد من يكفيه.
وسئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة فقَالَ: ما أنا على الفتيا بِجَري.
اللَّهُمَّ أحْينا في الدنيا مؤمنينَ طائعينَ وتوفَّنا مسلمينَ تائبينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَا رَوَيَ عَنْ أَبِي هُريرةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرْدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفِقِّهْهُ في الدِّين» .(1/148)
رُوِيَ عن مجاهد أنه قَالَ: (الفقيهُ مَن يَخَافُ الله عَزَّ وَجَلَّ) .
وُروِيَ عَنْ عَلَيَّ بِنْ أَبِي طَالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: (ألا أخبركم بالفقيه مَن لم يُقَنِّطِ النَّاسِ مِنْ رَحمةِ اللهِ، ولم يُؤَمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ الله، وَلَمْ يُرَخَّصْ لهم في مَعَاصِي الله، وَلَمْ يَدَعِ القرآن رَغْبَةً إلى غيره) .
وقَالَ ابنُ مسعود: (كفى بخشيةِ الله عِلْمًا، وكَفَى بالاغْتِرارِ به جَهْلاً) .
وَرُويَ عن عُمَرَ أنه كَتَبَ إِلى أبي موسى الأشعري: (إِنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بكثرة السَّرْدِ، وَسَعَةِ الهذَر، وكثرة الرواية، وإنما الفقْهُ خَشْيَة اللهِ عز وجل) .
وقَالَ أَحَد العُلَماء: إن كَمَالَ علم العالم ثلاثة: تركُ طلب الدنيا بِعِلْمِهِ، ومحبَّتُه الانتفاع لمن يَجْلِسُ إليه، ورأفتُه بالناس.
وَرُوِيَ عن مَطَر الوَرَّاقِ قَالَ: سألتُ الحسنَ عن مسألة فقَالَ فيها، فَقُلْتُ: يا أبا سَعِيد: يأبْىَ عليكَ الفُقَهاء. فقَالَ الحسنُ: ثَكِلتْكَ أمُّكَ يَا مَطَر، الفقيهُ الوَرعُ الزاهدُ المقيمُ عَلَى سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يَسْخَر بِمَنْ أَسْفَل منه، ولا يَهْزَأ بِمَنْ فوَقَهُ، ولا يأخذ على علْمٍ عَلَّمَهُ الله إيَّاهُ حُطَامًا.
عن الحسن قَالَ: الفقيهُ المُجْتَهدُ في العبادة: الزاهدُ في الدنيا المقيمُ على سنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنه قَالَ: الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيرُ في دِينِهِ المجتهدُ في العبادة. وعن وهب بن منبه قَالَ: الفقيهُ العفيفُ المتمسكُ بالسنة أولئك أتباعُ الأنبياء.
وقَالَ سُفيانُ الثوري: الفقيهُ يَعُدُّ البلاءَ نِعْمَةٍ والرَّخَاءَ مُصِيبَةٍ وَأفقَهُ منه مَن لم يَجْتَرِئْ على الله عز وجل في شيء لِعِلَّةٍ بِهِ.
وقَالَ غيره: إن الفقيهَ كُلَّ الفَقِيهَ من فَقُهَ في القرآن وَعَرَفَ مَكْيَدَة الشيطان.(1/149)
وقَالَ الفضيلُ بنُ عياضٍ: (إنما الفقيهُ الذي أنطَقَتْهُ الخَشْيَةُ، وأسْكَنَتْهُ الخَشْيَةُ، إِنْ قَال قَالَ بالكتاب، وإن سَكَتَ سَكَت بالكتاب، وإن اشْتَبَهَ عليه شيءٌ وَقَفَ عنده وَرَدَّهُ إلى عَالمِهِ) .
وَعَنْ الْحَسَنْ قَالَ: إنا لنُجَالِسُ الرَّجُلَ فَنَرى إن به عِيًّا وما بِهِ عِيٌ وإنَّه لَفَقِيْهٌ مُسْلِمٌ. قَالَ: وكيعُ أسْكَتَتْهُ الْخَشْيَةُ.
وقَالَ الشَّعْبِي: لَسْنَا بِعُلَمَاءٍ وَلا فُقَهَاء وَلَكِنَّنَا قَوْمٌ قَدْ سَمِعْنَا حَدِيثًا فَنَحْنُ نُحَدِّثكم بما سَمِعْنَا إِنَّمَا الفقيه مَن وَرِعَ عَن مَحَارِم اللهِ والعَالِمُ مَنْ خَافَ اللهَ عز وجل.
واسْتَفْتَى رَجلٌ الشَّعْبِي فقَالَ: أيها العالِمُ أَفْتِنِي فقَالَ: إِنما العَالِم مَن يَخافُ الله.
وَعَنْ جَابِرْ: أَنَّهُ تَلا قَوَلَ الله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
فقَالَ: العَالِمُ الذي عَقَلَ عَنْ اللهِ أَمْرَهُ فَعَمِلَ بِطاعَةِ اللهِ واجْتَنَبَ سَخَطَهُ.
وسئل عبدُ الله بنُ المُبارَكِ هَلْ لِلْعُلَماءِ عَلامةٌ يُعْرَفُونَ بِهَا؟ قَالَ: علامةُُ العَالِم مَن عَمِلَ بِعِلْمِهِ وَاسْتَقَلَّ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَل مِن نَفْسِهِ.
وَرَغِبَ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ وَقَبِلَ الحَقَّ مِن كلِ مَنْ أَتاهُ بِهِ وَأَخَذَ الْعِلْمِ حَيْثُ وَجَدَهُ فَهَذِهِ عَلامَةَ العَالِم وَصِفَتهُ.
قَالَ المروَذِي: فذكرتُ ذلك لأبي عَبدِ اللهِ فقَالَ: هَكذا هُو.
قِيلَ لابن الْمُبَارَكِ كَيْفَ يُعْرفُ العالمِ الصَّادِقُ؟ فقَالَ: الذي يَزْهدُ في الدنيا وَيَعْقِلُ أَمْرَ آخِرَتِهِ.
وقَالَ الزهري: لا نَثِقُ لِلنَّاس بِعَمَلِ عَامِلٍ لا يَعْلم، وَلا نَرْضَى لَهم بعلْمٍ عَالمٍ لا يَعْمَل.(1/150)
وقَالَ الحسن كان الرجل إذا طَلَبَ بَابًا مِن العلمِ لم يَلْبِثْ أن يرى أثر ذلك في تَخَشُّعِهِ وَبَصَرِه ولِسَانِهِ ويَدِه وزُهْدِهِ وَصَلاتِهِ وَبَدَنِهِ وَإِنْ كان الرجل لَيَطْلُب البابَ مِن العلم فَلَهُو خَيْرٌ لَهُ مَن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
ورُوِيَ عن أحَدِ العلماء أنه قَالَ: أدركتُ الفُقَهَاءَ بالمدينة يَقُولُونَ: لا يَجُوزُ أن يَنَصَب نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى ولا يَجُوزُ أن نسْتَفْتِي إلا الموثوق في عَفافِهِ وعَقلِهِ وَصَلاحِهِ وَدِينِهِ وَوَرَعِهِ وَفَقِهْهِ وحِلْمِهِ ورِفِقِهِ وِعِلْمِهِ بأحْكَام القرآنِ والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.
عالمًا بالسنة والآثار وبمن نقلها والمعمول به منها والمتروك.
عالمًا بوجوه الفقه التي فيها الأحكام عالمًا باختلاف الصحابة والتابعين.
فإنه لا يَسْتَقِيم أَنْ يكُونَ صَاحِبَ رَأيَ له علم بالكتاب والسنة والأحاديث والاختلاف ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه والاختلاف ووجوه الكلام فيه، وليس يَسْتَقِيم واحدٌ منهما إلا بصاحِبه ومَن كان مِن أهل العلمِ والفقهِ والصلاحِ بِهَذِهِ المنزلةِ إلا أنَّ طُعْمَتَهُ مِن الناسِ وحَاجَاتَهُ مُنْزَلةٌ بهم وهو محمولٌ عليهم فليسَ بموضِعِ الفَتْوَى ولا مَوْثُوق في فَتْوَاهُ ولا مأمُونٌ على الناس فيما اشْتَبَهَ عليهم.
نختم هذا الكلام بما قَالَه شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: فعَلى كل مُؤْمِنٍ أن لا يَتَكَلَّمَ في شيءٍ مِن الدينِ إلا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ولا يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَيهِ بلِ يَنظر مَا قَالَ فيكونُ قوله تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُه تَبَعًا لأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ ومنَ سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن التابِعِينَ لَهُم بإِحسانٍ وأَئِمَةِ المسلمين رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
العِلْمُ قَالَ الله وقَالَ رَسُولُهُ ... قَالَ الصَّحابَةُ هُمْ أُولُوا الْعِرْفَانِ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن(1/151)
شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلَكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقُ الْجَبِينُ وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ وَالأَنِينُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى الله على مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
شعرًا:
دَعِ التَّشَاغُلَ بِالْغِزْلانِ والْغَزَلِ ... يَكْفِيكَ مَا ضَاعَ مِنْ أَيَّامِكَ الأُوَلِ
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ لا دُنْيَا ظَفَرْتَ بِهَا ... وَكُنْتَ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَال في شُغُلِ
تَرَكْتَ طُرْقَ الهُدَى كَالشمس ِواضِحَةٍ ... وَمِلْتَ عنها لمُعْوَجِّ مِنَ السُّبُلِ
وَلَمْ تَكُنْ نَاظِرًا في أْمِر عَاقِبَةٍ ... أأَنْتَ فِي غَفْلَةٍ أَمْ أَنْتِ في خَبَلِ
يَا عَاجِزًا يَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ النَّـ ... نَفْسِ اللجُوجِ وَيَرْجُو أَكْرَم النُّزلِ
هَلا تَشَبَّهْتَ بالأَكْيَاسِ إِذْ فَطِنُوا ... فَقَدَّمُوا خَيْرَ مَا يُرْجَى مِنَ الْعَمَلِ
فَرَّطْتَ يَا صَاحِ فَاسْتَدْرِكْ عَلَى عَجَلٍ ... إِنَّ المنَيَّةَ لا تَأتي على مَهَلِ
هَلْ أَنْذَرَتْكَ يَقِينًا وَقْتَ زَوْرَتِها ... أَوْ بَشَّرَتْكَ بِعُمْرٍ غَيْرِ مُنْفَصِلِ
هَيْهَاتَ هَيْهاتَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ ... وَلا الزَّمَانُ بِمَا أَمَّلْتَ فيه مَلَي
لا تَحْسَبَنَّ اللَّيَالي سَالمَتَ أحَدًا ... صَفْوًا فَمَا سَاَلمَتْ أَلا عَلى دَخَلِ
وَلا يَغُرَّنْكَ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ ... فَهَلْ رَأيْتَ نَعِيمًا غَيْرَ مُنْتَقِلِ
كَمْ مِنْ فَتىً جَبَرَتْهُ بَعْدَ كَسْرَتِهِ ... فَقَابَلَتْهُ بِجُرْحٍ غَيْرِ مُنْدَمِلِ
إلامَ تَرْفُلُ في ثَوْبِ الغُرُورِ عَلَى ... بِسَاطِ لَهْوَكَ بَيْنَ التِّيهِ وَالجَذَلِ
وَالشَّيبُ وَافَاكَ مِنْهُ نَاصِحٌ حَذِرٌ ... فَمَا بِهِ كُنْتَ إِلا غَيْرَ مُهْتَبِلِ
وَلَمْ تُرَعْ مِنْهُ بَلْ أَصْبَحَتَ تَنْشُدُهُ ... إِنِّي اَتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلِ
وَسِرْتَ تَطْلُبُ حَظَّ النَّفْسِ مِنْ سَفَهٍ ... فَبَهْجَةُ العُمْرِ قَدْ وَلَّتْ وَلَمْ تَصِلِ
وَمَالَ عَصْر التَّصَابِي مِنْكَ مُرْتَحِلاً ... وَحَالةٌ عَنْ طَرِيقِ الغَيِّ لَمْ تَحُلِ
أَقْسَمْتُ بالله لَوْ أَنْصَفْتَ نَفْسَكَ مَا ... تَرَكْتَهَا باكْتِسَابَ الوزْرِ فِي ثِقَلِ
أَمَا عَلِمْتَ بَأنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ ... عَلَى الضَّمَائِرِ والأَسْرَارِ وَالحِيَلِ(1/152)
وكُلُّ خَيْرٍ وَشَرٍّ أَنْتَ فَاعِلُهُ ... يُحْصى ولو كُنْتَ في الأسْتَارِ والكِلَلِ
أَمَا اعْتَبَرْتَ بتَرْدَادِ المَنُونِ إلى ... هِذِى الخليقَةِ في سَهْلٍ وَفِي جَبَلِ
وَسَوْفَ تَأتي بلا شَكٍّ إِليكَ فَما ... أَخِّرْتَ عَمَّنْ مَضَى إلا إلى أجَلِ
لكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَدَيْكَ فَخُذْ ... بالحزْم وانْهَضْ بَعَزْمٍ مِنْك مُكْتَمَلِ
دَعَ البطَالَةَ والتَّفْرِيطَ وَابْكِ عَلَى ... شَرْخِ الشَّبَابِ الذي وَلَّى وَلمْ يَطُلِ
وَلَمْ تُحَصَّلْ بِهِ عِلْمًا وَلا عَمَلاً ... يُنْجِيكَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الحادثِ الجللِ
وَابْخَل بِدِينِكَ لا تَبْغِي بِهِ عَوَضًا ... وَلَوْ تَعَاظَمَ وَاحْذَرْ بِيْعَةِ السَّفَلِ
وَاتْلُ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهُ مُنْتَهِيًا ... عَمَّا نَهَى وَتَدبَّرْهُ بِلا مَلَلِ
وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ عَلَيْكَ بِهِ ... فَهُوَ النَّجَّاةُ لِتَالِيهِ مِنْ الظُلَلِ
وَلازِمِ السُّنَّةَ الغَرَّاءَ تَحْظَ بِهَا ... وَعَدِّ عَنْ طُرُقِ الأَهْوَاءِ وَاعْتَزِلِ
وَجَانِبِ الْخَوْضَ فِيمَا لَسْتَ تَعْلَمُهُ ... واحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْذَرْ فِتْنَةَ الجَدَلِ
وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى كَسْبِ الحَلال وَلَوْ ... حَمَّلْتَ نَفْسَكَ فِيهِ غَيْرَ مُحْتَمَلِ
وَاقْنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ... فَفِي القَنَاعَةِ عَزٌّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ
وَاطْلُبْ مِنْ اللهِ وَاتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجِدْ ... مَا تَبْتَغِيهِ بِلا مَنٍّ ولا بَدَلِ
وَلا تُدَاهِنْ فَتَى مِنْ أَجْلِ نِعْمَتِهِ ... يَوْمًا وَلَوْ نِلْتَ مِنْهُ غَايَةَ الأَمَلِ
وَاعْمَلْ بعَِلْمِكَ لا تَهْجُرْهُ تَشْقَ بِهِ ... وَانْشُرهُ تَسْعَدْ بِذْكِر غَيْرِ مُنْخَذِلِ
وَمَنْ أَتَى لَكَ ذَنْبًا فَاعْفُ عَنْهُ ولا ... تَحْقِدْ عَلَيْهِ وَفِي عُتْبَاهُ لا تطُلِ
عَسَاكَ بَالْعَفْوِ أَنْ تُجْزَى إِذَا نُشِرَتْ ... صَحَائِفٌ لَكَ مِنْهَا صِرْتَ فِي خَجَلِ
وَلا تَكُنْ مُضْمِرًا مَا لَسْتَ تُظْهرُهُ ... فَذَاكَ يَقْبَحُ بَيْنَ النَّاسِ بَالرَّجُلِ
وَلا تَكُنْ آيِسًا وارْجُ الكَرِيمَ لِمَا ... أَسْلَفْتَ مِنْ زَلَّةٍ لَكِنْ على وَجَلِ
وَقِفْ عَلَى بَابِهِ المَفْتُوحِ مُنْكَسِرًا ... تَجْزِمْ بَتَسْكِينَ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ عِلَلِ
وَارْفَعْ لَهُ قَصَّةَ الشَّكوَى وَسَلْهُ إِذَا ... جَنَّ الظَّلامُ بِقَلْبً غَيْرَ مُشْتَغِلِ
وَلازِمْ البَابَ وَاصْبِرْ لا تَكُنْ عَجِلاً ... وَاخْضَعْ لَهُ وَتَذَلَّلْ وَادْعُ وابْتَهِلِ(1/153)
ونَادِ يَا مَالِكِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا ... عَسَاكَ بَالْعَفْوِ والغُفْرَانِ تَسْمَحُ لِي
فَإنَّني عَبْدُ سُوءٍ قَدْ جَنَى سَفَهًا ... وَضَيَّعَ العُمْرَ بَيْنَ النَّوْمِ والكسَلِ
وَغَرَّهُ الحِلْمُ والإِمْهَالُ مِنْكَ لَهُ ... حَتَّى غَدَا فِي المَعَاصِي غَايَةَ المُثْلِ
وَلَيْسَ لِي غَيْرُ حُسْنِ الظَّنْ فِيكَ فَإِنْ ... رَدَدْتِني فَشَقَاءٌ كَانَ في الأزَلِ
حَاشَاكَ مِنْ رَدِّ مِثْلِي خَائِبًا جَزَعًا ... وَالعَفْوُ أَوْسَعُ يَا مَوْلاي مِنْ زَلَلِي
وَلَمْ أَكُنْ بِكَ يَوْمًا مُشْرِكًا وَإِلى ... دِينٍ سَوَى دِينِكَ الإِسْلامِ لَمْ أَمِلِ
وَكَانَ ذَلِكَ فَضْلاً مِنْكَ جُدْتَ بِهِ ... وَلَيْسَ ذَاكَ بسَعْيٍ كَانَ مِنْ قَبَلِي
اللَّهُمَّ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا تَقواك واهدِنا بِهُدَاك ولا تكِلنَا إلى أحدٍ سِوَاكْ وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ همٍّ فَرَجَا، وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجَا، اللَّهُمَّ أعْذَنا بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، واحْفَظْ جَوَارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ 15)
ومما قَالَهُ العُلماءُ والأُدَباءُ والْحُكماءُ في فَضْلِ العِلمِ والْحَثِّ عَليهِ تَعْلُّمًا وَتَعْلِيمًا قَالَ عَلَيُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: النَّاسُ أَبْنَاءُ ما يُحْسِنُونَ. وقَالَ مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْر: تَعَلَّمْ العِلْمَ فَإِنْ لَمْ يكُنْ لَكَ جَمَالٌ كان العلمُ لك جَمالاً، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَالٌ كَانَ لك مَالاً. وقَالَ عَبْدِ الملكِ بنُ مَروانَ لِبَنِيهِ: يا بَنِيَّ تعلَّموا العلمَ فَإنْ كُنْتمْ سادةً فُقْتُمْ وإنْ كُنتمْ وَسَطًا سُدْتُمْ، وإنْ كنتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ.
وقَالَ بعضُ الحكماءِ: العلمُ شَرَفٌ لا قَدْرَ لَهُ والأَدَبُ مَالٌ لا خَوْفَ عليهِ. وقَالَ بعضُ الأُدَباءِ: العلمُ أفضَلُ خَلَفٍ والعملُ بِهِ أَملُ شَرَفٍ. وقَالَ بعض البُلَغاءِ: تَعَلَّمْ العلمَ فَإنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُكَ صَغِيرًا وَيُقَدِّمُكَ وَيُسَوّدُكَ كَبِيرًا، وَيُصْلِحُ زَيْفَك وفاسِدَكَ، وَيُرْغِمْ عَدُوَّكَ وحاسِدَكَ، وَيَقُوِّمْ عِوَجَكَ وَمَيْلَكَ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَكَ وَأَمَلَكَ. قلت: وهذا صحيحٌ في حَقِّ العاقلِ اللبيب القابلِ لذلِكَ دُون الأحْمَقِ المُتَكِّبِر الْجَاهِلِ جَهْلاً مُرَكَّبًا قَالَ بَعْضُهُمْ:(1/154)
شعرًا: ... كالثَّوْر عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفةً
فَلا يفرق بَيْنَ الْحَقُّ والفَنَدِ
الجهل شَخْصٌ يُنَادِي فَوقَ هَامَتِهِ
لا تَسْأَلْ الرَّبْعِ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
الْعِلْمُ للرَّجُلِ اللَّبِيبُ زِيادَةٌ
وَنَقِيصَةٌ للأَحْمَقِ الطَيَّاشِ
مَثْلُ النَّهَارِ يزِيدُ أَبْصَارَ الوَرَى
نُورًا وَيُعْشِي أعْيُنَ الخُفَّاشِ
شعرًا: ... ما الفَخْرُ إلا لأَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُمُ
عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلاءُ
وَقَدْرُ كلّ امرئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ
وَالْجَاهِلُونَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُزْ بعِلمٍ تَعِشْ حَيًّا بِهِ أَبَدَا
النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيِاءُ
آخر: ... تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِماً
وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ
وَإِنَّ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ
صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ
وَإِنَّ صَغيرَ القَومِ إِن كانَ عالِماً
كَبيرٌ إِذا رُدَّت إِلَيهِ المَسَائِلُ
آخر: ... يَقولُ أَنا الكَبيرُ فَبَجِّلوني ... أَلا هَبِلَتكَ أُمُّكَ مِن كَبيرِ
إِذا كانَ الصَغيرُ أَعَمَّ نَفعاً ... وَأَمضى في الحَوائِجِ وَالأُمورِ
وَأَنفَذَ في النَوائِبِ إِن أَلَمَّت ... فَما فَضلُ الكَبيرِ عَلى الصَغيرِ(1/155)
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العالِمُ يَعْرِف الجاهِلَ لأنَّهُ كَان جَاهِلاً بالأولِ، والجاهلُ لا يَعرفُ العالِمَ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، وَرُبَّمَا ذَمَّ العالِمَ وَعِلْمَهُ. قَالَ بعضُهُمْ:
أَتَانَا أَنْ سَهْلاً ذَمَّ جَهْلاً
عُلومًا لَيْسَ يَعْرفُهُنَّ سَهْلُ
عُلومًا لَو قَرَاهَا مَا تَلاهَا
وَلكنَّ الرِّضَا بالجهلِ سَهْلُ
آخر:
دَعِ الْجَاهِلَ المفتونَ لا تصحَبَنَّهُ ... وَجَانِبه لا يغري بِعقِلِكَ ضَيْرُهُ
فَإِنَّ الذي أمْسَى عَدُوًا لِنَفْسِهِ ... دَلِيلٌ عَلى أَنْ لا يُصَادِقَ غَيرَهُ
وَدَخَلَ على الْخَلِيلِ ابنٌ لَهُ مُتَخَلِّفٌ وَهو يُقَطِّعُ بَيْتَ شِعْرٍ فَخَرَجَ وقَالَ: إِنَّ أَبِي قَدْ جُنَّ. فقَالَ أَبُوهُ:
لَو كُنتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرتَني
أَو كُنتَ تَفَهَمُ ما أَقولُ عَذَلتُكا
لِكِن جَهِلتَ مَقَالَتي فَعَذَلتَني
وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا
وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَمَّ الْجَهْلِ فَهُوَ مَدْحٌ لِلْعِلْمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ لِرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا لِنَبِيِّهِ: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ تَعَالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالَوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ تعالى: {وََإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالَوا سَلَاماً} ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعويمر: «كيفَ أنتَ يا عُوَيْمِرُ إذا قِيلَ لك يَوْمَ القِيامَةِ: أَعَلِمْتَ أمْ جَهِلْتَ فَإنَّ(1/156)
قُلْتَ: عَلِمْتُ قِيلَ لك: فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ، وَإِنْ قُلْتَ: جَهِلْتَ قِيلَ لك: فَمَا كَانَ عُذْرُكَ فيما جَهِلْتَ ألا تَعَلَّمْتَ» . رَوَاهُ ابنُ عَسَاكِرَ في تَاريخِهِ عَنْ أبي الدَّرْدَاءِ. وَهَذا مِمَّا يَدُلُّ على شَنَاعَةِ الْجَهْلِ وَقُبْحِهِ وَمَهَانَتِهِ وَرَذَالَتِهِ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِه. وقَالَ آخر: إِنَّ الْجَهْلَ يَحُطُ أَوُلي الْمَرَاتِب ويُصَغِرُّ ذَوِي الْمَنَاصِبِ.
شعرًا: ... مَنْ جَادَ بالْعِلْم أَحْيَا العَالَمُونَ لَهُ ... بَدِيعَ حَمْدٍ بِمَدْح الفِعْلِ مُتَّصِلِ
يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيي العِلْمُ ذِكْرَهُمُوا ... والْجَهْلُ يُلْحِقُ أَمْوَاتًا بَأمْوَاتِ
شعرًا: ... إِذَا مَا الجهلُ خَيَّمَ في بِلادٍ ... رَأَيْتَ أَسُودَهَا مُسِخَت قُرودَا
آخر: ... وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لأَهلِهِ
فَأَجسامُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ
وَإِنَّ اِمرَءاً لَم يُحيى بِالعِلمِ مَيِّتٌ
فَلَيسَ لَهُ حَتّى النَشورِ نُشورُ
آخر: ... معَ العِلْم فَاسْلُكْ حَيْثَ مَا سَلَكَ العِلْمُ
وَعَنْهُ فَكَاشِفْ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ فِهْمُ
فَفِيهِ جَلاءٌ لِلْقُلوبِ مِنَ العَمَى
وَعَوْنٌ عَلى الدِّينِ الذي أَمْرُهُ حَتْمُ
فَإِنِّي رَأَيْتُ الْجَهْلَ يُزْرِي بَأهْلِهِ
وَذو العِلْمِ في الأَقْوَامِ يَرْفَعُهُ العِلْمُ
يُعَدُّ كَبيرَ القَوْمِ وَهُو صغيرُهُمْ
ويَنْفُذُ منهُ فيهِمُ القولُ والحُكْمُ
وأيُّ رَجاءٍ في امرئٍ شَابَ رَأَسُهُ
وَأَفْنَى سَنِيهِ وَهُوَ مُسْتَعْجِمٌ فَدْمُ
وأيُّ رَجاءٍ في امرئٍ شَابَ رَأَسُهُ
وَأَفْنَى سَنِيهِ وَهُوَ مُسْتَعْجِمٌ فَدْمُ(1/157)
يَرُوحُ وَيَغْدُو الدَّهْرَ صَاحِبُ بَطْنَةٍ
تَرَكَّبَ في أحْضَانِهَا اللَّحْمُ والشَّحْمُ
إِذَا سُئِلَ الْمِسْكِينُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ
بَدَتْ رُخَصَاءُ العيِّ في وَجْهِهِ تَسْمُّو
وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَقْبَحَ مَنْظَرَا
مَنْ أُشِيبَ لا عِلْمٌ لَدَيْهِ وَلا حُكْمُ
هِي السَّوْأَةُ السَّوْءَاءُ فَاحْذَرْ شَمَاتِها
فأوَّلُهَا خِزْيٌ وَآخَرُهَا ذَمُّ
فَخَالِطْ رُوَاةَ العِلمِ واصْحَبْ خِيارَهُمْ
فَصُحْبَتُهُمْ زَينٌ وَخِلْطَتُهُمْ غُنْمُ
وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإنَّهُمْ ... نُجُومٌ إِذَا مَا غَابَ نَجْمٌ بَدَا نَجْمُ
فَوالله لَوْلا الْعِلْمِ مَاتَّضَح الهُدَى ... وَلا لاحَ مِنْ غَيْبِ الأمُورِ لَنَا رَسْمُ
اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا بر عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وارأف الرائفين، وأكرم الأكرمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ في مِنْهَاجِ اليَقِين: واعْلَمْ أنَّ كُلَّ العُلومِ شَرِيفَةٌ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ، والإحاطةُ بجميعِها مُحَالٌ لِعَجْز عُقُولِ الْبَشرِ عَنْ إحَاطَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ تَنَاهِي الأَعْمَار وإحاطَةِ الغيرِ الْمُتَناهِي بالْمُتَناهِي مُحَالٌ وقيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ يَعْرِفُ كلَّ العُلوم؟ فقَالَ: كلُّ النَّاسِ.
قُلْتُ: مَا يَعْلَمُ كُلَّ الْعُلومِ إلا الله جَلَّ وَعَلا. قَالَ تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} وَرُوِيَ عنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَ: «مَنْ ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةٍ فَقَدْ(1/158)
بَخَسَهُ حَقَّهُ وَوَضَعَهُ في غَيْر مَنْزِلَتِهِ التِي وَصَفَهُ الله بِهَا حَيْثُ يَقُولُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} . انتهى.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَألَ أَهْلُ الكتاب رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الروحِ فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. فقَالَوا: تَزْعُمُ أَنَّا لَمْ نَؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً وَقَدْ أوُتِينَا التوراةَ وهي الْحِكْمَةُ {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قَالَ: فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} الآية.
قَالَ: مَا أُوتِيتُمْ مِنْ عِلْمٍ فَنَجَّاكُمْ اللهُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَهُوَ كَثِيرٌ طَيّبٌ، وَهو في عِلْم اللهِ قليلٌ. وقَالَ بعضُ العُلَمَاءِ: لَوْ كُنَّا نَطْلبُ العِلْمِ لِنبْلُغَ غايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأنَا بالنَّقَيصةِ وَلكِننا نَطْلبُهُ لِنُنَقصَ في كلّ يومٍ مِنَ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ في كلَّ يَوْمٍ مِنَ الْعِلْمِ.
شِعْرًا:
الْعِلْمُ نُورٌ فلا تُهْمِلْ مَجَالِسَهُ ... وَاعْمَلْ جَمِيلاً يُرى فالْفضْلُ في الْعَمَلِ
لا تَرْقُدِ اللَّيْلَ ما في النَّوْمَ فائِدةٌ ... لا تَكْسَلَنَّ تَرَى الْحُرْمان في الْكَسَلِ
آخر: ... إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا ... فَجَمْعُكَ لِلْكُتْبِ لا يَنْفَعُ
آخر: ... وَبَادِرْ بَاللَّيْلِ بَدرِسِ العُلُومِ ... فَإنَّمَا اللَّيلُ نَهَارُ الأَرِيبْ
آخر:
احْفَظْ الْعِلْمَ مَا اسْتَطَعْتَ ... فإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ خَامِلاً رَفَعَكَ
وَاتْرُكِ الْجَهْلَ مَا اسْتَطَعْتَ ... فَإنَّكَ إِنْ كُنْتَ عَالِيًا وَضَعَكَ
آخر: ... مَا حَوى العِلْمِ جَمِيعًا أَحُدٌ ... لا وَلَوْ حَاوَلَهُ أَلْفَ سَنَةْ
إِنَّمَا الْعِلْمُ كَبَحْرٍ زَاجِرٍ ... فَاتَّخِذْ مِنْ كُلِّ شيءٍ أَحْسَنَهْ
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ العُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الاهتمامِ إلى مَعْرِفَةٍ أَهَمَّهَا والْعنَايَةُ بَأَوْلاها وأفضَلِهَا وأوْلَى الْعُلومِ وَأَفْضَلُهَا علمُ الدِّينِ الْمُبِيِّنِ بالكتابِ والسُّنةِ والْمُسْتَنبَذِ منهُما لأنَّ النَّاسَ بِمعرفَةِ علومِ الشَّرْحِ يَرْشُدُون وَيَهْتَدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلّونَ. ولا تَصِحُّ الْعبادةُ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ صِفَتَهَا وَلا شُرُوطَها(1/159)
ولا أرْكَانَهَا والذي يجبُ على المكلَّفِ تعلُّمُهُ من العلوم الدينية كلًّ ما يحتاجُهُ في عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلاتِهِ وَمَا عَدا ذَلِكَ مِنْ العُلومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مَا هُو وَسِيلةٌ فَمُسْتَحبٌّ. قَالَ الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ بعضُ العُلَمَاءِ الْمُحَققينَ على قولِ اللهِ تعالى: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ في التَّفَقُّهِ إنْذَارَ قَومِهِمْ وإرْشَادَهُمْ والنصيحةَ لَهُمْ لا ما يُنْتِجُهُ بَعْضُ الْعُلَماءِ مِنْ الأغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ وَيَؤُمُّونَه مِنَ الْمَقَاصِدِ الرَّكِيكَةِ مِنْ التَّصدُّرِ والتَّرَؤْسِ والتَّبَسُّطِ في البلادِ والتشبُّهِ بالظَلَمَةِ في مَلابِسِهِم وَمَسَاكِنِهمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَعَادَاتِهمْ وَمُنَافَسَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَفُشُوّ دَاءِ الضرائرِ بَيْنَهُمْ وانقلاب حَمالِيقِ أحَدِهِمْ إذا لَمَحَ بِبَصَرِهِ مَدْرَسَةً لآخَر أَو شِرْذِمَةً جَثُوا بَيْنَ يَدِيْهِ وَتَهَالُكُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَوْطَّأَ الْعَقِبِ دُونَ النَّاسِ كُلُّهِمْ فَمَا أبْعَد هَؤُلاءِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} .
آخر: ... وَصْن العُلومَ عن المَطَامِعِ كُلِها ... لتَرى بأنّ العِزَّ عِزَّ اليَأسِ
فَالْعِلْمُ ثَوْبٌ والصَّفَاتِ طِرَازهُ ... وَمَطَامِعُ الإِنْسَان كالأدْنَاسِ
آخر: ... وَاِذا طَلَبت العِلمَ فَاِعلَم أَنَّهُ ... حِمْلٌّ ثَقِيلٌ فَانْتَخِبْ مَا تَحْمِلُ
وَإِذا عَلِمتَ بِأَنَّهُ مُتَفاضِلٌ ... فَاِشغَل فُؤادَكَ بِالَّذي هُوَ أَفْضَلُ
آخر:
كَأنَّك لَمْ تَتْعَبْ مِنْ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الذي أَنْتَ تَطْلُبُ
شِعْرًا: ... اجْعَل العِلْمِ يَا فَتَى لَكَ قَيْدًا ... واتَّقِ اللَه لا تَخُنْهُ رُوَيْدَا
لا تَكُنْ مِثْلَ مَعْشر فُقَها ... جَعَلُوا الْعِلْمَ لِدَّرَاهِمِ صَيْدَا
طَلَبُوهُ فَصَيَّرُوهُ مَعَاشًا ... ثم كادُوا بِهِ الْبَرِيِّةِ كَيْدَا
آخر: ... يُقَالُ خِصَالُ الْعِلْمِ أَلْفٌ ... ومَنْ جَمَع الْخِصَالَ الأَلْفَ سَادَا
وَيَجْمَعَهَا الصَّلاحُ فَمْنَ تَعَدَّى ... مَذَاهِبَهُ فَقَدْ جَمَعَ الْفَسَادَا(1/160)
آخر:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وإنَّما ... رَأَوْا رَجُلاً عنْ مَوْقِفِ الذلِّ أحْجما
وَما زِلْتَ مُنْحَازًا بِعِرْضِي جَانِبًا ... عَن الذَّمِّ أَعْتَدُّ الصِّيَانَةَ مَعْنَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسَ أُكْرِمَا
إِذَا قِيلَ هَذَا مَوْردٌ قُلْتُ قَدْ رَأى ... وَلكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
أَنَهْنِهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا قَدْ يَشِينُهَا ... مَخافةَ أَقْوَالِ العِدا فِيمَ أَوْ لِمَا
فَأُصِبْحُ عن عَيبِ اللئم مُسَلَّمًا ... وَقَدْ رَحْتُ في نَفْسَ الكريم مُعَظَّمَا
فَإنْ قُلْتَ زَنْدَ العِلْمِ كَابَ فَإنَّما ... كَبَا حَيْثُ لَمْ تحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلُ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاةُ بالأطماعَ حَتَّى تَجَهَّمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلمَّا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَكَمْ طَالبِ رِقّي بنُعْمَاهُ لم يَصِلْ ... إليه وإنْ كَانَ الرَّئِيسَ المُعَظَّمَا
وَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ كانَتْ على الْحُر نِقْمَةً ... وَكَمْ مَغْنَمٍ يَعْتَدُهُ الْحُرّ مَغْرَمَا
وَلِكن إِذَا مَا اضْطَرني الضُّرُّ لم أبِتْ ... أقَلّبُ فِكْرِي مُنْجدًا ثُمْ مُتْهِمَا
إِلى أَنْ أَرَى مَالا أَغُصُّ بِذِكِرهِ ... إِذَا قُلْتُ قد أَسْدَى إليَّ وَأَنْعَمَا
وَلَمْ أَبْتَذِل في خِدْمَةِ العلم مُهْجَتِي ... لأَخْدِمَ مَنْ لاقِيتُ لَكِنْ لأخْدَمَا
أأشْقَي بِهِ غَرْسًا وأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إِذًا فاتّباعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَي مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : ثُم اعْلم أَنَّ مَنْ لَمْ يَصُنْ نَفسَهُ بوِقَايِتَهَا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخِلِّ الْمُرُؤاتِ لَمْ يَنْفَعْهُ عَلمُهُ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ للعَملِ فَكَما لا ينفعُ السلاحُ للمجاهِدِ مَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، ولا الكتُبُ النَّافِعَةُ الْمُستَمَدَّةُ من الكِتَابِ ما لَمْ يُطَالعها وَيَتَعَلَّمْ مِنها، ولا الأطْعمَةُ النَّفِيسَةُ الْمُدَّخَرَةُ لِلْجائِعِ مَا لَمْ يَأْكلْ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ. وَقَديمًا قيلَ:(1/161)
يُحَاوِلُ نَيْلُ الْمَجْدِ والسَّيف مُغْمَدٌ ... وَيَأمَل إِدْرَاكُ العُلَى وَهُوَ نَائِمُ
آخر:
إِذَا كُنْتَ تَهْوَى أَنْ تَعِيشَ بِذِلَّةٍ ... فَلا تَسْتَعِدّنَّ الْحُسَامَ الْيَمَانِيَا
ولا تَسْتَطِيلَنَّ الرِّمَاحَ لِغَارِةٍ ... وَلا تَسْتَجِيدَنَّ الْعِتَاقَ الْمَذَاكِيَا
فصِيانةُ النفسِ أصْلُ الفضائِلِ لأنَّ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ ثِقَةٌ بِما مَنَحَهُ اللهُ مِنْ فَضيلةِ عِلْمِهِ وَتَوَكّلاً على ما يلزَمُ الناسَ مِنْ صِيانَتِهِ سَلَبُوهُ فضيلةَ عِلمِهِ وَوَسَمُوهُ بقبيحِ تَبَذُّلِهِ فلم يَفِ ما أُعْطِي مِنَ العِلْمَ بما سَلَبَهُ منُه التبذّل لأنّ القبيحَ أشْيَعُ منَ الْجَمِيلِ والرذيلةُ مَشْهُورَةٌ تُنقَلُ وتُذَاع بسُرْعَةٍ لِمَا في طِباعِ الناس مِن الحسدِ والبُغْضِ والحِقدِ ونِزاعِ المنافَسَةِ فَتَنْصَرِفُ عُيونُهُمْ عن المحاسِنِ إلى المَسَاوِي فلا يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا ولا يجاملون ولا يُسامحونَ مُسيئًا يَذكُرون المَسَاوِي كُلَّها غالِبًا لاسِيَّما إذا كان المَرْموقُ عالمًا فإنّ زَلّتَهُ عِندَهُم لا تُقَالَ وَهَفْوَتَهُ لا تُعْذَرُ لأنَّ العيْبَ الصغيرَ يَعْظُمُ في حَقِّ أَهْلِ المُرْوَآت والعَيْبَ في الجاهلِ المغمورِ مَغْمورٌ ولهذا يَنْبَغِي للعالِمِ أنْ يُحْسِنَ أخلاقَهُ وَخَلُقَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ وَيَسْلَمَ عِرضُهُ مِن الطعنِ والاعتراضاتِ.
قَالَ بعض العلماء:
أَيُّهَا الْعَالِمُ إِيَّاكَ إيَّاكَ الزَّلَلْ ... وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ والْخَطْبَ الْجَلَلْ
هَفْوَةُ العَالِم مُسْتَعْظَمَةْ ... إِذْ بِهَا أَصْبَحَ في الْخَلْقِ مَثَلْ
وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ ... فَبِهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأ وزَلْ
لا تَقُلْ يَسْترْ عَليَّ الْعِلْمُ زَلَّتِي ... بَلْ بِها يَحْصُل في العِلْمَ الخلَلْ
إِنْ تَكُنْ عِنْدَكَ مُسْتَحْقَرَةْ ... فَهِيَ عِنْدَ اللهِ والنَّاسِ جَبَلْ
لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالمُ في ... كُلِّ مَا دَقَّ مِن الأَمْرِ وَجَلْ
مِثْلُ مَنْ يَدْفعُ عَنْهُ جَهْلُهُ ... إِنْ أَتَى فَاحِشَةً قِيلَ قَدْ جَهِلْ
انْظُرِ الأَنْجُمَ مَهْمَا سَقَطَتْ ... مَنْ رَآهَا وَهِي تَهْوي لَمْ يُبَلْ(1/162)
فإذا الشمسُ بَدَتْ كَاسِفَةً ... وَجَلَّ الْخَلْقُ لَهَا كُلَّ الوَجَلْ
وَتَرَاءَتْ نَحْوَهَا أَبْصَارُهُمْ ... في انْزعَاجِ واضْطِرَابٍ وَوَجَلْ
وَسَرى النَّقْصُ لَهُمْ مِنْ نَقْصِهَا ... فَغَدَتْ مُظْلِمَةً مِنْهَا السُّبُل
وَكَذَا العَالِمُ في زَلَّتِهْ ... يَفْتِنُ العَالَمَ طَرًا ويُضِلْ
آخر: ... أَرَى الْعِلْمَ كالْمِرَآةِ يَصْدَأُ وَجْهُهُ
وَلَيْسَ سِوى حُسْن الْخَلاق مِنْ جَالِي
وَلَوْ وَازَنَ الْعِلْمَ الْجِبَالَ ولم يَكُنْ
لَهُ حُسْنُ خُلْقٍ لَمْ يَزِنْ وزْنَ مِثْقَالِ
وَإِنَّ الْمَسَاوِي زِهْيَ في خُلقِ عَالِمٍ
لأقْبَحُ مِنْهَا وِهْيَ فِي خُلْق جُهَّالِ
آخر:
وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ ... تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ
لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ... ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاقِ
ورُوِي عنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنهُ قَالَ: تعلَّمُوا العلمَ وَعَلِّمُوهُ ولا تَكُونُوا جَبَابِرةَ العُلماءِ فلا يَقُوم جَهْلُكُم بِعِلْمِكُم. وقَالَ في مِنْهَاجِ اليَقِين: وينبغي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ على اسْتِحْسَانِ الفضائِلِ واستِقْبَاحِ الرذائِلِ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ رَذائِلِ الجَهْلِ بفضائِلِ العِلْمِ ويَنْفِيْ غَفْلَةَ الإهْمَالِ باسْتِيْقَاظِ المُعَانَاةِ ويَرْغَب في العلم رَغْبَةَ مُتَحَقِّقِ لِفَضائِلِهِ واثقٍ بِمَنَافِعِهِ وَلا يُلْهيهِ عنْ طَلَبِِهِ كثرةُ مالٍ وُجِد ولا نفوذُ أمرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ فإنَّ مَنْ نفذَ أَمرُهُ فَهُوَ إلى العِلْمِ أحوجُ ليكونَ أَمرُهُ وَنَهيهُ على البَراهينِ الشَّرْعِيةِ وَمَنْ عَلَتْ مَنزلَتُهُ فهو بالعلم أَحَقُّ لِيُعْرَفَ فَضْلَهُ ونهيهُ على البراهينِ الشرْعِيَّةِ.
شِعْرًا:
لَو كانَ هَذا العِلمُ يَحصُلُ بِالمُنى ... ما كانَ يَبقى في البَرِيَّةِ جاهِلُ
فاجهِد وَلا تَكسَل وَلا تَكُ غافِلاً ... فَنَدامَةُ العُقبى لِمَن يَتكاسَلُ(1/163)
شِعْرًا:
يقولونَ ذِكرُ المَرءِ يبقى بنَسلِهِ ... وليسَ لهُ ذكرٌ إذا لم يكُنْ نَسْلُ
فقلتُ لُهمْ نَسلي بدائعُ حِكمَتي ... فَمنْ سَرَّهُ نَسلٌ فأنّا بِذا نَسلوا
شِعْرًا:
تَفَّننْ وَخُذْ منْ كُلِّ عِلْمٍ فإنَّما
يفوقُ امرُوءٌ في كل فَنٍّ لهُ عِلْمُ
فَأنْتَ عَدُوٌ لِلذي أنْتَ جَاهلٌ
بِهِ ولِعلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ
آخر:
العِلمُ زَينٌ وَتَشْرِيفٌ لِصَاحِبِهِ
فاِطلُبْ هُدِيتَ فُنُونَ العِلمِْ وَالأَدَبا
كَمْ سَيِّدٍ بَطَلٍ آبَاؤُهُ نُجُبٌ
كَانَا الرُؤوسَ فَأَمْسَى بَعدَهُم ذَنَبَا
وَمُقرِفٍ خامِلِ الآبَاءِ ذِي أَدَبٍ
نَال المَعَاليَ بِالآدابِ وَالرُتبَا
الْعِلْم زَيْنٌ وَذُخْرٌ لا فَنَاءَ لَهُ
نِعْمَ القَرينُ إِذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا
قَدْ يَجْمَعُ الْمَالَ شَخْصٌ ثُمَّ يُحْرَمُهُ
عَمَّا قَلِيلٍ فَيَلْقَى الذُّلِّ والْحَرَبَا
وَجَامعُ العلمِ مَغْبُوطٌ بِهِ أَبَدَا
وَلا يُحاذرُ مِنْهُ الْفَوْتَ والسَّلَبَا
يا جامِع العِلمِ نعم الذخر تجمعه
لا تعدلن بهِ درًا وَلا ذَهبا(1/164)
آخر:
بَعْضُ الرِّجَالِ لَهُ رَأيٌ وَمَعْرِفةٌ ... يَدْرِي وَيَعْلَمُ أَنَّ الوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ
وَهَمُّهُ في عُلُومِ الدَّينِ يُتْقِنُهَا ... وَهُمُ أَقْرَانِهِ في اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
آخر:
ولا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا
فَإنَّ مَلاكَ الأَمْرِ في حُسْنِ مَقْصَدِ
وَكُنْ عَامِلاً بَالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتُهُ
ليُهْدَى بِكَ الْمَرءُ الذي بِكَ يَقْتَدِي
حَرِيصًا عَلى نَفَعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ
تَنَلَ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعيمٍ مُؤَبَّدِ
(فَصْلٌ) : وقَالَ في منهاجِ اليَقينِ: (واعلمْ أنَّ لكلِّ مَطْلُوبٍ باعِثًا والباعثُ على المطلوبِ شيئآنِ: رغبةً، أو رَهْبةٌ، فليكنْ طالبُ العلمِ رَاغِبًا رَاهِبًا أما الرَغبةُ ففي ثوابِ اللهِ تعالى لطالِبي مَرْضَاتِهِ وحافِظِي مُفْتَرَضاتِهِ بإقامَتِها وتعليمِها مَنْ لا يَعْلَمُها والأمْرُ بالمعروفِ، وأما الرَهْبَةُ فمِنْ عِقابِ اللهِ تعالى لِتاركِي أوامِرِهِ وَمُهْمِلي زواجِرِهِ فإذا اجْتَمَعَتْ الرغبةُ والرهبةُ أدَّتَا إلى كُنْهِ العلمِ وحقيقةِ الزُهدِ بإِذنِ اللهِ لأنَّ الرغبةُ في الثوابِ أقوَى الباعثَينِ على العلمِ والباعثُ الآخرُ حُبُّ النَّبَاهَةِ ونَحِوها والَرهبةُ منَ العِقابِ أَقوَى السَّبَبَيْنِ في الزُهْدِ وَقَدْ قَالَتِ الحُكماءُ: (أَصْلُ العِلْمِ الرَغبةُ وَثَمَرَتُهُ السعادةُ وأَصْلُ الزُهْدِ الرَّهْبةُ وثَمَرَتُهُ العِبَادةُ) فإذا اقتَرَنَ العِلمُ والزُهدُ فقدْ تمَّتْ السعادةُ الدِّينِيةْ والدُنْيَوِيَّةُ وعمَّتْ الفَضِيلةُ. وقد رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قَالَ: «من ازْدادَ في العِلْمِ رُشدًا ولمْ يزدَدْ في الدنيا زُهْدًا لم يزدَدْ مِن اللهِ إلا بُعْدًا» . وقَالَ مالكُ بنُ دينارٍ: مَنْ لم يُؤْتَ مِنَ العلمِ ما يَقْمَعُهُ فما أوتِي منهُ لا يَنفعُهُ. وقَالَ بعضُ الحُكماءِ: الفقيهُ بغيرِ وَرَع كالسِّراجِ يُضِيءُ البيتَ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ، وبالتالي فالعِلمُ فَضْلُهُ يَعْرِفُهُ كلُّ مُنْصِفٍ(1/165)
والناسُ يَحتاجُونَ إليهِ في كُلِّ وقتٍ قَالَ حَرْبٌ: سمعتُ أحمدَ بن حَنبلٍ يقولُ: الناسُ مُحتَاجُونَ إلى العِلْمِ قبلَ الخُبْزِ والماءُ، لأنَّ العِلْمَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِنْسِانُ في كُلِّ سَاعَةٍ، وَالخُبْزُ وَالمَاءُ في اليومِ مرةً أو مرَّتيْنِ.
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ في قصيدةٍ له حلَّ بها لُغْزًا لَفْظةَ عِلم:
والعلمُ بالرحمنِ أَولُ صَاحِبٍ
وَأَهمُّ فَرْضِ اللهِ في مَشْرُوعِهِ
وَأَخُو الدِّيَانَةِ طَالِبٌ لِمَزِيدِهِ
أَبَدًا وَلمَّا يَنْهِهِ بِقُطُوعِهِ
والْمَرْءُ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ
فَقْرِ الْغِذَاءِ لِعِلْمِ حُكْمِ صَنِيعِهِ
فِي كُلِّ وَقْتٍ والطَّعَامُ فإنَّما
يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتِ شِدَّةِ جُوعِهِ
وَهُو السَّبِيلُ إِلى الْمَحَاسِنَ كُلَّهَا
والصَّالِحَاتُ فَسَوْأةً لِمُضِيعِهِ
آخر:
كَمْ مِنْ حَيَاءٍ وَكَمْ عَجْزٍ وَكَمْ نَدَمٍ ... جَمٍّ تَوَلَّدَ لِلإِنْسَانِ مِنْ كَسَلِ
[إِيَّاكَ عَنْ كَسَلٍ فِي الْبَحْثِ عَنْ شُبُهٍ ... فما عَلِمْتُ وَمَا قَدْ شَذَّ عَنْكَ سَلِ]
وَإِذَا أَرَدْتَ مِنْ الْعُلومِ أَجَلَّهَا ... نَفَعًا وَأَزْكَاهَا وَأَعْلَى الْمَطْلبَ
فَعُلُومُ تَوْحِيدِ الإِلهِ وَبَعْدَهُ ... فِقْهٌ بِدِينٍ فَهُوَ أَعْلَى الْمَكْسَبِ
آخر:
حَدِيث رِجَالِ العلم أَهْوَى وَأشْتَهِي ... كَمَا يشتهِى الماءَ المُبَرَّد شاربُهْ
وَأفْرَحُ أنْ ألْقَاهُمُوا فِي بُحُوثِهِمْ ... كَمَا يَفْرَحُ المرءُ الذي آبَ غَائبُهْ
آخر: ... كُلَّ العُلوم سِوَى الْقُرْآن مشغلةٌ ... إلا الْحَدِيثَ وإلا الفقهَ في الدِّينِ(1/166)
الْعِلْمُ مُتبعٌ مَا قِيلَ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
واعْلم أنَّ الكَسَلُ مِن قِلَّةِ التأَمُّلِ في مَنَاقِبِ العِلْمِ وفَضَائِلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْعِبَ نفسُه على التَّحْصِيلِ والجدَ والمُواظَبَةِ بالتأملِ في فَضَائِل العِلم، فإن العِلمَ يَبْقَى [ببقاءِ المعلومات] والمالَ يَفْنَى، كَمَا قَالَ أَمِيرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه:
رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا ... لَنَا عِلْمٌ وَلِلجُهَّالِ مَالُ
فَإنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ ... وَإنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لا يَزَالُ
آخر:
فَتَعَلَّمُوا فَالْعِلْمِ مُفْتَاحُ العُلا ... لَمْ يَبْقَ بَابًا لِلسَّعَادَةِ مُغْلَقًا
ثُمَّ اسْتَمِدُّوا مِنْهُ كُلَّ قُوَاكُمُ ... إنَّ القَوِيَّ بكُلِ أَرْضٍ يُتَّقَى
آخر:
احْرَصْ عَلَى كُلَّ عِلْمٍ تَبْلُغ الأمَلا ... وَلا تُوَاصِلُ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَسَلا
فَالنَّحْلُ لَمَّا رَعَتْ مِنْ كُلَّ فَاكِهَةٍ ... أَبْدَتْ لَنَا الْجَوْهَرَيْنَ الشَّمْعَ والعَسَلا
الشَّمْعُ باللَّيْلِ نُورٌ يُسْتَظَاء بِهِ ... وَالشَّهْدُ يُبْرِي بإذِنْ البَارِئ الْعِلَلا
وَيُرْوَى عَنْ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ فإنّ تعلُّمَهُ لِلّهِ خَشْيَةً وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ومُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ والبَحْثَ عنهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيَمهُ مَنْ لا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ وَبَذْلَهُ لأهْلِهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ الأَنيِسُ في الوَحْدةِ والصاحِبُ في الخَلْوَةِ والدّلِيل على الدِّين والمُصَبِّرُ على السرَّاءِ والضَّرَّاءِ والوَزِيرُ عِندَ الإخِلاء والقَرِيبُ عندَ الغُرَباءِ وَمَنارُ سَبيلِ الجَنّةِ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ أقْوَامًا فيجعلُهُمْ في الخَيْرِ قَادةً سادةً هُدَاةً يُقْتَدَى بهم أَدِلِّةً لِلْخَيرِ تُقْتَفَى آثارُهمْ وَتُرْمَقُ أَفْعالُهُمْ وَتَرْغَبُ الملائكةُ في خُلَّتِهمْ وبأَجنِحَتِهَا تمْسَحُهُمْ وَكُلُّ رَطْبِ ويابسٍ لهُمْ يَستغْفرُ حَتَّى حِيتَانُ البَحْرِ وَهَوامُّهُ وَسِبَاع البَرِّ وَأَنْعامُهُ والسَّماءُ وَنُجُومُها، لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوب مِنَ العَمَى وَنُورُ الأبْصَارِ مِنِ الظُلَمِ وَقوَّةُ الأبْدانِ مِنَ(1/167)
الضَّعْفِ يَبْلُغْ بِهِ العَبْدُ مَنَازلَ الأَبْرارِ والدَّرَجَاتِ العُلَى وَمُدَارَسَتُهُ بالقيام به يُطاع اللهُ عزَّ وجلَّ وَبِهِ يُعْبَدُ، وَبِهِ يُوَحَّدُ، وَبِهِ يُمَجَّدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعرفُ الحَلالُ والحرامُ، وهو إمامٌ والعَمَلُ تابعُهُ يُلْهَمُهُ السُعداءُ وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِياءُ.
ووردَ عنْ خالدِ بن عبدِ الرحمنِ بن أبي بَكْرَةَ عن أبيه عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اغدُ عالمًِا أو متعلمًا أو مُسْتَمِعًا أو مُحِبًا ولا تكنْ الخامسة فَتَهْلِكَ» .
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الدُنيا مَلْعُونَةٌ
مَلْعُوْنٌ ما فِيها إلا ذِكرُ اللهِ وما وَالاه أَوْ مُعَلِمٌ أَوْ مُتَعلّم» .
وعن عطاءِ بن السائبِ عن الحَسنِ قَالَ: أُغْدُ عالِمًا أو متعلِّمًا أو مستمِعًا ولا تكُنْ رابعًا فَتَهْلِكَ.
وعن الحسن أنّ أبا الدرداءِ قَالَ: كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعلِّمًا أو مُحِبًا أو مُتَّبِعًا ولا تكنْ الخامسَ فتهْلِكَ. قَالَ: قلتُ لِلْحَسَنِ وما الخامسُ؟ قَالَ: المُبْتَدِعُ.
شِعْرًا:
كَفَى بالعِلم في الظُّلُماتَ نُورٌ ... يُبَيّنُ في الْحيَاةِ لَنَا الأُمُورَا
فَكَمْ نَالَ الذَّليلُ بِهِ اعْتِزَازًا ... وَكَمْ لَبِسَ الْحَزِينُ بِهِ سُرُورًا
تَزِيدُ بِهِ الْعَقُول هُدَىً وَرُشْدَا ... وَتَسْتَعْلى النُّفُوسُ بِهِ شُعُورَا
اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمانْ وَثَبِّتْ فِيهَا مَحَبَّتَكِ ومَحَبَّةَ أَوْلِيائِكَ وعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَارْزقْنَا المَعْرِفَةَ بِكَ على بَصِيرَة وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكَركَ وَاجْعَلْ آخِرَ كَلِمَةٍ نَتَكَلَّمُ بهَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة إِنَّك عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ وبالإِجابَةِ جَدِيرٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
عَلَى الْعِلْمِ نَبْلَيْ إِذَ قَدِ انْدَرَسَ الْعِلْمُ ... أَوْ لَمْ يَبْقَ فِينَا مِنْهُ رُوْحٌ وَلا جِسْمُ(1/168)
وَلَكِنْ بَقِيَ رَسْمُ من الْعِلْمِ دَارِسُ
وَعَمَّا قَلِيلٍ سوف يَنْطَمِسُ الرَّسْمُ
فَآنَ لَعَيْنٍ أَنْ تَسِيلَ دُموعُها
وَآنَ لِقَلْبٍ أَنْ يُصَدِّعَهُ الْهَمُّ
فَإنَّ بِفَقْدِ العِلْمِ شَرًّا وَفَتْنَةً
وَتَضْيِيعَ دِينٍ أَمْرُهُ وَاجبٌ حَتْمُ
وَمَا سَائِرُ الأَعْمَالِ إلا ضَلالَةٌ
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِينَ بِهَا عِلْمُ
وَمَا النَّاسُ دُونَ الْعِلْمِ إِلا بِظُلْمَةٍ
مِنَ الْجَهْلِ لا مِصَباحَ فِيهَا وَلا نِجْمُ
فَهَلْ يُهْتَدَى إِلا بِنَجْمِ سَمَائِهِ
إِذَا مَا بَدَا مِنْ أُفْقِهِ ذَلِكَ النَّجْمُ
فَهَذَا أَوَانُ القبْضِ لِلْعِلْمِ فَلَينُحْ
عليه الذي في الْحُبِّ كَانَ لَهُ سَهْمُ
فَلَيْسَ بِمُبْقِي الْعِلْمِ كَثْرةُ كُتْبِهِ
فَمَاذَا تَفِيدُ الْكُتْبُ إِنْ فَقَدَ الْفَهْمُ؟
وَمَا قَبْضُهُ إلا بِمَوْتِ وُعَاتِهِ
فقبضُهُمُ قَبضٌ لَهُ وَبِهمْ يَنْمُو
فَجِدَّ وَأدِّ الْجَهْدَ فِيهِ فَإِنَّهُ
لِصَاحِبِهِ فَخْرٌ وَذُخْرٌ بِهِ الْغُنْمُ
فَعَارٌ عَلَى الْمَرْءِ الذي تَمَّ عَقْلُهُ
وَقَد أَمَّلَتْ فِيهِ الْمُرُوءةُ والْحَزْمُ
إِذَا قِيلَ مَاذَا أَوْجَبَ اللهُ يَا فَتَى؟(1/169)
أجابَ بلا أدْرِي وأنَّى لِي الْعِلْمُ
وَأَقْبَحُ مِنْ ذَا لَوْ أَجَابَ سُؤالَه
بِجَهْلٍ فإنّ الْجَهْلَ مَوْدِدٌ وَخْمُ
أَيَرْضَى بأنَّ الْجَهْلَ مِنْ بَعْضِ وَصْفِهِ
وَلَوْ قِيلَ يَا ذَا الْجَهْلِ فارَقَهُ الْحِلْمُ
فَكَيْفَ إِذَا مَا البَحْثُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ
جَرَى وَهُوَ بَيْنَ الْقِوْمِ لَيْسَ لَهُ سَهْمُ
تَدُورُ بِهمْ عَيْنَاهُ لَيْسَ بِنَاطِقٍ
فَغَيْرَ حَرِيٍّ أَنْ يُرَى فَاضِلاً فَدْمُ
وَمَا الْعِلْمُ إِلا كَالْحَيَاةِ إِذَا سَرَتْ
بِجْسِمٍ حَيَا وَالْمَيْتُ مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ
وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ مِدْحةٍ لَهُ
يَكَادُ بِهَا ذُو الْعِلْمِ فَوْقَ السُّهَى يَسْمُو
وَكَمْ خَبَرٍ في فَضْلِهِ صَحَّ مُسْنَدًا
عَنْ الْمُصْطَفَى فَاسْأَلْ بِهِ مَنْ لَهُ عِلْمُ
كَفَى شَرَفًا لِلْعِلْمِ دَعْوَى الوَرَى لَهُ
جَمِيعًا وَيَنْفِي الْجَهْلَ مِن قُبْحِهِ الفَدْمُ
فَلَسْتُ بِمُحْصٍ فَضْلَهُ إِنْ ذَكَرْتُهُ
فَقَدْ كَلَّ عَنْ إحصائِهِ النَّثْرُ وَالنَّظْمُ
فَيَا رَافِعَ الدُّنْيَا عَلَى الْعِلْمِ غَفْلَةً
حَكَمْتَ فَلَمْ تُنْصِفْ وَلَمْ يُصِبِ الْحُكْمُ
أَتَرْفَعُ دُنْيَا لا تُسَاوِي بَأسْرِهَا
جَنَاحَ بَعُوضٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ يا فَدْمُ(1/170)
وَتُؤثِرُ أَصْنَافَ الْحُطَامِ عَلَى الذِي ... بهِ العِزُّ في الدَّارَيْنِ وَالْمُلْكُ والْحُكْمُ
وَتَرغَبُ عَنْ إرْثِ النَّبِيينَ كُلِّهمْ ... وَتَرْغَبُ في مِيرَاثِ مَنْ شَأْنَهُ الظُّلْمُ
وَتَزْعُمُ جَهْلاً أَنَّ بَيْعَكَ رَابِحٌ ... فَهْيَهَاتَ لَمْ تَرْبَحْ ولَمْ يَصْدُقِ الزَّعْمُ
أَلَمْ تَعْتَبِرْ بالسَّابِقِينَ؟ فَحَالُهُمْ ... دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الأَجَلَّ هُوَ الْعِلْمُ
فَكَمْ قَدْ مَضَى مِنْ مُتْرَفٍ مُتَكَبِّرٍ ... وَمِنْ مَلِكٍ دَانَتْ لَهُ الْعُرْبُ والْعَجْمُ
فَبَادَوا فلمْ تَسْمَعْ لَهُمْ قَطُّ ذَاكِرًا ... وَإِنْ ذَكَرُوا يَوْمًا فَذَكَرَهُمْ الذَّمُ
فَكُنْ طَالِبًا لِلْعِلْمِ حَقَّ طِلابِهِ ... مَدَى الْعُمْرُ لا يُوهِنُكَ عَنْ ذَلِكَ السَّأمُ
وَهَاجِرْ لَهُ فِي أَيَّ أَرْضٍ وَلَوْ نَأتْ ... عَلَيْكَ فَإعْمَالَ الْمَطِيِّ لَهُ حَتْمُ
وَأَنْفِقْ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهِ فَمَنْ يَمُتْ ... لَهُ طَالِبًا نَالَ الشَّهَادَةَ لا هَظْمُ
فَإِنْ نَلْتَهُ فَلْيَهْنِكَ الْعِلْمُ إِنَّهُ ... هو الغَايةُ العُلْيَاءُ واللَّذَةُ الْجِسْمُ
دا
جدا(1/171)
فَلِلَّهِ كَمْ تَفْتَضُّ مِنْ بِكْرِ حِكْمَةٍ
وَكَمْ دُرَّةٍ تَحْظَى بِهَا وَصْفَهَا اليُتْمُ
وَكَمْ كَاعِبٍ حَسْنَاءَ تكشِفُ خِدْرَهَا
فَيُسْفِرُ عَنْ وَجْهٍ بهِ يَبْرأُ السُّقْمُ
فَتَلْكَ التِي تَهْوَى ظَفِرْتَ بِوَصْلِهَا
لَقَدْ طَالَ مَا فِي حُبِّهَا نَحَلَ الْجِسْمُ
فَعَانِقْ وَقَبَّلْ وَارْتَشِفْ مِنْ رُضَابِهَا
فَعَدْلُك عن وَصْلِ الْحَبِيبِ هُو الظُّلْمُ
فَجَالِسْ رُواةَ الْعِلْمِ واسْمَعْ كلامَهُمْ
فَكَمْ كَلْمٍ مِنْهُمْ بِهِ يَبْرَأُ الكَلْمُ
وَإنْ أَمَرُوا فَاسْمَعْ لَهُمْ وَأَطِعْ فهُمْ
أُولُوا الأَمْرِ لا مَنْ شَأْنُهُ الْفَتْكُ والظُّلْمُ
مَجَالِسُهُمْ مِثْلُ الرِّيَاضِ أَنِيقَةٌ
لَقَدْ طَابَ مِنْهَا اللوْنُ وَالرِّيح وَالطَّعْمُ
أَتْعَتْاضُ عَنْ تِلْكَ الرِّيَاضِ وَطِيبهَا
مَجَالِسَ دُنْيَا حَشْوُهَا الزُّورُ والإِثْمُ
فَمَا هِي إِلا كَالْمَزَابِلَ مَوْضِعًا
لَكُلِّ أَذَىً لا يُسْتَطَاعُ له شَمُّ
فَدُرْ حَوْلَ قَالَ اللهُ قَالَ رَسولُهُ
وَأَصْحَابُهُ أَيْضًا فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ
وَمَا الْعِلْمُ آراءُ الرِّجَالَ وَظنُّهُمْ
أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ الظَّنَّ مِنْ بَعْضِهِ الإِثْمُ(1/172)
وَكُنْ تَابِعًا خَيْرَ القُرُونِ مُمَسِّكًا
بآثَارِهِمْ فِي الدِّينِ هذا هُوَ الْحَزْمُ
وَصَلِّ إِلهَ الْعَالَمِينَ مُسَلِّمًا
عَلَى مَنْ بِهِ للأنْبِيَاءِ جَرَى الْخَتْمُ
كَذَا الآلِ والأَصْحَابِ مَا قَالَ قائلٌ
عَلَى الْعِلْمِ نَبْكِي إِذْ قَدِ انْدَرَسَ الْعِلْمُ
والله أعلُم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة: عبادَ اللهِ انْتَهزوا فُرَصَ الزَّمَانْ، قبل تعذر الإمكان قَبْلَ أَنْ تنقل من اسْمِ مَازَال إلى خَبَرَ كَانَ، فَانْتَبِهْ يَا مَنْ نظنه صَاحٍ وإذا هو سكران.
فَمَا كلُ حينٍ مُمْكِنُ الفوَز بالْمُنَى ... ولا كُلُ وَقْتٍ يُرْفَعُ الْحُجْبُ لِلْعَبْدِ
عَبادَ الله كيفَ يَثِقُ بالْحَيَاةِ مِنْ الْمَنَيَّةُ تَقْفُوا إِثْرَهُ وَتَقِفُ لَهُ في دَرْبِهْ، كَيْفَ يَرْجُو رَاحَةَ الدنيا من لا رَاحَةَ لَهُ دُونَ لقاء رَبِّه.
تالله لو كانت الدنيا صافية المشارب من كل شائب مُيَسَّرَةَ المطالب لكُل، طالب باقيةً علينا لا يسلبها منا سالب، لكانَ الزاهد فيها هو اللبيب الصائب، لأنها تشغل عن الله والنِّعَمُ إذَا أشْغَلَتْ عن المنعم كانت من المصَائب.
أيا رَاضِعَ الدنيا انْفَطِمْ عَنْ رِضَاعِهَا ... فَقَدْ آنَ تَنْهَاكَ عَنْهَا الشَّوائِبُ
أَلا عَامِلٌ فِيهَا لَيُنْقِذَ نفسَه ... ألا مُؤْمِنٌ فيها سَيَخْلُد راغِبُ
أَلا آسِفٌ ذُو لَوْعَةٍ وَتَحَرُّقٍ ... أَلا نَائِحٌ في مأْتَمِ الْحُزْنِ نَادِبُ
أَلا مُذْنِبٌ مُسْتَغْفِرٌ مِنْ ذُنُوبِهِ ... أَلا خَائِفٌ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ رَاهِبُ
أَلا خَاشِعٌ خَوْفًا مِنَ الله خَاضِعُ ... أَلا نَاحِلٌ شَوْقًا إِلى اللهِ ذَائِبُ
سَتَلْقَونَ مَا قَدَّمْتُمُوا اليَومَ في غِدٍ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا هُو كَاسِبُ(1/173)
اللَّهُمَّ يا سامِع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا مَن لا تشتبهُ عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، ويا واضع البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنتَ الغفور الرحيم. اللَّهُمَّ امنَنْ علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينكَ اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادُنَا، واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينِ.
الفَصْلُ التَّاسِعُ في الإِخْلاصِ والنِّيَّةِ
اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَشُوبَهُ غَيْرُه فَإِذَا صُفِّيَ عَنْ شَوبِهِ وَخَلَصَ عَنْهُ سُمِّيَ خَالِصًا، وَيُسَمَّى الفِعلُ الْمُصَفَّى الْمُخْلَصَ إخْلاصًا. قَالَ الله تعالى: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} فَإنَّما خُلُوصُ اللبَنِ أَنْ لا يَكُونَ فِيهِ شَوْب من الدَّمِ والفَرْثِ وَمِنْ كُلِّ ما يُمْكنُ أَنْ يُمْتَزَجُ بِهِ وَالإِخْلاصُ يُضَادُّهُ الإِشْرَاكُ، الْمُخْلِصُ الصادقُ هُوَ الذِي لا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كلُّ قَدْرٍ له في قلوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ إِصْلاحِ قَلْبِهِ ولا يُحِبُّ إطْلاعَ الناسِ عَلى أعْمَالِهِ.
وقَالَ حُذَيْفَةُ الْمَرْعَشِي رَحِمَهُ اللهُ: الإِخْلاصُ: أَنْ تَسْتَوِيَ أَفْعَالُ الْعبدِ فِي الظَّاهِر والباطِنِ. وقَالَ غَيْرُهُ: الإِخْلاصُ: إفْرَادُ الحقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بالطَّاعَةِ بالْقَصْدِ. وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِطاعتِهِ التقرُّبَ إلى اللهِ تَعَالى دونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ أَوْ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ الناسِ أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ مَعْنَى مِن الْمَعانِي سِوىَ التقرُّبِ إلى اللهِ.
وقَالَ آخر: نَظَرَ الأكياسُ في تفسيرِ الإخْلاصِ فَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَ هَذَا أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ وَسكونُهُ في سِرِّهِ وَعلانِيَّتِهِ للهِ تَعَالى لا يُمَازِجُهُ نَفْسٌ ولا هَوَىً ولا دُنْيَا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإخْلاصُ التَّوَقِّي عَنْ مَلاحَظَةِ الْخِلْقِ،(1/174)
والصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَاوَعَةِ النَّفْسِ فالمخلصُ لا رِياءَ لَهُ، والصَّادِقُ لا إِعْجَابَ لَهُ.
وقَالَ آخر: ثَلاثٌ مِنْ علاماتِ الإخْلاص: اسْتواءُ الْمَدْحِ والذَّمِّ مِنَ العَامَة، ونِسْيَانُ رؤيةِ الأَعْمَالِ في الأعمالِ، واقتِضَاءُ ثوابِ العمل في الآخرة. وقد وَرَدَ في فَضْلِ الإخلاصِ آياتٌ وَأَحاديُث، قَالَ الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقَالَ: {أََلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، وقَالَ تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ} ، وقَالَ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وقَالَ: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} .
وَأَخْبَرَ تَعَالى عَمَّا قَالَهُ الْمُخْلِصُونَ مِنْ عِبَادِهِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} ، وقَالَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
وقَالَ تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْر الْمُعْتَمِرِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ومَنْ خَرَجَ غَازِيًا في سَبِيلِ الله فماتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرِ الْغَازِي إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
وَعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فارقها وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ» . رَوَاهُ ابنُ ماجة، والحاكمُ وقَالَ: على شَرْطِ الشيخين.(1/175)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدَرِيّ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ في حَجَّةِ الوَدَاع: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ ليس بَفْقَيهٍ، ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امرئ مؤمن: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، والَمُنَاصَحَةُ للأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَّعْاءهم محِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» . رواه البزَّارُ بإسنادٍ حَسَنٍ، ورواهُ ابنُ حِبَّانِ في صحيحِهِ مِنْ حديثِ زَيْدِ بن ثابتٍ.
وعن مُصْعَبِ بن سعدٍ عن أبيه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه ظَنَّ أنَّ لَهُ فَضْلاً على مَنْ دونَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِه الأمةَ بضَعِيفها بدعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإخلاصِهِمْ» . رَوَاهُ النسائي وغيرُه.
وما وردَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
إِذَا شِئتَ أَنْ تُدْعَى كَرِيمًا مُهَذَّبًا ... تَقِيًّا سَرِيًّا مَاجِدًا فَطِنًا حُرًّا
فَكُنْ مُخْلِصًا للهِ جَلَّ جَلالُهُ ... وَكَنْ تَابِعًا لِلْمُصْطَفَى تُحْرِزِ الأَجْرَا
وَإِنْ مَا بَدَا مِنْ صَاحِبٍ لَكَ زَلَّةٌ ... فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالاً لِزَلَّتِهِ عُذْرَا
آخر:
جُرُوحُ الْمَعَاصِي لِلْفُؤادِ تُذِيبُ ... وَلَيْسَ سِوَى تَقْوَى الإِلهِ طَبِيبُ
وَحَسْبُكَ أَنْ تُخْلِصْ لَمْنَ خَلَقَ الوَرَى ... وَتَسْأَلَهُ دَوْمًا لَعَلَّ يُجِيبُ
وَعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْمَرَضُ» . وفي رواية: «إِلا شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وفي روايةٍ: «حَبَسَهُمْ الْعُذرُ» .(1/176)
وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ خُسِفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» . رواه البخاري.
وفي حديث سَعْدٍ بن أبي وقاص أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: «إِنَّكَ لَنْ تُخلفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تبتغي به وجه الله إِلا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً» . الحَدِيثِ. وعن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري قَالَ: سُئِلَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: فلان جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.(1/177)
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُ به وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» .
وفي الصحيحينِ مِنْ حَديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» ، وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنْصارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ مَثَلُ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالا وََهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ» . قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِيهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ مَالاً وَلَم يُؤْتِهِ عِلْمًا يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ» . قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ» .
وقَالَ عُمرُ: رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللهُ تَعَالى، والوَرَعَ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى، وَصَدَقَ النَّيَةِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دُلُّوني على عَمَلٍ لا أَزَالُ بِهِ عَامِلاً لله تَعالى فَقِيلَ لَهُ: انو الخيرَ فإنكَ لا تَزَالُ عاملاً وَإنْ لَمْ تَعْمَلْ، فالنيةُ الصَّالِحَةُ بِعَمَلِ وإن عُدِمَ العَمَلُ لِعُذْرٍ(1/178)
شَرْعِي، فإنَّ مَنْ نَوى أَنْ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَنَامَ كُتِبَ لَهُ ثَوَابَ مَا نَوى أَنْ يَفْعَلَهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «ما مِنْ رجلِ يكونُ لهُ سَاعَةً من اللَّيلِ يَقُومُهَا فَيَنَامُ عَنْهَا إِلا كُتِبَ لَهُ أَجْرَ صَلاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً تُصُدِّقَ بِهِ عَليهِ» فَالْمَرْءُ مَا دَامَ قَدْ أَسْلَم وَجْهَهُ للهِ وأخلصَ نِيَّتَهُ لله فإنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَنَوْمَاتِهِ وَيَقْظَاتِهِ تُحْسَبُ خَطَوَاتٍ إلى مَرْضَاةِ اللهِ.
قَالَ بَعضُ السلفِ: إنِّي لأَسْتَحِبُ أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نيةُ حَتَّى في أكلي وَشُرْبِي وَنَوْمِي وَدُخُولِ الْخَلاءِ وفي كلِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أن يُقْصَد بِهِ التقربَ إلى اللهِ تَعَالى لأَنَّ كُلَّ مَا هُو سَبَبٌ لِبَقَاء البَدَنِ وَفََرَاغِ القلبِ مِنَ مُهِمَّاتِ الدينِ فَمْنْ قَصَدَ مِنْ الأَكْلِ التَّقَوِّي علَى العبَادَة ومن النكاح العَفَافَ وَتَحْصِينَ الدين وَتَطَييبَ قَلْبِ أهلِهِ والتَّوصُّل إلى وَلَدٍ يَعْبُدُ الله بَعْدَهُ أُثِيبَ على ذلك.
وَلا تَحْتَقِرْ شَيْئًا مِنْ حَرَكَاتِكَ وَسَكَنَاتِكَ فَصْلاح النِّيَّةِ وَإخْلاصُ القلبِ لِرَبِّ العالمينَ يَرْفَعَانِ مَنْزلَةَ العَمَلِ الدُّنْيَوي البَحْتِ فَيَجْعَلانِهِ عِبَادَةً مُتَقَبَّلَةً كَمَا أَنْ فَسَادَ النِّيَّةِ يَنْزلُ بالطَّاعَاتِ وَتَنْقَلِبُ مَعَه مَعَاصِي فلا يَنَالُ المرء بَعْدَ التَّعَب في أدَائِهَا إِلا الْفُشَلُ وَالْخَسَارَة.
اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا واسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِر واسترْ عَلَيْنَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِر ولا تُخلِنَا في مَوْقَفِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرانِكَ وَلا تَتْرُكْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإحْسَانِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابن القيم رحمه الله: لا يَجْتَمِعُ الإخلاصُ في القلبِ وَمَحَبَّةُ الْمدحِ والثَّنَاءِ والطَّمَعِ فِيمَا عِنْدَ الناسِ إِلا كَمَا يَجْتَمِع الْمَاءُ والنارُ(1/179)
والضبُ والحوتُ، فإذا حَدَثَتْكَ نَفْسُكَ بطلَبِ الإخلاصِ فَأقْبِلْ عَلى الطَّمَعِ أَولاً فَاذْبَحْهُ بِسِكينِ اليأسِ، واقبلْ على الْمدَحِ والثناءِ فازْهَدْ فِيهِمَا زُهْدَ عُشَّاقِ الدُّنْيَا فِي الآخرةِ، فإذا استقامَ لك ذَبحُ الطَّمعِ والزهدُ في الثناءِ والمدحِ سَهُلَ عَلَيْكَ الإخْلاصُ فإن قلتَ: وما الذي يُسَهِّلُ عَلَيَّ ذَبْحَ الطَّمَعِ والزُّهْدَ في الثناءِ والمدحِ قلتُ: أمَّا ذَبْحَ الطَّمعِ فَيُسَهّلُهُ عَلَيْكَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ يَطْمَعُ فِيهِ إِلا وَبيدِ اللهِ وَحدَهُ خِزَانَتُهُ لا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ وَلا يُؤْتَى الْعَبْدُ منها شَيْئًا سِوَاهُ، وأما الزُّهْدُ في الثناءِ والْمدحِ فَيُسَهّلهُ عَلَيْكَ عِلْمُكَ أنَّهُ ليسَ أَحَدٌ يَنْفَعُ مَدْحُهُ وَيَزِينُ، وَيَضُرُّ ذَمُهُ وَيَشِينُ إلا اللهُ وَحْدَهُ، قَالَ ذلك الأعرابيُ للنَبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن مَدْحِي زَيْنٌ وَذَميِ شَيْنٌ، فَقَال النَبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذلكَ اللهٌ عَزَّ وَجَلَّ» .
فازهَدْ في مَدْحِ مَن لا يَزينُك مَدْحُهُ وفي ذَمِّ مَن لا يَشِينُكَ ذَمُّهُ، وارْغَبْ في مَدْحِ مَن كُل الزَّينِ في مَدْحِهِ وَكلُّ الشَيْنِ في ذَمِّهِ، ولن يَقْدرْ عَلى ذَلكَ إلا بالصَّبر واليَقينِ فَمَتَى فَقَدْتَ الصَّبْرَ واليقينَ كُنْتَ كَمَنْ أَرادَ سَفرًا في البَحْرِ في غَيْرِ مَرْكَبٍ، قَالَ الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ، وقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} .
وقد يَعْجَزُ عن عمل الخيرِ الذي يَتَمَنَّى فِعْلَهُ لِضَعْفِ بَدَنِه أو قِلَّةَ مَالِهِ ولكن اللهُ المطلعُ على السَّرَائِر اللطيفُ الخبيرُ يُثِيبُ الحَرِيصَ على فِعْلِ الخَيرِ كما في الحَدِيثِ إذا مَرِضَ العَبْدُ أو سَافَرَ كُتِبَ له ما كانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا.
وفي غزوةِ العُسْرَةِ تَقَدَّمَ إلى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجالٌ يُرِيدُون أنْ يُقَاتِلوا الكفارَ وأن يَجُودُوا بأنفُسِهم في سبيلِ اللهِ فقَالَ(1/180)
لهم النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أَجِدُ مَا أحْمِلُكُمْ عليه فعادُوا وفي حُلُوقِهِمْ غُصَّةٌ لِتَخَلُّفِهم عن ميدَانِ القِتَالِ في سبِيل اللهِ وفيهم نَزَلَ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} فَنَوَّهُ النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيمانِهِمْ وإخلاصِهِم وقَالَ لِلْجَيْشِ السّائِرِ مَعَه: «إن بالمدينةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُم مَسِيرًا ولا قَطعْتُمْ وادِيًا إلا كانُوا مَعَكُم» . الحديث. وَتَقدم قَرِيبًا.
اللَّهُمَّ أعْطِنَا مِن الخيرِ فوقَ مَا نَرْجوه واصْرف عَنا مِن السوءِ فوقَ مَا نَحْذر فإنكَ تَمحُو مَا تَشَاء وَتَثْْبت وعندك أُم الكِتاب.
اللَّهُمَّ واجعلنَا ممَّن يأخُذ الكِتاب باليمن، واجعلنَا يَوم الفزعِ الأَكْبَر آمِنين، وَأَوْصِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرمِكَ إِلى جَنَّاتِ النَّعِيمْ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى نَهْجِ الاسْتِقَامَةِ وَأَعِذْنَا مِنْ مُوجبَاتِ الحَسْرةِ وَالنَّدَامَةِ يَوْمَ القِيَامِة وَخَفِّفْ عَنَّا ثُقْلَ الأوزار، وَارْزُقَنَا عِيشَةَ الأَبْرَارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَميعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
الفَصْلٌ العاشر
وقَالَ ابن القيم رحمه الله: يَعْرِضُ لِلْعَامِل في عَمَلِهِ ثلاثُ آفاتٍ: رؤيتُهُ، وملاحظتُه، وطلبُ العَوَضِ عليه ورضاهُ بهِ وَسكونُهُ إليه. ففي هذه الدرجةِ يَتَخَلَّصُ مِن هَذِهِ البَلِيَّةِ. فالذي يُخَلِّصُه مِن رُؤَْيِة عَمَلِهِ مُشَاهَدَتُهُ لِمنَّةَ الله لا مشيئته هو، كما قَالَ تَعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وأنَّهُ آلةٌ مَحْضَة وأنه لَو خُلي وَنَفْسَه لم يكنْ مِن فِعْلِهِ الصَّالِح شَيءٌ، فإنَّ النَّفْسَ جَاهِلةٌ ظالِمةٌ طَبْعُهَا الكَسَلُ وإيثارُ الشهواتِ والبطالةُ، وهي مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍ ومأوى كُلِّ سُوءٍ، وما كانَ هَكَذَا لم يَصْدُرْ(1/181)
مِنهُ خَيْرٌ وَلا هُو مِن شَأْنِهِ فَالخَيرُ الذي يَصْدُرُ مِنها إِنَّمَا هُوَ مِن اللهِ وبِهِ، لا من العبد ولا بِهِ، كما قَالَ تعالى:
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} ، وقَالَ أهلُ الجنة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} ، وقَالَ تبارك وتعالى لرسوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} ، وقَالَ تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية.
فكلُ خيرٍ في العبدِ فهو مُجَرَّدُ فضلِ اللهِ وَمنَّتِهِ وإحسانِهِ وَهُوَ المَحْمُودُ عليهِ فرؤيةُ العبدِ لأَعْمَالِهِ في الحقيقةِ كَرُؤْيتهِ لِصفاتِهِ الخَلْقِيَّةِ مِن سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وإدْرَاكِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ مِن صِحّتِهِ وَسَلامَةِ أعضائِهِ ونحو ذلكَ، فالكلُ مُجَرَّدُ عَطَاءِ اللهِ وَنعمتِهِ وَفَضْلِهِ فالذي يُخَلِّصُ العَبْدَ مِن هذِهِ الآفةِ مَعْرِفَةُ رَبِّهِ وَمَعْرِفَةُ نَفْسِهِ.
والذي يُخَلِّصُهُ مِن طلبِ العِوَضِ على العملِ عِلْمُهُ بأنه عَبْدُ مَحْضٌ، والعَبْدُ لا يَسْتَحقُّ على خِدْمَتِهِ لِسَيّدَهِ عِوَضًا ولا أجْرَةَ، إذْ هُو يَخْدِمُهُ بِمُقْتَضي عُبُودِيَتِهِ، فَمَا يَنَالَه مِن سَيِّدِهِ مِن الأجر والثَوابِ تَفَضَّلٌ منه وإحسانٌ إليهِ وإنْعَامٌ عليهِ لا مُعَاوَضَةَ، إذِ الأُجْرَةُ إِنَما يَسْتَحِقُّهَا الحُرُّ أو عَبْدُ الغَيْرِ فأمَّا عَبْدُ نَفْسَهُ فلا. والذي يُخلِصُه مِنَ رِضَاهُ بِعَمَلِهِ وَسُكُونِهِ إِليهِ أَمْرَانِ. أَحدُهُمَا: مطالعةُ عُيُوبِهِ وآفاتِهِ وَتَقصيرِهِ فيه وما فيهِ مِن حَظِ النَّفْسِ والشيطانِ، فَقَلَّ عَمَلٌ مِن الأَعْمَالِ إلا ولِلشَّيْطَانِ فيه نَصِيب وإنْ قَلَّ وَلِلنَّفْسِ فيه حظ.
الثاني: عِلْمُهُ بما يَسْتَحِقُّهُ الربُّ جَلَ جَلالُه مِن حُقُوقِ العُبوديةِ وآدابِهَا الظاهرةِ وَالباطنةِ وشروطِهَا وأَنَّ العَبْدَ أضعفُ وأَعجزُ مِن أنْ يُوَفِيها(1/182)
حَقًا وأن يَرْضَى بِهِ لِربّهِ فالعَارِف لا يَرضَى بشيءٍ مِن عَمَلِه لِرَبِّه وَلا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَيَسْتَحِي مِن مُقَابَلَةِ اللهِ بِعَمَلِهِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُصَلِّي فِي اليوم واللَّيْلَةِ أَرْبَعْمائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلى لِحَيَتِهِ وَيَهُزُهَا وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ وهل رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ الْعَبْدِ رِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْ نَظَرَ إِلى نَفْسِهِ بَاسْتِحْسَانِ شيْءٍ مِنْها فَقَدْ أَهْلَكَهَا وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ على دَوَامِ الأَوْقَاتِ فهو مَغْرُورٌ. انتهى.
وَخِتَامًا فَعَلَى الْمُسْلِم الْمخلصِ أن يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ يَمْتَزِجَ بإخلاصِ عَمَلهِ شَيْءٌ آخرُ مِن رياءٍ أَوْ غَيرهِ كَمَنْ يَصُومُ لِيَنْتَفِعَ بالْحُمِيةِ الْحَاصِلةِ بالصَّوْمِ وَمَعَ قَصدِ التَّقربِ، أو يُعْتقَ رَقيقَهُ ليَتَخَلَّصَ مِنْ مَؤنَتِهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ، أَوْ يَحُجَّ لِيَصِحَّ بَدَنُه بِحَرَكَةِ السَّفَرِ أَوْ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ شَرٍّ يَعْرُضُ لَهُ بِبَلَدِهِ، أَوْ يَغْزُو لِيَتَمَرَّنُ عَلَى الْحَرْبِ وَيُمَارِسَها، أَوْ يَتَعَلم العِلْمَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ طَلَبَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمال، أو لِيَكونَ عَزيزًا بَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَعَشِرَتِهِ، أَوْ لِيَكُونَ مَالُهُ مَحْرُوسًا بِعِزِّ العِلْمِ عَن الأطمَاع، أَوْ عَادَ مَرِيضًا لِيُعَادَ إنْ مَرِضَ، أَوْ شَيَّعَ جَنَازةً لِيُشَيَّعَ جَنَائِزَ أَهْلِهِ، أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ بَالْخَيرِ وَيُذْكَرَ بِهِ وَيُنْظَرَ إِلَيْهِ بَعَيْنِ الصَّلاحِ والوَقَارِ، أَوْ تَصدقَ لِيُثْنَى عَلَيْهِ وَيقَالَ: أَنَّهُ كَرِيمٌ يَبْذُلُ الْمَالَ، أو قَامَ بِمَشَارِيعَ خَيْرِيَّةٍ لِيُثْنَى عَلَيْهِ فَكلُ هَذِهِ وَنَحْوَهَا مِن مُكَدِّرَاتِ صَفْوِ الإخلاصِ نَسْأَل اللهُ العصمةَ لَنَا ولإخْوَانِنَا مِنْهَا.
وَكَمْ مِنْ أَعْمَالِ يَتْعَبُ الشخصُ فِيها وَيَظُنُّ أَنَّهَا خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ، ويكونُ فِيها مَغْرُورًا لأنه لا يَرَى وَجْهَ الآفةِ فِيها، فَدقائقُ الآفاتِ قَلَّمَا تَسْلَمُ الأعمالُ منها.
قَالَ بعضُ السلفِ: لا يَزَالُ العَبْدُ بِخَيْرٍ ما عَلِمَ مَا الذي يُفْسِدُ عليهِ(1/183)
عَمَلهُ فلا غِنَى بالْعَبدِ عن مَعْرِفَةِ مَا أُمِرْنَا بَاتَّقَائِهِ مِن الرَّياءِ وَغَيْرِهِ وَلاسِيمَا الرَّيَاءُ إذْ وُصِفَ بالْخَفَاءِ فِي الْحَدِيثِ: أنه أخفَى مِن دَبِيبِ النَّملِ فَمَا خَفِيَ لا يُعْرَفُ إِلا بِشِدَّةِ التَّفَقُدِ وَنَفَاذِ البصيرةِ بِمَعْرِفَةٍ لَهُ حِينَ يَعْرُضُ وَإلا لَم يَنْفَعِ التفقدُ لِمَا لا يُعْرَفُ.
فَبالْخَوْفِ والْحذرِ يَتَفَقَّدُ الْعَبْدُ الرِّيَاءَ، وَبِمَعْرِفَتِهِ بِبَصَرِهِ حِينَ يَعْرِضُ لَهُ.
وَمِنْ فَوَائِد الإخلاصِ: أنه يَمُدُّ جَأْشَ صَاحِبه بِقُوَّةٍ فلا يَتَبَاطأَ أَنْ يَنْهَضَ لِلدّفاعِ عَن الْحَق.
وَمِنْ فَوَائِدِهِ: أنه يَشْرَحُ صَدْرَ صَاحِبِهِ للأنْفاقِ في وُجُوهُ البِرِ فَتَجدُهُ يَؤثِرُهَا بِجَانِبٍ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ. وَمِنَ فوَائِدِهِ أَنه: يُعَلِّم صَاحِبَه الزُّهْدَ في عَرَضِ الدُّنْيَا، فَلا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُنَاوِئَ الْحَقَّ أو يُلْبِسَه بِشَيْءٍ مِنْ البَاطِلِ، وَلَو أُعْطِيَ الشَّيْءَ الكثيرَ مِن الْمَال. وَمِنَ فوائِدِهِ: أَنه يَحْمِلُ القاضِي على تَحْقِيقِ النَّظَرِ في القَضَايَا فلا يَتَسَرَّع في القَضِيَّةِ وَيفْصِلُ فِيهَا إلا بَعْدَ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ. وَمِنَ فَوائِدِهِ: أنه يَحْمِلُ الْمُعَلِّمَ أنْ يَبْذِلَ جُهْدَهُ في إيضاحِ مَا خَفِيَ عَلَى التَّلْميذِ، وَأنْ لا يَبْخَلَ على الطلابِ بِمَا تَسَعُه أَفْهامُهُم مِن الْمَبَاحِثَ الْمُفِيدَةٍ. وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنْ الأَسْتَاذَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَسْلُك في طَرِيقَةِ التَّدرِيس ِالأَسَالِيبَ التي تُجَدِّدُ نَشَاطَهُمْ وَتَحْفِزُهُمْ إلى التَّعَمُقِ في الْمَسَائِل.
وَمِنَ فوائِدِ الإخلاصِ: أنه يَمْنَعُ التاجِرَ مِنْ الْخِيانَةِ فلا يَخُونُ الذي يأتمنُه في صِنْفٍ مِن أَصْنَافِ البِضَاعَةِ، أَوْ قِيمَتِهَا. وَمِنَ فوائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى إِجَادَةِ الْعَمَلِ وَأَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا فِيهِ وَمِن فوائِدِهِ: أنه يَمْنَعُ الكاتبَ أَنْ يَقْلِبَ بَعْضَ الْحَقَائِقِ أَوْ يَكْسُوهَا لونًا غَيْرَ لَوْنِهَا. وَمِنَ فوائدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَه عَلَى تَجَنُّبِ الغِشِّ فَكُلُّ غَشاشِ فهو(1/184)
ليسَ بِمُخْلِصٍ، وَتَقَدَمَ حَدِيثُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَمِنَ فَوَائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى الوَفَاءِ بَالْعَهْدِ وَالْوَعْدِ، وَمِنَ فَوَائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَمَلَهُ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ سَوَاء.
وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى تَنْظِيمِ أعمَالِهِ. ومِنْ فوائِدِهِ: أَنَّ الْمُتَّصِفَ به يكونُ مُقَدَّرًا مَرْمُوقًا بَعْينِ الاحْتِرَامِ وَالإجْلالِ، وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى الابْتِعَادِ عن الرِّشَوةِ، وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ والعَقدْ وَزِيرًا أَوْ رَئِيسًا أَوْ مُدِيرًا أَنْ يَتَحَرَّى للأعْمَالِ الأتقَى والأرضى، الذي تُوجَدَ فِيهِ الْمُؤهلاتُ حَقيقةً، وَهيَ القوةُ والأمانةُ والْحفظُ والعلمُ. عاملاً بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى عِصَابَةٍ وَفِيهم مَن هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ الله وَرَسُولَهُ والْمُؤْمِنين» . وَمِنَ فوائِدِهِ: أَن العَمَل الْخَالِصَ الَقَلِيل مِنْهُ يَجْزِي كَمَا في حَدِيثِ معاذٍ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَخلِصْ العَمَلَ يُجْزِكَ مِنْهُ الْقَلِيلُ» . قَالَ بَعْضُهم:
أَنا الزَّعِيمُ لِمَنْ يُخْلِصْ لِخَالِقِهِ ... وَيَعْمَلَ الصَّالِحَات أَنْْ يُحْرزَ الرَّشَدَا
آخر:
وَأحْسَنُ وَجْهٍ في الوَرَى وَجْهُ مُخْلِصٍ ... لِمَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءَ رَبِّ البَرِيَّةِ
وَأَيْمَنُ كَفِ في الوَرَى كَفُ مُحْسِنٍ ... يُرِيدُ رِضَى الْخَلاقِ نِعْمَ الإِرَادَة
آخر: ... وَإِذَا افْتَقَرْتَ إلى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ ... ذُخْرًا يَكُونَ كَصَالح الأَعْمَالِ
آخر: ... وَاللهُ لا يَرْضَى بِكَثْرِةِ فِعْلِنَا ... لَكِنْ بَأَحْسَنِهِ مَعَ الإِيمَانِ
فالعَارِفُونَ مُرَادُهُم إِحْسَانَهُ ... وَالْجَاهِلُونَ عَمُوا عَن الإِحْسَانِ
وَمِنَ فَوَائِدِ الإِخْلاصِ: أَنَّ العَبْدَ لا يَتَخَلَّصُ مِن الشَّيْطَانِ إلا بالإِخْلاصِ، قَالَ اللهِ إِخْبَارًا عَمَّا قَالَه إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، وَمِنَ فَوَائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يُمِيِّزُ العَمَلَ مِن العُيُوبِ كَتَمْيِيزِ نَفْسَهُ وَيُجِمُّهَا لِلْعَمَلِ لِيَتَقَّوَى عَلَى العِبَادة يكونُ نَوْمُهُ عِبَادَةً.(1/185)
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة) : عِبَادَ اللهِ أَخْلِصُوا في أَعْمَالِكُمْ كُلَّهَا لا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ سَوَاءٌ أَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِخَلْقِ اللهِ، وَسَواءٌ أَكُنْتُم بَيْنَ الْخَلْقِ وأنتمُ تَعْمَلُونَ أَمْ كُنْتُمْ في مَحَلٍ خَفِي لا يَرَاكُم إلا اللهُ والكرامُ الكاتبونَ، وَسَواءٌ أَكنتُم في سَرَّاءَ وَقْتِ العَمَلِ أَمْ في ضَرَّاءَ.
ذَلِكَ الإِخْلاصُ هو أَنْ تَعْمَلَ العَمَلِ الصَّالِحَ لا تُريدُ جَزَاءً عَليهِ إِلا مِن اللهِ يَكُونُ ذَلِكَ قَصْدُكَ قبلَ العَمَلِ وَحَينِ مُبَاشَرَتِهِ وَبَعدَ الفَرَاغِ مِنْهُ لا تَذْكُرُهُ بِلِسَانِكَ إلا مِن بَابِ التَّحَدُّثِ بِنَعَمِ اللهِ أَوْ لِيَقْتَدِي بِكَ غَافِلٌ مُتَّبعٌ لِهَوَاهُ، بِهَذَا يَكُونُ الْعَمَلُ عِبَادَةً حَقًّا وَتَكُونَ أَنْتَ مِن العَابِدينَ وَبِهَذَا يَثْمِرُ عَمَلُكَ القَبُولَ عندَ رَبِّكَ وَعِنْدَ الناسِ، وَبِهَذَا تَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ لأَنْ وَلِيَّكَ حِينَئِذٍ يَكُونَ مَوْلاكَ الَقَوِيُّ الْمَتِينُ وبهذا تكونُ مِنْ أَهْلِ الكَرَامَةِ في هَذه الدار وفي دَار الْجَزَاءِ.
شعرًا:
لِلهِ دَرُّ نُاسٍ أَخْلَصُوا العَمَلا ... عَلَى اليَقِين وَدَانُوا بالذي أُمِرُوا
أَوْلا هُمُوا نِعَمًا فَازْدَادَ شُكْرهُمُوا ... ثُمَّ ابْتَلاهُم فَأرْضوْهُ بِمَا صَبَرُوا
وَفَّوْا لَهُ ثُمَّ وَافَوْهُ بِمَا عَمِلُوا ... إِذًا سَيُوفِيهُموا إِذَا نُشِرُوا
آخر:
عَلَيْكَ بإخلاصِ العِبَادَةِ لِلَذِي ... لَهُ نِعَمُ لا تَنْحَصِي وَفَضَائِلُ
آخر:
إِذَا قِيلَ أَي النَّاس خَيْرٌ فَقُلْ لَهُمْ ... عِبَادٌ لِمَوْلاهُمْ أَنَابُوهُ وَأَخْلَصُوا
أَمَّا إِذَا عَمِلْتَ العَمَلَ الصَّالِحَ لِيُقْبِلَ عَلَيْكَ النَّاسُ وَيَقُولُوا إِنَّكَ مِنْ الصَّالِحِينَ فأنتَ إِذًا تكونُ مُرَائِيًا لا تُخْلِص العَمَلَ بَلْ تَشْركْ مَعَه النَّاظِرينُ فتكونُ في دَعْوَى تَمْحِيصِِ العملِ للهِ تَعالى لَسْتَ بَصَادِقٍ بَلْ مِنْ الكاذبين.
وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونَ حَالُ مَنْ يَكْذِبُ عَلى مَنْ لا تَخْفَى عليهِ خَافيةٌ،(1/186)
لا في الأرضِ ولا في السماءِ، إن الْمُرَائِيَ مَهْمَا أَخْفَى رِيَاءَهُ يُظْهِرُ اللهُ تعالى ما فِي قَلْبِهِ لِلْعَالِمِينَ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلا منفذٌ لأَخَرَجَ الله عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» .
وَلِذَلِكَ يَكُونُ لأعمالِ الْمُرَائِي مِن السَّمَاجَةِ في نُفُوسِ الناسِ مَالاً يَحْكِيهِ اللَّسَانُ وَلِهَذَا يَكُونُ مَرْذُولاً ثَقِيلاً عِنْدَ النَّاسِ، وَمِنْ هَذَا تَرَاهُ يَتَوَدَّدُ إلى النَّاسِ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَنُفُورُهُمْ عنه عِبْرَةٌ عند العقلاء، ثم هو عندَ اللهِ أَسْوأُ حَالاً خصوصًا في اليومِ الذي يَشِيبُ فيه الأطفالُ فقد يُُؤْمَرُ بِهِ إِلى النَّارِ وَلَهُ مِنَ الأَعْمَالِ أَمْثَالَ الْجِبَالِ لكنَّهَا لِمَّا لَمْ يُرْد بِهَا وَجْهَ اللهِ خَالِصَةً صَارَتْ وَبالاً عَلَيْهِ نَعوذُ باللهِ مِن الرِّيَاءِ.
وَقَدِّم أَحاديثَ الرَسولِ وَنَصُّهُ ... عَلى كُلِّ قَولِ قَد أتى بِإِزّائِهِ
فَإِن جاءَ رأيٌ لِلحَديثِ مَعارِضًا ... فَلِلرّأي فَاِطرَح وَاِستَرِح مِن عَنائِهِ
فَهَل مَعَ وُجودِ البَحرِ يَكفي تَيِّمِمٌّ ... لِمَن لَيسَ مَعذورًا لدى فُقَهائِهِ
وَهَل يوقِدُ الناسُ المَصابيحَ لِلضِيا ... إِذا ما أَتى ردأ الضُحى بِضِيائِهِ
سَلامي عَلى أَهلِ الحَديثِ فَإِنَّهُم ... مَصابيحُ عِلمٍ بَل نُجومُ سَمائِهِ
بِهِم يَهتَدي مَن يَقتَدي بَعُلومِهِم ... وَيَرقى بِهِم ذو الداءِ عِلَّةِ دائِهِ
وَيَحيى بِهِم مَن ماتَ بِالجَهلِ قَلبَهُ ... فَهُم كَالحَيا تُحي البِقاعِ بِمائِهِ
لَهُم حَللٌّ قَد زَيَّنَتْهُمْ مِنَ الهُدَى ... إِذا مَا تَرَدَّى ذُو الرَدَى بِرِدائِهِ
وَمَن يَكُن الوَحيَ المَطَهَّرُ عَلَمَهُ ... فَلا رَيبَ في تَوفيقِهِ وَاِهتِدائِهِ
وَما يَستَوي تالي الحَديثِ وَمَن تَلا ... زَخارِفَ مِن أَهوائِهِ وَهَذائِهِ
وَكُن راغِباً في الوَحيَ لا عَنهُ راغِباً ... كَخابِطِ لَيلٍ تائِهٍ في ردُجائِهِ
إِذا شامَ بَرقَ في سَحابٍ مَشى بِهِ ... وَإِلا بقي في شَكَّهِ وَاِمتِرائِهِ
وَمَنْ قَالَ ذَا حِلٌّ وهَذَا مُحَرَّمٌ ... غير دَليلٍ. فهو مَحْضُ افترائِهِ(1/187)
وَكُلُّ فَقيهٍ في الحَقيقَةِ مُدَّعٍ ... وَيَثِبُ بِالوَحيَينِ صِدقَ اِدِّعائِهِ
هُما شاهَدا عَدلٍ وَلَكِن كِلاهُما ... لَدى الحُكمِ قاضٍ عادِلٍ في قَضائِهِ
فَوا حَرَّ قَلبي مِن جَهولٍ مُسَوَّدٍ ... بِهِ يُقْتَدَى في جَهلِهِ لِشَقائِهِ
يَرى أَنها دَعوى اِجتِهادٍ صَريحَةٍ ... فَواعَجَبًا مِن جَهلِهِ وَجَفائِهِ
فَسَلهُ أَقول اللَهِ ماذا أَجَبتُمُ؟ ... لِمَن هُوَ يوم الحَشرِ عِندَ نَدائِهِ
أَيَسأَلُهُم ماذا أَجَبتُم مُلوكَكُم؟ ... وَما عَظمُ الإِنسانِ مِن رُؤَسائِهِ
أَمِ اللَهُ يَومَ الحَشرِ يَمتَحِنُ الوَرى ... بِماذا أَجابوا الرُسُلَ مِن أَنبِيائِهِ
إِذا قُلت قَولَ المُصْطَفَى هُوَ مُذهَبِيٌّ ... مَتى صَحَّ عِندي لَم أَقُل بِسَوائِهِ
وَهَل يَسألُ الإِنسانَ عَن غَيرِ أَحمَدٍ ... إِذا ما ثَوى في الرَمسِ تحتَ تُرابِهِ
وَهَل قَولُهُ يا رَبِّ قَلَّدتَ غَيرَهُ ... لَدى اللَهِ عُذرٌ يَومِ فَصْلِ قَضائِهِ
فَهَيهاتَ لا َغنى الفَتى يَومَ حَشرِهِ ... (سِوى حُبِّهِ رَبّ الوَرى وَاِتِّقَائِهِ)
(وَحُبِّ رَسُولِ اللهِ بَل كلِّ رُسلِهِ ... وَمَنْ يَقْتِفَي آثارَهُمْ باهْتِدَائِهِ)
اللَّهُمَّ نُوِّرْ قُلُوبَنَا وَاجْعَلِ الإِيمَانَ لَنَا سِرَاجًا وَلا تَجْعَلَه لَنَا اسْتِدْرَاجًا وَاجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إلى جَنَّتِكَ وَلا تَجْعَلَهُ لَنَا مَكْرًا مِنْ مَشِيئَتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الْحَلِيمُ. اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الفَصْلٌ الحادي عشر
في محاسبة النفس
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه يَجِبُ على الإنسان أولاً:(1/188)
أن يَعلمَ أنه عبدٌ مَرْبُوبٌ لا نَجَاةَ لَهُ إلا بِتقوى اللهِ وَلا هلاكَ عليه بَعْدَهَا، ثم يُفَكِّرُ (لأي شيءٍ خَلَقهُ ُاللهُ ولِمَا خَرَجَ فِي هَذِهِ الدَّارِ الفانية فَيَعْلَمَ أنه لم يُخْلَقْ عَبْثًا كما قَالَ الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} ، وقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} وإنِّما وُضِعَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلْبَلْوَى وَالاخْتَِبَارِ هَلْ يَطِيعُ رَبَّهُ فَيَنْتَقِلْ إلى دَارِ نَعِيمٍ أَبْدِي سَرمَدِي أَوْ يَعصِي رَبَّهُ فَينتقل إلى عذابِ الأبدِ إلى جَهَنَّمَ وَبئسَ الْمِهَاد.
إِذَا فَهِمَ ذَلِكَ عَلمَ أنهُ لا نَجَاةَ لهُ إلا بطَاعَةِ رَبِّهِ وَأَن الدليلَ على طاعَةِ اللهِ الْعلمُ ثُم العملُ بأمرِهِ وَنَهْيهِ في مَوَاضِعه وَعِلَلِهِ وَأسْبَابِهِ وَلَنْ يَجدَ ذَلِكَ إلا في كتابِ الله وَسنةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنَّ الطَّاعَةَ سَبِيل النجاةِ والعِلْمُ هُوَ الدَّلِيلُ على السبيلِ. قَالَ الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} .
ثم يَتَأَمَّلُ مَا أَمَامَهُ من الشَّدَائِدِ والْكُرَبَ والعَقَبَاتِ وَالأَهْوَال التي أَوْضَحَها اللهُ في كِتابِهِ وَبَيْنَهَا رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَى وسلم، قَالَ تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} ، وقَالَ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، وقَالَ {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وقَالَ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، وقَالَ: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} .
- فإذا عَلِمَ أَنَّهُ مُنَاقَشٌ في الْحِسَابِ عَنْ مثاقِيلِ الذَّرِّ فِي يَوْمٍ كان(1/189)
مقدارُه خَمسينَ أَلْفَ سَنَةٍ أَحَوج ما يَكونُ إلى الْحَسَناتِ وَغُفْرانِ السَّيْئاتِ تَحقَّقَ أنّه لا يُنْجِيهِ مِنْ هَذِهِ الأخْطارِ إلا اعْتمَادُه على الله وَمَعُونَتِهِ عَلَى مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَمُرَاقَبَتِهَا وَمُطَالَبَتِهَا فِي الأنْفَاسِ والْحَرَكَاتِ وَمُحَاسَبَتِهَا في الْخَطَرَاتِ واللَّحَظَاتِ فَمَنْ حَاسَب قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ في القيامةِ حِسَابُه وَحَضَر عِندَ السّؤال جوابُه وَحَسُن مُنْقَلبه وَمآبُه.
قَالَ ابنُ القيِّم رَحِمَهُ اللهُ: هَلاكُ الْقَلْبِ مِنْ إِهْمَالِ مُحَاسَبتِهَا وَمنْ مَوَافَقِتَهَا وإتِّبَاع هَواهَا وفي الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني» . دَانَ نَفْسَهُ: أي حَاسَبَها.
وذكر الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وزنُوهَا قبل أنْ تُوزَنوا، فَإِنَّه أَهونُ عَليكُم في الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسَبُوا أَنْفُسَكُمْ اليوم، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ يومئذٍ تُعرضونَ لا تَخْفَى مِنْكَمْ خَافِية عَلى اللهِ. وَذَكَر أَيْضًا عَن الْحَسَن لا تَلْقَى الْمُؤمِنَ إلا يُحَاسبُ نَفْسه ماذا أَردْتُ بكَلْمتي ماذا أردُت بِشرْبَتِي؟ والفَاجرُ يَمْضِي قُدُمًا لا يُحاسبُ نَفسُه. وقَالَ قَتادةُ في قَوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، أَضَاعَ نَفْسَهُ وَغُبِنَ مَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ حَافِظًا لِمَا لَهُ مُضِيَّعًا لِدِينِهِ.
وقَالَ الْحَسنُ: إنَّ العبْدَ لا يَزَالُ بَخير مَا كَانَ لَهُ وَاعظٌ مِنْ نَفْسِه وكانَتِ الْمُحاسبةُ مِنْ هِمَّتِهِ، وقَالَ مَيمُونُ بن مُهرانِ: لا يَكونُ الْعَبْدُ تَقَيًّا حَتَّى يَكُونُ لنْفسهِ أَشَدَّ مُحَاسَبةٍ مِنَ الشَّريكِ، وَلِهَذَا قِيلَ: النَّفْسُ كالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ إِنْ لَمْ تُحَاسبُه ذَهَبَ بِمَالِكَ، وقَالَ مَيمُونُ أَيْضًا: إِنْ التَقيَّ أَشَدُّ مُحاسبةً لِنَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ قَاضٍ وَمِنْ شَرِيكٍ شَحِيحٍ.(1/190)
وَذَكَرَ الإِمْامُ أَحْمدُ عنْ وَهْبٍ قَالَ: مكْتُوبٌ في حِكْمَةِ دَاوُود. حَقَّ عَلَى العَاقِل أَنْ لا يَغْفلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا مَعْ إِخْوَانِهِ الذينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيوبِهِ وَيَصَدُّونَه عَنْ نَفْسُهُ، وَسَاعةٍ يُخَليَّ فيهَا بَيْنَ نَفسه وَبَيْنَ لذّتِهَا فِيمَا يَحُلّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ في هَذِهِ السَّاعةِ عَوْنًا عَلَى تِلكَ السَّاعَاتِ وَإجْمَامًا للقُلوبِ.
وقَالَ الْحَسَنُ: الْمؤمِنُ قوَّامٌ عَلى نَفْسه للهِ وإنّما يَخُفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ في الدُّنْيَا، وَإِنَمَّا شَقَّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامِةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيرِ مُحاسبةٍ.
إِنَّ الْمُؤمنَ يَفْجَؤهُ الشَّيْءَ يُعْجبُه فيقولُ: واللهِ إنّي لأَشْتَهِيكَ وإنَّكَ لمَنْ حَاجتِي وَلَكنْ واللهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِليْكَ هَيْهَاتَ حِيلَ بَيْنِي وَبِينِكَ وَيَفْرطُ مِنْهُ الشَّيءُ فَيرِجعُ إلى نَفْسِه فَيقُولُ: مَا أَردْتَ إِلى هَذا، مَا لِي وَلِهَذَا، وَاللهِ لا أعودُ إلى هَذَا أَبَدًا إِنَّ الْمُؤمِنينَ قَوْمٌ وَفَقَهُم القُرآنُ وَحَالَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ هَلَكتهِمْ إنّ المؤمنَ أسيرٌ في الدُّنْيَا يَسْعَى في فَكَاك رَقَبته لا يَأْمِنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللهَ لِيَعْلَم أَنَّه مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَفي بَصَرِهِ وفي لِسَانِهِ وفي جَوارِحِهِ.
اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرِفَةِ بِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفَّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابنُ القيّمِ: رَحِمَهُ اللهُ عَلى قَوْلِ صَاحِبِ الْمَنَازِل: المحَاسَبةُ لَهَا ثَلاثَةُ أرْكَانٍ، أحدُهَا: أَنْ تُقايِسَ بَيْنَ نِعمتهِ وَجِنَايَتكَ يَعْنِي تُقَايسَ بَيْنَ مَا مِن اللهِ وَمَا مِنْكَ فَحِينَئذٍ يَظْهرُ لَكَ التَّفاؤتُ وَتَعَلمُ أَنَّهُ لَيْسَ إلا عَفوهُ وَرَحْمَتُه أَوْ الْهَلاكُ والعَطَبُ وَبِهَذِهِ الْمقَايسةِ تَعْلمُ أنَّ الربَّ رَبُّ وَالْعَبْدَ عَبْدٌ(1/191)
وَيتبيّنَ لكَ حَقِيقَةُ النَّفسِ وَصِفَاتُهَا وَعَظمةُ جَلالِ الرُّبُوبيَّةِ وتفرد الرَّبُ بَالكمَالِ والأَفْضَالِ وأنّ كلّ نِعمةٍ فَضْلٌ، وَكُلَّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَأَنْتَ قَبْلَ هَذِهِ الْمقَايَسةِ جَاهلٌ بِحقيقةِ وَبِرُبُوبيّةِ فَاطِرِهَا وَخَالِقهَا.
فإذَا قَايَستَ ظَهرَ لك أنّها مَنْبَعُ كلِّ شَرٍ وأسَاسُ كلِّ نَقْصٍ وأنْ حَدَّهَا الْجَاهلَةُ الظَّالِمَةُ وأنَّهُ لَوْلا فَضْلُ الله ورَحْمَتُه بَتَزْكِيَتِهِ لها مَا زَكَتْ أَبدًا وَلَوْلا هُداهُ مَا اهْتَدَتْ وَلولا إرشَادهُ وَتَوْفِيقُهُ لما كانَ لَها وُصُولٌ إلى خَيرٍ البتَّةَ وَإنّ حُصول ذَلِكَ لَها مِنْ بَارِئها وَفَاطِرَها، ثُمَّ تُقايس بينَ الْحَسناتِ والسَّيئاتِ فَتعلمُ بِهذهِ الْمُقَايسة أيُّهما أكثرُ وأرجَحُ قَدْرًا وَصِفَة.
قَالَ: وهذه الْمُقَايَسةُ تَشُقّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ ثَلاثَةُ أَشْيَاءٍ: نُورُ الْحِكْمةِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بالنَّفسِ، وَتَمييزُ النَّعمةِ مِنْ الفِتْنةِ، يَعْني أنّ هَذِهِ الْمُقايسة والْمُحَاسَبة تَتَوقَفُ عَلى نُورِ الْحِكْمَةِ وَهُو النور الذي نَوَّرَ اللهُ بِهِ قلوبَ أتْبَاعِ الرُّسُلِ فبقدْرِهِ تَرَى التَّفاوتَ وَتَتَمَكَّنَ مِن الْمُحاسبةِ، نُورُ الْحِكْمةِ هَا هُنَا هُوَ العِلْمُ الذي يُميّزُ بهِ العْبدُ بينَ الْحقَّ والباطِلِ، والْهُدى والضَّلالِ، والضَّارِّ والنَّافعِ، والكاملِ والنَّاقِص، والْخَيرِ والشَّرِ وَيُبْصِرُ بهِ مَرَاتَبَ الأَعْمالَ رَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودِهَا كلّما كان حَظهُ مِن هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظَهُ مِنْ الْمُحَاسبةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ.
أَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بالنَّفس فإنّما احتَاجَ إليْه لأَنّ حُسنَ الظَّنِ بالنَّفسِ يَمْنعُ مِنْ كَمالِ التَّفتيشِ وَيُلبِّسُ عَلَيْهِ فَيَرَى الْمَسَاوئ محاسنَ والعُيوبَ كَمَالاً وَلا يُسيُء الظَّنَ بِنَفْسِهِ إلا مَنْ عَرفهَا، وَمَنْ أَحْسنَ ظَنَّه بِنَفْسِهِ فَهُو مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا تَمْييزُ النَّعْمَةِ مِنْ الفتْنةِ فَلْيَفْرِقْ بين النَّعْمةِ الَّتِي يَرى بِهَا الإِحْسَانَ واللُّطفَ وَيُعَانَ بِهَا عَلى تَحْصِيل سَعادتِهِ الأَبْديِّةِ وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يَرَى بِها الاسْتدراجَ فَكْم مِنْ مُسْتَدَرَجٍ بالنِّعم وهو لا يَدْري(1/192)
مَفْتونٌ بِثَنَاءِ الْجُهّالِ عَلَيْهِ مَغْرُورٌ بِقَضاءِ اللهِ حَوَائِجَه وَسَترِهِ عَلَيْهِ، وأكْثَرُ النَّاسِ عنْدهُم أَنَّ هَذِهِ الثَّلاثةَ عَلامةُ السَّعَادَةِ والنَّجَاحِ، ذلك مَبلغُهم مِنْ العلمِ وَقَدْ مُثلتِّ النَّفسُ معَ صَاحِبهَا في الْمَالِ، وَكَمَا أنَّهُ لا يَتِمُّ مقْصُودُ الشّرِكَةِ من الرّبْحِ إلا بالْمُشَارَطَةِ عَلى مَا يَفْعلُ الشَّريكُ أَولاً ثُُمّ بِمطالعَةِ مَا يَعمَلُ والإِشْرَافُ عَلَيْهِ وَمُراقَبتِهِ ثَانيًا، ثُمَّ بِمحَاسَبتهِ ثَالثًا، ثُمّ بِمنْعِهِ مِنَ الْخِيانَةِ أنْ اطّلعَ عَلَيْهَا رَابعًا، فَكذلكَ النّفسُ يُشارِطُها أَوَّلاً على حِفظِ الْجَوارِحِ السَّبعَةِ الَّتِي حِفظُهَا هوَ رأسُ الْمَال والرِّبْحُ بَعدَ ذَلِكَ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ رَأسُ مَالٍ كَيْفَ يَطْمَعُ في الرِّبْحِ؟
وَهَذِهِ الْجَوارِحُ السَّبْعةُ هِيَ: الَعْينُ، والأُذُنُ، والفَمْ، واللِّسَانُ، والفَرْجُ، واليَدُ، والرِّجْلُ هِيَ مَرْكَبُ العَطَبِ والنَّجَاةِ، فَمِنْهَا عَطِبَ مَنْ عَطِبَ بإهْمَالِهَا وَعَدَمِ حِفْظَها، وَنَجَا مَنْ نَجَا بِحِفْظِهَا وَمُرَاعَاتِهَا فَحَفِظُهَا أَسَاسُ كلِّ خَيرٍ، وَإهْمَالُها أَسَاسُ كَلِّ شَرٍ، قَالَ الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} .
وقَالَ تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فإذا شارطَهَا على حِفظِ هَذِهِ الْجَوارِحِ وانتَقَل مِنْهَا إِلى مُطَالَعتها والإِشْرَافِ عَلَيْهَا وَمُراقبَتِهَا فَلا يُهُملها فإنّه إنْ أَهْمَلهَا لَحْظَةً وَقَعتْ في الْخِيَانةُ ولا بُدّ فَإنْ تَمادَى على الإِهْمَالِ تَمَادَتْ فِي الْخِيانَةِ حَتَّى يَذْهَبَ رَأسُ الْمَالِ كُلِّهِ فَمَتى أَحَسَّ بالْخُسْرَانِ وَتَيَقّنهُ اسْتَدْرَكَ مِنْهَا مَا يَسْتَدْرُكُه الشَّرِيكُ مِنْ شَريكِهِ مِن الرُّجُوع عَلَيْهِ بِمَا مَضَى والقِيَام بالْحِفْظ والْمُرَاقَبةِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَلا مَطْمَع لَهُ فِي فَسْخِ هذِهِ الشِّرِكَةِ مَعَ هذا الْخَائِنِ فَليَجْتهدْ في مُراقَبتهِ وَمُحَاسَبَتهِ وَلِيَحْذَرْ مِنْ إهْمَالِهِ، وَيُعينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُرَاقَبةِ والْمحَاسَبةِ مَعرفتُهُ أَنَّهُ كُلّما اجْتهَدَ فِيهَا اليَومَ استَراحَ منْهَا غَدًا إذا صَارَ الْحِسَابُ إلى غَيْرِهِ وَكُلّما أَهَمَلهَا اليَوْمَ اشْتَدّ عليهِ الْحِسَابُ غَدًا،(1/193)
وَيعُينهُ عَليهَا أيضًا مَعْرفتُهُ أَنَّ ربْحَ هذه التِّجَارَةِ سُكْنَى الفِرْدَوسِ والنَّظَر إلى وَجْهِ الرَّبِّ وَخَسَارتِها دَخولُ النَّار والْحِجَابِ عَنْ الرَّبِّ فَإِذَا تَيَقَنَ هَذَا هَانَ عَليْهِ الْحِسَابُ اليَومَ.
فَحَقُّ على الحازِم الْمُؤمِنِ بالله واليَومِ الآخِر أَنْ لا يَغْفُلَ عنْ مُحَاسَبَةِ نفسِهِ والتّضِييقِ عليهَا في حَركَاتهَا وَسَكناتِهَا وَخَطَواتِهَا فَكلُّ نَفسٍ مِنْ أنْفَاس العُمْرِ جَوهَرةٌ نَفِيسةٌ لا خَطَر لَهَا يُمكنُ أن يَشتَرِي بِهَا كنْزًا مِن الكنوز لا يَتَنَاهَى نَعيمُهُ أبدُ الآبادِ.
فإضاعةُ هذه الأنفاسُ أو مُشتَرى صَاحِبهَا بِها ما يَجلبُ هلاكَهُ خُسرانٌ عَظيمٌ لا يَسْمَحُ بِمْثِلِهِ إِلا أجْهلُ النَّاسِ وَأحْمَقهُم وأقلُّهم عَقْلاً وَإنَّما يَظْهَرُ لَهمْ حَقيقةَ هَذَا الْخُسرانِ يومَ التغابُن {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
عَلَيْكَ بِمَنْعِ نَفْسِكْ عَنْ هَوَاهَا ... فَمَا شَيْءٌ أَلَذَّ مِنَ الصَّلاحَ
تَأهَّبْ لِلْمَنِيَّةِ حَيْنَ تَغْدُو ... كَأَنَّكَ لا تَعِيشُ إلى الرَّوَاحَ
فَكَمْ مِنْ رَائحٍ فِينَا صَحِيحٍ ... نَعَتْهُ نُعَاتُهُ قَبْلَ الصَّباحَ
وَبَادِرْ بالإِنَابَة قَبْلَ مَوْتٍ ... عَلَى مَا فِيكَ مِنْ عِظَمِ الْجُنَاحَ
وَلَيْسَ أَخُو الرَّزَانَةِ مَنْ تَجَافَى ... وَلَكنْ مَنْ تَشَمَّرَ لِلْفَلاحَ
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائنا بَابَ الْقُبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(3) (موعظة)
أيُّهَا الْمُسْلمونَ لَقد تَراكَمَتْ عَلَيْكُم الذَّنوبُ وأنتمْ في غَيِّكمْ ولهوَكِمْ(1/194)
في دُنْياكمْ مُشْتَغِلونَ أحاطَتْ بكم البَلايَا مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَلَسْتمُ لإِصْلاحِ أَنْفسِكمْ تَجنحُونَ، كُلّما أوضَحَ لكمْ الواعظُ طَريقَ الْهَدَايةِ تعامَيْتمُ فَلا أَنتُم بالكُروبِ مُعتَبِرونَ، وَلا مِن البَلايَا مُنْزَجرِونَ أَمَا سَمِعْتُمْ قولَ اللهِ جَلَّ وعَلا: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
وقَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} أَيُّهَا الْمُسْلِمْ انْظرْ في نَفْسِكَ هَلْ تَجِدُها عَامِلةً بمقْضَى الدّينِ؟ هلِ أَتيْتَ بالصَّلاة على الوْجَهٍ الأَكْملِ واجْتَنُبتَ الْمَعَاصِي الْمُنَافِية لِلدِّينِ هل أَدَّيت الزَّكَاةَ كامِلةً مُكَمَّلةً بِيَقِينٍ فَتّش هَلْ تَجِدُ فِيهَا حياءً مِن اللهِ بيَقينٍ؟ هَلْ أَنْتَ سالمٌ مِن الكذبِ والْخِيانَةِ والاحْتِيَالِ؟ هَلْ سَالِمٌ مِنَ الرِّياءِ في أَقْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الرِّبَا فِي مَعَامَلاتِكَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ والنِّفَاقِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ والبَهْتِ واللَّعْنِ وسيءِ الْمَقَالاتِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْغِشِّ في بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ وَسَائِر تَصرُّفَاتِكَ؟ هَلْ أَنْتَ صَائِنٌ لِسَانَكَ عَنْ مَا يَضْركَ مِن الأقوال والأعَمِالَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الكِبْرِ والإعْجَابِ وَقَطِيعَةِ الرَّحمِ والْعُقُوقِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ أذِيَّةِ الْجَارِ؟ هَلْ قَلبُكَ لَيِّنٌ رَحُوم تَرْحَمُ الْمِسْكِينَ وَتُكْرِمُ الْيَتِيمَ؟ هَلْ أَنْتَ تَقْضِي حُقُوقَ النَّاسِ بُدونِ مِطالٍ ولِجَاجٍ؟ هَلْ أَنْتَ تُحِبُّ في اللهِ وَتُبْغِضُ في اللهِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ أَوْ صَبْغِهَا أَوْ الدُّخانِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْخَنَافِسَ وَالتَّواليتِ ونحوِ ذَلِكَ مِنْ الأخْلاقِ السَّافِلاتِ؟ هَلْ بَيْتُكَ خَالٍ عَنْ صُوَرِ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهْلُ هُوَ خَالٍ مِن الْمِذياعِ والتَّلِفْزيُونِ والسِّينَماتِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ؟ هَلْ قُمْتَ عَلَى أَوْلادِكَ لِلصَّلاةِ(1/195)
والتَّوجِيهِ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ والأَخْلاقِ الْحَمِيدةِ فَعَلَيْكَ أنْ تَتَفَقَّدَ لِنفْسِكَ بِدقَّةٍ كُلَّ يَومِ وتُعَالِجْ مَا بِكَ مِنْ هَذِهِ الأمْرَاض الْمُهْلِكَاتَ فَإنَّهَا أَشَدُّ ضَرَرًا وَفَتَكًا مِنْ أَمْرَاضِ البَدَنِ التِي لا نَصْبِرُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ نَجِدْ لَهَا عِلاجًا ذَهَبْنَا إلى الْخَارِج رَجَاءَ بُرْئِهَا واللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
قَالَ: وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ نَوْعَانِ أَمَّا الأَولُ: فَيقِفْ عِنْدَ أَوَّلِ هِمَّتِهِ وَإرَادَتِهِ وَلا يُبَادِرُ بالْعملِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ على تركِهِ، قَالَ الْحسنُ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا وَقفَ عندَ هَمِّهِ فَإِنْ كانَ للهِ مَضَى وَإِنْ كَانَ لَغَيْرِهِ تَأخَّرَ. النُّوع الثَّانِي: مُحَاسَبَةٌ بَعْدَ العَمَلِ، وهو ثلاثَةُ أَنْوَاعٍ: أحدُهَا مُحَاسَبَتُهَا عَلَى طَاعَةٍ قَصَّرَتْ فِيهَا مِنْ حَقَّ اللهِ فَلَمْ تُوقِعْهَا عَلَى الوَجْهِ الذي يَنْبَغِي.
وَحَقُّ اللهِ في الطَّاعاتِ بِمُرَاعات سِتَّةِ أُمُورٍ وهِيَ: الإخْلاصُ في العمل والنصيحةُ للهِ فيه وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَشُهُودُهُ مَشْهَدَ الإحْسَانِ فيهِ، وَشُهُودُ مِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَشُهُودُ تَقْصِيرِهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ هَلْ وَفّى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ حَقَّهَا، وَهَلْ أَتَى فِي هَذِهِ الطَّاعَاتِ، الثَّانِي: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ كَانَ تَركَهُ خَيرًا لَهُ مِن فعله. الثَّالث: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى أَمْرٍ مباحٍ أَوْ مُعْتَادٍ لَما فَعَلَهُ، وَهَلْ أَرَادَ بِهِ اللهِ والدَّارَ الآخِرةَ فَيَكُونُ رَابِحًا فِيهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَعَاجِلَتَهَا فَيَخْسَرُ ذَلِكَ الرِّبْحَ وَيَفُوتُهُ الظَّفَرُ بِهِ. قَالَ: وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِذَا تَذَكَّرَ فِيهَا نَقْصًا تَدَارَكَهُ إِما بِقَصَاءٍ أَوْ إِصْلاحٍ ثُمَّ يُحَاسِبُ عَلَى الْمَنَاهِي فَإنْ عَرَفَ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَدَارَكَهُ بالتَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ والْحسناتِ الْمَاحِيةِ ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَه على الْغَفْلَةِ فإن كَانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله.(1/196)
ثُمَّ يُحَاسِبُهَا بِمَا تَكَلَّمَ به لِسَانُهُ أَوْ مَشَتْ بِهِ رِجْلاهُ أَوْ بَطَشَتْهُ يَدَاهُ أَوْ سَمِعَتْهُ أُذْنَاهُ مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا، وَلِمَ فَعَلْتُ، وَعَلَى أَيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ، وَيَعْلَمُ أنَّه لا بُدَّ أَنْ يُنْشَرَ لِكلَّ حَرَكةٍ وَكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانٌ لِمَ فَعَلْتَهُ وَكَيْفَ فَعَلْتَهُ فَالأوَّلُ: سُؤالٌ عَنْ الإِخْلاصِ.
والثَّانِي: سُؤالٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقَالَ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} ، وقَالَ: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} فَإِذَا سُئِلَ الصَّادِقونَ وحُوسِبُوا عَلَى صِدْقِهِمْ فَمَا الظَّنُ بالكَاذِبينَ؟ وقَالَ قَتَادة: كَلِمَتَانِ يُسئلُ عَنْهُمَا الأوَّلَونَ والآخِرونَ: مَاذَا كُنْتمُ تَعْبُدونَ؟ وماذا أجبْتمُ الْمُرَسلينَ. فَيُسألونَ عن الْمَعْبُودِ، وعَنِ العِبَادَةِ. وقَالَ تَعَالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} .
شِعْرًا:
تَصَاوَنْ عَن الأَنْذَالِ مَا عِشْتَ واكْتَسِبْ ... لِنَفْسِكَ كَسْبًا مِن خِلالٍ تَصُونُهَا
وَمَا لِلْفَتَى بِرٌّ كَمِثلِ عَفَافِهِ ... إِذَا نَفْسُهُ اخْتَارَتْ لَهَا مَا يَزِينُهَا
إِذَا النَّفْسُ لَمْ تَقْنَعْ بِقَسْمِ مَلِيكِهَا ... عَلَى مَا أَتَى مِنْهُ فَمَا ثَمَّ دِينُهَا
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ: يَقُولُ الله تَعَالى: (لِيَسْألنَّكُم اللهُ عزَّ وَجلَّ عن النَّعيمِ الذِي كُنْتمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا: مَاذَا عَمِلتمُ فيهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ وَصَلتُم إِليهِ؟ وَفِيمَ أصَبْتُمُوُه؟ وَمَاذَا عملتم بِهِ؟) ، وقَالَ قَتَادَةَ: إِنَّ اللهَ سَائِلٌٌ كُلَّ عَبْدٍٍ عَمَّا اسْتَوْدَعهُ مِنْ نِعمَتِهِ وَحَقِّهِ، والنَّعِيمُ الْمَسْئُولُ عَنه نَوعانِ: نَوْعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ وصُرفَ في حَقِّهِ فُيسَأل عَنْ شُكْرِهِ، ونَوْعُ أُخَذَ بِغيرِ حِلِّه وَصُرِف فِي غَيْرَ حَقَّه فُيسأَلُ عَن مُستَخرَجه وعن مَصرَفِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجوبِ الْمُحَاسَبِةِ قَولهُ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الآية.
(1) اعْلم أَيَّها الإِنسان أن النفسَ الأمارةَ بالسُّوء عَدُوّةٌ لَكَ مَعَ إِبْلِيسَ لَعَنهُ(1/197)
الله، وإنما يَتَقَوَّى عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ بِهَوَى النَّفْسِ وَشَهَواتِهَا، فَهِيَ سِلاحُه الذِي يَصِيدُ بِهِ وَهَلْ أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِي كَبْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ إلا نَفْسُهُ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} .
فلا تَغُرَنَّكَ نَفْسُكَ بالأَمَانِي والغُرُورِ لأنَّ مِنْ طَبْعِ النَّفْسِ الأَمْنُ والغَفْلَة والرَّاحَةُ والفَتْرةُ والكَسَلُ والعَجْزُ فَدَعْواهَا بَاطِلٌ وَكُلُ شَيْءٍ مِنْهَا غُرورٌ وَإِنْ رَضِيتَ عنها واتَّبَعْتَ أَمْرَهَا هَلَكْتَ، وَإِنْ غَفَلْتَ عَنْ مُحَاسَبَتِها غِرَقْتَ، وإنْ عَجَزْتَ عن مُخَالَفَتِهَا واتَّبعتَ هَواهَا قَادَتْكَ إلى النَّارِ.
(فَصْلٌ) : وَفِي مُحَاسَبةِ النفسِ عِدة مصالحٍ، أَوَّلاً: الإِطلاعُ عَلى عُيوبها وَمَنْ لَمْ يطّلعْ عَلَى عَيْبِ نَفْسِهِ لَمْ يُمْكنهُ إزَالتهُ، ومِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلا أَنَّ اللهَ وَفَّقَ العَبدَ لِمُحَاسَبَتِهَا لَشِقِيَ في القِيامَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِلنَّفْسِ مِنْ الكَياسَةِ وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِرَاحَةُ الْمُحَاسِبِ مِن التَّعَبِ الطَّويل يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَتَحسّرُ الْمُحَاسِبُ فِي القِيَامَةِ كَالذينَ لَمْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهم، ومِن ذَلِكَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى العِبَادَةِ والْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكرِ اللهِ لَيْلاً وَنَهَارًا.
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِذِكْر اللهِ فِي كُلِّ لَحْظِةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمنِ يَذكُرُ
آخر:
ثَلاثَةٌ يَجْهَلُ مِقْدَارُهَا ... الأَمْنُ والصِّحَّةُ والدِّينِ
فَلا تَثِقْ إلا بِمَنْ أَمْرُهُ ... مَا بَيْنَ كَافٍ وَنُونٍ يَكُونْ
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسبة تُضْعفُ الأعْمالَ السَّيئةَ وَتُوقِّفُهَا، وَمِن ذَلك أنَّها تَحُضُّ الإِنْسَانَ عَلى أَعْمالِ الصَّالِحةِ، وَمِن ذَلك أنَّها تُخلِّصُ النَّفْسَ مِن العُجْب ورُؤْيَةِ العَملِ، ومن ذلك أنَّ الْمُحَاسبةَ تَفْتحُ للإِنْسَانِ بَابَ الذُّلِ والانْكِسَارِ والْخُضُوعِ للهِ، وَمِن ذلكَ أَنَّهَا تَدْعُو الإنسانَ إلى أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَّ الله عليه.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّها تُوجبُ للإنسانِ أَنْ يمقُتَ نَفْسَهُ وَيَعلَمَ أنَّ النَّجاةَ لا تَحْصُلُ إلا بِعَفوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ.(1/198)
وإذَا تَأملْتَ حَال أكْثَر النَّاسِ وَجَدتَهمُ بِضِدْ ذَلِكَ يَنْظُرونَ فِي حَقِّهم على الله ولا يَنْظرُونَ في حَقِّ اللهِ عَلَيْهم ومنْ هُنَا انقَطعُوا عِن اللهِ وَحُجبَتْ قُلوبُهم عَنْ مَعْرفِتهِ وَمَحَبَّتِهِ والشَّوْقِ إلى لِقَائِهِ والتَّنْعِيمِ بذكْرهْ وهذا غَايةُ جَهْلِ الإِنسانِ بربّهِ وَبِنفسه فُمُحَاسَبْةُ النَّفسِ هَيَ نَظَرُ العَبْدِ في حقَّ الله عَلَيْهِ أَوّلاً ثُمَّ نَظَرَهُ هَلْ قَامَ به كما يَنْبَغِي ثَانِيًا.
وَيَنْبَغِي للإنسان أنَّه إذَا حَاسَبَ نَفْسه فَرَآهَا قَدْ قَارفَتْ مَعْصيةً أَنْ يَتوبَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَيُتْبعُ السَّيئةَ بالْحَسَناتِ التِي تَمْحُوهَا فقدْ وَرَدَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وأَتْبعْ السَّيئَةَ الْحَسَنةَ تَمْحُها» . وإنْ تَوَانى عَنْ بَعْضِ الفَضَائِلَ أَوْ فَاتَتهُ نِسْيانًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْرِكَ جَبْرَ مَا نَقَصَ بالنَّوافِل، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ فَاتَتْهُ صَلاةَ العصْرِ في جَمَاعةٍ أنَّه تَصَدَّق بأرْضَ كانتَ له قِيمتُهَا مَائِتَا ألفِ دِرْهَمٍ.
وَرُوِيَ عنه: أنَّه شَغَلَهُ أمرٌ عَن المغْرب حتّى طَلعَ نَجمَانٍ فَلمَّا صَلاها أعْتَقَ رَقَبتينِ. وَفَاتَتْ ابنُ أبي رَبِيعَةَ رَكْعتَا الفجر فأعتَقَ رَقَبةً. وَوَرَدَ أَنَّ ابنَ عُمرَ كَانَ إِذَا فَاتَتهُ صَلاةٌ في جَمَاعِةٍ أَحيَا تِلكَ اللَّيْلَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعِلُ عَلَى نَفْسِه صَوْمُ سنَةٍ، أَوْ الْحَجُّ مَاشِيًا، أَوْ التَّصدَقُ بالشيءِ الكَثير كلُّ ذَلك مؤاخَذَهٌ لهَا بما فِيهِ نَجَاتُها. والله أعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(4) موعظة
رُوِيَ عَنْ عَلَيَّ بن أبي طَالب أنّه قَالَ: لا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخرةَ بَغْيرِ عَمَلٍ ويَؤخرُّ التَّوْبةَ لِطُولِ الأَملِ وَيقَولُ في الدُّنيَا بِقوْلِ الزَّاهدِينَ، ويعَملُ فيها عَمَلَ الرَّاغِبينَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنَ الدُّنيا لَمْ يَشْبَعْ، وإن مُنْعَ منهَا لَمْ يَقْنَعْ، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا لا يَأْتِيهِ، يُحِبُّ الصَّالِحينَ وَلا يَعْملُ أَعمَالَهم، وَيَبْغَضُ الْمُسيئينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، يَكرهُ الْموْتَ لِكَثرةِ ذُنوبه، ويُقيمُ على ما يَكَرهُ لَهُ الْمَوْتَ،(1/199)
إنْ سَقِمُ ظَلَّ نَادمًا، وإنَ صَحّ أمِنَ لاهِيًا، يَعجبُ مِن نفسِه إذَا عُوفيَ، ويَقنَطُ إذَا تَغلِبهُ نفْسُهُ على ما يَظُنُّ ولا يَغلِبُهَا على ما يَسْتِقينُ، ولا يَثقُ منِ الرَّزقِ بما ضُمِنَ لهُ، ولا يَعْملُ مِن العَمَلِ بمَا فُرِضَ عَلَيْهِ إِنْ اسْتغَنى بَطِرَوان افتقرِ قَنِطَ وحَزنَ فهو منَ الذّنبِ في حَال النَّعمة والمِحْنة مُوقرٌ، يَطلبُ الزيادة ولا يشكرُ، ويتكلّفُ مِن الناس مالاً يُؤمرُ، ويضيّعُ الموتَ ولا يُبادرُ الفَوْتَ، يَستكبرُ مِن مَعصيةِ غيرِهِ ما يَسهُلُ أكثرُه مِن نفْسه. مَزاهرُ اللهّوِ مع الأغْنياءِ أحبُّ إليهِ مِن الذِّكرِ مع الفُقراءِ، يَحكمُ على غيرِهِ لِنفسِهِ ولا يَحكمُ عليها لِغَيرِهِ.
اللَّهُمَّ يا حَيُّ يَا قَيُّومُ يا ذَا الجلال والإكرام أَسْأَلُكَ بأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وصِفَاتِكَ العلْيَاءِ أَنْ تُعِزَّ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِينَ وَأَنْ تُذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينْ وَأَنْ تُدمِّرَ أَعْدَاءَ الدِّينِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ.
شِعْرًا:
تَجَهَّزِي بِجِهَاز تَبْلِغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وَسَابِقِي بَغْتَةً الآجَالِ وانْكَمِشِي ... قَبْلَ الْلِزَام فلا مَلْجَا ولا غَوثا
وَلا تَكُدِّي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفتَقِري ... إنَّ الرَّدَى وارِثُ البَاقِي وَمَا وَرَثَا
وَاخْشِي حَودِثَ صَرْفِ الدَّهْر في مَهَلٍ ... وَاسْتَيْقِظِي لا تَكُونِي كالَّذِي بَحَثَا
عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ ... فَوافَتْ الْحَرْثَ مَحَرُوثًا كَمَا حُرِثَا
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوْ الغُبَارُ يَخَافُ الشَّينَ والشَّعَثا
وَيَألَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بِشاَشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثا
فِي قَعْرِِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقفِِْرَةٍ ... يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَا فِي جَوْفِهَا اللِّبَثَا
آخر: ... وَنَفْسَكَ فَازْجُرْهَا عن الْغِيَ والْخَنَا ... وَلا تَتَّبعْهَا فَهِي أُسُّ الْمَفَاسِدِ
وَحَاذِرْ هَواهَا مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّهُ ... يَصُدُّ عَنْ الطَّاعَاتِ غَيْرَ الْمُجَاهِدِ
وَإِنَّ جِهَادَ النَّفسْ حَتْمٌ عَلى الفَتَى ... وَإِنَّ التُّقى حَقًا لَخَيْرُ الْمَقَاصِدِ
فَإنْ رُمْتَ أَنْ تُحْظَى بِنَيْلِ سَعَادَةٍ ... وَتُعْطَى مَقَامَ السَّالِكينَ الأَمَاجِدِ
فَبَادِرْ بَتَقوى اللهِ واسْلُكْ سَبِيلَها ... ولا تَتَّبعْ غَيَّ الرَّجِيمِ الْمُعَانِدِ(1/200)
وَإِيَّاكَ دُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... وَإِنَّكَ صَاحِ لَسْتَ فِيهَا بِخَالِدِ
تَمَسَّكَ بِشَرْعِ اللهِ وَالْزَمَ كِتَابَهُ ... وَبِالعِلْمِ فاعْمَلْ تَحْوِ كُلَّ الْمَحَامِدِ
اللَّهُمَّ امنُنْ علينَا بإصْلاحِ عُيوبِِنَا واجعلْ التقّوى زادَنا وفي دِينِكَ اجتهادَنا وعليك توكّلنا واعتَمادُنَا، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارُزْقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنَا حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ وَمَا رَزَقْتَنَا مِنْ مَا نُحِّبُ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لَنَا فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنَّا مِمَّا نُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لَنَا فَيمِا تُحِبُّ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الفصل الثالث عشر
(5) في مَوْعِظَةٍ جَلِيلْةٍ
قال بعضُ العلماءِ على قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
كَشفتْ لَنَا هَذِهِ الآيةُ الشريفةُ عن سُنةٍ من سُنن اللهِ تعالى وهي: أنَّ مَن غَفلَ عن تَذكُّرُّ الله فَنَسِيَهُ وأَلْهتهُ دُنياهُ عن العملِ للدّارِ الآخرةِ أنساهُ الله نفَسَه التي بينَ جنبيهِ فلا يَسعىَ لما فيه نَفُعها ولا يأخُذُ في أسْبابِ سَعَادِتِهَا وإصْلاحِهَا وما يكمّلُها ولا السّعيُ في إزالةِ عِللها وأمراضِها التي تَؤولُ بها إلى الفساد والدّمارِ والهلاكِ وهذا مِنْ أعظمِ العُقوبةِ لِلْعَامَةِ وَالخَاصَّةِ، فَأَيُّ عُقُوبةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَُهُ وَضَيَّعَهَا ونَسِيَ مَصَالِحَها ودَاءَها ودَوَاءَها وأسبابَ سَعادتِها وصَلاحِها وحَياتِها الأَبَدِيَّة في النَّعِيمِ المقيم.
ومَن تأملَ هذا المَوضِعَ تَبيَّنَ لَهُ أنَّ أَكْثَرَ هَذَا الخَلْقَ قَدْ نَسُوا أنْفُسَهُمْ وضَيَّعُوهَا وأَضَاعُوا حَظَّهَا مِن اللهِ وباعُوها رَخيصَةً بثَمَن بَخْس بَيعَ المغْبُونِ(1/201)
ويَظْهَرُ ذلكَ عندَ الموتِ ويَتَجَلَّى ذلكَ يَومَ التغابُن يَومَ لا يَنْفَعُ نفسًا إيمَانُها لمَ تَكُنْ آمنَتْ مِن قبلُ أو كَسَبَتْ في إيمَانهِا خَيْرًا، إِنهَا لحَسْرةٌ على كلّ ذي غَفلةٍ دُونَها كلّ حَسْرَةٍ، هؤلاء هُمُ الذينَ اشتروا الضلالةَ بالهدى فما رَبِحتْ تجارتُهم وما كانوا مُهتدين.
وأما الرَّابحُون فهمُ الذينَ أنارَ اللهُ قُلُوبَهُم للْحَقِّ فَعَرَفُوا الدُّنيَا وقِيْمتها وقالْوا: مَا مِقْدَارُ هَذِهِ الدُّنْيَا من أوَّلِهَا إلى آخِرِها حَتَّى نَبْيعَ حَظّنا مِن الله تَعالى والدّارِ الآخرة بها فكيفَ بِمَا يَنال العَبْدَ منها في هذا الزّمن القصير الذَي هُوَ في الحَقِيْقَةِ كَغَفْوَةِ حُلْمٍ لا نِسْبة له إلى دَارِ القَرارِ البتّةَ.
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} هَؤُلاءِ هُمُ الكَيِّسونَ الذين عَلموا حقيقَةَ الدُّنْيَا كَمَا عَلِمُوا قِلّةَ لُبثِهم فيها وأنّ لهم دارًا غيرَ هذه الدارِ دَار الحَيوان وَدَار البقاءِ اتّجَرُوا تِجَارَة الأكْياسِ ولم يَغْتَرّوا بتجارة السُّفهاءِ مِن الناس فَظَهَر لهم يومَ التّغابنِ رَبْح تِجَارَتِهم وَمِقْدَار ما اشْتَرُوا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وفي هذا المَعْنَى يَقُول عُمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنمَا الدُّنْيَا أَملٌ مُخْتَرمٌ. أي: مُنْتَقَض وبَلاغٌ إلى دارٍ غيرها وسَيرٌ إلى المَوْتِ لَيْسَ فيه تَعْرِيْجٌ، فَرحِمَ اللهُ امْرءًا أفكَرَ في أَمرِهِ ونَصَحَ لِنَفْسِهِ ورَاقبَ رَبّه واستقالَ ذَنْبَه وتابَ إلى رَبِّهِ. إلى أن قال: إيّاكم والبطْنَةَ فإنها مَكْسَلةٌ عن الصَّلاة، ومَفْسَدَةٌ لِلْجِسْمِ ومُؤَدّيَةٌ لِلسُّقمِ، وعَلِيكمُ بالقَصْدِ في قُوتِكمْ فهو أبعدُ عن السَّرفِ وأصَحُّ لِلْبَدَنَ وأقْوى على العِبَادَةِ إنَّ العَبْدَ لَنْ يَهْلَكَ حَتَّى يُؤْثرَ شَهْوَتَهُ على دِينِهِ.(1/202)
ومِنَ العَجَبِ العُجَاب أنَّ العَبْدَ يَسْعَى بِنفسِهِ في هَوَانِ نَفْسِهِ وَهُوَ يَزعُمُ أَنَّهَا لَهَا مُكْرمٌ ويَجْتَهِدُ في حِرْمَانِهَا مِن حُظوظِها وشرفِها وهو يَزعمُ أنّه يَسْعَى في حِفظِهَا ويَبْذِلُ جُهدَهُ في تَحقِيرهَا وتَصْغِيرهَا وتَدْنِيسِهَا وهو يَزعِمُ أنّه يَسْعَى في صَلاحِها، وكََان بَعْضُ السَّلفِ يَقول في خُطبَتِهِ: ألا رُبَّ مُهِينٌ لِنَفْسِهِ وهو يَزْعمُ أنَّهُ مُكْرِمٌ لَهَا ومُذلٌ لِنَفْسِهِ وهو يَزْعُمُ أنه مُراعٍ لحقِّها وكفَى بالمرءِ جَهْلاً أن يَكُونَ مَعَ عَدوهِ لِنَفْسِِهِ يَبلغُ منها بفِعلِهِ ما لا يَبْلغُهُ مِنها عَدوُّه.
شِعْرًا:
لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مَالٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مَنْ مُعْدِمِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا
آخر:
مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
فالعاقلُ هو الذي يعملُ مُجِدًا لآخِرَتِهِ ولا يُنسِيهُ نَصيبهُ مِن الدنيا حَظّه مِنَ الآخِرة عَاملاً بقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ولَو أنّه تَأَمَّلَ قَلِيلاً لَوجدَ أنّ لَذائِذَ الدُّنيا مُتولّدةٌ مِنْ آلامِهَا فَمثلاً لَذَّةُ الطّعامِ لا تَتحَقَّقُ إلا بِأَلمِ الجوَع ولذةُ الشّرابِ لا بدَّ أنْ يَسبِقَها حُرقَةُ العَطش ولذّةِ النَوّم لا يَجَدُ الإنْسانُ لها شَوقًا إِلا بَعْدَ أنَ يُضنِيهِ التَّعبُ الشَّديدُ وَهُنَاكَ نَوعٌ آخرُ مِنْ الحِكمةِ غَفلَ عنْهُ الكَثيرونَ مِنَ النّاسِ وهوَ أنّها بمثابةِ بَرَاطِيلَ تَحمْلُ الإِنْسانَ على قَوامِه وبَقاءِ حَيَاتهِ فَلذّةُ الطّعامِ تَدفعُه إلا ألا يَهمِلَ جسْمهُ من الغِذَاء ولوَلا ما جَعلَ اللهِ مِن لَذّةِ النّكاح لانقرضَ النّوع الإِنْسانيُّ مِنَ الوُجُودِ ولما وَجدنَا دَابةً تَدُبُّ علَى وَجْه الأَرْضِ ولا طَائِرًا يَطيرُ في السّماءِ وكذلكَ فَرْحَةُ الأُمِ بطِفْلِهَا تُنْسِيهَا آلامَ الحَمْلِ والوَحْمِ والوِلادةِ والتّعبِ والنَصَب والرَّضَاع والسّهرِ الطَويل في التّمريضَ ممَا يَقُضّ مَضْجعهَا ويُنسيَها نَفسَها فَسُبحانَ الحكيمِ العلَيمِ الذّي خَلَق كلَّ شَيءٍ فقدّرهُ تقْديرًا. انتهى(1/203)
بتصرف يسير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(6) مَوْعِظة
كَتَبَ الحَسَنُ إلى عُمَر بنِ عبدِ العزيز في ذَمِّ الدُّنْيَا كِتابًا طَويلاً قال فيه: أمَّا بعدُ فَإنّ الدُّنيا دَارُ ظَعَنٍ ليْسَتْ بدارِ مُقَامِ وإنّما أُنزلَ إليهَا آدمُ عُقوبةً فاحْذرْهَا يا أَميرَ المؤمنين فإنَّ الزّادَ منهَا تَركُها والغِنَى فيها فَقرُهَا تُذلّ من أَعزّها وَتُفقرُ منْ جمعها كالسُّمِ يأَكلهُ مَن لا يَعْرفُهُ وَهُوَ حَتْفُه فاحْذرْ هَذِهِ الدّارَ الغرّارةَ الخَتّالةَ الخدّاعةَ وكُن أَسَرَّ ما تَكونُ فِيهَا أحذَرْ ما تكونُ لهَا، سُرورُهَا مشُوبٌ بالحُزنِ وَصفوها مشُوبٌ بالكَدِر فلوْ كان الخَالقُ لم يُخْبره عنْها خبرًا وَلم يَضْرِبْ لَهَا مَثَلاً لَكُنْتُ قَدْ أَيقظْتُ النَّائِمَ ونبَّهتُ الغَافلَ فَكيفَ وَقدْ جَاء مِن اللهِ عزّ وجلّ عنها زَاجِرٌ وَفِيهَا واعِظٌ فما لَهَا عِنْدَ الله سبحانه قَدْرٌ ولا وَزْنٌ، ما نَظَرَ إليها مُنذُ خَلقَها وَلَقَدْ عُرِضَتْ على نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفاتِيحُهَا وَخَزَائنُهَا لا يَنقصُ عند الله جَناحَ بَعوضةٍ فأَبى أنْ يَقبَلَهَا وَكَرِهَ أن يُحبَّ ما أبغَضَهُ خَالقهُ أو يَرفَعَ ما وَضَعه مليكُه، زَواها اللهُ عن الصّالحين اختيارًا، وَبَسَطَهَا لأعْدَائِه اغْتِرَارًا أَفَيَظُنُّ المغْرورُ بها أنّه أُكْرِمَ بِهَا وَنَسِيَ ما صَنَعَ اللهُ بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ شدَّ على بَطْنِهِ الحَجَرَ، واللهِ ما أحدٌ مِنَ النَّاسِ بُسِطَ لَهُ في الدُّنيا فَلمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ مَكْرًا إلا كان قَدْ نقَص عقْلُه وَعَجَزَ رَأيهُُ وما أَمْسَكَ عن عَبدٍ فلم يَظُنّهُ خيرًا لهُ فيهَا إلا نَقَصَ عقْلُهُ وَعَجَزَ رأيهُ.
شِعْرًا:
إِلَى دُنْيَاكَ انْظُرْ بِاعْتِبَارٍ ... تَجِدْهَا دَارَ ذُلٍّ مَعَ فَنَاءِ
إلَى كَمْ تَحْمِلُ الأوْزَارَ فِيهَا ... مَعَ الشَّهَواتِ تَسْرِي يا مُرَائِي
أَمَا آنَ انْتِبَاهَكَ مِنْ غُرُورٍ ... بِهِ أَصْبَحْتَ بَيْنَ الأَغْبِيَاءِ
تَيِقَّظْ وانْتَبِهْ واقْبِلْ بِقَلْبٍ ... عَلَى مَوْلاكَ تَظْفَرْ بِاهْتِدَاءِ(1/204)
وَقِفْ بِالبابِ وَاطْلُبْ مِنْهُ عَفْوًا ... عَسَى تَحْظَى بِصُبِْحٍ أَوْ مَسَاءِ
اللَّهُمَّ يَا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لما خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بما تَكَفَّلْتَ لنا بهِ واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بلقَائِك ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائِكُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وقال الشّيخُ الواسِطيُّ في بعض رَسائِلهِ: إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا أقامَ في قلبِهِ شَاهِدًا منْ ذكر الآخرة يُريدُ فَناءَ الدُّنيا وَزَوَالَها وبقاءَ الآخرةِ ودوامها فَيُزهّدهُ في الفَانِي وَيُرَغّبُهُ في الباقي، فَيبدأُ في السّير والسُلوكِ في طريقِ الآخرة وأوّلُ السيرِ فيهَا تَصحيحُ التَّوبةِ، والتّوبةُ لا تتمُّ إلا بالمُحاسبةِ ورعَايةِ الجَوارح السّبعةِ، العينُ والأُذنُ واللّسانُ والبَطْنُ والفَرْجُ واليَدُ والرِّجلُ وكفِّها عن جميع المحَارم والمكَارِهِ والفضُول هذا أحدُ شَطْرَي الدّين وَيَبْقَى الشّطرُ الآخرُ وهو القيامُ بالأوامِرِ فَتَحْقِيقُ الشّطرِ الأوّلِ وهو تَركُ المناهِي مِنْ قلبهِ وَقالبهِ.
أَما القَالَب فلا يَعصِي اللهَ بجَارحةٍ مِن جَوارحِهِ ومتَى زلَّ أو أخْطأَ تابَ، وأما القلبُ فَتُنَقّي منه المُوبقاتُ المُهلِكاتُ مثلُ: الرّياءِ، والعجْب، والكِبْر، والحَسَد، والبُغْضِ لِغَيرِ اللهِ، وَحُبِّ الدّنيا، وردِّ الحقّ واستثقالِهِ، والازْدِرَاءِ بالخَلْقِ وَمَقْتُهم وَغَيرُ ذلك مِن الكَبائِر القَلبيّةِ التي هِي في مُقَابَلَةِ الكَبائرِ القَالَبيةِ مِن شُرْبِ الخَمْرِ، والزّنَا، والقَذْفِ وغيرِ ذلك فهذِِهِ كَبَائِرٌ ظاهِرَةُ وَتِلْكَ كَبَائرٌ بَاطِنةٌ. وكلاهما ضرر.
قال: فَمَنْ انْطَوى على شَيءٍ مِن الكبائرِ البَاطنيّة ولم يَتُبْ حَبِطَ عَمَلُه بدليل لا يدخل الجَنّةَ مَن كان في قلبهِ مثقالُ ذرةٍ مِن كِبَر وجاء: إنّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ، وجاء بقول الله تعالى: " أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عن الشركِ مَنْ عمِلَ عملاً فأشركَ مَعِيَ فيه غَيري تَركْتُه وشركه ". وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .(1/205)
شِعْرًا:
وَإِنَّ أَحْسَن قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الذِّي خَلَقَا
فمتَى تَنقَّى القلبُ مِن مثْلِ هذهِ الخَبائِثَ والرَّذَائِل طَهُرَ وَسَكَنتْ فيه الرّحمةُ في مكان البُغضِ، والتواضُع في مَقَابلةِ الكِبْر، والنّصيحةُ في مُقابلَةِ الغِشِّ، والإخلاصُ في مقابلةِ الرَّياءِ، ورؤية المنّةِ في مُقابَلةِ العُجْب، ورؤيةُ النفس فعند ذلكَ تَزْكوا الأَعمالُ وَتَصْعَدُ إلى اللهِ تعالى وَيَطْهُرُ القلبُ وَيَبْقَى مَحَلاً لِنَظَر الحَقِّ بِمَشيئَةِ اللهِ وَمَعُونَتِهِ فَهَذَا أحَدُ شَطْريْ الدِّين وهو رِعايَةُ الجَوارحِ السّبعةِ على المآثم والمحَارم وإنما تَصْلُح وَتَطْهُرُ بِرِعَايَةِ القلب وَطَهارَتِهِ مِن المُوبِقَاتِ والجَرائِمِ. وَمَعْنى المُوبقاتِ: المهلكات. أ. هـ.
آخر:
خِصَالٌ إِذَا لَم يَحْوِهَا المَرْءُ لم يَنَلْ ... منالاً مِنَ الدَّارِينَ يَكْسُبُ بِهِ حَمْدَا
يَكُونُ تَقِيًا مُخْلِصًا وَمُتَابِعًا ... لِصَفْوَةِ خَلِقِ اللهِ أَعْنِي مُحَمَّدَا
وقال ابنُ القيم رحمه اللهُ: والقلوبُ ثلاثةٌ: قَلبٌ خالٍ مِن الإِيمانِ وجَمِيعِ الخَيرِ، فذلِكَ قَلبٌ مُظلمٌ قد اسْتَرَاحَ الشَّيطانُ مِن إلقاءِ الوَسَاوِسَ إِليه لأنه قد اتَّخذهُ بَيْتًا وَوَطَنًا، وَتَحَكَّمَ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ غَايَةَ التَّمَكُّنِ، القَلْبُ الثَّانِي: قَلبٌ قد استَنَارَ بِنُورِ الإيمان وأُوقَد فيه مِصبَاحُه لكن عليه ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ وَعَوَاصِفُ الأَهْوِيةِ فلِلشَّيْطَانِ هُنَاكَ إقْبَالٌ وإِدْبارُ ومَجَالاتٌ وَمَطَالِعُ فالحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَال، وَتَخْتَلِفُ أَحْوالُ هذا الصّنفِ بالْقِلَّةِ والكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أوقاتُ غَلَبَتِهِ لِعَدُوّهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُم مَنْ أوقاتُ غَلَبَةِ عَدوّهِ أكْثرُ، ومِنهم مَنْ هو تَارةً وتَارة.
القلبُ الثّالثُ: قَلبٌ مَحْشوٌ بالإِيمانِ قَد اسْتَنَارَ بِنُورِ الإِيمانِ وانْقَشَعَتْ عَنه حُجُبُ الشّهواتِ وأقْلَعَتْ عنه الظُّلُمَاتُ فَلِنُوِرِه في صَدْرِهِ إِشْرَاقٌ ولِذَلِكَ الإِشْراقُ إيقَادٌ لَوْ دَنَا منه الوسْوَاسُ احْترقَ بِهِ فَهُوَ كالسّماءِ(1/206)
الّتي حُرسَتْ بالنّجوم فَلوْ دَنَا مِنْهَا الشّيطانُ يَتخطّاها رُجِمَ فَاحْترق.
وَلَيْستِ السّماءُ بأَعظَمَ حُرْمةٍ من المؤْمن وحِراسَةُ الله تعالى لَهُ أَتمُّ منْ حراسَةِ السّماء، والسّماءُ مُتَعبّدُ الملائكةِ وَمُسْتَقَرُّ الوحي، وفيها أَنْوارُ الطَّاعاتِ وَقَلْبُ المؤْمنِ مُسْتَقر التّوحِيدِ والمحبّةِ والمعْرِفةِ والإِيمانِ، وفَيهِ أنْوارُهَا فهوَ حَقيقٌ أَنْ يُحرَسَ وَيُحفَظَ مِن كَيْدِ العدوِّ فَلا يَنَالُ مِنْهُ إِلا خَطْفةً تَحْصلُ له على غِرّةٍ وَغَفْلةٍ مِنْ العَبْدِ إذْ هُو بَشَرٌ وَأَحْكَامُ الْبَشَرِيّةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مِن الغَفلةِ والسّهو والذّهُول وَغَلبةِ الطَبع. انتهى.
هذه قصيدة لِبَعْضِهم فيها غُلُوٌ صَلّحْنَا مَا فِيهَا مِن الغَلَطِ الاعْتِقَادِيْ وَجَعَلْنَا على ما فيه تَصْلِيح أَقْوَاسًا:
تَيَقَّضْ لِنَفْسٍ عَنْ هُدَاهَا تَوَّلْتِ ... وَبَادِرْ فَفِي التَّأْخِيرِ أَعْظَمُ خَشْيَةِ
فَحَتَّامَ لا تَلْوى لِرُشْدٍ عِنَائَها ... وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْ غَيِّهَا كُلَّ بُغَيَةِ
وَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ لَوَّامَةُ لِمَنْ ... نَهَاهَا فَلَيْسَتْ لِلْهُدَى مُطْمَئِنَّةِ
إِذَا أَزْمَعَتْ أَمْرًا فَلَيْسَ يَرُدُّهَا ... عَنِ الفِعْلِ إِخَوَانُ التُّقَى وَالْمَبَّرةِ
وَإِنْ مَرَّ فَعْلَ الخَيْرِ في بَالِهَا أَنْثَنَى ... أَبُو مُرَّةٍ يَثْنِيهِ في كُلِّ مَرَّةِ
وَلِي قَدَمٌ لَوْ قُدِّمَتْ لِظُلامَةٍ ... لَطَارَتْ وَلَوْ أَنِّي دُعِيتُ لِقُرْبَةِ
لَكُنْتُ كِذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةُ ... وَرِجْلٌ رَمََى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ
وَقَائِلَةً لَمَّا رَأَتْ مَا أَصَابَنِي ... وَمَا أَنَا فِيهِ مِنْ لَهِيبٍ وَزَفْرَتِي
رُوَيْدَكَ لا تَقْنَطْ وَإِنْ كَثُرَ الخَطَا ... وَلا تَيْأَسَنْ مِنْ نَيْلِ رَوْحٍ وَرَحْمَةِ
مَعَ العُسْرِ يُسْرٌ وَالتَّصَبُّرُ نُصْرَةٌ ... ولا فَرَجٌ إلا بِشِدَّةِ أَزْمَةِ
(وَكَمْ عَامِلِ أَعْمَالَ أَهْلَ جَهَنَّمٍ ... فَلَمَّا دَعَى المَوْلَى أُعِيدَ لِجَنَّةِ)
فَقُلْتُ لَهَا جُوزِيتِ خَيْرًا عَلَى الذِّي ... مَنَحْتِ مِنَ البُشْرَى وَحُسْنِ النَّصِيحَةِ
فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ لِلنَّجَاةِ مِنَ الرَّدَى ... وَمَا حِيلَتِي في أَنْ تُفَرَّجَ كُرْبَتِي
(فَقَالَتْ فَطِبْ نَفْسًا وَقُمْ مُتَوَجِّهًا ... لِرَبَّكَ تَسْلَمْ مِنْ بَوَارٍ وخَيْبَةِ)(1/207)
(فَكَمْ آيِسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فَالْتَجَا ... إِليْهِ فَحُطَّتْ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةِ)
(فَدَيْتُكَ فَاَقْصِدْهُ بِذُلٍّ فَإِنَّهُ ... يُقِيلَ بَنِي الزَّلاتِ مِنْ كُلِّ عَثْرِةِ)
(إِذَا مَا أَتَوهُ تَائِبِينَ مِن الذِّي ... جَنَوْهُ مِنَ الآثامِ تَوْبَةَ مُخْبِتِ)
وَصِلِّ إِلهِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... عَلَى أَحْمَدِ المُخْتَارِ أَزْكَى البَرِيَّةِ
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ حِزْبِكَ المفْلِحِينَ وَعِبادِكَ الصَّالِحينَ الذين أهّلتهم لِخِدْمَتِكَ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا، وارْزُقْنَا مَحَبَّةُ أَوْلِيائِكَ وَأَصْفِيائِكَ واجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ في دَارِ كَرَامَتِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى محمدٍ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
كتاب الصلاة:
الصّلاةُ لغةً: الدّعاءُ قَال اللهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} ، والصّلاةُ في الشّرع: أَقْوالٌ وَأَعْمَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحةٌ بالتَّكْبِير مُخْتتمة بالتَّسْلِيم وَسُمّيتْ صَلاةٌ لاشْتِمالِها على الدُّعاءِ، وقِيلَ: لأنها ثانيةُ الشّهادتين، وقيل: لأنها صِلةٌ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِهِ.
وقيل: لما تَتَضَمّنُ من الدّعاءِ والخُشُوع والخَشْيَةِ، وقيل: لأَنَّ المُصَلِّي يَتْبعُ مَن تَقَدَّمَهُ، والصّلاة عِمَادُ الدّين، قال في مَراصِد الصّلاة للقَسطلاني: الحِكْمةُ في فَرْض الصَّلاة وَتَخْصِيصِهَا بالخَمْس، أحَدُهَا: أنّ الأنْفُسَ البَشَريّةَ الْمُقْتَضِيةَ للشَّهْوةِ والغفلةِ والسَّهوِ والنسّيانِ والشّره في العَمَلِ والفْتَرةِ عَنْهُ فاقْتضتْ الحِكْمةُ أن تذكر نِسيَانَها وَتُوقظَ غَفَلَتَهَا وَتُقْمَعَ شَهْوتَهَا بقَطعِهَا عن عاداتِها ومَنُاجَاتِها الذي كَفَلها بنعَمِهِ وغَذّاها بجُوده وَكَرمِهِ ولعلْمِهِ بِضَعفِ قُواها لم يَجْعل هَذِهِ العِبَادَةَ إلا في أَوْقَاتٍ يَكْثُرُ الْفَرَاغُ فِيهَا مِن إشْغَالِ العَادَاتِ وهذا هُوَ الحكمةُ في تَنْقِيصِهَا مِن الخَمْسِين إلى الخمس.
والوجه الثاني: أن العبدَ في هذِه الدارِ يَعْمَلُ لِنَجَاتِهِ في الدارِ(1/208)
الأَخْرَى وهِيَ مُشْتَمِلةٌ على أَهْوَالٍ وَمَشَاقٍ وَمَتَاعِبَ وأَمَامَ العبدِ دُونَهَا خَمْسُ عَقَبَاتٍ: الأولَى: الدُّنيا وشرُورُهَا وآفَاتُهَا ومَحْذُورَاتُها وَشَوَاغلُها وَعَلائِقُهَا القاطِعَةُ عن مَزيدِ السَّعَادَةِ. الثانيةُ: الموتُ وما يُخْشَى مِن فِتْنَتِهِ وشِدَّةِ سَكَرَاتِهِ وما يُشَاهَدُ عندَهُ مِن الأُموِر العِظَامِ والآلامِ الجسَامِ. الثالثة: الْقَبْرُ وضَيْقَتُهُ وَوَحْشَتُهُ وَسُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِير، وذَلك صَعْبٌ خَطِيرٌ. الرابعةُ: المَحْشِرُ: وَهو لَهُ وَما فِيهِ مِن الخَوفِ الشَّدِيدِ والْفَزَعِ الأكِيدِ. الخامسةُ: الحِسَابُ وما يُخْشَى فيه بَعْدَ العِتابِ من وُقُوعِ العِقابِ فكان فِعْلُ الصَّلوَاتِ الخَمْسِ مُسَهِّلاً لِهَذِهِ العَقباتِ مُحَّصِّلاً لِنَيلِ المَسَرَّاتِ في دَارِ الكَرَامَاتَ وَهِيَ أَجلُّ مَبَانِي الإِسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادتَيْنِ وَمَحَلُّهَا مِن الدِين مَحَلُ الرأسِ مِن الجَسَدِ فَكَمَا أَنَّهُ لا حَيَاةَ لِمَنْ لا رَأَسَ لَهُ، فَكَذَلِكَ لا دِينَ لِمَنْ لا صَلاة لَهُ.
وَهِيَ خَاتِمَةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ مِن الدُّنيا فَعَن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفاةٌ وَهُوَ يُغَرْغِرَ بِنَفْسِهِ: «الصلاةَ وما مَلَكَتْ أَيمانُكُم» . رواه أحمد، وأبو داود.
وهيَ أوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الحديثُ عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمعتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» . الحديث أخرجه الترمذي.
وهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٍ لِلْعَبْدِ على مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(1/209)
فَبِمُدَاوَمَةِ العَبْدِ عَلى الصَّلاةِ تَقْوَى رَغْبَتُهُ في الخَيْرِ وَتَسهُلُ عليهِ الطاعاتُ وَتَهُونُ عَليهِ المشَاقُ وَتَسْهُلُ عليهِ المصائِبُ وَيُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ وَيُبَارِكُ لَهُ في مَالِهِ وأَعْمَالِهِ وَتَنْهَاهُ عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ كَمَا قال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} الآية. وفي الصحيح المتفق عليه مِن رواية أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ» ؟ قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» . وَوَرَدَ مِن حَديثِ ثوبانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قَال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُم الصَّلاةُ ولا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مُؤمِنُ» ، وعن عثمانَ بن عَفَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا من امْرئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةَ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وخُشُوعَهَا ورُكُوعَهَا إلا كانَتْ كَفَارَةً لِما قَبْلَهَا مِنَ الذُنُوبِ مَا لَم تَؤْتَ كَبِيرَةٌ وذلكَ الدّهْرَ كُلَّهُ» .
وفي البخاري، ومسلم عن ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ فَقَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ عن رجلٍ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أيُّ العَمَل أفْضَلُ؟ قال: سَمِعْتُهُ قال: «أَفْضَلَ العَمَلِ الصلاةُ لِوَقْتِهَا وبِرُّ الوالِدَين والجهَاد» . ورواته محتج بهم في الصحيح.(1/210)
اللَّهُمَّ ثبّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسَنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا وَأعِذْنَا مِنْ عَدُوِّك وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فصل)
قال ابنُ القَيمِ رَحِمَهُ اللهُ: إذَا وَقَفَ في الصَّلاةِ صَاحِبُ القَلْبِ العَامِرِ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ والرَّغْبةِ فِيه وإجْلالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَقَفَ بِقَلْبٍ مُخْبِتٍ خَاشِعٍ لَه قَرِيب مِنْهُ سَلِيمٍ مِن مُعَارَضَاتِ السُوءِ قَدْ امْتَلأتْ أرْجَاؤه بالهَيْبَةِ وَسَطَعَ فَيهِ نُورُ الإِيمانِ وَكُشِفَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ وَدُخَانُ الشَّهواتِ فَيَرْتَعُ في رِياضِ مَعَانِي القُرْآنِ وخَالَطَ قَلْبَهُ بَشَاشَةُ الإِيمانِ بِحَقَائِقِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ وَعُلُّوِهَا وَجَلالِهَا الأَعْظَمِ وَتَفَرُّدِ الربِ سُبحَانه بِنُعُوتِ جَلالِهِ وصفاتِ كَمَالِهِ.
فاجْتَمَعَ هَمُّهُ على اللهِ وَقرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ وأَحَسَّ بقُرْبِهِ مِن اللهِ قُرْبًا لا نَظِيرَ لَهُ فَفَرَّغَ قَلْبَهُ لَهُ وأَقْبَلَ عَليهِ بِكُلِّيتِهِ وَهَذَا الإِقْبَالُ مِنهُ بَيْنَ إقْبَالَينِ مِن رَبّهِ فإنه سبحانَهُ أَقْبَلَ عليهِ أَوَّلا فانْجَذَبَ قَلْبُهُ بإقْبَالِهِ فلمّا أَقْبَلَ على رَبِّهِ حُظِيَ مِنْهُ إِقْبَالاً آخَرَ أَتَمَّ مِن الأَوَّلِ.
وهَا هُنَا عَجِيبَةٌ مِن عَجَائِبِ الأسْمَاءِ والصفاتِ تَحْصُلُ لِمَنْ تَفَقَّهَ قَلْبُه في مَعَانِي القُرآنِ وَخَالَطَ بَشَاشَةَ الإِيمانِ بها قَلْبُهُ بحَيْثُ يَرَ لكمْ اسْمٍ وصفةٍ مَوْضِعًا مِن صَلاتِهِ وَمَحَلاً مِنها فإذَا انْتَصَبَ قائمًا بَيْنَ يَدَيْ الربِ تبَاركَ وتعالَى شاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيومِيَّتَهُ وإذا قال: الله أكْبَرُ شاهَدَ كِبْرِياءَهُ.
وإذا قال: سبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ وَتَبَاركَ اسْمُكَ وتَعَالَى جَدُّكَ(1/211)
ولا إلهَ غَيْرَكَ شاَهد بِقَلْبِهِ رَبًا مُنَزَّهًا عَن كُلِّ عَيْبِ سَالِمًا مِن كُلِّ نَقْصٍ مَحْمًودًا بِكُلِ حَمْدٍ فَحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكلِ كَمَالٍ وَذلك يَسْتَلزِمُ بَرَاءَتَهُ مِن كُلِّ نَقْصٍ تَبَارَكَ اسْمُهُ فَلا يُذْكْرُ على قَلِيلِ إِلا كَثَّرَهُ ولا عَلى خَيْرٍ إِلا أَنْمَاه وَبارَكَ فيهِ ولا على آفةٍ إِلا أذْهَبَهَا ولا على الشيطانِ إِلا طَرَدَهُ خَاسِئًا دَاحِرًا وكمالُ الاسْمِ مِن كَمَال مُسَمَّاهُ فإذا كانَ هذا شأنُ اسْمِهِ الذي لا يَضُرُّ مَعَهُ شيءٌ في الأَرضِ ولا في السماءِ فَشَأْنُ المُسَمَّي أَعْلا وأجَلُ وتعالى جَدَّهُ أَيْ ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُه وَجَلَّتْ فَوقَ كُلِّ عَظَمَةٍ وَعَلا شَأْنُهُ عَلى كُل شأنٍ وَقَهَرَ سُلْطَانُه على كُلِّ سُلْطَانٍ فَتَعَالَى جَدُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكَ فِي مُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ أَوْ فِي إلهيَّتِهِ أَوْ فِي صِفَاتِهِ كَمَا قَالَ مؤمِنُوا الجِن وأَنَّهُ تعالى جد ربنا ما اتخذَ صَاحِبَةً ولا ولدًا فكَمْ في هَذِهِ الكلماتِ مِن تَجلّ لِحَقَائِقَ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ على قَلْبِ العارِفِ بِها غَيْرِ المُعَطّلِ لِحَقَائِقِها وإذَا قَالَ: أعُوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ فقد آوى إلى رُكْنِهِ الشَّدِيدِ واعتصَمَ بحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ من عَدُوّه الذي يُرِيدُ أَن يَقْطَعَهُ عن رَبِهِ وَيُبَاعِدَهُ عن قرْبِهِ لِيَكُونَ أَسْوَأَ حَالاً.
فإذَا قَالَ: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَفَ هُنَيْهَةً يَسِيرَةً يَنْتَظِرُ جَوَابَ رَبِّهِ لَهُ بِقولِهِ: حَمِدَنِي عَبْدِي. فإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، انتظرَ الجَوابَ بِقولِهِ: أثْنَى عَليَّ عَبْدِي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، انتظرَ جَوَابَهُ بِقولِهِ مَجَّدَنِي عَبْدِي.
فَيَا لَذَّةَ قَلْبِهِ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِقَولِ رَبِّهِ: عَبْدِي ثلاَث مرَّاتٍ فَواللهِ لَولا مَا عَلَى القُلُوبِ مِنْ دُخَانِ الشَّهَواتِ وغَيْمِ النُّفُوسِ لاسْتُطِيرتَ فَرَحًا وَسُرُورًا بقولِ رَبَها وَفَاطِرِهَا وَمَعْبُودِهَا حَمِدَنِي عَبْدِي وأَثْنَى عَليَّ عَبْدِي وَمَجَّدَنِي عَبْدِي ثُمَّ يَكُونُ لِقَلْبِهِ مَجَالٌ مِن شُهُودِ هَذِهِ الأسْمَاءِ الثلاثةِ(1/212)
التي هِيَ أُصُولُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى وَهِيَ: اللهُ، والربُّ، والرحمنُ فَشَاهَدَ قَلْبُهُ من ذِكْرِ اسْمِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلهًا مَعْبُودًا مَوْجُودًا مَخْوفًا لا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَلا تَنْبَغِي إِلا لَهُ قَدْ عَنَتِ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ المَوْجُودَاتُ وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتِ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} .
وكذالكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلقَ الجِنَّ والإنْسَ والطيرَ والوحشَ والجنةَ والنارَ وكذلك أرسلَ وأَنْزَلَ الكتبَ وَشَرَعَ الشرائعَ وألْزَمَ العِبَادَ الأمرَ والنَّهْيَ.
وَشَاهَدَ مِن ذِكْرِ اسْمِهِ رَبَّ العالمين قَيُّومًا قَامَ بِنَفْسِهِ وقَامَ بِهِ كُلُ شَيءٍ فَهُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِ نَفْسٍ بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا قَدْ اسْتَوى على عَرْشِهِ وَتَفَرَدَ بِتَدْبِيرِ مُلْكِهِ فالتَّدْبِيرُ كُلُّهُ بِيَدِهِ مَصِيرُ الأُمُورِ كُلِّهَا إِليهِ فَمَراسِيمُ التَّدْبِيرَاتِ نَازِلَةٌ مِن عِنْدِهِ عَلَى أَيْدِي مَلائِكَتِهِ بالعَطَاءِ والمَنْعِ والخَفْضِ والرَّفْعِ والإِحْياءِ والأَمَانَةِ والتَّوْبَةِ والْعَزْلِ والْقَبْضِ والْبَسْطِ وَكَشْفِ الْكُرُوبِ وإِغَاَثُةِ الْمَلْهُوفِ وإِجَابَةِ الْمُضْطَرَِينَ {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا رَادَّ لأمْرِهِ ولا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِِهِ تَعْرُجُ الملائِكةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ وَتُعْرَضُ الأَعْمَالِ أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ عليهِ فَيُقَدِّرُ الْمَقَادِيرِ وَيُوَقِّتُ الْمَوَاقِيتَ ثُمَّ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلى مَوَاقِيتِهَا قَائِمًا بِتَدْبِيرْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَحِفْظِهِ وَمَصَالِحِهِ.
ثم يَشْهَدُ عندَ ذِكْرَ اسْمِهِ الرَّحْمَن جَلَّ جَلالُهُ رَبًّا مُحْسِنًا إِلى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ مُتَحَبِبًّا إِليهم بصُنُوفِ النِّعَمِ وَسَعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا وأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلاً فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ(1/213)
كُلَّ حَيٍ فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ فاسْتَوَى على عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِرَحْمَتِهِ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ والنارَ أيضًا بِرَحْمَتِهِ فإِنها سَوْطُهُ الذي يَسُوقُ بِهِ عِبَادَهُ المؤمنينَ إلى جَنَّتِهِ وَيُطَهِّرُ بِهَا أدْرَانَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَسِجْنُهُ الذي يَسْجِنُ فيهِ أَعدَاءَهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ.
فَتَأَمَّلْ مَا في أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَصَايَاهُ وَمَوَاعِظِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ الْبَالِغَةِ والنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَمَا فِي حَشْوِهَا مِنَ الرَّحْمَةِ والنَّعِمْةِ فَالرَّحْمَةُ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُ بِعِبَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُمْ بِهِ فَمِنْهُمْ إِليهِ الْعُبُودِيَّةُ وَمِنْهُ إِليهِم الرَّحْمَةُ.
وَمِنَ أَخَصَّ مَشَاهِدِ الاسْمِ شُهُودُ الْمُصَلِّي نَصِيبُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ الذِّي أَقَامَهُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَأَهَّلَهُ لِعُبُودِيَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَأَعْطَاهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِ.
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَهُنَا شَهِدَ الْمَجْدَ الذي لا يَلِقُ بِسَوى الْمَلكِ الحَقِ الْمُبِينَ فَشَهِدَ مَلِكًا قَاهِرًا قَدْ دَانَتْ له الْخَلِيقَةُ وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَذَلَّتْ لِعَظَمَتِهِ الْجَبَابِرَةُ وَخَضَع لِعِزَّتِهِ كُلُّ عَزِيزٍ فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ مَلِكًا عَلى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنُا لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ وإِذَا لَمْ تُعَطَّلْ صِفَةٌ حَقِيقَيْةً صِفةَ الْمُلْكِ أَطْلَعَتْهُ عَلى شُهُودِ حَقَائِقِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ التي تَعْطِيلُهَا تَعْطِيلٌ لِمُلْكِهِ وَجَحْدٌ لَهُ فَإِنَّ الْمَلكَ الْحَقَّ التَّامَّ الْحَقَّ لا يَكُون إِلا حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا آمِرًا نَاهِيًا مُسْتَوِيًا عَلى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ يُرْسِلُ إِلى أَقَاصِي مَمْلَكَتِهِ بأوامِرِهِ فَيَرْضَى على مَنْ يَسْتَحِقَ الرِّضَا وَيُثِيبُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدْنِيهِ، وَيَغْضَبُ عَلى مَنْ يَسْتَحِقُ الْغَضَبَ وَيُعَاقِبُهُ وَيُهِينُهُ وَيُقْصِيهِ وَيَقْصِي مَن يَشَاءُ، لَهُ دَارُ عَذَابِ وَهِيَ النَّارُ وَلَهُ دَارُ سَعَادَةٍ وَهِيَ(1/214)
الْجَنَّةُ. فَيُعَذِبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَيُعْطِي مَن يَشَاءُ وَيُقَرِّبُ مَن يَشَاء.
فَمَنْ أَبْطَلَ شَيْئًا مِن ذَلكَ أَوْ جَحَدَهُ وأَنْكَرَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ قَدَحَ فِي مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى وَنَفى عَنْهُ كَمَا لَهُ وَتَمَامَهُ.
وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ عُمُومَ قَضَائِه وَقَدَرِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عُمُومَ مُلْكِهِ وَكَمَالِهِ فَيَشْهَدُ الْمُصَلِّي مَجْدَ الربِ تَعاَلَى فِي قَولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَفِيهَا سِرُّ الْخَلْقِ والأَمْرِ والدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةُ لأَجَلِّ الْغَايَاتِ وأفضلِ الْوَسَائِلِ.
فأَجَلُّ الْغَايَاتِ عُبُودِيتُهُ وَأَفْضَلُ الْوَسَائِلَ إِعَانَتُهُ فَلا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلا هُوَ ولا مُعِينَ على عِبَادَتِهِ غَيرُهُ فَعِبَادَتُهُ أَعْلَى الْغَايَاتِ وإِعَانَتُهُ أَجَلُّ الْوَسَائِلِ وَقَدْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى مائة كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيهَا فِي أَرْبَعَةِ. وَهِيَ: التَّوْرَاةُ، والإِنْجِيلُ، والْقُرْآنُ، والزَّبُورُ. وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْفَاتِحَةِ وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
وقد اشْتَمَلَتْ هذِهِ الْكَلِمَةُ على نَوْعَيْ التَّوْحِيد وَهُمَا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتْ التَّعَبُدَ باسْمِ الربِ واسمِ اللهِ فَهوَ يُعْبَدُ بالأُلُوهِيَّةِ وَيُسْتَعَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَيَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِرَحْمَتِهِ فكانَ أوَّلُ السُّورَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ والربِّ والرحمنِ تَطَابَقًا لأَجْلِ الْمَطَالِبِ مِن عِبَادِتِهِ وَإِعَانَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَهو الْمُنْفَرِدُ بإعْطَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ لا يُعِينُ عَلى عِبَادَتِهِ سِوَاهُ وَلا يَهْدِي، سِوَاهُ ثُمَّ يَشْهَدُ الدَّاعِي بَقَوْلِهِ: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} شِدّةَ فَاقَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إِلى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التي لَيْسَ هُو إلى شيءٍ أَشَدَّ فاقةً وَحَاجَةً مَنْهُ إِليهَا الْبَتَةَ فإنَّه مُحْتَاجٌ إِليه في كُلِ نَفَسٍ وَطَرفَةِ عَيْنٍ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ مِن(1/215)
الدُّعَاءِ لا يَتِمُ إلا بالهِدَايَةِ إلى الطَّرِيقِ المُوصِلُ إِليْهِ سُبْحانَهُ والْهِدَايَةِ فيهِ أيْ هِدَايَةِ التَّفْصِيلِ وَخَلْقِ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ وَتَكْوِينِهِ وَتِوْفِيقِهِ لإِيقَاعِهِ عَلى الْوَجْهِ الْمَرْضِي الْمَحْبُوبِ للرَّبِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحِفْظِهِ عَليهِ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ حَالَ فِعْلِهِ وَبَعْدَ فِعْلِهِ.
وَلَمَّا كاَنَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا فِي كُلّ حَالٍ إِلى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلى غَيرِ الْهِدَايَةِ فَهو يَحْتَاجُ إِلى التَّوْبَةِ مِنْهَا.
وأُمُورٍ هُدى إِلى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا أَوْ هُدِيَ إِليهَا مِن وَجْهِ دُونَ وَجْهٍ فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدَى.
وأُمُورٍ يَحْتَاجُ إِلى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِن الْهِدَايَةِ فِيهَا بالْمُسْتَقْبَلِ مِثلَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي.
وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلى الهِدَايَةِ فِيهَا.
وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ.
وأُمُورٍ قَدْ هُدِي إِلى الاِعْتِقَادِ الْحَقِّ والْعَمَلِ والصَّوابِ فِيهَا فهو مُحْتَاجُ إِلى الثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلى غَيْرِ ذَلكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ.
فَرَضَ اللهُ سبحانَهُ عليه أنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ في أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ ثم بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُمْ الْمُخْتَصُوَن بِنِعْمَتِهِ دُونَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الذَّيْنَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَدُونَ الظَّالِينَ وَهُمْ الذينَ عَبَدُوا اللهَ بِغَيرِ عِلْمٍ فَالطَّائِفَتَانِ اشْتَرَكَتَا فِي الْقَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَأمْرِهِ وأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ فَسَبِيل ُالْمُنْعِمْ عَلَيْهِم مُغَايرَةُ لِسَبِيلِ أَهْلِ البَّاطلِ كُلِّهَا عِلْمًا وَعَمَلاً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا الثَّنَاءِ والدُّعَاءِ والتَّوحِيدِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَطْبَعَ عَلَى ذَلكَ بِطَابع مِنْ التأمِينِ(1/216)
يَكُونُ كالخَاتِمِ لَهُ وَافقَ فِيه مَلائِكَةَ السَّماءِ وهذا التأمِينُ مِن زِينَةِ الصلاةِ كَرَفْعِ اليدِيْنِ الذِي هُوَ زِينَةُ الصلاةِ وإتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَتَعْظِيمَ أَمْرِ اللهِ وَعُبُودِيَةُ الْيَدَيْنِ وَشِعَارُ الاِنْتِقَالِ مِن رُكْنٍ إِلى رُكْنٍ ثُمَّ يَأَخُذُ فِي مُنَاجاَةِ رَبِّهِ بِكلامِهِ واسْتِمَاعِهِ مِنْ الإِمَامْ بالإِنْصَاتِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَشُهُودِهِ.
وقال رحمه الله: والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم: أنه الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، ولا طريق لهم سواه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسله بالطاعة، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته، وهذا هو الهدى وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها.
وقال: والطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إلى الله فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه إلى ربه طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانًا مبتغيًا به وجه الله فلا يزال عاكفًا على طريق العلم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه، ومنهم من يكون سيد عمله الذكر، ومنهم من يكون طريقه الإِحسان والنفع المتعدى، ومنهم من يكون طريقه الصوم، ومنهم من يكون كثرة تلاوة القرآن، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من يكون طريقه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم الجامع الفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق،(1/217)
فهو جعل وظائف عبودية قبلة قلبه ونصب عينيه وقد شارك أهل كل عمل وذلك فضل الله.
وقال رَحِمَهُ اللهُ ولما كان طالبُ الصراط المستقيم طَالِبَ أَمْرٍ أَكْثَرُ النَّاسِ نَاكِبُونَ عَنْهُ، مرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرَافِقُهُ فيها في غَايَةِ الْقِلَّةِ والْعِزَّةِ، والنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ علَى وحْشَةٍ التَّفَرُّدِ، وعلى الأنس بالرفيق.
نَبَّهَ اللهُ سُبْحَانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنَّهمُ هم الذين {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} .
فأَضَاف الصِّرَاطَ إلى الرفِيقِ السالِكينَ لَهُ، وهُم الذين أَنْعَم اللهُ عليهم، لِيزُولَ عَن الطالِبِ لِلْهِدَايَةِ وسُلُوكِ الصِّرَاطِ وحْشَةُ تَفَردُّهِ عن أهِل زَمَانِهِ وبَنِي جِنْسِهِ، وَلِيَعْلم أَنْ رَفِيقَهُ في هَذا الصراط هم الذين أَنْعم اللهُ عليهم.
فلا يَكْتَرِثْ بِمُخَالَفَةِ النَّاكِبينَ عنه لَهُ فإنهم هم الأقَلُونَ قَدْرًا وإن كانوا الأكْثَرِينَ عَدَدًا، كما قَالَ بعضُ السلفِ: عليكَ بطريق الحقِّ ولا تَسْتَوحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِين، وَإيَّاكَ وَطَرِيقَ البَاطِلَ وَلا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ.
وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ في تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إلى الرَّفِيقِ السَّابِقِ وَاحْرِصْ عَلَى اللِّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ مَنْ سِوْاهُمْ فَإِنَّهُمُ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ في طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ.
قَالَ وَلَمَّا كَانَ سُؤالُ اللهِ الْهِدَايةِ إِلى الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ أَجَلَّ الْمَطَالِبِ، وَنَيْلُهُ أَشْرَفَ الْمَوَاهِبِ عَلَّمَ اللهُ عِبَادِهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ والثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدَهُ.
ثم ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَتَوْحِيدَهُمْ فَهَاتَانِ وسِيلَتَانِ إِلى مَطْلُوبهم تَوَسُّلٌ(1/218)
إِليه بأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوسُّلٌ إِليه بِعُبُودِيَّتِهِ وَهَاتَان الْوَسِيلَتَان لا يَكَادُ يُرَدُّ مَعْهُمَا الدُّعَاءُ.
ويُؤيِّدْهُما الْوَسِيلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي حَدِيثَيْ الاسْم الأعظم اللَّذَيْنِ رواهما ابن حبَّان في صَحِيحه، والإِمام أحمد، والترمذي.
أَحَدُهما: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عن أبيه قال سَمِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَدْعُو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بأني أَشْهَدُ أَنَّكَ اللهُ الذي لا إِلهَ إلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كُفْوًا أحَد.
فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ الله باسْمِهِ الأَعْظَمْ الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وإذا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . قال الترمذيُ: حَدِيثٌ صحيح.
فهذا تَوَسُّلٌ إلى الله بتَوحِيدِهِ، وشَهَادَةِ الدَّاعِيَ لَهُ بالْوَاحْدَانِيَّةِ وثبوتِ صِفاتِهِ المدلُولِ عليها باسمِ الصَّمَدِ.
وهو كما قال ابن عباس: العَالِمُ الذي كَمُلَ عِلْمُهُ القادِرُ الذي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ وفي رواية: (هو السيدُ الذي قَدْ كَمُلَ فيه جَمِيعُ أنواعِ السؤدَدِة) .
وقال سعيد بن جبير: هو الكاملُ في جَميعِ أَقوالِهِ وَصِفاتِهِ وأفْعالِهِ.
والثاني: حَدِيثُ أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلاً يَدْعُو:
اللَّهُمَّ إني أسألكَ بأن لك الحمد لا إله إلا أنْتَ المنان بَدِيعُ السماوات والأرض؛ ذا الجلال والإكرام، يا حَيُّ يا قَيُّوم.
فقال: «لقد سأل الله باسمه الأعظم» . فهذا توسل إليه بأسمائِهِ وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما: التوسل بالحمد، والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده.(1/219)
ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيقٌ بالإجابة.
ونظير هذا دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل. رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس:
«اللَّهُمَّ لك الحمد أنتَ نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنتَ قيوم السماوات والأرض ومن فيهن.
ولك الحمد أنتَ الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق.
اللَّهُمَّ لكَ أسلمتُ، وبكَ آمَنْتُ، عليك تَوَكَّلْتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبكَ خاصَمْتُ، وإليكَ حَاكَمْتُ.
فاغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسررتُ وما أعلنت، أنْتَ إلهي لا إله إلا أنْتَ» ، فذكر التوسلَّ إليه بِحَمْدِهِ والثَّناء عليه، وبِعُبُودِيَّتِهِ ثم سأله المغفرة.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإنسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُها شيءٌ يُحْيي العِظَامَ وهي رَمِيمٌ، نسأَلك أَنْ تَهْدِينا إلى صِراطِك المستقيم، صِراط الذيْنَ أَنْعَمْتَ عَليهم من النَّبيينَ والصِّدِِيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحَينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
عِبَادَ اللهِ إِن الصلاةَ عِمادُ الدِّينِ وأَعْظَمُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ بَعْدَ الشهادَتَين مَنْ حَافَظَ عَلَيهَا فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ أَضَاعَهَا وأَهْمَلَهَا فهو الشَّقِيُ الْعَنِيدُ، وقد أَمَرَ اللهُ بالمحافظةِ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِإقَامَتِهَا فِي آياتً كَثِيرَةٍ قال(1/220)
تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، وَقَالَ: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} .
وَقَالَ: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} ، وَقَالَ: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية. وَقَالَ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} ، وَقَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} ، الآية. وقَالَ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} ، وقَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ، قال ابنُ عَبَّاسٍ: يُقِيمونَ الصَّلاةَ بِفُروضِهَا. وقال الضَّحاكُ: عَن ابنِ عباسٍ: إقامةٌ الصَّلاةِ إتْمَامُ الرُّكُوعِ والسُّجود والتِّلاوةِ والْخُشُوعِ والإقبالِ عليهِ فيهَا. وقال قَتَادَةُ: إقامَةُ الصَّلاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِها.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إقامَتُها: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وإسْبَاغُ الطَّهُورِ فِيهَا وإتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا والتَّشَهّدُ والصَّلاةُ عَلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كثيرةٍ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ مَنْ حَافَظَ على الصَّلَواتِ الْخَمْسِ عَلى وُضُوئِهِنَ وَرُكُوعِهِنَّ وَمَواقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وآتَى الزَّكَاة طَيَّبةً بِهَا نَفْسُهُ، وأدّى الأمانة» . قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا أَدَاءُ الأمانَةِ؟ قَالَ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمَنْ ابنَ آدَمَ على شيءٍ مِنْ دِينِهِ غَيْرَها» . رواه الطبراني.
وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ لا يَجْعَلُ اللهُ مَنْ لَهُ سَهْمٌ في الإِسْلام كَمَنْ لا سَهْمَ لَهُ وَأَسْهُمُ الإِسْلامِ ثلاثةٌ: الصَّلاةُ، والصَّومُ، والزَّكَاةُ. ولا يَتَولَّى اللهُ عَبْدًا(1/221)
فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُحِبُّ رَجلٌ قَوْمًا إِلا جُعِلَ مَعَهُمْ» . الحديثَ رواهُ أحمدُ بإسنادٍ جيدٍ، ورواهُ الطَّبَراني في الْكَبِير مِنْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ.
وَعَنْ عمر بن مُرَّة الجُهَنِي قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلى النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرأَيْتَ إِنْ شَهِدتُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهَ، وأَنكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَليتُ الصَّلواتِ الْخَمْسِ، وأدَّيْتُ الزَّكاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ فَمِنْ مَنْ أَنَا؟ قَالَ: «من الصِّدِيقِينَ والشُّهَدَاءِ» . رواهُ البَزَّارُ، وابنُ خزيمةَ، وابنُ حِبَّان في صَحِيحَهُمَا، واللفظُ لابنِ حِبَّانَ. ومن الأَدِلَةِ الدَّالةِ عَلى وُجُوبِهَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ قَولهُ تَعَالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، وأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شِهَادةِ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإِقَام الصَّلاةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» .
وأَجْمَعَتِ الأمةُ عَلى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَواتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَفُرضَتْ الصَّلاةُ لَيْلةَ الإِسْرَاءِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْو خَمْسِ سِنينَ وِقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
اللَّهُمَّ وَفِقْنَا للاسْتِعْدَادِ، واهْدِنَا إِلى سَبِيل الرَّشَادِ، وَوَفقْنَا للعَمَلِ الصَّالِحِ ليومِ الْمَعَاد، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
فصل: وَيَحْرمُ تَأْخِيرُ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا عَلَى الْقَادِر عَلى فِعْلِهَا(1/222)
الذَّاكِرِ لَهَا إِلا لِنَاوِي الْجَمْعِ لِنَحْوِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ لأنه يَجبُ إيقاعُهَا في الوقتِ فإذا خَرَجَ وَقْتَهُا وَلم يأتِ بِهَا كَانَ تَارِكًا لِلواجِبِ مُخَالِفًا لِلأَمْرِ وَلِئَلا تفُوتَ فائدةُ التأقِيتِ.
وَأَمَّا الدَّليلُ عَلى جَوازِه للعُذْرِ وَتَحْرِيمه لِغيرِ الْعذْر فَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا: «لِيْسَ في النَّوْم تَفْرِيطَ إنما التفريط في الْيَقَظِةَ أَنْ تُؤَخِر الصَّلاةَ إِلى أَنْ يَدْخَلَ وَقْتَ أَخْرَى» ، وَقَدْ وَرَدَ في تَفْسِير قولهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تأخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَسَمَّاهُمْ مُصَلِّينَ لَكنَّهُمْ لِمَا تَهَاونُوا بِهَا وَأخَروهَا عَنْ وَقْتِهَا وَعَدهُم بِويل وَهُوَ شِدّةُ الْعَذَابِ وَقِيلَ هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمْ لَوْ سُيّرتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا لذَابَتْ مِنْ حَرِّهِ وَهُوَ مَسْكَنْ مَنْ يَتَهَاوَنُ بالصَّلاةِ ويُؤخِرُّهَا عَنْ وَقْتِهَا إِلا أَنْ يَتُوبَ وَيَنْدَمَ وَيَعْزَمَ أَنْ لا يَعُودَ وَيَتُوبَ اللهُ عَليهِ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللهِ فِي هَذِهِ الآيةِ الصَّلواتُ الْخَمْسُ فَمَنْ اشْتُغِلَ بِمَالِهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَضِيعَتِهِ وَأَوْلادِهِ عَنْ الصَّلاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَ مَنْ الْخَاسِرينَ. وفي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتِ إِذَا كَانتْ عَليكَ أَمْرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ» ، أَوْ قَالَ: «يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا» .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} ، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمْ: أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَقَالَ سَعِيدْ بِنْ الْمُسَيِّبْ: هُوَ أَنْ لا يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتى يَأْتِي الْعَصْرُ وَلا الْعَصْرَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَجَاحِدُ الصَّلاةِ مَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لا يَجْهَلُ وُجُوبَهَا كَمَنْ نَشَأَ بِدَارِ الإِسْلامِ فَهَذَا يَكْفُرُ بِجَحْدِهِ لأَنَّهُ مُكذبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وإجْمَاعِ الأمَّةِ وَيَصِيرُ مُرْتَدًا(1/223)
وأمّا أَنْ يَكُونَ مِمَنْ يَجْهَلُ وُجوبَهَا كَمَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ، وَكَحَدِيثِ عَهْدِ بإسْلامٍ فَهَذَا يُعَرَّفُ وُجُوبَهَا فإنْ أَصَرَّ عَلَى الْجَحْدِ كَفَرَ.
فإنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا وَكَسَلاً دَعَاهُ إِمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ إِلى فِعْلِهَا فِإنْ أَبَى حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ التي بَعْدَهَا وَجَبَ قَتْلُه وَمُدَّةُ اسْتِتَابةِ الْجَاحِدِ لِوُجُوبِهَا وَتَارِكِهَا تَهَاوُنًا وَكَسَلاً ثَلاثَةِ أَيْامٍ بِلَيَالِيهَا كَسَائِر الْمُرْتَدينَ، وَيُضِيقُ عَلَيْهِمَا وَيُدْعَيانِ كُلَّ وَقْتٍ صلاةٍ إِلَيْهَا فإنْ تَابَا بِفعْلِهَا مَعْ إِقْرَارِ الْجَاحِدِ لِوُجُوبِهَا خُلِّيَ سَبِيلُهُمَا وإِلا ضُرِبَتْ عُنُقُهُمَا.
وحيثُ كَفَر فإنَّه يُقْتَلُ بَعْدَ الاسْتِتَابَةِ وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يُرقُّ وَلا يُسْبَى لَهُ وَلَدٌ وَلا أَهْلٌ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِينَ.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمَعَاصِي والزَّلات وَوفّقْنَا للعَمَلِ بالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فصل)
في الأَدِلَّةِ عَلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلاةِ
والدَّلِيلُ عَلَى كُفْر تَارِكِ الصَّلاةِ قَوْلُه تَعَالَى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ْ، وقَالَ: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ، وقال تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآية.
وعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(1/224)
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ» . رواه الجماعة إلا البُخَارِيُّ، والنِّسَائي.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . رواه الْخَمْسَةُ. وفي الحديث الآخَر: «مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . رواه أَحْمَدُ بإسْنَادٍ عَنْ مَكْحُولٍ وَهو مرْسَلٌ جيدٌ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاةِ. رواهُ التِّرمِذِي.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بنِ الْعَاصِ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلا بُرْهَانًا وَلا نَجَاةً وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. رَواهُ أَحْمَدُ. وقالَ عُمَرُ: لاحظَّ في الإسْلامِ لمنْ تَرَكَ الصَّلاةَ. وقَالَ عَليٌ: مَنْ لَمْ يُصَلّ فَهُو كَافِرٌ.
وقالَ ابنُ حَزْمِ: وقدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ، وعَبْدِ الرحمَن بِنْ عَوْفٍ، ومعاذِ بنِِ جَبَل، وأبي هُريرةَ وغيرهم مِنَ الصحابةِ: أن مَنْ تَرَكَ صَلاةَ فَرْضٍ واحدةٍ متعمِّدًا حَتَى يَخرجَ وَقتُها فَهُوَ كافِرٌ مُرْتَدٌ.
وَقَالَ الْحَافظُ عَبْدُ الْحَقّ الإِشْبيلي فِي كِتَابِهِ: ذَهَبَ جُمَْلةٌ مِنْ الصَّحَابِةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلاةِ مُتَعَمِدًا لِتَرْكِهَا حَتَّى يَخْرجَ وَقْتُها مِنْهُم عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب، وَمعاذُ بنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبو الدَّرْدَاءِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلي. وَمِنْ بَعْدِهِمْ: أَحْمَدُ بِنُ حَنْبَلٍ، وإسْحَاق، وعبدُ اللهِ ابنُ الْمُبَارَكِ، وَإبْرَاهِيمُ الْنَّخَعِي، والْحَكَمُ بِنُ(1/225)
عيينةَ، وأَيُّوبُ السِّخْتِيانِي، كل هؤلاء ذَهَبوا إلى تَكْفِير تاركِ الصَّلاةِ حتى يخرجَ وَقْتُهَا.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ حَتَّى أَدْخَل وَقَتًا فِي وَقتٍ فَهُو كافرٌ.
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعِبَادِكَ الأَخْيار وانْظُمْنَا في سِلْكِ الْمُقَرَّبينَ والأَبْرَارِ وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(8) موعظة
أيُّهَا النَّاس إِنَّ سُبُلَ الْعَافِيَةِ مُنْدَرِسَةٌ لِقلَّةِ سُلاكِهَا وإنَّ عللَ الْقُلوبِ الْقَاسِيةِ مؤذنةٌ بِهَلاكِهَا وإِنَّ رُسُلَ الْمَنُونِ قَانِصَةُ لا تُفْلِتُ أَحَدًا مِنْ شِبَاكِهَا فَمَا للعيونِ نَاظِرَةٌ وَلا تُبْصِرُ وَمَا للقلوب قاسيةٌ وَلا تُفَكِّرُ وَمَا للعقولِ طَائِشَةٌ لاهِيةٌ بِجَمْعِ الدُّنْيَا وَلا تَشْعُرُ، وَمَا لِلنِّفُوسِ قَاسِيَةٌ وَلا تَذكرُ أَغَرَّهَا إِنْظَارُهَا وإمْهَالُهَا أَمْ بَشّر بالنَّجَاةِ صَالحُ أَعْمَالِهَا أَمْ لَمْ يَتَحققْ عِنْدَهَا من الدُّنْيَا زَوَالِهَا.
شِعْرًا:
أَمَدُ الحَيَاةِ كَمَا عَلِمْتَ قَصِيرُ ... وَعَلَيْكَ نَقَّادٌ بِهَا وَبَصِيرُ
عَجَبًا لِمُغْتَرٌّ بِدَارِ فَنَائِهِ ... وَلَهُ إِلَى دَار البَقَاءِ مَصِيرُ
آخر: ... وَلَسْتَ أَرى السَّعَادَةَ جَمَعْ مَالٍ ... وَلكن التقيَّ هُو السَّعِيدُ
وَتَقْوَى الله خَيْرُ الزَّادِ ذُخْرًا ... وَعِنْد الله للأتقى مَزِيدُ
وَمَا لا بُدَّ أَنْ يَأَتِي قَرِيبٌ ... وَلكِنَّ الذي يَمْضِي بَعِيدُ
آخر:
هَوِّنْ عَليكَ فَمَا الدُّنْيَا بِدَائِمَةٍ ... وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثلُ النَّاسِ مَغْرُورُ
وَلَوْ تَصَوَّرَ أَهْلُ الدَّهْرَ صُورَتَهُ ... لَمْ يُمْسِ مِنْهُمْ لَبِيبٌ وَهُوَ مَسْرُورُ
تَاللهِ لَقَدْ شَمِلَتْ الْقُلُوبُ الْغَفْلَةِ فاسْتَحْكَمْ عَلَى الْقُلُوبِ أَقْفَالُهَا، فَكأنَ قَدْ كَشَفَ الْموتُ لأَهْلِ الْغَفْلَةِ قِنَاعَهُ وَأَطْلَقَ عَلَى صِحَاحِ الأَجْسَامِ(1/226)
أَوْجَاعَهُ وَحَقَّقَ بِكلِ الأَنَامِ إِيَقاعَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ دِفَاعَهُ فَخَفَقَ مِن الْمَنُزِولِ به فُؤادُهُ وَرَحِمَهُ أَعْدَاؤُهُ وَحُسَّادُه وَقَرُبَ عَنْ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ بِعَادُهُ والْتَحَقَ بِذُلّ الْيُتْمِ أَوْلادُه فيالَهُ مِنْ وَاقِعٍ فِي كُرَبِ الْحَشَارِجِ إلى أَنْ أَدْرِجَ فِي تَلْكَ الْمَدَارِج وَقَدِمَ عَلَى الله ذِي الْمَعَارِج فِي مَنْزِلَ لا يَبْرَحُ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ حَتَّى يَلْحَقَ آخِرُ الْخلقِ أَوَّلَهُ فَانْتَبِهُوا رَحَمَكُمْ اللهُ قَبلَ أَنْ يَصلَكُمْ الدُّورُ واسْتدْركوا مَا فَاتَكمْ ومَا قَصَّرْتَمْ بِهِ مِن الأََعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلى الْفَورِ. أَفَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيُهْمِلَهُ.
كَلا واللهِ لَيَبْعَثَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ مَا أَمَاتَهُ وَلَيَسْأَلَنَّ عَنْ الرَّسُولِ وَمَنْ أَرْسَلَه وَلَيُوَفِيَنَّ كُلَّ عَامِلٍ مَا عَمِلَهُ.
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضرُّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفعُهُ الطَّاعةَ أيْقِظْنَا مِنْ نَومِ الْغفلةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامْ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا من قَبِائِحِنَا ولا تُؤاخِذْنَا بما انْطَوَتْ عليهِ ضَمَائِرُنَا واكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْواعِ الْقَبَائِحِ والْمعائِبِ التي تَعْلَمُها مِنا، وامنُنْ علينا يا مولانا بتوبةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلِّ ذَنْبِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
تَبَيَّنَ ثَغْرُ الْفَجْرِ لَمَّا تَبَسَّمَا ... فَسُبْحَانَ مَنْ في الذِّكْرِ بَالْفَجْرِ أَقْسَمَا
فَصَلِّ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... عَسَى شَمَلَتْنَا أَوْ لَعَلَّ وَرُبَّمَا
كَمَا شَمَلَتْ آل الرسُولِ وَصَحْبِهِ ... فَأكْرِمْ بِهِمْ آلاً وَصَحْبًا وَأَعظِمَا
أَتَى بَالْهُدَى نُوراً إِلَيْنَا وَنِعْمَةً ... وَقَدْ كَانَ وَجهُ الكَوْنِ بالشِّرْكِ مُظْلِمَا
فَجَلَّى بَأَنْوَارِ الهُدَى كُلَّ ظُلْمَةٍ ... وَأَطْلَعَ في الآفَاقِ لِلدِّينِ أَنْجَمَا
أَتَى بِكِتَابٍ أَعْجَزَ الْخَلْقَ لَفْظَهُ ... فَكُلُ بَلِيغ عُذْرُهُ صَارَ أَبْكَمَا
تَحَدَّى بِه أَهَلَ البَلاغَةِ كُلَّهُمْ ... فَلَمْ يَفْتَحُوا فِيمَا يُعَارِضُهُ فَمَا
حَوىَ كُلَّ بُرْهَانٍ عَلَى كُلِّ مَطْلَبٍ ... وَيَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ كَان أَفْهَمَا(1/227)
وَأَخْبَرَ فِيهِ عَنْ عَوَاقِبَ مَن عَصَى ... بَأنَّ لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ جَهَنَّمَا
وَعَنْ مَنْ أَطَاعَ اللهَ أَنَّ لَهُ غَدًا ... نَعِيمًا بِهِ مَا تَشْتَهِي النَّفْسُ كُلَّمَا
مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَليهِ مَا حَييْتَ مُسَلِّمَا
وَأَسْرَى به نَحْوَ السَّمَاوَاتِ رَبُّه ... وَأرْكَبَهُ ظَهْرَ البُرَاقِ وَأَكْرَمَا
وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوابُها لِصُعُودِهِ ... فَمَا زَالَ يَرْقَى مِنْ سَمَاءٍ إِلى سَمَا
وَلاقَى به قَوْمًا مِنْ الرُّسْلِ كُلُّهُمْ ... يَقُولُ لَهُ يَا مَرْحَبًا حِينَ سَلَّمَا
وَكَانَ بِهِ فَرْضُ الصَّلاةِ وَحَبَّذَا ... تَرَدُّدُهُ بَيْنَ الكَلِيمِ مُكَلِّمَا
وَصَيَّرَهَا مِنْ بَعْدِ خَمْسِينَ خَمْسَةً ... فُروضًا وَأَمْرُ اللهِ قَدْ كَانَ مُبْرَمَا
وَعَادَ إلى بَيْتِ أُمْ هَانئ مُخْبِرًا ... لَهَا بالذِي قَدْ كَانَ مِنْهُ وَمُعْلِمَا
فَخَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمَلا ... وَيَزْدَادُ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ عَمَى
فَجَاءَ إِلى الْبَيْتِ الْعَتِيقَ فَأخْبَرَ الْـ ... ـعِبَادَ فَمِنْهُمْ مَنْ بِتَكْذِيبِهِ رَمَى
وَكَانَ بهِ الصَّدِّيقُ خَيْرَ مُصدِّقٍ ... فَصَدَّقَ خَيْرَ الرُّسْلِ فَي خَبَرِ السَّما
مُحَمَّدًا الْمَبْعُوثَ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَلَيهِ مَا حَيْيتَ مُسَلِّمَا
وَقُمْ حَامِدًا للهِ في كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ حَمْدَهُ في يَوْمِ حَشْرِكَ مَغْنَمَا
وَصَلّ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... مَحمَّدٍ الْمُخْتَارِ والآلِ كُلَّمَا
سَرَى البَرْقُ مِنْ أَرْجَاء مَكَّةَ أَوْ سََرَى ... نَسِيمٌ عَلَى زَهْرِ الرُّبَى مُتَبَسِّمَا
وَرَضِّيْ عَلَى الأَصْحَابِ أَصْحَابِ أَحْمَدٍ ... وَكُنْ لَهُمْ فِي كُلِّ حَينٍ مُعَظَّمَا
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سَلْكِ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ وَوَفّقْنَا لِلْقِيامِ بَأْرْكَانِ دِينْكَ الْقَويمِ وَنَجِّنَا مِنْ لَفَحَاتِ الْجَحِيمِ وأَسْكِنَّا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمْ واغفرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَميع المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ)
إذا فَهِمْتَ ما تَقَدَّمَ مِنْ مَحَاسِن الصلاةِ وحِكَمِهَا وَحُكْمُ تَأْخِيرِهَا(1/228)
وَتَرْكِهَا فَاعْلمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الصَّلاةِ عَلَى مَرَاتِبَ خَمْسٍ ذكرها الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله فقال:
أَحَدُهَا: مَرْتَبةُ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ الْمُفَرِّطِ وَهُوَ الذِّي انْتَقَصَ مِنْ وُضِوئِهَا وَمواقِيتُهَا وَحُدُودِهَا وَأَرْكَانِهَا.
الثاني: مَنْ يُحَافِظُ عَلى مَواقِيتُهَا وَحُدودِهَا وَأَرْكَانِهَا الظاهِرَةِ وَوُضوئِهَا لَكِنْ قَدْ ضَيعَ مُجاهَدَةَ نَفْسِهِ فِي الْوَسْوَسَةِ فَذَهَبَ مَعَ الْوسَاوِسِ والأَفْكَارِ.
الثالثُ: مَنْ حَافَظَ عَلى حُدُودِهَا وأَرْكَانِهَا وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعٍ الْوَسَاوسِ والأَفْكَار فَهُوَ مَشْغولٌ بِمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ لِئلا يَسْرِقَ صَلاتَهَ فَهُوَ فِي صَلاةٍ وَجِهَادٍ.
والرَّابعُ: مَنْ إِذَا قَامَ إلى الصَّلاةِ أَكْمَلَ حُقُوقَهَا وَأَرْكَانَهَا وَحُدُودَهَا واسْتَغرقَ قَلْبُه مُرَاعَاةَ حُدُودِهَا وَحُقوقِهَا لِئلا يَضِيعَ شَيءٌ مِنْهَا بَلْ هَمُّهُ كلّه مَصْرُوفٌ إِلى إِقَامَتِهَا كَمَا يَنْبَغِي إِكْمَالِهَا وِإِتْمَامُهَا، قَدْ اسْتَغْرقَ قَلْبُه شَأْنَ الصلاةِ عُبُودِيَّةُ ربِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا.
الخامِسُ: مَنْ إِذَا قَامَ إِلى الصَّلاةِ قَامَ إِلَيْهَا كَذَلِكَ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا قَدْ أَخَذَ قَلْبَه وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاظِرًا بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ مُرَاقِبًا لَهُ مُمْتَلِئًا مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدهُ، وَقَدْ اضْمَحَلَّتْ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ والْخَطَرَاتُ وارْتَفَعَتْ حُجُبُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَهَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الصَّلاةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَهَذَا فِي صَلاتِه مشغولٌ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَرِيرُ الْعَيْنِ.
فالقِسْمُ الأوَّلُ: مُعَاقَبٌ. والثاني: مُحَاسَبٌ. والثَّالثُ: مُكَفَّرٌ عَنْهُ. والرَّابعُ:(1/229)
مُثَابٌ. والْخَامِسُ: مُقَرَّبٌ مِنْ رَبِّهِ لأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِمَّنْ جُعلَتْ قُرّةُ عينه في الصَّلاةِ فَمَنْ قَرَّتْ عَيْنُه بِصَلاتِهِ فِي الدُّنْيَا قَرَّتْ عَيْنُهُ بِقُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الآخِرَةِ وَقَرَّتْ عَيْنِهِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ قَرَّتْ عَيْنُه باللهِ قَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ وَمَنْ لَمْ تَقَرَّ عَينُه باللهِ تَعالى تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَات.
وَقَدْ رُوِيَ أَنْ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (ارْفَعُوا الْحُجُبِ فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ: أَرْخُوهَا وَقَدْ فُسِّرَ هَذا الالْتِفَاتُ بالْتِفَاتِ الْقَلْبِ عَنْ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلى غَيْرِهِ فَإِذَا الْتَفَتَ إِلى غَيْرِهِ أُرْخِيَ الْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمُور الدُّنْيَا وَأَرَاهُ إيَّاهَا فِي صُورَةِ الْمِرْآةِ وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَلْتَفِتِ لَمْ يَقْدِرْ الشَّيْطَان عَلى أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ ذَلِكَ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يَدْخلُ الشَّيْطَانُ إذَا وَقَعَ الْحِجَابُ فإن فَرَّ إلى اللهِ تَعَالَى وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ فَرَّ الشَّيْطَانُ فَإِنْ الْتَفَت حَضَرَ الشَّيْطَانُ فَهُوَ هَكَذَا شَأْنُه وَشَأْنُ عَدُوّهِ فِي الصَّلاةِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قُلوبِنَا نُورًا نَهْتَدي بِهِ إِلَيْكَ وَتَولَّنَا بِحُسْنِ رِعَايَتِكَ حَتَّى نَتَوَكَلَ عَلَيكَ وَارْزُقْنَا حَلاَوَةَ التَّذلُّلِ بَينَ يَدَيكَ فاَلعزِيزُ مَنْ لاَذَ بِعزِّك والسَّعِيدُ مَن الْتَجَأَ إلى حِمَاكَ وَجُودِكَ والذليلُ مَنْ لَمْ تَؤَيّدْهُ بعنايَتِكَ والشَّقِيُّ مَنْ رَضِيَ بالإِعْرَاضِ عنْ طَاعَتِكَ. اللَّهُمَّ نَزِّهُ قُلُوبِنَا عَنْ التَّعَلق بِمَنْ دُونَك واجْعَلْنَا مِنْ قوم تَحبُّهُمْ ويُحِبُونَكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ اسْلك بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينَ الأَبْرَارْ، وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفينَ الأَخْيَارِ، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارْ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى عَلى قَوْلِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في الْحَدِيثِ: «وآمُرُكُمْ بالصَّلاةِ فَلا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللهُ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» .(1/230)
الالْتِفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الصَّلاة قِسْمَان:
أَحَدُهُمَا: الْتِفَاتُ الْقَلْبِ عن الله عَزَّ وَجَلَّ إِلى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى.
والثَّانِي: الْتفاتُ الْبَصَرِ وَكِلاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلا يَزَالُ اللهُ مُقْبِلاً عَلَى عَبْدِهِ مَا دَامَ الْعَبْدُ مُقْبِلاً عَلى صَلاتِهِ فَإِذَا الْتَفَتَ بِقَلْبِهِ أَوْ بَصَرِهِ أَعْرَضَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ وَقَدْ سُئْلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَلاتِهِ فَقَالَ: «اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاة ِالْعَبْدِ» .
وفي أَثَرِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِلى خَيْرٍ مِنِّي، ومِثَالُ مَنْ يَلْتَفتُ في صَلاتِهِ بِبَصَرِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ مَثَلُ رَجُلٍ قَدْ اسْتَدْعَاهُ السُّلْطَانُ فَأَوقَفَهُ بَيْنَ يَدَيهِ وأَقْبَلَ يُنَادِيهِ وَيُخَاطِبُهُ وَهُوَ فِي خِلالِ ذَلكَ يَلْتَفِتُ عَنْ السُّلْطَانِ يَمِينًا وَشِمَالاً وَقَدْ انْصَرَفَ قَلْبُهُ عَنْ السُّلطانِ فَلا يَفْهَمُ مَا يُخَاطِبُهُ بِهِ لأَنَّ قَلْبَهُ لَيْسَ حَاضِرًا مَعَهُ فَمَا ظَنُّ هَذَا الرَّجل ِأَنْ يَفْعَلَ بِهِ السُّلْطَانُ أَفَلَيْسَ أَقَلُّ الْمَرَاتِبِ فِي حَقّهِ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مَمْقُوتًا مُبْعِدًا قَدْ سَقَطَ مِنْ عَيْنَيْهِ.
فَهَذَا الْمُصَلِّي لا يَسْتَوِي وَالْحَاضِرُ الْقَلْبِ الْمُقْبِلُ عَلَى اللهِ تَعَالى في صَلاتِهِ الذي قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ عَظَمَةَ اللهِ الذي هُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَامْتَلأَ قَلْبُهُ مِنْ هَيْبَتِهِ وَذَلَّتْ عُنُقُهُ لَهُ واسْتَحَى مِنْ رَبِّهِ تَعَالى أَنْ يُقْبلَ عَلى غَيرهِ أَوْ يَلْتَفِتَ عَنْهُ.
وَبَيْنَ صَلاتَيْهِمَا كَمَا قَالَ حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ في الصَّلاةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا في الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقْبِلٌ بِقَلْبِهِ عَلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ والآخَرُ سَاهٍ غَافِلٌ فَإِذَا أَقْبَلَ الْعَبْدُ عَلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ لَمْ يَكُنْ إِقْبالاً ولا تَقْرِيبًا فَمَا الظنُّ بالْخَالِق عَزَّ وَجَلَّ وإِذَا أَقْبَلَ عَلى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابُ الشَّهَوَاتِ والْوَسَاوِسِ، والنَّفْسُ مَشْغُوفَةٌ بِهَا مَلأَى مِنْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلكَ(1/231)
إِقْبَالاً، وَقَدْ أَلْهَتْهُ الْوَسَاوِسُ والأَفْكَارُ وَذَهَبَتْ بِهِ كلَّ مَذْهَبٍ بِهَا.
قِصَّةٌ تُنَاسِبُ الْمَوْضُوعَ أَلْقِ لِهَا سَمْعَكَ وَحَضِّرْ قَلْبَكَ، قِيلَ إِنَّ السَّفْاحَ كَانَ يُحَدِّثُ أَبَا بَكْرٍ الْهُذَلِيْ يَوْمًا، فَعَصَفَتْ رِيحٌ فَأَسْقَطَتْ طِشْتًا مِنْ السَّطْحِ عَلَى الْمَجْلِسِ، فَارْتَاع الْحَاضِرُونَ وَلَمْ يَتَحَرّك الْهُذَلِيُّ، وَلَمْ تَزَلْ عَيْنُه مُطَابِقَةً لِعَيْنِ السَّفْاحِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ السَّفْاحُ: مَا أَعْجَبَ شَأْنَكَ يَا هُذَلي، أَيْ: لَمْ تَرْتَاع وَلَمْ تَلْتَفِتْ. فَقَالَ: إِنَّ الله تَعَالى يقول: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وَأَنَا لِي قَلْبُ وَاحِدٌ فَلَمَّا شُغِلَ بِمُحَادَثَةِ أَمِير الْمُؤْمِنِين لَمْ يَكن فيه لِمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ مَجَال فَلو انْقَلَبتِ الْخَضْرَاءُ عَلَى الْغَبْراء مَا حَسَسْتُ بِهَا وَلا وَجّهْتُ لها قَلْبِي، فَقَالَ السَّفْاحُ: لِئنْ بَقِيتُ لأَرَفَعَنَّ مَكَانَكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وصِلةً كَبِيرة، فَانْظُر بالله عَلَيْكَ وَاعْتَبِرْ فِي اسْتِغْرَاقِ قَلْبِ الْهُذَلِيْ وَانْغِمَارِهُ بِمُحَادَثةِ مَخْلُوقٍ مِثلِهِ، وَزِنْ حَالَهُ بِحَالِكَ فِي وِقُوفِكَ فِي الصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْ الله عز وجل، وقَد أَقْبَلَ عَليكَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ ورَفَعَ مِنْ بَيْنِكَ وَبَيْنَهِ الْحُجُب، فهل تجدُ قَلْبَكَ إِذَا دَخَلْتَ فِي الصَّلاة حَاضِرًا وَمُنْغَمِرًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي تَعْظِيمِ الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع الْبَصِير.
اللَّهُمَّ اغْمُرْ قُلوبَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَأَمَّنَا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ واجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكَ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِكَ المفلحِينَ واغْفِرْ لَنَا وَمَتِّعْنَا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكْريم في جَنَّاتِ النَّعِيمْ مَعَ الذين أنْعَمْت عليهم من النبيينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: والعَبْدُ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاةِ غَارَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ فَإنَّهُ قَدْ قَامَ فِي أَعْظَمِ مقَامٍ وَأَقْربِهِ وَأَغْيَظِهِ للشَّيْطَانِ وَأَشَدِّهِ عَلَيْهِ. فَهُو يَحْرَصُ وَيَجتَهِدُ كُلَّ الاجْتِهَادَاتِ أَنْ لا يُقِيْمَه فيه، بَلْ لا يَزَالُ بِهِ يَعِدُهُ(1/232)
وَيُمَنِّيهِ وَيُنْسِيهِ وَيَجِلبْ عَلَيْهِ بَخَيْلِهِ وَرَجلِهِ حَتَّى يُهَوِّنَ عَلَيْهِ شَأَنَ الصَّلاةِ فَيَتَهَاوَنُ بِهَا فَيَتْرُكُهَا. فَإنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ مِنْهُ وَعَصَاهُ العَبْدُ وَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ أَقْبََل عَدُوُّ اللهِ حَتَّى يَخْطُر بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ فَيُذَكِّرَه فِي الصَّلاةِ مَا لَمْ يَذكُرْ قَبْلَ دُخُولِهِ فِيهَا حَتَّى رُبَّمَا كَانَ قَدْ نَسِي الشَّيْءَ والحَاجَةَ وأَيِسَ مِنْهَا، فَيُذْكِرَهُ إِيَّاهَا في الصَّلاةِ لِيَشْغَلَ قَلْبَهُ بِهَا، وَيَأْخُذَه عَن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُومُ فِيهَا بلا قَلْب فلا يَنَالُ مِنَ إقْبالِ اللهِ تعالَى عَلَيْهِ وَكَرَامَتِهِ وَقُربِهِ مَا يَنَالُهُ الْمقبلُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ الحاضِرُ القَلْب في صَلاتِهِ فَيَنْصِرفُ مِنْ صَلاتِهِ مِثلَ مَا دَخَلَ فِيهَا بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ وأثْقَالِهِ لَمْ تَخُفَّ عَنْهُ بالصَّلاةِ.
فالصَّلاةُ إنَّمَا تُكَفِّرُ سَيئاتِ مَنْ أَدَّى حَقَّهَا وَأَكْمَلَ خُشوعَهَا، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدي اللهِ تَعَالى بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، فَهَذَا إِذَا انْصَرَفَ مِنْهَا وَجَدَ خِفَّةً فِي نَفْسِهِ، وَأَحَسَّ بأثقَالٍ وُضِعَتْ عَنْهُ، فَوَجَدَ نَشَاطًا وَرَاحَةً وَرَوحًا حتَّى أنَّهُ يَتَمنَّى أنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لأنَّها قُرَّةُ عَينهِ وَنَعِيمُ رُوحِهِ وَجَنَّةُ قَلْبِهِ وَمُسْتَرَاحُه في الدُّنْيَا فَلا يَزَالُ كَأنَّهُ في سِجْنٍ وَضِيْقٍ حَتَّى يَدْخلَ فِيهَا فَيَسْتَريحُ بِها لا مِنْهَا.
المُحِبُّونَ يَقولُونَ: نُصَلّي فَنَسْتَرِيحُ بِصَلاتِنَا كَمَا قَالَ إِمَامُهم وَقُدْوَتُهم وَنَبِيُّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بِلالُ أَرِحْنَا بالصَّلاةِ» . وَلَمْ يَقُلْ: أَرِحْنَا مِنْهَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» . فَمَنْ جُعَلْت قُرةُ عَيْنِهِ في الصَّلاةِ كَيْفَ تَقَرُّ عَيْنُه بِدُونِهَا وَكَيْفَ يَطِيقُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَصَلاةُ هَذَا الحَاضِرِ بِقَلْبِهِ الذي قُرّةُ عَيْنِهِ في الصَّلاةِ هِيَ التِي تَصْعَدُ وَلَهَا نُورٌ وَبُرْهَانٌ حَتَّى يُسْتَقْبَلَ بِهَا الرَّحْمَنُ فَتَقُولُ: حَفِظَكَ اللهُ تَعَالى كَمَا حَفِظْتَنِي، وأمَّا صَلاةُ الْمُفَرِّطِ الْمُضَيّعِ لِحُقُوقِهَا وَحُدُودِهَا وَخُشُوعِهَا فَإنَّهَا(1/233)
تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلِقُ وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي.
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُتِمُّ الوُضُوءَ إلى أَمَاكِنِهِ ثُمَّ يَقُومُ إلى الصَّلاةِ فِي وَقْتِهَا فَيُؤَدِّيهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ وَقْتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَمَعَالِمَهَا شَيْئًا إِلا رُفِعَتْ لَهُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْضَاءَ مُسْفِرةً يَسْتَضِيءُ بِنُورهَا مَا بَيْنَ الخَافِقين حَتَّى يَنْتَهِي بِهَا إلى الرَّحْمَن عزَّ وَجَلَّ.
وَمَنْ قَامَ إلى الصَّلاةِ فَلَمْ يُكْمِلْ وَضُوءَهَا وَأَخَّرَهَا عَنْ وَقْتَهَا واسْتَرَقَ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَمَعَالِمَهَا رُفِعَتْ عَنْهُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً ثُمَّ لا تُجَاوِزُ شَعَرَ رَأْسِهِ تَقُولُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي» . وَللهُ دَرُّ إسْمَاعِيلَ الْمُقْرِي رَحِمَهُ اللهِ حَيْثُ قَالَ:
تُصَلِّي بَلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا
يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوبَةِ
تَظَلُّ وَقَدْ أَتَمَّمَهَا غَيْر عَالِمِ
تَزِيُدُ احْتِيَاطًا رَكْعَةً بَعْدَ رَكْعَةِ
فَوَيْلَكَ تَدْرِي مَنْ تُنَاجِيهِ مُعْرِضًا
وَبَيْنَ يَدِي مَنْ تَنْحَى غَيرَ مُخْبِتِ
تَخَاطِبُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مُقْبِلاً
عَلَى غَيْرِهِ فِيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةِ
وَلَوْ رَدَّ مَنْ نَاجَاكَ لِلْغَيرِ طَرْفَهُ
تَمَيَّزْت مِنْ غَيْظٍ عَلَيْهِ وَغَيرَةِ
أَمَا تَسْتَحِي مِنْ مَالِكِ الْمُلكِ أَنْ يَرَى
صُدُودَك عَنْه يَا قَلِيلَ الْمُرُؤَةِ(1/234)
إلَهِي اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا
إلى الحَقِّ نَهْجًا في طَرِيقِ السَّوِيَّةِ
اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الذينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا. اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بَاليَسِير وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَأَسْكِنَّا دَار كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُو مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإلَيْهِ الْمَصِيرُ واجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمَّ فَرَجَا وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخَرَجًا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل)
فائدةٌ جَليلةٌ
قَالَ ابْنُ القَيّم رَحِمَهُ اللهُ فِي حَادِي الأَرْوَاحِ: وَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِكلّ مَطْلوبٍ مِفْتَاحًا يُفْتَحُ بِهِ فَجَعَلَ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ: الطَّهورِ، وَمِفْتَاحَ: الحَجِّ الإِحْرَامُ، وَمفتاحَ البِّرِ: الصَّدَقَةُ، وَمِفْتَاحَ الجَنَّةِ: التَّوْحِيدُ، ومِفتاحَ العِلم: حُسْنُ السَّؤَالِ، وَحُسْنَ الإِصْغَاءِ، وَمفتاحَ النَّصْرِ والظَّفَرِ: الصَّبْرُ، وَمفتاحَ الْمَزيدِ: الشُّكْرُ، وَمِفْتَاحَ الوِلايَةِ:المَحَبَّةُ، وَمِفْتَاحَ الرَّغْبَةِ فِي الآخِرةِ: الزُّهْدَ في الدُّنْيَا.
وَمفتاحَ الإيمانِ: التَّفكرُ فِيمَا دَعَا اللهُ عِبَادَهُ إلى التَّفَكُر فيهِ، وَمَفْتَاحَ الدُّخُولِ عَلَى اللهِ: إسلامَ القَلْبِ وَسَلامَتَهُ لَهُ والإخْلاصَ لَهُ في الحبّ والبُغْضِ لَهُ والفعلَ والتَّرْكَ، ومفتاحَ حياةِ القَلْبِ: تَدبّرَ القَرْآنِ، والتَضَرُّعَ بالأسْحَارِ، وَتَرْكَ الذُّنوبِ، وَمَفْتَاحَ حُصُولِ الرَّحْمَةِ: الإِحسانُ في عِبَادَةِ الخَالِقِ والسَّعْي فِي نَفْعِ عَبِيدِهِ، وَمَفْتَاحَ الرِّزْقِ: السَّعْيُ مع الاسْتَغَفَارِ والتَّقْوَى، ومِفْتَاحَ العِزّ: طَاعَةُ اللهِ، وَمِفْتَاحَ الاسْتعدَادِ للآخِرَةِ: قَصْرُ الأمَلِ، وَمِفْتَاحَ كُلَّ(1/235)
خَيْرُ: الرَّغْبَةُ فِي اللهِ والدَّارَ الآخِرَةَ، وَمُفْتَاحُ كُلِّ شَرٍ: حُبُّ الدُّنْيَا وَطُولُ الأمَلِ.
وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَنْفَعِ أَبْوابِ العِلْمِ وَهُو مَعْرِفَةُ مَفَاتِيحِ الخَيرِ والشَّرِ ولا يُوَفَّقُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمُرَاعَاتِهِ إلا مَنْ عَظُمَ حَظَّهُ وَتَوْفِيقه فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى جَعَلَ لِكُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍ مِفْتاحًا وَبَابًا يَدْخَلُ مِنْهُ إِلَيْهِ كَمَا جَعَلَ الشَّرْكَ وَالْكِبْرَ والإِعْرَاضَ عَمَّا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ والقِيامِ بِحَقِّهِ مِفْتَاحًا لِلنَّارِ وَكَما جَعَلَ الخَمْرَ مِفْتَاحَ كُلِّ إثْمٍ، وَجَعَلَ الغِنَاءَ مُفْتَاحَ الزِّنَا، وَجَعَل إطْلاقَ النَّظَرِ فِي الصُّوَرِ مِفْتَاحَ الخَيْبَةِ والحِرْمَانِ، وَجَعَلَ الْمَعَاصِي مِفْتَاحَ الُكْفِر، وَجَعَلَ الكَذِبَ مِفْتَاحَ النِّفَاقِ، وَجَعَل الشُّحَ والحِرْصَ مِفْتَاحَ البُخْلِ وَقَطِيعَةَ الرَّحِم وأَخْذَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلّهِ، وَجَعَلَ الإعْرَاضَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلالٍ، وَهَذِهِ أُمُورٌ لا يُصَدِّقُ بِهَا إِلا كُلُّ مَنْ لَهُ بَصِيرةٌ صَحِيحةٌ وَعَقْلٌ يَعْرِفُ بِهِ مَا فِي نَفْسِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: عَلامَةُ تَعْظِيمِ الأَوَامِر والنَّواهِي رِعَايَةُ أَوْقَاتِهَا وَحُدُودِهَا والتَّفْتيشُ عَلَى أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَكَمَالِهَا والحِرْصُ على تَحَيُّنِها في أَوْقَاتِهَا والْمُسَارَعَةِ إلِيْهَا عَنْدَ وُجُوبِهَا والحُزْنُ والكآبَةُ والأسَفُ عِنْدَ فَوَاتِ حَقٍّ مِنْ حُقوقِهَا كَمَنْ يَحْزَنُ عَلَى فَوَاتِ الجَمَاعَةِ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَوْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ صلاتُهُ مُنْفَرِدًا فَإنَّهُ قَدْ فَاتَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِعْفًا.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً يُعَانِي البَيْعَ والشِّرَاءَ يَفُوتُهُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَلا مَشَقَّةٍ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لأَكلَ يَديهِ نَدَمًا وَأَسَفًا فَكَيْفَ وَكُلُّ ضِعْفٍ مِمَّا تُضَاعَفُ بِهِ صَلاةُ الجَماعَةِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ وَأَلْفِ أَلْفٍ وَمَا شَاءَ اللهُ تَعَالى.(1/236)
فَإذَا فَوَّتَ العَبْدُ على نَفْسِهِ هَذا الربْحِ، وَكَثيرٌ مِن العُلَماءِ يَقُولُ: لا صَلاةَ لَهُ وَهُوَ بَارِدُ القَلْب فارغٌ مِن هَذِهِ الْمُصِيبةِ غَيرُ مُرْتَاعٍ لَهَا فَهَذَا مِنْ عَدَم تَعْظِيمِ أَمْرِ اللهِ تَعَالى فِي قَلْبِهِ وَكَذَلِكَ إذا فَاته أَوَّلُ الوَقْتِ الذي هو رضوانُ اللهِ تَعَالى، أوْ فَاتَه الصَّفُ الذي يُصَلِّي اللهُ وَمَلائِكَتُه عَلَى مَيَامِنِهِ وَلَوْ يَعلمُ العَبْدُ فَضِيْلَتَهُ لَجَالَدَ عَليهِ وَلَكَانَتْ قُرْعَةً.
وكذلكَ لو فَوَّتَ الجَمْعَ الكَثيرَ الذي تُضَاعَفُ الصَّلاةُ بِكَثْرَتِهِ وَكُلَّمَا كَثُرَ الجَمْعُ كانَ أَحَبَّ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكُلَّمَا بَعُدَتْ الخُطَا كَانَ كُلَ خُطْوَةٍ تَحُطُّ خَطِيئةً وَأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً وَكَذَلِكَ لَوْ فَوَّتَ الخُشُوعَ في الصَّلاةِ وَحُضَورَ القلبِ فِيمَا بَيْنَ يَدَي الرَّبِ وَتَعَالى الذي هُوَ رُوحُ الصَّلاة وَلُبُّهَا فَصَلاةٌ بِلا خُشُوعٍ ولا خُضُوعٍ كَبَدَنٍ مَيّتٍ لا رُوحَ فِيهِ أَفَلا يَسْتَحِي العبد أَنْ يُهْديَ إلى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ عَبْدًا مَيِّتًا أَوْ جَارِيَةً مَيِّتَةً، فَمَا ظَنُ هَذَا العَبْدِ أَنْ تَقَعَ الهِديَّةُ مِمَّنْ قَصَدَهُ بِهَا مِنْ مَلِكٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ غَيرِهِ، فَهَكَذَا سُوء الصَّلاةِ الخَالِيَةِ مِنْ الخُشُوعِ والحُضُورِ وَجَمْعِ الهِمَّةِ عَلَى اللهِ تَعَالى فِيهَا بِمَنْزِلةِ هَذِهِ الأمَةِ أَوْ العَبْدِ الْمَيِّتِ الذي يُريدُ إهْدَاءَهُ إلى بَعْضِ الْمُلْوكِ.
وَلِهَذا لا يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالى مِنه وإنْ أسقَطتْ الفُرض في أحكام الدنيا ولا يُثِيبُه عَلَيْهَا فَإنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبِدِ مِن صَلاتِهِ إلا مَا عَقَلَ مِنْهَا، كَمَا في السُّنَنِ وَمَسندِ الإمَامِ أحمدَ وَغَيْرِهِ عَن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِن العَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ وَمَا كَتبَ لَهُ إلا نَصْفِهَا، إلا ثُلُثَهَا، إلا رُبُعَهَا، إلا خُمُسَهَا، حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا» . وَيَنْبغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ سَائِرَ الأَعْمَالِ تَجْرِي هَذَا المَجْرَى فَتَفَاضُلُ الأعمالِ عندَ اللهِ تعالى بِتَفاضُلِ مَا في القُلُوبِ مِن الإِيمان والإِخلاصِ والمَحَبَّةِ وتوابِعِهَا.(1/237)
وَتَفاضُلِ الأَعْمَالِ يَتْبَعُ مَا يَقُو
مُ بِقَلْبِ صَاحِبِهَا مِن الإِيمَانِ
حَتَّى يَكُونَ العَامِلانِ كِلاهُمَا
في رُتْبَةٍ تَبْدُو لَنَا بِعِيَانِ
هَذَا وَبَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَا
والأَرْضِ في فَضْلٍ وفي رُجْحَانِ
وَيَكُونُ بَيْنَ ثَوابِ ذَا وَثَوابِ ذَا
رُتب مُضَاعَفَةٌ بِلا حُسْبَانِ
هَذَا عَطَاءُ الرِّبِ جَلَّ جَلالُهُ
وَبَذاكَ تُعْرَفُ حِكْمَةُ الرَّحْمنِ
فَالْمَدَارُ عَلَى أَعْمَالِ القُلُوبِ فَإذا كانَ القَلْبُ حَاضِرًا وَمُلْقٍ سَمْعَهُ لِمَا يَسْمَعْ وَلِمَا يَنْطِقُ هُوَ بِهِ مِنْ قَرَاءَةٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْبِيحٍ وَقَوْلِ: رَبي اغفرْ لي، وَقول: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَمَعَانِي الفاتِحَةِ والتَّحياتِ وَنحو ذلكَ مِنْ صَلاتَهِ، وَأَمَّا الغَافِلُ الذي لا يَتَدَبَّرُ وَلا يَتَفَهَّّمُ وَيَعْبَثُ ولا يَهْتَمُ لَهَا فَهَذَا مَحْصُولُهُ ضَئِيلٌ جَدًا أَو معدوم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنباء والمرسلين المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومَن تَبِعَهُم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
شِعْرًا:
لَكَ الحَمْدُ يَا ذَا الجُودِ والمَجْدِ والعُلا
تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ
إِلهي وَخَلاقِي وَسُؤلِي وَمَوْئِلي
إِلَيْكَ لدَى الإعْسَارِ واليْسرِ أَفْزَعُ(1/238)
إِلَهِي لَئِنْ خَيَّبْتَنِي أَوْ طَرَدْتَنِي
فَمَنْ ذَا الذي عَمَّا أُحَاذِرُ يَنْفَعُ
إِلَهي لَئِن جُلتُ وَجَمَّت خَطيئَتي
فَعَفوُكَ عَن ذَنبي أَجَلُّ وَأَوسَعُ
إِلَهي لَئِن أَعطَيتَ نَفسي سُؤلُها
فَها أَنا في رَوْضِ النَدامَةِ أَرتَعُ
إِلَهي تَرى حالي وَفَقري وَفاقَتي
وَأَنتَ مُناجاتي الخَفيَّةِ تَسمَعُ
إِلَهي فَلا تَقطَع رَجائي وَلا تُزِغ
فُؤادي فَلي في سَيبِ جُودِكَ مَطمَعُ
إِلَهي أَجِرني مِن عَذابِكَ إِنَّني
أَسيرٌ ذَليلٌ خائِفٌ لَكَ أَخضَعُ
إِلَهي فَآنِسني بِتَلقينِ حُجَّتي
إِذا كانَ لي في القَبرِ مَثوىً وَمضجَعُ
إِلَهي لَئِن عَذَّبتَني أَلفَ حَجَّةٍ
فَحَبلُ رَجائي مِنكَ لا يَتَقَطَّعُ
إِلَهي أَذِقني طَعمَ عَفوكَ يَومَ لا
بَنونٌ وَلا مالٌ هُنَالِكَ يَنفَعُ
إِلَهي لَئِنْ لَم تَرعَني كُنتُ ضائِعًا
وَإِن كُنتَ تَرعاني فَلَستُ أَضيعُ
إِلَهي إِذا لَم تَعفُ عَن غَيرِ مُحسِنٍ
فَمنَ لَمسيءٍ بِالهَوى يَتَمَتَّعُ
إِلَهي لَئِن قصَّرتُ في طَلبِ التُقى(1/239)
فَلَسْتَ سِوَى أَبْوَابِ فَضْلِكَ أَقْرَعُ
إِلَهي أَقلْنِي عَثرَتِي وامَحُ زَلَّتِي
فَإِنِّي مُقِرٌ خَائِفٌ مُتَضَرِّعُ
إِلَهي لَئْن خَيَّبْتَنِي وَطَرَدتَنِي
فَمَا حِيلَتِي يَا رَبُّ أَمْ كَيْفَ أَصْنَعُ
إِلَهِي حَلِيفُ الْحُبِّ باللَّيلِ سَاهرٌ
يَنَاجِي وَيَبْكِي والْغَفُول يُهَجِّعُ
إِلَهي لَئِنْ تَعْفُوُ فَعَفْوكَ مُنْقِذِي
وَإنِّي يَا رَبِّ الْوَرَى لَكَ أَخْضَعُ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةَ ولا تنفعُهُ الطَّاعَة أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَليهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتُهُ سَرائِرُنا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ والْمَعائِبِ الَّتِي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وَامْنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كلَ ذَنْبٍ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِكَ وَأَطْمَعَهُمْ دَوَامُ إِفْضَالِكَ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلى كَرَمِ نَوَالِكَ وَتَيَقَّنُوا أَن لا غِنَى لَهُمْ عَنْ سُؤالِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ واغفر لِنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يا ربَّ العالَمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(9) موعظة
عِبَادَ اللهِ تَغَيَّرَ النَّاسُ فِي أَحْوَالِهم الدِّيِنِيَّةِ تَغَيِّرًا يُدْهِشُ النَّاظِرِينَ في زَمَنٍ قَلِيلٍ، هَذِهِ الصَّلاةِ التي هِي آكَدُ أركَانِ الإِسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَهِيَ عَمُودُ الإِسْلامِ قَدْ أَعْرَض عنها الكثيرُ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ مُبَالِينَ بِذَلِكَ جَهِلُوا مَا هِيَ الصَّلاةَ وأيُّ قِيْمَةٍ قِيْمَتُهَا وَمَا مَنْزِلَتُهَا بَيْنَ الطَّاعَاتِ، وَمَا(1/240)
علموا أَنَّهَا الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَلِذَلِكَ هِيَ تُطَهِّرُ الْمُصَلِّي مِنْ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ كَالزِّنَا واللِّواطِ َوَأَكْلِ الرِّبَا.
وَيَزِيدُكَ مَعْرِفَةً بِهَا أَنْ تَعْرِفَ مَالَهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَأَ لَهَا ذَهَبَتْ ذُنُوبُ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ مَعَ ذِهَابِ الْمَاءِ فَإِذَا تَشَهَّدَ بَعد الْوُضُوءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ فَإِذَا مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ بِكُلِ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا تَحُطُّ عنه خَطِيئَةٌ وَرُفِعَ لَهُ دَرَجَةً فَإِذَا انْتَظَر الصَّلاةَ فَإِنَّهُ لا يَزَالُ في صلاةٍ.
وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُونَ فَهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَشْهَدُ لَهُمْ كلُّ مَا يَسْمَعُهُم حتَّى الأَشْجَارَ والأَحْجَارَ.
وَمَنْ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ثُمَّ دَعَا عَقِبَهُ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَّا قَمُّ الْمَسْجدِ وَتَنْظِيفُهُ فَهُوَ مَهْرُ الْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّاتِ وَمَنْ بَنَي لَهُ مَسْجِدًا وَلَو كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
والْخُلاصَةُ أَنْ الْمُؤْمِنَ بِصَلاتِهِ أَبَعَدَ النَّاسِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ والْفَوَاحِشِ والزِّنَا واللِّوَاطِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ والدخانِ والْمَيْسَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ والسِّرِقَةِ والْقَتْلِ والْقَذْفِ وحَضُورِ آلاتِ اللَّهْوِ: الْمَذْيَاعِ، والتِّلفزيونِ، والسِّينماءِ، والْبَكَمَاتِ، وأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الْغِشِّ والرِّبَا والْبَخْسِ والْمَكْرِ والْخِدَاعِ وَغَيْرَهِمَا مِمَّا يُخِلُّ بالدِّينِ أَوْ يُنَقِّصُ الْمُرؤَةَ والشَّرَفَ، إِذْ مِنْ غَيْرِ الْمَعْقُولِ أَنَّ مَنْ بَلَغَ بِهِ حُبُهُ فِي الاسْتقامَةِ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ سَيِّدِه وَمَوْلاهُ الذي رَبَّاهُ وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِين بِنِعَمِهِ وَيَسْتَهْدِيهِ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ وَقَدْ قَدَّرَ رَبَّهُ وَرَكَعَ لَهُ وَسَجَدَ وَحَمَدَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَشَكَرَ لَهُ أَنْ يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ جَوَّالاً فِي طُرُقِ الْغَوَايَةِ والْمَآثِمِ الَّتِي يَنْتَابُهَا الْفُسَّاقُ الذِّين مَرَدُوا عَلى الْفُجُورِ وَتَفَنَّنُوا فِيهِ.. صَدَقَ اللهُ العظيم.(1/241)
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} هَذِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الصَّلاةِ.
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ: في ذِكْرِ بَعْضِ فَوَائِد صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَبَيانِ حُكْمِهَا وَأدلةِ وَجُوبِهَا وَذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ فَوَائِدِ صَلاةِ الرَّوَاتِبِ والنَّوافِل
اعلمْ وَفَّقْنَا اللهُ وإيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّهُ شُرِعَ لِهذِهِ الأَمَّةِ الاجْتِمَاعُ لِلْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ، فَمِنْهَا مَا هُو فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَمِنْهَا مَا هُو فِي الأُسْبُوعِ وَهُوَ صَلاةُ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي السَّنَةِ مُتَكَّرِرٌ وَهُوَ صَلاةُ العِيدَيْنِ لِجَمَاعَةِ كُلِّ بَلَدٍ، وَمِنْهَا مَا هُو عَامٌ في السَّنَةِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَذَلِكَ لأَجْلِ التَّوَاصُلِ والتَّوَادُد والتَّعَاوُنِ والتَّآخِي والتَّآلُفِ والتَّعَارُفِ والتَّعَاطُفِ والتَّرَاحُمِ، وَقُوَّةٌ لِلرَّابِطَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ومُضَاعَفَةَ الأَجْرِ بالاجْتِمَاعِ، وَكَثْرَةِ الْخُطَى، وَلِتَعْلِيمْ الْجَاهِلِ لأِحْكَامِ الصَّلاةِ.
فَصَلاةُ الْجَمَاعَةِ هِيَ الْمُتَكَرِّرُ يَوْمَيًّا الاجْتِمَاعُ لَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ عَينِ على الرِّجَالِ الْقَادِرِينَ حَضَرًا وَسَفَرًا حَتَّى فِي شِدَّةِ الْخُوْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} ، وقال تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وصَلاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا(1/242)
فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَصَلِّي بالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حِزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ في النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، والنسائي.
وروى أبو داود عَنْ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لا يُلائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رخصةً أن أصلي في بيتي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاء» قَالَ: نعم. قَالَ: «فَأَجِبْ فَإِنِّي لا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» . فَهَذَا رَجُلٌ ضَرِيرٌ شَكَا مَا يَجِدُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي مَجِيئِهِ إِلى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ قَائِدٌ يَقُودُهُ إِلَيْهِ وَمَعْ هَذَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاةِ في بَيْتِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ صَحِيحُ الْبَصَرِ مُتَوَفِّرةٌ الأَنْوَارُ فِي طَرِيقهِ وَهُوَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وأهلِهِ ومالِهِ.
ومَعَ ذَلكَ لا يُجِيبُ دَاعِيَ اللهِ الذي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ وَأَعْطَاهُ وَأَقْنَاهُ وَوَعَدَهُ إِنْ أَطَاعَهُ بِجَمِيعِ مَا تَطْلَبُهُ نَفْسُهُ وَتَمَنَّاهُ، وَهَدَّدَ وَتَوَعَدَ مَنْ عَصَاهُ واتَّبَعَ هَوَاه.
وعن ابن عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلمْ يَأتِ فَلا صَلاةَ لَهُ إلا مِنْ عُذْرٍ» . وأخرجَ الحاكمُ في مُسْتَدْرَكَهِ عَنْ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثةُ لَعَنَهُم اللهُ، مَن تَقَدَّمَ قَوْمًا(1/243)
وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وامْرأةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَي عَلَى الصَّلاةِ حَيّ عَلى الْفَلاحِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ» . وَحَدِيثِ: «لا صَلاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلا بالْمَسْجدِ» . رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا.
عن ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمعَ النداء فلمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إتِّبَاعِهِ عُذْرٌ» . قالُوا: ومَا العُذْرُ؟ قال: «خوْفٌ أو مَرَضٌ لم تُقْبَلْ منه الصلاةُ التي صَلَّى» .
شِعْرًا:
وَأحسَنُ صَوْتٍ لَذَّ عِنْدِي سَمَاعُهُ ... سَمَاعُ أَذَانٍ مِنْ مَنَارَةِ مَسْجِدِ
يُنَادي بَتَوحِيدِ الذي جَلَّ شَأْنُهُ ... فَيَا نَفْسُ صَلَّيَ لِلْمُهَيمِنُ واعْبُدِي
آخر:
وَأَحْسَنُ صَوْتٍ في الوَرى صَوْتٍ دَاعِيًا ... إلى الله لِلْخَمْسِ الصَّلَوَاتِ تُشْهَدُ
وعن معاذِ بن أنس عن رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَفاءُ كلُ الْجَفَاءِ والكفر والنِّفَاقُ مَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللهِ يُنَادِي إِلى الصلاةِ فلا يُجِيبُهُ» . رواه أحمد، والطبراني.
وعن أبي الدرداءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما مِنْ ثَلاثَةٍ في قَرْيَةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهم الصَّلاةُ إلا قد اسْتَحَوَذَ عليهم الشيطانُ فَعَلَيْكَ بالْجَمَاعَةِ فإنما يَأكُلُ الذِّئْبُ الْقاصية» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.
وعن أمير المؤمنينَ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (ما بالُ أقْوَامٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الصلاةِ فَيَتَخَلَّفُ لِتَخَلُّفِهِم آخَرُونَ لأَنْ يَحْضُروا الصلاةَ أَوْ لأَبْعَثَنَّ عليهم مَن يُجَافِي رِقَابِهم) . وقال ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلى هؤلاءِ الصلواتِ(1/244)
الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهنَّ فَإنَّ اللهَ تعالى شَرَعَ لِنَبِيكمُ سُنَنَ الْهُدَى وإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُم في بُيُوتِكم كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَظَلْلتمْ ولَقَدْ رَأَيْتَنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ) .
وقال أبو هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لأَنْ تَمْتَلِئ أُذُنُ ابن آدَمَ رَصَاصًا مُذَابًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ حَيَّ على الصلاةِ حَيَّ على الفلاحِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ) . وسُئِلَ ابنُ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ يَقُومُ اللَّيْلَ ويَصُومُ النَّهَارَ وَهُوَ لا يَشْهَدُ الْجُمْعَةَ والْجَمَاعَةَ فقال: هُو في النارِ. ولَمَّا كانَ عَتَّابُ بنُ أسيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالِيًا للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلَ مَكَّة فَسَمِعَ بِرِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عن الصلاةِ في الْمَسَاجِدِ جَمَاعةً فقال: يا أهلَ مَكَّة واللهِ لا أَسْمَعُ بِرِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الصَّلاةِ في الْجَمَاعَةِ في الْمَسَاجِد إلا ضَرَبْتُ أَعْنَاقهم فَعَلم الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بِذَلِكَ فَزَادَهُ رِفْعَةً عِنْدَهُم وارْتَفَعَ قَدْرُهُ.
وصلاةُ الْعِشَاءِ والْفَجْرِ في جَمَاعَةٍ أَشَدُّ تَأْكِيدًا لِما وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بِن عفانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى الليلَ كُلَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفي رواية الترمذي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ قِيَامُ نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ولَوْ يَعْلَمُونَ ما فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعنه(1/245)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلُ صَلاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ صَلاةُ الْفَجْرِ والْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رواه الطبراني في الكبير.
وَعَنْ جُنْدَبِ الْقَسْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلا يَطْلُبَنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فهذا نَهْيٌ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التَّعَرُّضِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ بِشيءٍ مِنْ السُّوءِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَجَاجَ مَعَ جُورِهِ وَظُلْمِهِ وَتَعْدِيهِ لِحُدُودِ اللهِ كَانَ يَسْأَلُ كُلَّ مَنْ يُؤْتَى بِهِ نَهَارًا صَلَّيْتَ الصُّبحَ فِي جَمَاعَةٍ فَإنْ قَالَ: نَعَمْ خَلَّى سَبِيلَهُ مَخَافَةَ أَنْ يطلبَهُ اللهُ بشيءٍ من ذِمتهِ.
وَعَنْ ابن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجلَ في الْفَجْرِ والْعِشَاءِ أسأنا بهِ الظنَّ. رواه الطبرانِي، وابنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ.
اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبادِكَ الْمُفْلِحِينَ واحْشُرْنَا مَعَ الذينَ أَنْعمتَ عَلَيْهم مِن النَّبيينَ والصِّدِيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْفَعَ ذِكْرَنَا وَأَنْ تَضَعَ وِزْرَنَا وَتُصْلِحَ أَمْرَنَا وَتُطَهِّرَ قُلُوبَنَا وَتُنَوِّرَ قُبُورَنَا وَتَغْفِرَ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَميع المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيِنَ.
(فَصْلٌ) : وَصَلاةُ الْجَمَاعَةِ تفضلُ على صلاةِ الفذِّ بسبعٍ وعشرينَ درجةً(1/246)
كمَا وردَ عَنْ ابنِ عمرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تفضلُ صلاةَ الفذِ بسبعٍ وعشرينَ درجةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلاةُ الرَّجلِ فِي جَمَاعَةٍ تَضْعُفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِ خَمْسًا وَعَشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُخْرِجُه إِلا الصَّلاةَ لَمْ يَخْطُو خَطْوَةً إِلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزلْ الْمَلائكةُ تُصلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ مَا لَمْ يَحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلا يَزَالُ في صلاةٍ ما انتظرَ الصَّلاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ» . رَوَاهُ الترمِذي وَغَيْرُه مِنْ حَدِيث أنسٍ وَهُوَ حَدِيث حَسنٌ صَحَّحَهُ الْحَاكمُ وغيرهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّفِ الأَوّلِ وإتْمَامِ الصُّفوف ما يَلي فعن جَابر بن سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ألا تَصُفونَ كَمَا تَصُفُّ الْملائِكةُ عِنْدَ رَبِّهَا» فقُلنَا يَا رسولَ اللهِ وكيفَ تصفُّ الْمَلائكةُ عند رَبِّهَا؟ قَالَ يُتمُّونَ الصُّفُوفَ الأوّل وَيَتَرَاصُّون في الصّفِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ والصَّفِّ الأولِ ثُم لمْ يَجِدُوا إلا أَنْ يَسْتهِمُّوا عَليهِ لاسْتَهمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مناكِبنَا في الصَّلاةِ ويقولُ: «اسْتَووا ولا تَخْتَلِفُوا(1/247)
فَتَخْتَلِفَ قُلوبُكم لَيَلِني مِنْكُمْ أُولُوا الأحْلام والنُّهَى ثُمّ الذين يَلُونَهم ثُمَّ الذين َلونَهُم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَووا صُفوفَكُم فإنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ: «لا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» . وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِ الأُوَلِ» . رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ ابن عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ ولا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ» . رواهُ أبو دَاوَدَ.
اللَّهُمَّ رَغَبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يَفَنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ للصلاةِ يَسْتَفْتِحُ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيَهَةً قَبْلَ الْقِرَاءَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بَالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» . رواهُ الْجَمَاعَةُ إلا الترمِذي.(1/248)
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاةَ قَالَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إِلَهَ غَيْرَكَ» . رواهُ أبو دَاودَ، والدَّارَقُطْنِي.
وَكَانَ يَتَعَوَّذُ قبلَ الْقِرَاءةِ في الرَّكعةِ الأولَى بعدَ الاستفتاحِ فَعَنْ أبِي سعيدٍ الْخُدَريّ عَنْ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كانَ إِذَا قامَ إلى الصلاةِ استفتحَ ثم يَقُول: «أُعوذُ باللهِ السَّميع الْعَليمِ مِن الشيطان الرجيمِ مِنْ هَمْزِه وَنَفْخِِهِ وَنَفْثِه» . رَواه أحمدُ، والتِّرمِذيّ.
وَقَالَ ابنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقَراءةِ «أعوذُ باللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الظُّهْرِ في الرَّكَعَتَيْنِ الأَوْلَيَيْنِ في كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاثِينَ آيةً وَفِي الأَخَريَيْنٍ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَر آيةً، أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكعَتَيْنِ الأَوْليينِ فِي كل رَكعةٍ قَدْرُ خَمْسَ عَشْرَة آيةً، وَفِي الأَخْرَيَيْنِ قدرَ نِصْفِ ذلكَ. رواهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ جُبير بن مُطْعِمٍ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرْأَ في الْمَغْربِ بالطُّورِ. رواهُ الْجَماعةُ إلا الترمِذيّ.
وَعَنْ ابنِ عبَّاسٍِ أَنَّ أَمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأ: والْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فَقَالَتْ: يا بُنَيَّ لَقْد ذَكَّرْتَنِي بِقرائَتِكَ هَذِهِ السُّوَرَةَ إِنَّها لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ. رواهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابنُ مَاجَة.
وَقَالَ أبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي(1/249)
الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرجلُ فَيُعْرِفُ جَليسَهُ، وكان يَقرأُ في الركعتينِ أو أحَدِهِمَا مَا بَيْنَ السَّتِينَ إِلى الْمائةِ. متفقٌ على صِحَّتِهِ.
وَفِي صَحيح مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ.
وَرَوى النِّسائِيّ من حَديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأَ في المغربِ بالدُّخانِ.
وفي صَحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: كَانَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى.
وَقَالَ أَبُو سَعيدٍ الْخُدري كُنَّا نَحْرِزُ قِيامَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهرِ والعصرِ فَحَزَرْنَا قيامَه في الركعتَيْنِ الأوْلَيَيْنِ مِن الظُّهْرِ قدرَ (أَلَمِ تنزيلُ السَّجْدة) .
وَحَرزنَا قيامَه في الأخريينِ قدرَ النصفِ من ذلكَ وحزرنَا قيامَه في الركعتين الأوْلَيَينِ من الْعَصْرِ على النَّصفِ مِنْ ذلك.
وفي روايةٍ بَدَلَ قولِه تنزيلُ السجدةِ قدرَ ثلاثينَ آيةً، وفي الأخْرَيَيْنِ قدرَ خَمْسَةَ عَشَرَ آيةَ وفي الْعَصْرِ في الركعتين الأوْلَيَيْنِ في كُلِّ رَكْعةٍ قَدَر خَمسةَ عَشرةَ وفي الأخْرَيَينِ قَدَر نِصفِ ذَلِكَ.(1/250)
وَفِي سُننِ النَّسَائِي عَنْ الْبَرَّاءِ قَالَ: كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنا الظهرَ فَنَسْمَعُ مِنْهُ الآية من سُورَةِ لِقْمَانَ والذَّارِياتِ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّة مِن فَقْهِهِ فَأطِيلُوا الصَّلاةَ واقْصِرُوا الْخطبة» . وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الصَّلاةُ فيهِ طَويلَةٌ والْخطبة فِيهِ قَصِيرَةُ وَعُلمَاؤُه كَثيرٌ وَخُطَبَاؤُه قَليلٌ وَسَيَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ الصَّلاةُ فيهِ قصيرةٌ والْخُطبةُ فيهِ طويلةٌ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَاري، وأَبُو دَاودَ، والترمِذي مِن حَديثِ زَيْدٍ بن ثابتٍ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في المغربِ بُطُولَى الطُّولَيَيْنِ.
زادَ أبو داودَ قلتُ: ومَا طُولَى الطوليين؟ قَالَ: الأَعْرَافُ. قالَ الْحَافظُ في الفتح: إنهُ حَصلَ الاتفاقُ على تفسيرِ الطُّولَى: بالأعراف.
وَعَنْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَنسٍ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِي.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، والنسائي.
وَرواهُ من حَدِيثِ ابنِ أبي أوفى وزادَ فيهِ بعدَ قولِهِ منْ شَيءٍ بَعْدُ(1/251)
اللَّهُمَّ طَهرنِي بالثَّلجِ والبَردِ والماءِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ والْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِن الدَّنَسِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نسألكَ العافية في الدُّنيا والآخرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَو والْعَافيةَ في دِيننَا ودُنيانَا وآخِرتنَا وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوراتِنا وَأَمنِ روعاتِنا واحْفَظنا مِن بين أيدينا ومنِ خَلفنا وَعن أيمانِنَا وعن شَمائِلنا ومن فَوقِنا ونَعُوذ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا واغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا واستر عُيُوبَنَا واكْشِفْ كُرُوبَنَا وأصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وألِّفْ في طاعَتِكَ وَطَاعةِ رَسُولِكِ بَيْنَ قُلُوبنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وفِي الْمُسْند من حديثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاتِهِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْرِقُ صَلاتَه؟ قَالَ: «لا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلا سُجُودَهَا» ، أَوْ قَالَ: «لا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . فَصَرَّحَ بأنهُ أسْوأ حالاً مِنْ سَارِقِ الأَمْوالِ.
وفِي الْمُسْند من حديثِ سالمٍ عن أبي الْجَعْدِ عن سَلْمَانَ هُو الْفَارسي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلاةُ مكيالٌ فمَن وفَى وُفيَّ له ومَنْ طَفَّفَ فقدْ علمتُم ما قالَ اللهُ في الْمُطَفِّفِينَ» .
وقالَ ابنُ الْقيمِ رحمهُ اللهُ: والإيجازُ هو الذي كانَ يَفْعَلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا الإِيجازُ الذي كان يَظَتنهُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلى مِقْدارِ صَلاتِهِ فإنَّ الإِيجَازَ أَمرٌ نَسبِيّ إِضَافِي راجِعٌ إلى السُّنَّةِ لا إلى شَهوةِ الإِمَامِ وَمَنْ خلفَهُ.
فَلمَّا كانَ يقرأُ في الْفَجْرِ بالسِّتينَ إلى الْمائةَ كَان هَذا الإِيجَازُ بالنِّسْبَةِ(1/252)
إلى سِتِّماتةٍ إلى ألفٍ ولَمَّا قرأ في المغربِ بالأعْرَافِ كَان هَذا الإِيجازُ بالنِّسْبَةِ إلى الْبَقَرةِ.
وَيَدُلُّ عَلى هَذا أَنَّ أنسًا نفسه قَال في الْحَدِيثِ الذي رَواهُ أبو داودَ، والنسائِي مِنْ حَديثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَيْسَانَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ وَهْبِ بْنِ مَأنُوسَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ.
وأنسٌ أَيْضًا هُو الْقَائلُ في الْحَدِيثِ الْمُتَّفقِ عليهِ: إني لا آلُو أن أُصلِّي بكمُ كَما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا.
قالَ ثابتٌ: كانَ أَنسٌ يصنعُ شيئًا لا أراكُم تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رأسَه مِن الركوعِ انتصبَ قائمًا حَتَّى يَقُول الْقَائلُ: قد نَسِيَ.
وإِذَا رفَع رأسَه مِنْ السَّجْدةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُول الْقَائلُ: قد نَسِيَ.
وَأنسٌ هُوَ الْقائلُ هذَا، وهُوَ الْقَائلُ: مَا صليتُ وراءَ إمامٍ أَخفَّ صلاةً ولا أَتمَّ صلاةً مِنْ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحديثُه لا يُكَذِّبُ بعضُه بَعْضًا.
وَمِمَّا يُبَينُ مَا ذَكَرنَاهُ مَا رَواهُ أبو دَاودَ في سُننِه من حَديثِ حَمَّادِ بن سَلمةَ أَخبرَنا ثابتُ وَحُميدُ عَنْ أَنسِ بن مالكٍ قَالَ: ما صَلْيتُ خَلفَ رجلٍ أَوجَز صَلاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَامٍ.
وَكَانَ رَسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . قامَ حتى نقولَ قَدْ أَوْهِمَ فَجَمَعَ أنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هَذا(1/253)
الْحَديثِ الصَّحِيح بَيْن الأخبارِ بإِيجَازِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ وإِتْمَامِهَا وَبَيَّنَ فِيهِ أَن مِنْ إِتْمَامِهَا الذِّي أَخْبَرَ بِهِ إِطَالَةُ الاعتدَالينِ حَتَّى يَظُنُّ الظانُّ أَنَّهُ قَدْ أَوْهَمَ أَوْ نَسِيَ مِنْ شِدَّةِ الطُّولِ.
وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ الْبَراءِ بن عازبٍ قَالَ: رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعْ مُحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ قِيامَه فَرَكْعتَه فاعْتِدَالِهِ بَعدَ الركوعِ فسجدَتَه فجلسَتَه بين السَّجْدَتِينِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التسليمِ والانْصِرَافِ قريبًا مِن السَّواءِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الْجَبينُ وكَثُرَ الأنينُ وأَيِسَ مِنَّا الْقَريبُ والطبيبُ وَبكى عَلَيْنَا الصديقُ والحبيبُ وَارحَمْنَا يَا مَولانَا إِذَا وَارانَا التُّرابُ وَوَدَّعَنَا الأحْبَابُ وَفَارَقْنَا النَّعِيمَ وانقطَع عَنَّا النَّسِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا قَبْلَ أَنْ تَشهْدَ عَلَيْنَا الْجَوَارِحَ وَنَبِّهْنَا مِنْ رَقَدَاتِ الغفلاتِ وَسَامِحْنَا فَأَنْتَ الْحَلِيمُ الْمُسَامِحُ وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا فَمِنْكَ الْفَضْلُ والْمَنَائِحُ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ أن ذَكرَ الْمُسْرعينَ فيها الذينَ يَمُرُّونَ فِيهَا مَرَّ السهمِ: وهَذَا كُله تلاعبٌ بالصَّلاةِ، وَتَعْطِيلٌ لهَا وخِدَاعٌ مِنْ الشيطانِ وخلافٌ لأمِر اللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيثُ قالَ تعالى: {أَقِيمُواْ الصَّلاةَ} فَأَمَرَنَا بإقامَتِهَا وَهُوَ الإِتْيَانُ بِهَا قائِمَةً تَامةَ القيامِ والركوعِ والسُّجودِ والأذكَارِ.
وَقَدْ عَلَّقَ سُبحانَهُ الْفَلاحَ بَخُشُوعِ الْمُصَلِّي فِي صَلاتِه فَمَنْ فَاتَهُ خُشُوعُ الصَّلاةِ لَمْ يَكُنْ من أهلِ الْفَلاحِ وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْخُشوعِ مَعَ الْعَجَلَةِ والنَّقْرِ قَطْعًا بل لا يَحْصُلُ الْخُشُوعُ إلا مَعَ الطُّمَأنينةِ وَكُلَّما زادَتْ الطمأنينةُ ازدَاد خُشُوعًا وَكُلمَا قلَّ خُشوعُه اشتدَتْ عَجَلَتُه حَتَّى تَصيْرَ حَرَكةُ(1/254)
يديهِ بِمَنْزِلَةِ العَبَث الذي لا يَصْحَبُه خُشوعٌ ولا إقبالٌ على العُبُوديةِ، ولا معرفةُ حَقِيقةِ العبوديةِ.
واللهُ سُبْحَانَه قَد قَالَ: {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} ، وَقَالَ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} ، وَقَالَ: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} ، وقالَ إبراهيمُ عليهِ السلامُ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ} ، وقَالَ لِمُوسَى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فلنَ تُكادُ تَجدُ ذِكْر الصلاةِ في مَوْضُوعٍ مِنْ التَّنْزِيلِ إلا مقرونًا بإقامَتِهَا.
فَالمُصَلُّونَ في الناس قَليلٌ ومُقيمُ الصلاةِ مِنهُم أقلُّ القليلِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الحاجُّ قليلٌ والرَّاكِبُ كَثيرٌ، فالعَامِلونَ يعملونَ الأعمال المأمُورِ بِهَا على التَّرويجِ تَحِلَّهَ القَسَمِ وَيقولونَ: يَكْفينا أدنَى ما يقعُ عليه الأَسمُ ولَيْتَنَا نأتي به.
ولو عَلِمَ هَؤلاءِ أنَّ المَلائكةَ تَصْعدُ بصلاتهمْ فتَعرضُها على الرّبِّ جلَّ وعلاَ بمنْزِلةَ الهَدَايَا التِّي يتقرّبُ بِهَا النّاسُ إلى مُلوكِهمْ وكُبرائِهم، فليسَ مَنْ عَمِدَ إِلى أَفْضلِ مَا يَقْدرُ عليهِ فَيُزَيّنه، ويُحسّنهُ، ما استطاعَ ثم يَتَقَرَّبُ به إلى مَنْ يَرجُوهُ، وَيَخَافُه، كَمَنْ يَعْمِدُ إلى أَسْقَطِ مَا عِنْدَهُ وَأهونِهِ عليهِ فَلْيَسْتَرِيح مِنْه وَيَبْعَثه إلى مَنْ لاَ يَقَعُ عِنْدَهُ بِمَوْقِع.
وَليسَ مَنْ كَانَتْ صَلاَتُهُ رَبيعًا لِقَلْبِهِ، وَحَياةً لَهُ، وَرَاحَةً وَقُرَّةً لِعَيْنِهِ، وَجَلاَءً لِحُزْنِهِ وَذَهَابًا لِهَمِّهِ وَغَمِّهِ، وَمَفْزَعًا لَهُ في نوائِبِهِ وَنوَازِلِهِ، كَمَن هِي سِجْنٌ لِقَلْبِهِ، وَقَيْدٌ لِجَوَارِحِهِ، وَتَكْلِيفٌ لَهُ، وَثقلٌ عَلَيهِ، فَهِيَ كَبِيرَةٌ عَلَى هَذَا وَقُرَّة عَينٍ وَرَاحَةٌ لِذَلِكَ.
وَقَالَ تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنمَّا كبُرَت على غير هؤلاء لخُلُّو قُلُوبهم مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ تعالى وَتْكبِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ(1/255)
والخُشُوعِ لَهُ وَقِلَّةِ رَغبَتِهِمْ فيهِ فَإنَّ حُضُورَ العَبْدِ في الصَّلاةِ وَخُشُوعُهُ فِيهَا وَتَكْمِيلُهُ لَهَا واسْتِفْرَاغُهُ وُسْعَهُ فِي إِقَامَتِهَا وَإِتْمَامِهَا عَلَى قَدْرِ رَغْبَتِهِ في اللهِ.
قَالَ الإمامُ أحمدُ: في رواية مُهَنَّا بن يَحْيَى: إِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنَ الإسلامِ عَلى قدرِ حَظهمِ مِنَ الصلاةِ، وَرغبتهِم في الإسلامِ عَلى قدر رغبتِهِم في الصلاةِ فَاعْرَفْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ وَاحْذَرْ أَنْ تَلْقَى اللهَ عزَّ وَجلَّ وَلاَ قَدْرَ لِلإسْلامِ عِندَكَ فَإنَّ قَدْرَ الإِسْلامِ في قَلْبِكَ كَقَدْرِِ الصَّلاةِ في قَلْبِكَ.
(فصل)
فأما صُورتُها الظاهرة في القيام والقراءة ُوالركوعُ والسجودُ وَنحو ذلك مِن وظائف الصلاة الظاهرة.
وأما حقيقتُها الباطنةُ فمِثلُ الخشوع والإخباتِ وحُضُورِ القلبِ وكمال الإخلاصِ.
مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا لِلهِ في العَمَلِ ... فَلَيْسَ يَنْفَعُهُ قَوْلٌ وَلاَ عَمَلُ
والتدبر والتفهم لمعاني القراءة ومعاني التسبيح ونحو ذلك من وظائف الصلاة الباطنة.
فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح وباطن الصلاة حفظ القلب.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها كمال الطهارة والاحتياط في البدن والثوب والمكان.
قال عليه الصلاة والسلام: «الطهور شطر الإيمان» وفي الحديث الآخر: «الطهور مفتاح الصلاة وإسباغ الوضوء وتثليثه من غير وسوسة ولا إسراف» .
فإن الوَسْوَسَةَ في الطهارة والصلاة من عمل الشيطان يُلَبِّسُ بها على مَن ضَعُف عقلهُ وقَلَّ علمه.(1/256)
وقد وردت الأحاديث الصحيحة: «أن مَن توضأ فَأَحْسَنَ الوضوء خَرجَتْ خطاياه مِن أعضائه ودخل في الصلاة نقيًا من الذنوب» .
ومن المحافظة على الصلاة والإقَامَة لها المبادرة بها في أول مَوَاقِيتها وفي ذلك فضلٌ وأجر عظيم.
وهو دليل على محبة العبد لربه وعلى المسارعة في مرضاته ومحابه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» .
وقبيح بالمؤمن العاقل أن يدخل عليه وقت الصلاة وهو على شغل من أشغال الدنيا فلا يتركه ويقوم إلى فريضة الله التي كتبها الله عليه فيؤديها.
وما يفعل ذلك إلا من عظمت غفلته وقلَّت معرفته بالله وعظمته وضعُفتْ رَغبته فيما أعَدّ الله لأوليائه في الدار الآخرة.
وأما تأخيرها عن وقْتها فلا يَجُوزُ وفيه إثم عظيم.
ومِن المحافظة على الصلاة والإقامة لها: الخشوع وحُضور القلب وتدبرُ القِراءة وفهمُ مَعَانيها واسْتشعارُ الخُضُوعِ والتواضُعِ لله عند الركوع والسجود.
وامْتِلاَءُ القلب بتعظيم الله وإجلاله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وجميع أجْزَاءِ الصلاة.
والحرص والاجتهاد في دفع الخواطر والهواجيس في شؤون الدنيا والإعراض عند حديث النفس في ذلك.
ويكون همه في الصلاة وحُسنُ تأدِيتِهَا كما أمر الله. فإن الصلاة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور قليلة الجدْوَى.
فاجتهد في تدَبُّر ما تقول من كلام ربك واحرص على الطمأنينة فيها.
فإن الذي لا يتم الركوع والسجود في الصلاة سارق لها كما ورد في الحديث وورد أن من حافظ عليها وأتمها تخرج بيضاء تقول: حفظك الله كما حفظتني. والذي لا يتم الصلاة تخرج سَوْدَاءَ مُظْلِمة تقولُ: ضَيَّعَكَ الله كما ضَيَّعْتَني ثم تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ الخَلَق فيضربُ بِها وجْهُهُ.(1/257)
رأَى رَجُلٌ حَاتم الأصم واقفًا يَعِظُ النَّاسَ فقال: يا حاتَمُ أرَاكَ تَعظُ الناسَ أَفَتُحْسِنُ أَنْ تُصَلي؟ قَالَ: نعم. قال: كيف تُصَلي؟ قال: أقومُ بالأمرِ وأمْشِي بالسَّكِينَة وأدْخُل بالْهِيبَة وأُكَبِّرُ بالْعَظَمَةِ وأقرأ بالترتيل واجْلِسُ للتشهد بالتمام وأسلم على السنة وأسَلِمُهَا إلى ربي وأحْفَظُها أيامَ حَياتي وأرْجِعُ باللَّومِ على نفسِي وأخَافُ أن لا تُقْبَلَ منِّي وأرجُو أن تُقْبَلَ منِّي وَأَنَا بَيْنَ الرَّجَا والْخَوف وأشكر مَن عَلَّمَني وَأَعَلِّمُ مَن سَألنِي وأحمدُ رَبي إذ هَدَاني.
اللَّهُمَّ اكْتُبْ في قُلُوبِنَا الإِيمانَ وأيِّدْنَا مِنْكَ يا نُورَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ اللَّهُمَّ وافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وارحمنا برحمتك اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ الأَبْرَارِ واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَارِ، وامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ والْعِتْقِ مِن النَّار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : يُسَنُّ ذِكْرُ اللهِ والدُّعَاء والاسْتِغْفَارُ عَقبَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبةِ كَمَا وَرَدَ فِي الأَخْبَار فَيقُولُ: أستغفرُ اللهَ ثلاثَ مراتٍ وَيقول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومنكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلالِ والإكرامِ كَمَا وَرَدَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثًا وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ» . رواه الجماعة إلا البخاري.
ومِمَّا وَرَدَ مِنْ الذِّكْرِ: ما رُويَ عَنْ عبدِ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَليّ الْعَظِيم وَلا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» . قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ(1/258)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ. رواه أحمد، ومسلم.
ومِمَّا وَرَدَ مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبة: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ويُسَبّحُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وَيَحْمَدُ ثلاثًا وثلاثينَ، ويُكَبِّرُ ثلاثًا وثلاثينَ لِمَا فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ رواية أبي صالح السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وتَمَامُ الْمائَةِ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهو على كلِ شيءٍ قَدِير، وَيَعْقِدُهُ بيدِهِ وَيَعْقِدُ الاستغفارَ بيدِه» . أي يَضْبِطُ عَدَدهُ بأصَابِعِهِ.
وعن عبدِ الله بن عمرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَصْلَتَانِ لا يُحْصِيهمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرًا وَيُكَبِّرُ عَشْرًا وَيَحْمَدُ عَشْرًا» . فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ «فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ وَإِذَا آوَى إلى فِراشِهِ سَبَّحَ وَحَمِدَ وَكَبَّرَ مِائَةً فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ بالْمِيزَانِ» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمَ بَنِيه هؤلاء الْكَلِماتِ ويقول: إنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهنَّ دُبُر الصلاة اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. رواه البخاري، والترمذي وصححه.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى(1/259)
الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً» . رواه أحمد، وابنَ ماجة.
وعن أبي أُمَامَةَ قَال: قِيلَ: يا رسولَ اللهِ أيُّ الدُّعَاء أسْمَعْ قال: «جَوفُ الليلِ الآخرِ ودُبُر الصلواتِ الْمَكْتوباتِ» .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ» . رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ» . وَقَالَ: «تَمَامَ الْمِائَةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفي رواية أخرى: أن التكبيرَ أربعةً وثلاثون.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسند قوي.
وعن أبي أمامةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن قَرأ آيةَ الْكُرْسِي دُبُرّ كُلّ صلاةٍ مَكْتُوبةٍ لَمْ يَمْنَعُهُ من دخولِ الْجَنَّةِ إلا الْموتُ» . رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني: «وقل هو الله أحد» .
وعنه قال: ما دَنَوتُ من رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دُبُرِ مكتوبةٍ ولا تَطُوع إلا سَمِعْتُهُ يقولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطايَايَ كُلَّها، اللَّهُمَّ انْعِشْنِي وَاجْبُرْنِي واهدنِي لِصالحِ الأعمال والأخلاقِ إنَّه لا يَهْدِي لِصَالِحهَا وَلا يصرفُ سيئِهَا إلا أنت» .(1/260)
وعن أبي سعيدٍ الخُدرِي أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ لا أَدْرِي قَبْلَ أَنْ يُسْلِّمَ أَوْ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّم يقول ُ: «سُبحانَ ربِّكَ رَبِّ الِعزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين» .
وعن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ إِذَا انْصَرَفَ مِن الصلاةِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهُ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامِي يَومَ أَلقَاك» .
وعن أبِي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ في دُبُرِ الصلاةِ: «اللَّهُمَّ إني أعوُذُ بِكَ مِن الكفرِ والفقرِ وَعَذَابِ القَبْرِ» ، وعن أنسِ بن مالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الغداةَ في جَمَاعةٍ ثم قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حتَّى تَطْلَعُ الشمسُ ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَة» ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَامَّةً، تَامَّةً، تَامَّةً» .
وَعَنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قال في دُبُرِ صَلاةِ الصُّبحِ وهَو ثانٍ رِجْليَهِ قَبْلَ أَنْ يَتكلَّمُ: لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُميت وهوَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَدير عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشرُ حسناتٍ وَمُحِيَ عنهُ عَشرُ سَيئاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ في حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنَ الشِّرْك بالله تَعَالَى» . قالَ التِّرْمِذيُّ: هذا حَديثٌ حسن. وفي بَعْضِ النُّسخ صَحيحٌ.
وعن الحَارثِ بنِ مسلم التَّمِيميَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا صَلَّيتَ الصُّبحَ فَقُلْ قَبْلَ أنْ تَتَكَلَّمَ: اللَّهُمَّ أجرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ يَوْمِكَ كَتَبَ اللهُ لكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ وإذا صَليَّتَ المغربَ فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ(1/261)
فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلتكَ كَتَبَ الله لكَ جِوارًا مِن النَّارِ» . رواه النسائيُّ وهذا لفظهُ، وأبو داود.
وعن أبي أيّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قالَ إذا أصْبَحَ: لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لَهُ، لَهُ الملكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِير عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللهُ لهُ بِهِنَّ عَشْرَ حَسَناتٍ وَمَحَا بِهِنَّ عَشَرَ سَيئَاتِ وَرَفَعَ لَهُ بِهِنَّ عَشْرَ دَرَجَاتٍ وكُنَّ لَهُ عَدْلَ عِتَاقَة أَرْبَعَ رِقَابٍ وَكُنَّ لَهُ حَرَسًا حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَالَهُنَّ إِذَا صَلَّى المغربَ دُبْرَ صَلاتِهِ فَمِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ» . رواه أحمدُ، والنَّسَائيُّ، وابنُ حِبَّانَ في صَحِيحهِ وَهذَا لفْظهُ.
وعن أبي أمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ دُبُرَ صَلاةِ الغَدَاةِ: لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُميتُ بيدهِ الخيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرِ مائة مَرَّةً قَبْلَ أَنْ يُثْنِي رِجْليهِ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ الأرضِ عَمَلاً إلا مَنْ قَالَ مِثْلِ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» . رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأوسطِ بإسنادٍ جيدٍ.
ورُويَ عن معاذِ بن جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: «مَنْ قَالَ بعدَ صَلاةِ الفَجْرِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وبعدَ العَصْرِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذِّي لا إلهَ إلا هُو الحيُّ القيُّومُ وَأَتُوبُ إليهِ كُفِّرتْ عَنْهُ ذُنُوبِهِ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البحْر» . رواه ابنُ السني في كتابِهِ. وفي مُسندِ الإمامِ أحمد، وَسُنَنِ ابنِ ماجة، وَكِتَابِ ابن السنِي عن أمِ سَلمةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الصُّبح قال: «اللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَرِزْقًا طيبًا» .
وعن صهيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحركُ شَفَتيهِ بعد صلاةِ الفَجْرِ بِشَيءٍ فقلتُ: يا رَسولَ الله ما هَذَا الذي(1/262)
تَقُولَ قالَ: «اللَّهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ» ، وَيُسْتَحَبُّ الجهرُ بالتَّسبيحِ والتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ والتَّكْبيرِ لِقَوْلِ ابنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انصَرفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. وفي رِوَايةٍ: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّكْبِيرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واجعلنا من عبادك المفلحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل)
وَمِنْ تَمامِ المُحافَظَةِ عَلى الصَّلاةِ حُسْنُ المُحافظةِ على الرَّوَاتِبِ والنَّوَافِلِ وَهَذهِ المُطْلَقةُ فيها فَوائِدُ كَثِيرةٌ منها تكفيرُ السَّيئات وتكثيرُ الحَسَناتِ وَرَفْعُ الدرجَاتِ وَجَعلُ القُلوبِ مُتَّصلةً باللهِ مُعَظَّمَةٌ لَهُ وَأَنها سَبَبٌ لِتَقْوِيَةِ الحَيَاءَ مِنَ اللهِ ومنها التَلَذُّذُ بالمنَاجاةِ. وَمِنْهَا الحصولُ في منزلةِ المُبَاهَاةِ فِيمَنْ أقيْمَ مِنَ الملائكةِ في تلكَ الحالات. ومنها الشكرُ والنعمُ المتجددةُ والمَواهبُ المُتَعَدّدَةُ، وَعِمَارَة لِلْقُلُوبِ التي خُلِقَتْ لِذِكْرِ اللهِ تَعَالى. ومنها حِفْظُ الزَّمَنِ عَن ضَيَاعِهِ في غَيرِ طَاعةِ اللهِ.
ومنها تكميلُ ما نقصَ مِن الفرائضِ، كما وَرَدَ في الحديث مِن رواية أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنَّ أوَّلَ ما يُحَاسَبُ بِهِ العبدُ يومَ القيامةِ مِن عملِهِ صَلاتُهُ فإن صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِِنْ فَسَدَتْ فقد خَابَ وَخَسِرَ فَإِن انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْئًا فَإن الربَّ عزَّ وَجَلَّ يقول: (انْظُروا هَلْ لِعَبْدِي مِن تَطَوُّعِ فَيُكَّمِلُ بها ما نَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ) ثم يكون سَاَئِرُ عَمَلِه على ذلكَ» .(1/263)
أخرجه الترمذي. وَمِنْهَا: مَحَبَّةُ اللهِ لَهُ، كما وَرَدَ في الحديث: (ولا يَزَالُ عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بِالنوافلِ حتَّى أُحِبَّهُ فإذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الذِّي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ التي يِبْطِشُ بِهَا وَرِجْلُهُ التي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلني لأعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعيذَنَّهُ) . رواه البخاري.
ومنها: أنها سَبَبٌ لِتَسْهِيل عُسْر المَوْقِفِ في الحَشْرِ وَتَخْفِيفِ الحِسَابَ في دَارِ المآبِ لأَنَّهُ يَكْثِرُ ثَوَابُهُ إِذا وَفَقَّهُ اللهُ لِلتَّقَرُّبِ بِالنوافلِ، وَمِنْهَا: نَضَارَةُ الوَجْهِ وَتَنْشِيطِ الجَوَارِحِِ ومنها: أَنَّهَا تُوقِظُ الضَّمِير ومنها الاقْتِداءُ بالصالحينَ، ومنهَا: غَرْسُ الصِّدْقِ وَالأمانَةِ في النُّفُوسِ، وَمِنهَا: أنَّ النَّوَافِلَ تُقَوِّي شَجَرَةَ الإيمانِ وَتُنَمِّي الإيمانَ، وَمِنها: السُّمُوُّ إلى دَرَجَةِ الكَمَالِ، وَمِنها: أَنَّهُ إذا قَطَعه عنها مَرَضٌ أو سَفَرٌ كُتِبَتْ لَهُ كَامِلةً كما في حديث أبي مُوسَى الأَشْعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إَذا مَرِضَ العَبْدُ أَو سَافَرَ كُتِبَ له ما كان يَعْمَلُ صَحِيحًا مقيمًا» . روه البخاري.
ومنها: مَحَبَّةُ أَهْلِ السَّمَاءِ لِمَنْ أَحَبَّهُ الله كما في حديث أبي هريرة أنَّ الله تعالى: إذا أَحَبَّ عَبْدًا دعا جِبْرِيلَ فقال: إني أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ فَيقولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أهلُ السماءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأرضِ. ومنها: اسْتِعْمَالِ نِعْمَةِ المُنْعِمِ في طاعتِهِ وهذا في غَايَةِ الحُسْنِ ولا يَخْفَى عَلى عاقلٍ أَنْصَفَ مِنْ عَقْلِهِ، ومنها: مُخَالَفَةُ المنافقين الذينَ إذا قاموا إلى صلاةِ الفريضةِ قاموا كسالى يُراءون النَّاسَ وَلا يذكرون اللهَ إلا قليلاً. ومنها: القُرْبُ مِن اللهِ للحديث المتقدم وَلِحَدِيثَ: «أَقْرَبُ ما يكون العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُو سَاجِد» . ومنها: مُخَالَفَةُ المُشْرِكِينَ العَابِدِينَ لِمَنْ لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي شَيئًا وَأَنْتَ تعبدُ مَن يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْلَمُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَهو حَيٌّ لا يَمُوتُ ومنها قِيامُ العبدِ بينَ يَدَيْ سَيِّدِهِ مَقَامَ المُتَضَرَّعِ المتذَلِّلِ المسْكِينِ الضَّعِيفِ وَاضعًا يَدَهُ(1/264)
اليُمْنَى على اليُسْرَى مُظْهِرًا العَجْزَ وَالضَّعْفَ وَأنه لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا باللهِ العلي العظيمِ.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا في رَجَاءِ رِفْدِكَ وَخَالِصَ وِدِّكَ، يَا مَنْ عَمَّ الخلائقَ كَرمُه وجودُهُ، يَا أَوَّلَ بِلا بِدَايَةٍ وَيَا آخِرُ بِلا نِهَايَةٍ، يَا وَاحِدٌ لا شَريكَ لُهُ نَسْأَلكَ أَنْ ترحمَ ضَعْفَنَا وَتَغْفِرَ ذَنْبَنَا وَتَرْأَفَ بِنَا يَا رَؤُوفٌ يَا رَحِيم، ولا تَحْرِمْنَا لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَريمِ في جناتِ النعيمِ. اللَّهُمَّ وَفِّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِن جَمِيعِ الأهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرجْفِ وَالزِلْزَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وقال ابنُ القيمِ رحمه الله: وأما فوائدُ الصلاةِ فَكثيرةٌ: أوَّلاً امتثالُ أَوَامِرِ اللهِ وَمُوَافَقَةُ اللهِ مَلائِكَتِهِ وتكفيرُ السيئاتِ وزيادةُ الحسناتِ ورفعةُ الدرجاتِ.
ومنها: أنها سَبَبٌ لإجَابَةِ الدُّعَاء وَلِشَفَاعَةِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقُربِ مِنْهُ وَلِكِفَايَةِ الهَمِّ والغَمِّ وَقَضَاءِ الحَوَائِجِ وَسَبَبٌ لِصَلاةِ اللهِ على المُصَلِّي وَصَلاَةُ مَلائِكَتِهِ وَهِيَ زَكَاةٌ لِلْمُصَلِّي وَطُهْرَةٌ لَهٌ وَسَبَبٌ لِلْتَبْشِيرِ بالجَنَّةِ والنَّجَاِة مِنَ النَّارِ وَسَبَبٌ لِرَدِّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام وَلِتَذْكِيرِ العَبْدِ مَا نَسِيَهُ وَلِطِيبِ المَجْلِسِ وَأْن لا يَعُودُ عَلى أَهْلِهِ حَسْرَةً وَلِنَفْيِ الفَقْرِ والبُخْلِ وَلِلنَّجَاةِ مَنْ نَتَن المَجْلِسِ الذي لا يُذْكَرُ اللهُ فيهِ وَلا رَسولُه وَلِتَمَامِ الكلامِ وَبَرَكَتِهِ وَلِوُفُورِ نُورِ العَبْدِ عَلى الِصراطِ وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الجَفَاءِ ولإِبْقَاءِ الثَّنَاءِ الحَسَن لِلْمُصَلى عليه بين السماء والأرض وَلِلَبَرَكَةِ في ذَات المُصَلِّي عُمرهِ وَعَمَلِهِ وَأسباب مَصَالِحِهِ وَلِنَيلِ رَحْمَةِ اللهِ وَلِدَوَامِ مَحَبتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزِيَادَتِهَا وَتَضَاعُفِهَا وَلِمَحَبَّةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَبَبٌ لِحَيَاةِ القَلْبِ وَهِدَايَتِهِ وَسَبَبُ عَرْضِ اسم(1/265)
الْمُصَلِّي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسببُ لِتَثْبِيتِ الْقَدمَ على الصِّرَاطِ والْجوَاز عَلَيْهِ وَمُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ اللهِ وَشَكْرِهِ وَمَعْرِفَةِ إِنْعَامِ اللهِ على عَبِيدِهِ بإرسالِهِ ولأَدَاءِ قَليلٍ مِنْ حَقِّهِ. وهي دعاءٌ مِنْ الْعَبدِ وسؤالُهُ نَوعَان:
أحدُهُما: سؤال مَطَالِبِهِ وَمَا يَنْوِيه.
والثاني: سؤالهُ أنْ يُثْنِي عَلى حبيبهِ وخليلهِ وَيَزيدَ في تَشْريفِهِ وتكريمِهِ ورفْعِه ذكرَهُ ولا رَيبَ أَنّ الله يُحِبُ ذلكَ وَرَسُولُهُ يُحبُّهُ فالْمُصَلِّي قَدْ صَرَفَ سُؤاله لِما يُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ وآثَر ذلكَ على طَلبِ حَوائجِهِ وَمَحابِّهِ هُو، بَلْ كانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِن أَحَبِّ الأُمُورِ إِليهِ والْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ آثرَ اللهَ على غَيرِه آثرَهُ اللهُ عَلى غيرِهِ.
وَهَا هُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ عَلَّمَ أُمَّتُهُ دِينَهُ وَمَا جَاءَ بهِ وَدَعَاهُمْ إِليهِ وَصَبر على ذلِكَ وَهِيَ: أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له مِن الأَجْرِ الزَّائِدِ على أَجْرِ أُمّتِهِ مِثْلُ أُجُورِ مِنْ تَبِعَهُ فَالدَّاعِي إِلى سُنَّتِهِ وَدِينِهِ والْمُعَلِّمُ الْخَيْرِ لِلأُمَّةِ إِذَا قَصَدَ تَوْفِيرَ هَذَا الْحَظ لِرَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَرفَهُ إليهِ وَكانَ مَقْصُودَهُ بدُعَاءِ الْخَلقِ إلى اللهِ التقرُّبَ إِليهِ بإرشادِ عبادِهِ وَتَوْفِير أُجُورِ الْمُطِيعِينَ لَهُ على رسولِهِ مَعَ تَوْفِيَتِهِمِ أُجُورَهُمْ كامِلة كَان لَهُ مِنْ الأَجْرِ بدعوته وتَعْلِيمهِ بِحَسَب هذِه النَّيةِ وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيه مَن يشاء.
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًا وَارْزُقْنَا إتِّبَاعَه، وَأرِنا الباطل باطلاً وجَنِبْنَا إتِّبَاعَهَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
إلى كَمْ تَمَادَى فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... وَكَمْ هَكَذَا نَوْمٌ إلى غَيرِ يَقْظَةِ
لَقَدْ ضَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنه تُشْتَرى ... بِمِلءِ السَّما وَالأرضِ أيَّةَ ضَيْعَةِ(1/266)
أَتَرْضَى مِنْ العَيْشِ الرَّغِيدِ وَعَيْشَةٍ ... مَعْ الْمَلأ الأعْلَى بَعِيْشِ البَهِيمَةِ
فَبَادُرَّةً بَيْنَ الْمَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةً بِيعَتْ بَأَبْخَسِ قِيمَةِ
أَفَانٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيهِ سَفَاهَةً ... وَسَخَطًا بِرِضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ
أَأَنْتَ صَدِيقٌ أَمْ عَدُوٌ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيهَا بِكُلِّ مُصِيبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لَمَسَّتْهُمْ لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ
لَقَدْ بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخِيصَةً ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ
كَلِفْتَ بِهَا دُنْيَا كَثِيرٍ غُرُورُهَا ... تُقَابِلُنَا فِي نُصْحِهَا فِي الخَدِيعَةِ
عَلَيْكَ بِمَا يُجْدِي عَلَيْكَ مِنْ التُّقَى ... فَإنَّكَ فِي سَهْوٍ عَظِيمٍ وَغَفْلَةِ
تُصَلِّي بَلا قَلْبٍ صَلاةً بِمْثلِهَا ... يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوبَةِ
تُخَاطِبُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدْ مُقْبِلاً ... عَلَى غَيرِه فِيهَا لِغَيرِ ضَرُورَةِ
وَلَوْ رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلْغَيْرِ طَرْفَةُ ... تَمَيَّزتَ مِنْ غَيْظٍ عَليهِ وَغَيْرَةِ
فَوَيْلَكَ تَدْرِي مَنْ تُنَاجِيهِ مُعْرِضًا ... وَبَيْنَ يَدِي مَن تَنْحَنِي غَيْرَ مُخْبِتِ
أيَّا عَامِلاً لِلنَّارِ جِسْمُكَ لَيَّنٌ ... فَجَرَّبهُ تَمْرِينًا بَحَرِّ الظَّهِيرَةِ
وَدَرِّبْهِ فِي لَسْعِ الزَّنَابِيرِ تَجْتَرِي ... عَلَى نَهْشِ حَيَّاتٍ هُنَاكَ عَظِيمَةِ
فَإنْ كُنْتَ لا تَقْوَى فَوْيْلَكَ مَا الذي ... دَعَاكَ إلى إسْخَاطِ رَبِّ البَرِيَّةِ
تَبَارزه بَالْمُنْكَراتِ عَشِيَّةِ ... وَتُصْبِحُ في أَثْوَابِ نُسْكٍ وَعِفَةِ
نَسِيءُ بِهِ ظنًّا وَتُحْسِنُ تَارَةً ... عَلَى حَسْبِ مَا يَقْضِي الهَوى بالقَضِيَّةِ
فَأَنْتَ عَلَيْهِ أَجْرَى منكَ عَلَى الوَرَى ... بِمَا فِيكَ مِنْ جَهْلٍ وَخُبْثِ طَويَّةِ
تَقُولُ مَعَ العِصْيانِ رَبي غَافِرٌ ... صَدَقْتَ وَلَكِنْ غَافِرٌ بِالمَشِيئَةِ
وَرَبُّكَ رَزَّاقٌ كَمَا هُوَ غَافِرٌ ... فَلِمْ لا تُصَدِّقْ فِيهمَا بالسَّوِيَّةِ
فَكَيْفَ تُرَجِّي العَفْوَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ... وَلَسْتَ تُرجِّي الرِّزْقَ إلا بحِيلَةِ
عَلَى أَنَّهُ بالرِّزْق كَفَّلَ نَفْسَهُ ... وَلَمْ يَتَكَفَّلْ لِلأنَامِ بَجَنَّتِي
وَمَا زَلْتَ تَسْعَى بالذي قَدْ كُفِيتَهَ ... وَتُهْمِلَ ما كُلِفَتَهُ مِنْ وَظِيفَةِ(1/267)
.. إِلَهِي أَجِرْنَا مِنْ عَظِيمِ ذُنُوبِنَا ... وَلا تُخْزِنَا وانْظُرْ إِلِيْنَا بِرَحْمَةِ
وَخُذْ بِنَواصِينَا إِليكَ وَهَبْ لَنَا ... يَقِينًا يَقينًا كُلَّ شَكٍ وَرِيبَةِ
إِلَهِي اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا ... إلى الحَقِّ نَهْجًا فِي سَواء الطَّريقَةِ
وَكُنْ شُغْلَنَا عَنْ كُلِّ شُغْلِ وَهَمَّنَا ... وَبُغْيتَنَا عن كُلِّ هَمٍّ وَبُغْيَةِ
وَصَلَّ صَلاةً لا تَنَاهَى عَلى الذي ... جَعَلْتَ بِهِ مِسْكًا خِتَامَ النُّبوَّةِ
اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِين وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ والْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفًا مِنْ كُلّ دَاءٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
31 - كتاب الزكاة
ويبحث في:
1- الأموالِ التي تجب فيها الزكاة.
2- نِصابِ الزكاة.
3- مَصارفِ الزكاة.
4- تعريفِ أهلِ الزكاةِ وبيانِ مِقدارِ ما يعطاهُ كلُّ صِنْف.
1- الأموالِ التي تجب فيها الزكاة:
اعْلَمْ - رَحِمَك الله - أن اللهَ سبحانَهُ وَتَعَالى أَوْجَبَ على المؤمنين أصحابِ الأموالِ الزَّكويَّةِ زكاةً لِمن ذَكَرَهُمْ اللهُ في كتابِهِ، وقَسَّمها بَيْنَهُم وَرَتَّبَ الثوابَ عَلَى أدائِها، والْعِقَابَ على مَنْعِها، وقَرَنَها بالصلاةِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ من كِتَابِهِ، تَعْظِيمًا لِشَأنِهَا، وَتَنْبِيهًا بِذِكْرِهَا، وَحَثًّا عَلى أَدَائِها لِتَطْهِيرِ النَّفس ِمِن دَرَنَ الشُّحِ وَالْبُخْلِ، ودَفعِ النَّفْسِ إلى(1/268)
الْجُودِ، والتَّصَدُّقِ والإِنْفَاقِ في مَراضِي اللهِ تعالى لِتَحْصِيلِ النَّماءِ والزِّيادةِ والْبَركَةِ والْفَلاحِ والطَّهَارَةِ، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} .
فَالزَّكَاةِ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّي مِنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ، وَتَنُقِّيهِ مِنْ أَوْسَاخِهَا وَتُزَكِّي أَخَلاقَه بالتَّحَلِّي بالْجُودِ والسَّخَاءِ وَتُمَرِّنُهُ عَلَى السَّخَاءِ الذي يُحِبُّه كُلُّ بَرٍ وَفَاجِرٍ وَتُبْعِدُه عَنْ الشُّحِّ الذي هُو مَذْمُومٌ عندَ كلَّ أَحدٍ وَتُطَهِّرُ الْقَلْبَ عَنْ حُبِّ الدنيا ببذلِ الْيَسِيرِ فالْيَسِيرُ هُوَ الْوَاجِبُ وهوَ بذلُ الْقَلِيل مِنْ الكثيرِ قال تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} ، وقال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} .
فالشَّارِعُ الْحَكِيمُ اللطيفُ بعبادِهِ أَوْجَبَ شَيئًا يَسِيرًا بَعدَ مُدَّةٍ طَويلِةٍ إذا اعتادَ الإِنسانُ إِخْرَاجَهُ مِن الْمَالِ الْمَحْبُوبِ طَبْعًا امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ ورَسُولِهِ اسْتَفَادَ حُبَّ خالِقِهِ الذي رَزَقَهُ إيَّاهُ وَوَعَدَهُ أَنْ يَخْلِفَ عليهِ مَا أنْفَقَهُ. قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، وقال: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا وَمَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» . وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال تعالى: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ يُنْفِقْ عَلَيْكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فصل: إذا فَهمْتَ ذَلكِ فاعلَمْ أنَّ الزكاةَ هِيَ أحدُ أركانِ الإِسلام(1/269)
وَمَبَانِيه الْعِظَامِ الْمُشَارُ إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ» ذَكَر منها إيتاءَ الزكاةِ. وَتَجَبُ الزَّكَاة في خمسةِ أشياءَ:
1- بهيمةِ الأنعامِ وهي: الإبلُ والبقرُ والغنمُ.
2- الخارجِ مِنْ الأرضِ ومَا في مَعْنَاهُ كالْعَسَلِ الْخَارجِ مِن النحلِ.
3- عُرُوضِ التجارةِ.
4- الأَثْمَانِ.
5- الثِّمَارِ.
ولا زكاةَ في شيءٍ مِن ذلكَ حَتَّى يَبْلَغَ نِصَابًا، ولا زَكاةَ في مالٍ حَتَّى يَحوُل عليهِ الْحولُ، إلا في الخارج مِنَ الأرضِ لِقولِهِ تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وإلا نِتَاجَ السَّائِمَةِ، وَرِبْحَ التِّجارةِ فإنَّ حَوْلَهُما حَوْلُ أَصْلِهِما إنْ كَانَ نِصَابًا، وإلا فابتدَاء الحولِ مِنْ حينِ كَمُلَ نِصَابًا.
وَمَنْ كَانَ عندَهُ مالٌ وعليه دَيْنٌ فإن كان بمقدار ما عنده فلا زكاةَ فيه، فإن كان عندَه عشرةُ آلافٍ وعليه دينٌ عَشَرَةُ آلافٍ فَأَصْبَحَ مَا يَمْلِكُ شَيئًا، وإِنْ كَانَ عندَه عِشْرُونَ أَلْفًا وعليه عَشَرَةُ زَكَّى عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ عليهِ عَشْرُونَ وعندَه عَشَرَةٌ فَلَيْسَ عليه شَيءٍ ولَهُ الأَخذُ مِن الزكاةِ لأَنَّهُ مِنْ الفُقَراءِ ولأنه غارِمٌ.
وَيُضَمَّ الْمُسْتَفَادُ إلى نِصَابٍ بيدِهِ مِن جِنْسِهِ، أو في حُكْمِهِ في وُجُوبِ الزَّكاةِ لا في الْحَوْلِ، فَيُرَكِي كلَّ واحدٍ إذا تَمَّ حَوْلُهُ.
وَتجبُ الزكاةُ فيما زَادَ على النصابِ بحسَابِهِ إلا في السائِمةِ فلا زَكاةَ في وَقْصِهَا لما رَوَى أبُو عُبَيْدَةَ في غَرِيبِهِ: (وليسَ في الأوقاصِ صدقةَ) ، وقال: (الْوَقُصُ ما بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ) .(1/270)
أَمَّا عُرُوضُ التِّجَارَةِ فهو كُل ما أُعِدَّ لِلْبَيْعِ والشرَاءِ لأَجْلِ الرِّبْحِ والتَّكسُّبِ من جَمِيع السِّلَعِ التُّجَارِيةِ: كالْمُجَوْهَرِاتِ والأَطْعِمَةِ والأَقْمِشَةِ والسَّيَّارَاتِ والْمَكَائِنِ. والثَّابِتَاتِ: كالْعَقَاراتِ من أَرَاضٍ وبُيُوتِ ونحوها، إذا تَمَلَّكَهَا بِفِعْلِهِ بِنَيَّةِ التِّجارةِ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا، لِمَا وَرَدَ عن سَمُرَةَ بن جُنْدِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إنّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّه لِلْبَيْعِ) . رواه أبو داود.
فَتُقَوَّمُ الْعُرُوضُ إِذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، وَأَوَّلُهُ مِنْ حِينِ بُلُوغِ الْقِيمَةِ نِصَابًا بالأَحَصِ لِلْفُقَراءِ مِنْ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، ولا يُعْتَبَرُ مَا اشْتُرِيتْ بِهِ، وَيُخْرَجُ رُبُعُ عُشْرِ قِيمَتِهَا. وَمَنْ استفادَ مَالاً خارجًا عن ربحِ التجارَةِ كالأَجرةِ والرَّاتبِ ونحوهما، فإنه يَبْتَدِي حَوْلاً مِنْ حينِ الاسْتِفَادَةِ إن كان نِصابًا، وإلا فَمِنْ كَمَالِهِ وَيُزَكِّيهِ إِذَا تَمَّ حَوْلُه.
وَأما الأثمانُ، وهِيَ النُّقُودُ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّة، أو مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِن فُلُوسٍ أو أَوْراقٍ نَقْدِيَّةٍ، وكذلكَ حُلِيَّ الذَّهَبِ والفضةِ إِذا بَلَغَ نِصَابًا بنفسِهِ، أو بما يَضُم إليهِ من جِنْسِهِ أَوْ في حُكْمِهِ ولم يكن مُعَدًا لِلاسْتعمالِ أو للإعَارَة ِ، فَإن أُعِدَّ للاستِعمالِ أو للإعَارَةِ فَلا زَكَاةَ فيه.
وأقلُّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً، وفيها نِصْفُ مِثْقَالٍ وَهو رُبعَ العُشْرِ، لِحَديثِ عائشةَ وابن عُمرَ - رضِيَ اللهُ تعالى عنهما - مرفوعًا: (أنه كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالاً نِصفَ مِثْقَال) . رواه ابنُ ماجَة. والله أعلم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
2- فصل: والنِّصَابَ مِنَ الذَّهب بِالجنيهِ السُّعُوديّ أَحَدَ عَشَرَ جُنَيْهًا وَنِصفُ جُنَيهٍ تَقْرِيبًا، وكذلكَ بالجُنيهِ الإِفرَنْجي أَحَدَ عَشَرَ جُنَيْهًا وَنِصفُ جُنَيْهٍ تَقْرِيبًا، وَأَقَلُّ نِصَابُ الفِضَّةِ مَائَتَا دِرْهَمٍ، وَبالرِّيَالِ العَرَبي(1/271)
سِتةٌ وَخَمْسُونَ رِيالاً تَقْرِيبًا، وبِالرِّيالِ الفَرَنْسي ثَلاثةٌ وَعِشْرُونَ رِيَالاً تَقْرِيبًا.
وَأما الأوْرَاقُ المَوْجُودَةُ فإذا مَلَكَ مِنْهَا مَا يُقَابِلُ نِصَابًا مِنَ الفِضَّةِ وَحَالَ عَلَيْهِ الحَولُ فَإنَّهُ يُخْرِجُ منها رُبُعَ العُشْرِ.
وَمَنْ كان عِنْدَهُ فِضَّةَ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ زَكاتها مِنَ الأَوْرَاقِ المَوْجُودَةِ المُتَعَامَلِ فِيها نَظَرَ إلى قِيمَةِ الفِضَّةِ مِنَ الأَوْرَاقِ وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ المُقَابِلِ لَهَا فَمَثَلاً إذا كان عِنْدَهُ أَلفُ رِيالٍ مِنَ الفِضَّةِ يُسَاوِي ثَلاثَة آلافٍ مِن الأَوْرَاقِ أَخْرَجَ عَن الفِضَّةِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ رِيَالاً هِي مُقابِلُ زَكاةِ الألْفِ مِن الفِضَّةِ وهي خَمْسٌ وَعِشْرُون.
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَهَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ زكاتهُ مِنَ الأَوْرَاقِ المُتَعَامَلِ فِيها نَظَرَ إِلى قِيمةِ الذَّهَبِ مِنَ الأَوْرَاقِ وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ المُقَابِلِ لَهَا فَمَثَلاً إِذَا كَان عِنْدَهُ مائةُ جُنَيْهٍ وَكَانَ الجُنَيْهُ يُساوِي خَمْسِينَ رِيَالاً (50) فَتكون المائَة في خمسةِ آلاَفِ رِيَال فَزَكَاتُهَا مِنَ الأَوْرَاقِ مِائَةَ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ رِيَالاً هُوَ مُقَابِلُ زَكَاةِ مِائة الجُنَيْهِ وهو جُنَيْهَانِ وَنِصْفُ جُنَيْهٍ مِنْ زَكَاةِ المائةِ وهو جُنَيْهَانِ ونِصْفٌ.
وَتَجِبُ الزكاةُ في مالِ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ لِعُمُومِ حَديثِ مُعَاذِ لَمَّا بَعَثَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليَمَنِ، وَيُخْرِجُ عَنهما وَليُّهُما في مَالِهِما مِنْ مَالِهِمَا.
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكركَ ووفقنا لِلقيام بحقكَ، وخلّصنا مِن حقوقِ خلقكَ، وباركْ لنا في الحلالِ مِنْ رِزْقِكَ، وَلا تَفْضَحْنا بينَ خَلقكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يا قَاضِيَ الحَاجَاتِ، ومُجِيبَ الدعواتِ، هَبْ لَنَا ما سَأَلْناهُ، وحقق رَجَاءَنَا فِيما تَمَنَيْنَاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السائِلينَ وَيعلمُ ما في صُدُورِ الصَّامِتِيَن أذقنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحلاَوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيع(1/272)
السَّمَاواتِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوفِّقَنا لِمَا فِيهِ صَلاَحُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فصل)
3- وَأَمَّا زَكاةُ الخَارِجِ مِنَ الأَرضِ فَتَجِبُ في كُلِّ مكِيلٍ مُدَّخَرٍ مِن الحَبِّ كَالقَمْحِ والشَّعِيرِ وَالذُرَةِ وَمِنَ الثَمرِ كالتَمْرِ وَالزَّبِيبِ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ والعُيُونُ أو كان عَثِريًا العُشْرُ وفيما سُقِي بالنَّضحِ نِصْفُ العُشْرِ» . رواه البخاري.
وَإنما تَجِبُ فِيه بِشَرْطَينِ الأولُ: أن يَبْلُغَ نِصابًا وَقَدْرُهُ بَعْدَ تَصْفِيَةِ الحبِ وَجَفَافِ الثمرِ خَمْسَةُ أوسُقٍ، والوسَقُ سِتُّونَ صَاعًا نَبَوِيًّا فَتكونُ خَمْسَةُ الأَوْسُقِ (300) ثَلاثمائةِ صَاعٍ بِالصَّاعِ النَبَوي وبالصَّاعِ الحَالِي مائَتَيْنِ وَثمَانِيةٍ وَعِشْرِينَ صَاعًا وَوَزْنُ الصَّاعِ النبوي بالرِّيَالِ الفَرَنْسِي ثَمَانُونَ رِيالاً (80) وَوَزْنُ الصَّاعِ الحَالي بالرِّيَالِ الفَرَنْسِي مائَةُ وَأَرْبَعَةٌ (104) فيكونُ زَائِدًا على الصَّاعِ النَّبَوِي بِخُمُسٍ وَخُمُسِ الخُمُسِ تَقْرِيبًا.
والشرط الثاني: أن يكون مالكًا لِلنِّصَابِ وَقْتَ وُجُوبِهَا فَوَقْتُ الوُجُوبِ في الحَبِّ إِذا اشْتَد وفي الثَّمَرِ إذا بَدَا صَلاَحُها لأنه حِينَئِذٍ يُقصَدُ لِلأَكْلِ وَالإِقتِيَاتِ بِهِ فأَشْبَهَ اليَابِسَ وعن عائشَةَ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ إِلى يَهُودَ فَيَخْرِصُ عليهم النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤكَلَ مِنْهُ. رَواه أبو داود.
وَيَجْبُ فَيما سُقِيَ بِلا مَؤنَةٍ العُشْرِ وَفيما سُقِيَ بِكُلْفَة نِصْفُ العُشُر(1/273)
لِحَدِيثِ ابن عمرَ مَرفوعًا: «فيما سَقَت السَّمَاءُ الْعُشْرُ وفيما سُقِيَ بالنَّضْحِ نصفُ الْعَشْرِ» . رواه أحمد، والبخاري. وللنسائي، وأبي داود، وابن ماجة: «فيما سَقَتِ السماءُ والأنهارُ والْعيونُ أو كان بَعْلاً الْعشرُ وفيما سُقِيَ بالسَّوانِي والنُّضْحِ نصفُ الْعُشْرِ» .
ويَجِبُ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْحَبِّ مُصَفَّى مِنْ قِشْرِهِ وَالثَّمَرِ يَابِسًا لِمَا وَرَدَ عَنْ عَتَّابِ بنِ أُسَيْدٍ أَن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُخْرِصَ الْعنبُ زبيبًا كما يُخْرَصُ التَّمْرُ ولا يُسَمَّى زَبِيبًا ولا تَمْرًا حَقِيقَةً إلا اليابسُ وقِيسَ الباقِي عليهما. ولا يَستَقِرُّ وُجُوبُها إلا بجَعْلِهَا في الْجَرِينِ أو في الْبَيْدَرِ أو في الْمِسْطَاحِ ونَحوِهِ.
فإن تَلِفَتِ الْحُبُوبُ والثِّمَارُ التي تَجِبُ فِيها الزكاةُ قبلَ الْوضعِ بالْجَرين ونحوِهِ بَغَيْرِ تَعَدٍّ منه سَقَطَتْ، خُرصَتْ أو لم تُخْرَصْ، وإِنْ تَلِفَ الْبَعْضُ مِنَ الزرعِ والثَّمَرَ قَبْلَ الاسْتِقْرَارِ زَكّى الْبَاقِي إن كان نِصَابًا وإلا فلا زَكاةَ فيه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فيما دُونَ خَمْسةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» .
ولا تَتَكَرَّرُ زَكاةُ الْمُعَشَّر إِذَا لَم يَقْصُدْ بِهِ التِّجَارَةَ فإن كَانَتْ مُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ كالذي يَشْتَرِي الْبُرَّ أو الأَرُزَّ أو الزَّيْتَ يَتَربَّصُ بِهِ أو يُقَطِّعُهُ فَهَذِهِ تُعْتَبَرُ عُرُوضًا إذَا كَانْتَ تَبْلُغُ نِصَابًا كُلَّمَا دَارَ عَلَيْهَا الْحَولُ قَوَّمَهَا بالأنْفَعِ لِلْفُقَراءِ من عَيْنٍ أَوْ وَرَقٍ ولا يُعْتَبَرُ مَا اشْتُرِيَتْ بِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ بَعْثُ خَارِصٍ لِثَمَرِ النَّخْلِ والْكَرْمِ إذا بَدَا صَلاحُها. وَشَرْطِ كَوْنهُ مُسْلَمًا أَمِينًا خَبِيرًا لِحَدِيث عائشة قالَتْ: كان عليه الصلاةُ والسلامُ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ إِلى الْيهودِ يَخْرِصُ عليهم النَّخِيلَ قَبْلَ أنْ يُؤْكَلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/274)
وفي حديثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ. رواه الترمذي، وابن ماجة. وَصَحَّ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَصَ على امرأةٍ بِوَادِي الْقُرَى حَديقَةً لَهَا وَحَدِيثُها في مُسْنَدِ أحمدَ.
وَيَجِبُ أنْ يُتْرُكَ الْخَارِصُ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلثَ أَوْ الرُّبعَ فَيَجْتَهِدُ السَّاعِي بَحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ لِحَدِيثِ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ» . رواه الخمسة. واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
(10) موعظة
أَيُّهَا الْغَافِلُ رَاقِبْ مَنْ يَرَاكَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَطَهِّر سِرَّكَ فَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَخْطُرُ بَالْبَالِ، إلى مَتَى تَمِيلُ مَعَ الزَّخَارفَ وَإِلى كَمْ تَرْغَبْ لِسَمَاعِ الْمَلاهِي والْمَعَازِفِ والْمُحَرَّمَاتِ أَمَا آنَ لكَ أَنْ تُجَالِسَ صَاحِبَ الدِّين والصَّلاحِ الْعاكِفِ عَلَى عَمَلِهِ يَقْطَعُ لَيْلَهُ بالْقِيامِ حَتَّى الصَّبَاحِ وَنَهَارَهُ بالصِّيامِ لا يَمِلُّ وَلا يَتَوانَى رَجَاءَ الْفَوزِ بالأَرْبَاحِ، وَأَنْتَ فِي غَمْرِةِ هَوَاكَ مَفْتُونًا فِي الاِنْهِمَاكِ بِدُنْيَاكَ وكأني بكَ وقد هَجَمَ عَلَيْكَ مَا بَدَّدَ شَمْلَكَ وَأَوْهَنَ قُوَاكَ وَافْتَرَسَكَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِكَ وَعَشِيرَتِكِ وَأَخِلائِكَ وَتَخَلَّى عَنْكَ خَلِيلُكَ وَأَصْدِقَاؤكَ لا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّ مَا نَزِلَ بِكَ وَلا تَجِدُ له كاشِفًا فانْتَبِهْ مَا دَامَ جِسْمُكَ صَحِيحًا والْعَمَلُ مِنْكَ فِي إِمْكَان.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمالِ وَنَجِّنا مِن جميعِ الأهوالِ وأَمِّنَّا مِن الفزعِ والرجفِ والزِلزال، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/275)
33- فصلٌ في بيانِ مصارف الزكاة:
ويُشْتَرَطُ لإِخْرَاجِهَا نِيَّةٌ مِنْ مُكَلَّفٍ، لَحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . فَيَنْوِي الزَّكَاةَ، أو الصدقةَ الواجبةَ أَوْ صَدَقَةَ الْمَالِ.
ويُسنُّ أَنْ يُفَرِّقَ زَكاتَهُ على أقاربِهِ الذين لا تَلزَمُهُ مَؤونَتُهُم لما وَرَدَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ» . رواه أَحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُخْرِجُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا. ويَحْمَدُ اللهَ على تَوْفِيقِهِ لأَدَائِهَا، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا» . رواهُ ابن ماجة.
وَيَقُولُ الآخِذُ وهو الْفَقِيرُ أَوْ الْمِسْكِينُ أو أَحَدُ الأَصْنَافِ: آجَرَكَ اللهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ وَجَعَلُهُ لَكَ طَهُورًا.
قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} أَيْ ادْعُ لَهُمْ، كَمَا رَوى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أُتِيَ بصَدَقَةِ قومٍ صَلَّى عليهِم. فأتاه أبيّ بصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى آلِ أبِي أوفَى» .
وللمُزَكِّيِ دفعُها إلى الإِمامِ وَإلى السَّاعِي، ويَبْرَأُ بذَلِكَ، ولا(1/276)
يُجْزِي دَفْعَها إلى كافِرٍ غير مؤلَّف، وَلاحَظَّ فِيها لِغَنِيّ وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ، لِمَا وَرَدَ عن عبدِ الله بن عَدِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجلَين أخْبَرَاهُ أنهما أَتَيَا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلانِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَلَّبَ فِيهما الْبَصَرَ وَرَآهُما جَلْدَيْن فقال لَهُما: «إِنْ شِئتُمَا أَعْطَيتُكُمَا ولا حَظَّ لِغَنِي ولا لِقَوي مُكْتَسِب» . فالواجبُ تأمُلُ حالِ السائل، والتَّفَرُسُ فِيهِ كما فَعَل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكم من إنسانِ يَدَّعي الفقَر وَهو غَنِي.
وَكَمْ مِن مُتَعَارِجٍ وما بِهِ عَرَجٌ ولكِنْ لأَمْرٍ مَا تَعاَرُجُهُ.
وَكَمْ مِنْ حَامِلِ وَرَقَةٍ يَأْكُلُ بِهَا لا يَدْرِي مَا فِيهَا وَلَوْ بَرَّقْتَ وَسَبَرْتَ بِدقٍ لَوَجَدْتَ الْعَجَائِبَ، لأنَّ الوازِع الدِّيِنِي قَدْ ضَعُفَ جِدًا واخْتَلَطَ الْحَابِلُ بالنَابِلِ فَلا يُمَيِّزُ الفقيرُ والْمُسْتَحِق للَّزكاةِ إلا إنْسَانٌ مُتَبَصِّرٌ بَعْدَ التَّأَمُلِ والْبَحْثِ التَّامِ والْحَرِيصُ على إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ وَإِيصَالِ زَكَاتِهِ إِلى الْمُسْتَحِقِّ لِهَا يَعْرِفُ كَيْفَ يِجِدُ مَوْضِعَها تَمَامًا مِمَن لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا الْمُحْتَاجِين الْمُخْتَفِينَ الْحَيِّينَ الأَرَامِلَ ذَوِيْ الْعَوائِلِ، ورُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ سَائلاً يَسْألُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قَومِهِ عَشِّ السَّائلَ فَعَشَّاهُ، ثُمَّ سَمِعَهُ ثَانِيًا يَسَألُ فَقَالَ: أَلَمْ أقلْ لَكَ عَشِّ السَّائلَ؟ قَالَ: قَدْ عَشَّيتُهُ فَنَظَرَ عُمُرُ لَه فإذا تَحْتَ يَدِهِ مِخْلاةٌ مَمْلُوءةٌ خُبْزًا فقال: لَسْتَ سَائِلاً لِكنَّكَ تَاجرٌ ثم أَخَذَ الْمِخْلاةَ وَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَضَرَبَهُ بالدُّرةِ وقال: لا تَعُدْ.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنيٍ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَويٍّ» . رواه أحمدُ، وأبو داود.
ولا يَدْفَعُ بالزكاةِ مَذَمَّةً، ولا يَقِي بِها مَالَهُ، ولا يَسْتَخْدِمُ بها ويَلْزَمُ الإنسانُ الذي يُرِيدُ إِبْرَاءَ ذِمَّتِهِ صَحِيحًا أَنْ يُفَتِّشَ على أهلِ العوائدِ(1/277)
ويَسْألْ عنهم بدِقّةٍ مِنْ يَعْرِفُ حَالَهُم مِن جِيرانٍ وَأَقَارِبَ حَتَّى يَتَأكَّدَ هَلْ هُمْ أَغْنِياءُ فلا يَدْفَعُهَا إليهِم لأنَّ دَفْعَهَا لهَم مَع الغنى وجُودُهُ كَعَدَمِهِ فلا تَبْرَأُ ذِمْتُهُ وَتَبْقَى الزَّكاةُ فِي ذِمَّتِهِ وَلا يَحْمِلُه الْحَياءُ فَيُعْطِي صَاحِبَ الْغِنَى قُبْلَ أنْ يَبْحَثَ عنه هَلْ هو على فَقْرِه.
لأَنَّ كَثيرًا مِن الْفُقَراء في وَقْتِنَا انْفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ مِن أَوْلادٍ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ شُؤونٍ وَلا يُبَالِي بغَضَبِ مِنْ مَنَعَهُ عَادَتَهُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ وَيَلْتَمِسُ رِضَا اللهِ جلَّ وَعَلا وَسَواء كَانُوا أقْرِبَاءَ أَوْ غَيْرَ أَقْربَاء.
وَلا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ في الآية قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
فلا يَجُوزُ صَرْفُها في بِنَاءِ الْمَدَارِسِ أو الْمَسَاجِدِ، ولا وَقْفِ مَصَاحِفَ، ولا كُتْبِ علمٍ. ولا تكفينِ مَوْتَى، ولا تَوْقِيفِ مَقَابِرَ ولا غيرِهَا مِنْ جِهَاتِ الْخَير، لأَنَّ اللهَ تعالى تَوَلَّى الْحُكم فيها بنَفْسِهِ، فقدْ وَرَدَ عن زِيادِ ابنِ الْحارثِ الصُّدائِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبايَعْتُهُ، فذكرَ حديثًا طويلاً، فأَتاهُ رجلَ فقال: اعْطِنِي مِنِ الصَّدقَةِ، فَقَال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إن اللهَ لم يَرْضَ بحُكْم نَبِي ولا غَيْرِهِ في الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَم فيها فَجَزَّأَهَا ثمانيةَ أجْزاءِ، فإن كَنتَ مِن تلكَ الأَجْزاءِ أَعطيتُكَ» .
فيأخُذُ الْفَقِيرُ وهو مَن لا يَجدُ شيئًا أو بَعْضَ الْكِفَايةِ مِن الزكاة تَمَامَ كِفَايتِهِ مَعَ عَائِلَتِهِ سَنَةً لأَنَّ وُجُوبَ الزكاةِ يَتَكَرَّرُ بتكرر الْحَوْلِ.(1/278)
وَيَأْخذُ الْمِسْكِينُ وهو مَن يَجدُ الْكِفَايَةَ أَوْ نِصْفَهَا تَمَامَ كِفَايَتِهِ مَعَ عَائِلتِهِ سَنةً لأنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَكررُ بِتكرُرِ الْحَوْلِ.
ويُعْطَى مِن الزكاةِ الْعامِلُ وَهُوَ كَجَابٍ وَحَافِظٍ. وَكَاتِبٍ وَقَاسِمٍ وَجَامِعِ الْمَوَاشِي وَعَدَّدِهَا وَكَيَّالٍ ووزانٍ وَسَاعٍ وراعٍ وَحَمَّالٍ وَجَمالٍ قَدْرَ أجرتِهِ وإنْ تَلَفَتْ في يَدِهِ بلا تَفْريطٍ منه فَيُعْطَى أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لأنَّ لِلإِمَامِ رَزْقُهُ على عَمَلِه مِن بَيْتِ الْمَالِ.
وَيُعْطَى مِن الزَّكَاةِ الْمُؤَلِّفُ وهوَ السِّيدُ الْمُطَاعُ فِي عَشَيرتِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التأليفُ لأنه الْمَقْصُودُ.
5- ويُعْطَى مِن الزكاةِ الرِّقابُ وهُم الْمكاتَبُونَ وفَاءَ دَينِ الْكتابِةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُفِدِي مِن الزكاةِ أسيرًا مُسْلِمًا في أيدي الْكفار.
6- ويُعْطَى الْغارِمُ مِن الزَّكَاةِ وهو مَنْ تَدَيَّنَ لإِصْلاحِ ذاتِ بَيْنٍ أو تَحَمَّلَ بَسَبَبِ إتْلافِ نَفْسٍ أَو مَالٍ أََوْ نَهْبًا أو مَالاً لِتَسْكِينِ فِتنِةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ طَائفَتَيْنِ وَيتوقَّفُ صُلُحُهُمَا على مَنْ يَتَحَمَّلُ ذَلكَ أو تَدَيّنَ لِشِرَاءِ نَفْسِهِ مِن كُفَّارٍ أو لِنَفْسِهِ في مُبَاحٍ وأَعْسَرَ وَفَاءَ دَينِهِ كمكاتَبٍ، وَدَينُ اللهِ كَدَينِ الآدَمِي.
7- ويُعْطَى الْغَازِي في سَبِيلِ اللهِ ما يَحْتَاجُ لِغَزْوِهِ ذِهَابًا وإِيَابًا وإقامةً في أرضِ الْعَدُوِّ ونحو ثَمَنِ سِلاحٍ ودِرْعٍ وفَرَسٍ لِفَارِسٍ ويُعْطَى مِن الزَّكاةِ ابنُ السَّبِيل وهو الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بهِ بغير بلدِهِ ما يُبَلِّغُه بَلَدَهُ أو مُنْتَهَى قَصْدِه وعَوْدِهِ إليهَا إن لم يَكُنْ سَفَرُهُ مُحْرَمًا أو مَكْرُوها. واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(11) موعظة
عبادَ الله إنَّ وُجُودَ الْمَوتِ بينَ النَّاسِ مَوْعِظَةٌ كُبْرَى لو كَانُوا يعقلون(1/279)
فإنه بلِسَانِ الْحَالِ يقولُ لِكُلِّ واحدٍ مِنا: سَأنْزلُ بكَ يومًا أو لَيلةً كما ترى الناسَ بعَيْنِكَ يَمُوتُونَ وقد يَكُونُ لأَحَدِهِم مِن المالِ والجاهِ والقوَّةِ والْجَمَالِ والْعِلمِ والْفَصَاحَةِ والْمَرْكَزِ الدُّنَيوي ما يُدْهشُ النَّاظرينَ لَهُ، وقد يكونُ قَدْ طَالَ عُمُرُهُ وطالَ أمَلُهُ حتى مَلَّ ومُلَّ مِنْهُ. وَبَيْنَ ما هو في حالٍ مِن النَّشَاطِ قويٌ مشْدُودٌ أسْرُهُ، ذو هِمَّةٍ تَضِيقُ بِها الدُّنيا، قَدْ أَقْبَلَتْ عليهِ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّّ جهَةٍ، وَزَهَتْ لَهُ، إذا تَرَاهُ جُثَّةً هَامِدَةً أشْبَهَ بِأعْجَازِ النَّخْلِ الْخَاوِية لا حِسَّ لَهُ ولا حَرَكَةَ ولا أقوالٌ وَلا أفعالٌ قَدْ ضَيَّقَ على مَنْ حَوْلَهُ وإذا لَمْ يُسْرِعُوا بِهِ إلى الدَّفْنِ يَكُونُ جيفةَ مِنْ الْجِيفِ تُؤْذِي رَائِحَتُهَا الْكَرِيهةُ كَلَّ مَنْ قَرُبَ منها، هَذا كُلُّهُ يكونُ بعدَ ذلكَ النَّشَاطِ والْقُوَى لأنَّ هَادِمَ اللَّذَاتِ نَزَلَ بِهِ.
وبَعْدَ نُزُولِه لا تَسْألُ كان لَهُ ما كَانَ، وفي الحالِ تُصْبحُ زَوْجَتُه أرْمَلَةٌ ويُصْبحُ أَوْلادُهُ أَيْتَامًا. وفي الْحَالِ تُقَسّم أَمْوَالُهُ التي جَمَعَهَا وَقَاسَى على جَمْعِهَا الشَّدَائِدَ. لأَنَّ الْمَوْتَ يُزيلُ مُلْكَهُ وينْقُلُهُ إلى مُلْكِ وَرَثَتِهِ نَقْلاً تَعْجَزُ عن نَقْضِهِ الأَيامُ، نَعَمْ إنَّهُ بالموت يزولُ مَالُه كُلُهُ وهِيَ أَكْبَرُ مُصِيبَةٍ مَاليَّةٍ.
وأَكْبَرُ مِنَها أَنَّهُ يُسْألُ عنه كُلّهِ دَاخلاً وخَارجًا مِن حَلالٍ أَمْ مِن حَرَامٍ وبَعْدَ مُدَّةٍ يَسيرةٍ يُنْسَى هُو وَيُنْسَى مالُه وَيُنسَى جَاهُهُ ويُنْسَى مَرْكَزُهُ وَمَكَانَتُهُ ولو كان مَلِكًا أوْ وَزِيرًا ومَا كأنُه رَأَتْهُ الْعُيُونُ ولا سَمِعَتْ كَلامَهُ الآذانُ كما
شِعْرًا:
لِمَنْ يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ تَحْوِي ... مِنَ الْمَالِ الْمُوَفَّرِ والأَثَاثِ
سَتَمْضِي غَيْرَ مَحْمُودٍ فَرِيَدًا ... وَيَخْلُو بَعْلُ عِرْسِكَ بالتُّرَاثِ
وَيَخْذُلُكَ الوَصيَّ بَلا وَفَاءٍ ... وَلا إصْلاحِ أَمْرِ ذِي التِّيَاثِ
لَقَدْ وَفَّرْتَ وِزْرًا مَرَّ حِينًا ... يَسُدُّ عَلَيْكَ سُبْل الانْبِعَاثِ
فَمَا لَكَ غَيْرَ تَقْوى الله حِرْزٌ ... وَلا وَزَرٌ وَمَا لَكَ مِنْ غَيَّاثِ(1/280)
إن الناسَ يَرَوْنَ الْمَوْتَ كلَّ يَوْمٍ بأعْيُنِهم في بُيُوتِهِم أَوْ فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَيَرَوْنَ مَالَهُ مِنْ آثارٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَمُوتَ بَيْنَهُمْ مَيّتٌ يَكُونُ مَنْهُمْ مَعَ مَوْتِهِ هَذَا مَا يُدْهِشُ الأَفْكَارَ فَتَرَى مِنْ أَقَارِبَهِ مَنْ يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْبَحثِ عَمَّا خَلَّفَ، وانْتِهَابِ مَا اتَّصَلَتْ إِليه أيْديهِمِ من ماله، وربَّمَا شَبَّتْ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْحُرُوبُ مِن أَجْلِ أَنْ يَتَمَيَّزَ كُلُ وَاحدٍ منهم في التَّرِكَةِ عَمَّنْ سِوَاهُ وَقَدْ تَشْتَدُّ بِهِم تِلكَ الْعَدَاوَةُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا مَا بَقِيتْ تِلكَ.
يَفْعَلونَ هَذَا كُلَّهُ عَقِبَ مَنْ يَمُوتُ بَدَلَ أنْ يَعْتَبُرُوا ويَتَّعِظُوا بِهِ فَيُزِهِّدُهُمْ هَذَا التَّفْكِيرُ والاِعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ المَالِ الفَانِي الذَّاهِبُ عَنْ أَيْدِيهِمْ عَنْ قَرِيبٍ كَمَا ذَهَبَ عَنْهُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ طَرِيقِهِ لَقَدْ سَبَقَ أَقْوَامٌ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بالْمَوْتِ حَقَّ الإِيمَانِ فَكَانُوا يُقَدِّرُون الدُّنْيَا حَقَّ التَّقْدِيرِ كَانُوا يَعْرَفُونَ أَنَّهَا فَانِيَةٌ وَأَنَّهَا غَرَّارَةٌ خَدَّاعَةٌ وَأَنَّهُمْ تَارِكُوهَا يَوْمًا رَغْمَ أَنُوفِهِمْ لا رُجُوعَ بَعْدَهُ لِقَلِيلٍ مِنْهَا وَلا كَثِيرٍ قَرؤُوُا قَوْلَهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فاسْتَعِدُّوا واقَرؤُوُا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} فَكَانُوا إِذَا حَصِلَ لَهُمْ شَيء مِنْ الدُّنْيَا صَرَفُوا ذَلِكَ لِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ. وَإِذَا سَمِعْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا فَلِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةَ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيءٍ كَثيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَّدَقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللهً لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ الآيةُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ومِنْ طَرِيقٍ آخَرَ حَثَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ(1/281)
يَعْنِي في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَنْ عَوْفٍ بأَرْبَعَةِ آلافٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلافٍ جِئْتُكَ بِنِصْفِهَا وَأَمْسَكْتُ بِنِصْفِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ» . وَجَاءَ أبُو عُقَيْل بَصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولُ للهِ أَصَبْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ صَاعٍ أَقْرَضْتُهُ لِرَبِّي، وَصَاعِ لِعِيالِي. قَالَ: فَلَمَزَهُ الْمُنْافِقُونَ، وقاَلُوا: مَا أَعْطَى ابْنُ عَوْفٍ إلا رِياءُ، وقَالُوا: أَلَمْ يَكُنْ اللهُ وَرَسُولُهُ غَنَيِّينِ عَنْ صَاعِ هَذَا، وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَجْعَلُونَ مَا نَالُوا مِنَ الدُّنْيَا وَسِيلَةً إلى الآخرة.
شِعْرًا: ... ألا إنَّ رِزْقَ الله لَيْسَ يَفوتُ ... فلا تُرَعَنْ إِنَّ القَليلَ يَقُوتُ
رَضِيتُ بِقسْمِ الله حَظًّا لأنَّهُ ... تكفَّلَ رِزْقِي مَنْ لَهُ الْمَلَكُوتُ
سَأَقنعُ بالمالِ القَليلِ لأنني ... رَأَيتُ أَخَا المالِ الكثِيرِ يمُوتُ
آخر:
إذا اكْتَسَب المالَ الفَتَى مِنْ وُجُوهِهِ
وَأحْسَنَ تَدبِيرًا لَهُ حِينَ يَجْمَعُ
وَمَيَّزَ فِي إنْفَاقِهِ بَيْنَ مُصْلِحٍ
مَعِيشَتَهُ فِيمَا يَضُرُ وَيَنْفَعُ
وَأرْضَى بِهِ أَهْلَ الحُقُوقِ وَلَمْ يُضِعْ
بِهِ الذُّخْرَ زَادًا لِلَّتِي هِيَ أَنْفَعُ
فَذَاكَ الفَتَى لا جَامِعَ الْمَالِ ذَاخِرًا
لأولادِ سُوءٍ حَيْثُ حَلُّوا وَأَوْضَعُوا
آخر:
فَكَّرْتُ في المالِ وفي جَمْعِهِ ... فَكَانَ مَا يَبْقَى هُوَ الفَانِي
وَكَانَ مَا أَنْفَقْتُ في أوجهِ الـ ... ـبرِّ بِمَعْرُوفٍ وَإحْسَانِ
هو الذي يَبْقَى وَأَجْزَي بِهِ ... يَوْم يُجازَى كُلُّ إنْسَانِ
اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا في سِلْكِ الْفَائِزِنَ بِرِضْوانِكَ، واجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ(1/282)
أعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وعافنا يا مَوْلانا في الدُّنْيَا والآخِرةِ مِن جَمِيعِ الْبَلايَا وأجْزِلْ لِنَا مِنْ مَوَاهِب فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتَّعْنَا بالنَّظَر إلى وَجْهِكَ الْكَريمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل)
34– فِيَما وَرَدَ مِن الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ على تَرْكِ الزَّكَاة:
إذا فَهِمْتَ ما تَقَدَّمَ مِمَّا تَجِبُ فيه الزكاةُ وبيانِ نِصَابِ الزكاةِ ومَصْرفها وما يَنْبَغِي أنْ يَقولَ الدَّافِعُ والْمَدْفُوعُ إليهِ. فاعْلَمْ أَنَّها مَا خَالَطَتْ مَالاً إلا أفسدَتْهُ ومحقتْ بَرَكَتَهُ وأيُّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ فِي مالٍ مَمْحُوقِ الْبَرَكَةِ بَاقٍ شَرُّهُ وفِتْنَتُهُ وشُغْلُ الْبدنِ والْقَلبِ وإتْعَابُهُما؟
والْمَحْقُ: مِنْهُ ما هُوَ ظَاهِرٌ، وَهَوُ ذَهَابُ صُورَة الْمَالِ، وَرُجُوعُ الإِنْسَانِ بَعْدَ الاسْتِغْنَاءِ فَقِيرًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِخَلْقٍ كثيرٍ مِنْ الْمُتَسَاهِلِينَ بَأَمْرِ الزَّكَاةِ.
وَمِنْ الْمَحْق: مَحْقُ بَاطِنٌ وهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ في الصُّورَةِ مَوْجُودًا وَكَثِيرًا ولكنْ لا يَنْتَفِعُ فيه صاحبُهُ لا في دِينِهِ في وجُوهِ الْبَرِّ والْمَشَارِيعِ الْخَيرِيَّةِ وبَذْلِ الْمَعْروفِ، ولا يَنْتَفَعُ فيه في نَفْسِهِ ومروءَتِهِ بالسَّتْرِ والصِّيانِةِ، ومَعَ ذلِكَ يَتَضَرَرُ بهِ تَضرُرًا كَثِيرًا بإمْسَاكِهِ عن حَقِّهِ وَوَضْعِهِ في غَيْر جَهَتِهِ إمَّا بِإنْفَاقِهِ بَالْمَعَاصِي والْعِيَاذُ باللهِ وَإمَّا فِي الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ التِي لا نَفْعَ فِيهَا وَلا حَاصِل.
وقد وَرَدَ في مَنْعِ الزَّكاةِ عن اللهِ ورسُولِهِ تَشْدِيدَاتٌ هَائِلةٌ وَتَهْدِيدَاتٌ(1/283)
عظيمة ويُخْشَى عَلَى مَانِعِ الزكاةِ مِن سُوُءِ الْخَاتِمِةِ والتَّعرُّضِ لوعيد اللهِ وغَضَبِهِ والْخُروجِ مِن الدُّنْيَا على غَيرِ مِلَّةِ الإِسلامِ ومِمَّا جَاءَ مِن الْوَعِيدِ في حَقِّ مَنْ بَخِلَ بِهَا أَوْ قَصَّرَ فِي إِخْرَاجِهَا قولُه تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
شِعْرًا:
فَإنْ تجمع الآفاتُ فَالْكُفْرُ شَرَّهَا
وَشرٌ مَعَ الكُفْر النَّفِاقُ مع البُخْلِ
شِعْرًا:
ثلاث مُهْلِكَاتٌ لا مَحَالةْ ... غَوَى نَفْسٍ يَعُود إلى البَطَالَةْ
وَشُحٌ لا يَزَالُ يُطَاعَ دَأبًا ... وَعُجْبٌ ظَاهرٌ في كُلِّ حَالَةْ
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالإِبِلُ؟ قَالَ: «وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا - وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا - إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ(1/284)
قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: «وَلا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا خَلْجَاءُ وَلا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أَوَّلَهَا رُدَّ عَلَيْهِ آخِرَهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .
وَعَنْ جَابِر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبلٍ لا يَفْعَلُ فِيها حَقَّهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا ولا صَاحِبِ بَقَرٍ لا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلا جَاءَتَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ فَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا، لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ ولا مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا ولا صَاحِبِ كِنْزٍ لا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ شُجَاعًا، أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ، فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزِكَ الذي خَبَّأْتَهُ فَأنَا عَنْهُ غَنِيٌ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لا بُدّ مِنْهُ سَلَكَ يَدَهُ في فِيهِ فَيقْضِمُهَا قَضْمَ الْفَحْلَ» .
وَفِي رِوَايةٍ للنَّسَائِي قال: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدِّي زَكاةَ مَالِهِ إلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاع مِنْ نَارِ فَتُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» .
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا ما وهَبتهُ لأوْلِيائكَ وَتَوفّنَا وأنتَ رَاضٍ عَنَّا وقد قَبلْتَ الْيَسيرَ(1/285)
منَّا واجْعَلْنَا يا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذينَ لا خَوْفَ عَليهمْ ولا هُمُ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ أَنْ أَدَّى الرَّجُلُ زَكاةِ مَالِهِ فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدى زَكَاةَ مَالِهِ فَقْدَ ذَهَبَ عَنْهُ شَرُّهُ» .
وَعَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ فَيَتَزَلْزَلُ.
ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ: لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِي خَلِيلِي، قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُبْصِرُ أُحُدًا» ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ، لا وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلََّ» .
وفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: «بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ فَيَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ حَتَّى يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ» قَالَ: ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، قَالَ:(1/286)
فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِلا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْتُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ قَالَ: خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ.
وَروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثًا عن رسولِ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سَمِعْتُهُ مِنْهُ، وكُنْتُ أَكْثَرَهُم لُزُومًا لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عُمَرُ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما تَلِفَ مَالٌ في بَرٍ ولا بَحْرٍ إلا بحبسِ الزكاة» .
وَعَنْ عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُا - قالتْ: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما خَالَطَتِ الصَّدَقَةُ - أو قال الزكاةُ - مالاً إلا أفْسَدَتْهُ» .
وعن الْحَسَنِ: أَنَّ رَسُولََ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالكُم بالزَّكاةِ، ودَاوُوا مَرْضَاكُم بالصَّدَقَةِ، واسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلاءِ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّعِ» .
فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي الآياتِ الْكَرِيمَاتِ والأَحَادِيثِ الشَّرِيفَاتِ.
وانْظُر كَيْفَ يُؤتَى بالْمَالِ الذِي كان يُحِبُّهُ مَانِعُ الزَّكَاةِ حُبًّا شَدِيدًا ويُعزُّهُ الْعِزَّ الذِي يَصِلُ بِهِ إلى أَنْ يُمْسِكُهُ وَيَجْمَعَهُ وَيُوَعِيهِ وَلا يُفَرِّطُ في شَيءٍ مِنْهُ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلْفُقَرَاءِ الْبُؤْسَاءِ الْمَسَاكِينِ يُؤتَى بِهِ بَعَيْنِهِ وَيُجْعلُ صَفَائِحَ، وَمَعَ أَن هَذِهِ الصَّفَائِحَ مِن نَارٍ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِتَشْتَدَّ حَرَارَتُهَا وَتَزْدَادَ لِيَكُونَ ألْمُهَا الْوَاقِعُ عَلَى بَدَن مَانِع الزَّكاةِ بَالِغًا النِّهَايَةَ فِي الشِّدَّةِ حِينَ يُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ.
وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الأَعْضَاءِ الثَّلاثَةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لأنَّ الْمُعَذَّبَ(1/287)
وَهُو مَانِعُ الزَّكاةِ إِذَا جَاءَهُ الْفَقِيرُ يَسْأَلُهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ عَبَّسَ وَجْهَهُ وَعَقَدَ جَبِينَهُ عُبُوسًا وَتَعْقِيدًا يَدُلُ على كَرَاهَتِهِ لِهَذَا السُّؤالِ.
فَإِذَا أَلَحّ الْفَقِيرُ عَلَيْهِ زادَ فِي عُبُوسِهِ أَنْ يَضُنَّ بِمُوَاجَهَةِ ذَلِكَ الْفَقِيرِ فَيَنْتَقِلُ مِن الْمُواجَهَةِ إلى الانْحِرَافِ عَنْهُ وَيَجْعَلُ جَنْبَهُ فِي وَجْهِ الْمِسْكِينِ السَّائِلِ مُبَالَغَةً في إظهارِ الْكَرَاهِيَةِ لِسُؤالهِ.
شِعْرًا:
فُرِضَتْ عَليَّ زكاةُ مَا مَلكَتْ يَدِيْ ... وَزكاةُ جَاهِي أَنْ أَعِيَن فَأَشْفَعَا
فَإِذَا مَلكْتَ فَجُدْ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ... فاجْهَدْ بِوُسْعِكَ كُلَّهِ أَنْ تَنْفَعَا
فإذا ازْدَادَ الْفَقِيرُ واشْتَدَّ فِي الطَّلَبِ والإِلْحَاحِ بَالَغَ الْمَسْئوُلُ فِي الْغَضَبِ فانْصَرَفَ عَنْهُ وَوَلاهُ ظَهْرَهُ مَاشِيًا مِنْ مَكَانِهِ وَتَارِكًا لَهُ يَهْوي في هُوَّاتٍ احْتِياجِهِ بدُونِ أي اكْتِرَاثٍ فَلمَّا كَانَ هَذَا حَالُ تِلْكَ الأَعْضَاءِ الثَّلاثَةِ في الدُّنْيَا خُصَّتْ في الآخِرِةِ بالْكَيَّ بِتِلْكَ الصَّفَائِحِ التي هِيَ مَالُه وبذلك يَعْرِفُ أَنهُ يُهانُ بالْمَالِ الذي كان يُعزّهُ في دُنْياه.
وَلو كان يُهِينُهُ بالدُّنْيا بِمُفَارِقَةِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ منه لَكَانَ سَببًا لإِكْرَامِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الرَّهِيبِ الْمُفْزِعِ.
وانْظُرْ كَيْفَ تَأتِي نِعَمُهُ إبلُهُ وَبَقَرُهُ وَغَنَمُهُ التي لَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللهِ فيها أَقْوَى مَا كَانَتْ وَأَوْفَرَهْ فَتَطَؤُهُ الإِبلُ بأخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بَأنْيَابِهَا الْحَادَّةِ وَتَطؤُهُ الْبقَرُ والْغَنَمُ بَأظلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا السَّليمَةِ لِيَكُونَ النَّطْحُ بِهَا أَوْجَعَ وَآلَمَ وَلا تَجِيءُ بَقَرُةٌ ولا نَعْجَةٌ إِلا وَلَها قَرْنَاها لَيْسَ بِهِمَا أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ تَوْجِيههِمَا إِلَيْهِ وَطَعْنِ الْمَانِعِ بِهَمَا الطَّعْنَ الأليمَ. وإنِّمَا كانَتْ أَقْوى مَا كَانَتْ لِيَكُونَ وطؤُها ونَطْحُهَا وَعَضُّهَا بِمُنْتَهى الْقُوَّةِ. وَإِذَا كَانَ مَبْطُوحًا لَهَا وهِيَ تَتَردَّدُ عَلَيهِ بالْوَطْءِ كَانَ أَمْكَنَ لَهَا فِي فِعْلِ مَا تُعَذِّبُهُ بِهِ وَهَذَا الْعَذابُ لا يكونُ زَمَنُه قَلِيلاً وَلَكنَّهُ يَدُومُ مَا دَامَ الْمَوقِفُ.(1/288)
ومِقْدَارُ الْمَوْقِفِ خَمْسُونَ أَلفَ سَنَةٍ وَنَوْعٌ آخَرَ مِن الْعَذَابِ خَاصٌ بِمَانِعِ الزَّكاةِ وهو أنْ يُوضَعَ حَجَرٌ مُحْمَى عَلَيهِ وَقَدْ زِيدَ في حَرَارَتِهِ فَأُحْمِي عَلَيْهِ كَذَلِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فلا يَتَحَمَّلُ اللَّحْمُ شِدَّةً حَرَارَتِهِ فَيَذُوبُ ذَوَبانًا فَيَدْخُلُ الْحَجَرُ الْجِسْمَ واللَّحْمُ يَذَوْبُ أَمَامَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْقِطْعَةِ الرَّقِيقَةِ التِي في طَرَفِ الْكتِفِ.
ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى هَذِهِ الْقِطْعَةِ الرَّقِيقَةِ وَقَدْ عَادَ الْجِسْمُ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ وَيَزِيدُ في الألَمِ حَالَ التَّعْذِيبِ أنَّ الْحَجَرَ يَتَزَلْزَلُ لا يَمُرُّ فِي الْبَدَنِ مُسْتَقِيمًا وَقْتَ نُفُوذِهِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَامِلَنَا بِعَفْوِهِ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ لا يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ كَافِيًا فَيَكُونُ سَبِيلَهُ إِلى النَّار التِي فِيهَا أَلْوَانُ الْعَذَابِ الأَلِيم مِنْ زَقُّومٍ وَحَمَيمٍ وَغَسَّاقٍ وَضَرِيعٍ وَويلٍ وَغِسْلِينٍ.
وَلِمَنْعِ الزَّكَاة ِشَكْلٌ آخَرٌ مِن الشُّؤْمِ الدُّنْيوي غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَا تَلِفِ مَالٌ فِي بَرّ وَلا بَحْرٍ إلا بَحَبْس الزَّكَاةِ» فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنُّهُ أَيُّ مَالٍ يَضِيعُ فِي أيِّ مَكَانٍ في بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ سَبَبُ تَلَفِهِ تَرْكُ الزَّكَاةِ. وَهِيَ عُقُوبَةٌ تَعْكِسُ عَلَى الْمَانِعِ قَصْدهَ، إذْ هُوَ يَقْصِدُ بِمَنْعِهِ لَهَا تَكْثِيرُ الْمَالِ والْهُرُوبِ من نَقْصِهِ بإخْراجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْهُ. ولوَ أَخْرَجَ الْقدْرَ الْوَاجَبَ وهُوَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، لَحُفْظَ مَالُه بإذْنِ اللهِ ولكانَ لَهُ ثَوابٌ عظيمٌ هوَ ثَوابُ رُكْن مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامَ، لكانَ لَهُ مِن الْفضْلِ عَلَى الْمُعْطَى مَا لا يَنْسَاهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ.
أَمَّا الْعُقُوبَةُ الأَخْرويَّةُ فالنَّارُ الِّتِي قال الله تعالى عنها: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} .(1/289)
فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَاقِلُ أَنْ تُحَاسِبِ نَفْسَكَ بِدَقَّةٍ وَتُقَوِّمَ مَا أعْدَدْتَه لِلبَيْعِ والشِّرِاءِ وأن تُبْرِئ ذِمَّتَكَ بَيَقِينٍ بإخراجِ الزكاةِ كُلِّهَا إِذَا تَمْ الْحَولُ، وأَنْ لا تَدْفَعَهَا إلا لِمَنْ تَعَلَّمُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْتِحِقها يَقِينًا أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظنِّ أَنَّهُ مِن أهلِها.
شِعْرًا:
أيَا جَامِعَ المالِ الكَثِيرِ بَجَهْلِهِ ... سَتَجْنِي جَنَى الخُسْرَانِ مِنْ حَيْثُ تَرْبَحُ
أَلَمْ تَنْظُرِ الطَّاوُوسِ مِنْ أَجْلِ رِيشِهِ ... لِمَا فِيهِ مِنْ شبْهِ الدَّنَانيرِ يُذْبَحُ
آخر:
وَمَا المال إلا حَسْرةٌ إنْ تَرَكْتَهُ ... وَغُنْمٌ إِذَا قَدَمْتَهُ مُتَعَجِّلُ
آخر:
وَمَا فِي الأَرْض أشقَى من كُفورٍ ... عَصَى الرَّحْمنَ واتَّبَعَ الملاهِي
تَرَاهُ دَائِمًا في جَمْعِ مَالٍ ... مَخَافَةَ فَقَرِهِ أَوْ لِلتَّبَاهِي
آخر:
وَمَا حَاجَتي في المال أَبْغِي وُفُورُهُ ... إِذَا لَمْ أَقَدِّمْهُ لِيْوِمِ التَّغَابُنِ
واحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ التَّهَاوُنِ بِتَرْكِ شَيءٍ مِنْهَا أَوْ التَّسْويفِ بِهَا أَوْ سُلُوك الطُّرقِ الْمُلْتَويِةِ لِلتَّخَلُّصِ مِن أَدَائِهَا أَوْ التَّحَايلُ على تَرْكِ شَيءٍ مِنْهَا فَكُلُّ حِيلةٍ تُسْتَعْمَلُ لِتَضِييعِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ أَوْ تَبِيحُ مَا حَرَّمَ اللهُ أَوْ تُحَرَّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ فَهِيَ مِنْ الْحِيلِ الْمُحَرَّمَةِ التِي سَيُجَازَى عَليها أشَدَّ الْجَزَاءِ وَمَا رَبُّكَ بِظلامٍ لِلْعَبِيد.
ويَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكاةِ لِحَولَين فَأَقَلَّ إِذَا كَمُلَ النِّصَابُ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ عَلْيه السَّلامُ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بن عبد الْمُطَّلب سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رواه الخمسة إلا النسائي.
وعن أبي هريرةَ قال: بَعَثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمُرَ على الصدقةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابنُ جَميلٍ، وخالدُ بنُ الوليدِ، والْعَبَّاسُ فقال رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يَنْقِمُ ابنُ جَمِيلٍ إلا أنَّهُ كان فقيرًا فأغْنَاهُ اللهُ(1/290)
ورسولهُ، وَأَما خالدٌ فإنكم تظلمون خالدًا وقد حَبَسَ أدْرَاعَهُ وأَعْتَادَهُ فِي سبيلِ اللهِ، وأَمَّا العَبَّاسُ فَهِيَ حَقٌ عَلَيَّ ومثلُهَا مَعَهَا» ، ثُمَّ قَال يَا عُمَرُ: «أَمَا شَعرْتَ أَنَّ عَمَّ الرجل صِنُو أبيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عن ذِكرك واعفُ عن تَقْصِيرنَا في طاعَتِكَ وشُكْرِكْ وأدمْ لَنَا لزُومَ الطريق إليكَ وهَبْ لَنَا نورًا نَهْتَدِي بِهِ إليكَ واسْلُكْ بنا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ واقْطِعْ عَنَّا كُلَّ ما يُبعدُنا عَنْ سَبِيلِكَ ويَسِّرْ لَنَا ما يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقَّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا واسْتُرْنَا في دُنْيانا وآخرتِنَا واحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فصل)
* في بعض آداب الزكاة:
قال في منهاجِ القاصِدين: اعلم أن على مُرِيد الزكاةِ وظائفًا:
الوَظِيفَةُ الأُولَى: أن يَفْهَمَ الْمرادَ مِنَ الزكاةِ، وهو ثَلاثَة أَشْيَاءَ: ابْتِلاءُ مُدَّعِي مَحَبةِ اللهِ تعالى بإخراجِ مَحْبُوبِهِ والتَّنزُّهُ عن صفةِ الْبُخْلِ الْمُهْلِكِ، وشُكْرُ نعمة الْمالِ.
الوَظِيفَةُ الثَّانِيةُ: الإِسْرَارُ بإخْرَاجِهَا لقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} وحديثِ السَّبعةِ وَعَدَّ مِنهم: «رَجُلاً تَصَدَّقَ بِصَدَقةٍ فأخْفَاهَا حتى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عن الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، وفي الإِظْهَارِ إِذْلالٌ لِلْفَقِيرِ أَيْضًا، فإنْ خَافَ أَنْ يُتَّهَمَ بِعَدَمِ الإِخْرَاجِ أَعْطَى مَن لا يُبَالِي مِنَ الْفُقَراءِ بالأخْذِ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ عَلانِيةً وَأَعْطَى غَيْرَهُ سِرًا.(1/291)
الوظيفةُ الثالثةُ: أَنْ لا يُفْسِدَها بالمَنِّ والأذَى. وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى نَفْسَهُ مُحْسِنًا إِلى الفَقِيرِ مُنْعِمًا عَلَيْهِ بالإعْطَاءِ، رُبَّمَا حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَوْ حَقَّقَ النظرَ لَرَأَى الفقيَرَ مُحْسِنًا إِلَيْهِ، بِقَبُولِ حَقِّ الله الذي هُوَ طُهْرٍ لَهُ، وَإِذَا اسْتَحْضَرَ مَعْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ لِلزَّكَاةِ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمالِ، فلا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الفَقِير مُعَامَلَةٌ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَقِرَ الفَقِيرَ بِفَقْرِهِ لأنَّ الفَضْلَ لَيْسَ بالْمالِ ولا النَّقْصِ بعدَمِهِ.
شِعْرًا:
أَكْرِمْ يَدَيْكَ عَنْ السُّؤالِ فَإنَّمَا ... قَدْرُ الحَيَاةِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَسَألا
آخر:
وِإِذَا افْتَقَرْتَ فَلا تَكُنْ مُتَخَشِّعًا ... تَرْجُو الفَضَائِلَ عَنْدَ غَيْر الله
آخر:
يَقُولُ النَّاسُ لِي في الكَسْبِ عَارٌ ... فَقُلْتُ العَارُ في ذُلّ السُّؤالِ
آخر:
إِذَا كَفَّكَ الْمَيْسُورُ والعْرِضُ وَافِرٌ ... فَكل الذي فوق الكَفاف فُضُولُ
آخر:
وَمَا هِيَ إلا جَوْعَةٌ إِنْ سَدَدْتَهَا ... فكُلُّ طَعَامٌ بَيْنَ جَنْبَيْكَ وَاحِدُ
الوظيفةُ الرابعةُ: أَنْ يَسْتَصْغِرَ العَطيَّة، فَإنَّ الْمُسْتَعِظمِ لِلْفِعْل مُعْجَبٌ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ: لا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إلا بِثلاثٍ: بِتَصغيرِهِ، وَتَعْجِيلِهِ، وَسَتْرِهِ.
الوظيفةُ الخامسةُ: أَنْ يَنْتَقِي مِنْ مَالِهِ أَحلَّه وأَجْوَدَهُ وَأَحَبَّهُ إليهِ، أَمَّا الحِلُّ فإنَّ اللهَ تَعَالَى طَيَّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيّبًا، وَأَمَّا الأَجْوَدُ فَقَدْ قَالَ الله تَعَالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} .
وَعَنْ عبد اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» . قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُها وَلا يُورَثُ وَلا يُوهَبُ. قال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَذَوِيِ الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ(1/292)
وَالضَّيْفِ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، وفِي لَفْظ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ. رواه الجماعة.
وَعَنْ أَنَسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْكَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ تعالى فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَّّّّّّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيَنْبَغِي أنْ يُلاحِظَ في ذلك أمرين:
أَحَدُهُمَا: حَقُّ اللهِ سبحانه وتعالى بالتَّعْظِيمِ لَهُ، فَإنَّهُ أَحَقَّ مَن اخْتيرَ لَهُ، وَلَوْ أَن الإنسانَ قَدَّمَ إلى ضِيفِهِ طعامًا رَدِيئًا لأوغَرَ صَدْرِهِ.
والثاني: حَقُّ نَفسِهِ فإن الذي يُقَدِّمُهُ هو الذي يَلْقَاهُ غِدًا في القيامَةِ فَيْنَبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الأَجْودَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا أَحَبَّهُ إليه فَلقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} .
وكان ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - إِذَا اشتدَّ حبُّه لِشَيءٍ من مَالِهِ قَرَّبَهُ للهِ عَزَّ وجلَّ. وَرُوِيَ أنه نَزَلَ الجُحفَةَ وَهُوَ شَاكٍ، فقال: إنّي لأشْتَهِي حِيتَانًا فَالتَمَسُوا لَهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلا حُوتًا فَأَخَذَتْهُ امْرأتُهُ فَصَنَعَتْهُ،(1/293)
ثم قَرَّبَتْهُ إِليهِ فأتى مسكينٌ، فقال ابنُ عُمَر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: خُذْهُ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهُ: سَبْحَانَ اللهِ قَدْ عَنِّيتَنا وَمَعَنَا زَادٌ نَعْطِيهِ، فَقَالَ: إن عبدَ الله يُحبُه.
وَرُوِيَ أَنَّ سَائِلاً وَقَفَ بِبَابِ الربيع بن خَيْثَمَ رحمهَ اللهُ تَعَالى، فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ سُكَّرًا، فَإِنَّ الرَّّبِيعَ يُحِبُّ السُّكر.
الوظيفةَ السادِسَةُ: أَنْ يََطْلُب لِصَدَقَتِهِ مَن تَزكُو بِهِ، وَهُمْ خُصُوصُ مِنْ عُمُومِ الأصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَهُمْ صِفَاتٌ:
الأَولى: التَّقْوَى، فَلْيَخُصَّ بِصَدَقَتِهِ الْمُتَّقِينَ فَإنَّهُ يَرُدُّ بِهَا همَهَم إلى اللهِ تعالى، وفي الحديث الذي رواه ابنَ حبانَ في صحيحهِ عن أبي سعيدِ الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْعِمُوا الأتْقِيَاءَ وأَوْلُوا مَعْرُوفَكُمْ المؤمنين» . وقد كانَ عَامِرُ بِنُ عَبْدِ اللهِ بن الزبير يَتَخَيَّرَ العُبَّادِ وَهُم سُجُودٌ فيأتيهم بالصُّرَّةِ فِيهَا الدَّنَانيرُ والدَّراهِمُ فَيَضَعُهَا عِنْدَ نِعَالِهِم بِحَيثُ يُحِسونَ بِهَا وَلا يَشْعُرون بِمَكَانِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُرْسِلَ بها إليهم؟ فيقُولُ: أَكَرَهُ أَنْ يَتَمَعَّرَ وَجْهُ أَحَدِهِم إِذَا نَظَر إلى رَسُولِي.
الصِّفةُ الثَّانيةُ: العِلمُ فإن إعطَاءَ العالِم إعانَةٌ عَلَى العِلْمِ وَنَشْرِ الدِّينِ، وَذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلشَّرِيعَةِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الإِنْعَام مِنَ اللهِ وَحدَهُ وَلا يَلْتَْفِتُ إلى الأسْبَابِ إلا بَقَدْرِ مَا نُدِبَ إِلِيْهِ مِنْ شُكْرِهَا، فَأَمَّا الذي عَادَتُهُ الْمَدْحُ عندَ العَطَاءِ فَإنَّه سَيذُمُّ عِنْدَ الْمَنْعِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يكونَ صَائِنًا لِفَقْرِهِ، سَاتِرًا لِحَاجَتِهِ، كَاتِمًا لِلشَّكْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} .
شِعْرًا:
كَمْ فاقَةٍ مَسْتُورَةٍ بِمُرُوةٍ ... وَضَرُورَةٍ قَدْ غُطِّيَتْ بِتَجَمُّلِ
ومِن ابتِسَامٍ تَحْتَهُ قَلْبٌ شَجِ ... قَدْ خَامَرَتْهُ لَوْعَةٌ مَا تَنْجَلِي(1/294)
وَمن آداب الْمُزَكِّي التي تَتَأَكَّدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ طَيَّبَ النَّفْسِ بإخْرَاجِهَا فَرِحًا مَسْرُورًا مُسْتَبْشِرًا بِقَبُولِ الفقيرِ الْمُسْتَحِقِّ لِزَكَاتِهِ، وَلْيَحْذَرْ مَنْ أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لإخْرَاجِهَا فَإنَّهُ مِنْ صِفَاتِ المنافِقِين، قال الله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أن المنافِقَ يُصَلي ولكن لا يَأْتِيهَا إِلا وَهُوَ كَسْلان وَقَدْ يُزَكِّي ولكن مَعَ الكَرَاهَةِ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَشَبَّه بقَومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وفي لفظ: «ليسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغيرنا» . وهو حديث جيد. والله أعلم.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَلُمُّ بَهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غِائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين. اللَّهُمَّ يا هادِي الْمُضِلِّينَ وَيَا رَاحِمَ الْمُذْنِبِينَ، وَمُقِيلَ عَثَرَاتِ العَاثِرِينَ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُلْحِقْنا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِن النَّبِيينَ والصِّدِّيقِينِ والشُّهَدَاء والصالحين آمين يا رب العالمين.
(موعظة) : عبادَ اللهِ إن كُنْتُمْ فِي سِعَةٍ مِنْ العَيْشِ فَاحْمِدُوا اللهَ تَعَالى أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الإِيْسَارِ وَأَدِيمُوا شُكْرَهُ يُدِمْ عَلَيْكُمِ النِّعْمَةَ وَيَزِدْهَا، وَهُو الكريمُ الجوادُ. ومِن تَمَامِ النِّعمَةِ أَنْ تَنَسَّخُوا مِنْ الزَّكَاةِ بَإخْرَاجِهَا كَامِلَةً إلى ذَوي الحَاجَاتِ لعلَّكم أنْ تَفُوزُوا بالخَلَفِ والثَّوَابِ الجَزِيلَ مِنْ فَاطِرِ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، أحْسِنُوا إلى عِبَادِ الله كَمَا أَحْسَنَ اللهَ إِلَيْكُمُ وَرَاعُوا عِنْدَ الإحْسَانِ الأدَبَ فلا تَمُنُّوا عَلَى الفَقِيرِ وَلا تُؤذُوه فَإنَّ ذَلِكَ مُحْبِطٌ لِلأعمَالِ واسْتُرُوا عَطَاءَكُم مُخْلِصِينَ مُتَيَقِنِينَ أَنَّ حَاجَتَكُمْ إلى الثَّوَابِ وَتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَةِ الفَقِير إلى ما تُخْرِجُونَ. واعْلَمُوا أن إِحْسَانَكُمْ إنَّمَا هُو لأَنْفُسِكُم وَاعْصُوا الشيطانَ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بَالبُخْلِ وَيَنْهَى عَنْ(1/295)
العَطْفِ على الْمَسَاكِين، يُخْيفُكُمْ إِنْ تَصَدقتُم أنْ يَذَهَبَ مَالَكُمْ وَأَنْتُمْ تَعَلَمُونَ أَنَّ نَصِيحَةَ الْعَدُوِّ مَهْلَكَةٌ، وَقَد أَخْبَر َاللهُ جَلَّ وَعَلا أَنَّ الشَّيْطَانَ للإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِين وأخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ يَصْبَحُ العِبَادُ إلا مَلَكَانِ يَنْزِلانَ فَيَقُولُ أحَدَهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مِنْفِقًا خَلَفًا، ويَقُولُ الآخرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» . رواه البخاري.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمُخَالَفةِ والعصيانِ وألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كرِيمُ يَا مَنَّان، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ.
اللَّهُمَّ اعصِمْنَا عَنْ المخالفةِ والعصيانِ وَأَلْهِمْنَا ذِكَرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كِريمُ يَا مَنَّانَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وَأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ وَالْيَقِينَ، وَخصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبين، وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الحَقِّ وإتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ البَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلَ لِفَاجِرِ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا، وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَفِهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشَفًا مِنْ كُلِّ دَاء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) : فِيمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةِ: اعْلَمْ وَفَّقْنَا اللهُ وَإيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مِمَّا يَتَعَيَّنُ على كُل مُؤْمنٍ أَنْ يَصُونَ نَفْسَه عنه، مَسأَلةَ النَّاسِ إِلا عَنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ الحَاجَةِ الشَّدِيدِةِ التي لا بُدَّ لَهُ مِنْهَا وَلا غِنَى لَهُ عَنْهَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَآمُرَ لَكَ بِهَا» ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٌ(1/296)
أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُون: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ -: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» . واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ فِي التَّحْذِيرُ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ لِمن لا تَحِلُّ لَهْ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلِل مِنْهُ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ» .
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللَّهِ لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتخرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا أَنَا كَارِهٌ لَهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ» .
وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا - يَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . فالعاقل يعمل جهده ولا يميل إلى الكسل والملل وحب الراحة وقديمًا قيل:
إِنَّ التَّوَانِي زَوَّجِّ العَجْزَ بِنْتَهُ ... وَسَاقَ إِلِيْهَا حِيْن زَوَّجَهَا مَهْرَا
فِرَاشًا وَطِيئًا ثُمَّ قَالَ لَهَا اتْكِي ... قُصَارًا كُمَا لا بُدَّ أَنْ تَلِدَا الفَقْرَا
آخر:
كَمْ من حَيَاءٍ وَكَمْ عَجْزٍ وَكَمْ نَدَمً ... جَمٍّ تَولَّدَ للإنْسَانِ مِنْ كَسَلِ(1/297)
آخر:
دَعِي نَفْسِي التَّكَاسُلَ والتَّوَانِ ... وَإلا فَالْبَسِي ثَوابَ الهَوَانِ
فَلَمْ نَرَى لِلْكُسَالى الحَظُ يَجْنِي ... ثِمَارًا غَيْرَ حِرْمَانِ الأَمَانِي
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَسَائِلُ كدُوحٌ يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ إِلا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ فِي أَمْرٍ لا يَجِدُ مِنْهُ بُدّ» .
وعن عبدِ الله بن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن سَأَلَ النَّاسَ وله ما يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القيامة ومسألتَه خُمُوشُ أَوْ خُدُوشُ أو كُدُوحُ» ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ وما يُغْنِيه؟ قَال: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتْهَا مِنْ الذَّهَبِ» .
ولأبِي دَاوُدَ عَنْ سَهْلِ بِنْ الحَنْظَلِيَّةِ قِيلِ: وَمَا الغِنَى الذي لا يَنْبَغِي مَعَهُ المسألة؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعْشِيهِ» .
وَعَنْ أَنَسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ: «مَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ» ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءِ، قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا» . فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ» ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ» ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا قَالَ: رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ! فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ فَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ» فأتى به فَشَدَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلا أَرَيَنَّكَ(1/298)
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَصْلُحُ إِلا لِثَلاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُقْطِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» .
شِعْرًا:
يَا نَفْسُ جُدِّي تَذُوقي لَذَّةِ العَمَلِ ... وَوَاظِبِي لَذَّةِ الإِحْسَانِ في مَهْلٍ
فَكُلُ ذِي عَمَلٍ بَالخير مُغْتَبِطُ ... وفي بَلاءٍ وَلُؤْمٍ كُل ذِي كَسَلٍ
وللترمذي نحوه عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وفيه: «وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلِّلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ» .
وَعَنْ ابن مَسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَزَلَتْ فَاقَةٌ بِهِ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» .
شِعْرًا: ... لَمَّا افْتَقَرْتُ لِصَحْبِي مَا وَجَدْتُهُمُوا ... لَجأتُ لله لِبَّانَ وَأَغْنَانِي
وَاهَا َعلى بُذْل وجْهِيِ للوَرَى سَفِهًا ... وَلَوْ بَذَلْتَ إلى مَوْلاي وَالاني
آخر:
وَلَيْسَ الغِنَى وَالفَقْرُ مِنْ حِيلَةِ الفَتَى ... ولاكِنِّهَا الأَرْزَاقُ يقسِمُها ربي
وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَمْروٍ بِن سَعْدِ الأَنَّمَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» . أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا.
شِعْرًا:
صُنِ الوجْهَ الذي إِنْ لَمْ تَصُنْهُ ... بَقِيتَ وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلُ
وعِشْ حُرًّا وَلا يَحْمِلْكَ ضُرٍّ ... عَلَى مَرْعَىً لَهُ غِبٌ وَبِيلُ(1/299)
.. فَلَيْسَ الرَّأَيُ إلا الصَّبْرُ حَتَّى ... يُدِيلُ اليُسْرَ مَوْلاكَ الجَلِيلُ
وَعَنْ ثَوْبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَتَكَفَّل لِي أَنْ لا يَسْأَل النَّاسَ شَيْئًا أَتَكَفَّلُ لَهُ الجَنَّةِ» ؟ فَقُلْتُ: أَنَا! فَكَانَ لا يَسْأَلْ أَحَدًا شَيْئًا.
وعن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، والْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا.
شِعْرًا: ... وَلَيْسَ بِزِينٍ لامْرِئٍ بَذْلُ وَجْهِهِ ... إلى غَيْرِ رَبِّ العَرْشِ بَارِي البَرِيَّةِ
آخر:
إِنَّ الغِنيَّ هُوَ الغَنِيُّ بِرَبِّهِ ... وَلَوْ أَنَّهُ عَارِي الْمَنَاكِبُ حَافِي
آخر:
وَإِذَا طَلَبْتَ مِنْ الحَوَائِجَ حَاجَةً ... فَادْعُ الإِلَهُ وَأحْسِنَ الأعْمَالا
فَلَيُعْطِيَنَّكَ ما أَرَادَ بِقُدْرَةٍ ... فَهُو اللطِّيفُ لِمَا أَرَادَ فِعَالا
وَدَعِ العِبَادِ وَلا تَكُنْ بِطلابَهمِ ... لَهجًا تَضَعْضَعُ لِلْعِبَادِ سُؤالا
إن العبادَ وَشَأْنَهُم وَأُمُورَهُمْ ... بَيَدِ الإِلَهِ يُقَلّبُ الأحْوَالا
آخر:
أَيَا مَنْ لا يَخِيبُ لَدَيْهِ رَاجِ ... وَلَمْ يُبْرِمْهُ إلحَاحُ الْمُنَاجِي
وَيَا ثِقَتِي عَلَى ظُلْمِي وَجُرْمِي ... وَإِيثَارِيِ التَّمَادِي فيِ اللِّجَاجِ
أَقِلْنِي عَثَرَتِي وَتَلافُ أَمْرِي ... وَهَبْ لِي مِنْكَ عَفوًا واقْضِ حَاجِ
فَمَا لِي غَيْر إقْرَارِي بِذَنْبِي ... لِنَفْسِي دُونَ عُذْرٍ واحْتِجَاِج
مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهُ مَا أَحْسَنَ أَنْ يَعِيشَ الْمَرْءُ قَانِعًا بِمَا رَزَقَهُ اللهُ في هَذِهَ الحَيَاةِ فَلا يَمُدُّ بَصَرَهُ إلى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَلا تَتَطَلَّعُ نَفْسَُهُ إلى سَلْبِ حُقُوقِ النَّاسِ أَوْ ظُلْمِهِمْ والاعْتِدَاءِ عَلَى مَا وَهَبَ اللهُ لَهُمْ مِنْ نِعَمٍ جِسَامٍ فَإنَّ القَانِعَ يَشْعُرُ وَيُحِسُّ(1/300)
بِسَكِينَةً وَطُمَأنِينةً كَمَا يَشْعُرْ بَأنَّهُ غَنِيُّ عَنْ كُلِّ الخلق قال الشاعر:
إِذَا كُنْتَ في الدُّنْيَا قَنُوعًا ... فَأَنْتَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا سَوَاءُ
آخر:
وَإِنَّ اقْتِنَاعَ النَّفسِ مِن أَحْسَنِ الغِنَى ... كَمَا أَنْ سُوءَ الحِرْصِ مِنْ أَعْظَمِ الفَقْرَ
وَذَلِكَ أَنْ لَهُ نَفْسًا رَاضِيةً بِمَا قَسَم الله آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً لَمْ يَتَسَرَّبْ إِلِيْهَا الجَشَعُ وَالطَّمَعُ اللذَانِ هُمَا مِنْ أَقْبَحِ القَبَائِحِ وَأَسْوَأ الشَّمَائِلَ وَلا يَزَالُ صَاحِبُ هَذَيْنَ أَوْ أَحَدُهُمَا إِلا وَهُو مَذْمُومٌ وَبَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ مَوْسُومٌ لا تَعْرُضُ لَهُ القِنَاعَةِ وَلَوْ كَانَتَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَهُ. قَدْ مَلأَ حُبَهَا قَلْبَهُ وَغَمَرَ مَحَبَّتُها والتَّفَانِي فِي طَلَبَا قَلْبَهُ وَصَارَ لا يَرْضَى مِنْهَا باليسِير وَلا يَقْنَعُ بالكَثِيرِ وَقَلَّمَا تَجِدُ مُتَّصِفًا بِهَذَا الوَصْفِ إلا وَهُوَ مُتَشَتِّتُ الفِكْرُ قَلِيلُ الرَّاحَةِ عِنْدَهُ مِنْ الحَسَدِ والهَلَعِ وَضَعْفِ التَّوَكُّلِ عَلى الله الشَّيْء الكَثِيرَ الذي يُخْشَى عَلَيْهِ مَعَ اسْتِدَامَتِهِ مَعَهُ مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ.
شِعْرًا: ... فَإِن تَكُنِ الدُنيا تُعَدُّ نَفيسَةً ... فَإِنَّ ثَوابَ اللَهِ أَعَلَى وَأَنْبَلُ
وَإِنْ تَكُنِ الأَرْزَاقُ حَظًا وَقِسمَةً ... فَقِلَّةُ حِرصِ المَرءِ في الكَسْبِ أَجمَلُ
وَإِن تَكُنِ الأَموالُ لِلتَركِ جَمعُها ... فَما بالُ مَتروكٍ بهِ المَرْءُ يَبخَلُ
آخر:
دَعِ الضَراعَةَ لِلمُحتاجِ مِثلِكَ إِذ ... ما في الخَلائِقِ طُرًا غَيْرَ مُحْتَاجِ
واضْرَعْ إلى سَيِّدٍ تُغْنِي مَوَاهبُهُ ... عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كِنْزُ القاصِدِ الرَّاِجي
وَكَيفَ تَرجو سِوى المَولى وَأَنتَ تَرى ... ما في البَرِيَّةِ طَرًا غَيرَ مُحتاجِ
آخر:
فَاطْلُبْ إِلى مَلك الْمُلُوك ولا تَكُنْ ... بادِي الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِن طَالِبِ
آخر:
أَرَى اليأسَ مِنْ أَنْ تَسْأَلِ النَّاسِ رَاحَةً ... تميتُ بِهَا عُسْرًا وَتَحْيِي بِهَا يُسْرَا
أَمَّا القَانِعُ ذُو النَّفْسِ الأَبَيَّةِ الرَّاضِيَةِ الْمُطْمَئِنَّةِ الْمُتَوَكِّلَةِ عَلَى اللهِ فَيُرْجَى لَهَا أَنْ تَنَالَها الآيَة الكَرِيمَةُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} الآية.
قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًا فِي بَدَنِهِ مَعَهُ قُوتَ يَوْمِهِ فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذِافِيرَهَا» .(1/301)
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا مِنْ يَوْمٍ إلا يُنَادِي فِيهِ مَلَكٌ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ يا ابْنَ آدَمَ قَلِيلٌ يَكْفِيكَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٌ يُطْغِيكَ.
شِعْرًا:
لا تَجْزَعَنَّ لِعُسْرَةٍ مِنْ بَعْدِهَا ... يَسْرَانِ وَعْدٌ لَيْسَ فِيهِ خِلافُ
كَمْ عُسْرَةٍ ضَاقَ الفَتَى بِنُزُولِهَا ... لِلَّهِ فِي أَعْقَابِهَا أَلْطَافُ
آخر:
كَمْ كَافِرٍ باللهِ أَمْوَالِهِ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ
وَمُؤمِنٌ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٍ ... يَزْدَادُ إِيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ
لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلاً ... يَمُدُّ رِجْلَيهِ عَلَى قَدْرِهِ
وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: أَطْيَبُ العَيْشِ القَنَاعَةُ وَأَنْكَدُ الْعَيْشِ الجَشَعُ وَمِنْ الأَخْلاقِ الذَّمِيمَةِ التي تَجْعَلُ الإِنْسَانَ بَخِيلاً بِمَا فِي يَدِهِ مُتَطَلِّعًا لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ الحِرْصُ والإفْرَاطُ في حُبِّ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إلى إهْدَارٍ الكَرَامَةِ وَإرَاقَةِ مَاءِ الوَجْهِ فَالْحَذرَ عِبَادَ اللهِ مِنْ الحْرِصِ عَلَى الدُّنْيَا فَإنَّ حُبَّهَا رَأْسُ كُلُّ خَطِيئَةٍ. شِعْرًا:
إِنْ رُمْتَ عِزًا على فَقْرٍ تُكَابِدِ ... فَاسْتَغْنِ عَنْ مَالِ أَهْلِ البَذْخِ والبَطَرِ
فَإنِّمَا النَّفْسُ مَا لَمْ تَنْأ عَنْ طَمَعٍ ... فَرِيسَةٌ بَيْنَ ذُلِّ النَّفْسِ والظُّفُرِ
آخر:
أَلا إِنَّما الدُنيا مَطِيَّةُ راكِبٍ ... تَسِيرُ بِهِ فِي مَهْمَةٍ وَسِبَاسِبِ
فَإنَّا إلى خَيْرٍ يَسُرُّ نَوَالُهُ ... وَأمَّا إِلى شَرٍّ وَسُوءِ مَعَاطِبِ
فَلولا ثَلاثٌ هُنَّ أَفْضَلُ مَقْصَدٍ ... لَمَا كُنْتُ فِي طُولِ الحَيَاةِ بِرَاغِبِ
مُلازَمَةُ خَيْرِ اعْتِقَادٍ مُنَزِّهًا ... عَنْ النَّقْصِ وَالتَّشْبِيهِ رَبَّ الْمَوَاهِبِ
وَنَشْرُ عُلُومِ لِلشَّرِيعَةِ نَاظِمًا ... عُقُودِ مُعَانِيهَا لِتَفْهِيمْ طَالِبِ
وَصَوْنِي نَفْسِي عَنْ مُزَاحَمَةٍ عَلَى ... دَنِيِّ حُطَامٍ أَوْ عَلَى مَنَاصِبِ
فَفِي ذَاكَ عَزٌّ بِالقُنُوعِ وَرَاحَةٌ ... مُعَجَّلةٌ مِنْ خَوْفِ ضِدِّ مُغَالِبِ
وَحَسْبُكَ فِي ذَا قَوْلُ عَالِمِ عَصْرِهِ ... مَقَالُ مُحِقٍّ صَادِقٍ غَيْرِ كَاذِبِ
كَمَالَ الفَتَى بالعِلْم لا بَالْمَنَاصِبِ ... وَرُتْبَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَسْنَى الْمَرَاتِبِ(1/302)
آخر:
إِذَا مَا حَذرتَ الأمر فَاِجعَل إزاءَه ... رُجُوعًا إلى رَبٍّ يَقِيكَ المَحَاذِرَا
وَلا تَخْشَ أَمْرًا أَنْتَ فِيهِ مُفوِّضٌ ... إِلى اللَّهِ غَايَاتٍ لَهُ وَمَصَادِرَا
وَكُنْ للّذِي يَقْضِي بِهِ اللهُ وَحْدَه ... وَإنْ لَمْ تَوَافِقُه الأَمَانِيُّ شَاكِرَا
وَلا تَفخَرنْ إلا بِثَوبِ صِيانَةٍ ... إِذَا كُنْتَ يَومًا بَالفَضِيلَةِ فَاخِرَا
وَإنِّي كَفيلٌ بِالنَّجَاء مَنَ الأَذَى ... لِمن لَم يَبتْ يَدْعُو سَوى الله نَاصِرَا
قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي وَعِزتِكَ وَجَلالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيتَكَ مُخَالَفَتَكَ، وَمَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وأَنَا بِكَ جَاهِلٌ، وَلا بِعُقُوبَتِكم مُسْتَخِفٌ، وَلكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلبَتْ عَلَيَّ شَقْوَتِي، واغْتَرَرْتُ بِسِتْرِكِ الْمُرْخِي عَلَيَّ فَعَصيْتُكُ بِجَهْلِي وَخَالَفْتُكَ بَسَفِهي وَأَسْوَأَتَاهُ مِنْ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدْيَكَ وَأخَجَلاه من العَرْضِ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَتُوبُ وَأَعُود، وَأَعَاهِدُ وَأَنْقُضُ العُهُودِ.
آخر: ... وَإنِّي امْرؤُ بالطَّبِعْ أُلْغِي مَطَامِعِي
وَأزْجُرْ نَفْسِي طَابِعًَا لا تَطَبُّعَا
وَعِنْدِي غِنَى نَفْسٍ وَفَضْلُ قَنَاعَةٍ
وَلَسْتَ كَمَنْ إِنْ ضَاقَ ذَرْعًا تَضَرُّعَا
وَإِنْ مَدَّ نَحْوَ الزَّادِ قَوْمٌ أَكُفَّهَا
تَأَخَّرْتُ بَاعًا إِنْ دَنَا القَوْمِ أَصْبُعَا
وَمُذْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَدَيَّ دَنِيئَةً
تَعَرَّضْتُ لِلإعْرَاضِ عَنْهَا تَرْفُّعَا
وَذَاكَ لِعِلْمِي إِنَّمَا اللهُ رَازِقٌ
فَمَنْ غَيْرُهُ أَرْجُو وَأَخْشَى وَأَجْزَعَا
فَلا الضَّعْفُ يُقْصِي الرِّزْقَ إِنْ كَانَ دَانِيًا
ولا الحَوْلُ يُدْنِيهِ إِذَا مَا تَجَزَّعَا
فَلا تَبْطِرَنْ إِنْ نِلْتَ مِنْ دَهْرِكَ الغِنَى
وَكُنْ شَامِخًا بَالأَنْفِ إنْ كُنْتَ مُدْقِعًا(1/303)
فَقَدْرُ الفَتَى مَا حَازَهُ وَأَفَادَهُ
مِنْ العِلْمِ لا مَالٌ حَوَاهُ وَجَمَّعَا
فَكُنْ عَالِمًا فِي النَّاسِ أَوْ مُتَعَلِّمًا
وَإِنْ فَاتَكَ القِسْمَانِ أَصْغِ لِتَسْمَعَا
وَلا تَكُ لِلأَقْسَامِ مَا اسْتَطَعْتَ رَابِعَا
فَتَدْرَأَ عَنْ وُرْدِ النَّجَاةِ وَتُدْفَعَا
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوفِّقْنَا لِمَا فِيهِ صَلاحَ دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتِنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُه الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبَنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأكنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائحِ والْمَعَائبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل: عَنْ عَوْف بن مَالِكٍ الأَشْجَعِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعَة أَوْ ثَمَانِيَة أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: «أَلا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللهِ» ؟ وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدِ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ! ثُمَّ قَالَ: «أَلا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللهِ» ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيْنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ الله فَعَلامَ نُبَايعُكَ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَواتُ الخَمْسُ، وَتُطِيعُوا اللهَ، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفيَّةً، وَلا تَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاولُهُ إِيَّاهُ» .
شِعْرًا:
مَنِ استعانَ بغَيرِ اللهِ في طَلَبٍ ... فإنَّ ناصِرَهُ وعَجزٌ وخِذْلانُ
آخر:
مَنِ استعانَ بغَيرِ اللهِ في طَلَبٍ ... أَجَابَ كُلَّ سؤال عن هَلٍ بِلَمِ(1/304)
آخر:
فَحَسِّنِ الوَعْدَ بالإنْجَازِ تُتْبعُهُ ... إِذَا مَوَاعِيدُ قَوْمٍ شَانَهَا الخُلُفُ
إنِّي لأَكْرِمُ وَجْهِي أَنْ أَوْجِّهَهُ ... عِنْدَ السُّؤالِ لِغَيْرِ الواحِدِ الصَّمَدِ
عَزُّ القَنَاعَةِ وَالإِيمَانُ يَمْنَعُنِي ... مِنْ التَّعَرُض لِلْمَنَانَةِ النَّكِدَ
رَضِيتُ بِاللهِ فِي يَوْمِي وَفِي غَدِهْ ... وَاللهُ أَكْرَمُ مَأْمُولِ لِبَعْدِ غَدِ
آخر: ... اسْتَرْزِقِ الله فالأرَزَاقَ في يَده ... ولا تَمُدُّّ إلى غَيْرِ الإِلهِ يَدَا
آخر: ... مَا شِقْوَةُ المَرْء في فَقرٍ يَعيشُ بِهِ ... وَلا سَعَادَتُهُ يَوْمًا بإكثار
إنَّ الشَّّّّّّّّقيَّ الذي في النارِ مَنْزِلُهُ ... وَالفَوْزَ فَوْزُ الذي يَنْجُو مِن النَّارِ
وَعَنْ زَيْدِ بِنْ أَسْلَمَ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَبِنًا فَأعْجَبَهُ، فَسَأَلَ الذي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ - قَدْ سَمَّاهُ - فَإِذَا نَعَم ُمِنْ نَعم الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ، فَحَلَبُوا مِنْ أَلْبَانها فَجَعَلْتُهُ فِي سَقَائِي فَهُو هَذَا فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ فِي فَمِهِ فَاسْتَقَاءَ. أَي: أَخْرَجَهُ مِنْ جَوْفِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ بِنْ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَقَالَ: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرَ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ ابْنِ السَّاعِدِي قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلِيْهِ أَمَرَ لِي بِعَمَالَةٍ. فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ للهِ، قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيْتَ فَإِنِّي قَدْ عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَعْطِيْتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/305)
فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَدْ اشْتَمَلَ الحَدِيثَانِ الأَخِيرَانِ عَلَى جُمَلٍ جَامِعَةٍ نَافِعَةٍ:
الأولى: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ» . فَفِيهَا الحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى انْصِرَافِهَا عَنْ التَّعَلَقُّ بَالْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ بِالاسْتِعْفَافِ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، فَلا يَطْلُبُ مِنْهُم شَيْئًا لا بِلِسَانِ الحَال ولا بِلِسَانِ الْمَقَالِ بَلْ يَكُونُ مُعْتمدًا على الله وحْدَهُ.
شِعْرًا: ... أَحْسنْ الظَّنَّ بَربّ عَوَّدك ... حَسَنًا أَمْسَى وَسوَّى أَوَدَكْ
إنَّ رَبًا يَكْفِيكَ الذي ... كَانَ بالأمْسِ سَيَكْفِيكَ غَدَكْ
آخر: ... إِذَا مَا شِئْتَ طِيبَ العَيْشٍ فَانْظُرْ ... إِلى مَنْ بَاتَ أَسْوَأُ مِنْكَ حَالا
وَاَخْفَضَ رُتْبَةً وَأَقَلَّ قَدْرًا ... وَأَنْكَدَ عَيْشَةً وَأَقَلَّ مَالاً
آخر:
لا تَسْأَلَنَّ إلى صَدِيق حَاجَةً ... فَيَحُولُ عَنْكَ كَمَا الزَّمَانُ يَحُولُ
وَاسْتَعْن بالشيءِ القلِيلِ فَإنَّهُ ... مَا صَانَ عِرْضُكَ لا يُقَالَ قَلِيلُ
مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيقِ لِقَاؤهُ ... وَأَخُو الحَوائجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ
وَأَخُوكَ مَنْ وَفَّرْتَ مَا في كَفِهِ ... وَمَتَى عَلِقْتَ بِهِ فَأَنْتَ ثَقِيلُ
آخر: ... نَصَحْتُكَ لا تَأتِي لِمَخْلُوقٍ سَائِلاً ... وَتَتْرُكُ بَابَ الله ذي الفَضْلِ جَانِبًا
وَفي الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِي قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ(1/306)
يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ» . الحَثُّ عَلَى الاسْتِغْنَاءِ باللهِ والثِّقَةِ بِهِ وَالاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي الدَّقِيقِ والجَلِيلِ.
وَالثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرُهُ اللهُ» . فَفِيهَا أَيْضًا الحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ الذي هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا تَكْرَهُ تَقَرُّبًا إلى اللهِ لأنَّهُ يَحْتَاجُ إلى الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى يُؤَدِّيهَا وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ حَتَّى يَتْرُكَهَا للهِ وَإلى الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمةِ فَلا يَتَسَخَّطْ.
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الغِنَى عَنْ كِثْرَةِ العْرَضِ ... » . إلخ بَيَانٌ أَنَّ الغِنَى لَيْسَ بِسَعَةِ الثَّرْوَةِ وَوَفْرَةِ الْمَالِ وَكثْرَةِ الْمَتَاعِ، وَلَكِنْ الغِنَى غَنَى النَّفْسِ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِمَا فِي يَدِه عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلَمْ تَشْرُفْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَمْ تَتَطَلَّعْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْغِنيُّ الجَدِيرُ بِلَقَبِ الغَنِيّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ مُقِلاً، إِذْ رَضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللهُ وَعِفَّتُهُ وَزُهْدهُ وَقَنَاعَتُهُ جَعَلَتْهُ فِي دَرَجَةٍ مِنْ الغِنَى دُونَهَا بِطَبَقَاتِ أَهْلِ الثَّرَاءِ الذينَ حُرمُوا الزَّهَادَةَ وَالقَنَاعَةَ وَالرِّضَا بِمَا كَتَبَ اللهُ لَهُمْ، الذِينَ تَذْهَبُ أَنْفُسُهُمْ حَسْرَةً إِذَا فَأتَتْهُم صَفَقَةٌ أَوْ ضَاعَتْ عَلَيْهِمْ فُرْصَةٌ. بَلْ مَا جَاءَهُ رِضَيَ بِهِ وَقَنِعَ بِخَلافِ مِنْ كَثُرَ مَالُهُ وَتَشَعَّبَتُ أَمْلاكُهُ وَصَارَ قَلْبُهُ مُوَزِّعًا بَيْنَ ضَيْعَتِهِ وَعِمَارَاتِهِ وَذَهبِهِ وَفِضَّتِهِ وَأَوْرَاقِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ هَمَّ إِلا جَمْع الْمَالِ فَهُوَ مَعْشُوقُهُ يَحْرِصُ عَلَيْهِ أَشدَّ الحِرْصِ، واسمع إلى من يصرف المُبالغة في المدح إلى المخلوق وينسى الخالق:
مَنْ زَارَ بَابَكَ لَمْ تَبْرحْ جَوَارِحُهُ ... تَرْوي أَحَادِيث ما أَوْلَيْتَ مِنْ منَنَ
فَالْقَلْبُ عَنْ جَابْرٍ وَالكَفُ عَنْ صِلَةٍ ... وَالْعَيْنُ عَنْ قُرَّةٍ والسَّمْعُ عَن حَسَنِ
آخر:
وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ جَهَولٍ ... عَصَى رَبَّ العِبَادِ مَدَى الحَيَاةِ
يُضَيّعُ عُمْرهُ في جَمْع مَالٍ ... مَخَافَةَ فَقْرِهِ أو لِلتَّبَاهِي(1/307)
وَيَتَمَيَّزُ غَيْظًا إذا فَاتَهُ مِنْهُ القَلِيلُ وَبُودّه لَوْ ضَمَّ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِلى مَا فِي يَدِهِ لا يَتَلذَّذُ بِمَأْكَلِ وَلا بِمَشْرَبٍ وَلا يَرْتَاحُ لِمُنَادَمَةِ جَلِيسٍ لاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِهِ فَهَذَا هُوَ الفَقِيرُ حَقًّا المَحْرُومْ صِدْقًا وَصَدَقَ مَنْ قَالَ:
آخر:
وذي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلُمُّ وَفْرًا ... لِوَارثهِ وَيَدْفعُ عن حِمَاهُ
كَكَلْبِ الصَّيْد يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيَستَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ
آخر:
أَصْبَحَت الدُّنْيَا لَنَا عِبْرَةً ... والْحَمْدُ لله عَلى ذالِكَا
قَدْ أَجْمَعَ النَّاسَ على ذَمِّهَا ... وَمَا أَرَى مِنْهُمْ لَهَا تَارِكَا
آخر:
يُفْنِي البَخِيلُ بجَمْعِ المالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالوُرَّاثِ مَا يَدَعُ
كَدُودَةِ القَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بالذي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
آخر: ... إِذَا زَادَكَ الْمَالُ افْتِقَارًا وَحَاجَةً ... إِلى جَامِعِيهِ فَالثَّرَاءُ هُوَ الفَقْرُ
آخر:
وَمَنْ يُنْفِقْ السَّاعَاتِ في جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافَة فَقْرٍ فَالذي فَعَلَ الفَقْرُ
اللَّهُمَّ يسِّرْ لَنَا أَمْرَ الرِّزْقِ وَاعْصِمْنَا مِنْ الحِرْصِ وَالتَّعبِ فِي طَلَبِهِ وَمَنْ شَغْل القَلْبِ وَتَعَلُّقِ الهَمِّ بِهِ، وَمِنْ الذُّلِّ لِلْخَلْقِ بِسَبَبِهِ وَمِنْ التَّفْكِير والتَّدْبِيرِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَنْ الشُّحِّ وَالحِرْصِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهِ أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَزيزِ العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ وَأُوصِيكُمْ في مُعَامَلَتِهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِي الأَقْدَامِ وَالأَحْجَامِ وَالفَزَعِ إِلَيْهِ عِنْدَ تفَاقُمْ الشَّدَائِدِ واشْتِبَاهِ الأَحْكامِ، وَالاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي الدَّقِيقِ وَالجَلِيل، والتَّسْلِيم لَهُ في النَّقْض وَالإِبْرَام، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِ فَبيَدَيهِ(1/308)
الخَيْرُ وَهُو الكَرِيمُ الجَوَادُ، وَمَقَابَلَةِ قَضَائِه بِحَقِيقَةِ الرِّضَى وَالاسْتِسْلامِ، أَمَا شَرَّفكمُ وَفَضَّلَكمُ بِجَزِيلِ العُقُولِ وَالإِفْهَامِ، أَمَّا أَوْضْحَ لَكُمْ الطَّريقَ المُوصِلَ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا بَعَثَ إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ، أَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضِ غَيْرَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، يَوْمٌ مَا أَطْوَلَ الوُقُوفَ فِيهِ وَأثْقَلَهُ عَلَى كُلِّ مُجْرِمٍ جَبَّارٍ يَوْمَ الْمُنَاقَشَةِ فِيهِ عَنْ الفَتِيلِ والنَّفِيرِ والقِطمِيرِ وَصَغَائِرَ الأعْمَالَ وَالكَبَائِرْ، فَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ وَاسْتَعِدوا لَهُ أَتَمَّ اسْتِعْدَادٍ.
اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ العَفْوِ يَا وَاسِعَ الْمغْفِرَةِ يَا قَرِيبَ الرِّحْمةَ يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلا تَشْغَلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بَهِ وَهَبْ لَنَا العَافِيةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
لَكَ الحَمْدُ والنَّعْمَاءُ وَالْمُلْكُ رَبَّنَا ... وَلا شَيْءَ أَعْلا مِنْكَ مَجْدًا وَأَمْجَدًا(1/309)
مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ
لِعِزَّتِهِ تَعنو الوجوهُ وَتَسجُدُ
فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَقْدِرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ
وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدٌ
وَمَنْ لَمْ تُنَازِعْهُ الخَلائِقُ مُلْكَهُ
وَإِنْ لَمْ تُفَرِّدْهُ العِبَادُ فَمُفْرَدُ
مَليكُ السَمَاواتِ الشِدادِ وَأَرضِها
وَلَيسَ بِشَيءٍ عَن قَضاهُ تَأَوُّدُ
هَوَ اللهُ باري الخَلقِ وَالخَلقُ كُلُّهُم
إِماءٌ لَهُ طَوعاً جَميعاً وَأَعبُدُ
وَأنَّى يَكونُ الخَلقُ كَالخالِقِ الَذي
يُمِيتُ وَيُحْيِي دَائِبًا لَيْسَ يَهْمدُ
تُسَبِّحُهُ الطَّيْرُ الجَوَانِحُ في الخَفَا
وَإذْ هِيَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تُصَعِّدُ
وَمِنْ خَوْفِ رَبِّي سَبَّحَ الرَّعْدُ فَوْقَنَا
وَسَبَّحَهُ الأَشْجَارُ والوَحْشُ أَبَّدُ
وَسَبَّحَهُ النِّيْنَانُ وَالبَحْرُ زَاخِرًا
وَمَا طَمَّ مِنْ شَيءٍ وَمَا هُوَ مُقْلَدُ
أَلا أَيُّهَا القَلْبُ الْمُقِيمُ عَلَى الهَوَى
إلى أيِّ حِينٍ مِنْكَ هَذَا التَّصَدُّدُ
عَنْ الحَقِّ كَالأَعْمَى الْمُمِيطِ عَنْ الهُدَى
وَلَيْسَ يَرُدُّ الحَقَّ إلا مُفَنَّدُ
وَحَالاتُ دُنْيًا لا تَدُومُ لأَهلِهَا(1/310)
فَبَين الفَتَى فِيهَا مَهِيبٌ مُسَوَّدُ
إِذا اِنْقَلَبَتْ عَنهُ وَزَالَ نَعِيمُهُا
وَأَصبَحَ مِن تَربِ القُبورِ يوَسَّدُ
وَفَارَقَ رُوحًا كَانَ بَيْنَ جَنانِهِ
وَجاوَرَ مَوْتَى مَا لَهُم مُتَرَدَّدُ
فأَي فَتىً قَبلي رأَيتَ مُخَلَّدًا
لَهُ في قَديمِ الدَهرِ ما يَتَوَدَّدُ
فَلَم تَسلَم الدُنيا وَإِن ظَنَّ أَهلُها
بِصِحَّتِها وَالدَهرُ قَد يَتَجَرَّدُ
أَلَستَ تَرى في ما مَضَى لَكَ عِبرَةً
فَمَه لا تَكُن يا قَلبُ أَعمى يُلَدَّدُ
فَكُن خائِفًا لِلمَوتِ وَالبَعثِ بَعدَهُ
وَلا تَكُ مِمَّن غَرَّهُ اليَومُ أَو غَدُ
فَإِنَّكَ في دُنْيَا غُرُورٍ لأَهْلِهَا
وَفِيهَا عَدُوٌّ كَاشِحُ الصَّدْرِ يُوْقِدُ
اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُعْ
1- مَا وَرَدَ مِنْ الآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ في فَضْلِهَا.(1/311)
2- أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ.
3- بَيَانُ عِظَمِ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، وفي الحَرَمَيْنِ.
4- الأَوْلَوِيَّةُ في الصَّدَقَةِ لِلأقرِبَاءِ وَطُلابِ العِلْمِ.
1- مَا وَرَدَ مِنْ الآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ في فَضْلِهَا:
تُسَنُّ صَدَقَةُ التَّطَوُعِ في كُلِّ وَقْتٍ، قَالَ تَعَالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ... } الآية. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ. فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ: «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَتِفُهُ تَعْجَزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ.
ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ(1/312)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا الكَلامُ البَلِيغُ دَعْوَةٌ إلى التَّنَافُسِ في الخَيْرِ والتَّسَابُقِ في افْتِتَاحِ مَشْرُوعَاتِهِ.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ. فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقِةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعَا: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» . رَوَاهُ التِّرمذِي وَحَسَّنَهُ.
وَكَمَا أَنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَهِيَ تُطْفِئُ الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ.
وَعَنْ مِرْثَد بن عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ: «إِنَّ ظِلَّ الْمُؤمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ صَدَقَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ العَلانِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُم اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ» . وَذَكَرَ مِنْهُمْ: «رَجُلاً تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ(1/313)
فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقَال: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ شِعَارُ الصَّالِحِين» . ثُمَّ تَلاَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وَفِي بَعْضِ الآثَارِ: بَاكِرُوا بَالصَّدَقَةِ فَإنَّ البَلاءَ لا يَتَخَطَّاهَا.
وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بِنْ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنِ سُمْرَةَ بِنْ جُنْدَبِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَكُنَّا فِي صُفَّةٍ بَالْمَدِينَةِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ البَارِحَةَ عَجَبًا، رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي أَتَاهُ مَلكَ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوُحَهُ فَجَاءَ بِرُّهُ بِوَالِدَيْهِ فَرَدَّ مَلَكَ الْمَوْتِ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ بُسِطَ عَلَيْهِ عَذَابُ القَبْرِ فَجَاءَهُ وُضُوئُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مَنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينِ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَرَدَ الشَّيَاطِينَ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ احْتَوَشَتْهُ مَلائِكَةُ العَذَابِ فَجَاءَتْهُ صَلاتِهِ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَلْتَهِبُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «يَلَهْثُ عَطَشًا كُلَّمَا دَنَا مِنْ حَوْضٍ مُنِعَ وَطُرِدَ فَجَاءَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ فَسَقَاهُ وَأَرْوَاهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي، وَرَأَيْتُ النَّبِيِّينَ جُلُوسًا حِلَقًا حِلقًا كُلَّمَا دَنَا إِلى حِلْقَةٍ طُرِدَ فَجَاءَهُ غُسْلُهُ مِنْ الجَنَابَةِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَقْعَدَهُ إِلى جَنْبِي، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِيهَا فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنْ الظُّلْمَةٌ وَأَدْخَلاهُ فِي النُّورِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي بِوَجْهِهِ وَهَجَ النَّارِ وَشَرَرَه فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ سُتْرَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ(1/314)
وَظَلَّلَتْ عَلَى رَأْسِهِ وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنينَ. وَلا يُكَلمُونَهُ فَجَاءَتْهُ صِلَتُهُ لِرِحِمِهِ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّهُ كَانَ وَصُولاً لِرِحِمِهِ فَكَلِّمُوهُ فَكَلَّمَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَصَافَحُوهُ وَصَافَحَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بالْمَعْرُوفِ وَنَهْيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدَيِهِمْ وَأَدْخَلَهُ فِي مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتِيهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ فَجَاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ عَلَى اللهِ.
وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ ذَهَبَتْ صَحِيفَتُهُ مِنْ قِبَل شِمَالِهِ فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَوَضَعَهَا فِي يَمِينِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي خَفَّ مِيزَانَهُ فَجَاءَهُ أفْرَاطُهُ فَثَقَّلُوا مِيزَانَهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَجَاءَهُ رَجَاؤُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى.
وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ أَهْوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْهُ دمْعَتُهُ التِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ يَرْعُدُ كَمَا تَرْعُدُ السَّعْفَةُ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ فَجَاءَه حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَكَنَ رِعْدَتَهُ وَمَضَى، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ وَيَحْبُو أَحْيَانًا وَيَتَعَلَّقُ أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صَلاتُهُ فَأَقَامَتْهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَأَنْقَذَتْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلى أَبْوابِ الجَنَّةِ فَغُلِّقَتْ الأَبْوَابُ دُونَهُ فَجَاءَتْهُ شِهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ فَفُتِحَتْ لَهُ الأَبْوابُ وَأَدْخَلتُهُ الجَنَّةُ» . رَوَاهُ الحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِي. قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَكَانَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابنْ تَيمِيَّةَ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ يُعَظِّمُ شَأَنْ هَذَا الحَدِيثِ، وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ شَوَاهِدُ الصِّحَّةِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.(1/315)
وَبِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِهِ هُنَا قَوْلُهُ: «فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ سِتْرًا بِيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ وَظَلَّلَتْ عَلى رَأْسِهِ» . قَالَ رَحِمَهُ اللهَ: وَفِي تَمْثِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّدَقَةِ بِمَنْ قُدِّمَ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِمَالِهِ كِفَايَةَ، فَإنَّ الصَّدَقَةِ تَفْدِي العَبْدَ مِنْ عَذَابِ اللِه تَعَالى فَإنَّ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ تَقْتَضِي هَلاكَهُ فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ تَفْدِيهِ مِنْ العَذَابِ وَتَفُكُّهُ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا خَطَبَ النِّسَاءَ يَوْمَ العِيدِ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» . وَكَأَنَّهُ حَضَّهُنَّ وَرَغْبَهُنَّ عَلَى مَا يَفْدِينَ بِهِ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ النَّارِ.
اللَّهُمَّ قَوِّ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبَاليَوْمِ الآخِر، وَبالقَدَرِ خَيْره وَشَرهِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءَةً بِحُبِّكَ، وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ، وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةٌ لأَمْرِكَ، وَأَمِّنَا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ العَافِيةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأخْرَانَا وَأَهْلُنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا، وَاحْفَظَنَا مِن بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلنَا وَمِنْ فَوقَنا، وَنَعُوذُ بعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيِنَ.
(فَصْلٌ) : وَصَدَقَةُ التَّطَوُعِ بِطَيْبِ نَفْسٍ أَفْضَلُ مِنْهَا بِدُونِهِ لِمَا فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الغَاضِرِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَ مِنْ فَعَلهُنَ فَقَد ذَاقَ طَعْمَ الإيِمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَعَلِمَ أَنْ لا إِله إِلا الله، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبةً بِهَا نَفْسِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
والصَّدَقَةُ في الصِّحَّةِ أَفْضَلْ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُهْمِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/316)
فَالعَاقِلُ مَنْ يُسَابِقُ فِي مَيْدَانِ الخَيْرَاتِ بِمَا يُقَدِّمُهُ مِنْ الصِّلَةِ وَالإِحْسَانِ لإِخْوَانِهِ الفقَرَاءِ الذين أَنَاخَ الفَقْرُ عَلَيْهِمْ وَعَضَّهُمْ البُؤْسُ بِنَابِهِ وَأَوْجَعَهُمْ بِكِلابِهِ الذين لا مَوَارِدَ لَهُمْ لا قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، الذين لَوْ رَأَيْتَهُمْ لظَنَنْتَهُمْ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الثَّرْوَةِ وَالْمَالِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُقَاسُونَهُ مِنْ الدِّيوُنِ لِمَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ الصِّغَارِ وَالكِبَارِ، وَمَا يُقَاسُونَ مِنْ أَلَمِ الجُوعِ وَالفَقْرِ وَالشِّدَةِ والعُسْرِ لَكَنْ يَمْنَعُهُمْ الحَيَاءُ وَعِزَّةُ النَّفْس أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيهِمْ لِلسُّؤَالِ وَأَنْ يَطْلُبُوا الرِّزْقَ إلا مِنْ اللهِ الكَبِيرِ الْمُتَعَالِي الرَّزَّاقِ وَهَؤُلاِء هُمْ الذين يَنْبَغِي الاعْتِنَاءُ بِهِمْ وَالبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ جِيرَانِهِمْ وَأَقْرِبَائِهِمْ حَتَّى تَقَعَ الصَّدَقَةُ مَوْقِعَهَا وَقَد وَرَدَ فِي القُرْآنِ وَصَفُهُمْ قَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} .
وَأَوْصَى بِهِمْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ البُخَارِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسُ» .
وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ حَرِيصِيْنَ جِدًّا عَلَى مَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ مِن أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ سَأَلَ أَحَدُهُم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَأجَابَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ» أَيْ الجِسْمُ «مُعَافًا فِي البَدَنِ» ، تَتَمَتَّعُ بِقَواكَ العَقْلَيَّةِ والجَسْمِيَّةِ، «شَحِيحٌ تَأْملُ الغِنَى» ، أَيْ تَطْمَعُ فِيهِ لِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَكَاسِبَ وَالأَرْبَاحَ وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ فِي هَذِهِ الحَالِ أَفْضَلُ لِمَا تَسْتََدْعِيهِ مِنْ شِدَّةِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلى إِخْرَاجِ الْمَالِ مَعَ قِيامِ الْمَانِعِ وَهُو الشُّحُّ فَإخْرَاجُهُ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ(1/317)
وَصِحَّةِ القَصْدِ وَشِدَّةِ الرَّغْبَةُ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ «ولا تُهْمِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومُ» ، أي بَلَغَتِ الرُّوحُ مَجْرَى النَّفْسِ وَذَلِكَ عِنْدَ الغَرْغَرَةِ «قُلْتِ كَذَا، وَلِفُلانِ كَذَا» وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَالْحَدِيثِ يُرْشِدْنَا إِلى أَنَّهُ لا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُؤَخِّرِ الصَّدَقَةَ إلى وَقْتُ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ وَالإِيذَانِ بَالانْصِرَافِ عَنْ الدُّنْيَا وَمُفَارَقَةِ نَعِيمَهَا وَقَدْ نَبَّهْنَا اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلَى هَذَا حَيْثُ يَقُولُ: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
شِعْرًا:
فَعُقبى كُلِّ شَيءٍ نَحنُ فيهِ ... مِنَ الجَمعِ الكَثيفِ إِلى شَتاتِ
وَما حُزناهُ مِن حلٍّ وَحُرمٍ ... يُوَزَّعُ في البَنينِ وَفي البَناتِ
وَفيمَن لَم نُؤَهِّلهُم بِفلسٍ ... وَقيمَةِ حَبَّةٍ قَبلَ المَماتِ
وَتَنسانا الأَحِبَّةُ بَعدَ عَشرٍ ... وَقَد صِرنا عِظاماً بالِياتِ
كَأَنّا لَم نُعاشِرهُم بِوُدٍّ ... وَلَم يَكُ فيهِمُ خِلٌّ مُؤاتِ
آخر:
وَمَا طَربْتُ لِمَشْرُوبٍ أَلَذُ بِهِ ... وَلا لِعِشْقِ ظَبَاءِ العُجْمِ وَالعَرَبِ
لَكِنْ طَرِيتُ إِلى وَقْتٍ أَنَالَ بِهِ ... غِنَىً فَأبذِلُهُ فِي طَاعَةِ الصَّمَدِ
آخر: ... وَمَا ضَرَّنِي إِتْلافُ عُمْرِي كُلِّهِ ... إِذَا كَانَ وَقْتِي فِي رِضَا خَالِقِي يَجْرِي
اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلكَ حِزبكَ الْمُفِلِحِين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ، وَآمِّنَّا يومَ الفَزَعَ الأَكْبر يومَ الدِّين، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيين وَالصِّدقِينَ والشُّهْداء والصالحِينِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/318)
(فَصْلٌ)
رَوَى البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالي، وَإنِّمَا مَالَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَأَقْنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِنَّاسِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
2- وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدٌ مِنْ مُقلِ:
وَكَانَ السَّلَفُ يُؤْثِرُون َعلَىَ أَنْفُسِهِمْ فَيُقَدِّمُونَ الْمَحَاوِيجَ عَلَى حَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَهُمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدِ الْمُقِلِّ» . وَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى مِنْ حَالَ الذِينَ وَصَفَهُمْ اللهُ بِقَوْلِهِ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} ، وَقَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَصَدَّقُوا وَهُمْ يُحِبُّونَ مَا تَصَدَّقُوا بِهِ وَقَدْ لا يَكُونَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَيْهِ وَلا ضَرُورَةِ وَهؤلاء آثُروا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ خَصَاصَتْهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إلى مَا أَنْفَقوهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَقَامِ تَصَدَّقَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ» ؟ فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَهَكَذَا الْمَاءُ الذي عُرِضَ عَلَى عِكْرِمَةَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ اليَرْمُوكِ فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُ بِدَفْعِهِ إلى(1/319)
صَاحِبهِ وَهُوَ جَرِيحٌ مُثْقلٌ أَحْوَجَ مَا يَكُونَ إِلى الْمَاءِ، فَرَدَّ الآخَرُ إلى الثَّالِثِ فَمَا وَصَلَ إلى الثَّالِث حَتَّى مَاتُوا عَنْ آخِرَهِمْ وَلَمْ يَشْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.
3- بَيَانُ عِظَمْ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الحَرَمِينِ:
وَالصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنُ عَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونِ فِي رَمَضَانِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانِ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآن، فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بَالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) .
وَلأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي رَمَضَانَِ إِعَانَةٌ عَلَى أَدَاءِ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ، وَفِي أَوْقَاتِ الحَاجَاتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} .
وَالصَّدَقَةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَاضِلٍ كَالعَشْرِ، أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا لِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مَا مَنْ أَيَّامِ العَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللِه مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ» . يَعْنِي: أَيَّامِ العَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» .
وَالصَّدَقَةُ فِي الحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمَا لِتَضَاعُفِ الحَسَنَاتِ بَالأمْكِنَةِ الفَاضِلَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الحَرَامَ» . وَزَادَ في(1/320)
رِوَايَةٍ: «فَإِنِّي خَيْرُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ مَسْجِدِي خَيْرُ الْمَسَاجِدِ» . وَزَادَ: «صَلاةٌ فِي الْمَسْجِدْ الحَرَامَ أَفْضَلُ مِنْ مائةِ أَلْف صَلاة فِيمَا سِوَاهُ» .
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْمِ وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وَعَامِلْنَا بَإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهُمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتِنَا فِيمَا لَدَيْكَ، وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيُوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) 4- الأَوْلَوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ لِلأَقْرَبَاءِ وَالجَارِ وَطُلابِ العِلْمِ:
وَالصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحَمِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ لاسِيَّمَا مَعَ عَدَاوَةٍ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا فِي القَرَابَةِ فَلِحَدِيثِ سَلْمَانَ الْمُتَقَدِّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ» .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي طَلْحَةَ:
«وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةٍ فِي أَقَارَبِهِ وَبِنِي عَمِّهِ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى التَّأَكُّدِ مَعَ العَدَاوَةَ فَلِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحْ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَعَنْ حَكِيمِ بِنْ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ(1/321)
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدقَاتِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: «عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ» .
ثُمَّ الصَّدَقَةُ عَلَى الجَارِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جَبْرِيلُ يُوصِينِي بَالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» .
وَعَنْ أَبِي شَرِيحُ الخُزَاعِي: أَنَّ النَّّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « ... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ فَلَيُحْسِنْ إِلى جَارِهِ» .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ بالصَّدَقَةِ مَنْ اشْتَدَّتْ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} ، وَكَوْنُهَا عَلَى عَالِمٍ أَفْضَلُ، لأَنَّ فِي إِعْطَائِهِ إِعَانَةُ عَلَى العِلْمِ وَنَشْرِ الدِّينِ وَذَلِكَ لِتَقْوَيَةِ الشَّرِيعَةِ، وَكَوْنُهَا عَلَى صَاحِبِ دِينٍ أَفْضَلُ، وَكَذَا عَلَى ذِي عَائِلَةٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْمَنُّ بَالصَّدَقَةِ كَبِيرَةٌ، وَيَبْطُلُ الثَّوَابُ بِهِ، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} .
وَمَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ وَكَّلَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لا يَتَصَدَّقُ بِهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يُمْضِيَهُ، وَلا يَجِبُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَخْرَجَ طَعَامًا لِسَائِلِ فَلَمْ يَجِدْهُ عَزَلَهُ حَتَّى يَجِيءَ آخَرُ. وَقَالَهُ الحَسَنُ. وَيَتَصَدَّقُ بالجَيِّدٍ وَلا يَقْصِدُ الخَبِيثَ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}(1/322)
وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا قِيلَ: يَا رَسُولِ الله أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمِقِلِّ» .
لَيْسَ العَطَاءُ مِنْ الفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
آخر:
إِنِّي لأَعْسِرُ أَحْيَانًا فَيُدْرِ كُنْفِي ... بُشْرَى مِنْ اللهِ إِنَّ العُسْرَ قَدْ زَالا
يَقُولُ خَيْرُ الوَرَى فِي سُنَّةٍ ثبتَتْ ... أنْفِقْ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلالا
موعظة أخْوَانِي إِنَّكُمْ فِي دَارٍ هِيَ مَحَلُّ العِبَرِ وَالآفَاتِ، وَأَنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ، وَالطَّرِيقُ كَثِيرَةُ الْمُخَافَاتِ، فَتَزَوَّدُوا مِنْ دُنْيَاكُم قَبْلَ الْمَمَاتِ، وَتَدَارَكُوا هَفَوَاتِكُمْ قَبْلَ الفَوَاتِ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ وَرَاقِبُوا اللهَ فِي الخَلَواتِ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَرَاكُمْ مِنْ الآيَاتِ، وَبَادِرُوا بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِي أَعْمَارِكُمْ القَصِيرَةِ مِنْ الحَسَنَاتِ، قَبْْلَ أَنْ يُنَادِي بِكُمْ مُنَادِ الشَّتَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئكُمْ هَادِمُ اللَّذَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَتَصَاعَدَ مِنْكُمْ الأَنِينُ وَالزَّفَرَاتِ، قَبْلَ أَنْ تَنْقَطِعَ قُلُوبَكُمْ عِنْدَ فِرَاقِكُمْ حَسَرَاتٍ، قَبْلَ أَنْ يَغْشَاكُمْ مِنْ غَمَّ الْمَوْتِ الغَمَرَاتُ، قَبْلَ أَنْ تُزْعَجُوا مِنْ القُصُورِ إلى بُطُونِ الفَلَوَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا تَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ، قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا رُجُوعَكُمْ إلى الدُّنْيَا وَهَيْهَاتَ.
شِعْرًا:
أَيَا لا هِيًا في غَمْرَةِ الجَهْلِ وَالهَوَى
صَرِيعًا عَلَى فُرُشِ الرَّدَى يَتَقَلَّبُ
تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَا ثَمَّ وَانْتَبِهْ
فَهَذَا شَرَابُ القَوْمِ حَقًّا يُرَكَّبُ
وَتَرْكِِيبُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ إنْ تَفُتْ(1/323)
فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَنِيّةِ مَطْلَبُ
فَيَا عَجَبًا مِنْ مُعْرِضٍ عَنْ حَيَاتِهِ
وَعَن حَظهِ العَالي وَيَلْهُو وَيَلْعَبُ
وَلَوْ عَلِمَ المَحْرُومُ أَيَّ بِضَاعَةٍ
أَضَاعَ لأَمْسَى قَلْبَهُ يَتَلَهَّبُ
فَإِنْ كَانَ لا يَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيُبَةٌ
وَإِنْ كَانَ يَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَصْعَبُ
بَلَى سَوْفَ يَدْرِي حِينَ يَنْكَشِفُ الغِطَا
وَيُصْبِحُ مَسْلُوبًا يَنُوحُ وَيَنْدِبُ
وَتَعْجَبُ مِمَّنْ بَاعَ شَيْئًا بِدُونِ مَا
يُسَاوِي بِلا عِلْمٍ وَأَمْرُكَ أَعْجَبُ
لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ الحَيَاةَ وَطِيْبَهَا
بِلَذَّةِ حُلْمٍ عَنْ قَلِيلٍ سَيَذْهَبُ
فَهَلا عَكَسْتَ الأَمْرَا إِنْ كُنْتَ حَازِمًا
وَلَكِنْ أَضَعْتَ الحَزْمَ والحُكْمُ يَغْلِبُ
تَصُدُّ وَتَنْأى عَنْ حَبِيبِكَ دَائِمًا
فَأَيْنَ عَنْ الأَحْبَابِ وَيْحَكَ تَذْهَبَ
سَتَعْلَمُ يَوْمَ الحَشْرِ أَيَّ تِجَارَةٍ
أَضَعْتَ إِذَا تِلْكَ الْمَوَازِينُ تُنْصَبَ
اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ(1/324)
وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : في ذِكْرِ طِرَفٍ مِنَ الفَوَائِدِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةَ
وَبَذْلِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ والْمَضَارِّ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ: أولاً:
1- امْتَثَالُ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
2- تَقْدِيمُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْمَالِ.
3- أَنَّ الصَّدَقَةَ بُرْهَانٌ عَلَى إِيمَانِ صَاحِبِهَا كَمَا فِي الحَدِيثِ وَالصَّدقَةُ بُرْهَانٌ.
4- شُكْرُ نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى الْمُخْرِجِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ الْمَالِ.
5- السَّلامَةُ مِنْ وَبَالِ الْمَالِ في الآخِرَةِ.
6- تَنْمِيَةُ الأَخْلاقِ الحَسَنَةِ وَالأَعْمَالِ الفَاضِلَةِ الصَّالِحَةِ.
7- التَّطْهِيرُ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ وَالأخْلاقِ الرَّذِيلَةِ قَالَ اللهَ تَعَالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} .
8- أَضْعَافُ مَادَّةِ الحَسَدِ وَالحِقْدِ وَالبُغْضِ أَوْ قَطْعِهَا كُلِّيًا.
9- تَحْصِينُ الْمَالِ وَحِفْظِهِ لِحَدِيثِ: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بَالزَّكَاةِ» .
10- إِنَّ الصَّدَقَةَ دَوَاءٌ مِنْ الأَمْرَاضِ لِحَدِيثِ: «دَاوُو مَرْضَاكُمْ بَالصَّدَقَةِ» .(1/325)
11- الاتِّصَافِ بَأَوْصَافِ الكُرَمَاءِ.
12- إِنَّهَا سَبَبٌ لِدَفْعِ البَلاءَ.
13- التَّمَرُّنِ عَلى البَذْلِ والعَطَاءِ.
14- أَنَّهَا سَبَبٌ لِدَفْعِ جَمِيعِ الأَسْقَامِ لِحَدِيثِ: «بَاكِرُوا بالصَّدَقَةِ فَإِنَّ البَلاءَ لا يَتَخَطَّاهَا» .
15- أَنَّهَا سَبَبٌ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ لأنَّهَا إِحْسَانٌ، وَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا.
16- أَنَّهَا سَبَبٌ لِلدُّعَاءِ مِنْ القَابِضِ لِلدَّافِعِ وَتَقَدَّمَتْ الأَدِلَّةُ.
17- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِمَنْعِ القَطْرِ لِحَدِيثِ: «وَلا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلا حٌبِسَ عَنْهُمْ القَطْرُ» .
19- الفَوْزُ بَالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْمَرْهُوبِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَدْ فُسِّرَ الفَلاحَ بِأَنَّهُ الفَوْزُ بَالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةُ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمْ.
20- أَنَّهَا تَدْفَعُ مَيْتَةَ السَّوءِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيْتَةَ السُّوءِ» .
21- أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَكُونُ فِي ظَلِّ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ وَذَكَرَ مِنْهُمْ َرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . الحَدِيثِ وَتَقَدَّمَ، وِفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ» .
22- الفَوْزُ بالثَّنَاءِ مِنْ اللهِ لأنَّ اللهَ مَدَحَ الْمُنْفِقِينَ وَالْمُتَصَدِّقِينَ.(1/326)
23، 24، 25 - الفَوْزَ بالأَجْرِ مِنْ اللهِ وَالأَمْنِ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ وَنَفْي الحَزَنَ عَنًهُمْ قَالَ اللهُ تَعَالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
26- أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِنُزُولِ القَطْرِ كَمَا أنَّ مَنْعَهَا سَبَبٌ لِحَبْسِهِ.
27- أَنَّهَا سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لأنَّ الْمُتَصَدِّقَ مُحْسِنٌ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
اللَّهُمَّ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الخِزْيِ وَالبَوَادِ، وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الجَنَّةِ دَارَ القَرَارِ، وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كِرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : 28- السَّلامَةُ مِنْ كُفْرِ نِعْمَةِ اللهِ.
29- الخُرُوجُ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الضُّعَفَاءِ.
30، 31، 32- أَنَّهَا سَبَبٌ لِلرِّزْقِ وَالنَّصْرِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «وَكَثْرَةُ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ تُرْزَقُوا وَتُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا» .
33- أَنَّهَا تُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ القُبُورِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ القُبُورِ» .
34- أَنَّهَا تَزِيدُ فِي العُمْرِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «أَنَّ صَدَقَةَ الْمُسْلِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ» .
35- السَّلامَةُ مِنْ الَّلعْنِ الوَارِدِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ لِمَا رَوَى الأَصْبَهَانِي عَنْ عَلَيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ(1/327)
الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ وَالْمُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ) .
36- الفَوزُ بالقُرْبِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} . وَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآيَةِ.
37- الوَعْدُ بَالخَلَفِ لِلْمُنْفِقِ لِحَدِيثُ: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا» .
38- الظَّفَرُ بِدُعَاءِ الْمَلائِكَةِ لِلْمُنْفِقِ.
39- أَنَّ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ حَلٌّ لِلأَزَمَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ وَسُوءِ الحَالَةِ الاجْتَمَاعِيَّةِ فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الأَمْوَالِ الزَّكَويَّةِ تَنَسَّخُوا مِنْهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا لَقَامَتْ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ وَزَالَتْ الضَّرورَاتِ وَانْدَفَعَتْ شُرُورُ الفُقُرَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمُ حَاجِزِ وَسَدّ يَمْنَعُ عَبَثَ الْمُفْسِدِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُم عَلى أَنْ سَفُكُوا دِمَاءَهُم وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» .
40- أَنَّ اللهَ يُعِينُ الْمُتَصَدِّقَ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُهَيِّئْ لَهُ طَرِيقُ السَّدَادِ وَالرَّشَادِ وَيُذَلِّلُ لَهُ سُبُلَ السَّعَادَةِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} .
41- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ يُخَبِّثُ الْمَالَ الطَّيِّبَ لِحَدِيثِ: «مَنْ كَسَبَ طَيِّبًا خَبَّثَهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ، وَمَنْ كَسَبَ خَبِيثًا لَمْ تُطَيِّبْهُ الزَّكَاةُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي في الكَبِيرِ مَوْقُوفًا بِإسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ.
42- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِتَلَفِ الْمَالِ لِحَدِيثِ: «مَا تَلِفَ مَالٌ فِي بَرٍّ(1/328)
وَلا بَحْرٍ إلا بَحَبْسِ الزَّكَاةِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الأَوْسَطِ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
43- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِلابْتِلاءِ بِالسِّنِينَ لِمَا فِي الحَدِيثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَنَعَ قُوْمٌ الزَّكَاةَ إلا ابْتَلاهُم اللهُ بالسِّنِينَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الأَوْسَطِ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
44- أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الثَّلاثَةِ الذين هُمْ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: فَالشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: فَأَمِيرٌ مُسَلِّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لا يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ مُفَرَّقًا فِي مَوْضِعِينِ.
45، 46- أَنَّ الصَّدَقَةَ يُذْهِبُ اللهُ بِهَا الكِبْرَ وَالْفَخْرَ لِحَدِيثِ: «إِنَّ صَدَقَةَ الْمُسْلِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ وَتَمْنَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ وَيَذْهَبُ بِهَا الكِبْرُ وَالفَخْرُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي.
47- السَّلامَةُ مِنْ التَّطْوِيقِ بِالشُّجَاعِ الأَقْرَعِ كَمَا في الحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَطَوَّقُ بِهِ عُنُقَهُ» .
48- السَّلامَةُ مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِيَن لِمَا فِي الحَدِيثِ: «ظَهَرَتْ لَهُمْ الصَّلاةُ فَقَبِلُوهَا، وَخَفِيَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ فَأَكَلُوهَا أُولَئِكَ هُمْ الْمُنَافِقُونَ» . رَوَاهُ البَزارُ.
49، 50- «إِنَّ البَلاءَ لا يَتَخَطَّى الصَّدَقَةَ وَأَنَّهَا تَسُدُّ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ(1/329)
السُّوءِ» . رَوَاهُ الطَّبَرانِي فِي الكَبِيرِ، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلاَءَ لاَ يَتَخَطَّاها» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِي مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ وَلَعَلَّهُ أَشْبَهُ.
51- أَنَّ الصَّدَقَةَ حِجَابٌ مِنْ النَّارِ لِمَنْ احْتَسَبَهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ أَنَّها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنَا عَنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: «إِنَّهَا حِجَابٌ مِنْ النَّارِ لِمَنْ احْتَسَبَهَا يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي.
52- أَنَّ إخْرِاجَ الصَّدَقَةِ يُؤْلِمُ سَبْعِينَ شِيْطَانًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لِحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِي، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.
53- أَنَّ اللهَ يُسَخِّرُ لِلْمُتَصَدِّقِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِنُمُوِّ مَالِهِ كَبَرَكَةٍ فِي ظَماءِ نَهْرٍ وَسَقْيِ أَرْضٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا رَجُلٌ فِي فَلاَةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابٍة: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاج قَدْ اسْتَوْعَبَتِ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٍ قَائِمٍ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمَسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلاَنٍ للإسْمِ الذي سَمِعْ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي؟ قال: سَمِعْتُ فِي السَحَابِ الذي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذَ قُلْتَ فَإِنِّي أنْظُرُ إلى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلثَه، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلَثهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/330)
54- أَنَّ الصَّدَقَةَ لا تُنْقِصُ الْمَالَ خِلافًا لِمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الجُهَّالِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» . الحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
55- أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ مِنْ كَسْبِ طَيِّبِ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَرُبُّهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيبَ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلها بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكم فُلُوِّه حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
56- أَنَّ الصَّدَقَةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيَّةِ الخَاصَّةِ لأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ مُحْسِنٌ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} .
57- أَنَّ الْمُصَّدِقِينَ يُضَاعِفُ اللهُ لَهم ثَوَابَ أَعْمَالِهم الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلى سَبْعِمائةِ ضِعْفٍ إِلى حَيْثُ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} .
58- «أَنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» . رَوَاهُ التِّرمذي، وابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرمِذِي: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
59- أَنَّ بِإخْرَاجِ الزَّكَاةِ كُلَّ سَنَةٍ يَرَى الفُقَرَاءُ أَنَّ الأَغْنِيَاء لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيْهِمْ فَيُدَافِعُونَ عَنْهُمْ مَا اسْتَطَاعُوا أَمَّا كَفُّ اليَدِ عَنْهُمْ وَمَنْعُ مَعْرُوفِهِمْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يُوغِرُ صُدُورَهُمْ وَيَمْلَؤُهَا حِقْدًا عَلَيْهِمْ وَيَجْتَهِدُونَ فِي سَلْبِ حَيَاتِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلى أَمْوَالِهِمْ الْمَخْوُزْنَةِ فَتَكُونُ الحَيَاةُ مُهَدَّدَةٌ وَالأَمْنُ مَفْقُودًا.(1/331)
60- أَنَّ مَنْعَ الصَّدَقَاتِ يُزِيلُ النِّعَمَ وَيُخَرِّبُ الدِّيَارَ العَامِرَةَ وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ نُ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ قَالَ تَعَالى: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} . إِلى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} . وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ ثَعْلَبَةَ في سُورَةِ التَّوْبَةِ قَالَ تَعَالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} . وَاللهُ أَعْلَم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
(13) موعظة
عِبَادَ اللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ باللهِ حَقًّا يَبْتَعِدُ عَنْ الْمَعَاصِي كَمَا يَبْتَعِدُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا زَلَّ مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ اضْطَرَبَتْ أَعْصَابُهُ وَجَعَلَ قَلْبُهُ يَخْفِقُ وَأَصَابَهُ نَدَمٌ عَظِيمٌ وَكُلَّمَا تَذَكَّرَ تِلْكَ الهَفْوَةِ احْمَرَّ وَجْهُهُ خَجَلاً وَهَاجَتْ عَلَيْهِ أَحْزَانُهُ وَتَذَكَّرَ عِصْيَانَهُ لِسَيِّدِهِ وَمَوْلاهُ وَلا يَزَالُ مُوجَعَ القَلْبِ مِنْكَسِرُهُ حَتَّى يُفَارِقُ الدُّنْيَا وَيُوَارَى في التُّرَابِ.
هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْمُؤْمِنِ، وَلا يُعْرَفُ سِوَاهُ فِي أَهْلِ الإِيمَانِ لأَنَّهم يُدْرِكُونَ تَمَامًا أَنَّهُم إِنْ عَصَوا خَالِقَهُم وَرَازِقَهُم أَنَّهُم سَيَنْدَمُونَ وَيُعَاقَبُونَ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلى مَوْلاهُمْ، هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَانْظُرْ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ اليَوْمَ فِي هَذَا العَصْرِ الْمُظْلِمِ مِنْ الجُرْأَةِ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِ اللهِ تَتَمَثَّلُ أَمَامَكَ حَالُهُم بِحَالَةِ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِثَوَابٍ وَلا عِقَابٍ تَرَاهُمْ قَدْ أَضَاعُوا الصَّلاةِ، وَأَصَرُّوا عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ إِلا النَّوَادِرَ مِنْهُمْ، تَرَاهُم يُطَارِدُونَ النِّسَاءَ فِي الأَسْوَاقِ، وَيَشْرَبُونَ الدُّخَانَ عَلنًا(1/332)
وَيَحْلِقُونَ اللحَى، كَذَلِكَ وَيَغُشُّونَ فِي مُعَامَلاتِهم، تَرَاهُمْ أَمَامَ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ لِيلاً وَنَهَارًا، تَرَاهُمْ يُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللهِ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، تَرَاهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بالْمَعَاصِي فِي بِلادِهِم بَلْ يَذْهَبُونَ إلى البِلادِ الأُخْرَى، بِلادِ الفِسْقِ وَالفُجُورِ وَالحُرِّيَةِ وَيُنْفِقُونَ فِيهَا الأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ فِي مَا يُغْضِبُ اللهَ الذي أَغْنَى وَأَقْنَى وَلَكِنْ لِيَعْلَمْ هَؤُلاءِ الفَسَقَةُ أَنَّ اللهَ لا يَغْفَلُ عَنْ أَعْمَالِهِم السَّيِّئَةِ وَسَوْفَ تَشْهَدُ عَلَيْهِم بِهَا الأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلا تَبْكِي عَلَيْهِمْ لا هَذِهِ وَلا هَذِهِ يَوْمَ يَتَجَرَّعُونَ كَأْسَ الْمَمَاتِ، وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ الْمَلَكَانِ كَاتِبُ الحَسَنَاتِ، وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ، وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ الحَفَظَةَ الذينَ يَتَعَاقَبُونَ عَلَى حِفْظِهِمْ تَعَاقُبَ الحُرَّاسِ وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ التي بَاشَرَتْ فِعْلَ الْمَعَاصِي وَيَشْهَدُ بِهَا خَيْرُ شَاهِدٍ وَهُوَ مَوْلاهُمْ جَلَّ وَعَلا الذي تَسْتَرِي الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ وَالغُيُوبُ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ كُتُبُ أَعْمَالِهِمْ التي كُلُّ مَا فَعَلُوا بِهَا مَكْتُوبٌ حَتَّى إِذَا رَأَوْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي حِسَابٍ فَزِعُوا وَقَالُوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، كُلُّ هَؤُلاءِ يَشْهَدُونَ عَلَى العَاصِينَ بالْمَعَاصِي فَيُسَجِّلُونَ عَلَيْهِمْ مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ وَلَيْسَ لِذَلِكَ نَتِيجَةٌ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلا غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَإلْقَاؤُهُمْ في دَارِ المُجْرِمِينَ الجَانِينَ جَهَنَّمَ، وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ هَكَذَا فَلِمَاذَا يَفْرَحُ العُصَاةُ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ التِي لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. التِي تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ.
شِعْرًا:
وَلَم يَمرُر بِهِ يَومٌ فَظيعٌ ... أَشَدُّ عَلَيهِ مِن يَومِ الحِمامِ
وَلَم يَمرُر بِهِ يَومٌ فَظيعٌ ... أَشَدُّ عَلَيهِ مِن يَومِ الحِمامِ
وَيَومُ الحَشرِ أَفظَعُ مِنهُ هَولاً ... إِذا وَقَفَ الخَلائِقُ بِالمَقامِ
فَكَم مِن ظالِمٍ يَبقى ذَليلاً ... وَمَظلومٍ تَشَمَّرَ لِلخِصامِ
وَشَخصٍ كانَ في الدُّنْيَا فَقيراً ... تَبَوَّأَ مَنزِلَ النُجبِ الكِرامِ(1/333)
وَعَفوُ اللَهِ أَوسَعُ كُلّ شَيءٍ ... تَعالى اللَهُ خَلاقُ الأَنامِ
آخر:
وَكَيْفَ قَرَّتْ لأهْلِ العِلْمِ أَعْيُنُهُمْ
أَوْ اسَتَلَذُّوا لِذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعُوا
وَالمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلانِيَةً
لَوْ كَانِ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا
وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ
وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ
آخر:
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِنًا
بَأَنَّ الْمَنَايَا بَغْتَةً سَتُعَاجِلُهْ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِنًا
بَأَنْ إِلهَ الخَلْقِ لا بُدَّ سَائِلُهْ
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالى النَّجَاةَ مِنْهَا وَأَنْ يُوَفِّقْنَا لِلأَعْمَالِ الْمؤَهِّلَةِ لِدَارِ الخُلْدِ وَأَنْ يُوَفقَ وُلاتَنَا لِلْقِيَامِ عَلَى هَؤُلاءِ المُجْرِمينِ، وَرَدْعِهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ سُلُوكَ طُرِقِ الحَقِّ إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قُلُوبِنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَتَوَلَّنَا بِحُسْنِ رِعَايَتِكَ حَتَّى نَتَوَكَلَ عَلَيْكَ وَارْزُقْنَا حَلاوَةَ التَّذَلُّلَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
الفَصْلُ الأَوَّلُ
شَهْرُ رَمَضَانَ
1- دَرْسُ اليَوْمِ الأَوَّلِ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالى:(1/334)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ وَهُوَ الإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالوِقَاعِ، بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا فِيهِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ وَطَهَارَتِهَا وَتَنْقِيَتِهَا مِنْ الأَخْلاطِ الرَّدِيئَةِ وَالأَخْلاقِ الرَّّّذِيلَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهِمْ فَلَهُم فِيهِمْ أُسْوَةٌ وَلِيَجْتَهِدَ هَؤُلاءِ فِي أَدَاءِ هَذَا الفَرْضِ أَكْمَلَ مِمَّا فَعَلَهُ أُولئِكَ. (انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهِ) .
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِهِ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدومِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَقُولُ:
«جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ فِيهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينِ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» .
وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: (هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ فِي تَهْنِئَةِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا بِشَهْرِ رَمَضَانَ) .
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ:
«لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي رَمَضَانَ لَتَمَنَّتُ أُمَّتِي أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ السَّنَةَ كُلَّهَا» .
وَعَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا:(1/335)
«أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، يغْشَاكُمْ اللهُ فِيهِ، فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةُ، وَيَحُطُّ الخَطَايَا، وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ الدُّعاءَ، يَنْظُرُ اللهُ إِلى تَنَافُسِكُمْ فِيهِ، وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِي مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةً اللهِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» .
ولمسلم: «فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» . وَفِي الصَّحِيحيْنِ عَنْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ» . وفي رواية: «فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ البَابُ» . وفي رواية: «من َدَخَلَ مِنْهُ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا» .
ولمسلم أيضًا: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعًا: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَأغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» .
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النّيران،ِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ. وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» .
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» .(1/336)
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي وَحَسَنٌهُ، وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمَنّا مِنَ الفَزَع الأَكْبَر يومَ الرجْفِ والزلْزَالْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فصل) وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُعْطِيتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ في رَمَضَانَ لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ الحِيتَانُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ الْمُئْوَنَةَ، وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَتُصْفَدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينَ فلا يَخْلُصُوا فِيهِ إِلى مَا كَانُوا يَخْلصُونَ إِلْيهِ فِي غَيْرِهِ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ في آخِر لَيْلَةٍ» .
قِيلَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ أَهِي لَيْلَةُ القَدْرِ؟
قَالَ: «لا، وَلَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرُهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ» .
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَعِدْ الْمَنْبَرَ، فَقَالَ: «آمِينَ، آمينَ، آمِينَ» . قِيلَ يَا رَسُولُ اللهِ: إِنَّكَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ فَقُلْتَ: «آمِينَ، آمينَ، آمِينَ» ، فَقَالَ: «إِنَّ جَبْرَيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهْ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» . الحَدِيثِ.(1/337)
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَظَلَّكُم شَهْرُكُمْ هَذَا، بِمَحْلُوفِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَرَّ بَالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ خَيْرُ لَهُمْ مِنْهُ، وَلا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرُ شَرٍّ لَهُمْ مِنْهُ بِمَحْلُوفِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ اللهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ قِبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشَقَاءَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ القُوتَ وَالنَّفَقَةَ لِلْعِبَادَةِ، وَيَعُدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ أتبَاعَ غَفَلاتٍ الْمُؤمِنِينَ وإتِّبَاعَ عَوْرَاتِهِم، فَغُنْمٌ يَغْنَمُهُ الْمُؤْمِنُ» .
وَقَالَ بَنْدَارُ فِي حَدِيثِهِ: «فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغْتَنِمُهُ الفَاجِرُ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِبُلُوغِ رَمَضَانَ، فَكَانَ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ العَزِيزِ بن مَرَوَانَ: (كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ عِنْدَ حُضُورِ شَهْرِ رَمَضَانَ: اللَّهُمَّ قَدْ أَظَلَّنَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَحَضرَ فَسَلِّمْهُ لَنَا وَسَلِّمْنَا لَهُ، وَارْزُقْنَا صِيَامَهُ وَقِيامَهُ، وَارْزُقْنَا فِيهِ الجِدَّ وَالاجْتِهَادَ وَالنَّشَاطَ، وَأَعِذْْنَا فِيهِ مِنْ الفِتَنِ» .
وَقَالَ مُعَلَّى بْنِ الفَضْلِ: كَانُوا يَدْعُونَ الله سِتَّةَ أَشْهُرِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رَمَضَانُ، ثُمَّ يَدْعُونَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بِنْ أَبِي كَثِيرِ كَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: (اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي إلى رَمَضَانَ وَسَلِّمْ لِي رَمَضَانُ وَتَسَلَّمْهُ مِنّي مُتَقَبَّلاً) .
اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ للطَّالِبَيْنَ، وَأَظْهَرَ غِنَاهُ لِلرَّاغِبينَ نَسْأَلُكَ أَنْ تَسْلَكَ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الصَّادِقِينَ، وَأَنْ تَلْحِقَنَا بِعبَادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أُحْيِ قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تَعذِّبْهَا بَأَلِيمٍ عِقَابِكَ، يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، يَا مَنْ جَادَ عَلَى(1/338)
عِبَادِهِ بالأنْعَامِ وَالأفضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَارْزُقْنَا مَا رَزَقْتَ أَوْلِيَاءِكَ، مِنْ نَعِيم قُرْبكِ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاتِكَ، وَصِدْقِ حُبِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
وَخُذْ فِي بَيَانِ الصَّومِ غَيْرُ مُقَصِّرٍ
عِبَادَةِ سِرِّ ضِدَّ طَبْعٍ مُعَوَّدِ
وَصَبْرُ لِفَقْدِ الإِلْفِ مِنْ حَالَةِ الصِّبَا
وَفَطْمٌ عَنْ المَحْبُوبِ وَالْمُتَعَوَّدِ
فَثِقْ فِيهِ بَالْوَعْدِ القَدِيمِ مِنْ الذِي
لَهُ الصَّوْمُ يُجْزِي غَيْرَ مُخْلِفِ مَوْعِدِ
وَحَافِظْ عَلى شَهْرِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ
لَخَامِسُ أَرْكَانٍ لِدِينِ مُحَمَّدِ
تُغَلِّقُ أَبْوَابُ الجَحِيمِ إِذَا أَتَى
وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ الجِنَانِ لِعُبَّدِ
تُزَخْرَفُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورُهَا
لأَهْلِ الرِّضَا فِيهِ وَأَهْلُ التَّعَبُّدِ
وَقَدْ خَصَّهُ اللهُ العَظِيمُ بِلَيْلَةٍ
عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ فُضِّلَتْ فَلْتُرَصَّدِ
فَارْغِمْ بَأنْفِ القَاطِعِ الشَّهْرِ غَافِلاً
وَأَعْظِمْ بَأَجْرِ الْمُخْلِصِ الْمُتَعَبِّدِ
فَقُمْ لَيْلَةُ وَاطْوِ نَهَارَكَ صَائِمًا
وَصُنْ صَوْمَهُ عَنْ كُلِّ مُوْهٍ وَمُفْسِدِ(1/339)
اللَّهُمَّ أَهِلَّ شَهْرَنَا عَلَيْنَا بِالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ وَالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا كُلَّ قَبِيحٍ سَلَفَ وَكَانَ، وَأَعْتِقْنَا فِيهِ مِنْ لَفَحَاتِ النِّيرَان، وَأَعِنَّا عَلَى الخَيْرِ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
موعظة
عِبَادَ اللهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» . عِبَادَ اللهِ إِنَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى إِيجَازِهِ لَيَحْتَوِي عَلَى وَصِيَّةٍ ثَمِينَةٍ مِنْ أَبْلَغِ الوَصَايَا وَأَقْيَمِهَا وَأَجَلِّهَا وَأَنْفَعِهَا فَقَدْ اشْتَمَلَ عَلى الأَمْرِ بِحِفْظِ عُضْوَينِ عَلَيْهِمَا مَدَارٌ عَظِيمٌ حَقِيقِينَ بِتَعَاهُدِهمَا بالرِّعَايَةِ وَالاسْتِقَامَةِ وَالرَّقَابَةِ وَالصِّيَانَةِ أَلا وَهمَا: اللسَانُ، وَالفَرْجُ، وَلا شَكَّ أَنَّهُمَا إِنْ أُطْلِقَ سَرَاحُهُمَا فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَاتِ وَطُرُقِ الغَيِّ وَالفَسَادِ كَانَا أَصْلاً لِلْبَلاءِ وَالفِتْنَةِ وَالشِّرِّ وَالَهَلاكِ وَالدَّمَارِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وُقِيَ شَرَّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . الحَدِيثِ أَخْرَجَهُ مَنْصُورُ الدَّيْلَمِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالقَبْقَبُ: البَطْنُ. والذَّبْذَبُ: الفَرْجُ. وَاللقْلَقُ: اللسَانُ.
فَهَذِهِ الشَّهَواتِ بِهَا يَهْلَكُ أَكْثَرُ الخَلْقِ وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّارَ فَقَالَ: «الأَجْوَفَانِ: الفَمَّ، وَالفَرْجُ» .
فَالْعَاقِلُ مَنْ يُبْصِرُ مَوَاقِعَ الكَلامِ وَيَحْفَظُ لِسَانَهُ مِنْ الفُضُولِ وَالْهَذَيَانِ وَلا يَتَعَدَّى بِفَرْجِهِ زَوْجَتَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينَهُ.
شِعْرًا:
إِذَا مَا أَرَدْتَ النُّطْقَ فَانْطِقْ بِحِكْمَةٍ ... وَزِنْ قَبْلَ نُطْقَ مَا تَقُولُ وَقَوِّمِ(1/340)
فَمَنْ لَمْ يَزِنَ ما قال لا عَقْل عِنْدهُ ... وَنُطْقٌ بِوَزْنٍ كَالبِنَاءِ المُحَكَّمِ
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ طُرْقَ المقالِ حَمِيدَةً ... تَجَمَّلْ بحُسْنِ الصَّمْتِ تُحْمَد وتَسْلَمِ
فَكَمْ صَامِتًا يَلْقَى المَحَامِدَ دَائِمًا ... وَكَمْ نَاطِقٍ يَجْنِي ثِمارَ التَّنَدُّمِ
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاْعْلَمْ أَنَّ زَلاتِ اللسَانِ عَظِيمَةٌ فَزَلَّةٌ مِنْ زَلاتِهِ قَدْ تُؤَدِّي بِالإنْسَانِ إلَى الهَلاكِ وَالعَطَبِ وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ فَلْيَحْذَرْ الإِنْسَانُ مِمَّا يَجْرِي بِهِ لِسَانُهُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» . الحَدِيثِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَرْفُوعًا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ أصبحت الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُذَكِّرُ اللِّسَانَ أَيْ تَقُولُ: اتَّقِ اللهِ فِينَا فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإْن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بَنْ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى أَبا بَكْرٍ الصِّديقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ بِيَدِهِ فَقَال لَهُ: مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا أَوْرَدَنِي المَوَارِدَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ شَيءٌ مِنْ الجَسَدِ إلا يَشْكو إلى اللهِ اللِسَانَ عَلَى حِدَّتِهِ» .
وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّه كَانَ عَلى الصَّفَا يُلَبِّي وَيَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمُ مِنْ قَبْلِ أنْ تَنْدَمَ فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَهَذَا شَيءٌ تَقُولُه أَوْ شَيءٌ سَمِعْتَهُ فَقَالَ لا بَلْ شيءٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَم في لِسَانِهِ» .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقَاهُ اللهُ عَذَابَهُ وَمَنْ اعْتَذَرَ إَلَى اللهِ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُ.(1/341)
شِعْرًا:
وَإِذَا خَشِيتَ مَلامةً مِنْ مَنْظِقٍ ... فاَخْزِنْ لِسَانَكَ في اللَّهَاةِ وَأَطْرِقِ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ أَنْ تَقُولَ فَتُبْتَلَى ... إِنَّ البَلاءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْزِنْ لِسَانَكَ إلا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُم المُؤْمِنَ صَمُوتًا وَقُورًا فادْنُوا مِنْهُ فَإْنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ» .
وَأَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَة مِنْ حَدِيثِ خَلادٍ بِلَفْظ: «إِذَا رَأَيْتُم الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلقَّى الحِكْمَةَ» .
وَلا تَحْسَبَنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ قَاصِراً عَلَى الصَّمْتِ في مَوْضِعِهِ أَوْ الكَلامَ بل يَتَعَدَّى إلَى حِفْظِهِ مِنْ طَعَامٍ مَشْبُوهٍ أَوْ حَرَامٍ وَإنَّ مِنْ المَعْلُومِ أَنَّ اللِّسَانَ هُو الوَسِيلَةُ لِمَضْغِ مَا يَأْكُلُهُ المَرْءُ وَقَذْفِهِ في المَعِدَةِ بَيْتِ الطَّعَامِ وَمُسْتَقَرُّهُ مِنْ الزَّلَلِ وَالحَرَامِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ في عَاقِبَةِ أَمْرَهِ.
وَأَمَّا حِفْظُ الفَرْجِ فَبِتَرْكِ التَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَحُرُمَاتِهِم وَوَضْعِهِ في الحَلالِ في الطُّرُقِ المَشْرُوعَةِ وَكفِّهِ عَن الزِّنَا وَالحَرَامِ وَالزِّنَا آفةٌ وَبَيْلَةٌ عَلَى المُجْتَمَعِ الإِنْسَانِي وَقَدْ بَيَّنَا مَضَارَّهُ في الجُزْءِ الثَّانِي. واللهُ أَعْلَمُ.
عَجِبْتُ لِذي التَّجارِبِ كَيفَ يَسْهُو ... وَيَتْلُو اللَّهوَ بَعْدَ الإحتِباكِ
وَمُرْتَهَنُ الفَضائِحِ وَالخَطايا ... يُقَصِّرُ بِاِجتِهادٍ لِلفِكاكِ
وَموبِقُ نَفسِهِ كَسَلاً وَجَهَلاً ... وَمورِدُها مَخوفاتِ الهَلاكِ
بِتَجديدِ المَآثِمِ كُلَّ يَومٍ ... وَقَصدٍ لِلمُحَرَّمِ بِاِنتِهاكِ
سَيَعلَمُ حينَ تَفجُؤُهُ المَنايَا ... وَيَكثُفُ حَولَهُ جَمعُ البَواكي
اللَّهُمَّ جُدْ عَلَيْنَا بِكَرمِكَ، وَافض علينا مِن نِعَمِكَ، وَتَغَمَّدْنَا بِرَحْمَتِكَ،(1/342)
وعاملنا بِرأفْتكْ، وَوَفِّقْنَا لِخدْمَتِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ في قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذَكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
5- لا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلا غَيْرُهُ مِنَ الصِّيَامِ الوَاجِبِ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِكُلِّ يَوْمٍ.
1- حُكْمُ صَوْمِ رَمَضَانَ:
صَوْمُ رَمَضَانَ فَرِيضَةً: وَالأصْلُ في فَرِيضَتِهِ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعِ.
أَمَّا الدَّلِيلُ مِنَ الكِتَابِ فُقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ» .
وَأَمَّا الإِجْمَاعُ، فَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى فَرِيضَةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
2- بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ:
وَيُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ قَادِرٍ أَدَاءٌ وَقَضَاءً وَلا يَجِبُ عَلَى كَافَرٍ - سَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًا أًوْ مُرْتَدًا - لإنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لا تَصِحُّ مِنْهُ في حِالِ كُفْرِهِ، وَلا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} .(1/343)
وَلأنَّ فِي إِيجَابِ قَضَاءِ مَا فَاتَ في حَالِ كُفْرِهِ تَنْفِيرًا عَنِ الإِسْلامِ وَلَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا مَضَى مِنْ الأَيَّامِ وَيَصُومُ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ.
وَلِحَدِيثِ ابن مَاجَة في وَفْدِ ثَقِيفٍ: قَدِمُوا عَلَيْهِ في رَمَضَانَ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةٌ بِالمَسْجِدِ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا صَامُوا مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّهْرِ، إِذْ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ.
وَلا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَجْنُونٍ، وَلا صَبِيٍّ حَتَّى يَبْلُغَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٌ: عَنْ الصَّبِي حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ القُدْرَةِ عَلَى الصَّوْمِ فَلأَنَّ مَنْ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَهُوَ الكَبِيرُ وَالعَجُوزُ - إَذا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُمَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةَ شَدِيدَةً - فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ فِي الشَّّّّّيْخِ الكَبِيرِ، وَالمَرْأَةِ الكَبِيرَةِ اللَّذَيْنِ لا يَسْتَطِيعَانِ الصَّوْمِ فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَرُوِيَ أَنَّ أَنس بنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ فَصَنَعَ جِفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ، فَدَعَا ثَلاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ.
وَالمرِيضُ الذي لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، حُكْمُهُ حُكْمُ الشَّيْخِ الكَبِيرِ، يُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فصل)
3- مَا يَثْبُتُ بِهِ الشَّهْرُ:
وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلالِهِ، أَوْ إِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ(1/344)
يَوْمًا وَتَثْبُتْ رُؤْيَةُ هِلالِ رَمَضَانَ بِخَبَرِ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أُنْثَى.
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإَذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غَمَّ عَلَيْكُمْ فَاقدُرُوا له» .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (تَرَاءى النَّاسُ الهِلالَ فَأَخْبَرْتُ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (إِنَّ أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الهِلالَ، فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ» ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: «فَأَذِّن فِي النَّاسِ يَا بِلالُ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» .
وَيُسْتَحَبُّ إِذَا رَأَى الهِلالُ أَنْ يَقُولَ مَا وَرَدَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابنِ عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الهِلالَ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى» .
وَمِنْهُ حَدِيثُ طَلْحَةَ بِن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الهِلالَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالٌ رُشْدٍ وَخَيْرٍ» .
وَإِنَّ حَالَ دُونَ مَطْلَعِ الهِلالِ لَيْلَةَ الثَّلاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، فَإِنَّهُ لا يِجِبُ صَوْمُهُ وَلا يُسْتَحَّبُ، بَلْ المَشْرُوعُ فِطْرُهُ لِمَا وَرَدَ(1/345)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأْكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» .
وَعَنْ عَمَّارِ بِنْ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (مَنْ صَامَ اليَوْمَ الذي يَشكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
وَعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُم وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا العِدَّةِ ثَلاثِين وَلا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبالاً» .
وَيُسْتَثْنَى القَضَاء، والنَّذُرُ وَالعَادَةُ، فَيَجُوزُ صَوْمُهَا فِيهِ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمُهُ» . واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فصل)
4- فِيَما يَتَرتَّبُ عَلى ثُبُوتِ رُؤْيَةِ الهِلالِ:
وإِذَا ثَبَتَ رُؤْيَةُ هِلالِ رَمَضَانَ بِبَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ إِذَا اتَّفَقَتْ المَطَالِعُ لَما رَوَى (كُرَيْبٌ) قالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، وَاسْتَهَلَّ عَليّ رَمَضَانَ وَأَنَا بالشَّام، فَرَأَيْتُ الهِلالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةَ، ثَمَّ قَدِمْتُ المَدِينَة في آخر الشَّهْر فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الهِلالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُم الهِلالَ؟ قُلْتُ: رََأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةَ فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلا نَزَالُ نَصُومَ حَتَّى نَكْمِلَ ثَلاثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَفَلا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصَيَامِهَ؟ فَقَالَ: لا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.(1/346)
وَمَنْ رََأَى وَحْدَهُ هِلالَ رَمَضَانَ وَرُدَّ قَوْلُهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَجَمِيعُ أَحْكَامِ الشَّهْرِ مِنْ طَلاقٍ وَعِتْقٍ، وَغَيْرِهِمَا مُعَلَّقَيْنِ بِهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَلأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَزِمَهُ صَوْمُه وَأَحْكَامُهُ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلالَ شَوَّالَ لَمْ يُفْطِرْ لِحَدِيثِ: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضْحِّي النَّاسُ» .
وَحَدِيثِ: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضْحُّونَ» .
وَرَوَى أَبُو رَجَاءٍ عَنْ أَبِي قَلابَةَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا الْمَدِينَةِ وَقَدْ رَأَيَا الهِلالَ، وَقَدْ أَصْبَحَ النَّاسُ صِيامًا فَأَتيَا عُمَرَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لأحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: بَلْ مُفْطِرٌ. قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَصُومَ وَقَدْ رَأَيْتُ الهِلالَ، وَقَالَ لِلآخَرِ، قَالَ إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لأفْطِرَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ. فَقَالَ لِلذِي أَفْطَرَ: لَوْلا مَكَانَ هَذَا لأَوْجَعْتُ رَأْسَكَ، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ أَنْ أَخْرُجُوا.
وَإِنَّمَا أَرَادَ ضَرْبَهُ لإِفْطَارِهِ بِرُؤْيَتِهِ وَحْدَهُ، وَدَفَعَ عَنْهُ الضَّرْبَ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِهِ، وَلَوْ جَازَ لَهُ الفِطْرُ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَلا تَوَعَّدَهُ، وَإِنْ صَامَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ: ثَلاثِينَ يَوْمًا فَلَمْ يَرَوْا الهِلالَ أَفْطَرُوا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا» .
وَإِذَا قَامَتْ البََيِّنَةُ أَثْنَاءَ النَّهَارِ لَزِمَ أَهْلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ الإِمْسَاكَ وَلَوْ بَعْدَ أَكْلِهِمْ لِتَعَذُّرِ إمْسَاكِ الجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَحَدِيثِ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
5- لا يَصِحُّ صِيَامُ رَمَضِانَ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ الليْلِ:(1/347)
وَلا يَصِحُّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَلا غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ الوَاجِبِ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِكُلَّ يَوْمٍ. رَوَتْ حَفْصَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ» .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ» .
وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ أَتَى بَعْدَ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ بِمَا يُبْطِلُ الصِّيَامَ كَالأَكْلِ، لَمْ تَبْطُلُ النِّيَةُ لِظَاهِرِ الخَبَرِ وَلأَنَّ اللهَ أَبَاحَ الأَكْلَ إِلى آخِرِ اللَّيْلِ فَلَوْ بَطَلَتْ بِهِ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى، لأَنَّ النِّيةَ مَحَلُّهَا القَلْبُ، وَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ نِيَّةٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هُو حِينَ يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ، وَلَوْ نَوَتْ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ صَوْمَ غَدٍ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ لَيْلاً صَحَّ لِمَشَقَّةِ الْمُقَارَنَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
يَا ذَا الذي مَا كَفَاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ ... حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْر شَعْبَانِ
لَقَدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْدهُمَا ... فَلا تُصَيِّرهُ أَيْضًا شَهْرَ عِصْيانِ
وَاتْل القُرْآنَ وَسَبِّحْ فِيهِ مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّهُ شَهْرُ تَسْبِيحٍ وَقُرْآنِ
كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ في سَلَفٍ ... مَنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإخْوَانِ
أَفْنَاهُمُ الْمَوْتُ واسْتبقاكَ بَعْدَهُمُ ... حَيًا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنْ الدَّانِ
اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ(1/348)
المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
وَيَبْحَثُ في:
1- حُكْمِ صَوْمِ التَّطَوّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ.
2- فِيمَنْ يُبَاحُ لَهُ الفِطْرُ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ.
3- مَنْ عَرَضَ لَهُ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ.
1- حُكْمِ صَوْمِ التَّطَوّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ:
وَيَصِحُّ صَوْمُ التَّطَوّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يَوْم فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ» ؟ فَقُلْنَا: لا، فقَالَ: «فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ» ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «أَرِنِيهُ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ.
وَزَادَ النِّسَائِي، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا» . وَمِنْ لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّمَا مَنْزِلَةُ مَنْ صَامَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَوْ فِي التَّطَوُّعِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَخْرَجَ صَدَقَةَ مَالِهِ فَجَادَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْضَاهُ وَبَخِلَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْسَكَهُ» .
شِعْرًا:
وَفي النَّاس مَنْ أَعْطَى الجَمِيلَ بَدَيهَةً ... وَظَنَّ بِفِعْلِ الخَيْرِ لِمَّا تَفَكَّرَا
آخر:
وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجَمِيلِ بِفَاعِلٍ ... وَمَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ
قَالَ البُخَارِي: وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ،(1/349)
وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَيُحْكَمُ بالصَّوْمِ الْمُثَابِ عَلَيْهِ مَنْ وَقْتَ النِّيَّةِ، لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلَّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَمَا قَبْلَهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَصْدُ القُرْبَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لا يُوجَدَ مُنَافٍ غَيْر نِيَّةِ الإفْطَارِ، اقْتِصَارًا عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَنَظرًا إِلى أَنَّ الإِمْسَاكَ هُوَ الْمَقْصُودُ الأَعْظَمُ، فَلا يُعْفَى عَنْهُ أَصْلاً، فَإِنْ فَعَلَ قَبْلََ النِّيةِ مَا يُفَطِّرُهُ لَمْ يَجُزْ الصِّيَامُ، فَلا يَصِحُّ صَوْمُ مَنْ أَكَلَ ثُمَّ نَوَى بَقِيَّةَ يَوْمِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ حِكْمَةِ الصَّوْمِ، وَيَصِحُّ تَطَوُّعُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتْ فِي يَوْمٍ بِصَوْمِ بَقِيَّتِهِ وَتَطَوُّعُ كَافِرٍ أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَأتِيَا فِيهِ بِمُفْسِدٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ بَلَغَ صَبِيُّ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَهُمْ مُفْطِرُونَ، لَزِمَهُمْ الإِمْسَاكُ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّوْمِ، لِحُرْمَةِ الوَقْتِ وَلِزَوَالِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ طَهُرَتْ حَائِضٌ أَوْ نُفْسَاءَ، أَوْ قَدِمَ مُسَافِرٌ مُفْطِرٌ.
فَعَلَيْهِمْ الإِمْسَاكُ وَالقَضَاءُ وَلا خِلاف فِي وُجُوبِ القَضَاءَ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالى: { ... فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ. وَكَذَا الحُكْمُ فِي الْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَكَانَ مُفْطِرًا.
وَيُسَنُّ الفِطْرُ لِمُسَافِرٍ يُبَاحُ لَهُ القَصْرُ، وَلِمَرِيضٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وَلِحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ثُمَّ قَالَ سَوُلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(1/350)
« ... عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ التي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا» وَإنْ صَامِ أَجْزَأَهُ.
ولِحَدِيْثِ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» .
وَعن َحَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ أنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: َأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» . وَاللهُ أَعْلَمَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ.
(فصل)
2- فِيمَنْ يُبَاحُ لَهُ الفِطْرُ وَمَنْ يَجِبْ عَلَيِْهِ:
وَيُبَاحُ الفِطْرُ، لِحَاضِرٍ سَافر في أَثْنَاءِ النَّهَارِ. لِحَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ الغِفَارِي: أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةِ مِنْ الفِسْطَاطَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، فَلَمْ يُجَاوِزْ البُيُوتَ حَتَّى دَعَا بَالسُّفْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ! قِيلَ: أَلَسْتَ تَرَى البُيُوتَ؟ قال: أَتَرْغَبْ عَنْ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَأَكَلَ.
وَإنْ صَامِ أَجْزَأَهُ، لِحَدِيْثِ: «هِي رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» .
وَيُبَاحُ الفِطْرُ لِحَامِلٍ، وَمُرْضِعٍ، إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، فَيُفْطِرَانُ وَيَقْضِيَانِ كَالْمَرِيضِ الخَائِفْ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلِدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا، وَلَزِمَ وَليُّ الوَلَدِ إطْعَامُ مُسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخ الكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَالحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.(1/351)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَلا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَة وَلَيْسَ لِمَنْ جَازَ لَهُ الفِطْرُ بِرَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ غَيْرَهُ فِيهِ لأَنَّهُ لا يَسْعُ غَيْرَ مَا فُرِضَ فِيهِ وَلا يَصْلحُ لِسِوَاهُ، وَيَجِبْ الفِطْرُ عَلَى مَنْ احْتَاجَهُ لإِنْقَاذِ مَعْصُومٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ. كَغَرَقٍ لأَنَّهُ يُمْكِنْهُ تَدَارُكَ الصَّوْمِ بَالقَضَاءِ بِخَلافِ الغَرِيقِ وَنَحْوِهِ، وَيَجِبُ الفِطْرُ عَلَى الحَائِض وَالنُّفَسَاءَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3- مَنْ عَرَضَ لَهُ جُنونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ:
وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ جَنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَمْ يُفِقْ جُزْءًا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ لأَنَّ الصَّوْمَ: الإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلَّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي ... » . فَأَضَافَ التَّرْكَ إِلَيْهِ، وَهُوَ لا يُضَافُ إِلى المَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ وَالنَّيةُ وَحْدَهَا لا تُجزِي، وَيَصِحُّ الصَّوْمُ مِمَّنْ أَفَاقَ جُزْءًا مِنْهُ حَيْثُ نَوَى لَيْلاً لِصِحَّةِ إِضَافَةِ التَّرْكِ إِلَيْهِ إِذًا، وَيُفَارِقُ الجُنُونُ الحَيْضَ بِأَنَّهُ لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ بَلْ يَمْنَعُ الصِّحَّةِ وَيَحْرُمُ فعْلُهُ، وَيَصَحُّ صَوْمُ مِنْ نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ لأَنَّ النَّوْمَ عَادَة لا يَزُولُ الإِحْسَاسُ بِهِ بالكُلِّية لأَنَّهُ مَتَى نُبِّهَ انْتَبَهَ. وَيَقْضِي مُغْمَى عَلَيْه زَمَنَ إغْمَائِهِ لأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَلأَنَّ مُدَّةَ الإغْمَاء لا تَطُولُ غَالِبًا، وَلا ثَبْتُتْ الولايَةُ عَلَيْهِ، وَلا يَقْضِي مَجْنُونٌ زَمَنَ جُنُونِهِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ.
اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ،(1/352)
وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(14) موعظة
إخْوَانِي إِنَّ الغَفْلَةَ عَنْ اللهِ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ تَعَالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَلْهَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ العَمَلِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ أنْسَاهُ العَمَلَ لِمَصَالِحَ نَفْسِهِ فَلا يَسْعَى لَهَا بِمَا فِيهِ نَفْعُهَا وَلا يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ سَعَادَتِهَا وَإِصْلاحِهَا وَمَا يُكَمِّلُهَا وَيَنْسَى كَذَلِكَ أَمْرَاضَ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَآلامَهُ فَلا يَخْطُرْ بِبَالِهِ مُعَالَجَتُهَا وَلا السَّعْي في إِزَالَةِ عِلَلِهَا وَأَمْرَاضِهَا التي تَؤُلُ إِلى الْهَلاكِ وَالدَّمَارِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمُ العُقُوبَاتِ فَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ وَضَيَّعَهَا وَنَسِيَ مَصَالِحَهَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا وَأَسْبَابَ سَعَادَتِهَا وَفَلاحِهَا وَحَيَاتِهَا الأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الخَلْقِ قَدْ نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَيَّعُوهَا وَأَضَاعُوا حَظَّهَا وَبَاعُوهَا بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الْمَغْبُونِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ كُلَّهُ يَوْمَ التَّغَابُنِ {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} الآيةُ.
{يَوْمَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} إنَّهَا لَحَسْرَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ دُونَهَا كُلُّ حَسْرَةٍ، هَؤُلاءِ هُمْ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ.
شِعْرًا:
القَلْبُ أَعْلَمُ يَا عَذُولُ بِدَائِهِ ... مَا غَيَرُ دَاءِ الذَّنْبِ مِنْ أَدْوَائِهِ
وَالذَّنْبُ أَوْلَى مَا بَكَاهُ أَخُو التُّقَى ... وَأَحَقُّ مِنْكَ بِجَفْنِهِ وَبِمَائِهِ
فَوَمَنْ أُحِبُّ لأَعْصِيَنَّ عَواذِلي ... قَسَمًا بِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ(1/353)
مَنْ ذَا يَلُومُ أَخَا الذُّنُوبِ إِذَا بَكَى ... إِنَّ الْملامةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
فَوَحَقِّ مَنْ خَافَ الفُؤادُ وَعِيدَهُ ... وَرَجَا مَثُوبَتَهُ وَحُسْنَ جَزَائِهِ
مَا كُنْتُ مِمَّنْ يَرْتَضِي حُسْنَ الثَّنَا ... ببَدِيعٍ نَظْمِي فِي مَدِيحٍ سِوَائِهِ
مَنْ ذَا الذِي بَسَطَ البَسِيطَةَ لِلْوَرَى ... فُرُشًا وَتَوْجِيهًَا بِسَقْفِ سَمِائِهِ
مَنْ ذَا الذِي جَعَلَ النُّجُومَ ثَواقِباً ... يَهْدِي بِهَا السَّارِينَ في ظَلْمَائِهِ
مَنْ ذَا أَتَى بَالشَّمْسِ فِي أُفُقِ السَّمَا ... تَجْرِي بِتَقْدِيرٍ عَلَى أَرْجَائِهِ
أَسِوَاهُ سَوَّاهَا ضِيَاءً نَافِعًا ... لا وَالذِي رَفَعَ السَّمَا بِبِنَائِهِ
مَنْ أَطْلعَ القَمَرَ الْمُنِيرِ إِذَا دَجَى ... لَيْلٌ فَشَابَهَ صُبْحَِهُ بِضَيَائِهِ
مَنْ طَوِّلَ الأَيَّامَ عِندَ مَصْيفها ... وَأَتَتْ قِصَارًا عِنْدَ فَصْلِ شَتَائِهِ
مِنْ ذَا الذِي خَلَقَ الخَلائِقَ كُلَّهَا ... وَكَفَى الجَمِيعَ بِبِرِّهِ وَعَطَائِهِ
وَأَدَرَّ لِلطِّفْلِ الرَّضِيعِ مَعَاشَهُ ... مَنْ أُمِّهِ يَمْتَصُّ طِيبَ غَذَائِهِ
يَا وَيْحَ مَنْ يَعْصِي الإِلهَ وَقَدْ رَأَى ... إِحْسَانَهُ بِنَوَالِهِ وَنَدائِهِ
وَرَأَى مَسَاكِنَ مَنْ عَصَى مِمَّنْ خَلا ... خِلْواً تَصِيحُ البُومُ في أَرْجَائِهِ
وَدَع الجَبَابَرةَ الأَكَاسِرَةَ الأُلَى ... وَانْظَرْ لِمَنْ شَاهَدْتَ فِي عَلْوَائِهِ
كَمْ شَاهَدَتْ عِينَاكَ ِمْن مَلِكٍ غَدَا ... يَخْتَالُ بَيْنَ جِيُوشِهِ وَلِوَائِهِ
مَلأَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُؤُوسًا حُلْوةً ... وَسَقَتْهُ مُرَّ السُّمِ فِي حَلْوائِهِ
مَا طَلَّقَ الدُّنْيَا اخْتِيارًا إِنَّمَا ... هِيَ طَلْقَتْهُ وَمَتَّعَتْهُ بِدَائِهِ
جَعَلَتْ لَهُ الأَكْفَانَ كسْوَةَ عُدَّةِ ... وَاللَّحْدَ سُكْنَاهُ وَبَيْتَ بَلائِهِ
وَيَضُمُّهُ لا مُشْفِقًا فِي ضَمِّهِ ... حَتَّى تَكُونَ حَشَاهُ في أَحْشَائِهِ
وَهُنَاكَ يُغْلَقُ لَحْدُهُ عَنْ أَهْلِهِ ... بِحِجَارَةٍ وَبَطِينَةٍ وَبِمَائِهِ
وَيَزُورُهُ الْمَلكَانِ قَصْدَ سُؤَالِهِ ... عَنْ دِينِهِ لا عَنْ سُؤالِ سِوَائِهِ
فَإِذَا أَجَابَ بـ (لَسْتُ) أَدْرِي أَقْبَلاً ... ضَرْبًا لَهُ فِي وَجْهِهِ وَقَفَائِهِ
وَيَرَىَ مَنَازِلَهُ بقَعْرِ جَهَنَّمِ ... وَيُقيمُ فِي ضِيقِ لِطُولِ عِنَائِهِ(1/354)
يَا رَبِّ ثَبِّتْنَا بِقَوْلٍ ثَابِتٍ ... عِنْدَ امْتِحَان العَبدِ تَحْتَ ثَرَائِهِ
أَنَا مُؤْمَنٌ باللهِ ثُمَّ بِرُسْلِهِ ... وَبِكُتُبِهِ وَبِبَعْثِهِ وَلِقَائِهِ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ... وَالآلِ أَهْلِ البيتِ أَهْل كِسَائِهِ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُه الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأكنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائحِ والْمَعَائبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُ بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنِبٍ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة
إخْوَانِي أَيْنَ أَحْبَابُكُمْ الذين سَلَفُوا أَيْنَ أَتْرَابُكم الذين رحَلُوا وَانْصَرَفُوا أَيْنَ أَصْحَابُ الأَمْوَالِ وَمَا خَلَّفُوا.
نَدَمُوا وَاللهِ عَلَى التَّفْرِيط يَا لَيْتَهُمْ عَرَفُوا هَوْلَ مَقَامِ يَشِيبُ منه الوليد، إذا {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
فَوَاعَجَبًا لَكَ كُلَّمَا دُعِيتَ إِلى اللهِ تَوَانَيْت، وَكُلَّمَا حَرَّكَتْكَ الْمَوَاعظُ إِلى الخيراتِ أَبُيت، وعلى غَيَّكَ وَجَهْلِكَ تَمَادَيْت، وَكَمْ حُذِّرت مَن الْمَنُون فما التَفَتَّ إلى قول الناصِحِ وَتَركْتَهُ وما بَالَيْت.
يا مَنْ جَسَدُهُ حَيٌ وَلَكِنْ قلبه مَيْت، سُتَعَاين عند قُدُومِ هَادِم اللَّذاتِ مَا لا تَشْتَهِي وَتُرِيد {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
كم أَزْعَجَ الْمَوتُ نُفُوسًا مِنْ دِيَارِهَا، وَكَمْ أَتَلَفَ البَلَى من أجسادٍ مُنَعَّمَةٍ
لَمْ يُدَارِهَا، وَكَمْ أَذَلَّ في التُّرَابِ وَجُوهًا نَاعِمَةً بَعْدَ رِفْعَتِهَا وَاسْتَقْرَارِهَا.(1/355)
انتبه يا أخي فالدنيا أَضْغَاثُ أحلام، ودارُ فَنَاءٍِ لَيْسَتْ بدَارِ مَقَام سَتَعْرِفُ وتفهم نُصْحِي لَكَ بعدَ أيام.
وما غابَ عَنْكَ سَتَراه على التمام إذ أُكُشفَ الغِطاء عَنْكَ وَصَارَ بَصرُكَ حَديد، وهناك تَنْدَمُ ولاتَ ساعَة ندم.
شِعْرًا:
قُلْ للَّذِي أَلِفَ الذَّنُوبَ وَأَجْرَمَا ... وَغَدَا عَلَى زَلاتِهِ مُتَنَدِّمًا
لا تَيْأَسَنْ واطْلُبْ كَرِيمًا دَائِمًا ... يُولِي الجَمِيلِ تَفْضُّلا وَتَكَرُّمَا
يَا مَعْشَرَ العَاصِينَ جُودٌ وَاسِعٌ ... عِنْدَ الإِله لِمَنْ يَتُوبَ وَيَنْدَمَا
يَا أَيُّهَا العَبْدُ الْمُسِيء إلى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ فِي عَسَى وَلَرُبَّمَا
بَادِرْ إِلى مَوْلاكَ يَا مَنْ عُمْرُهُ ... قَدْ ضَاعَ فِي عِصْيَانِهِ وَتَصَرَّمَا
وَاسْأَلَهُ توفِيقًا وَعَفْوًا ثَم قُلْ ... يَا رَبَّ بَصِّرْنِي وَزِلْ عَنِّي العَمَا
ثُمَّ الصلاةُ على النبي أَجَلُّ مِنْ ... قَدْ خَصَّ بالتَّقْرِيبِ مِنْ رَب السَّمَا
وَعَلى صَحَابتِهِ الأفاضَلِ كُلِّهِم ... مَا سَبَّحَ الدَّاعِي الإِلهَ وَعَظَّمَا
اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلكِ حَزبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عَبِادَكِ الْمُخْلِصِينَ النَّبِيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهداء والصالِحِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقَلٍ تَنَاوُلُ مُفَطِّرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهرِ كُلَّهِ وَإِنْ صَامَهُ» .
وَعَنْ أَبِِي أُمَامَةَ البَاهِلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(1/356)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلانِ، فَأَخَذَا بَضَبْعَيَّ، فَأَتِيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا فَقَالا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لا أُطِيقُهُ، فَقَالا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعَدْتَ حَتَّى إِذَا كُنْتَ فِي سََرَاةِ الجَبَلِ إِذَا بَأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتَ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ؟ قَالا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةً أَشْدَاقهُم، تَسِيلُ أَشْدَاقهُم دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: الذين يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ» . الحَدِيثِ رَوَاهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ حِبَّانِ في صَحِيحِهِمَا.
وَمِمَّا يَحْرُمَ عَلَى الصَّائِمِ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الفَجْرِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ تَعَالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} .
فَمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مُخْتَارًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَبْطَلَهُ، لأَنَّهُ فَعَلَ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
2- حُكْمُ مَا إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا:
وَلا يُفْطِرُ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ» .
وَرَوىَ الْحَاكِمُ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَفْطَرَ في رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلا كَفَّارَةَ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَسَدَ صَومُهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءٌ» .
وَمَنْ ذَرَعَهُ القَيءُ فَلا شَيءَ عَلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقِيءُ فَلا قَضَاءَ عَلْيهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ القْضَاءُ» .(1/357)
وَمِمَّا يُفْطِرُ: الْحِجَامَةُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ شَدَّادِ بن أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَى عَلى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ وَهُو يَحْتَجِمُ في رَمَضَان، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ والْمَحْجُومُ» .
وَعَنْ رَافِعَ بِنْ خدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ والْمَحْجُومُ» .
وَمِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ، وَيُبْطِلُ صِيامَهُ الْجِمَاعُ في نَهَارِ رمَضَانَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ والْكَفَّارَةُ، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعُ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوُسٌ عِنْدَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولُ اللهِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ» ؟ . قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً» ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: «اجْلِسْ» . وَمَكَثَ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلى ذَلِكَ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ - قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ» ؟ قَالَ: أنا قَالَ: «خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ» . فقَالَ الرجل: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنّي يَا رَسُول الله؟ ، فوللهِ ما بَيْنَ لا بَيْتِها - يُرِيدُ الحَرَّتَيْن - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَتَحْرُمُ الْمُبَاشَرَةُ فِيهَا دَوْنَ الفَرْجِ إِنْ ظَنَّ إِنْزَالا، فَإِنْ بَاشَرَ فِيهَا دُونَ الفَرْجِ، فَأَنْزَل مَنِيَّا فَسَدَ صَوْمُهُ، لأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الجِمَاعَ.
وَمِمَّا يُفَطِّرُ: (الرِّدَّةُ عَنْ الإسْلامَ - أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا) قَالَ اللهُ(1/358)
تَعَالى: {لََئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزُّمَر: 65) .
وَقَالَ تَعَالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . (الْمَائِدَة: 5) .
وَمِمَّا يُفَطِّرُ: إِيصَالُ الأَغْذِيةِ بَالإبْرَةِ إلى الجَوْفِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الأَكْلِ وَالشَّرْبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَأَمَّا الحُبُوبُ الغِذَائِيَّةِ وَالدَّوَائِيَّةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ فَيُفْطِرُ مَنْ أَكَلَهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ إِنَّ قَوَارِعَ الأَيَّامِ خَاطِبَةٌ، فَهَلْ أُذُنٌ لِعِظَاتِهَا وَاعِيةٌ، وَإِنَّ فَجَائِعَ الْمَوْتِ صَائِبَةٌ فَهَلْ نَفْسٌ لأَمْرِ الآخِرَةِ مُرَاعِيَةٌ، إِنَّ مَطَالِعَ الآمَالَ إِلى الْمُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ سَاعِيَةٌ أَلا فَانْظُرُوا بِثَواقِبِ الأَبْصَارِ وَالبَصَائِرِ فِي نَوَاحِي الجِهَاتِ وَالأقْطَارِ فَمَا تَرَوْنَ فِي حُشُودِكُمْ وَجُمُوعِكُمْ إلا الشَّتَاتَ وَلا تَسْمَعُوا فِي رُبُوعِكُم إلا فُلانٌ مَرِيضٌ وَفُلانٌ مَاتَ، أَيْنَ الآبَاءُ الأَكَابِرُ؟ أَيْنَ العُلَمَاءُ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الذين لا تَأْخُذُهُمْ فِي الله لَوْمَةُ لائِمٍ الْمُنَاصِحُونَ لَوْلاتِهِمْ وَأَمَّتِهم الزَّاهِدُونَ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ؟ أَيْنَ الكُرَمَاءُ الأَفَاضِلُ الذِينَ يَغَارُونَ إِذَا انْتُهِكَتْ المَحَارِمُ؟ أَيْنَ الهَاجِرُونَ الْمُصَارِمُونَ لِلفَاسِقِ وَالفَاجِرِ؟ أَيْنَ الْمُنَاصِرُونَ لِلْقَائِمِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؟ أَيْنَ أَهْلُ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ المُحِبُّونَ في اللهِ الْمُبْغِضُونَ لأَعْدَائِهِ؟
أَيْنَ الْمُنَقُّونَ لِمَآكِلِهِمْ وَمَلابِسِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ عَنْ الحَرَامِ وَالْمُشْتَبِهِ وَهُوَ مَا كَانَ القَلْبُ في الأَقْدَامِ عَلَيْهِ وَالكَفِّ عَنْهُ حَائِرٌ؟
أَيْنَ الذينَ لا يَسْكُنُونَ إِلا بِرِضَا صَاحِبِ الْمُلْكِ خَوْفًا مِنْ الْمُخَاطَرَةِ(1/359)
فِي صَلاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ وَمُكْثِهِمْ فِي الأَمْلاكِ الْمَسْكُونَة قَهْرًا وَغَضْبًا؟
أَيْنَ الْمُتَفَقِّدُونَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الذِينَ لَيْسَ لَهُم مَوَارِدٌ؟
عَثَرَتْ واللهِ بِهِمْ العَوَاثِرُ وَأَبَادَتْهُمْ السِّنِينُ الغَوَابِرُ، وَبَتَرَتْ أَعْمَارُهُم الحَادِثَاتُ البَوَاتِرُ وَاخْتَطَفَهَمُ عَقَبَاتٌ كَوَاسِر. وَخَلَتْ مِنْهُمْ الْمَشَاهِدُ وَالْمَحَاضِرُ وَعُدِمَتْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ تِلْكَ الجَوَاهِرُ وَطَفِئَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ الأَنْوَارُ الزَّوَاهِرُ وَابْتَلَعَتْهُمْ الحُفَرُ وَالْمَقَابِرُ إِلي يَوْمِ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَلَوْ كُشِفَتْ عَنْهُمْ أَغْطِيَةُ القُبُورِ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثِ لَيَالٍ لَرَأَيْتَ الأَحْدَاقَ عَلَى الخُدُودِ سَائِلَةٌ وَالأوْصَال بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مَائِلَةٌ وَدِيدَانَ الأَرْضِ فِي نَوَاعِمِ تَلْكَ الأَبْدَانِ جَائِلَةٌ وَالرُّؤُوسَ الْمُوَسَّدَةُ عَلَى الإِيمَانِ زَائِلَةً يُنْكِرُهَا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَيَنْفُرُ عَنْهَا مَنْ لَمْ يَزَلْ آلِفًا بِهَا.
فَلا يُعْرَفُ السَّيدُ مِنْ الْمَسُودِ وَلا الْمَلِكَ مِنْ الْمَمْلُوكِ وَلا الذَّكِيُّ مِنْ البَلِيدِ وَلا الغَنيُّ مِنْ الفَقِيرِ فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا بَادَرَ بالإقْلاعِ عَنْ السَّيِّئَاتِ وَوَاصَلَ الإِسْرَاعَ وَالْمُبَادَرَةَ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ مُدَدِ الأَوْقَاتِ وَطَيِّ صَحَائِفِ الْمُسْتَوْدَعَاتِ وَنَشْرِ فَضَائِحِ الاقْتِرَافَاتِ وَالجِنَايَاتِ فَلا تَغْتَرُّوا بِحَيَاةٍ تَقُودُ إلى الْمَمَاتِ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّمَا تُوْعَدُونَ لآتٍ فَالبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا الْمُهْلَةَ وَهَيْهَاتَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِفْظَ جَوَارِحِنَا عَنْ الْمَعَاصِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِنْ الحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالإحَنْ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَعُضَالِ الدَّوَاءِ وَخَيْبَةُ الرَّجَاءِ وَزَوَال النِّعْمَةِ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بَالصَّلِحِينَ غَيْرَ(1/360)
خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْرًا:
نَمْضِي عَلَى سُبُلٍ كَانُوا لَهَا سَلَكُوا
أَسْلافُنَا وَهُمُ لِلدِّين ِقَدْ شَادُوا
لَنَا بِهِمْ أُسْوَةٌ إِذْ هُمْ أَئِمَّتُنَا
وَنَحْنُ لِلْقَوْمِ أَبْنَاءٌ وَأَحْفَادُ
وَالصَّبْرُ يَا نَفْسُ خَيْرٌ كَلُّهُ وَلَهُ
عَوَاقِبٌ كُلُّهَا نُجْحٌ وَإِمْدَادُ
فَاصْبِرْ هُدِيتََ فَإِنَّ الْمَوْتَ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَ الأَنَامِ وَإِنْ طَاوَلْنَ آمَادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفَلاتٍ عَنْ مَصَارِعِهِمْ
كَأَنَّهُمْ وَهُمْ الأَيْقَاظُ رُقَّادُ
دُنْيَا تَغُرُّ وَعَيْشٌ كُلُّهُ كَدَرٌ
لَوْلا النُّفُوسُ التِي لِلْوَهْمِ تَنْقَادُ
كُنَّا عَدَدْنَا لِهَذَا الْمَوْتِ عُدِّتَهُ
قَبْلَ الوَفَاةِ وَأَنْ تُحْفَرْنَ أَلْحَادُ
فَالدَّارُ مِنْ بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخِرَةٌ
تَبْقَى دَوَامًا بِهَا حَشْرٌ وَمِيعَادُ
وَجَنَّةٌ أُزْلِفَتْ لِلْمُتَّقِينَ وَأَهْـ
ـلُ الحَقِّ وَالصَّبْرِ أَبْدَالٌ وَأَوْتَادُ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ وَلا
تَعْجَلْ وَتَكْسَلْ فَإِنَّ الْمَرْءَ جَهَّادُ(1/361)
لا يَنْفَعُ العَبْدَ إلا مَا يُقَدِّمَهُ
فَبَادِرِ الفَوْتَ وَاصْطَدْ قَبْلَ تصْطَادُ
وَالْمَوْتُ لِلْمُؤْمِنِ الأَوَّابِ تُحْفَتُهُ
وَفِيهِ كُلُّ الذي يَبْغِي وَيَرْتَادُ
لِقَا الكَرِيمِ تَعَالى مَجْدُهُ وَسَمَا
مَعَ النَّعِيمِ الذي مَا فِي أَنْكَادُ
فَضْلٌ مِنْ اللهِ إِحْسَانٌ وَمَرْحَمَةٌ
فَالْفَضْلُ للهِ كَالآزَالِ آبَادُ
فَالظَّنُ بِاللهِ مَوْلانَا وَسَيِّدِنَا
ظَنٌ جَمِيلٌ مَعَ الأَنْفَاسِ يَزْدَادُ
نَرْجُوهُ يَرْحَمُنَا نَرْجُوهُ يَسْتُرْنَا
فَمِنْه لِلْكُلِّ إِمْدَادٌ وَإِيجَادُ
نَدْعُوه نَسْأَلُهُ عَفْوًا وَمَغْفِرَةً
مَعْ حُسْنِ خَاتِمَةٍ فَالعُمْرُ نَفَّادُ
وَقَدْ رَضِينَا قَضَاءَ اللهِ كَيْفَ قَضَا
وَاللُّطْفَ نَرْجُو وَحُسْنُ الصَّبْرِ إِرْشَادُ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِجَ المُتَّقِينِ، وَخُصَّنَا بِالتَّوْفيقِ المُبِينُ، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنَ المقَرَّبِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل: 3- بَعْضُ فَوَائِدِ الصِّيَامِ:
عِبَادَ اللهِ إِنَّ لِشَهْرِ رَمَضَانَ شَرَّفَهُ اللهُ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ وَمَنَافِعُ جَمَّةٌ وَآثَارٌ(1/362)
حَسَنَةٌ فَهُوَ يَضْبِطُ النَّفْسَ وَيُطْفِئُ شَهْوَتَهَا فَإِنَّهَا إِذَا شَبِعَتْ تَمَرَّدَتْ فِي الغَالِبِ وَسَعَتْ فِي شَهَوَاتِهَا، وَإِذَا جَاعَتْ سَكَنَتْ وَخَضَعَتْ وَامْتَنَعَتْ عَنْ مَا تَهْوَى، فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذَلِكَ أَنَّهُ يَكسِر مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَكَانَ الصَّوْمُ وَسِيلَةً إلى كَفِّ النَّفْسِ عَنْ الْمَعَاصِي، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، فَالصِّيَامُ يُرَبِّي في الإِنْسَانِ الفَضَائِلَ وَالإِخْلاصَ وَالأَمَانَةَ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الشَّدَائِدَ، لأَنَّهَا إِذَا انْقَادَتْ للامْتِنَاعِ عَنْ الحَلالِ مِنْ الغَذَاءِ الذي لا غِنَى لَهَا عَنْهُ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالى وَخَوْفًا مِِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ.
فَالأحْرَى بِهَا أَنْ تَتَمَرَّنَ عَلَى الامْتِنَاعِ عَنْ الحَرَامِ الذي هِيَ غَنِيَّةٌ عَنْهُ وَتُبْعِدَ عَنْهُ كُلَّ البُعْدِ فَلا يَغْدُرُ وَلا يَخُونُ وَلا يُخْلِفُ وَعْدًا وَلا يَكْذِبَ وَلا يُرَائِي.
فَإِذَا وَفَّقَهُ اللهُ لِصَوْنِ صِيَامِهِ عَنْ الْمُفْسِدَاتِ وَالْمُنْقِّصَاتِ فَالصَّوْمُ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ سَبَبٌ فِي اتِّقَاءِ المَحَارِمِ وَقُوَّةِ العَزِيمَةِ وَالتَّحَلِّي بالفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنْ الرَّذَائِلِ، وَإِلى هَذَا أَشَارَ جَلَّ وَعَلا بِقَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فَالصَّوْمُ يَدْعُو إلى شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ، إِذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الطَّعَام وَالشَّرَابِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَكُلَّ هَذَا مِنْ جَلائِلِ نِعَمِ اللهِ عَلى خَلْقِهِ.
وَالامْتِنَاعِ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إلى آخِرِهِ يُعَرِّفُ الإنْسَانَ قَدْرَهَا، إِذْ لا يُعْرَفُ فَضْلُ النِّعْمَةِ إلا بَعْدَ فَقْدِهَا فَيَبْعَثُه ذَلِكَ عَلَى القِيَامِ بِشُكْرِهَا وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَلَى العِبَادِ، وَإِلى هَذَا(1/363)
أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وَأَيْضًا فَالصِّيَامُ يَبْعَثُ في الإِنْسَانِ فَضِيلَةَ الرَّحْمَةِ بَالْفُقَرَاءِ وَالعَطْفِ عَلَى البَائِسِينَ، فَإِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الجُوعِ في بَعْضِ الأَوْقَاتِ تَذَكَّرَ الفَقِيرَ الجَائِعَ فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ فَيُسَارِعُ إلى رَحْمَتِهِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ. قِيلَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ كَثِيرَ الجُوعِ: لِمَ تَجُوعُ وَأَنْتَ عَلى خَزَائِنِ الأرْضِ. فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الجَائِعَ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُنَقِّي الجِسْمَ مِنْ الفَضَلاتِ الرَّدِيئَةِ وَرُطُوبَاتِ الأَمْعَاءِ، وَيَشْفِي كَثِيرًا مِنْ الأَمْرَاضِ بَإِذْنِ اللهِ تَعَالى، وَفِيهِ مِنْ الْمَزَايَا الصَّحِيَّةِ مَا شَهِدَ بِهِ العَدُوُّ قَبْلَ الصَّدِيقِ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ.
وَمَنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ أَنَّهُ يُقَوِّي النَّفْسَ عَلَى البَّرِ وَالحِلْمِ وَهُمَا تَجَنُّبِ كُلِّ مَا مَنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ الغَضَبِ لأَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَا رَوَاهُ النِّسَائِي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ في حَدِيثِهِ الطَّويلِ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلا أَدُلَكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنْ العَذَابِ وَمِنْ الأخْلاقِ السَّيِّئَةِ.
وَمِنْ يُلاحِظْ حَالَ الصَّائِمِينَ الْمُوَفِّقِينَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَحَرِّي الطَّاعَةِ وَتَحرِّي سُبُلَ الخَيْرَاتِ وَالابْتِعَادِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالرَّغْبَةِ فِي الإحْسَانِ يُدْرِكُ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الهِدَايَةِ، وَيُدْرِكُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وَيُدْرِكُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» . وَيُدْرِكُ مَا فِيهِ مِنْ تَهْذِيبِ النَّفْسِ(1/364)
وَتَطْهِيرِهَا مِنْ الأَخْلاقِ الْمَوْبُوءَةِ وَتَرْوِيضِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَإعْدَادِهَا لِلسَّعَادَتَيْنِ الدُّنْيَويَّةِ وَالأَخْرَوِيَّةِ، وَحَسْبُكَ فِي فَضْلِ الصِّيَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» .
يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَذَرُ شَهَوَتِهِ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ لأَجْلِي فَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» . قَالَ ابْنُ القَيمِّ رَحِمَهُ اللهُ وَقَدْ اخْتُلِفَ في وُجُودِ هَذِهِ الرَّائِحَةِ مِنْ الصَّائِمِ هَلْ هِيَ فِي الدُّنْيَا أَوْ في الآخِرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفَصْلُ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ حَيْثُ أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَأَنَّ ذَلِكَ الطِّيبَ يَكُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلأَنَّهُ الوَقْتُ الذي يَظْهَرُ فِيهِ ثَوَابُ الأَعْمَالِ وَمُوجِبَاتِهَا مِنْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيَظْهَرُ لِلْخَلْقِ طِيْبُ ذَلِكَ الخُلُوفُ عَلَى الْمِسْكِ كَمَا يَظْهَرُ فِيهِ دَمُ الْمَكْلُومِ فِي سَبِيلِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ وَكَمَا تَظْهَرُ فِي السَّرَائِرِ وَتَبْدُو عَلَى الوُجُوهِ وَتَصِيرُ عَلانِيَّةً وَيَظْهَرُ فِيهِ قُبْحُ رَائِحَةِ الكفَّارِ وَسَوادُ وُجُوهِهمْ وَحَيْثُ أَخْبَرَ بَأَنَّ ذَلِكَ حِينَ يَخْلُفُ وَحِينَ يُمْسُونَ فَلأنَّهُ وَقْتُ ظُهُورِ أَثَرِ العِبَادَةِ وَيَكُونَ حِيَنَئذٍ طِيبُهَا عَلَى رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى وَعِنْدَ مَلائِكَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الرَّائِحَةُ كَرِِيهَةُ لِلْعِبَادِ.
فَرُبَّ مَكْرُوهٍ عِنْدَ النَّاسِ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالى وَبَالْعَكْسِ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُ لِمُنَافَرَتِهِ لِطَبَاعِهِمْ وَاللهُ تَعَالى يَسْتَطِيبُهُ وَيُحِبُّهُ لِمَوَافَقَتِهِ لأَمْرِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ فَيَكُونُ عِنْدَهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَنَا فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ ظَهَرَ هَذَا الطِّيْبُ لِلْعِبَادِ وَصَارَ عَلانِيَةً.
وَهَكَذَا سَائِرُ آثَارِ الأَعْمَالِ مِنْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِنَّمَا يَكْمُلُ ظُهُورُهَا وَيَصِيرُ عَلانِيَةً فِي الآخِرَةِ.
شِعْرًا:
لله قومٌ أَخْلَصُوا في حُبِّهِ ... فَكَسَا وجُوهَهُمُ الوَسِيمَةَ نُورَا(1/365)
ذَكَرُوا النَّعِيمَ فَطَلَّقُوا دُنْيَاهُمُوا ... زُهْدًا فَعوضَهُمْ بِذَاكَ أُجُورَا
قَامُوا يَنُاجُون الإِلهَ بَأَدْمُعٍ ... تَجْرِي فَتَحْكِي لؤْلُؤًا مَنْثُورَا
سَتَرُوا وَجُوهَهُمُوا بَأسْتَارِ الدُّجَى ... لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بِدُورَا
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوا بَالذِي ... وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظَّهُمْ مَوْفُورَا
وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِينَهُمْ ... وَشَهِدْتَ وَجْدًا مِنْهُمُوا وَزَفِيرَا
تَعَبُوا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهم ... فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيرَا
صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا ... يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيرَا
يَا أَيُّهَا الغِرُّ الحَزِينُ إِلى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُورَا
بَادِرْ زَمَانَكَ وَاغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ ... وَاحْذَرْ تَوَانَاكَيْ تَحُوزَ أُجْورَا
وَاضْرَعْ إِلى الْمَوْلى الكَرِيمِ وَنَادِهِ ... يَا وَاحِدًا فِي مُلْكِهِ وَقَدِيرَا
مَا لِي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي ... وَإِذَا رَضِيتَ فِنْعَمَةً وَسُرُورَا
اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِهُدَاكَ إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيم وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ عَلَى الوَجْه الْمَطْلُوبِ يَا كَرِيمُ وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِمَّنْ أَتَاكَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فصل) : يَجُوزُ لِمَنْ جَامَعَ بِاللَّيْل أَنْ لا يَغْتَسِل حَتَّى يَطْلَعِ الفَجْرِ، وَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنِي الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ» . فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» .
وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَصُومُ في رمضان) .(1/366)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لا حُلُمٍ، ثُمَّ لا يُفْطِرُ وَلا يَقْضِي.
لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَزِمَهُ الغُسْلُ لَيْلاً مِنْ جُنُبٍ وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ انْقَطَعَ دَمَّهَا، وَكَافِرٍ أَسْلَمَ، أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ الثَّانِي.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ في نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً وَجَبَ عَلَى مَنْ رَآهُ إِعْلامُهُ لأَنَّهُ مِنْ بَابِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي الْمُنْكَرِ، وَمِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِ.
وَمَنْ أَكَلَ شََاكًّا فِي طُلُوعِ الفَجْرِ، وَدَامَ شَكُّهُ، فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِظَاهِرِ الآيَةِ، وَإِنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَلَمْ تَغِبْ فَعَلَيْهِ القَضَاءِ، لِمَا رَوَى هِشَام عَنْ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ امْرأَتُهُ عَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) . قِيلَ لِهِشَامِ بن عُرْوَةَ - وَهُوَ رَاوِي الحَدِيثِ - أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: لاَ بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ؟
وَلا يَفْسُدُ صَوْمُ مَنْ طَارَ إِلى حَلْقِهِ ذُبُابٌ، أَوْ غُبَارٌ مِنْ طَرِيقٍ، أَوْ دَقِيقٍ أَوْ دُخَانٍ، لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَأَمَّا الدُّخَانُ الذي بُليَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمُحَرَّمٌ وَيُفْطِرُ مِنْ شَرِبَهُ.
وَلا يُفْطِرُ إنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُفِي لأَمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ» .
وَلا يُفْطِرُ إِنْ احْتَلَمَ، لأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ.
وَمَنْ اغْتَسَلَ، أَوْ تَمَضْمَضَ، أَوْ اسْتَنْشَقَ فَدَخَلَ الْمَاءُ إلى حَلْقِهِ بِلا(1/367)
قَصْدٍ، لَمْ يفْسُدْ صَوْمِهِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أنَّ عَائِشَةِ وَأَمِّ سَلَمَةٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَتَا: (نَشْهَدُ عَلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ) .
وَتُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ لِلصَّائِمِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ، إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . وَاللهُ أَعْلَم.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءة بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتِنَا رَطِبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةَ لأَمْرِكَ وَارْزَقْنَا الزُّهْدَ في الدُّنْيَا وَالإِقْبَالَ عَلَى الآخِرَةِ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : 2 - ذِكْرُ أَشْيَاءَ تَحْرُمُ وَيَتَأَكَّدَ تَحْرِيمُهَا فِي حَقِّ الصَّائِمِ:
يَجبُ اجْتِنَابُ كُلِّ كِذْبٍ مُحَرَّمٍ، أَمَّا الكَذِبُ لِتَخْلِيصِ مَعْصُومٍ مِنْ قَتْلِ فَوَاجبٌ. قُلْتُ: وَيَتَرجَّحُ عِندي مِثْلُهُ أَيْضًا تَخْلِيصُ مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَاصِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمَالُ مُثْمَنٌ وَالأَحْسَنُ يَتَأَوَّلُ، وَلإصْلاحٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْن فَمُبَاحٌ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولَُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِى خَيْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدَّاعِي إلى الكَذِب مَحَبَّةُ النَّفْعِ الدُّنْيَوِي وَحُبُّ التُّرَاثِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَرَى أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى الْمُخْبَر بِمَا عَلَّمَهُ فَهُوَ يَتْشَبَّهُ بِالعَالِمِ الفَاضِلِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْلِبُ بِمَا يَقُولُهُ فَضْلاً وَمَسَرَّةً وَهُوَ يَجلِبُ بِهِ نَقْصًا وَفَضِيحَةً فَالكذِبُ رَذِيلَةٌ مَحْضَةٌ مِنْ أَرْذَلِ الرَّذَائِلِ يُنْبِئُ عَنْ تَغَلْغُلِ الفَسَادِ فِي نَفْسِ صَاحِبَها وَعَنْ سُلُوكٍ يُنْشِئُ الشَّرَّ إنْشَاءً فَالكَذِبُ يَتَصَدَّعُ(1/368)
بِهِ بُنْيَانُ المَجْتَمَعِ وَبِهِ يَخْتَلُّ سَيْرُ الأُمُورِ، وَيُسْقِطُ صَاحِبَهُ مِنْ العُيُونِ وَلا يُوثَقُ فِي قَوْلِهِ، وَلا يُوثَقُ بِهِ فِي عَمَلٍ، وَلا يَرْغَبُ لَهُ مَجْلِسٌ، وَأَحْادِيثُهُ عِنْدَ النَّاسِ مَتْرُوكَةٌ، وَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُطْبَعُ الْمُؤمِنُ عَلَى الخِلالِ كُلَّهَا إِلا الخِيَانَةَ وَالكذِبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ بَهْزِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «وَيْلٌ لِلْذِي يُحَدِّثُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» .
وَعَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعَلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤمِنُ كذَّابًا قَالَ: «لا» . الحَدِيثِ رَوَاهُ مَالِكُ، وَالبَيْهَقِي فِي شُعَبْ الإِيمَانِ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: إِيَّاكَ وَالكَذِبَ فَإنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصَوُّرَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصْوِيرَهَا وَتَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ فَإنَّ الكَاذِبَ يُصَوِّرُ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَالْمَوْجُودَ مَعْدُومَا وَالحَقَّ بَاطِلاً وَالبَاطِلَ حَقًّا وَالخَيْرَ شَرًّا فَيُفْسَدُ عَلَيْهِ تَصْوُّرَهُ وَعِلْمَهُ عُقُوبَةً لَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ الْمُغْتَرِ بِهِ الرَّاكِنُ إِلَيْهِ فَيُفسِدُ عَلَيْهِ تَصَوُّرَهُ وَعِلْمَه وَنَفْسُ الكَاذِبِ مُعْرِضَة عَنْ الحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ تَرَّاعَةٌ إِلى العَدَمِ مُؤْثِرَةٌ لِلْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ الكَذِبُ أَسَاسُ الفُجُورِ.(1/369)
كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ» . وَأَولُ مَا يَسْرِي الكذِبُ مِنْ النَّفْسِ إِلى اللِّسَانِ فَيُفْسِدُهُ ثُمِّ يَسْرِي إلى الجَوَارِحِ فَيُفْسِدُ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا كَمَا أَفْسَدَ عَلَى اللسَانِ أَقْوَالِهِ فَيَعُمُّ الكَذِبَ أَقْوَالَهُ وأعْمَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فَيَسْتَحْكِمُ عَلَيْهِ الفَسَادُ وَيَتَرَامَى دَاؤهُ إلى الهُلَكَةِ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِدَوَاءِ الصِّدْقِ بِقَلْعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ أَصْلِهَا.
وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ أَعْمَالِ القُلُوبِ كُلِّهَا الصِّدْقَ وَأَضْدَادُهَا مِنْ الرِّيَاءِ وَالعُجْبِ وَالكِبُرِ وَالفَخْرِ والخُيلاءِ وَالبَطَرِ وَالأشَر والعَجْزِ وَالكَسَلَ وَالجُبْنِ وَالْمَهَانَةِ وَغَيْرِهَا أَصْلُهَا الكَذِبُ فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ فَمَنْشَؤُهُ الصِّدْقُ وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ فَمَنْشَؤُوهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تَعَالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بَأَنْ يُقْعِدَهُ وَيُثَبِّطَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَمَنَافِعِهِ وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بَأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
وكان الصدق في صدر الإسلام أساسًا في القول والعمل والمعاملة، وخصوصًا فيما يتعلق بالدين وحفظ الحديث.
فقد وُرِثَتْ عن العُلماء الأوائل عُلومُ الدين مَضْبُوطة كامِلَةً كَمَا أُنزِلَت على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحَدَّث عنها.
وكان عُلماءُ الدين وجامِعُوا أَحَادِيثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَحرونَ صِدقَ الُمَحِّدِث بِشَكْلٍ عَجِيبٍ.
يَدْرُسُونَ حَيَاتَه وَيَتَحقَّقونَ مِنْ أَقواله وأَعماله وأنه يأكل مِنْ كسْب يَدِهِ وَلَمْ يَدخل على سلطان في صُحْبَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ.
وَأنه يُطبّقُ تَعَالِيمَ الدِّينِ كَاملةً ولم تُعْهَدْ عليه كِذْبَة في حَيَاته. فعندها يُؤْخَذُ عنه الحديث النبوي.(1/370)
ومثالٌ عَلَى مَا ذُكِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سَمِعَ بِوجُودِ حَدِيثٍ عندَ عَالمٍ بدمَشق فسافَر إليهِ مِنْ بغداد حتى وَصَل دمشق فمكث مُدَّةً يسأل عن العالم وعن أخلاقه وَمُعَامَلِته وكلامه.
حتى إذا وَثَقَ مِن صِدقه أتاه مُبَكِّرًا بعد أن اغتسل وتطيب ولبس أحسنَ ثيابِه إجْلالاً لِلْحَدِيثِ وَلِمَنْ يحمله.
ولما اقتربَ مِن بَيْته وَجَدَ العَالِمَ خارجًا مِن بَيْتهِ يَقودُ حِمارَهُ وقد كان حَمَالاً يَكتَسِبُ رِزقَه.
فَرَفَضَ الحِمَارُ أَنْ يَسِيرَ مَعهُ فَحاوَل أَنْ يَجُره أو يسُوقه بمُخْتَلَفِ الوَسَائِلِ وَيأْبَى الحِمار.
فَجَمَعَ لَه طَرفَ جُبَّتِهِ وَقَدَّمَهُ لِلْحِمارِ لِيُوهِمه أَنَّ في الجُبَّةِ شَعِير أَو نحوه فَتَبعَه الحِمَار.
فَنَظَر الإِمام أحمد إلى الجبة فوجَدَهَا خَالِيَةً ما فيها شيء.
فَتَرَكَ أحمدُ العالم والأخْذَ عنه حَيثُ تَبَيَّنَ له كَذبُهُ على الحِمار.
فلا يُؤْتَمَن على الحديث الشريف. أ. هـ.
سَلامِي عَلَى أَهْلِ الحَدِيثِ فَإِنَّنِي ... نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثَ مِن مَهْدِي
هُمُوا بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ... وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايةَ الْجُهْدِ
وَأَعْنِي بِهِ أَسْلافَ أُمَّةِ أَحْمَدٍ ... أُولَئكَ في بَيْتِ القَصِيدِ هُمُوا قَصْدِي
أُوَلئكَ أَمْثَالِ البُخَارِي وَمُسْلمٍ ... وَأَحْمَدَ أَهْلُ الجِدِّ فِي العِلم والجَدِّ
بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنْ الجَزْر إِنَّمَا ... لَهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنْ اللهِ بالمدِّ
رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ ... وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَذَاهِبِ مِنْ وَرْدِ
كَفَاهُمْ كتابُ اللهِ وَالسُّنَةُ التِي ... كَفَتْ قَبْلَهم صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي المَجْدِ
فَمُقْتَدِيًا بَالحقِ كُنْ لا مُقَلِّدَا ... وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ فِي الأَسْرِ بالقدِّ
فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقِّلدِ في الهُدى ... وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بالضِّدِّ(1/371)
فَمَنْ يَقْتَدِي أَضْحَى إِمَام مَعَارَفٍ ... وَكَانَ أُوَيْسًا فِي العِبَادَةِ وَالزُّهْدِ
فَمَا اسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمِثْلِ الصِّدْقِ وَلا مَفَاسِدُهُمَا وَمَضَارُّهُمَا بِمِثْلِ الكَذِبْ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} ، وَقَالَ: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ، وَقَالَ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} .
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِالصِّدِقِ وَلَوْ أَنَّهُ ... أَحْرَقَكَ الصِّدْقُ بِنَارِ الوَعِيدْ
وَاطْلُبْ رِضَى المَوْلَى فَأشقى الوَرَى ... مَنْ أَسْخَطَ المَوْلَى وَأَرْضَى العَبِيدْ
آخر:
عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ
إِنَّ الِّلسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ يَعْتَادُ
مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ
فِي الصِّدْقِ وَالكِذْبِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَرْتَادُ
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ
وَيَتَنَوَّعُ الكَذِبُ إِلى أَنْوَاعٍ، فَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بَأَمْوَالِ النَّاسِ وَأَعْرَاضِهم وَأَنْفُسِهم هُوَ مِنْ أَشَدِّ الكَبَائِرِ وَأَقْبَحِ الجَرَائمِ التي تُضِرُّ بَالْمُجْتَمعِ الإِنْسَانِي، وَتَقْضِي عَلى العَدْلِ، فإنَّ الذِي يَقُولُ الزُّورَ لِيَقْتَطِعَ حُقُوقَ عِبَادِ اللهِ أَوْ يَثْلِمَهُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ الإِنْسَانِيَّةَ وَيُؤْلِمُهَا.(1/372)
وَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِغَضَبِ اللهِ وَكَانَ سَبَبًا في بَثِّ الفَوْضَى وَإِغْرَاءِ الْمُجْرِمِينَ عَلى اقْتِرَافِ الْجَرَائِمْ فَيَنَالُونَ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ وَهُمْ آمِنُونَ مِنْ العُقُوبَةِ لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ شَاهِدَ الزُّورِ يُسَاعِدُهُمْ عَلَى الإفْلاتِ مِنْهَا، وَقَدْ أَكْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَرَ قَوْلِ الزُّورِ وَأَعْظَمَ جُرْمَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بَاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «أَلا وَقَوْلَ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. فَجُلُوسُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ اتِّكَائِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَصَدَّرَ قَوْلُه بَأَدَاةِ التَّنْبِيهِ وَكَرَّرَ كَلِمَتَهُ حَتَّى شَقَّ عَلَى نَفْسِهِ وبَدَا الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَتَمَنَّى أَصْحَابُهُ لَوْ سَكَتَ.
وَقَوْلُ الزُّورِ يَشْمَلُ الشَّهَادَةَ بِالبَاطِلِ وَالْحُكْمَ الْجَائِرَ وَرَمْيَ الأَبْرِيَاءِ وَالْقَوْلَ عَلَى اللهِ بِلا عِلْمٍ.
وَعَنْ خُرَيْمِ بِنْ فَاتِكٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالإشْرَاكِ بِاللَّهِ» . ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وابْنُ مَاجَة.
وَشَاهِدُ الزُّورِ يُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ إِذْ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَيُسِيءُ إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَيُسِيءُ إِلى منْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ في إِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَيُسِيءُ إِلى القَاضِي الذي جَلَسَ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ لِيحُكُم بِهِ وَيُنْصِفَ الضّعَفَاءِ مِنْ الأَقْوِيَاءِ وَيَنْتَزِعَ حَقَّ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمَ بَأَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بِالزُّورِ يُظَلِّلُه وَيَسُدُّ أَمَامَهُ طَرِيقَ الْحَقِّ وَيَفْتَحْ بَابَ البَاطِلِ.
وَبِهَذَا يَشُلُّ يَدَ العَدَالَةِ أَنْ تَقْتَصَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَيُسِيءُ شَاهِدُ الزُّورِ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ لأَنَّهُ يُلَوِّثَهَا بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ وَالفَائِهَةِ(1/373)
القَبِيحَةِ وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ عَائِلَةُ الْمُزَوِّرِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الكَذبَ مِنْ صِفَاتِ النِّفَاقِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ أَتْمِِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتِكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإِخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ فِي أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاحِ قُلُوبِنَا وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في التَّحْذِيرِ مِنْ الغِيبَةِ
وَيَجِبُ اجْتِنَابَ الغَيْبَةِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أَيْ لا يَتَنَاوَلْ بَعْضُكُمْ بَعْضَا بِظَهْرِ الغَيْبِ بِمَا يَسُوؤُهُ ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى لِلْغَيْبَةِ مَثَلاً فَقَالَ: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» ، وَعَنْ البرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَرْبَى الرِّبَى اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» . وَفي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَنَّ مِنْ الكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّل كَلامَهُ إلا في ذكْرِ الله وَمَا وَلاهُ لِيَسْلَمُ وَيَغْنَمْ.(1/374)
أسْنَى كَلامِكَ مَا أَردْتَ بِفِعْلِهِ ... رُشْدًا وَخَيْر كَلامِكَ التَّسْبِيحُ
شِعْرًا:
أَقْلِلْ كَلامَكَ وَاسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهِ ... إِنَّ البَلاءَ بِبَعْضِهِ مَقْرُونُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَفِظْ مِنْ غَيِّه ... حَتَّى يَكُونَ كَأنَّهُ مَسْجُونُ
وَكِّلْ فُؤادَكَ باللِّسَانِ وَقُلْ لَهُ ... إِنَّ الكَلامَ عَلَيْكُمَا مَوْزُونُ
آخر:
إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأكل العَادِي وَمَشْربِهِ ... فَلا تُحَاولْ عَلَى الأَعْراضِ إِفْطَارَا
يَغْدُ عَلَى كَسْبِ دِينَارٍ أَخُو عَمَلَ ... لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا
وَعَنْ سَعِيدِ بن زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالة في عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الغِيبَةُ؟ قِيلَ: قَدْ حَدَّهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» . قَالَ (أحدهم) : أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟
قَالَ: «إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ الغَيْبَةِ التَّمْثِيلِيَّاتِ لِلأَشْخَاصِ وَالْهَيْئَاتِ وَمُحَاكَاتِهِمْ في اللِّبَاسِ عَلَى وَجْهِ التَّنَقُّصِ وَالاسْتِهْتَارِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُنْهَمِكُونَ فِي أَكْلِ لُحُومِ الغَوَافِلِ. فَتَكُونُ الغِيبَةُ بِالتَّعْرِيضِ وَبِالكِنَايَةِ وَبِالْحَرَكَةِ وَبِالرَّمْزِ وَالإِشَارَةِ بِاليَدِ وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ.
فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأَتُ بِيَدِي أَيْ قَصِيرَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اغْتَبْتِهَا» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِي وَصَحَّحَهُ، قَوْلُ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا: قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» .(1/375)
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَنَظَرَ فِي البَابِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيف، قال: مَنْ هَؤُلاء يَا أَخِي يَا جِبْرِيلُ» ؟ قَالَ الذين يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاس» .
شِعْرًا:
عَلامَ رَغِبْتَ بَالأَوْزَار حَتَّى ... رَغِبْتَ عَنْ القِيامِ بَكُلِّ فَرْضِ
بِضُرِّ النَّاسِ كَمْ تَغْدُوا وَلُوْعًا ... بَأَنْيَابِ تُمَزِّقُ كُلَّ عَرْضِ
فَوَاعَجَبًا لِمُغْتَابٍ زَنِيم ... بِزُورِ القَوْلِ وَالبُهْتَانِ يَمْضِي
وَلَمْ يَخْتَرْ سُلُوكًا غَيْرَ غَدْرٍ ... بِهِ قَرْضَ الأَكَارِمَ شَرَّ قَرْضِ
يَظَلُّ عَلَى الفَسَادِ وَلَيْسَ يَدْرِي ... بَأَنَّ الله بَيْنَ النَّاسِ يَقْضِي
آخر:
بَلاءٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ بَلاء ... عَدَاوَةِ غَيْرَ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ
يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ ... وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْض مَصُونِ
آخر:
إِذَا لَؤمَ الفَتَى لَمْ يَخْشَ مِمَّا ... يُقَالُ وَإِنْ تَرَادَفَهُ الملامُ
آخر:
وَذِي حَسَدٍ يَغْتَابُنِي حَيْثُ لا يَرَى ... مَكَانِي وَيُثْنِي صَالحًا حَيْثُ أَسْمَعُ
تَوَرَّعْتُ أَنْ أغْتَابَهُ مِنْ وَرَائِهِ ... بِمَا لَيْسَ فيهِ وَهُوَ لا يَتَوَرَّعُ
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَالغِيبَةُ عَادَةٌ مَرْذُوَلَةٌ، كَثِيرًا مَا تَقْطَعُ الصِّلَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَتُثِيرُ الأَحْقَادَ، وَتُشَتِّتُ الشَّمْلَ، ثُمَّ هِيَ مَعْ ذَلِكَ مَضِيَعَةٌ لِلْوَقْتِ بَالاشْتِغَالِ بِمَا يَضُرُّ الإِنْسَانَ، وَلا يَنْفَعُهُ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ الغِيبَةِ وَخَطَرُهَا وَشَرّهَا فَإِذًا يَجِبُ الإنْكَارُ عَلَى الْمُغْتَابِ وَرَدْعُهُ.(1/376)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ إلا خَذَلَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ امْرَءًا مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ فَلَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلِّهُ اللهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلائِقِ» .
وَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ: لا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ الرَّجُلِ طَفْطَفَتُهُ وَلَكِنْ مِنْ أَدَّى الأَمَانَةَ، وَكَفَّ عَنْ أعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ. وَقَالَ أَيْضًا: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَسْتَبِينَ لَهُ مِنْ النَّاسِ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَمْقَتُ النَّاسَ عَلَى مَا يَأْتِي.
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ الغِيْبَةِ مَعَ تَحْرِيمِهَا شَرْعًا وَعَقْلاً هِيَ عَيْنُ العَجْز وَنَفْسُ اللُؤْمِ وَدَلِيلُ النَّقْصَ تَأبَاهَا العُقُولُ الكَامِلَةُ وَالنُّفُوسُ الفَاضِلَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ انْحِطَاطِ الرُّتْبَةِ وَانْخِفَاضِ الْمَنْزِلَةِ. قَالَ عَلَيُّ بن الْحُسَيْنَ: الغِيْبَةِ إِدَامُ كِلابِ الناسِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَنْ تَنَالَ حَقِيقَةَ الإيمَانِ حَتَّى لا تَعِيبَ النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيكَ وَتَبْدَأَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ مِنْ نَفْسِكَ فَتُصْلِحهُ فَمَا تُصْلِحُ عَيْبًا إِلا تَرَى عَيْبًا آخَرَ فَيَكُونُ شُغْلُكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِكَ. وَقِيلَ لِرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمْ: مَا نَرَاكَ تَعِيبُ أَحَدًا وَلا تَذُمُّهُ فَقَالَ: مَا أَنَا عَلَى نَفْسِي بِرَاضٍ فَأَتَفَرَّغَ مِنْ عَيْبِهَا إلى غَيْرِهَا وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ:
شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيْبِ النَّاسِ مُشْتَغِلاً ... مُثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعْ العِلَلِ
آخر:
وَأُكْرِرُ نَفْسِي عَنْ جَزَاءِ بِغِيبَةٍ ... وَكُلُّ اغْتِيَابٍِ جُهْدُ مَا لا لَهُ جُهْدُ(1/377)
آخر:
إِيَّاكَ إيَّاكَ أَعْرَاضَ الرِّجَالِ فَإِنْ ... رَاقَتْ بِفِيْكَ فَإِنَّ السُّمَ فِي الدَّسَم
آخر: ... إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبِهُمْ ... فَلا عَيْبَ إلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ
فَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالذي هُوَ فِيهَمْ ... فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ
آخر:
يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِ غَيْرِي الذِي ... أَعْرَفُهُ عَنْدِي مِنْ العَيْبِ
عَيْبِي لهمُ بالظن مِنّي بَدَا ... وَلَسْتَ مِنْ عَيْبِي فِي رَيْبِ
إِنْ كَانَ عَيْبِي غَابَ عَنْهُمْ فَقَدْ ... أَحْصَى عُيوبِي عَالم الغَيْبِ
وَبالتَّالِي فَخَطَرُ اللِّسَانِ عَظِيمٌ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الأَعْضَاءِ فَإِنَّ العَيْنَ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالأُذَنُ لا تَصِلُ إلى غَيْرِ الأَصْوَاتِ وَاليَدُ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَجْسَامِ وَاللَّسَانُ يَجُولُ في كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَبِينُ الإيمَانُ مِنْ الكُفْرِ.
لعُمْركَ مَا لِلْمَرْءِ كالرَّبِ حَافِظُ ... وَلَيْسَ سِوَى القُرْآن لِلْمَرْءِ وَاعِظُ
لِسَانك لا يُلقِيكَ فِي الغي لَفَظُهُ ... فَإِنَّكَ مَأْخُوذٌ بِمَا أَنْتَ لافِظُ
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بِنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا يَسْتَقِيمَ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُه وَلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُه حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» .
قُل لِلَّذي لَسْتُ أَدْرِي مِن تَلَوُّنِهِ ... أَنَاصِحٌ أَمْ عَلى غِشٍّ يُداجيني
إِنّي لأَكْثِرُ مِمّا سُمتَني عَجَبًا ... يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْكَ تَأسُوني
تَغتابَني عِنْدَ أَقْوَامٍ وَتَمْدَحُنِي ... في آخَرينَ وَكُلٌّ عَنْكَ يَأتِينِي
هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى الْبَوْنُ بَينَهُمَا ... فَاِكفُف لِسَانَك عَن ذمِّي وَتَزَينِي
لَو كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْكَ الوِدَّ هَانَ إذًا ... عَلَيَّ بَعْضُ الَّذي أَصْبَحْتَ تُولِينِي
لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرهم ... مَا فِي ضَمِيري لهمُ مِن ذَاكَ يَكْفِينِي
أَرْضَى عن الْمَرْءِ مَا أَصْفَى مَوْدَّتَهُ ... وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ البَغْضَاءِ يُرْضِينِي
وَاللهِ لَوْ كَرِهَتْ كَفِّي مُصَاحَبَتِي ... لَقُلْتُ إِذْ كَرِهَتْ قُرْبى لَهَا بَيْنِي(1/378)
ثم انْثَنَيْتُ على الأخْرَى فَقُلْتُ لَهَا ... أَنْ تُسْنِدِينِي وِإلا مِثْلَهَا كُونِي
لا أَبْتَغِي وُدَّ مَنْ يَبْغِي مُقَاطَعَتِي ... وَلا أَليِنُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لَيْنِي
إِنِّي كَذَاكَ إِذَا أَمْرٌ تَعرَّضَ لِي ... خَشِيتُ مِنْهُ عَلَى دُنْيَايَ أَوْ دِينِي
خَرَجْتُ مِنْهُ وَعِرْضِي مَا أُدَنّسُهُ ... وَلَمْ أَقُمْ غَرَضًا لِلَّنْذِلِ يَرْمِينِي
رُبَّ امرِئٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ مُلاطَفتِي ... مَحْضِ المَوَدَّةِ في البَلْوَى يُوَاسِينِي
ومُلْطفٍ بِي مُدَارٍ ذِي مُكَاشَرةٍ ... مُغْضٍ عَلَى وَغَر في الصَّدْرِ مَكْنُونِ
لَيْسَ الصَّدِيقُ الذي تُخْشَى بَوَادرهُ ... وَلا العَدُوّ عَلَى حال بِمَأمُونِ
يَلُومنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخُبِّرِهُم ... بالعُذْرِ مِنِّي فِيه لَمْ يَلُومُونِي
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : وَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ» . وَأَخْرَجَ الترمِذي وَلَفْظهُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ» . رَوَاهُ في شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ مَالِكُ، وَالتِّرْمِذي، وَابْنُ مَاجَة نَحْوَهُ.
فَالغِيبَةُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ الذُّنُوبِ التِّي قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كَالكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّبَا وَالمُدَاهَنَة.
وَإِذَا فَهِمْتَ مَا سَبَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ المُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ العِبَادِ لا تُمْحَى إلا أَنْ عَفَوْا عَنْهَا أَوْ رُدَّتْ لَهُمْ مَظَالِمَهُمْ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللهِ ثَلاثَةٌ: دِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الذِي لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ» .(1/379)
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} .
وَأَمَّا الذِي لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ تَرَكَهُ أَوْ صَلاةٍ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزَ إنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانِ الذِي لا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئاً فَظُلمُ العِبَادِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا القِصَاصُ لا مَحَالَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمْ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ بِيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ هُوَ أَخَفُّ الدَّوَاوِينِ وَأَسْرَعُهَا مَحْوًا فَإِنَّهُ يُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ والحَسَنَاتِ المَاحِيَةِ وَالمَصَائِبِ المُكَفِّرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلا رَيْبَ أَنَّ الغِيبَةَ جَنَابَةٌ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَهُمْ غَافِلُونَ فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يَتَحَلَّلَ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَطْلُبَ مِنْهُ العَفْوَ إِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَيَتُوبُ وَيَتَنَدَّمُ وَيَسْتَغْفِرُ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَذْكُرُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الخِصَالِ الحَسَنَةِ عِنْدَ مَنِ اغْتَابَهُ عِنْدَهُمْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْحَمَهُ وَيَغْفِرَ لَهُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ» .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الغِيبَةِ مَصْلَحَةٌ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ كَانَتْ لازِمَةً وَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَمْرٌ جَائِزٌ فَجَائِزَةٌ، وَيُمْكِنْ ضَبْطُ الأَوَّلُ في خَمْسَةِ أُمُورٍ أَوْ سِتَّةِ أُمُورٍ.
الأَوَّلُ: المَظْلُومُ الذِي يُرِيدُ أَنْ يَشْكُو لِمَنْ يَرْفَعُ مَظْلَمَتَهُ، فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عَيْبَ ظَالِمِهِ الذِي يَحْتَاجُ إِلَيَهِ في بَيَانِ حَقِّهِ.
الثَّانِي: الاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْييرِ المُنْكَرِ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إِزَالَتِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقُولُ: إِنَّ فُلانًا ارْتَكَبَ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا.(1/380)
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ فَإِنَّهُ يَجُورُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: إِنَّ فُلانًا ظَلَمَنِي فِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً؟
الرَّابِعُ: التَّحْذِيرُ فَيُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلزَّعَامَةِ فِي أُمُورِهِمْ العَامَّةُ، أَوْ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ القَضَاءُ فِي مَصَالِحِهِمْ؛ أَوْ مَنْ يَتَصَدَّى لإفْتَائِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، كَالزُّعَمَاءِ فِي الشّؤون الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَويَّةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ الأَمَانَةِ والاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا فِيهِمْ مِنْ النَّقَائِصْ وَالعُيُوبِ وَيَرْفَعَ بَأمْرِهِمْ لَيُبْعَدُوا.
الْخَامِسُ: أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلا الْمُجَاهِرُونَ» .
حَذَارِ حَذارِ مِنْ شَيْطَانِ إنْسٍ ... بِهِ لَعِبَ الْهَوَى مَع شَرِّ َرَهْطِ
يُرِيكَ تَمَلُّقًا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ ... وَيُبْدِي لِلخِدَاعِ لِسَانَ بَسْطِ
رُويْدَكَ لا تُغَرَّ بِهِ وَحَاذِرْ ... وُقُوعَكَ فِي حَضِيضِ هَوانِ سُخْطِ
فَلا تَصْحَبْ سِوَى خِلٍّ تَحَلَّى ... بِإيمَانٍ قَويمٍ لَيْسَ يُخْطِي
تَنَلْ عِزًّا وَمَجْدًا وَاعْتِبَارًا ... وَرَبُّكَ خَيْرَ فَضْلٍ مِنْهُ يُعْطِي
اللَّهُمَّ وفقنا لِصَالِح الأعمال واكفنا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواك إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَأَسْبَابُ الغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ:
1- تَشَفِّي الغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِي الْمَوْقُوعِ في عِرْضِهِ بِالغِيبَةِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً.
مُوَافَقَةُ الأَقْرَانِ وَالزُّمَلاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ وَيَرَى ذَلِكَ فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَنْكَر عليهم اسْتَثْقَلُوه فيُسَاعِدُهم على ذلك.(1/381)
3- أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ سَيَقْصِدُهُ وَيُطَوِّلُ لِسَانَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْبِّحَ حَالَهُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ فَيُبَادِرَهُ فَيَطْعَنُ فِيهِ لِيُسْقِطَ شَهَادَتَهُ أَوْ يَبْتَدِئ بِذكر ما فيه صَادِقًا عَلَيْهِ لِيَكْذِبَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَيُروجُ كذِبَهُ بِالصِّدْقِ الأول نَسأل الله العافية.
وَلْيَحْذَرِ الإنْسَانُ مِنْ ذِي الوَجْهَين الذي يَأْتِي هَؤُلاء بوجْه وهَؤُلاء بوجه قال بعضهم:
يَسْعَى عَلَيْكَ كَمَا يَسْعَى إِلَيْكَ فَلا ... تَأْمَنْ غَوَائِلَ ذِي وَجْهَينُ كَذَّابِ
4- أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَيَذْكُرَ أَنَّ الذِي فَعَلَهُ فُلانٌ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَعَ أَنَّ التَّبَرُّأَ يَحْصَلُ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ الغَيْرَ بِشَخْصِهِ.
5- أَنْ يَنْطَوِي عَلَى عَدَاوَةِ شَخْصٍ وَيَحْسِدَهُ فَيَرْمِيهِ بِمَساوِئ وَمَعائِبَ يَنْسِبُهَا إِلَيْهِ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ وَيُسْقِطَ مَهَابَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنْ النُّفُوسِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ إِثْبَاتُ فَضْلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مَا أَضَرُّ عَلَى الأَعْدَاءِ وَلا أَشَدُّ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَالاعْتِرَافِ بالفَضْلِ لأَهْلِهِ كَمَا قِيلَ:
وَمَا عَبَّرَ الإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ ... بِمِثْل اعْتِقَادِ الفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلِ
وَلَيْسَ مِنْ الإنْصَافِ أَنْ يَدْفَعَ الفَتَى ... يَدَ النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الأَفَاضِلِ
آخر:
أَرَى كُلَّ إنْسَانٍ يَرَى عَيْبَ غَيْره ... وَيَعْمَى عَنْ العَيب الذي هو فيه
وما خَيْرُ مَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ عُيُوبُهُ ... وَيَبْدُو لَهُ العَيْبُ الذي بَأَخِيهِ
وَكَيْفَ أَرَى عَيْبًا وَعَيْبِي ظَاهِرٌ ... وَمَا يَعْرِفُ السَّوْءاتِ غَيْرُ سَفِيهِ
فَإِذَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا مُبْتَلَى بِسَبِ الغَوَافِلِ وَأَكْلُ لُحُومِهم يُريد بذلكَ رِفعةَ نَفْسِهِ وَخَفْضِ الغَيْرِ كَأنْ يَقُولَ: فلانٌ جَاهِلٌ، أَوْ فَهْمُهُ ضَعِيف، أو لا يُحْسِنُ التعليمَ، أو عِبَارَتُه رَكِيكَةٌ، أَوْ لا يُحْسِنُ الْخِطَابَةَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَدَرَّجُ بِهِ إِلى إظْهَارِ فَضْلٍ لِنَفْسِهِ بِسَلامتِهِ مِنْ تِلْكَ العُيوبِ وَالنَّقَائِصِ، فَقل له: اتقِ الله هذا لا يَرفَعُكَ(1/382)
وَلا يزيلُ مَا فِيكَ مِن النقائصِ اقْتَصِرْ على تَأملِ عُيوبكَ فَهُو أَوْلَى بِكَ يا مَغْرُور.
6- أَنْ يَقْدَحَ عِنْدَ من يُحِبُّ الشَّخْصَ حَسَدًا لإكَرَامِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ.
7- أَنْ يَقْصِدَ اللَّعِبَ وَالهَزَلَ وَالْمُزَاحَ وَالْمُطَايَبَةِ وَيُضْحِكَ النَّاسِ.
8- السُّخْرِيَةُ وَالاسْتِهْزَاءُ بِالشَّخْصِ اسْتِحْقَارًا لَهُ وَهُوَ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَالغَيْبَةِ وَمَنْشَؤُهُ التَّكَبُّرُ وَاسْتِصْغَارُ الْمُسْتَهْزَأ بِهِ وَازْدِرَاءُهُ. وَهَذَا غَالبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ نَزلَتْ هِمَّتُهُ وَرَكَّتْ حالتُه وَصَارَ يُضْحِكُ النَّاس.
شِعْرًا:
إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأْكَلِ العادي وَمَشْرَبِهِ ... فَلا تُحَاوِلْ عَلَى الأعْرضَ إِفْطَارَا
9- أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِ الغَائِبِ لِلْمُنْكَرِ وَهَذَا مِنْ الدِّينِ لَكِنْ أَدَّى إِلى الغَيبَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فَصَارَ مُغْتَابًا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي.
10- أَنْ يَغْتَمَّ لِسَبَبْ مَا يُبْتَلَى بِهِ فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ وَمَا أبْتُلِي بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَغَمّهُ وَرَحْمَتَهُ خَيْرٌ لَكِنْ سَاقَهُ إِلى شَرٍّ وَهُوَ الغِيبَةُ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي أَنَّهُ صَاغَهَا بِصِيغَةِ التَّرَحُّمِ وَالتَّوَجُّعِ.
11- إظْهَارُ الغَضَبِ للهِ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَه إِنْسَانٌ فَيَذْكُرُ الإنْسَانَ بِاسْمِهِ وَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَلا يُظْهِرَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ بَلْ يَسْتُرُ اسْمَهُ وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ رُبَّمَا تَخْفَى عَلَى العُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ فَضْلاً عَنْ العَوَامِّ وَلِذَلِكَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ فُلانُ وَنِعْمَ لَوْلا أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا يُعَامِلُ بالرِّبَا مَثَلاً وَكَانَ الوَاجِبُ نُصْحُهُ بَدَلَ الغِيبَةِ، وَلَكِنْ يَا أَخِي بَشِّرْ الموقوع في عِرْضِهِ بِغيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ سَبٍّ أَوْ نَمٍّ أَوْ نَحْو ذلك بأنَّهُ سَيَفرحُ وَيَسْترُ حِينَ مَا يَأخُذُ حَسَنَاتٍ مَا تَعِبَ بِهَا فِي لَيْل ولا نَهَارٍ صَيْفٍ وَلا شِتَاءٍ وَهَلْ أَحْلَى وَأَلَذَ مِنْ حَسَنَاتٍ تَأَتِيكَ مَا تَعِبْتَ بِهَا.
شِعْرًا: ... يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ
وَيُعْطِيكَ أَجْرَى صَوْمِهِ وَصَلاتِهِ(1/383)
وَيَحْمِلُ وِزْرًا عَنْكَ ظَنَّ بِحَمْلِهِ
عَنْ النُّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ
فَكَافِيهِ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ
بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيَّئَاتِهِ
فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي
ثَوَابُ صَلاةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ
فَغَيْرُ شَقِيٍّ مِنْ يَبِيتُ عَدُوُّهُ
يُعَامِلُ عَنْهُ اللهَ فِي غَفَلاتِهِ
فَلا تَعْجَبُوا مِنْ جَاهِلٍ ضَرَّ نَفْسَهُ
بإمْعَانِهِ فِي نَفْعِ بَعْضِ عُدَاتِهِ
وَأَعْجَبُ مِنْهُ عاَقِلٌ بَاتَ سَاخِطًا
عَلَى رَجُلٍ يُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِهِ
وَيَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِهِ وَذُنُوبِهِ
وَيَهْلَكُ فِي تَخْلِيصِهِ وَنَجَاتِهِ
فَمَنْ يَحْتَمِلْ يَسْتَوْجِبِ الأجْرَ وَالثَّنَا
وَيُحْمَدُ في الدُّنْيَا وَبَعْدَ وَفَاتِهِ
وَمَنْ يَنْتَصِفْ يَنْفَخْ ضِرًا مَا قَدْ انْطَفَى
وَيَجْمَعُ أَسْبَابَ الْمَسَاوِي لِذَاتِهِ
فَلا صَالِحٌ يُجْزَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
وَلا حَسَنٌ يُثْنَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ
يَظَلَّ أَخُو الإِنْسَانِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ
كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ حَالَ مَمَاتِهِ
وَلا يَسْتَحِي مِمَّنْ يَرَاهُ وَيَدَّعِي(1/384)
بَأنَّ صِفَاتِ الكَلبِ دُونَ صِفَاتِهِ
وَقَدْ أَكَلا مِنْ لَحْمِ مَيْتٍ كِلاهُمَا
وَلَكَنْ دَعَى الكَلْبَ اضْطِرَارُ اقْتِيَاتِهِ
تَسَاوَيْتُمَا أَكْلا فَأشْقَاكُمَا بِهِ
غَدَا مَنْ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ تَبَعُاتِهِ
وَمَا لِكَلامِ مَرَّ كَالرِّيحِ مَوْقِعٌ
فَيَبْقَى عَلَى الإِنْسَانُ بَعْضُ سِمَاتِهِ
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِفْظَ جَوَارِحِنَا عَنْ الْمَعَاصِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِنْ الحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالإحَنْ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَعُضَالِ الدَّاءِ وَخَيْبَةُ الرَّجَاءِ وَزَوَال النِّعْمَةِ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بَالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَألناهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنَيْنَاهُ، يَا مَنْ يَملِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةِ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : ومِِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابِهِ وَلا يَتِمُّ الصِّيَامُ لِمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُ النَّظَرُ إلى الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ وَالرَّجُلِ الأَمْرَدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ لأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلُّهَا عَوْرَةٌ لا يَصِحُّ أَنْ يَرَى مَنْ لَيْسَ مِنْ مَحَارِمِهَا شَيْئًا مِنْ جَسَدِهَا وَلا شَعْرَهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا وَمَا تَفْعَلُهُ بَعْضُ نِسَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّبَرُّجِ وَالتَّجَمُّلُ فِي الأَسْوَاقِ مَا هُو مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي وَتَشَبُّهُ بِنِسَاءِ الإفْرَنْجِ.
فَمِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَأَفْظَعَهَا خُرُوجُ الْمَرْأَةُ كَاشِفَةً رَأْسِهَا أَوْ عُنُقَها أَوْ نَحَرَهَا أَوْ ذِرَاعَيْهَا أَوْ سَاقَيْهَا أَوْ وَجْهِهَا أَوْ الْجَمِيعَ أَوْ الثِّيَابِ الْمُظْهِرَةِ(1/385)
لِلْمَفَاتِنِ أَوْ اللِّبَاسِ الشَّفَافِ الذي وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ لا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي التَّبَرجُّ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَهُ وَمَنْ لَهُ عَلَيْهِنَّ وِلايَة وَيَقْبَلْنَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ وَيُلِزْمُهُنَّ السِّتَر وَالتَّحفُّظَ ويَنْصَحَ إِخْوَانَهُ الْمُهْمِلِينَ لِلمُتَّصِفَاتِ بِذَلِكِ.
وَمِنْ الآدَابِ التِي أَمَرَ الله تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنهُنَّ القُدْوَةُ الْحَسَنَةَ فِي العَفَافِ وَالتُّقَى وَالتَّسَتُّرِ وَالْحَيَاءِ وَالإيمانِ وَمَعَ حَيَاءِ النَّاسِ مِنْهُنَّ وَاحْتِرَامِهِمْ لَهُنَّ مَا ذَكَرَهُ تَعَالى فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} .
قَالَ مُقَاتِلُ: التَّبَرُّجُ أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ.
وَقَالَ تَعَالى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَلا يَنْظُرُوا إِلا لِمَا أَبَاحَ لَهُمْ النَّظَرُ إِلَيْهِ: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} .
قَالَ أَبُو حَيَّانٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قُدِّمَ غَضُّ البَصَرِ عَلَى حِفْظِ الفُرُوج لأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الفُجُورِ وَالبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأكْثَرُ لا يَكَادُ يَقُدْرُ عَلَى الاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَهُو البَابُ الأَكْبَرُ إلى القَلْبِ وَأَعْمَرُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ.
وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، وَقَالَ تَعَالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} ، قَالَ البَغَوِي: أَيْ خِيَانَتُهَا، وَهِيَ اسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلى مَا لا يَحِلُّ.
قَالَ مُجَاهِدُ: هُوَ نَظَرُ الأَعْيُنِ إلى َمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/386)
قَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
تَخَيَّرَ مِنَ الطُّرْقِ أَوْسَاطَهَا ... وَعَدِّ عَنِ الجَانِب المُشْتَبِهْ
وسَمْعَكَ صُنْ عن سَمَاعِ القَبِيحِ ... كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ
فَإِنَّكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ القَبِيحِ ... شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتُهُ فِي قَلْبِهِ» .
وَرَوَى الأصْبَهَاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ في سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنًا خَرَج مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ» . وَأَخْرَجَهُ الإمَامُ أًحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وَاعْتَرَضَهُ المُنْذِرِي.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» . وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِِ الحَوَادِثِ التي تُصِيبُ الإِنْسَانَ فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إِرَادَةً ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعْ الفِعْلُ وَلا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ.
وَفي هَذَا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ النَّظَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَه.(1/387)
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِن مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
وَالعَيْنُ أَصْلْ عِنَاهَا فِتْنَةُ النَّظَرِ ... وَالقَلْبُ كُلُّ أَذاهُ الشُّغْلُ بِالفِكَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ نَقَشَتْ في القَلْبِ صُورَةَ من ... رَاحَ الفُؤَادُ بِهَا في الأسْرِ وَالحَذَرِ
وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... في أَعْيُنِ العِيْن مَوقُوفٌ على الخَطَر
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ ... لا مَرْحَبًا بِسَرُورٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ
فَالقَلْبُ يَحْسُدُ نُورَ العَيْنِ إِذَْ نَظَرَتْ ... وَالعَيْنُ تَحْسُدُهُ حَقًا عَلَى الفِكَرِ
يَقُولُ قَلْبِي لِعَيْنِي كُلَّمَا نَظَرَتْ ... كَمْ تَنْظُرِينَ رَمَاكِ اللهُ بِالسَّهَرِ
فَالعَيْن تُورثُهُ هَمًا فَتُشْغِلُهُ ... وَالقَلْبُ بالدَّمْعِ يَنْهَاهَا عَنِ النَّظَرِ
هَذَانِ خَصْمَانِ لا أَرْضَى بِحُكْمِهِمَا ... فَاحْكُمْ فَدَيْتُكَ بَيْنَ القَلْبِ وَالبَصَرِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِظْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزِقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا، واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ: «يَا عَلي لا تُتْبِع النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِي.
وفي حَدِيثِ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الفُجَاءَةِ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ مِنْ امْرَأَةً(1/388)
مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» .
وَعَنْ ابنِ مَسْعُودِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي.
وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي النِّسَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّل مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلا أَحْدَثَ اللهُ لَهُ عِبَادَةٌ يَجِدُ حَلاوَتَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
شِعْرًا:
لا تَخلُ بِامرأَةٍ لَدَيكَ بريبَةٍ
لَو كُنتَ في النُسّاكِ مِثلَ بَنانِ
وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ مُلاحَظَةِ النِّسَاء
وَمَحَاسِنِ الأَحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ
إِنَّ الرِجالَ الناظِرينَ إِلى النِّسَاءِ
مِثلُ الكِلابِ تَطوفُ بِاللُحمَانِ
إِن لَم تَصُن تِلكَ اللُحومَ أُسودُها
أُكِلَت بِلا عِوَضٍ وَلا أَثمانِ
آخر:
لَيْسَ الشجاعُ الذي يَحْمِي فَرِيسَتَهُ ... عِنْدَ النِزَالِ ونارُ الحَرْبِ تَشْتَعِلُ
لَكِنَّ مَنْ غَضَّ طَرْفَا أَوْ ثَنَى قَدَمًا ... عَنْ الْحَرَامِ فَذَاكَ الدرِاعُ البَطَلُ(1/389)
اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ وَاغْفِرْ لَنَا يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَل مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنْيَنْاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السائِلينَ وَيَعلمُ مَا في صُدُورِ الصَّامِتينَ أذقنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ: يُقَالُ إِنَّ غَضَّ البَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ التِي يُنْهَى عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا كَالْمَرْأَةِ وَالأَمْردِ الْحَسَنِ يُورِثُ ثَلاثَ فَوَائِدَ:
إحْدَاهَا: حَلاوَةِ الإِيمَانِ، وَلَذَّتَهُ التِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ للهِ، فَإنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ.
الفَائِدَةُ الثانيَةُ: أَنَّ غَضَّ البَصَرِ يُورِثُ نُورَ القَلْبِ وَالفَرَاسَةِ.
الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ القَلْبِ وَثَبَاتِهِ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ سُلْطَانَ البَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ فِي الأَثَرِ (الذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ) .
وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلي مَنْ لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُحَرَّمًا فَالْخَلْوَةُ بِمَنْ لا تَحِلُّ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَابَ أَوْلى وَأَحْرَى لأَنَّ الوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةِ تَجِدُ لَهَا مَجَالاً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ يَجِدُ لَهُ مُبَرِّرًا فَيَضْعُفُ العَقْلُ عِنْدَ هَذَا، وَلا يَكُونُ لَهُ تَأْثِير عَلَى زَجْرِ الشَّهْوَةِ فَتَسُوقُهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ بالسُّوءِ إِلى الفَاحِشَةِ، لِهَذَا نَهَى الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَلْوَةِ فَقَدْ رُوِي عَنْ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بامْرَأَةٍ إلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/390)
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْحَمْوُ: قَرِيبُ الزَّوْجِ كَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ.
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ لاَ يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَان» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلا يَخْلُوَنَّ بامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الكَبِير.
وَرَوَى الطَّبَرَانِي أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكَ وَالْخُلوَةُ بِالنِّسَاءِ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلا رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إِلا وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا وَلأَنْ يَزْحَمَ الرَّجُلُ خَنْزِيرًا مُتَلِطِّخًا بِطِينٍ أَوْ حَمَأةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزَحَمَ مَنْكِبُهُ مَنْكِبَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ» .
وَمِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ عَلَى النِّسَاءِ خِدْمَةُ الرِّجَالِ فِي البُيُوتِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاطٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ خُصُوصًا إِذَا كَانَ الرُّجُلُ الْمُسْتَخدَمُ مِنَ الشُّبَّانِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَسْمَةُ جَمَالٍ فَأَقْرَبُ إِلى الْخَطَرَ وَقَدْ يَكُونُ أَشَبَّ مِنْ صَاحِبِ البَيْتِ وَأَجْمَل وَهُوَ مَلازِمٌ لِلبَيْتِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَهُوَ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَفِي إِمْكَانِهَا إِبْقَاؤُهُ أَوْ طَرْدُهُ فَالْخَطَرُ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَا شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ، وَتَأَمَّلْ قِصَّة امْرَأَةِ العَزِيزِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامِ حَيْنَ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ فَعَصَمَهَ اللهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ فامْتَنَع أَشَدَّ الامْتِنَاعِ عَنْهَا وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا في غَايَةِ(1/391)
مَقَامَاتِ الكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِي امْرَأَةُ عَزِيزِ مَصْرَ وَهِيَ مَعَ هَذَا في غَايَةِ الْجَمَال وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ اللهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مِنْ السَّبْعَةِ الذِينَ يُظلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافَ اللهُ» . وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم.
شِعْرًا:
مَا مِنْ جَمِيلٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلا حَسَنٍ ... إِلا وَمِنْ فَضْلِ رَبِّ العَرشِ ذِي الْمِنَنِ
أَعْظِمْ بِهَا مِنَّةً لَكِنْ يُخَفِّفُها ... شكْرِي لِرَبِّي فِي سِرِّي وَفِي عَلَنِ
اللَّهُمَّ يَسر لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ العُظْمَى لَنَا سَنَدًا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَّيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة) : عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي زَمَنٍ كُلُّهُ عَجَائبٌ يُعْجِبُ العَاقِلُ اللَّبِيبُ وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِيهِ أَنَّ الرِّجَالَ أَصْبَحُوا لا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى النِّسَاءِ إِلا النَّادِرَ القَلِيلَ، نَعْمَ أَصْبَحْنَا فِي زَمَنٍ لِلنِّسَاءِ فِيهِ جَبَرُوتٌ أَمَامَهُ الرِّجَالُ فِي حَالٍ ضَئِيلٍ انْعَكَسَ الأَمْرُ فَصَارَ القَوِيُّ ضَعِيفًا وَالضَّعِيفُ قَوِيًّا فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكِّ مِنْ ذَلِكَ فَاخْرُجْ وَانْظُر فِي الشَّوَارِعِ تَرَى النِّسَاءَ تَجُولُ فِي الشَّوَارِع ذَاهِبَاتٍ أَيبَاتٍ وَيَتَثَنِّينَ فِي تَبَخْتُرُهِنِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ مَا يُرْغِمُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ كُلُّ مِنْ لَهُ عَيْنَانِ.
وَلا تَسْأَلْ عَمَّا يُحْدِثُهَ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي نُفُوسِ الشُّبَّانِ وَأَشْبَاهِ الشُّبَّانِ تَرَاهُ إِذَا لَمََحَها أَتْبَعَهَا نَظَرَهُ ثُمَّ جَرَى وَرَاءَهَا لأنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ هَيْئَتِهَا وَتَثِنَّيَهَا وَتَلَفُّتِهَا فَهْمًا لا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ فِيهِ غَلْطَانٌ، إنَّه يَفْهَمُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تُرِيدُ مِنْهُ مَا تُرِيدُ مَا عَرَضَتْ نَفْسَهَا فِي الشَّارِعِ بِذَلِكَ التَّهَتُّكِ وَذَلِكَ الازْدَيَانُ وَهِيَ فِي بَيْتِهَا أَمام زَوْجِهَا الذِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَجَمَّلَ لَهُ تَكُونُ بِحَالةٍ تَشْمَئِزُّ مِنْ(1/392)
رُؤْيَتِهَا نَفْسُ الإِنْسَانِ، تَلْبَسُ لَهُ أردى الْمَلابِسَ وَلا تَمَسُّ طِيبًا وَلا تَعْتَنِي لَهُ، فَإِذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بَذَلَتْ مِنْ العِنَايَةِ فِي تَجْمِيلِ نَفْسِهَا مَا يُلْهِبُ نَارَ الشَّوْقِ إِلَيْهَا في نُفُوسِ النَّاظِرِينَ.
وَهَذِه حَالَةٌ تَجْعَلُ العُيُونَ وَقْفًا عَلَى النَّظَرِ إِلى تِلْكَ الأَجْسَامِ وَتَشْغَلُ القُلُوبَ شُغْلاً بِهِ تَنْسَى كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَفْسَهَا وَرَبَّهَا وَمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ وَاجِبَاتٍ، وَتَوَجِّهُ الأَفْكَارَ إِلى أُمُورٍ دَنِيئَةٍ يَقْصُدْهَا مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ أَرْبَابُ النُّفُوسِ الدَّنِيئَاتِ، بَلْ وَتَدْفَعُ النُّفُوسَ دَفْعًا تَسْتَغِيثُ مِنْهُ الفَضِيلةُ وَيَغْضَبُ لَهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ.
إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلى النِّسَا ... مِثْلُ الكِلابِ تَطُوفُ بِاللُّحْمَانِ
إِنْ لَمْ تَصُن تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا ... أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ
إِنَّ أُولَئِكَ النِّسَاءُ زَوْجَاتُ وَبَنَاتُ وَأَخَوَاتُ رِجَالٍ يَرَوْنَهُنَّ بَأَعْيُنهِمْ في الشَّوَارِعِ بِتِلْكَ الْحَالِ يَرَوْنَهُنَّ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الغَيْرَةِ مَا يُفهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ صَنْفِ الرِّجَالِ، وَأَمَامَهُمْ يُجْرِينَ الزِّينَةِ التِي يَخْرُجْنَ بِهَا إِلى تِلْكَ الْمِيَادِينَ الْمَلأَى بالأنْذَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَصُحِبُ زَوْجَتَهُ مَعَهُ سَافِرَةً فِي الشَّوَارِعِ وَرُبَّمَا فَهِمَ بَعْضُ الفُسَّاقِ أَنَّهُ يَتَصَيَّدُ لِهَا وَذلِكَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
أَيُّهَا الأَخُ عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْتَ أَقْوَى عَقْلاً وَأَقْوَى دِينًا مِنْ الْمَرْأَةِ لا خِلافَ في ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْصِمْكَ اللهُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْكَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَكُونَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُكَ عَلَى مَا لَهَا مَنْ بِهَاءٍ وَجَمَالٍ فَتَأَكَّدْ كُلَّ التُّأكُدِّ أَنَّ تَمَنِّي الْمَرْأَةِ أَقْوى مِنْ تَمَنِّي الرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهَا عَلَى جَمِيلٍ مِنْ الرِّجَالِ وَلا تَشُكُ أَنَّهَا بَعْدَ رُؤيَتِهَا الْجَمِيلَ تَتَمَنَّى فِرَاقَكَ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا دَعَتْ عَلَيْكَ، نَحْنُ فِي جُوِّ مَوْبُوءٍ بِفَسَادِ الأَخْلاقِ، مِنْ تَعَرَّضَ(1/393)
لَهُ أَصَابَهُ مِن ذَلِكَ الوَبَاء مَا يُضَيِّعُهُ في دُنْيَاهُ وَفِي الدِّينِ.
فَصُنْ نِسَاءَكَ عَنْ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ إِنْ أَرَدْتَ الْعَافِيةَ وَِإِلا فَلا تَلُمْ إِلا نَفْسَكَ إِذَا أَصْبَحْتَ فِي عِدَادِ الضَّائِعِينَ وَالضَّائِعَاتِ أَنْتَ تَرَى كُلَّ يَوْمٍ مَا يَكُونُ في الطُّرُقِ لِنِسَاءِ غَيْرِكَ فَلا تَشُكَّ أَنَّ نِسَاءِكَ يُلاقِيَن مِثْلَهُ وَأَشَدَّ مِنْهُ وَأَيُّ رَجُلٍ يَرْضَى أَنْ تَخْرُجَ نِسَاؤُهُ لِيَلْعَبَ بِعَفَافِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ مَنْ لا دَينِ لَهُ وَلا شَرَفَ وَلا أَخْلاقَ، إِنَّ الْبَهِيمَ يَغَارُ وَمَعَارِكُ ذُكُورِ الْبَهَائِمِ عَلى إِنَاثِهَا مَعْرُوفَةٌ، فَلا تَكُنْ أَقَلَّ غَيْرَةً مِنْ الْبَهِيمِ، وَلَوْلا أَنَّنَا نَرَى بِأَعْيُنِنَا مَبْلَغَ ضَعْفِ رِجَالِنَا أَمَامَ النِّسَاءِ مَا صَدَّقْنَا أَنْ يَسْتَصْحِبَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ سَافِرَةً رَاكِبَةً أَوْ غَيْرَ رَاكِبَةٍ تَقْدُمُهُ.
اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ، وَعَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : أَيًُّهَا الأخُ أَنْتَ الذِي تَلَقَى الْمَشَاقَّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بَالكدِّ لأجْلِ جَلْبِ الرِّزْقِ، يَكُونُ مِنْكَ ذَلِكَ لِتُطْعِمَ الْمَرْأَةِ وَتَكْسُوهَا وَتَنْعِمُ عَلَيْهَا فَفَضْلِكُ عَلَيْهَا كَبِيرٌ كَمَا قَالَ تَعَالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وأَنْتَ أَرْجَحَ مِنْهَا عَقْلاً وَأَكْمَلْ دِينًا فَمِنْ الْغَلَطِ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا كَالْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ يَصْرِفُهُ مَوْلاهُ كَيْفَ شَاء. وَإِذَا كَنْتَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ قَوَّامًا عَلَيْهَا فَأَنْتَ مَسْئُول عَنْهَا لأَنَّكَ رَاعِيهَا وَالرَّاعِي مَسْئُول عَنْ رَعَيَّتِهِ، فَأَنْتَ مُثَابْ إِنْ وَجَهْتَهَا إِلى عَمْل الْخَيْرِ، وَآثِمْ إِنْ سَكَتَّ عَنْهَا وَهِيَ تَعْمَل أَعْمَلاً لَيْسَتْ مَرْضَيَّة، فَانْظُرْ مَاذَا عَلَيْكَ مِنْ الإِثْمِ فِي خُرُوج زَوْجَتَكَ وَمَا يَتَرَتَبْ عَلَيْهِ مِنْ بَلايَا مَرَئِيْة وَغَيْر(1/394)
مَرْئِيَّةٍ، فَحُلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا وَكُلُّ عَمَلٍ يُغْضِبُ رَبَّكَ، وَإِلا فَأَنْتَ شَرِيكَ لَهَا فِي كُلَّ مَا لَها مِنْ أَوْزَارٍ. أ. هـ.
كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ مُخَالَطَةُ رَبَائِبِ الاسْتِعْمَارِ الذِّينَ تَشَبَّهُوا بِهِ وَقَلَّدُوهُ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَقَلَّدَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ نِسَائِنَا، وَصَدَقَ الْمُصْطَفََى - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ يَقُولُ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذرَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ حُجْرَ ضَبِّ لَدَخَلْتُمُوهُ وَحتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» . فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ. أ. هـ.
كَفى بِالمَرءِ عاراً أَن تَراهُ ... مِنَ الشَأنِ الرَفيعِ إِلى اِنحِطاطِ
عَلى المَذمومِ مِن فِعلٍ حَريصًا ... عَلى الخَيراتِ مُنقَطِعَ النَشاطِ
يُشيرُ بِكَفِّهِ أَمراً وَنَهيًا ... إِلى الخُدّامِ مِن صَدرِ البِساطِ
يَرى أَنَّ المَعازِفَ وَالمَلاهي ... مُسَبِّبَةُ الجَوازِ عَلى الصِراطِ
لَقَد خابَ الشَقِيُّ وَضَلَّ عَجزًا ... وَزالَ القَلبُ مِنهُ عَنِ النِياطِ
آخر:
وعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ حَمِيدَةٌ ... وَأَفْضَلُ أَعْمَال الرِّجَال التَّدَيُّنُ
ولا عَارَ إِنْ زَالَتْ عَنِ الْمَرْءِ نِعْمَةً ... وَلَكِنَّ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّدَيُّنُ
اللَّهُمَّ اعْمُرْ قُلُوبَنا وَأَلْسنَتنا بِذِكْرِك وَشُكْرِك وَوَفِّقْنَا للامْتِثَالِ لأَمْرِكَ وَأمِّنا مِنْ سَطوتِكَ وَمَكْرِكَ واجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكَ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبِادِكَ الصَّالِحِين الأَبْرَار، وآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارْ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : فِيمَا يُسْتَحبُّ أَنْ يَقُولَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ:
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَحَّرَ لِلصَّوْمِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» .(1/395)
وعَنْ عَمْرو بن العَاص قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلةُ السَّحَرِ» .
وعَنْ ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا - أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على الْمُتَسَحِّرِينَ» .
وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السَّحُورِ في رَمضَانَ فَقَالَ: «هَلُمَّ إِلى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ» .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَفِّفَ عَشَاءَهُ فِي ليَاَلِي رَمَضَانَ لِيَهْضِمَ طَعَامَهُ قَبْلَ السَّحُورِ ولأِنَّ الامْتِلاءَ مِنَ الطَّعَامِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتُّخَمْ.
وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يكْرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مَلأَ ابن آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لامَحَالَةَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ نَفَسٌ» .
شِعْرًا:
تَوَقَّ إِذا مَا اسْطَعْتَ إِدخالُ مَطعَمٍ ... عَلى مَطعَمٍ مِن قَبلِ فِعْلِ الْهَواضِمِ
وَكُلُّ طَعامٍ يَعجَزُ السِنُّ مَضغَهُ ... فَلا تَبتَلِعْهُ فَهوَ شَرٌّ الْمَِطَاعِِمِِ
والشَّبَعُ مَذْمُومٌ لأنَّهُ يُوجِبُ تَكَاسُلَ الْبَدَنِ وَكَثْرَةُ النَّوْمِ وَبَلادَةِ الذِّهْنِ وَذَلِكَ يُكْثِرُ الْبُخَّارُ في الرَّأسِ حَتَّى يُغَطِّي مَوْضِعَ الذَّكْرِ والْفِكْرِ والْبَطْنَةُ تَذْهبُ الْفِطْنَةَ وَتَجْلِبُ أَمْرَاضًا عَسِرةً، وَمَقَامُ الْعَدْلِ أَنْ لا يَأْكُلَ حَتَّى تَصْدُقَ شَهْوَتُهُ وَأَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَشْتَهِي وَنِهَايَةُ مَقَامِ الْحُسْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ نَفَسٌ» .(1/396)
والأكْلُ عَلَى مَقَامِ الْعَدْلِ يُصِحُّ الْبَدَنَ وَيُبْعِدُ الْمَرَضَ بِإذْنِ اللهِ وَيُقَلِّلُ النَّوْمَ وَيُخَففُ الْمَؤُنَةَ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُصَفِّيْهِ فَتَحْسُنُ فِكْرَتُهُ وَتُسَهِّلُ الْحَرَكَاتِ والتَّعْبِيرَاتِ، والشَّبَعُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَمِنْهُ يَكُونُ الْفَرَحُ والْمَرَحُ وَالضَّحِكُ.
وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ. قَال أَنَسٌ قُلْتُ لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمَا وَرَدَ في الْبُخَاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وأخَّرُوا السَّحُور» .
وَعَنْ ابن عَطِيَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أَمَّ الْمُؤمِنِين رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد أَحَدُهُمَا: يُعَجِّلُ الإفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاةَ، والآخرُ: يُؤخِّرُ الإفْطَارَ وَيُؤخِّرُ الصَّلاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا يُعَجّل الإفْطَارَ وَيُعَجِّلَ الصَّلاةَ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَتْ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآخَرُ: أَبوُ مُوسَى.
وَلأَنَّ السَّحُورَ يُرَادُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ. فَكَان التَّأْخِيرُ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ وَأَوْلَى، وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ فِطْرٍ إِذَا تَحَقَّقَ الْغُرُوبَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِليَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» .(1/397)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرِ، لأَنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ» . وَلِحَدِيث سَهْل وَحَدِيث أَبِي عَطيَّة وَقَدْ تَقَدَّمَا قَرِيبًا.
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيل عِبَادِكَ الأَبْرَارِ واجْعَلْنَا مِن عِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَارَ وامْنُنْ عَلَيْنَا بالْعَفْوِ والْعِتْقِ مِن النَّارِ واحْفَظْنَا مِنْ الْمَعَاصِي فِيمَا بَقِيَ مِن الأَعْمَارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عَدِمَ فَتَمْرٌ، فَإِنْ عَدِمَ فَمَاءٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرَ عَلى رُطَبَات قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَات فَتَمَراتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُن تَمَرَاتٍ حَسَا حَسَوَاتِ مِنْ مَاءٍ، وَعَنْ سَلْمَانَ بن عَامِرٍ الضَّبِّي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَفْطَر عَلى تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» .
والْفِطْرُ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْربِ أَفْضَلُ، لِحَدِيث أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصَلِّي حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ) .
إذا رُمْتَ أَنْ تَشْرَبْ فَكُنْ قَاعِدًا تَفُزْ ... بِسُنَّةِ خَيْرِ الْخَلْقِ أَعْنِي مُحَمَّدًا
فَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبًا لَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ... وَلَكِنْ بَيَانًا لِلْجَوازِ فَسَدِّدَا
وَيُسْتَحَبُّ قَوْلُ الصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ:
اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. لِمَا وَرَدَ عَنْ مُعَاذِ بنِ زَهْرَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ وابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأجْرُ إِنْ شَاءَ الله» ، وَثَبَتَ عَن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةُ لا تَرَدُّ» . وَلِحَدِيثَي ابنْ(1/398)
عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالا: كَان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنَا وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْنَا، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُُ الْعَلِيمُ» .
وَعَنْ عَبْد اللهِ بن الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَفْطَرَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ عِنْدَكُم الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلائِكَةُ» .
وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى حَلالٍ وَأَنْ يَحْذَرَ أَنْ يَكُونَ على حَرَام، فَإِنْ أَكَلَ الْحَرَامِ مِنْ جُمْلَةِ مَوَانِعِ قَبُولِ الدُّعَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ وَلا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا، وإِنَّ الله أَمَرَ الْمُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، - ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ - أَشْعثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاء وَيَقَولَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» .
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمٌ ... أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ
وَتَمْحَقُ أَمْوَالُ الرِّبَا وَإِنْ نَمتْ ... وَيَرْبُو قَلِيلُ الحِلِّ فِي صِدْقِ مَوْعِدِ
آخر:
المالُ يَذْهَبٌ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ ... يَوْمًا وَتَبْقَى في غَدٍ آثَامِهِ
لَيَسْ التَّقِيُّ بُمِتْقَّ لإِلهِهِ ... حَتَّى يَطِيبَ شَرَابِهِ وَطَعَامِهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلا إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَلا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ» . الْحَدِيثِ.
وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ القَلْبِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا الله(1/399)
وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ وَأَنْ يَكُونَ دُعَائَهُ في السَّرَّاءِ والضَرَّاءِ» .
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكُرَبِ فَليُكْثِرْ الدُّعَاء في الرِّخَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بالتَّضَرُّعِ بالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ» . قَالَ اللهُ تَعَالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، وَقَالَ فِي حَقِّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَأَنْ يَفْتَتِحَ الدُّعَاء بالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ وَالصَّلاةِ عَلَى نَبِيِّهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى التِّرْمِذِي وَغَيْرَهُ عَنْ فضَالَةَ بن عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي إِذَا صَلِّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَصَلِّ عَلَيِّ ثُمَّ ادْعُهُ» . قَالَ ثُمَّ صَلى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تَجِبْ» .
وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ مَوقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلي عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُخْفَى الدُّعَاءَ. قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعوةِ السِّرِ وَدَعْوَةِ العَلانِيَةِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ القُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لقد فَقِهَ الفِقْهَ الكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لِيُصَلي الصَّلاةِ الطويلَةَ في بَيْتِهِ وَعندَهُ الزُّوَّارُ مَا يَشْعُرونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدُرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السرِ فَيَكُونُ عَلانيةً أَبَدًا وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ(1/400)
يَجْتِهدُونَ في الدعاءِ وَمَا يُسْمَعُ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلا هَمْسًا بَينَهُم وبينَ رَبِّهم وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وَذَلكَ أَنَّ اللهَ ذَكرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} .
شِعْرًا:
إِلى مَتَى يَا عَيْنُ هَذَا الرُّقَادُ
أَمَا آنَ أَنْ تَكْتَحِلِي بِالسُّهَادِ
تَنَبَّهِي مِنْ رَقْدَةٍ وَانْظُرِي
مَا فَاتَ مِنْ خَيرٍ عَلَى ذِي الرُّقَادِ
يَا أَيُّهَا الغَافِلُ فِي نَوْمِهِ
قُمْ لِتَرى لُطْفَ الكَرِيمِ الْجَوَادِ
مَوْلاكَ يَدْعُوكَ إلى بَابِهِ
وَأَنْتَ فِي النَّوْمِ شَبِيهُ الْجَمَادِ
وَيَبْسُطُ الكَفَّينَ هَلْ تَائِبٌ
مِنْ ذَنْبِهِ هَلْ مِنْ لَهُ مِنْ مُرَادِ
وَأَنْتَ مِنْ جَنْبٍ إِلى جَانِب
تدور في الفرش ولين المهاد
يدعوك مولاك إلى قربه
وَأَنْتَ تَخْتَارُ الْجَفَا وَالبِعَادِ
كَمْ هَكَذَا التَّسْوِيفُ فِي غَفْلَةٍ
لَيْسَ عَلَى العُمْرِ العَزِيزِ اعْتِمَادِ
لَقَدْ مَضَى لَيْلُ الصَّبَا مُسْرِعًا
وَنِيرُ صُبْحِ الشَّيْبِ فَوْقَ الفُؤَادِ
أَفِقْ فَإِنَّ اللهََ سُبْحَانَهُ(1/401)
رَحْمَتُهُ عَمَّتْ جَمِيعَ العِبَادِ
اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا شُكْرَكَ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) : فِي أَحْكَامِ القَضَاءِ
وَيُسْتَحَبُّ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَوْرًا مَعَ سَعَةِ وَقْتٍ مُسَارَعَةً لِبَرَاءَةِ الذِّمَةِ وَيُسَنَّ التَّتَابُعْ فِي قَضَائِهِ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بَالأَدَاءِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخِلافِ. وَيَجُوزُ تَفْرِيقُهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَضَاءَ رَمَضَانَ إِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ» .
وَرَوَى الأَثْرَمُ بِإسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أحَدَكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمِينِ حَتَّى يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ، هَلْ كَانَ قَاضِيًا دِينَهُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَاللهُ أَحَقُّ بِالعَفْوِ واَلتَّجَاوُزِ مِنْكُمْ» .
قَالَ البُخَارِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاس - رَضِِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لا بَأْسَ أَنْ يُفَرِّقَ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مُتَتَابِعَاتٍ، فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتِ.
وَلا يَجُوزُ تَأْخِيرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إِلى رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَليَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلا فِي شَعْبَانَ.(1/402)
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنْ كَانَتْ إحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا تَقْدِرُ أَنْ تَقْضِيهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا فِي شَعْبَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِي: قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَليَّ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلا فِي شَعْبَانَ حَتَّى تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ لا قَدْرُ مَا عَلَيْهِ، وَجَبَ القَضَاءُ فَوْرًا مُتَابِعًا لِضِيقِ الوَقْتِ، كَأَدَاءِ رَمَضَانَ فِي حَقَّ مَنْ لا عُذْرَ لَهُ.
وَلا يُكْرَهُ القَضَاء في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنْ أَخَّرَ القَضَاءَ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرَ فَعَلَيْهِ مَعَ القَضَاءِ إِطْعَامُ مُسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُرَوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلافُهُ قَالَهُ في الشَّرْحِ.
وَمَنْ فَاتَهُ رَمَضَانُ قَضَا عَدَدَ أَيَّامِهِ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا لأَنَّ القَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ مَا فَاتَهُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِي يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ وَأَنْ يَقْضِي يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
(فصل) : ثُم اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ لِلصِّيَامِ مَحَاسِنَ كَثِيرَةً وَهِيَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي ثَبَّتْنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فَمِنْهَا: أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ بَطْنُهُ انْدَفَعَ جُوعُ كَثِير مِنْ حَوَاسِهِ فَإِذَا شَبعَ بَطْنُهُ جَاعَ عَيْنُه وَلِسَانُهُ وَيَدُهُ وَفَرْجُهُ فَكَانَ تَشْبِيعُ النَّفْسِ تَجْوِيعًا لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَفِي تَجْوِيعِ النَّفْسِ تَشْبِيعُهَا فَكَانَ هَذَا التَّجْوِيعُ أَوْلَى وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ عَلِمَ حَالُ الفُقَرَاءِ فِي جَوْعِهِمْ فَيَرْحَمُهُمْ(1/403)
وَيُعْطِيهِمْ مَا يَسُدُّ بِهِ جَوْعَهُمْ إِذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كالْمُعَايَنَةِ لا يَعْلَمُ الرَّاكِبُ مَشَقَّة الرَّاجِلَ إِلا إِذَا تَرَجَّلَ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الصِّيَامِ في فَرْضِهِ وَشَرْعِهِ أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ فِي كُلِّ العُمْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْحُسْنِ بَلْ فُرِضَ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرَ رَمَضَانَ وَرُخِصَّ فِي الإِفْطَارِ عِنْدَمَا يَحْصُلُ لَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ عُذْرٌ وَأَيْضًا أَمُرَ بالصَّوْمِ فِي النَّهَارِ وَأُبِيحَ في اللَّيْلِ الإِفْطَارُ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللهِ أَمَرَ عِبَادَهُ عَلى وَجْهِ يُمْكِنُ لَهُمْ فِيهِ إحْرَازُ الفَضِيلَةِ وَاكْتِسَابُ الوَسِيلَةِ وَمِنْ ذَلِكَ إنَّهُ خَصَّ الصِّيَامَ بالنَّهَارِ لأَنَّ الأَكْلَ فِيهِ مُعْتَادٌ، وَالنَّوْمُ في اللَّيْلِ مُعْتَادٌ وَمِنْ مَحَاسِنِ الصَّوْمِ اكْتِسَابِ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ لأَنَّ قِلةَ الأَكْلِ مِنْ مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْمَدْ أَحَدٌ بِكَثْرَةِ الأَكْلِ وَيُحْمَدُ عَلى قِلَّةِ الأَكْلِ يَحْمِدُهُ كُلُّ ذِي دِينٍ فِي كُلِّ حِينٍ وَلَمْ يُرَوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ كُثْرَةُ الأَكْلِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ فِي الصِّيَامِ أَنَّ اللهَ مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ لَمْ يَشْتَرِطْ في القَضَاء مَا في الأداءِ مَنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَشْتَرِطْ في القَضَاء طُولَ اليَوْمِ باليَوْمِ وَلا حَرَارَتَهُ وَلا بُرُودَتَهُ فَإِذَا أَفْطَرَ فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ ثُمَّ قَضَاهُ فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ أَجْزَاهُ وَكَفَاهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرَطْ فِيهِ قِرَانُ النِّيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ كَمَا فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ لأَنَّ هَذَا الوَقْتِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ قَلَّمَا يَقِفُ العَبْدُ عَلَيْهِ فَلوَ شُرِطَ لَضَاقَ الأمْرُ عَلَى النَّاسِ فَيَسَّرَ الأَمْرَ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى أَجَازَ الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ تَقَعُ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ طَرَأ عَلَيْهِ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالرَّفَثُ لأَنَّ اللهَ أَبَاحَ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ إلى آخِرِ اللَّيْلِ فَلَوْ بَطَلَتْ بِهِ فَاتَ مَحَلُّهَا.(1/404)
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الأَبْرَارِ، وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وأَسْكِنَّا الْجَنَّةَ دَارَ القَرَارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : كَتَبَ عُمر بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلى القُرَضِي: أَمَّا بَعَدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تَعِظُنِي وَتَذْكُرُ مَا هُو لِي حَظٌّ وَعَلَيْكَ حَقَّ وَقَدْ أَصَبْتَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ الأَجْرِ إِنَّ الْمَوْعِظَةَ كَالصَّدَقَةِ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَبْقَى نَفْعًا وَأَحْسَنُ ذُخْرًا وَأَوْجَبُ عَلى الْمُؤْمِن حَقًّا، لِكَلِمَةُ يَعِظُ بِهَا الرَّجُلُ أَخَاهُ لِيَزْدَادَ بِهَا فِي هُدىً وَرَغْبَةٌ خَيْرٌ مِنْ مَالِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلِما يُدْرِكُ أَخُوكَ بِمَوْعِظَتِكَ مِنْ الْهُدَى خَيْرٌ مِمَّا يَنَالُ بِصَدَقَتِكَ مِنْ الدُّنْيَا وَلأَنْ يَنْجُو رَجُلٌ بِمَوْعِظَتِكَ مِنْ هَلَكَةٍ خَيْر مِنْ أَنْ يَنْجُو بِصَدَقَتِكَ مِنْ فَقْرٍ.
فَعِظْ مَنْ تَعِظُ لِقَضَاءِ حَقٍّ عَلَيْكَ وَاسْتَعْمِلْ كَذَلِكَ نَفْسَكَ حِينَ تَعِظْ وَكُنْ كَالطَّبِيبِ الْمُجَرِّبِ العَالِمِ الذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ الدَّوَاءَ حَيْثُ لا يَنْبَغِي أَعْنَتَ نَفْسَهُ، وَإِذَا أَمْسَكَ مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي جَهْلَ وَأَثِمَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَاوِي مَجْنُونًا لَمْ يُدَاوِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ حَتَّى يَسْتَوْثِقَ مِنْهَ وَيُوَثِّقَ لَهُ خَشْيَةَ أَنْ لا يَبْلُغَ مِنْهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَتَّقِي مِنْهُ مِنْ الشَّرِ وَكَانَ طِبُّهُ وَتَجْرِبَتُهُ مِفْتَاحُ عَمَلِه، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ الْمِفْتَاحُ عَلى البَابِ لِكَيْمَا يُغْلَقُ فَلا يُفْتَحُ أَوْ ليُفْتَحَ فَلا يُغْلَقُ وَلَكِنْ لِيُغْلَقَ فِي حِينِهِ وَيُفْتَحَ فِي حِينِهِ.
وَكُنْ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعهِمْ
بِإرْشَادِهِمْ لِلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَانْهَهُمْ
عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الْخَنَا عَنْ خَنَائِهِ
وَعِظْهُمْ بَآيَاتِ الكِتَابِ بِحِكْمَةٍ
لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ(1/405)
فَإِنَّ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا
تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ
وَإلا فَقَدْ أَدَّيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْكَ وَمَا مَلَكَتْ أَمْرَ اهْتِدَائِهِ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ. اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ نَسْأَلُكَ أَنْ تَهْدِينَا إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتِقيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمِ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ
وَيَبْحَثُ في:
1- مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ.
2- صِفَةِ أو كَيْفِيَّةِ التَّرَاوِيحِ.
3- مَذَاهِبِ العُلَمَاَءِ رَحِمَهُم الله في عَدَدِ رَكَعَاتِهَا.
4- مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا.
1- مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ.(1/406)
التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مَؤَكَّدةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَكَثَرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «رَأَيْتُ الذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعِنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» . وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: (كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ باللَّيْلِ أَوْزَاعًا مَعَ الرَّجُلِ الشَّيْءَ مِنْ القُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعَهُ النَّفَرُ الْخَمْسَةُ، أَوْ السَّبْعَةُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، قَالَتْ: فَأَمَرِنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أنْصِبَ لَهُ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةِ فاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ فِي الْمَسْجِد فَصَلَّى بِهِمْ. وَذَكَرْتُ القِصَّةَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ) .
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ عَنْ أَبِي ذَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِي سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لِيْلَتِنَا هَذِهِ فَقَالَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامَ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللهُ لَهُ قِيَامَ لِيْلَةٍ» . ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِي ثَلاثٌ مِنَ الشَّهْرِ فَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ حَتَّى تَخَوَّفنَا الفَلاحَ، قَلْتُ لَهُ: وَمَا الفَلاحَ؟ قَالَ: السُّحُورُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ في قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرُهُمْ بِعَزِيمَةٍ) ،(1/407)
فَيَقُولَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانِ، وَسَنَنْتُ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذِنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أَمُّهُ» .
وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةٌ فِي حَصِيرِ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «مَا زَالَ بِكُمْ الذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ» .
2- صِفَةِ أو كَيْفِيَّةُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ:
صَلاةِ التَّرَاوِيحِ بِجَمَاعَةٍ أَفْضَلُ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: (كَانَ عَلي، وَجَابِرُ، وَعَبْدُ اللهِ - رَضِي اللهُ عَنْهُم - يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً) ، وَرُوِيَ عَنْ عَلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَنَّهُ كَانَ يَجْعَل لِلرِّجَالِ إِمَامًا وَلِلنِّسَاءِ إمَامًا) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامَ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلِهِ» .
وَيَجْهَرُ الإِمَامُ بالقِرَاءَةِ لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَن السَّلَفِ. وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ، وَوَقْتَهَا بَعْدَ صَلاةِ العِشَاءِ، قَبْلَ الوِتْرِ إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ، وَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلٌ، لأَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاهَا ثَلاثَ لَيَالٍ مَتَوَالِيَةً، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةَ - رَضِي اللهُ عَنْها - وَمَرَّةً ثَلاثَ لَيَالٍ(1/408)
مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا رَوَى أُبُو ذَرّ قَالَ: مَنْ قَامَ مَعِ الإِمَامَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ، وَكَانَ أَصْحَابَهُ يَفْعَلُونَهَا فِي الْمَسْجِدْ أَوْزَاعًا فِي جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي عَهْدِهِ.
وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ... وَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ
شِعْرًا: ... وَمَا اللَّيْل إلا لِلمُنِيب مَطِيَّةٌ ... وَمِيدَانُ سَبْق لِلذِي يَتَهَجَّدُ
آخر:
يَهْوَى الدَّيَاجِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلِهَا ... كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيَنٌ نُجُلُ
آخر:
إِذَا شَمَّ الفَتَى بَرْقَ الْمَعَالِي ... فَأَهْوَنُ فَائِتٍ طَيْبُ الرِّقَادِ
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن القاَرِئْ قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بُنِ الْخَطَّابِ في رَمَضَانَ إِلى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مَتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ علَىَ قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبِيّ بِنْ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: (نِعْمَتْ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ التِي يَقُومُونَ) . يَعْنِي: آخِرُ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ مِنْ الانْفِرَادِ وَكَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَتَجُوزُ فُرَادَى وَاخْتَلَفَ أَيَّتُهما أَفْضَلُ لِلقَارِئ، قَالَ البَغَوِي وَغَيْرِه: الْخِلافُ بِمَنْ يَحْفَظُ القُرْآنَ، وَلا يَخَافُ الكَسَلَ عَنْهَا لَوْ انْفَرَدَ، وَلا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ بِتَخَلُّفِهِ، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الأمُورِ فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ بِلا خِلافٍ وَأَمَّا عَدَدُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ فَقَالَ القَاضِي: لا خِلافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلا يَنْقُصْ مِنْهُ.
فَاخْتَارَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عِشْرِينَ رَكْعَةً لِمَا رَوَى مَالِكُ فِي (الْمُوَطَّأِ) عَنْ يَزِيدِ بن رُومَانَ قَالَ: (كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِثَلاثِ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً) .(1/409)
وَقَالَ السَّائِبُ بِنْ يَزِيدَ: لِمَّا جَمَعَ عُمَرَ النَّاسَ عَلَى أُبِيّ بِنْ كَعْبٍ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فِي كِتَابِهِ (الشَّافِي) : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: لَهُ أَنْ يُصَلِّيهَا عِشْرِينَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ في مَذْهَب أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِي، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيهَا سِتًّا وَثَلاثِينَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلاثَ عَشْرَةَ وَكُلُّهُ حَسَنٌ، فَيَكُونَ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ أَوْ تَقْلِيلُهَا بِحَسْبِ طُولِ القِيَامِ وَقِصَرِهِ. وَقَالَ: الأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتَمَالٌ بِعَشْرِ رَكْعَاتٍ وَثَلاثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ فَهُو الأَفْضَلُ، وَإِنْ كَانُوا لا يَحْتَمِلُونَهُ، فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَفْضَلُ وَهُوَ الذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وسَطٌ بَيْنَ العَشْرِ وَالأَرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بَأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ، وَلا يَكْرَهُ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُؤَقَّتُ لا يُزْدَادُ فِيهِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَقَدْ يَنْشَطُ العَبْدُ فَيَكُونُ الأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفِهَا.
وَقَالَ: قِرَاءَةُ القُرْآنِ في التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ باتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مِنْ أَجْلِ مَقْصُودِ التَّرَاوِيحِ قِرَاءَةُ القُرْآنِ فِيهَا لِيَسْمَعُوا كَلامَ اللهِ، فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِيهِ نَزَلَ القُرْآنِ - فِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. انْتَهَى كَلامَهُ رَحِمَهُ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) 4- مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا:
وَعَلَى الإِمَامِ أَنْ يَتَّقِي اللهَ فَلا يُسْرِعُ سُرْعَةً تَمْنَعُ الْمَأْمُومِ مِنْ الإِتْيَانِ بِرُكْنٍِ كَالطُمْأَنِينَةِ، أَوْ وَاجِبٍ كَتَسْبِيحِ رُكُوعِ وَتَسْبِيحِ سُجُودِ، أَوْ(1/410)
قَوْلِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَمَنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، أَثْقَلُ الأَئِمَةِ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِذَا يَفِرُّونَ مِنْهُ وَيَذْهَبُونَ إِلى مَنْ يُسْرِعُ بِهَا وَلا يُتِمُّها عَلَى الوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَلا يَطْمَئِنُّ بِهَا، وَالطَّمَأْنِينَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاةِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ في صَلاتِهِ لَمَا أَخَلَّ بِالطُّمَأنِينَةِ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَكَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَ عَلَى العُصِيّ مِنْ طُولِ القِيَامِ.
وَعَنْ الأَعْرَجِ قَالَ: (مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ إلا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ. وَقَالَ: وَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ البَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ) .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنْ القِيَامِ فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بالطَّعَامِ مَخَافَةَ فَوْتِ السُّحُورِ، وَفِي أُخْرَى: (مَخَافَةَ الفَجْرِ) .
وَعَنْ السَّائِبِ بن يَزِيدَ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيّ بن كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِي - رَضِي اللهُ عَنْهُم - أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِإحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ، فَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى العُصيِّ مِنْ طُولِ القِيَامِ، فَمَا كُنَّا نَنْصِرِفُ إِلا فِي فُرُوعِ الفَجْرِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةِ القَلَمِ فِي عِشَاءِ الآخِرَةِ مِنْ الليلةِ الأَوْلَى مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الفَاتِحَةِ لأَنَّها أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ القُرْآنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْقُصَ عَنْ خَتْمَةٍ فِي التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ القُرْآنِ. وَيَتَحَرَّى أَنْ يَخْتِمَ آخِرَ التَّرَاوِيحِ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَيَدْعُو.(1/411)
شِعْرًا:
وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيَانِ مِنْ كَانَ هَمُّهُ ... جَرَائِدَ يَقْرَأهَا وَمِذْيَاعَ يَسْمَعُ
وَلَكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ مِنْ كَانَ هَمُّهُ ... قِرَاءَةُ قُرْآنٍ فَيَتْلُو وَيَسْمَعُ
وَلِشَيْخِ الإِسْلامِ فِي ذَلِكَ دُعَاءٌ جَامِعٌ شَامِلٌ. وَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ.
وَقَالَ العُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِقَارِئِ القُرآنِ إِذَا خَتَمَهُ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَه فَإِنَّهُ روي عن أنسِ بن مالكٍ أنه كان يَجْمَعُ أَهْلَهُ عند خَتْمِ القُرآنِ. وعنه أنه إذا أشْفَى على خَتْمِ القُرآن بالليل بَقِيَ أَرْبَعُ سُورٍ أَوْ خَمْس فَإِذَا أَصَبَحَ جَمَعَ أَهْلَهُ فَخَتمه ودعا، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ عَلِمَ بالخَتْمِ أَنْ يَحْضُرَهُ.
ورُوِي عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَقْرأ في مَسْجِدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ابنُ عباسٍ يجعَلُ عليه رَقيبًا. فإذا أَرادَ أن يختمَ قال لِجُلَسَائِهِ: قُومُوا بنا حتى نَحْضُرَ الخاتِمَةِ. وعن مجاهد: كانوا يَجْتَمِعُونَ عند خَتْمِ القُرآن وَيَقُولُونَ: الرحمةُ تنزل.
وعن الحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدُ وعنده ابْنُ أَبي لُبَابَةَ وَأُنَاسٌ يَعْرِضُونَ القُرْآنَ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوهُ أَرْسَلُوا إِلَيْنَا وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَخْتِمَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ تَشْهَدُونَا فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا خُتِمَ القُرآن نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عند خَتْمِهِ، أو حَضَرَتِ الرحمةُ عند خَتْمِهِ.
وقال وُهَيْبُ بنُ الوَرْد: قال لي عَطَاءٌ: بَلَغَنِي أَنَّ حُمَيْدَ الأَعْرجَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتِمَ القُرآنَ فَانْظُرْ إِذَا أَرَادَ أن يَخْتِمَ فَأخْبِرْنِي حَتَّى أَحْضُرَ الْخَتْمَةَ.
وقال في المغني:
(فَصْلٌ) : فِي خَتْمِ القُرْآنِ: قَالَ الفَضْلُ بن زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ فُقُلْتُ أَخْتمُ القُرْآنِ أَجْعَلُهُ في الوِتْرِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَائَيْن. قُلْتُ: كَيْفُ أَصْنَعُ؟ قَالَ إِذَا فَرِغْتَ مِنْ آخِرِ القُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ وادُعْ بِنَا وَنَحْنُ في الصَّلاةِ وَأَطِلِ القِيَامِ. قُلْتُ: بِمَا أَدْعُو؟(1/412)
قَالَ: بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَفَعَلْتُ بِمَا أَمَرَنِي وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ حَنْبَلُ: سَمِعْتُ أَحْمَدُ يَقُولُ في خَتمِ القُرْآنِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ قِرَاءِة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاء قَبْلَ الرُّكُوعِ. قُلْتُ: إِلى أَيُّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ سُفْيَانُ بَنْ عُيَيْنَةَ يَفْعَلْهُ مَعْهُم بِمَكَّةَ. قَالَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ العظيم وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا الناسَ بالبَصْرَةِ وَبِمَكَّةِ. وَيَرْوِي أَهْلُ المدينةِ فِي هَذَا شَيْئًا وَذَكَر عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفان. وقالَ في الشرح الكبير مِثْلَ مَا قال في الْمُغْنِي، وقال في الأذكار: وَيُسْتَحَّبُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْختمِ لِمَنْ يَقْرَأ وَلِمَنْ لا يُحْسِنُ أَنْ يَقرأ فَقَد رُوِينَا في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ الحُيَّضَ بالخروج يومَ العِيدِ فلْيَشْهَدْنَ الخيرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِين. وَوَرَدَ: لا يَجْتَمعُ مَلاءٌ فَيَدْعُو بَعْضُهم ويُؤمِّنُ بَعْضُهُمْ إلا أجَابَهمُ الله. (طب، ك، ق) .
تَمَسَّكَ بِحَبَّلِ اللهِ وَاتَّبِعِ الْهُدَى ... وَلا تَكُ بِدْعيًا لَعَلَّكَ تَفْلِحُ
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ وَالسُّنَنِ التِي ... أَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ تَنْجُو وَتَرْبَحُ
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَلامُ مَلِيكِنَا ... بِذَلِكَ دَانَ الأَتْقِيَاءُ وَأَفْصَحُوا
وَقُلْ يَتَجَلَّى اللهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةٍ ... كَمَا البَدْوُ لا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَلَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيْسَ لَهُ شِبْهُ تَعَالى الْمُسَبَّحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَحَّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَقَالِ مُحَمَّدٍ ... فَقُلْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ في ذَلِكَ تَنْجَحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ أَيْضًا يَمِينَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بِالفَوَاضِلِ تُفْتَحُ
وَقُلْ يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ... بِلا كَيْفٍ جَلَّ الوَاحِدُ الْمُتَمَدِّحُ
إِلى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ
يَقُولُ أَلا مُسْتَغْفِرًا يَلْقَ غَافِرًا ... وَمُسْتَمْحِنًا خَيْرًا وَرَزِقًا فَيَمْنَحُ
رَوَى ذَاكَ قَوْمٌ لا يُرَدُّ حَدِيثُهُمْ ... أَلا خَابَ قَوْمٌ كَذَبُوهُم وَقُبِّحُوا(1/413)
وَقُلْ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيْرَاهُ قِدْمًا ثُمَّ عُثْمَانَ الأَرْجَحُ
وَرَابِعْهُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ بَعْدَهُمْ ... عَلَيّ حَلِيفُ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ مُمْنَحُ
وَإِنَّهُمُوا وَالرَّهْطُ لا شَكَّ فِيهِمْ ... عَلَى نُجَبِ الفِرْدَوْسِ بِالْخُلْدِ تَسْرَحُ
سَعِيدٌ وَسَعْدٌ وَابنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ ... وَعَامِرُ فَهْرٍ وَالزُّبَيْرُ الْمُمَدَّحُ
وَقُلْ خَيْرُ قَوْلٍ فِي الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ ... وَلا تَكُ طَعَّانًا تَعِيبُ وَتَجْرَحُ
فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ الْمُبِينُ بِفَضْلِهِمْ ... وَفِي الفَتْحِ آيٌ لِلصَّحَابَةِ تَمْدَحُ
وَبِالقَدَرِ الْمَقْدُورِ أَيْقَنْ فَإِنَّهُ ... دَعَامَةِ عَقْدَ الدِّينِ وَالدِّينُ أَفْيَحُ
وَلا تُنْكِرنَ جَهْلاً نَكِيرًا وَمُنْكَرًا ... وَلا الْحَوْضِ وَالْمِيزَانَ إِنَّكَ تُنْصَحُ
وَقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظِيمُ بِفَضْلِهِ ... مِنَ النَّارِ أَجْسَادًا مِنْ الفَحْمِ تُطْرَحُ
عَلَى النَّهْرِ فِي الفِرْدَوْسِ تَحْيَا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَمِيلِ السَّيُلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ لِلْخَلْقِ شَافِعٌ ... وَأَنَّ عَذَابَ القَبْرِ بِالْحَقِّ مُوْضَحُ
وَلا تُكْفِرَنْ أَهْلَ الصَّلاةِ وَإِنْ عَصَوا ... فَكُلُّهُمْ يَعْصِي وَذُو العَرْشِ يَصْفَحُ
وَلا تَعْتَقِدْ رَأَيْ الْخَوَارِجْ إِنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يَهْوَاهُ يُرْدِي وَيَفْضَحُ
وَلا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... أَلا إِنَّمَا الْمُرْجِي بِالدِّينِ يَمْزَحُ
وَقُلْ إِنَّمَا الإِيْمَانُ قَوْلٌ وَنِيَّةً ... وَفِعْل عَلَى قَوْلِ النَّبِي مُصَرَّحُ
وَيَنْقُصُ طَوْرًا بِالْمَعَاصِي وَتَارَةً ... بِطَاعَتِهِ يَنْمَى وَفِي الوَزْنِ يَرْجَحُ
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ أَزْكَى وَأَرْجَحُ
وَلا تَكُ مِنْ قَوْمٍ تَلَهَّوا بِدِينِهِمْ ... فَتَطْعَنَ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَتَقْدَحُ
إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاحِ هَذِهِ ... فَأَنْتَ عَلَى خَيْرٍ تَبِيتُ وَتُصْبِحُ
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعَبَادِكَ الأَخْيَارِ وَانْظُمْنَا فِي سِلْكِ الْمُقَرِّبِينَ وَالأَبْرَارِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا(1/414)
وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
عباد الله: تَصَرَّمَت الأَعْوامُ عَامًا بَعْدَ عَام، وأنتم في غَفْلَتِكمُ ساهون نيام. أما تُشَاهِدُونَ مَواقِع المنايا، وحلولَ الآفاتِ والرَّزَايَا. وَكيفَ فاز وأفلحَ المتقون، وكيفَ خَابَ وخَسرَ المبطلون المفرطون، فياليتَ شِعْرِي على أي شيءٍ تُطْوَى صَحَائِفُ الأعمال. أعَلىَ أعْمالٍ صَالِحَةٍ وتوبةٍ نَصُوح تُمْحَى بها الآثامْ؟ أم علىَ ضِدهَا فَلْيَتُبِ الجاني إلى رَبِّه فالعملُ بالخِتام. فاتقوا الله عبادَ اللهِ واستدِركُوا عُمُرًا ضيعتمُ أَوَّلَهُ، فإنَّ بَقَيِةَ عُمُرِ الْمُؤْمِنِ لا قيمة له. فرحِمَ اللهُ عَبْدًا اغتنمَ أيامَ القُوةِ والشبابِ وأسرعَ بالتوبةِ والإنابةِ قَبلَ طي الكِتابْ، وأخَذَ نَصِيبًا مِن الباقياتِ الصالحات قَبْلَ أن يَتَمَنَّى سَاعةً وَاحِدَةً مِنْ سَاعَاتِ الْحَيَاةِ. أينَ مَنَ كان قَبْلَكُم في الأوقاتِ الماضيةِ؟ أما وَافَتْهَمُ المنايا وَقَضَتْ عَليهم القَاضيَةُ، أين آباؤُنَا؟ وأينَ أمهَاتنا؟ أينَ أقارِبُنَا؟ وأينَ جِيرَانُنا؟ أَيْنَ مَعَارفُنا؟ وأينَ أصْدِقَاؤنَا؟ رَحَلُوا إلى القُبور وقلَّ واللهِ بَعدهَم بقَاؤُنا. هَذِهِ دُورُهَمُ فِيهَا سِوَاهمُ، هَذا صَدِيقُهم قَد نَسِيَهَمْ وَجَفَاهمُ. أخبارهُم السَّالَفةُ تُزعجُ الأَلْبَابْ، وادِّكَارِهُم يَصْدَعُ قُلُوبَ الأحباب. وأَحْوَالَهُم عِبرةٌ لِلْمُعْتَبِرينَ. فتأملوا أَحْوال الراحلين، واتعظُوا بالأمَمِ الماضِين، لعل القلبَ القاسيَ يلين. وانْظُرُوا لأَنْفُسِكم ما دُمْتُمْ في زَمَنِ الإمهالِ، واغْتَنِمُوا فِي حَيَاتِكمُ صَالحَ الأعمالِ، قَبلَ أن تقولَ نفسٌ: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ، فيقالُ: هَيْهَاتَ فَاتَ زَمَنُ الإِمْكَانِ، وَحَصَلَ الإِنْسَانُ على عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ عِصْيَان. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان أن تختم أعمالنا بالعفو والغفران، والرحمة، والجود والامتنان، وأن تجعل وقتنا مباركًا حميدًا، وَتَرْزُقَنَا فِيهِ رِزْقًا واسِعًا وتَوفيقًا وَتَسْدِيدًا. اللَّهُمَّ اخْتمُ بالصالحاتِ أعمالنا، وأصلح لنا جميع أحوالنا.
أَفي كُلَّ يَوْمِ لي مُنَىً أَسْتَجدُّهَا ... وَأَسْبَابُ دُنْيًا بِالغرورُ أَوَدُّهَا؟(1/415)
وَنَفْسٌ تَزَيَّا لَيْتَهَا في جَوَانِحٍ ... لِذِي قُوَّةٍ يَسْطِيعُهَا فَيَرُدُّهَا
تَعَامَهُ عَمْدًا وَهِيَ جِدُّ بَصيرَةً ... كَمَا ضَلَّ عَنْ عَشَواءَ باللّيلِ رًشْدُهَا
إِذَا قُلْتُ يَوْمًا: قَدْ تَنَاهَى جِمَاحُهَا ... تَجَانَف لي عَنْ مَنْهَج الحَقِّ بُعْدُهَا
وَأَحسَبُ مَولاهَا كَما يَنْبَغي لَهَا ... وَإِنِّي مِنْ فَرْطِ الإِطَاعَةِ عَبْدُهَا
وَأْهَوَى سَبِيلاً لا أُرَى سَالِكًا بِهَا ... كَأَنِّي أَقْلاهَا وَغَيرِي يَوَدُّهَا
وَأَنْسَى ذُنُوبًا لِي أَتَتْ فَاتَ حَصْرُهَا ... حِسَابِي وَرَبِّي لِلْجَزَاءِ يَعُدُّهَا
أُقرُّ بِهَا رَغْمًا وَلَيْسَ بِنَافعِي ... -وَقَدْ طُوِيَتْ صُحْفُ المَعَاذِيرُ- جَحْدُهَا
وَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيا تَصُدُّ عَنِ الذي ... يَوَدُّ مُحِبُّوهَا فَيَحْسُنُ صَدُّهَا
وَتَسْقِيهُمُ منِهْاَ الأُجَاجَ مُصَرَّدًا ... وَكَيْفَ بِهَا لَوْ طَابَ لِلْقَوم عدُّها؟
أَرَاهَا عَلَى كُلِّ العُيُوب حَبِيبَةً ... فَيَا لِقُلُوبَ قَدْ حَشَاهُنَّ وُدُّهَا
وَحُبُّ َبني الدُّنيا الحياة مَسِيئَةً ... بِهِمْ ثَلَمَةٌ بِالنَّفْسِ أَعْوزَ سَدُّها
سَقَى الله قَلْبًا لَمْ يَبِتْ فِي ضُلُوعِهِ ... هَواهَا وَلَمْ يَطْرُقْ نَوَاحِيهِ وَجْدُهَا
تَخَفَّفَ مِن أَزْوَادِهَا مِلْءَ طَوْقِهِ ... فَهَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ فَقدُها
اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ البَرِيَّةِ جُودُهُ وَإِنْعَامِهُ نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانكِ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل في مَشْرُوعِ صَلاةِ الوِتْرَ، وَحُكْمَهَا.
وَوَقْتِ صَلاةِ الوِتْرَ.
وَالقِرَاءَةِ المُسْتَحَبَّةُ فِيهَا.
وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا.
وَدُعَاءِ القُنُوتِ في الوِتْرِ.
1- مَشْرُوعِيَّةُ صَلاةِ الوِتْرِ، وَحُكْمُهَا:
الوِتْر سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمُدَاوَمَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عليه في حَضْرِهِ وفي سَفَرِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ(1/416)
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (لَيْسَ الوِتْرُ بحَتْمِ كَهَيْئَةَ المَكْتُوبَةً، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِي وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَة) وَلَفْظُهُ: إِنَّ الوتْرَ لَيْسَ بحَتْم وَلا كَصَلاتِكُمْ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ القُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» .
وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ القَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ وَقَالَ: «خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُم الوتْرُ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَعَنْ ابن عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ. رَوَاهُ الجَمَاعَةُ.
2- وقت صلاة الوتر:
وَوَقْتَ الوِتْرِ بَعْدَ صَلاةِ العِشَاءِ وَسُنَّتِهَا لِمَا رَوَى خَاجَةُ بنُ حُذَافَةُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ: «لَقَدْ أَكْرَمَكُمْ اللهُ بِصَلاةٍ هِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ النِّعَم» ، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الوِتْرُ فَيمَا بِيْنَ صَلاةِ العِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا النِّسَائِي.
وَرَوَى أَبُو بَصْرَةَ: أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلاةً فَصَلُّوَها مَا بَيْنَ صَلاةِ العِشَاءِ إلِى صَلاةِ الصُّبْحِ، الوِتْرُ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالأَفْضَلُ فِعْلُهُ سَحَرًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ: مِنْ كُلِّ الليلِ قَد أَوْتَرَ رَسُولُ(1/417)
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ جَعَلَ الوِتْرَ بَعْدَهُ، وَمَنْ خَشِي أَنْ لا يَقُومَ، أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، لَمَا وَرَدْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضْيَ اللهُ عَنْهُما - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنَّ أَحَبَّ مَنْ لَهُ تَهَجُّدٌ مُتَابَعَةَ الإِمَامِ في وُتْرِهِ قَامِ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ وَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ الوِتْرِ شَفَعَ بِهَا رَكْعَةَ الوِتْرِ. ثُمَّ إِذَا تَهَجَّدَ أَوْتَرَ فَينَالُ فَضِيلَةَ مُتَابَعَةِ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصِرَف، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» . صَحَّحَهُ التِّرْمِذِي.
وَيَنَالُ فَضِيلَةَ جَعْلِ وِتْرِهِ آخِر صَلاتِهِ لِحَدِيثِ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَفَّقٌ عَلَيْهِ. وَيَقْضِيهِ مَعَ شَفْعِهِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ لِحَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودَ.
وَلا يَصِحُّ الوِتْرُ قَبْلَ صَلاةِ العِشَاءِ لِعَدَمِ دُخُولِ وَقْتِهِ، وَأَقَلَّ الوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَلا يُكْرَهُ الإِتْيَانُ بِهَا مُفْرَدَة وَلَوْ بِلا عُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا لِمَا ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُما - أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمُ.(1/418)
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسِ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا التٍّرْمِذِي.
وَثَبَتَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الوِتْرَ رَكْعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرِ، وَعُمَرُ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ العِلْمِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِي وَغَيْرِهِمْ - رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّى مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ) .
وِفِي لَفْظٍ: كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ. وَأَدْنَى الكَمَالِ فِي الوِتْرِ ثَلاثُ رَكَعَاتٍ بِسَلامَيْنِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بِنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الوِتْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْصِلْ بَيْنَ الوِاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ» . رَوَاهُ الأَثْرَمُ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ بِيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ بِالتَّسْلِيمِ في الوِتْرِ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِبِعْضِ حَاجَتِهِ. رَوَاهُ البُخَارِي.
وَيَجُوزُ سَرْدُ الثَّلاثِ بِسَلامٍ وَاحِدٍ، فَلا يَجْلِسْ إلا فِي آخِرِهِنَّ، وَتَجُوزُ كَمَغْرِبِ. وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَةً مِنَ الثَّلاثِ فَإِنْ كَانَ الإِمَامُ يُسَلِّمُ مِن كُلِّ اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ لأَنَّ أَقَلَّ الوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الإِمَامُ يُسَلِّم مِنْ كُلِّ اثْنَتَينِ قَضَى، لِحَدِيثِ: «مَا أَدْرَكْتُمُوهُ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكم فَاقضُوا» . وَلأنَّ القَضَاءِ يَحْكِي الأَدَاءَ.(1/419)
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِتَدَبُّرِ كِتَابِكَ وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ وَجَمْعِ الفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَوَاعِدَ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِنَا وَشَيِّدْ فِيهَا بُنْيَانَهُ وَوَطِّدْ فِيهَا أَرْكَانَهُ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: (كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِثَلاثٍ لا يَفْصِلُ فِيهِنَّ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي.
وَعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِي، وَزَادَ: وَلا يُسَلِّمُ إلا فِي آخِرِهِنَّ، وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِي عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَفِيهِ كُلُّ سُورَةٍ في رَكْعَةٍ، وَفِي الأَخِيرَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالمعَوِّذَتَينِ.
والسُّنَّةُ لِمَنْ أَوْتَرَ بِمَا زَادَ عَلى رَكْعَةٍ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالوِتْرِ، وَيُسِنُّ فِعْلُ الرَّكْعَةِ عَقِبَ الشَّفْعِ بَلا تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ، وَإْنَ صَلَّى الإِحْدَى عَشْرَةَ كُلَّهَا بِسَلامٍ وَاحِدٍ بَأَنْ سَرَدَ عَشْرًا وَتَشَهَّدَ(1/420)
التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى بِالرَّكْعَةِ حَازَ، أَوْ سَرَدَ الجَمِيعِ وَلَمْ يَجْلِسَ إِلا فِي الأَخِيرَةْ جَازَ لَكِنْ الصِّفَةُ الأُولَى أَوْلَى لأَنَّهَا فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4- عدد ركعاتها:
يَجُوزُ الوِتْرُ بِخَمْسٍ وَبِسَبْعٍ وَبِتِسْعٍ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ سَرَدَ تَمَامًا وَجَلَسَ وَتَشَهَّدَ التَّشَهُّد الأوَّلَ وَلَمْ يُسَلِّم، ثُمَّ إِذَا صَلَّى التَّاسِعَةَ وَتَشَهَّدَ سَلَّمَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنَ هِشَامِ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ؟ قلتُ: يَا أُمَّ الْمُؤمِنينَ أَنْبِئيني عَنْ وَتْرِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَبُولُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى تِسْعَ رَكَعَاتٍ لاَ يَجْلِسُ فِيهَا إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلاَ يُسَلِّمُ فَيُصَلِّى التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا فَيُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ أَوْ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلا فِي آخِرِِهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ سَلامٌ وَلا كَلامٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ولاَ يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.(1/421)
فصل في دعاء القنوت في الوتر:
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْنُتَ في الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَمْرُو، وَعَلي: أَنَّهُمَا كَانَا يَقْنُتَانِ بَعْدَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَثْرَمُ. وَلَوْ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيِهِ ثُمَّ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ جَازَ لِحَديث أبي بن كَعْبٍ: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى الأَثْرَمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ في الوِتْرِ، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ القِرَاءَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَنَتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنِ الخَطِيبِ: وَالقُنُوتُ: الدَّعَاءُ وَهُوَ مَا رُوِي عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ قَنَتَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَهْدِيكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الخَيْرَ كُلَّهُ وَنَشْكُرُكَ وَلا نَكْفُرَكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ الجِدَّ بِالكُفَّارِ مُلْحِقٌ.
وَرَوَى الحَسَنُ بنُ عَلِي - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ في قُنُوتِ الوِتْرِ وَهُنَّ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شِرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإْنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» .
وَعَنْ عَلِي بِنْ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي وِتْرِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذُ بِرَِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكِ، لا نُحْصِي ثََنَاءٌ عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا(1/422)
أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِحَدِيثِ الحَسَنِ بِنْ عَلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفي آخِرِهِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. رَوَاهُ النِّسَائِي.
وَعَنْ عُمَرَ: (الدُّعَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّي عَلَى نَبِيَّكَ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ هُنَا، وَخَارِجَ الصَّلاةِ إِذَا دَعَا. لِعُمُومِ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، لا يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِي.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَة. وَيُؤَمِّنُ المُنْفَرِدُ الضَّمِيرَ، وَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الوِتْرِ سُنَّ قَوْلُهُ: «سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ» - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ، لِمَا رَوَى أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِا سَلَّمَ فِي الوِتْرِ قَالَ: «سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ» . وَزَادَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ في آخِرِهِنَّ.
وَفِي رِوَايةٍ لِلنِّسَائِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنْ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: «سُبْحَانَ الملكِ القُدُّوسِ» ثَلاثًا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ.
وَصَلِّ بِشَهْرِ الصَّوْمِ عَشْرِينَ رَكْعَةً ... تَرَوِايحَ فِي جَمْعٍ وَبِالوِتْرِ شَيِّدِ
وَقُمْ بَعْدَهَا وَاشْفَعْ هُدِيتَ بِرَكْعَةٍ ... لِتُوتِرَ إِمَّا شِئْتَ بَعْدَ التَّجَهُّدِ
وَأَفْضَلُ نَفْلِ المَرْءِ لَيْلاً بِبَيْتِهِ ... فَقُمْ تِلْوَ نِصْفٍ مِثْلِ دَاوُدَ فَاسْجُدِ
وَإِنْ شِئْتَ اجْهَرْ فِيهَ مَا لَمْ تَخَفْ أَذَى ... لإِبْعَادِ شَيْطَانٍ وَإِيقَاظِ رُقَّدِ
وَخُذْ قَدْرَ طَوْقِ النَّفْسِ لا تَسْأَمَنَّهُ ... وَقِلْ تَسْتَعِنْ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّجَهُّدِ(1/423)
فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَاذْكُرِ اللهِ جَاهِدًا ... وَتُبْ وَاسْتَقِلْ مِمَّا جَنَيْتَ وَسَدِّدِ
فَلا خَيْرَ فِي عَبْدٍ نَؤُومٍ إِلَى الضُّحَى ... أَمَا يَسْتَحِي مَوْلاً رَقِيبًا بِمَرْصَدِ
يُنَادِيهُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَ سُؤْلَهُ ... وَمُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ وَيُؤَيَّدِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكَ وَأَرْشِدْنَا إِلَى السَّعْي فَيمَا يُرْضِيكَ وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيِكَ وَعَذَابِكَ وَهْبَ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ حِزْبِكَ المُفْلِحِينَ، وَاجْعَلنا مِنْ عِبَادِكَ المُخْلَصِينْ وَأَمِّنَا يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الدِّينْ، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيَبْحَثُ فِي:
1- مَا وَرَدَ مِنَ الحَثِّ عَلَى الاجْتِهَادِ فِي العَشْرِ الأَخِيرِ مِنْ رَمَضَان، وَالحَثِّ عَلَى القِيَامِ عُمُومًا.
2- مَا وَرَدَ في فَضْلِ هَذَا العَشْرِ الأَخِيرِ، وَالحَثِّ عَلَى القِيَامِ عُمُومًا.
3 - مَا وَرَدَ في لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الفَضْلِ وَذِكْرِ عَلامَتِهَا.
1- مَا وَرَدَ مِنَ الحَثِّ عَلَى الاجْتِهَادِ في العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ:
يُسْتَحَبُّ الاجْتِهَادُ وَالحِرْصُ عَلَى مُدَاوَمَةِ القَيَامِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان وَإِحْيَاؤُهَا بِالعِبَادِةِ وَاعْتِزَالُ النِّسَاءِ وَأَمْرُ الأَهْلِ بِالاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَةِ فِيهَا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: (أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/424)
وَعْنَهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوِاخِرِ مِنْهُ مَالا يَجْتَهْدُ فِي غَيْرِهِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ عَلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيقُ الصَلاةَ) .
وَفِي التِّرمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِي اللهُ عَنْهُا - قَالَتْ: (لَمْ يَكُن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ القِيَام إِلا أَقَامَهُ) .
2- مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذَا العَشْرِ الأَخِيرِ:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ الجَمَاعَةُ إِلا ابْن مَاجَة.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُّوٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَغْتَسِلُ، وَيَتَطَيَّبُ فِي اللَّيَالِي التِّي تَكُونُ أَرْجَى لِلَيْلَةِ القَدْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ حُلَّةً وَأْزَرَارًا وَرِدَاءً، فَإِذَا أَصْبَحَ طَوَاهُمَا فَلْمَ يَلْبَسْهُمَا إِلَى مِثلِهَا مِنْ قَابِلَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بنُ سَلََمَةَ: كَانَ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ يَلْبِسَانِ أَحْسَنَ ثِيَابِهِمَا(1/425)
وَيَتَطَيَّبَانِ وَيُطَيِّبَانِ المَسْجِدَ بِالنُّضُوحِ وَالدُّخْنَةٍ فِي اللَّيْلَةِ التي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ فَيُسْتَحَبُّ فِي اللَّيَالِي التي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَة القَدْرِ التَّنَظُّفُ وَالتَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنِ بِالغُسْلِ وَالطِّيبِ وَاللبَاسِ الحَسَن كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ فِي الجُمَعِ وَالأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ يُشْرِعُ أَخْذَ الزِّينَةِ مِنَ الثِّيَابِ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: (اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ) .
وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلا يَكْمُلُ التَّزَينُ الظَّاهِرُ إِلا بِتَزْيينِ البَاطِنِ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ، وَاللهُ سُبْحَانُهُ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .
شِعْرًا:
إِذَا صَدَرَتْ مِنْكَ الذُّنُوبِ فَدَاوِهَا ... بِرَفْعِ يَِد فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ مُظْلِمُ
وَلا تَقْنَطَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّمَا ... قُنُوطُكَ مِنْهَا مِنْ خَطَايَاكَ أَعْظَمُ
فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنِينَ كَرَامَةٌ ... وَرَحْمَتُهُ لِلْمُذْنِبِينَ تَكَرُّمُ
آخر:
عَلَيْكَ بِإِخْلاصِ العِبَادَةِ لِلَّذِي ... لَهُ نِعَمٌ لا تَنْحَصِي وَفضَائِلُ
فَمَنْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُزَيّنْ ظَاهِرَهُ بِاللِّبَاسِ، وَبَاطِنَهُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} .
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عَشْرَكُمْ هَذَا هُوَ العَشْرُ الأَخِيرُ، وَفِيهِ الخَيْراتُ وَالأجُورُ الكَثِيرَةُ تَكْمُلَ فِيهَ الفَضَائِلُ، وَتَتِمُّ فِيهِ المَفَاخِرُ، وَيَطَّلَعُ عَلَى عِبَادِهِ الرَّبُ العَظِيمُ الغَافِرُ وَيُنِيلُهُمْ الثَّوَابَ الجَزِيلَ الوَافِرَ فِيهِ تَزْكُو الأَعْمَالُ وَتَنَالُ الآمَالُ، وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلا مِنْ مَحَاسِنِ أَهْلِ الإِيمَانِ، أَنَّهُم تَتَجَافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَل عَنِ النبي صَلَّى(1/426)
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ، قَالَ: هِيَ قِيَامُ العَبْدِ أَوَّلَ اللَّيْلِ.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَين: رَجُلٌ ثَارَ مِن وَطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بِيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ رَغبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي» . الحَدِيث.
وَقَالَ الحَسَنُ، وَمُجَاهِدُ، وُمالِكُ، وَالأَوْزَاعِي وَغَيرُهُم: (إِنَّ المُرَادَ بِالتَّجَافِي القِيَامُ لِصَلاةِ النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ) ، وِفِي آيَةِ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ أَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا أَنَّهُم كَانُوا يَنَامُونَ القَلِيلَ مِنَ اللَّيْلِ وَيَتَهَجَّدُونَ مُعْظَمَهُ قَالَ تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} .
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَيْلةٌ يَنَامُوا حَتَّى يُصْبِحُوا إِلا يُصَلُّونَ فِيهَا شَيْئًا، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ أَوْسَطْهَا. وَقَالَ الحَسَنُ: كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيلِ فَلا يَنَامُوا مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلَهُ.
شِعْرًا:
خُضُوعٌ وَخَوْفٌ وَاحْتِشَامٌ وَذِلَّةٌ ... وَهَذَا لِمَنْ يَرُجو النَّجَاةَ قَلِيلُ
فَهَلْ لِي مِن الأَحْزَانِ حَظُّ مُوَفَّرٌ ... وَهَلْ لِي إِلَى طُولِ البُكَاءِ سَبِيلُ
لَعَلِّي أَنْ أُحْظَى بِقُرْبٍ وَلَذَّةٍ ... وَيَحْصُلُ لِي بَعْدَ الفِرَاقِ وُصُولُ
آخر:
يَا عَاشِقَ العَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... هَلْ أَخْلَدِ النَّاسَ مَا حَازَوْا وَمَا عَمَرُوا
عَلَيْكَ بِاللَّيْلَ فِي الأَذْكَارِ تُعمرهُ ... وَدَعْ مَلذَّاتِهِ الأخْرَى لِمَنْ كَفَرُوا
لَغَمْسَة في جِنَانِ الخُلْدِ خَاطِفَةً ... تُنْسِيكَ مَا مَرَّ مِنْ بُؤْسٍ لَهُ خَطَرُ
آخر: ... وَأَهْوَى مِنَ الفِتْيَانِ كُلَّ مُوَحَّدٍ ... يُلازِمَ ذِكْرَ اللهِ يَهوى التَّعَبُّدَا
نَفَى النَّومَ عَنْ عَيْنَيْهِ نَفْسٌ تَقِيَّةٌ ... لَهَا فِي ظَلامِ اللَّيْلِ طُولُ تَهَجَّدِ
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمِ.(1/427)
فصل
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُم، وَهُوَ قُرْبُكُم مِنْ رَبِّكم وَمَغْفِرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ» .
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: كَانَ الأَحْنَفُ بنُ قَيسٍ يَقُولُ: عَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمَلِ أَهْل الجَنَّةِ، فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ بَايَنُونُا بَوْناً بَعِيدَا، وَإِذَا قَوْمٌ لا تُبْلَغُ أَعْمَالُهُمْ، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَعَرضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمِلِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا قَوْمٌ لا خَيْرَ فِيهِمْ مُكَذِّبُون بِكِتَابِ اللهِ وَلرُسُلِ اللهِ، مُكَذِّبُون بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، فَقْدَ وَجَدْتُ مِن خَيْرِنَا مَنْزِلةٌ قَوْماً خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِنْ زَيْدٍ بِنْ أَسْلَمَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِِي تَمِيمٍ لأَبِي: يَا أَبَا أُسَامَةَ صِفَة لا أَجْدُهَا فِينَا، ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قَوْمًا فَقَالَ: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَنَحْنُ واللهِ قَلِيلاً مَا نَقُومُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طُوبَى لَمَنْ رَقَدَ إِذَا نَعَسَ، وَاتَّقَى اللهُ إِذَا اسْتَيْقَظَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنِ سَلامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ انْجَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ انْجَفَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّاب، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ مَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَأَفْشُوا السَّلامِ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةْ بِسَلامٍ» .
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ يَا الخَبَرَ
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي(1/428)
الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
إِخْوَانِي: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَمَا عَلِمْتُمْ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا، وَهُوَ مِنْ أَثْقَلِ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ وَلا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ يَرْقُدَ الإِنْسَانُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَفِيفًا بِالاعْتِيَادِ، وَتْوطِينِ النَّفْسِ وَتَمْرِينِهِا عَلَيْهِ وَالمُدَاوَمَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى المَشَقَّةِ وَالمُجَاهَدَةْ في الابْتِدَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْشَرِحُ وَيَنْفَتِحُ بَابُ الأُنْسِ بِاللهِ وَتَلَذُّ لَهُ المُنَاجَاةُ وَالخَلْوَةُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَشْبَعُ الإِنْسان مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَسْتَثْقِلَهُ أَوْ يَكْسَلَ عَنْهُ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ بَعْضُهُم: أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِم أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الحَالَتَينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ وَفَّقَ أَقْوَامًا فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالنَّوَافِل، وَأَبْعَدَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ آخَرِينَ فَهُمْ عَنْ مَا يَنْفَعهم فِي حَاضِرِهم وَمَآلِهِم غَافِلُونَ.
شِعْرًا:
ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ
وَتَجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ
وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ
تُبَاهِي بِجَمْعِ المَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ
وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي المَعَاصِي وَتُذْنِبُ
أَمَا تَذْكُرُ المَوْتَ المُفَاجِيكَ فِي غَدٍ
أَمَا أَنْتَ مِن بَعْدِ السَّلامَةِ تَعْطَبُ(1/429)
أَمَا تَذْكُرُ القَبْرَ الوَحِيشَ وَلَحْدَهُ
بِهِ الجِسْمُ مِنْ بَعْدِ العَمَارَةِ يَخْرُبُ
أَمَا تَذْكُرُ اليَوْمَ الطَّوِيلَ وَهُوَ لَهُ
وِمِيزَانَ قَسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ
تُرُوحُ وَتَغْدُو فِي مَرَاحِكَ لاهِيًا
وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ المَنِيَّةِ تَنْشَبُ
تُعَالِجُ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ
فَلا رَاحِمٍ يُنْجِى وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ
وَغُمضَتِ العَيْنَانِ بَعْدَ خُرُوجِهَا
وَبُسِّطَتْ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ
وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازَكَ أَحْضَرُوا
حَنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا
وَغَاِسُلَك المَحْزُونُ تَبْكِي عُيُونُهُ
بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ
يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ
وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا
وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا
وَأَلْقُوكَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا
عَلَيْكَ مَثَانِي طَيِّهُنَّ وَعَصَّبُوا
وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرانَ مُفْرَدًا
تَضُمَّكَ بَيِدَاءٌ مِنَ الأَرْضِ سَبْسَبُ
إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا
فَكَيْف يَطِيبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ؟!(1/430)
وَكَيْفَ يَطِيبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مَسْكنٌ
بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ
وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ
وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيذْهَبُ
فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ
فَهَادِمُ لَذَّاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ
وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً
وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهَ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ
وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي
فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ
فَمَا لِي إَلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى
عَلَيْكَ اتِّكَالِِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ
وَصَلِّي إَلَهِي كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ
عَلَى أَحْمَدَ المُخْتَارِ مَا لاحَ كَوْكَبُ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَمِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ الدِّينِ، وَنَسْأَلكَ رِضَاكَ وَالجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ واَلنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الجَبِينُ وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالأَنِينُ، اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرَكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بَأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكَ عَلَيْنَا جَمِيلَ سِتْرِكَ وَامْنُن عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِنَّا مِنْ عَقَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.(1/431)
ليلة القدر
فضائلها وعلاماتها
عن ابن عمر - رَضِي اللهُ عَنْهاُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ - أَوْ قَالَ -: تَحَرُّوهَا لَيْلةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ. رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن ابن عباس - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلاً أَتَى نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي شَيْخُ كَبِيرٌ عَلِيلٌ يَشُقُّ عَلَيّ القِيامُ فَأْمُرْنِي بِلَيلةٍ لَعَلَّ اللهَ يُوَفِقُنِي فيِهَا لِلَيْلةِ القَدْرِ، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بالسَّابِعَةِ» رواه أحمد.
وَعَنْ زِرِّ بِن حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يَقُولُ: وَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَقَالَ أُبَيّ: واللهِ الذي لا إله إلا هُو إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي، وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ التي أَمَرَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعْشرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا لا شُعَاعَ لَهَا. رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه.
وَرَوَى البُخَارِيُّ عن أبي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثم أنسِيتُهَا أَوْ نَسَيْتُهَا، فالتَمسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ في الوِتْرِ، إني رَأَيْت ُأَنِّي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَرْجِعْ» . فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حتى سَالَ(1/432)
سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ - وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ في الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِينِ فِي جَبْهَتِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن أَنِيس: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَإِذَا بِي أَسْجُدُ صَبِيحَتهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ» . قَالَ: فَمُطِرْنَا في لَيْلَةِ ثلاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرفَ، وَإنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. رواه أحمد، ومسلم وزاد.
وَعن أبي بكرةَ: أنه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «التَمِسُوهَا في تِسْعٍ بَقِينَ أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ خَمْسٍ بَقِينَ، أَوْ ثَلاثٍ بَقِينَ، أَوْ آخرَ لَيْلةٍ» . قَالَ: وَكَانَ أُبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي في العِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَلاتَهُ في سَائِرِ السَّنَةِ فَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهد. رواه أحمد، والترمذي وصححه.
وعن أبي نَضْرَةَ عن أبي سعيدٍ في حديث لَهُ: أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ على الناس فَقال: «يا أيُّهَا النَّاسُ إنها كانَتْ أُبِينَت لي ليلةُ القَدْرِ، وَإني خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُم بِهَا فَجَاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ مَعْهُمَا الشَّيْطَانُ فَنَسِيتُهَا، فالتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، التَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّابِعَةِ» . قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَا سَعِيدٍ: إنكم أَعْلَمُ بِالعَدَدِ مِنَّا، فقال! أَجَل نَحْنُ أَحَقُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسعةُ، والسابعةُ، والخامسةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، فإذا مَضَتْ ثَلاثٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فإذا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ. رواه أحمد، ومسلم.(1/433)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» . رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود.
وَفِي رِوَايَة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِي فِي العَشْر الأخِيرِ، سَبْعٌ يَمْضِينَ، أَوْ تِسْعٌ يَبْقِينَ، يَعْنِي لَيْلَةَ القَدرِ» . رواه البخاري.
وعن ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المنامِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتْحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ» .
وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: أُرِيَ رَجُلٌ أّنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا في الوِتْرِ مِنْهَا» .
وعن عائشة - رَضِي اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِن رمضان» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى فلانٌ وَفلانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» . رَوَاهُ البخاري.(1/434)
وَعن عبدِ الله بن أُنَيْسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قُلْتُ يَا رسولَ اللهِ، إنَّ لِي بَادِيةً أَكُونُ فيها وأنا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللهِ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُها إِلى هَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ: «انْزِلْ ثَلاثَ وَعِشْرِين» . رواه أبو داود.
قِيلَ لابْنِهِ: كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِذَا صَلَّى العَصْرَ فَلا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلا لِحَاجَةٍ حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ، وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ.
قَالَ البَغَوِي: وَفِي الْجُمْلَةِ: أَبْهَمَ اللهُ هذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا بِالعِبَادَة لَيَالِي رَمَضَانَ طَمَعًا في إِدْرَاكِهَا، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَخْفَى الصَّلاةَ الوُسْطَى في الصلواتِ، الْخَمْسِ، واسْمَهُ الأَعْظَمَ فِي الأَسْمَاءِ، وَرِضَاهُ في الطَّاعاتِ لِيَرْغَبُوا في جَمِيعِهَا وَسَخَطَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَنْتَهُوا عَنْ جَمِيعِهَا وَأَخْفَى قِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجْتَهِدُوا في الطاعاتِ حَذَرًا مِن قِيَامِهَا.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعَلِمْتَ مَا وَرَدَ مِنْ الحَثِ عَلَيْهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُوَفَّقٍ مُرِيدٍ لِلْكَمَالِ وَالسَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ أَنْ يَبْذِلَ وُسْعَهُ وَيَسْتَفْرِغَ جُهْدَهُ فِي إِحْيَاءِ لَيَالِي العَشْرِ الأَخِيرِ وَقِيَامِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يُصَادِفَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْجَلِيلَةَ التِي اخْتَصَّ اللهُ تَعَالى بِهَا هَذِهِ الأُمَّةَ، وَآتَاهُمْ فِيهَا مِنْ الفَضْلِ مَا لا يَحْصُرُهُ العَدَدُ.
فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ هَذَا عَشْرُ. شَهْرٍ. مُبَارَكِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ وَهُوَ سَبَبٌ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَالآثامِ، وَفِيهِ يَتَوَفَّرُ جَزِيلُ الشُّكْرِ وَالإِنْعَامِ، فَاعْتَذِرُوا فِيهِ إلى الْمَوْلَى الكَرِيمِ، وَأَقْبَلُوا بِقُلُوبِكُمْ إِلَيْهِ وَقِفُوا بِالْخُضُوعِ لَدَيْهِ، وَانْكَسِرُوا بَيْنَ يَدِيْهِ فَإِنَّهُ رَحِيم كريم.(1/435)
عِبَادَ اللهِ: إِنَّكُمْ الآنَ في رَمَضَانَ، وَهُوَ وَحْدَهُ عُمُرٌ طَوِيلٌ لِمَنْ رَامَ الثَّوَابَ الجَزِيلَ، فَإِنَّ فِي لَيَالِيْهِ لَيْلَةً وَاحِدةً خَيْرًا مِن أَلفِ شَهْرٍ، قَالَ الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فاجْتَهِدُوا رَحِمَكُم اللهُ بِإخْلاصِ الأَعْمَالِ للهِ جَلَّ وَعَلا وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ وِالاستغفارِ وَالابتهالِ إِلَى ذِي الجلالِ وَالإِكرامِ.
واعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ المَوْتَى في قُبُورِهِمْ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى زِيَادَةٍ فِي أَعْمَالِهِم بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَحْمِيدَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ، رُئِيَ بَعْضُهُمْ فِي المَنَامِ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا أَكْثَرَ مِنَ النَّدَامةِ، وَمَا عِندكُم أَكْثَرَ مِنَ الغْفَلَةِ، وَرُئِيَ بَعْضُهُم فََقَالَ: قَدِمْنَا عَلَى أَمْرٍ عَظْيمْ نَعْلَمْ وَلا نَعْمَل، وأنتم تَعْلَمُونَ وَلا تَعْمَلُون واللهِ لَتَسْبِيحَةٌ أَوْ تَسْبِيحَتَانِ، أَوْ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ فِي صَحِيفَةِ أَحَدِنَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
وفي الترمذي: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أن لا يكونَ ازْدَادَ، وَإن كان مُسِيئًا نَدِمَ أَن لا يَكونَ اسْتَعْتَبَ.
يا أيُّها العَبْدُ قُمْ لِلَّهِ مُجْتَهِدًا
وَانْهَضْ كَما نَهَضَتْ مِنْ قَبْلِكَ السُّعَدَا
هَذِي لَيالِي الرِّضَا وَافَتْ وَأَنْتَ عَلَى
فِعْلِ القَبِيحِ مُصِرًّا مَا جَلَوْتَ صَدَا
قُمْ فَاغْتَنِمْ لَيْلَةً تَحْيَا النُّفُوسُ بِهَا
وَمِثْلُهَا لَمْ يَكُنْ في فَضْلِهَا أَبَدَا
طُوبَى لِمَنْ مَرَّةً فِي العُمْرِ أَدْرَكَهَا
وَنَالَ مِنْهَا الذي يَبْغِيهِ مُجْتَهِدَا(1/436)
فَلَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ قَالَ خَالِقُنَا
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هَنِيئًا مَنْ لَهَا شَهِدَا
وَيَنْزِلُ الرُّوحُ فِيها والملائِكُ مِنْ
عِنْدَ المُهَيْمِنِ لا نُحْصِي لَهُم عَدَدَا
يا فَوْزَ عَبْدٍ حُظِي فِيها فَوَفَّقَهُ
رَبِّي قَبُولاً فَعَاشَ عِيشَةَ السُّعَدَا
وَفَازَ بِالأَمْنِ وَالغُفَرَانِ مُغْتَبِطًا
وَنَالَ مَا يَرْتَجِي مِنْ رَبِّهِ أَبَدَا
فَاطلبْ مِن الله إنْ وَافَيْتَهَا سَحَرًا
جَنَّاتِ عَدْنٍ تَكُنْ مِنْ جُمْلَة السُّعَدا
وَابكِ ونحْ وَتَضرعْ فِي الدُّجَا أَسَفًا
عَلَى كَبَائِرَ لا تُحْصِي لَهَا عَدَدَا
ثُمَّ الصَّلاة على المُخْتَارِ مَا طَلُعَتْ
شَمْسٌ وَمَا سَارَ سَارٍ فِي الفَلا وَحَدَا
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِضْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا،(1/437)
وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
خَطَبَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ فَقَالَ: أَيُّهَا اللاهِي المَغْرُورِ بِنَفْسِهِ كَأَنِي بِكَ وَقَدْ أَتَاكَ رَسُولُ رَبِّكَ لا يَقْرَعُ لَكَ بَابًا وَلا يَهَابُ صَحَابًا وَلا يَقْبَلُ مِنْكَ بَدِيلاً وَلا يَأْخُذُ مِنْكَ كَفِيلاً وَلا يَرْحَمُ لَكَ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّرُ فِيكَ كَبِيرًا حَتَّى يُؤَدِّيكَ إِلَى قَبْرٍ مُظْلِمَةٍ أَرْجَاؤُهُ كَفِعْلِهِ بِالأُمَمِ الخَالِيَةْ وَالقُرُونِ المَاضِيَةِ.
أَيْنَ مَنْ سَعَى وَاجْتَهَدَ وَجَمَعَ وَعَدَّدَ وَبَنَى وَشَيَّدَ، وَزَخْرَفَ وَنجَّدَ، وبالقليل لَمْ يَقْنَعْ، وَبالكثير لَمْ يُمَتَّعْ.
أَيْنَ مَنْ شَيَّدَ القُصُورَ، وَنَسَى القُبُورَ، أَيْنَ مَنْ قَادَ الجُنُودَ ونشر البُنُودَ، أَضْحُوا رُفَاتًا تَحْتَ أَطْبَاقَ الثَّرى وَأَنْتُم عن قَرِيبٍ بكأسهِمِ شَارِبُون ولِسَبِيلِهم سَالِكُونَ.
يُحَوَّلُ عَن قَريبٍ مِن قُصورٍ ... مُزَخرَفَةٍ إِلى بَيتِ التُرابِ
فَيُسْلَمَ فيهِ مَهجوراً فَريداً ... أَحاطَ بِهِ شُحوبُ الاِغتِرابِ
وَهَولُ الحَشرِ أَفظَعُ كُلِّ أَمرٍ ... إِذا دُعِيَ اِبنُ آدَمَ لِلحِسابِ
وَأَلفى كُلَّ صالِحَةٍ أَتاها ... وَسَيِّئَةٍ جَناها في الكِتابِ
لَقَد آنَ التَزَوُّدُ إِن عَقِلنا ... وَأَخذُ الحَظِّ مِن باقي الشَبابِ
آخر:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ ... وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
آخر:
وَالعُمْرُ أَنْفَسُ مَا الإِنْسَان مُنْفِقُهُ ... فَاجْعَلْهُ فِي طَاعَةِ الرَّحْمِنِ مَصْرُوفَا(1/438)
قال ابن الجوزي رحمه الله:
ينبغي للإنسان أن يعرف شرفَ زمانِهِ، وقدر وَقتهِ، فلا يضيع منه لحظةً في غير قربه.
ويُقَدّمُ الأفضلَ فالأفضلَ مِن القول والعمل. ولتكن نيتُهُ في الخير قائمةً مِن غير فُتور.
(وقد كان جماعة من السلف يُبَادِرون اللحظات) فَنُقل عن عامر ابن عبد قيس: أَنَّ رَجُلاً قال له: (كَلّمْنِي) فقال له: (أَمْسِكِ الشمسَ) .
ودخلوا على بعض السلف عند موتهِ، وهو يُصلي، فقيل له، فقال: (الآن تُطوىَ صَحِيفَتِي) . فإذا علم الإنسان أنه وإن بالغ في الجد بأن الموتَ يقطعه عن العمل، عَمِلَ في حَيَاتِهِ مَا يَدُومُ لَهُ أَجْرُهُ بَعدَ مَوتِهِ.
فإن كان له شيء في الدنيا، وقَّف وَقْفًا، وغرسَ غرسًا، وأجرى نهرًا، ويَسْعَى في تحصيل ذُريةٍ تذكر الله بعدهُ، فيكون لَهُ أَجر، أو أن يصنف كتابًا في العلم.
فإن تَصنيفُ العالم ولدُهُ المخلد وأن يكون عاملاً بالخير عالمًا فيه فينقلُ مِن فِعْلِهِ ما يقتدي به الغيرُ فذلك الذي لم يمتْ. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وِسَلَّمَ.
تَذَكَّر وَلا تَنْسَ المَعادَ وَلا تَكُن
كَأَنَّكَ مُخْلىً لِلمَلاعِبِ مُمْرَجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُوَلْوَلُ حَوْلَهُ
وَنَفْسُكَ مِنْ بَيْنِ الجَوانِحِ تَخْرُجُ
وَلا تَنْسَ إِذ أَنْتَ المُسَجَّى بِثَوبِهِ
وَإِذ أَنتَ في كَربِ السِّيَاقِ تُحَشْرجُ(1/439)
وَلا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُعَزَّى قَرِيبُه
وَإِذْ أَنْتَ في بَيْضٍ مِنَ الرَّيْطِ مُدْرَجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ يَهْدِيكَ قَوْمٌ إِلَى الثَّرَى
إِذَا مَا هَدَوْكَاهُ انْثَنَوْا لَمْ يُعَرِّجُوا
وَلا تَنْسَ إِذْ قَبْرٌ وَإِذْ مِنْ تُرَابِهِ
عَلَيكَ بِهِ رَدْمٌ وَلِبْنٌ مُشَرَّجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ تُكْسَى غَدًا مِنْهُ وَحْشَةً
مَجَالِسُ فيهِنَّ العَناكِبُ تَنْسِجُ
وَلا بُدَّ مِنْ بَيْتِ انْقِطَاعٍ وَوَحْدَةٍ
وَإِنْ سَرَّكَ البَيْتُ العَتِيقُ المُدَبَّجُ
أَلا رُبَّ ذي طِمْرٍ غَدًا في كَرَامَةٍ
وَمَلكٍ بِتِيجَانِ الهَوانِ مُتَوَّجُ
لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدارِ إِقامَةٍ
وَإِنْ زَخْرَفَ الغَاوُونَ فِيهَا وَزَبْرَجُوا
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلَقَائِكْ، وَأَهِّلْنَا لَوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ المَرْحُومِينَ مِنْ أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنِا بِالصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَتِلاوَةِ كِتَابك، واجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ المُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكِ المَنْصُورِينِ، وَارْزُقْنَا مُرَافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم من النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين.
اللَّهُمَّ يَا فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأَجْسَادِ بَعْدَ البَلَى يَا مُؤْوي المُنْقَطِعِينَ إِلَيْهِ، يَا كَافِي المُتَوكِّلِينَ عَليه، انْقطَعَ الرِّجَاءُ إِلا مِنْكَ، وَخَابَتِ الظُّنُونُ إلا فِيكَ، وَضَعُفَ الاعْتِمَادُ إلا عَلَيْكَ، نَسْأَلُكُ أَنْ تُمْطِرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا(1/440)
مِنْ سَحَائِبَ بِرَّكَ وَإِحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِمُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِم مَغْفِرَتِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كريم رَؤوفٌ رَحِيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل
في ذكر بعض الأدعية الواردة
عباد الله اغتنموا هذه الأوقات الشريفة وأكثروا فيها من الدعاء فإن الدعاء له أثر عظيم وموقع جسيم.
وهو مخ العبادة ولا سيما إذا كان بقلب حاضر وصادفا إخباتًا وخشوعًا وانكسارًا وتضرعًا ورقة وخشية واستقبل القبلة حال دعائه وكان على طهارة.
وجدد توبة وأكثر من الاستغفار وبدأ بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه والثناء عليه وشكره ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك.
ودعا بدعاء مشروع باسم من أسماء الله الحسنى مناسب لمطلوبه.
فإن كان يريد علمًا قال: يا عليم علمني.
وإن كان يطلب رحمة قال: يا رحمن ارحمني.
وإن كان يطلب رزقًا قال: يا رزاق ارزقني ونحو ذلك.
ولم يمنع من الدعاء مانع كأكل الحرام وقطيعة رحم وعقوق ونحو ذلك.
وتحرَّى أوقات الإجابة وأتى بأسبابها وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره والانتهاء عن ما نهى عنه.
فالله أصدق القائلين وأوفى الواعدين قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
وقال عز من قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .(1/441)
وقال جل وعلا: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .
وقال تبارك وتعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} .
وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} .
وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} .
ومن أوقات إجابة الدعاء إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ثلث الليل الأخير.
ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر أو في آخر ساعة من يومها وعند الآذان.
وبين الآذان والإقامة.
وعند نزول الغيث.
وعند فطر الصائم.
وعشية عرفة.
وفي حالة السجود.
وفي ليلة القدر.
وفي أدبار الصلوات.
وفي أدبار النوافل.
وعند ختم القرآن.
وعند البكاء والخشية من الله.
وفي جَوْفِ الليل.
وعِنْدَ دعاءِ المُسْلم لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ.
وَبَعْدَ زَوَالَ الشَّمسِ عَن كَبِدِ السَّمَاءِ.(1/442)
قال بعضهم:
قالوا شرُوطُ الدُّعاءِ المُسْتَجَابِ لَنَا ... عَشْرٌ بِهَا بَشِّرِ الدَّاعِي بِأَفْلاحِ
طَهَارَةٌ وَصَلاةٌ مَعْهُمَا نَدَمٌ ... وَقْتٌ خُشُوعٌ وَحُسْنُ الظَّنِ يَا صَاحِ
وَحِلُّ قُوتٍ وَلا يُدْعَى بِمَعْصِيَةٍ ... وَاسْمٌ يُنَاسِبُ مَقْرُونٌ بألْحَاحِ
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : في الأَدِلَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ثلثِ الليلِ الأخِير: «إِنَّها ساعةٌ مَشْهُودَةُ وَالدُّعَاءُ فيها مُسْتَجَاب» . أخرجه الحاكمِ، والترمذي.
وعن ابن عمر قال: نادى رَجُلٌ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الليلِ أَجْوَب دعوةً. قال: «جَوْف الليلِ الأخِيرِ» . أخرجه البزار، والطبراني بسند صحيح.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يومَ الجمعةِ.
فقال: «فيه ساعةٌ لا يُوافِقُهَا عبد مسلمٌ وهو قَائِمُ يُصَلِّي يَسْألُ الله شَيْئًا إلا أعطَاهُ» . أخرجه الشيخان.
وعن عثمان بن أبي العاص الثَّقَفِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُفْتَحُ أبوابُ السماء نصِفَ الليل فينادي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاع فَيُسْتَجَابَ له، هَلْ مِنْ سائل فَيُعْطَى، هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجَ عَنْهُ، فَلا يَبْقَى مُسْلم فَيَدْعُو بِدَعْوَة إلا اسْتَجَابَ لَهُ إلا زَانِيَةً تَسْعَى بفرجها أو عَشَّارًا» . أخرجه الطبراني بسند صحيح.(1/443)
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثُ ساعات لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ما دَعَا فيهن إلا اسْتُجِيبَ لَهُ ما لم يَسْأَلْ قَطِيعَةَ رَحمِ أَوْ مَأْثمًا» .
وعن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَقُول: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ بِظهر الغَيْبَ مُسْتَجَابَةٌ عِند رَأَسِهِ مَلَكُ مُوكَلٌ كُلَما دَعَى لأخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الملكُ الْمُوكلُ به: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْل» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
حِينَ يَؤَذَّنُ لِلصَّلاة حتى يسكت وحينَ يَلْتَقِي الصَّفَان حتى يحكم اللهُ بينهما وحينَ يَنزلُ المطرُ حتى يسكن. أخرجه أبو نُعَيْم في الحلية.
وعن سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مالت الشمس عن كبد السماء قَدْرَ شِرَاكٍ قامَ فَصَلَّى أربعَ ركعات قلتُ: يا رسول الله ما هذه الصلاة.
قال: «مَن صَلاهُنَّ فقد أحْيَا لَيْلَتَه هذه ساعة تُفْتَح فيها أبوابُ السَّمَاءِ وَيُسْتَجَابُ فِيهَا الدعاء» . أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فاءَتِ الأفْيَاءُ وَهَبَّتِ الأَرواحُ فارْفَعُوا إلى الله حَوَائِجَكُم فَإِنَّها سَاعَةُ الأَوَّابِينَ» . أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن عطاء قال: (ثلاثُ خِلالٍ تُفْتَحُ عِندهُنَّ أَبْوابُ السَّماء فَتَحَرَّوْا الدُّعاءَ عندهن:
عند الأذانِ، وعند نُزُولِ الغَيث، وعندَ التقاءِ الزَّحْفَين) . أخرجه سعيد بن منصور.
وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلصَّائِمِ عند فِطْرِهِ دعوةٌ مُسْتَجَابَة» . أخرجه النسائي.(1/444)
وعن أبي هريرة عن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ حَقٌّ على الله أن لا يَرُدُّ لهم دعوة الصائم حتى يُفْطِر، والمظلومُ حتى يَنْتَصِر، والمسافر حتى يرجع» . أخرجه البزار.
وعن عبد المطلب بن عبد الله بن حَنْطَت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مِن أفضل الدعاء الدعَاء يوم عرفة» . أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
وعن جابر قال: سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رَجُلٌ مسلم يسأل الله خَيْرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إِيَّاهُ وذلك كُلَّ لَيْلَةٍ» . أخرجه مسلم.
وعن سهل بن سعد مرفوعًا قال: «سَاعَتَانِ تُفْتَح لَهُمَا أبوابُ السماء وقَلَّ دَاعٍ تُردُّ دَعْوته: حين يحضر النداء، والصف في سبيل الله» . أخرجه البخاري في الأدب.
وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثْنَتَانِ لا تُرَدَّان: الدعاء عند النداء، وحينَ البأس حينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا» . أي يَنْشَب بَعْضُهم بِبَعْضٍ في الحَرْب. أخرجه الحاكم في المستدرك.
وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ مَا بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ» . أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم.
وعن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا نَادَى المنادى فُتَّحَتِ أبواب السماء واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شدةٌ فَلْيَتَحَرَّ الْمُنَادِي فَيُجِيبُه.
ثم يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ الصاَّدقةِ المستجابة المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى أحْينَا وأمِتْنَا عليها واجْعَلْنَا مِنْ خِيَار أهلها أحياءً وأمواتا ثم يسأل الله حاجَتهَ» . أخرجه الحاكم.(1/445)
عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلصَّائِمِ عند فِطْهرهِ دعوةٌ مستجابة» . أخرجه النسائي.
وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني نُهِيتُ أن أقرأَ القرآن رَاكعًا وسَاجِدًا، فأما الركوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الربَّ وأما السجودُ فاجْتَهدُوا فِيهِ مِن الدعاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لكم» . أخرجه مسلم.
وعن عبادة بن الصَّامِتِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا وَحَضَر رَمَضَانُ: «أتاكم شهرُ بَركَةٍ فِيهِ تَنزلُ الرحمةُ وَتُحَطُ الْخَطَايَا وَيُسْتَجَابُ الدُّعَاء» .
وأخرج في الأوسط عن عمرَ بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكرُ الله في رمضان مغفورٌ لَهُ، وسَائلُ الله فيه لا يَخِيب» . أخرجه الطبراني.
ورُوِي أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
ورُوِي مَن صلى فريضة فله دعوة مستجابة.
ومَن ختم القرآن فله دعوة مُستجابة.
وعن رَبِيعَة بن وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثُ مواطن لا تُرَدُّ فيها دعوةُ عَبد، رجلٌ يكون في بَرِيَّةٍ حَيْثُ لا يراه إلا اللهُ.
ورجلٌ يكون معه فِئَةٌ فيفر عنه أصحابهُ فَيَثْبُتُ.
ورجلٌ يَقُومُ مِن آخر الليل» . أخرجه أبو نعيم في أخبار الصحابة.
وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا فُتِحَ على العبد الدُّعَاءُ فَلْيَدْعُ رَبَّهُ فإن الله تعالى يستجيب» . أخرجه الترمذي.
وعن خالد الحذَّاء قال: (كان عيسى عليه السلام يقول: إذا وجدتم قَشْعَرِيرَةً ودمعة فادعوا عند ذلك) . أخرجه أحمد في الزهد.(1/446)
ورُوِي: (اغْتَنِمُوا الدعاء عند الرِّقَّةِ فَإِنَّها رَحْمَة) .
ورُوِي: (الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب) .
ورُوِي: (عند أذَان المؤذن يستجاب الدعاء، فإذا كان الإقامة لا ترد دعوته) .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دُبُرَ صلاة مفروضة» . أخرجه بن عساكر.
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مع كل ختمة دعوة مستجابة» .
وأخرجه من وجه آخر بلفظ آخر: «عند ختم القرآن دعوة مستجابة وشجرة في الجنة» . أخرجه البيهقي في شعيب الإيمان.
فعليكُم عِبَادَ اللهِ بالاجتهادِ بالدعاءِ، وَعَلَيْكُمْ بِجَوامِعِ الدُّعَاءِ التي تَجْمَعُ خيرَ الدُّنْيَا وَالآخرةِ، وفي الصحيحين: كان أَكْثَرُ دُعَاءِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» .
ومِن دعائهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سَافَرَ: (أنه كانَ يَتَعَوَّذُ مِن وَعْثَاءِ السَّفرِ وكآبةِ الْمَنْظَرِ، والحَورِ بَعْدَ الكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسَوءِ الْمَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالْمَالِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ومِن مَا وَرَدَ عن أبي بكرةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعَوَاتِ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فلا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفةَ عَيْنٍ وأصلِحْ لي شَأْنِي كُلَّهُ لا إلهَ إِلا أَنْتَ» . رواه أبو داود. وعن أبي سَعِيد الخُدَري قال: قال رَجُلٌ لَزِمَتْنِي هُمُومٌ وَدُيُونٌ يا رسولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دِينَكَ» . قَالَ: قُلْتُ بَلَى، قَالَ: «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وَأَعُوذُ(1/447)
بِكَ مِن البُخْلِ والْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ» . قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. رواه أبو داود.
وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى والعَفَافَ وَالغِنَى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفَجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَلْمٍ لا يَنْفَعْ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعْ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعْ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَها» .
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها -: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) .
وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ» .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوّذُوا بِاللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ القَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأعداءِ» .
وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لا إِله إلا أَنْتَ أَنْ تُضِلِّنِي، أَنْتَ الْحَيّ الذي لا يَمُوت وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُون» . واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.(1/448)
فصل: وَمِنْ دُعَائِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ وَالقِلَّةِ وَالذِّلّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَُظْلِمَ وَأُظْلَمْ» .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْس: مِنَ الْجُبْنِ، وَالبُخْلِ، وَسُوءِ العُمُرْ، وَفِتْنَةِ الصّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) . رواهُ أبو داودَ، والنَّسَائِي.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الِّشَقاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الأَخْلاقِ» . رواهُ أبو دَاود.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتْ البِطَانَة» . رَواهُ أبُو داودَ، والنِّسائي، وابن مَاجَةَ.
وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَمِنَ سِيّءِ الأَسْقَامِ» . رواهُ أبُو داودَ، والنِّسَائي.
وَعَنْ قُطْبَةَ بِنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكِرَاتِ الأَخْلاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ وَالأَدْوَاءِ» . رواه الترمذي.
وَعَنْ شُتَيْرَ بْنَ شَكَل بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ عَلِّمْنِي تَعَوِيذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ عَيْنِي» . رواهُ أبو داودَ، والترمذي، والنِّسَائِي.(1/449)
وَعَنْ أَبِى الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَالْحَرَقِ، وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» . رواه أبو داود، والنسائي.
ومن دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَلّمهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّدِيقَ قَالَ له: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أنسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إلْظوا بِيَا ذَا الجلالِ والإكرامْ» . أيْ: الزَمُوا هذِهِ وَألِحُّوا بِهَا وَدَاوِمُوا عَلَيْهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ وَفَتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي كَمَا يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسْ وباعدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن يَزِيدِ الْخَطْمِي عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ(1/450)
وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حَبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعْنِي حُبُّه عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوةً لِي فِيمَا تُحِبّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي.
شِعْرًا:
إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ ... لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِّ
آخر:
فلو كان يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ ... لِعَزَّةِ نَفْسٍ أَوْ عُلوٍ مَكَانَ
لَمَا أَمَرَ الله العِبَادَ بِشُكْرِهِ ... فَقَالَ اشكرُوا لِي أَيُّهَا الثَّقَلانِ
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كانَ مِنْ دُعَاءِ دَاودَ يَقُول: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ حُبُّكَ وَحُبِّ مَنْ يُحِبُّكَ والعَمَلُ الذي يُبَلِّغْنِي حُبُّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبُّكَ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي وَمِنْ الْمَاءِ البَارِدِ» . الْحَديثْ رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ وَعَمِلِي مِن الرِّيَاءِ وَلِسَانِي مِنَ الكَذِبِ وَعَيْنِي مِن الْخِيَانَةِ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْينِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورْ» . رواه البَيْهَقِي في الدَّعَواتِ الكبير.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمْرو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَةَ والْعِفِّةَ وَالأَمَانَةَ وَحُسْنَ الْخُلقْ والرِّضَى بَالقَدَرْ» . رواهُ البيهقِي في الدَّعَواتِ الكبيرْ.
جاء عن معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من قَالَ حينَ يُصبحُ ثلاثَ مراتٍ أَعُوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاثَ آياتٍ من آخرِ سورةِ الحشرِ وكَلَّ الله بهِ سَبْعِينَ ألفَ مَلَكٍ يُصَلُون عليه حتى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ اليوم ماتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتلكَ المنزلةِ» . حَسَّنَةُ وغربَه الترمذي.(1/451)
اللَّهُمَّ أعذْنَا بِمَعافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِرَضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ واحْفَظ جَوارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَة أمْرك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة
عِبَادَ اللهِ إِن النَّاسَ في هَذَا الزَّمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا رَبَّهُمْ الْمَعْرِفَةَ التِي تَليقُ بِجَلالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَوْ عَرَفُوهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَكُونُوا بَهِذِهِ الْحَال لأنَّهُ مِنْ كَانْ باللهِ أَعْرَفْ كَانَ مِنْهُ أَخْوَفْ إِنَّ العَارِفَ باللهِ يَخْشَاهُ فَتَعْقلُهُ هَذِهِ الْخَشْيَةِ بإِذْن اللهِ عَمَّا لا يَنْبَغِي مِنْ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} .
العارِفُ بِاللهِ لا يَجْرَؤُ أَنْ يُحَرّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَفْعَالٍ أَوْ أَقْوالٍ كالغيبةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالكَذِبِ وَالْقَذْفِ والْفِسْقِ وَالسُّخْرِيَةِ والاسْتِهْزاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلا يَسْتَعْمِلُ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ في عَمَلٍ لَيْسَ بِحَلالِ بَلْ يَكُفُّ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلهُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتْ لأنَّهُ يُؤمِنُ حَقَّ الإيمانِ بأنّ اللهَ جَلَّ وَعَلا مَهْمَا تَخَفَّى وَتَسَتَّرَ العَبْدُ عَنْهُ فإنَّهُ يَرَاهُ.
وَالْعَارِفُ باللهِ لا يَنْطَوِي عَلَى رَذِيلَةٍ كَالْكِبْرِ والْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَاتِ لأنَّهُ يُصَدَّقُ أَنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء في الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنّهُ الصُّدورُ، كَمَا يَعْلَمُ العلانِيَة، فَلا يَسْتريحُ العَارِفُ حَتَّى يَكُونَ باطِنُهُ كَظَاهِرِهِ مُطَهّرًا مِنْ كُلِّ فَحْشَاءٍ وَكذلك لا تَسْمَعُ مِنْ فَمِ العَارِفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ وَالبَلايَا وَالشَّدَائِدِ إلا الْحَسَنَ الْجميلٌ فَلا يَغْضَبُ لِمَوْتِ عزيزٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ طَوِيلٍ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ غَضَبَهُ وَتَسَخُّطُهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ أَجْرَهُ وَلا يَرُدَّ مَا فَاتَ كَمَا قِيل:(1/452)
لا تَلقَ وَقْتَكَ إِلا غَيرَ مُكتَرِثٍ ... مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ ... وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
وَلا يَيْأَسُ العَارِفُ مِنْ زَوَالِ شِدّةٍ مَهْمَا اسْتَحْكَمَتْ فَإِنَّ الْفَرَجَ بِيَدِ اللهِ الذي قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقْ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولا يَيْأَسُ مِنْ حُصُولِ خَيْرٍ مَهْمَا سَمَا وَابْتَعَدَ لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ الأَمْرَ بِيَدِ مَنْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ وَإِنْ بَدَا مُحَالاً في نَظَرِ الْجُهَلاءِ وَلا يَقْنَطُ العَارِفُ وَلا يُقَنِّطُ مُؤْمِنًا مِنْ رَحْمَةِ الله التي وَسِعَتْ كُلِّ شَيءٍ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَمْثَالَ الْجَبَالِ وَالرِّمَالِ وَلا يُؤَمِّنُ العَارِفُ مُسْتَقِيمًا مِنْ العَذَابِ مَهْمَا كَانَ العَمَلُ مِنْ الصَّالِحَاتْ لأنَّهُ يَغْفِرُ الذّنُوب جَمِيعًا وَأَنَّهُ لََهُ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ وَأَنْ القُلُوبِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ جَلِّ وَعَلا فَلا تَغْفَل عَنْ ذَلِكَ وَإنْ أَهْمَلَهُ الكَثِيرُ مِنْ النَّاسِ. قَالَ أَحَدُ العُلِمَاء: الغمُومُ ثَلاثةٌ: غَمُّ الطَّاعةِ أَنْ لا تُقْبَل، وَغَمُّ الْمَعْصِيةِ أَنْ لا تَغْفَرْ، وَغَمُّ الْمَعْرِفَةِ أَنْ تُسْلبَ.
عَلَيكَ مِنَ الأُمورِ بِما يُؤَدّي ... إِلى سُنَنِ السَلامَةِ وَالخَلاصِ
وَما تَرجو النَجاةَ بِهِ وَشيكاً ... وَفَوزاً يَومَ يُؤخَذُ بِالنَواصي
فَلَيسَ تَنالُ عَفوَ اللَهِ إِلا ... بِتَطهيرِ النُفوسِ مِنَ المَعاصي
وَبِرِّ المُؤمِنينَ بِكُلِّ رِفقٍ ... وَنُصحٍ لِلأَداني وَالأَقاصي
وَإِن تَشدُد يَدًا بِالخَيرِ تُفلِح ... وَإِن تَعدِل فَما لَكَ مِن مَناصِ
آخر:
اغْتَنِمْ في الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ ... فَعَسَى أَنْ يكُون مَوْتُكَ بَغْتَةْ
كَم صَحيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الْعَزِيزَةُ فَلْتَةْ
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكَرِكَ وَارْزُقْنَا الاسْتَقَامَةَ طَوْعَ أَمْرِكْ وَتَفْضَّلْ عَلَيْنَا بَعَافِيَتكَ وَجِزيلِ عَفْوِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا الْقِيَامِ بِحَقِّكْ وَبَارِكْ لِنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكْ، وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكْ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلَنَاهُ وَحَقَّقْ(1/453)
رَجَاءَنَا فِيمَا تَمْنَّيْنَاهُ وأُمّلْنا يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينِ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرِتكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
1- زكاةُ الفِطِر ومَا وَرَدَ مِنْ الآثار في شَرْعِيَّتِهَا:
زكاةُ الفطِر واجِبةٌ بالفِطْرِ مِن رَمَضَانَ لِمَا رَوَى ابنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: (أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ في رَمَضَانَ عَلَى النَّاس صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أو صَاعًا مِنْ أَقِطٍٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وأنثَى من المسلمين) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعنهُ: (أن رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِزَكَاةِ الفطرِ أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ الناسِ إلى الصلاة) .
وعنْ أبي سعيدِ الْخُدْري: كُنَّا نُخْرِّجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعام، أو صَاعًا من تَمْرٍ، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا مِن زَبِيبْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبْ وَعُمرُ بنُ عبدِ العزيز - رَحِمَهُمَا الله - في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} : هُوَ زكاةُ الْفِطْر.
وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الزكاةُ إلى الفطرِ لأنَّهَا تَجِبُ بالفِطْرِ مِنْ رَمَضَان وهذِهِ يُرَادُ بها الصدقةُ عن البدنِ والنفسِ وَمَصْرَفُهَا كَزكاةِ الْمَالِ لِعُمُومُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ... } الآية.
ولا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا دَيْنٌ إِلا مَعَ طَلَبْ، وَهِيَ وَاجِبةً عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكرٍ وأنْثى مِن المسلمين، فَضُلَ لَهُ عَنْ قوتِهِ، وَمَنْ تَلْزَمُهْ مَئُونَتِهِ يَوْمَ(1/454)
العيدِ وَلَيْلَتِهِ صَاعُ لأنَّ النَّفقةَ أَهَمُّ فَيجِبُ البَدَاءَةُ بِهَا لقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدأ بِنَفْسِكْ» . رَوَاهُ مُسْلمْ.
وفي رِوَاية: «.... وابْدأ بِمَنْ تَعُولْ» . رواه الترمذي.
وَيُعْتَبَرُ كونُ ذلكَ الصاعُ فاضلاً عمَّا يَحْتَاجُهُ لِنَفْسِهْ، وَمَنْ تَلْزمُهُ مَئُونَتِهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَدَابةٍ وَثِيَابٍ بِذْلة ونَحوِهِ، وَكُتُبٍ يَحْتَاجُهَا لِنظْرٍ لأنَّ هَذِهِ حَوَائِجُ أصليةٌ يَحْتَاجُ إليها كالنفقةِ، وتَلْزَمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَنْ يَمُونُهُ مِن المسلمِينْ كزوجةٍ وعبدٍ وولدٍ لِعُمُومِ حَدِيثِ ابنِ عُمرَ - رَضي الله عَنْهُمَا -: (أَمرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقةِ الفطرِ عن الصغيرِ والكبيرِ مِمَّنْ تَمُونُون) . رواه الدَّارقُطْنِي.
فَإِنْ لَمْ يَجْدهُ لِجميعهِمْ بدأ بِنَفْسِهْ، فَزَوَجَتِهِ، فَرَقِيقِهِ، فَأمّهِ، فَأبِيهِ، فَوَلَدِهِ، فأقْرَبَ في مِيراثٍ، وَيُقْرعُ مَعَ الاسْتواءِ.
أَمَّا دَليلُ البدّاءةِ بالنفسِ فَلِحَدِيثِ: «ابْدأ بِنفسكَ، ثُمَّ مَنْ تَعُولُ» .
وَأَمَّا الزَّوْجَةِ فلوجُوب نَفَقَتِهَا في حَالَهِ اليُسْرِ وَالعُسْرِ لأنِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ.
وَأَمَّا الرَّقِيقِ فلوجُوبِ نَفَقَتِهِ مَعَ الإعْسَارِ بِخلافِ الأَقَارِبِ لأنَّها صِلةٌ تَجبُ مَعَ اليَسَارِ دُونَ الإِعْسَارِ.
وَأَمَّا الأُمَ فلقِولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأَعرابِّي حِيَنَ قَالَ لَهُ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوكَ» . ولأنَّها ضَعِيفةٌ عن الكَسْبِ.(1/455)
وَأَمَّا الأَبِّ فَلَمَا سَبقْ وَحَدِيثْ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» .
وَأَمَّا الوَلدِ فَلِقُرْبِهِ وَوُجُوبِ نَفَقَتِهِ في الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الأَقربِ في الْمِيرَاثِ فلأنهُ أولى مِنْ غَيْرِهِ كَالْمِيرَاُث.
وَتُسْتَحَبُّ عَنْ الجَنِين لِفِعْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَعَنْ أَبِي قُلابَةَ قَالَ: (يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الفطرِ عن الصغيرِ والكبيرِ حَتَّى عَنْ الْحَمْلِ في بَطْنِ أمِهِ) . رواهُ أبو بَكْرَ.
ولا تَجِبْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِر: (كل من نَحْفَظُ عنهُ لا يُوجِبُهَا عَنْ الْجَنِينْ، وَتَجِبُ عَلَى اليتيم، وَيُخْرِجَ عنهُ وَليهُ مِنْ مَالِهِ) .
وَلا يَلْزَمُ الزَوجَ فِطرةُ زَوْجَةٍ نَاشِزٍ وَقْتَ الوجُوبِ، ولا تَلْزمُ الزوجَ فِطرةَ مَنْ لا تَلْزمهُ نَفْقَتُهَا كَغْيِر المدْخُولِ بِهَا إِذَا لَمْ تُسَلُّمْ إليه والصغيرةِ التِي لا يُمْكِنُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا.
وَمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ فطِرْتُهُ كَالزَّوْجَةِ، فأخرج عن نَفسِهِ بَغْير إذنِ مَنْ وَجَبتُ عَلَيْهِ أَجْزأَ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
2- فَصْلُ في وقتِ وجوبٍ صَدَقَةِ الفطرِ، والأفضل مِنْه:
وَتَجِبُ زكاةُ الفِطِر بغُرُوبِ شَمْسِ لَيْلَةِ الفِطْرِ لِقَولِ ابن عباس - رضي اللهُ عنهُمَا -: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الفِطْرِ طُهْرةً لِلصَّائِمِ من اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينَ) . رواه أبو داود، والحاكم وقَالَ: على شرطِ البخاري فأضافَ الصدقةَ إلى الفطرِ فكَانَتْ وَاجِبَةً بِهِ لأنَّ الإِضَافَةَ تَقْتَضِي الاخْتِصَاصَ.(1/456)
وأَوَّلْ فِطْرٍ يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ بِمَغِيبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الفِطْرِ، فَمْن أَسْلَمَ بَعْد الغُروبْ أَوْ تَزَوَّجَ بَعدَ الغُروبِ فَلا فِطرةَ وإنْ وُجِدَ ذلكَ قَبْلُ بَأَنْ أَسلمَ أو تَزَوَّجَ، أَوْ وُلِدَ لَهُ ولد، أَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ أَيْسَر قَبْلَ الغُروبِ وَجَبَتِ الفِطْرَةُ لِوُجُودِ السَّبَبَ فالاعْتِبَارُ بِحَالِ الوُجُوبِ.
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الغُرُوبِ هُوَ، أَوْ زَوْجَتَهِ، أَوْ رَقِيقُهُ، أَوْ قريبُه وَنَحوه، أَوْ أَعْسَرَ، أَوْ أبَانَ الزَّوجةَ، أَوْ أعتقَ العبدَ، أوْ بَاعَهُ أو وَهَبَهُ لَمْ تَجِبِ الفِطْرَةُ لِمَا تَقَدَّمْ.
وَلا تَسْقُطُ الفِطْرَةُ بَعْد وُجُوبِهَا بِموتٍ وَلا غِيْرُه، وَالأَفْضَلُ إِخْرَاجُهَا يومَ العيدِ قَبْلَ الصَّلاة لِمَا فِي الْمُتَّفَقِ عليهِ مِنْ حَدِيث ابنِ عُمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مرفوعًا، وفي آخرِه: «وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ» .
وفي حديثِ ابن عباسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصلاةِ فَهِيَ زكاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعْدَ الصلاةِ فَهِيَ صَدَقةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ) .
وَتُكْرَهُ بَعْدَهَا خُرُوجَا مِن الْخِلافِ وِلِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُم عَنِ الطَّلبِ فِي هَذَا اليومِ» . رواه سعيدُ بنُ منصور.
فإذا أَخَّرَهَا بَعَدَ الصَّلاةِ لَمْ يَحْصُلِ الاغْنَاءِ لَهُمْ في هَذَا اليومِ كُلِّهِ.
ويَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ العِيدِ مَعَ القُدْرَةِ، لأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْحَقِّ الوَاجبِ عَنْ وَقْتِهِ، وكان عليه الصَلاةُ والسَّلامَ يَقْسِمُهَا بَيْنَ مُسْتَحِقِيهَا بَعدَ الصَّلاةِ فَدَلَّ على أَنَّ الأَمْرَ بِتَقْدِيمِهَا عَلَى الصَّلاةِ لِلاسْتِحْبَابِ.(1/457)
وَيَقْضِيهَا مِنْ أَخَّرَهَا لأَنَّهُ حَقٌّ مَالِي وَجَبَ، فلا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَالدَّيْنِ، وَتُجْزِي قَبْلَ العِيدِ بَيوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيِّنِ لِقَولِ ابنِ عُمَرَ - رضي اللهُ عنهما -: (كَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بَيَوْمٍ أَوْ يَوَمَينِ) . رواه البخاري.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلى جَمِيعِهم فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَلأَنَّ ذَلِكَ لا يُخِلُّ بالْمَقْصُودِ، إذْ الظَّاهِرُ بَقَاؤُهَا أَوْ بَعْضُهَا إِلى يَومِ العيدِ.
وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَطْرَةُ غَيْرِهِ أَخْرَجَهَا مَعْ فِطْرَتِهِ مَكَانَ نَفْسِهِ، لأَنَّها طُهْرَةً لَهُ، وَفِطْرةُ مَنْ بَعْضُهُ حَرٌ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، وَفَطْرَةِ قنٍّ مُشْتَرَك. وَفطْرَةٍ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ منِ وَارثِ أَوْ مُلْحَقٌ بَأَكْثَرَ منِ وَاحد تُقُسَّطُ وَمَن عَجَز مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمِ الآخرَ سِوَى قِسْطِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
(فَصْلٌ)
3- الوَاجِبُ في الفِطْرَةِ:
الواجِبُ عَلى كُلِّ شَخْصٍ صَاعُ بُرٍ، أَوْ مِثْلُ مَكِيلِهِ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أَقطٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه -: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أقط) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُجزي دَقيقُ البُرِّ وَالشَّعِيرِ إِذَا كَانَ بِوَزْنِ الْحَبِّ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِزِيَادَةٍ تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنْ أَحَدًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ قَالَ: بَلْ هُوَ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي.
قَالَ الْمَجْدُ: بَلْ هُوَ أَوْلَى بَالأَجْزَاءِ لأَنَّهُ كَفَى مُئُونَتَهُ كَتَمرٍ مَنْزُوعٍ نَوَاهُ وَيُخْرُجُ مَعْ عَدْمِ ذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ حَبٍّ يُقْتَاتٍ كَذُرَّةٍ وَدُخنٍ وَباَقِلاءَ لأَنَّهُ أشْبَهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوْلَى.(1/458)
وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَمَاعَةٌ فِطْرَهُمْ لِوَاحِدٍ، وَأَنْ يُعْطِيَ الوَاحِدُ فِطْرَتَهُ لِجَمَاعَةٍ.
وَلا يُجْزِي إِخْرَاجُ القِيمَةِ لأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ شِرَاءُ زَكَاتِهِ وَصَدَقَتِهِ مِمَّنْ صَارَتْ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (لا تَشْتِره ولا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَحَسَمًا لِمَادّة اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا حَيَاءً، أَوْ طَمْعًا فِي مِثْلِهَا، أَوْ خَوْفًا أَنْ لا يُعْطِيَهُ بَعْدُ فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِإرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ أَخَذَهَا مِنْ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ شرَطٍْ وَلا مُوَاطَأَةٍ طَابَتْ بِلا كَرَاهَةٍ لِعَدْمِ الْمَانِعِ وَلِحَدِيثِ بُرَيْرَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الجَمَاعَةُ إلا البُخَاريُّ، وَالنَّسَائِي.
وَيُجْزِي إخْرَاجُ صَاعٍ مَجْموعٍ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ وَبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَأَقط كَمَا لَوْ كَانَ خَالِصًا مِنْ أَحَدَهَا.
وَلا يُجْزِي مُخْتَلِطُّ بَأكْثَرِ مِمَّا لا يُجْزِي.
وَلا يُجْزِي إخْرَاجُ مَعِيبٍ كَمُسَوِّسٍ، وَمَبْلُولٍ، وَقَدِيمٍ تَغَيَّرَ طَعْمُهْ.
وَالأَفْضَلُ تَمْرٌ لِفِعْلِ ابنِ عُمَرْ، قَالَ نَافِعُ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - يُعْطِي التَّمْرَ إلا عَامًا وَاحِدًا أَعْوَزَ التَّمْرُ فَأَعْطَى شَعِيرًا. رواهُ أَحْمَدُ، والبُخَارِي.(1/459)
وقَالَ لَهُ أَبُو مَجْلَز: إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْسَعْ. وَالْبُرُّ أَفْضَلْ فقَالَ: إِنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُسْلُكَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمُر وَلأَنَّهُ قُوتُ وَأَقْرَبُ تَنَاوُلاً وَأَقَلُّ كُلْفَةِ وَيَلِيهِ فِي الأَفْضَلِيَّةِ الزّبِيبُ لأَنَّ فِيهِ قَوْتًا وَحَلاوَةً وَقِلّةَ كُلْفَةِ، ثُمَّ البُرُّ لأَنَّ الْقِيَاسَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكُلْ لكِنْ تُركَ اقْتِدَاءً بالصَّحَابَةِ فِي التَّمْرِ وَمَا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الزَّبِيبُ ثُمَّ الأَنْفَعُ فِي الاقتِياتِ وَدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِير، ثُمَّ شَعِيره ثُمَّ دَقِيقُ شَعِيرْ، ثُمَّ سَوْيقُهُمَا، ثُمَّ أقِطْ، والأفضَلُ أَنْ لا يُنْقَصَ مُعْطَى مِنْ فِطَرةٍ عَنْ مُدُّ بُرٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيُغْنِيَهُ عَنِ السُّؤالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَغْنُوهُمْ عَنْ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» . وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الذي لَمْ يُقَيَّدُ بَأَدْبَارِ الصَّلَواتْ والْجَهْرُ بِهِ فِي لَيْلَتَيْ العِيدَيْنِ إِلى فَرَاغِ الْخُطْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَعَنْ عَليَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حَتَّى يُسْمِعَ أَهَلَ الطَّرِيق وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلهَ إِلا اللهُ، الله أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدِ. وَفِي كُلِّ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلى السُّوقِ في أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهمَا، وَالتَّكْبِيرُ الْمُقَيّدُ في الأضْحَى عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ صَلاهَا فِي جَمَاعَةِ مِنْ صَلاةِ الفَجْرِ يَوم عَرَفَة إِلى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِحَدِيثِ جَابِر أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ» . وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إلى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيق. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي بِمَعْنَاهُ إِلا الْمُحْرِم فَيُكَبَّرُ مِنْ صَلاةِ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلى آخرِ أيامِ التشريق.(1/460)
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعْهمُ في دَارِ القَرارِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآداب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لِنَعْمَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةٌ تُؤمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الطَّاهِرِ الطَّيبِ الْمُبَارَكِ الأَحَبِّ إليك الذي إذا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا اسْتُرْحَمْتَ بِهِ رَحِمْتَ، وَإِذَا استفرجْتَ بِهِ فَرَّجَتْ أَنَ تَغْفِرَ سَيَّئاتنا وتُبدلها لَنَا بِحَسَنَاتِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : الْحَمْدُ للهِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ البَشِيرُ النَّذِيرُ - صلى الله عليه وسلم - أولي الْجِدِّ في العبادَةِ والتشْمِيرِ.
عِبَادَ اللهِ إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتَّمَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ فَرَّطَ فِيهِ فَلْيَخْتِمْهُ بالْحُسْنَى، فَالعَمَلُ بَالْخِتَامِ، وَبَادِرُوا رَحِمَكُمْ اللهُ أَوْقَاتَ شَهْركُم الباقِيَةَ وَاسْتَدْرِكُوا مَا مَضَى مِنْهُ بالْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ واخْتِمُوُه بالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ والرُّجُوعِ إِلى صَالِحِ العملْ.
عِبَادَ اللهُ كَمْ أُنَاسٍ صَلُّوا فِي هَذَا الشَّهْرِ صَلاةَ التَّرَاوِيحِ وَأَوْقَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ طَلَبًا للأَجْرِ الْمَصَابِيحِ وَنَسَخُوا بِإِحْسَانِهمْ كُلَّ فِعْلٍ قَبِيحٍ، وَقَبْلَ التَّمَامِ سَكَنُوا الضَّرِيحَ، وَلَمْ يَنْفَعُهُمْ الْمَالُ والآمَالُ لِمَا نُقِلُوا، رَحَلُوا عَنِ الدُّنْيَا قِدْمًا قِدْمًا وَنُقِضَ مَا بَنَوْهُ هَدْمًا هَدْمَا أَدَارَتْ عَلَيْهِمْ الْمَنُونُ رَحَاهَا وَأَحَلَّتْ وُجُوهَهُمْ في الثَّرَى فَمَحَاهَا.(1/461)
وَهَذَا حَالُكَ عَنْ قَرِيبِ فَتَيَقَّظْ يَا قَلِيلَ الزَّادِ، وَحَادِي رَحِيلِهِ قَدْ حَدَى تَأَهَّبْ لِلتَّلفِ وَتَهَيَّأ لِلرَّدَى ذَهَبَ عَنْكَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَوَدَّعَكَ وَسَارَتْ فِيهِ قَوَافِلُ الصَّالِحِيَن وَجَهْلُكَ مَنَعَكَ والتَّوْبِيخُ مُتَوَفَّرٌ فَمَا أَرْجَعَكَ وَلا أَزْعَجَكَ وَأَنْتَ تُؤَمِّلُ مَنَازِلَ العَامِلِينَ بَأفْعَالِ الغَافِلِينَ فَمَا أَطْعَمَكَ.
يَا مَنْ أَصْبَحَ سَاعِيًا إِلى مَا يَضُرَّهُ سَتَعْلَمُ مَنْ يَأَتِي غَدًا حَزِينًا مُتَنَدِّمًا كَمْ مِنْ صَائِمٍ يَفْضَحُهُ الْحِسَابُ وَالعَرْضِ، وَكَمْ مِنْ عَاصٍ فِي هَذَا الشَّهْرُ تَسْتَغِيثُ مِنْهُ الأَرْضُ فَيَالَيْتَ شِعْرِي مِنْ الْمَقْبُولِ مِنَّا فَنُهَنِّيهِ عَلَى تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ بِحُسْنِ عَمَلِهِ، وَيَا لَيْتَ شِْعْرِي مِنْ الْمَطْرُودُ فَنُعَزِّيهِ بِسوءِ عَمَلِهِ، فَيَا أَيُّهَا الْمَقْبُولُ هَنِيئًا لَكَ بِثَوابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغُفْرَانِهِ وَقَبُولِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَفْوِهِ وَامْتِنَانِهِ.
وَيَا أَيُّهَا الْمَطْرُودُ بإصْرَارِهِ، وَطُغْيَانِهِ وَظُلْمِهِ وَغَفْلَتِهِ وَخُسْرَانِهِ وَتَمَادِيهِ فِي عِصْيَانِهِ لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ وَخَسِرْتَ تِجَارَتكَ وَطَالَتُ نَدَامَتُكَ فَيَا لَهَا مِنْ خُسَارَةٍ لا تُشْبِهُهَا خَسَارَةً للهِ دُرَُّ أَقْوَامٍ حَرَسُوا بَالتُّقَى أَوْقَاتَهُمْ وَتَدَرْعُوا دُرُوعَ الْمُرَاقَبَةِ فِي صَبْرِهِمْ وَجَمَعُوا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ فِي ذِكْرِهِمْ صَبَرُوا بَاليَقِينِ عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وَبَسَطُوا أَقْدَامَهُمْ عَلَى بِسَاطِ الدّيَاجِر وَعَمِلُوا لِيَوْمٍ فِيهِ القُلُوبُ لدَى الْحَنَاجِرِ.
أَقْبَلُوا على خِدْمَةِ رَبِّهِمْ إقْبَالَ عَالِمْ وَمَا سَلَكُوا إلا الطريقَ السَّالِمُ تَذَكَّرُوا ذُنُوبَهُمْ القَدَائِمَ فَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ بِصِدْقِ العَزَائِمْ وَعَدُّوا التَّقْصِيرَ مِنْ العَظَائِمِ وَبَدَّلُوا الْمُهْجَ الكِرَائِمَ فَإِذَا أَجَنَّ اللَّيْلُ فَسَاجِدُ وَقَائِمُ، وَلا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِم، أَيْنَ أَنْتَ وَهُمْ؟ فَهَلْ تَرَى السَّاهِرَ كَالنَّائِمْ؟ كَلا وَلا الْمُفْطِرَ كالصَّائِمْ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ الذُّلِّ(1/462)
والانْكِسَارِ وَدَوَامِ اللجُوءِ إِلى اللهِ تَعَالى وَالافْتِقَارِ إليه وَرُؤْيَةِ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَجَهْلِهَا وَعُدْوَانِهَا وَمُشَاهَدَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَبِرِّهِ وَغِنَاهُ وَحَمْدِهِ. فالعارفُ: سَائِرُ إلى اللهِ تَعَالى بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِنَاحَيْنِ لا يُمْكِنَهُ أنْ يَسِيرَ إلا بِهِمَا فَمَتَى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ كالطَّيْرِ الذي فُقِدَ أَحَدُ جِنَاحَيْهِ.
وقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ: العَارِفُ يَسِيرُ إلى اللهِ بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالعَمَلِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنَعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ» . فَجَمَعَ فِي قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبُوءُ لَكَ بِنَعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» . بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ.
فَمُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْحَمْدَ والشُّكْرَ لِوَلِيّ النِّعَمِ وَالإِحْسَانِ وَمُطَالَعَة عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ تُوجِبُ لَهُ الذُّلَّ وَالاِنْكِسَارَ وَالافْتِقَارَ وَالتَّوْبَةَ فِي كُلِّ وقت وَأَنْ لا يَرَى نَفْسَهُ إِلا مُفْلِسًا وَأَقْرَبُ بَابٍ يَدْخُلُ مِنْهُ العَبْدُ عَلَى الله تعالى هُوَ بَابُ الإِفْلاسِ فَلا يَرَى لِنَفْسِهِ حَالاً وَلا مَقَامًا وَلا سَبَبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلا وَسِيلَة مِنْهُ يَمُنُّ بِها.
بَلْ يَدْخُلُ عَلَى اللهِ مِنْ بَابِ الافْتِقَارِ الصَّرْفِ وَالإِفْلاسِ الْمَحْضِ دُخُولَ مِنْ كَسَرَ الفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ قَلْبَهُ حَتَّى وَصَلَتُ تِلْكَ الكَسْرَةُ إلى سُوَيْدَائِهِ فَانْصَدَعَ وَشَمَلَتْهُ الكَسْرَةُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ وَشَهِدَ ضَرُورَتَهُ إلى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَمَالَ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَأَنَّ فِي كُلِّ ذَرَةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ فَاقةٌ تَامةٌ وَضَرُورَةً إلى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى وَأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عين هَلَكَ(1/463)
وَخَسِرَ خسارَةَ لا تُجْبَرُ إلا أَنْ يَعُودَ إلى الله تعالى وَيَتَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. انْتَهَى.
شِعْرًا:
يا رَبِّ عَفوَكَ عَن ذي تَوبَةٍ وَجلٍ ... كَأَنَّهُ مِن حذارِ النَّارِ مَجنونُ
قَد كانَ قَدَّمَ أَعمالاً مَقارِفَةً ... أَيّامَ لَيسَ لَهُ عَقلٌ وَلا دينُ
آخر ... دَعِ البُكَاءَ عَلى الأطْلالِ وَالدَّارِ
وَاذْكُرْ لِمَنْ بَانَ مِنْ خِلِّ وَمِنْ جَارِ
وَأَذْرِ الدُّمُوعَ نَحِيبًا وَابْكِ مِنْ أَسَفٍ
عَلَى فِرَاقِ لِيَالٍ ذَاتَ أَنْوَارِ
عَلَى لَيَالٍ لِشَهْرِ الصَّوْمِ مَا جُعِلَتْ
إِلا لِتَمْحِيصِ آثَامِ وَأَوْزَارِ
يَا لائِمِي في البُكَاءِ زِدْنِي بِهِ كَلَفًا
وَاسْمَعْ غَرِيبَ أَحَادِيثِي وَأَخْبَارِي
مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ
مِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ الْقَارِي
وَفِي التَّرَاوِيحِ للرَّاحَاتِ جَامِعَةٌ
فِيهَا الْمَصَابِيحُ تَزْهُو مِثْلَ أَزْهَارِي
فِي لَيْلِهِ لَيْلَةُ القَدْرِ التِي شَرُفَتْ
حَقًّا عَلَى كُلِّ شَهْرٍ ذَاتَ أَسْرَارِ
تَتَنَزَّلُ الرُّوحُ وَالأَمْلاكُ قَاطِبَةً
بِإِذْنِ رَبٍّ غَفُورٍ خالقٍ بَارِي
شَهْرٌ بِهِ يُعْتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَدْ
أَشْفُوا عَلَى جُرُفٍ مِنْ خُطَّةِ النَّارِ(1/464)
نَرْجُوا الإِلَهَ مُحِبَ العَفْوِ يَعْتِقُنَا
وَيَحْفَظُ الكُلَّ مِنْ شَرٍّ وَأَكْدَارِ
وَيَشْمَلُ العَفْوُ وَالرِّضْوَانِ أَجْمَعْنَا
بِفَضْلِكَ الْجَمِّ لا تَهْتِكْ لأَسْتَارِ
فَابْكُوا عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهْرِ وَاغْتَنِمُوا
مَا قَدْ بَقِي فَهُو حَقٌّ عَنْكُمُ جَارِي
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَانْصُرْ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَاجْعَلْ كَلِمَتِكَ هَيِ العُلْيَا إِلى يَوْمِ الدِّينِ وَاخْذِلْ الكَفَرَةَ وَأَعْوَانَهُمْ وَالْمُلْحِدِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَأَصْلِحْ مَنْ فِي صَلاحِهِ صَلاحُ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلاكِهِ هَلاكٌ للإسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَوَلِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خِيَارَهُمْ يَا رَبَّ العَالَمِينِ وَلَمَّ شَعْثَهُم واجْمَعْ شَمْلَهُمْ وَوَحِّدْ كَلِمَتَهُمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَاَحْفَظْ بِلادَنَا مِنْ الفَسَقَةِ وَالْمُجْرِمِينِ وَأَصْلِحْ أَوْلادَنَا وَاشْفِ مَرْضَانَا وَعَافِ مُبْتَلانَا وَارْحَمْ مَوْتَانَا وَخُذْ بَأَيْدِنَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَاعْصِمْنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَاحْفَظْنَا مِنْ كُلِّ ضُرّ واغْفِرْ اللَّهُمَّ للمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيبٍ اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إِلى النَّارِ مَصِيرَنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يُخَافُكَ فِينَا وَلا يَرْحَمْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا وَلا تَسْلِبْ نِعْمَتَكَ عَنَّا وَكُنْ مَعَنَا حَيْثُمَا كُنَّا يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيَبْحَثُ فِي:
1- مَا وَرَدَ مِنْ الْحَثِّ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.
2- مَا جَاءَ فِي فَصْلِ حَمْلِ القُرْآنِ وَتِلاوَتِهِ.
3- مَا وَرَدَ فِي فَصْلِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ وتَفَهُّمِهِ.
4- مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ تَرْتِيلِ القرآنِ الْكَرِيمِ.(1/465)
5- مَا وَرَدَ فِي بَيَانِ عِظَمِ بَعْضِ السِّوَر.
6- اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ في التِّلاوَة.
7- يَنْبَغِي الْخُشُوعُ والْخَشْيَةُ وَالبُكَاءُ عِنْدَ تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
8- مَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ.
1- مَا وَرَدَ مِنْ الْحَثِّ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ:
يُسْتَحَبُّ حِفْظُ القُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَالإِكْثَارُ مِنْ تِلاوَتِهِ كُلَّ وَقْتُ لأَنَّ تِلاوَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ القُرُبَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَفِيهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابُ جَسِيمٌ مِنْ الْمَوْلَى الكَرِيمْ وَلاسِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ الله تَعَالى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلاوَةِ كِتَابِهِ العَزِيزِ وإبْلاغِهِ إلى النَّاسِ: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} .
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الذين يَتْلُونَ كِتَابِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلاةِ وَالإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللهُ تَعَالى فِي الأَوْقَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لَيْلاً وَنَهَارًا سِرًّا وَعَلانِيَّةً فقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
وَعَنْ عُثْمَانٍ بنِ عَفَّانٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِم.
2- مَا جَاءَ فِي فَضْلِ حَمْلِ القُرْآن:
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَت: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَة،(1/466)
وَالذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌ لَهُ أَجْرَانِ» . رَوَاهُ البُخَارِي.
وَعَنْ أََبِي أُمَامَةَ البَاهِليُّ - رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا القرآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمْ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَاقْرَءُوهُ فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لَمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلَّ مَكَانٍ وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِي عَلَى مِسْكٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي، وَالنَّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنُ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأَتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنُ الذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي يَقْرَأُ القُرْآن مَثَلُ الرَِّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِق الذي لا يَقْرَأ القُرْآنَ كَمَثِلِ الحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحُ وَطَعُمْهَا مُرٌّ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِم.
وَعَنْ ابن عُمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتينِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ القرآنْ فَهُوَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٍ تَعَلَّمَ عِلْمًا فَهُوَ يُعَلِّمُ النَّاسَ مِنْهُ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِم.
وَعَنْ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الذي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ القُرْآنِ كالبَيْتِ الْخَرب» . رواهُ الترمذي، وقَالَ: حديثٌ حَسَنْ.(1/467)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ من بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشَيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدِهِ» . أخرج البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطة عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَنَتِ الْفَرَسُ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ.
وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا أَخَذَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ» . قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا. قَالَ «وَتَدْرُونَ مَا ذَاكَ» ؟ قَلْتُ: لاَ. قَالَ: «تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لاَ تَتَوَارَى» .
فالْعَاقِلُ مَنْ يُكْثِرُ تَلاوتهُ وَاسْتِذْكَارِهِ للاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِ وَالاسْتِرْشَادِ بِمَواعِظِهِ وَالاعْتِبَارِ بِقَصَصِهِ وَالالْتِقَاطِ مِنْ دُرَرِهِ وَحِكَمِهِ وَالاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ كَيْفَ لا وَهُوَ أَسَاسُ الفَصَاحَةِ وَيَنْبُوعُ البلاغَةِ وَالبَرَاعَةِ فَتَجِدُ الْخَطِيبَ الْمُصْقِعَ وَالشَّاعِرَ البَلِيغَ يَقْتَبِسَانِ مِنْ آيَاتِهِ وَيَسْتَمِدَّانِ مِنْ عُذُوبَةِ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ مَا يُزَيْنَانِ بِهِ كَلامَهُمَا وَيُحَسِّنَانِ بِهِ مَقَامَهَُا.
شِعْرًا:
سَأَصْرِفُ وَقْتِي فِي قَرَاءَةِ مَا أَتَى ... عَنْ اللهِ مَعْ مَا جَاءَنَا مِنْ رَسُوله
فَإِنَّ الْهُدَى وَالْفَوْزَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ ... بِمَا جَاءَ عَنْ رَبِّ العِبَادِ وَرُسْلِهِ
وَهُوَ أَسَاسُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلامَيةِ وَمِنْهُ تُسْتَمَدَّ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَسَائِلُ الفقْهيةُ وَالْحَقُّ أنهُ عِمَادُنَا فِي أَمْر دِينِنَا وَدُنْيَانَا.(1/468)
القُرْآنُ أَصْلُ أُصُولِ الدين قَاطِبَةً ... فَكُنْ هُدِيتَ بِهِ مُسْتَمْسِكًا وَثِقَا
قَالَ يحيى بن أكثم: كان للمأمون وهو أمير إذْ ذَاكَ مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب الوجه طيب الرائحة قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة.
فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقَالَ له: إسْرَائيلِي؟ قال: نعم. قال: أَسْلِمْ حتى أفعل بك وأصنع ووعده فقال: ديني ودين آبائي وانصرف.
قال: فلما كان بعد سنة جاء مُسْلِمًا فتكلم على الفقه فأحسن الكلام فلما تفوض المجلس دعاه المأمون وقال: أَلَسْتَ صَاحِبَنا بالأمس؟ قَالَ: بلى.
قال: فما كان سَبَبُ إسلامك؟ قال: انصَرفْتُ مِن حَضْرتِكَ فأحْبَبْتُ أن أمْتَحِنَ هذه الأديانَ وأنت تراني حَسَنُ الخط فَعَمَدْتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسَخ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ وأدْخَلْتُها الكَنِيسَةَ فاشتريت مني. (المعنى مَا بَارَتْ تَصَرَّفَت وَطَافَت ما حُقِّقَ فيها ولا انتبه لِتَحْرِيفِهَا) .
وعمدت إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ فَزِدْتُ فيها وَنَقَصْتُ وأدخلُتها البَيَعَةَ فاشتريت مني.
وعمدت إلى القرآن فَعَمِلْتُ ثلاثَ نسخ وَزِدْتُ فِيها وَنَقَصْتُ وأدْخَلْتُهَا الوَرَّاقِيَن فَتَصَفَّحُوهَا.
فلما وَجَدُوا فيها الزِّيَادَةِ وَالنُقِصانَ رَمُوا بها فلم يَشْتَرُوهَا فَعَلمْتُ أنَّ هذا كتابٌ مَحْفُوظ فكان هذا سَبَبُ إسلامي.
قال يحيى بنُ أكثم: فَحَجَبْتُ تِلكَ السنةَ فَلَقِيتُ سُفيانَ بن عُيَيْنَةَ فَذكرتُ له الخَبَر فقال لي: مِصْدَاقُ هذا في كتاب الله قال: قُلْتُ في أيِّ مَوْضعٍ؟ قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ} فَجَعَلَ حِفْظَهُ إليهم فَضَاع وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فحفظه الله جل وعلا علينا فلم يضع.(1/469)
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِقَوْلِ اللهِ حِفْظًا فَإِنَّهُ ... هُوَ الذُّخْرُ فِي يَومٍ تَشِيبُ الذَّوَائِبْ
وَقَولِ رسول الله أيضًا فإنَّه ... بِهِ مَعْ كِتَابِ الله تُؤْتى الْمَطَالِبُ
وفَّقَنَا اللهُ وَجِميعَ المسلمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بكِتَابِهِ والْمُسَارَعَةِ إلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ واجْتِنَاب نَهْيه والوُقُوفِ عِنْدَ حَدَّهِ والتَّفكر في أمثالِهِ وَمُعْجِزهْ والتَّبصَّرُ في نُور حِكمهِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ!» .
وَفِي رِوَايَة: «يَا وَيْلي! أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسِّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةِ وَأُمِرْتُ بالسجودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النارُ» . رَوَاهُ مُسْلِمُ، وَأَبُو دَاود.
وَعَنْ النَّوَاسِ بِنْ سِمْعَان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بالقرآنِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الذين كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرةِ، وَآلِ عمرانَ» وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ: «كَأَنَّهَما غَمَامَتَاِن أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَوَانِ بَيْنَهُمَا شَرَقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فُرْقَانٌ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍ يُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهما» . رواه مسلم.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ تَعَالى فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا لا أَقُولُ: ألَم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْفٌ» . رواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي.(1/470)
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي، قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَلاوَةِ القُرْآنَ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأرْضِ، وَذُخْرٌ لك في السماء» . رواه ابن حبان.
شعرًا:
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ ... فَلْيَدَعِ عَنْهُ التَّوَانِي
وَليَقُمْ في ظَلَمَةِ الْـ ... لَيْلِ إلى نُورِ القُرْآنِ
وَليَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ ... إِنَّ هَذَا الْعَيْشَ فَانِ
إِنَّمَا العَيْشَ جِوَرُ الْـ ... ـلَهِ فِي دَارِ الأَمَانِ
آخر:
اقْطَعْ زَمَانِكَ بالْقُرْآنِ تَفْهَمُهُ ... وَمَا أَتَى عَنْ رَسُولِ الله مِنْ كَلمِ
وَاتْرُكْ مَجَالِسَ قَومٍ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ... سِوَى الْمَآثِمِ مِنْ فِعْلٍ وَمِنْ كَلِمِ
آخر:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تُخْطَى بِجَنَّةِ رَبِّنَا ... وَتَفُوزَ بالفَضْلِ العَظِيمِ الدَّائِمِ
فَاعْمَلْ بِمَا قَالَ الإِلهُ وَقَوْلِ مَنْ ... خَتَمَ الإِلهُ بِهِ النُّبُوةَ فَاعْلَمِ
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَقَدْ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحَى إِلِيْهِ، لا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ القُرْآنِ أَنْ يَجِدَ مَعَ مَنْ وَجَدَ، وَلا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ جَهِلَ وَفِي جَوْفِه كلامُ اللهِ» . رواه الحاكم.
وروى عن علي بن أَبي طالبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللهَ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهمُ قَدْ وَجَبَتْ لَهُمْ النارُ» . رواه ابن ماجة، والترمذي.
وعن أبي ذَرٍ - رَضِيَ اللهُ عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله خيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ(1/471)
تُصَلِّي مائَةَ رَكْعَةٍ، وَلأَنْ تَغْدُوا فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ العِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْمَل بِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّي أَلَفَ رَكْعَةٍ» . رواه ابن ماجة.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلى سَوَاءِ السَّبِيلْ وَوَفِّقْنَا لِلْفِقْهِ في دِينَكَ القَوِيمِ وَاجْعَلْنَا مِنْ العَامِلينَ بِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً الدَّاعينَ إليه، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ وتَفَهُّمِهِ
يُسْتَحَبُ التَّعَوُذَ لِمَنْ أَرَادَ الشُّرُوعَ في القِرَاءَةِ بَأَن يَقُولَ: (أُعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لِقَولِهِ تَعَالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُونَ: أعوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليمِ مِنْ الشيطانِ الرَّجِيمِ، فَإِنْ قَطَعَ القِرَاءَة قَطَعَ تَرْكٍ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ قَرِيبًا إِلَيْهَا أَعَادَ التَّعَوُذَ الأَوَّلَ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَبْل القِرَاءَةِ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا ثُمَّ يَقْرَأُ لأَنَّ وَقْتَهَا قَبْلَ القِرَاءَةِ للاسْتِحْبَابِ فَلا يَسْقُطُ تَرْكَهَا إِذًا وَلأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ.
فَإِذَا شَرَعَ فِي القِرَاءَةِ فَلَيَكُنْ شَأْنُهُ التَّدْبُرَ وَلِيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ بَعْضِ الْهَمَجِ يَقْرَأَ القُرْآنَ وَعُيُونُهُ تَجُولُ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَلاعَبُ بالقُرْآنِ وَلا يَهْتَمُ لَهُ قَالَ تَعَالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وَقَالَ تَعَالى في مَعْرَضِ الإِنْكَارِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .
فالمؤمنُ العاقلُ المُحُب للهِ وَرَسولِهِ تِلاوةُ القرآنِ وَتَفَهُّمُهُ عِنده أَلَذُّ الأَشْيَاءِ وَأَنْفَعَهَا لِقَلْبِهِ.(1/472)
ولا يَملُ من تِلاوته ولا يقنعُ بتلاوته دُونَ أن يَطْلُبَ فَهْمَ مَعَاني ما أرادَ الله عز وجل من تَعْظِيمِهِ وَتَبْجِيلِهِ وَتَقْدِيسِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَمْرِهِِ وَنَهْيِهِ وَإِرْشَادِهِ وَآدَابِهِ وَوَعَدِهِ وَوَعِيدِهِ.
وَيَعْلَم أنه لا ينال مَنَافِعَ آخِرَتِهِ وَلا الفَوْزَ بِهَا وَالنَّجَاةَ مِنْ هُلْكَتِهَا إِلا بإتباع القرآن الدَّال على كل نَجاة والْمُنْجِي لَهُ مِن كُلِّ هَلَكَةٍ.
قَالَ الله جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} الآية أَنْزَلَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلَى عباده لِيُعُرِّفَهُم بِهِ نَفْسَه وَيُذَكِّرهُمْ بِهِ أَيَادِيَهُ وَيُنَبِّههم به من رَقدَاتِ الغَافِلين.
وَيُحْيِيَ قُلُوبَهُم ويُنَوِّرَ أَبْصَارَهُم وَيَشْفِي صُدُورَهُم وَيزُيلَ جَهْلَهَا وَيُنْفِي شُكُوكَهَا وَدَنَسَهَا وَزَيْفَهَا وَيُوضِحَ سَبِيلَ الْهُدَى وَيكْشِفَ بِهِ العَمَى وَالشُّبُهَاتِ.
وَيُزيلَ نوازعَ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوسَ الصُّدُورِ وَيُغْنِي بِهِ مِنْ فِهْمَهُ وَيَنْعَمَ بِهِ مَنْ كَرَّرَ تِلاوَتَهَ وَيَرْضَى بِهِ عَمَّنْ اتَّبَعَهُ.
هُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيم الذي مَن سَلَكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوْقَفَهُ على الرغائب وَسَلَّمَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ وَخَفَّفَ عَنْهُ أَهْوَالَ يومِ العَرْضِ والنُّشُورِ. وَأَوْرَدَهُ رِيَاضَ جَنَّاتِ النعيم.
هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِين الذي لا انقطاعَ لَهُ مَن تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا قال الله جل وعلا وتقدس لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
ومَن أَعْرضَ عنه عَطِبَ قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} .(1/473)
ومَن ابتغى الهدى مِن غيره ضَل، ومَن فَهِمَهُ نَطَقَ بالحكم، وجَرَى على لسانه بحسنِ الموعظة، وكان مِن العلماء بالله جل وعلا.
ومَن عقل عن الله جَلَّ ذِكْرُه ما قال فقد اسْتَغْنَى به عن كل شيء وعَزَّ بِهِ مِنْ كلِ ذُل.
لا تَتَغَيَّر حَلاوَتُهُ ولا تُخْلِقُ جِدَّتُه في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرارِ لتلاوته.
لأنه كلام الحي القيوم، وكل كلام غير القرآن والأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تُمَلُّ من كَثْرة تَرْدَادها.
أما القرآنُ وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ المؤمِن كُلَّ مَا كرره ازْدَادَ رَغْبةً وَنَشاطًا وَمَحَبَّةً لِلَكَلامِ وَلِمَنْ تَكَلَّم بِهِ وَهَذا مَوجُودٌ عندَنا في فِطَرِنَا فإنا نَسْمَعُ الكَلامَ مِمَّنْ نُحِبُّ مِنْ الْخَلْقِ. ومن نُعَظِّمُ قَدْرَهُ فَتَرْتَاحُ لِذَلِكَ قُلُوبُنَا.
فكيفَ بكلام ربنا رب العالمين الذي خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَأَعْطَانَا وَآوَانَا وَعَافَانَا وَهَدَانَا.
شِعْرًا:
جَمِيعُ الكُتْبِ يُدْركُ مَنْ قَرَاهَا ... فُتُورٌ أَوْ كَلالٌ أَوْ سَآمَةْ
سِوَى القُرآن فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ
وقد تكلم به حَقِيقة، وأنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - مع الأَمِين مِنْ ملائكته. فالواجب علينا الإصغاءُ وَالتَّفَهُّمُ لِمَا يُتْلَى مِنْ كَلام رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا وتقدس.
وَأَنْتَ تعلم أَنَّهُ إِذَا كَان لِلذِّي يُحَدِّثُكَ عِنْدَكَ قَدْرٌ أَصْغَيْتَ إلى حَدِيْثِهِ باسْتِمَاعِ ما يَقُولُ وَتَفْهُم مَعَانِي مَا يَصِفُ.
ولو كان يَحْكِيهِ لَكَ عن حَاكِي لَفَعَلْتَ ذَلِكَ حُبًّا مِنْكَ لِقَائِلِهِ وَتَعْظِيمًا لِلْمُتَكَلِّم بهِ.(1/474)
ولو أطلعَهُ اللهُ على قَلْبَكِ وَأَنْتَ غافلٌ مُتَشَاغِلٌ عَنْهُ لا تُلْقِي لَهُ بَالَكَ وَلا تَفْهَمِ عَنْهُ قَوْلَه.
لأبْغَضَكَ وَعَلِمَ إِنَّكَ مُسْتَهِينٌ بِهِ سَاهٍ عَنْ حَدِيثهِ وَلا تَهْتَمَّ بِهِ وَلَمْ تَعْبَأ بِفَهْمِ قوله لِقِلَّةِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ حَدِيثِهِ عِندَكَ.
وَلو كَانَ عَنِدَكَ قَدْرٌ لأَصْغَيْتَ لِحَدِيثِهِ وَلَمْ تَلهَ عَنْ تَفَهُّمِهِ وَإِنَّمَا لَهَوْتَ عَنْ حَدِيثِ مِنْ حَدَّثَكَ مِنْ الْخَلْقِ لأَنَّهُ غَابَ عَنْهُمْ عِلْمُ ضَمِيرَكَ.
وَلَوْ كَانَ بَادِيًا وَظَاهِرًا لَهُمْ مَا فِيهِ لأَحْضَرْتَ عَقْلَكَ إِلَيْهم وإليهم وإلى كَلامِهم وَحَدِيثهم، وَلَمْ تَرْضَ لَهُم بالاستماعِ دُونَ الفَهْمِ لَهُ، ولا بالفَهْمِ له دُونَ تَحْبُّبِهمْ عَلَى قَدْرِ حَدِيثِهمِ.
لِتُعْلمَهُم أنَّكَ قد فِهَمْتَ عَنْهُمْ ولم تَرْضَ لَهُم بالجَوابَ دُون أَنْ تُوَافِقَهم فَتُعَظِّمَ ما عَظَّمُوا وَتَسْتَحَسَّنَ مَا اسْتَحْسَنُوا وَتَسْتَقْبِحَ مَا اسْتَقْبَحُوا.
هَذَا وَأَكْثَرُ حَدِيثهم لَغْوٌ وَلَهْوٌ وَليس فيه مَنْفَعَةَ ولا دُنْيَا وَلا حَقَّ لهم يُؤكدُوهُ عَلَيْكَ بِقَوْلِهم ولا يَرْضَون عَنْكَ بِفَهْمِهِ وَلا تُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَفْهَمُه وَتَقُومُ به.
فكيف بالرب العظيم الكريم الذي سَهَّلَ لَكَ مُنَاجَاتَه، وَلَمْ يتكلم به لَغْو ولا قالَهُ لَهْوًا وَلَعِبًا ولا عَبْثًا، ولا خَاطب به سَهْوًا ولا تَفَكُّهَا تعالى الله عَزَّ وجل عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وَإِنَّمَا تَكَلَّم بِهِ مُخَاطِبُهُ قَصْدًا وَإِرَادَةً وتوكِيدًا لِلْحُجَّة عليكَ وعلى خَلْقِهِ إعْذَارًا إِلَيْهِمْ وَإِنْذَارًا.
فَعَرَّفَنَا بِهِ أَنْ لا إِلَه غَيْرُهُ وَأَمَرَنَا بِمَا يَرْضَى بِهِ عَنَّا وَيُقَرِّبُنَا مِنْهُ ويُوجِبُ لَنَا جِوَارَهُ والقُرْبَ مِنْهُ وَالنَّظَر إِلِيه.(1/475)
ويُوجِبُ لَنَا بِهِ إِنْ رَكِبْنَا مَا يَسْخِطُهُ عَذَابَهُ الأَلِيمْ في خُلُودَ الأَبَدَ الذي لا انقطاعَ لَهُ وَلا زَوَالَ وَلا رَاحَة.
وَنَدَبَنَا فيه إلى الأَخْلاقِ الكَريمة والمنازِلِ الشَّريفَةِ وَقَدْ قَالَ أَصْدقُ القائلين وَأوفى الواعدين إنَّ مَا أَنْزَلَه مِن كَلامه شِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُور وَهُدىً ورحمةِ للمؤمنين.
فما أَحَقُّ مِن غَفَل عن فَهْمِ كِتابهِ أنْ يَسْتَحِي مِن رَبِّهِ عَزَّ وَجَل ويأَسَفْ عَلَى مَا مَضَى مِن عُمُرهِ وَمَرَضِ قَلْبِهِ وَهو لا يَزْدَادُ إِلا سُقْمًا وَمَرَضًا وذلك لِقَلةِ مُبَالاتِهِ.
تَرَكَ طَلبَ شِفَائِهِ بِمَا قَالَ الله وتدَبُّرِ ما تكلم به خَالِقُه ومَولاه وَقَدْ رآه مَولاهُ وهو يَعْتَنِي بِفَهم كِتابِ مَخْلُوقٍ وَحَدِيثهِ.
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ هذا المخلوق وَحَدِيثِهِ إِيَّاهُ خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيم ولا النَّجَاةُ مِنْ العَذَابِ الأليم الذي لا يَنْقَطِعُ.
بل رُبَّمَا أَن فيه ما الاشتغالُ به ضَرَرٌ عليه وَمَسْخَطَةٌ لِرَبه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ لَعَلَّ فِيهِ مَا الاسْتِغْنَاءُ بِغَيرهِ أَولى أو حَاجَة لا قَدْرَ لَهَا أَوْ خبَرٌ تَافِه.
أَوْ حَاجَةٌ بكُلْفَةٍ لا يأْمَلُ لَهَا مُكَافَأةً ولا يحَثُهُ عَلَى القِيَام بِهَا إلا خَوفُ عَذْلِهِ وَلَوْمِهِ.
فَكيفَ تَكُونُ حَالُنا عند ربنا تبارك وتعالى وقد عَلِم مِنَّا أَنَّنَا قَلِيلٌ تَعْظِيمُنَا لَهُ.
ونَحْن لا نَعْبَأ بفَهْم كلامه وتَدَبُّر قوله فيما خاطب به كما نَعْبَأ بفهم كُتْبِ عَبِيده وحَدِيثهم الذين لا يَملكونَ لَنَا وَلا لأَنْفُسِهم ضَرًا وَلا نَفْعًا وَلا مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا.(1/476)
فَتَبَارَكَ مَنْ يَمْلِكُ ذلك كُلَّهُ إلى أن قال رحمه الله: فغدًا نَقْدَمُ على الله عز وجل فَنَلْقَاهُ وَيُسَائِلُنَا عَنْ كتابه الذي أنزل إلينا مُخَاطِبًا لَنَا به وكيفَ فهِمنا عنه وكيفَ عَمِلْنَا بِهِ وَهَلْ أَجْللناهُ وَرَهِبْنَاهُ وَهَلْ قُمنا بِحَقِّهِ الذي أَمَرَنَا بهِ وَجَانبنا ما نهانا عنه.
ألم تَسْمَع مَسَائِلَهُ الجن والإنس جميعًا يوم القيامة بِمَا أَقَامَ عليهم به الحجة في الدنيا من تلاوة آياته عليهم من رُسُلِهِ وأنه قَطَعَ بذلك عُذْرَهُم وَأدْحَضَ به حُجَّتَهُم.
فقال جَل وعلا يَوْمَ العَرْضِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} ، وقال جل وعلا: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} انتهى باختصار وتصرف يسير.
شِعْرًا:
يا رَبِّ إِن عَظُمَن ذُنوبي كَثرَةً ... فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلا مُحسِنٌ ... فَمَن ذَا الذِي يَرْجُو وَيَدْعُو المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا ... فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلا الرَّجَا ... وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فِيمَا يَبْقَى، وَزَهِّدْنَا فِيمَا يَفْنَى، وَهَبْ لَنَا اليَقِينَ الذي لا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إِلا إِلَيْهِ، وَلا يَعَوَّلُ فِي الدِّينِ إِلا عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ الذِي لا يُرَامْ ومُلْكِكَ الذِي لا يُضَامْ وَبِنُورِكَ الذِي مَلأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ أَنْ تَكْفِينَا شَرَّ مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُ بِهِ وَأَنْ تُعِيذَنَا مِنْ شُرُورُ أَنْفُسْنَا وَمِنْ سَيَّئَات أَعْمَالِنَا،(1/477)
اللَّهُمَّ يا عليمُ يا حَلِيمُ يَا قَوِيُ يَا عَزِيزُ يَا ذَا المنِ وَالعَطَا وَالعِزِ والكَبْرِيَا يَا مَنْ تَعْنُوا لَهُ الوُجُوه وَتَخْشَعُ لَهُ الأَصْوَاتْ، وَقِّفْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكْ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
4- مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ تَرْتِيلِ القُرْآنِ الكَرِيم:
وَيُسْتَحَبُّ لِقَارِئِ القُرْآنِ أَنْ يُرَتِّلَ قِرَاءَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
وَثَبَتَ عَنْ أمّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُا - أَنَّها تَنْعَتُ قِرَاءَةَ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرفًا. رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» . رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يَمُدُّ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ} ، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحْمَنِ} ، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحِيمِ} . رواه البخاري.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ فِي قِرَاءتِهِ. رواه البخاري، ومسلم.
وَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً بِآيةٍ(1/478)
يُرَدِّدُهَا: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَقَامَ تَمِيمٌ الدَّارِي بآيةِ: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} وَقَالَ أَبُو سُلَيْمانَ: إِنِّي لأَقِيمُ فِي الآيةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسَ. وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: مِنْ خَتَم القُرْآنَ نَهَارًا غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَمَن خَتَمَه لَيْلاً غُفِرَ لَهُ تِلكَ اللَّيْلِ. وَعَنْ طَلْحَةَ بن مُصَرِّفٍ قَالَ: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ فِي أَيِّ سَاعةٍ مِنْ النَّهَارِ كَانَتَ صَلَّتْ عليه الملائكةُ حَتَّى يُمْسِي أَوْ أي سَاعَةٍ مِنْ لَيل كَانَتْ صَلَّتْ عليه الْمَلائكةُ حَتَّى يُصْبحُ.
اللَّهُمَّ نَوّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَأَعِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَالشَّيْطَان وَأيِّسْهُ مِنَّا كَمَا أَيَّسْتَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ يَا رَحْمَنَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة) : قَالَ ابن القَيْم رَحِمَهُ الله: عَشَرَةُ أَشْيَاء ضَائِعَةٌ لا يُنْتَفَعُ بِهَا: عِلْمٌ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَعَمَلٌ لا إِخْلاصَ فِيهِ وَلا إقْتِدَاءَ فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ وَسنةِ رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ لا يُوَفَّقُ لَهُمَا إِذَا لَمْ يُخْلِصِ العَمَلَ، وَمَالٌ لا يُنْفَقُ مِنْهَ فَلا يُسْتَمْتِعُ بِهِ جَامِعُهُ في الدُّنْيَا وَلا يُقَدِّمُهُ أَمَامَهُ لآخِرَتِهِ، وَقَلْبٌ فَارِغٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالشَّوْقِ إلى لِقَائِهِ وَالأُنْسِ بِهِ، وَبَدَنٌ مُعَطَّلٌ مِنْ طَاعَةِ الله وَخَدْمَتِهِ، وَمَحَبَّةُ لا تَتَقَيّدُ بِرَضَا الْمَحْبُوب وامتثالِ أوامِرِهِ.
وَوَقْتٌ مُعَطَلٌ مِنْ اسْتِدْرَاكِ فَارِطٍ وَاغْتِنَامُ بِرٍ وَقُرْبَةٍ، وَفِكْرٌ يَجُولُ فِيمَا لا يَنْفَعُ وَخِدْمَةُ مَنْ لا يُقَرِّبُكَ خِدْمَتُهُ إِلى اللهِ وَلا تَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلاحِ دُنْيَاكَ، وَخَوْفُكَ وَرَجاَؤُكَ مِمَّنْ نَاصِيَتُهُ بيدِ اللهِ وَهُوَ أَسِيرٌ في قَبْضَتِهِ وَلا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَلا مَوْتًا وَلا حَياةً وَلا نُشُورًا.
وَأَعْظَمُ هذِهِ الإِضَاعَاتِ: إِضَاعَةُ القَلْبِ، وَإِضَاعَةُ الوَقْتِ. فَإِضَاعَةُ القَلْب عن الله مِن إِيَثار الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَة، وإضَاعَةُ الوَقْتِ مِنْ طُولِ(1/479)
الأمل، فَاجْتَمَعَ الفَسَادُ كَلُّهُ في إتِّبَاعِ الْهَوَى وَطُولِ الأَمَلِ وَالصَّلاحِ كُلُّهُ فِي إِتِّبَاعِ الْهُدَى وَالاسْتِعْدَادِ لِلقَاءِ اللهِ.
إلى أنْ قال: وللهِ عَلَى عَبْدِهِ أَمْرٌ أَمَرَهُ بِهِ وَقَضَاءٌ يَقْضِيهِ عَلَيْهِ وَنِعَمٌ يُنْعَمُ بِهَا عَلَيْهِ فَلا يَنْفَكُ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ والقَضَاء نوعانِ إِمَّا مَصَائِبُ وَإِمَّا مَعَائِبُ وَلَهُ عَلَيْهِ عُبُودَيَّةَ في هَذِهِ الْمَرَاتِب كُلِّهَا فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِليهِ مِنْ عَرَفَ عَبُودَيتَهُ في هَذِهِ الْمَرَاتِبَ كُلِّهَا وَوَفَّاهَا حَقَّهَا فَهَذَا أَقَرَبُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنْهُ مِنْ جَهْلَ عُبُودَيَتَهُ فَعَطَلهَا عِلْمًا وَعَمَلاً.
اللَّهُمَّ ثَبتنَا على قَولِكَ الثابِت في الحَيَاة وفي الآخِرَة وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابِ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَةِ وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَة النَّصُوحِ وَالإِنَابَةِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتَ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
5- مَا وَرَدَ فِي عِظَمِ فَضْلِ بَعْضِ السُّورِ:
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعن عبد الله بن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم(1/480)
يَفْقَهْ مَن قَرَأَ القُرآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاثٍ» . رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي.
وَعَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا يَسْتَطِيعَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلّ يَوْمِ» ؟ قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ كُلَّ يَوْمِ؟ قَالَ: «أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ألْهَاكُمْ التَّكَاثُرْ» . رَوَاهُ البَيْهَقِي.
وَقَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: (وَلا أَعْلَمُ نَبِيَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ القُرْآنَ في لَيْلَةٍ ... ) . الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: (لا تَنْثِروُهُ نَثْرَ الرّمْلِ ولا تَهُذّوهُ هَذّا الشَّعْر قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ وَلا يَكُنْ هَمُّ أَحَدُكُمْ آخَرَ السُّورَةِ) . رَوَاهُ البَغوي.
وَعَنْ ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (لأَنْ أَقْرَأَ سُورَة أُرَتِّلهَا أحبُّ إِليَّ مِنْ القُرْآنِ كُلَّه) . وَقَدْ نُهي عَنْ الإِفْرَاطِ في الإِسْرَاعِ وَيُسَمَّى (الْهَذْرَمَةَ) فَثَبَتَ عَنِ ابن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: اقْرَأُ الْمُفَصّلَ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودْ: كَهَذَا الشِّعْر، إِنَّ قَوْمًا يَقْرَؤوُنَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ نَفَعْ) . رواهُ البخارِي، وَمُسْلِم.
قَالَ ابنُ القَيّم رَحِمَهُ الله: إِذَا أَرَدتَ الانْتِفَاعَ بالقُرْآنِ فَاجْمَعْ قَلْبَكَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَأَلْقِ سَمْعَكَ وَاحْضَرْ حُضُورَ مَنْ يُخَاطِبَهُ بِهِ مَنْ يَتَكَلَّم بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ مِنْهُ لِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، قَالَ تَعَالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وَذَلِكَ أَنْ تَمَامَ التَّأْثِيرَ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُؤَثّرٍ مُقْتَضِي وَمحل قابلٍ وَشُرِطَ لِحُصُولِ الأثر انْتِفَاءُ الْمَانع الذي يَمْنَعُ مِنْهُ تَضَمَّنَتِ الآية بَيَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَأَوْجَزِ لَفْظِ وَأَبْيَنهِ عَلَى الْمُرَادْ.(1/481)
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلام: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ أَفْضَلَ القِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حَالَ الرجل فالقراءةُ بِتَدَبُّرٍ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ بِلا تَدَبّرٍ، وَالصَّلاةُ بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قَلْبِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ بِدُونِ ذَلِكَ.
6- اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ في التِّلاوَةْ:
يُسْتَحَبّ لِقَارِئ القُرْآنِ أَنْ يُحْسِّنَ صَوْتَهُ بِالقِرَاءَةِ، لأَنَّ تَحْسِينَ الصّوتِ بالقِرَاءَةِ مُعِينٌ عَلَى حُضُورِ الْقَلْبِ وَخُشُوعِهِ وَبَاعِثٌ عَلَى حُسْنِ الاسْتِمَاعِ وَالإِصْغَاءِ إِلى القُرْآنِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» . رواهُ البخاري. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَمَا أَذِنَ لِنَبِيٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرآنِ وَيَجْهَرُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيَانِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ ... جَرَائِدَ يَقْرأها وَتَلْفَاز يَنْظُرُ
وَلَكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ مَنْ كَانَ هَمَّهٌ ... قِرَاءةُ القُرْآنِ وَلِلْقَلْبِ يَحْظِرُ
آخر:
اصْرِفْ هُمُومَكَ لِلْقُرْآنِ تَفَهَمَهُ ... وَاعْمَلْ بِهِ كَيْ تَنَالَ الأَجْرَ وَالشَّرَفَا
قَالَ جُمهُورُ العُلماءِ: مَعْنَى (لَمْ يَتَغَنَّ) ، أَيْ لَمْ يُحْسِّنْ صَوْتَهُ. وَعَنْ البَراءِ بِنْ عَازِب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «زَيّنُوا القُرْآنَ بأصْوَاتِكُمْ» . رواهُ أحمدُ، وأبُو دَاودَ، وابن ماجة، والدَّارِمي.
وعنه أيضًا قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «حَسِّنُوا القرآن بَأصْوَاتِكُم فَإِنَّ الصَّوتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ القرآنَ حُسْنًا» . رواه الدارمي.
وَرَوَى مُسْلَمٌ في صَحِيحَهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي - رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقَرَاءَتكَ(1/482)
البَارحَة، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ داودْ» . قال العلماءُ: الْمُرادُ بالْمِزْمَارِ هُنَا: الصَّوتُ الْحَسَنُ.
اللَّهُمَّ قَابِلَ سَيْئَاتِنَا بِإحْسَانِكَ، وَاسْتُرْ خَطِيئَتِنَا بِغُفْرَانِكَ وَأذْهِبْ ظُلْمَةَ ظُلْمِنَا بِنُورِ رِضْوَانِكَ وَاقْهَر عَدُوَّنَا بِعِزِّ سُلْطَانِكَ فَمَا تَعَوَّدَنَا مِنْكَ إِلا الْجَمِيلْ، اللَّهُمَّ اسْلكْ بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينِ الأَبْرَارَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأخْيَارِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
7- يَنْبَغِي الْخُشُوعُ وَالْخَشْيَةُ وَالبُكَاءُ عِنْدَ تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ تعالى:
وَيُسْتَحَبُّ البكاءُ عِنْدَ تلاوَةِ القرآن، وَهُوَ صِفَةُ العَارِفِينَ وَشِعَارُ عِبادِ اللهِ الصالحين، قَالَ اللهُ تَعَالَى في وَصفِ الخاشِعينَ مِنْ عِبادِه عِنْدَ تلاوةِ كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} سورةَ الإِسْرَاء.
شِعْرًا:
وَكُلُّ تِلاوَةٍ فَتُمَلُّ إِلا ... كَلامُ اللهِ مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالى الأَنْبِيَاءَ الْمُكْرَمِينَ وَخَوَاصَّ الْمُرْسَلِين، وَذَكَرَ فَضَائِلَهُمْ وَمَرَاتِبَهُمْ أَخْبَرَ إِنَّهُمْ كَانُوَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) ، وَقَال اللهُ تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَآثَارٌ لِلسَّلَف فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ(1/483)
عَنْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ وَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا» . وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» . قُلْتُ: أأقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ ! قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» . فَقَرَأْتُ مِنْ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلى هَذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} ، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» . فالْتَفَتُ إَلِيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ مُطْرِفِ بن عَبْدُ اللهِ بن الشَّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمُرْجَلِ مِن البُكاءِ. أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلا ابنَ ماجة، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّان.
وَلَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَهُ قِيلَ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرِ فَلْيُصَلِّ بالناسِ» . قَالَتْ عَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقيقٌ إِذَا قَرَأ غَلَبهُ البُكاء، قَالَ: «مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شِعْرًا:
وَأَهوى مِنَ الفِتيانِ كُلَّ مُحَافِظٍ ... عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَن في كُلِّ سَاعَةِ
وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ سِرًا وَجَهْرَةً ... وَبِاللَّيْلِ قَوَّامًا بِسَجْدٍ وَرَكْعَةِ
آخر:
يُحْيِي اللَّيَالِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلَهَا ... كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجُلُ
آخر:
إِذا شامَ الفَتى بَرقَ المَعالي ... فَأَهوَنُ فائِتٍ طيبُ الرُقادِ
آخر:
وَباَدِرِ الَّلْيَل بِدَرْسِ العُلوم ... فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نهار الأَرِيبْ
وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ الصُّبْحَ فَقَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ في صَلاةِ العِشَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ بَكَى حَتَّى سَمِعُوا بُكَاءَهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ.(1/484)
وَقَرَأَ عُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِالنَّاسِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى فَلَمَّا بَلَغَ: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} خَنَقَتْهُ العَبْرَةُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْفُذَهَا فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا بَلَغَهَا خَنَقَتْهُ العِبْرَةُ فَلَمْ يَسْتَطِع أَنْ يَنْفُذَهَا فَقَرَأَ غَيْرَهَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَالُ العُلَمَاءِ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهُمَا عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى التَّيْمِي أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنْ أُوتِيَ مِنْ الِعْلِمِ مَا لا يَبْكِيهِ لَخَلِيقٌ أَنْ قَدْ أُوتِيَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لا يَنْفَعَهُ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى نَعَتَ أَهْلَ العِلْمِ فَقَالَ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَلِجُ النَّارِ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» . الْحَدِيثِ رواه الترمذي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عَيْنَانِ لا تَمَسَّهُمَا النَّارِ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرِسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رواه الترمذي.
وَيُسْتَحَبُّ إِذَا مَرَّ بآيةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِذَا مَرَّ بآيةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ باللهِ مِنْ الشَّرِّ أَوْ مِنْ العَذَابِ أَوْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةِ) أَوْ يَقُولَ: (أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَإِذَا مَرَّ بِآيةِ تَنْزِيهِ نَزَّهَ اللهَ تَعالى فَقَال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالى) أَوْ: (تَبَارَكَ وَتَعَالى) أَوْ: (جَلَّتْ عَظَمَةُ رَبَّنَا) فَقَدْ صَحَّ عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ البَقَرَةِ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المائِةْ ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، ثُمَّ افْتَتَحَ آلِ عِمْرَانِ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا يَقْرُأَ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ فِيهَا بِتَسْبِيحِ سََبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤالِ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعْوَّذِ تَعَوَّذْ ثُمَّ رَكَعَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(موعظة) : عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ رَبِّنَا جَلَّ وَعَلا تَعْظِيمَ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ فَمَنِ اسْتَخَفَّ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِرُسُلِهِ خَسِرَ كُلَّ الْخُسْرَانِ. عِبَادَ اللهِ أَيْنَ الغِيرَةُ الدِّينِيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ نَجِدُ الكُتَبَ(1/485)
التِي تَحْتَوِي عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلى الآيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَعَلَى الأحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ مُلْقَاتٍ مَعَ القَمَائِمِ وَفِي الْحُفَرِ القَذِرَةِ تُدَاسُ بِالنِّعَالِ وَتُلَوَّثُ بالأَقْذَارِ تُلَوَّثُ تَلْوِيثًا مِنْهُ العَوَاظِفُ الإِيمَانِيَّةِ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ لِمَاذَا لا تُصَانُ وَتُرْفَعُ أَوْ تُقْبَرُ في مَحِّلٍ طَاهِرٍ.
قُولُوا لِمَنْ يُلْقِيهَا وَلِمَنْ يَقْدِرُ عَلى مِنْعِهِمْ مِنْ إِلْقَائِهَا: اتَّقُوا اللهَ هَذِهِ حَالَةٌ وَاللهِ تُؤْلِمَ النُّفوسَ، وَتُشْمِتُ بِنَا الأَعْدَاءِ قُولُوا لَهُمْ: كَيْفَ تَسْمَح نُفُوسُكُمْ تَلْقُونَهَا هَذَا الإلْقَاءِ الْحَقِيرَ وَكَذَلِكَ كُتُبُ فَقْهٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا آيَاتٌ وَلا أَحَادِيثٌ يَنْبَغِي احْتِرَامِهَا وَرَفْعُهَا.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الكُتُبِ التِي جُمِعَ وَالعِيَاذُ باللهِ بِهَا مَعَ الآيَاتِ القُرْآنِيةِ والأحاديثِ النبويةِ صُوَرٌ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ وَقَدْ تَكُونُ فَوْقَ الآيَةِ خُصُوصًا إِذَا أطْبِقَ الكِتَابُ وَهَذَا وَاللهِ اسْتَهَانَةٌ عَظِيمَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بالآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ وَالكُتُبِ الدِّينِّيةِ لا يَجُوزُ السّكوتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالةِ الْمُزْرِيَةِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ هُو عَدَمُ وَضْع الآيَاتِ وَالأحَادِيثِ فِي الْجَرَائِدِ بَلْ يُشَارُ إِلى مَحَلاتِهَا وَأَرْقَامِهَا لأَنَّ الْجَرَائِدَ صَارَتْ قِسْمٌ كبيرٌ مِنْ قِمَامَةِ الْمَحِلاتِ وَفِيهَا صُورُ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهَذِهِ حَالَةُ مُخِيفَة إِنْ دَامَتْ مَعَ مَا انْتَشَرَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ والْمَعَاصِي التِي مَلأتِ البرِّ والبَحْرَ يُخْشَى أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ عُقُوبَتُهَا.
نَسْأَلُ الله أَنْ يُنَجِّينَا مِنْ عُقُوبَتِهَا وَأَنْ يُوقِضَ وَلاتَنَا وَيُنَبِّهَهَمْ لإِزَالتِهَا وَتَطْهيرِ الأَرْضِ مِنْهَا إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلا أَرَى مَخْلِصًا لِلإنْسَانِ الذِي قَدْ ابْتُلِيَ بِشِراءِ الْجَرِيدَةِ حَمَّالَةِ الْكَذِبِ قَتَّالةِ الَوْقتِ إلا أَنَّهُ يُحْرِقُهَا مِنْ حِينَ يَخْلَصُ مِنْ قِرَاءتِهَا لِيَسْلَمَ مِنْ بَاقِي شُرُورِهَا وَأَوْزَارِهَا.(1/486)
وَسَوْفَ يُنَاقَشُ عَنْهَا يَومَ القِيامَةِ عَنْ الوَقْتِ الذِي ضَيَّعَهُ فِيهَا وَالْمَالُ الذي أَنْفَقهُ فِيهَا وَمَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ عَلَى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ التِي فِيهَا مِنْ الاسْتِهَانَةِ وَالامْتِهَانِ وَإِخْرَاجِ الْمَلائِكَةِ عَنْ الْمَحَلِّ التِي وَضَعَهَا فِيهِ إِذَا كَانَ فِيهَا صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ حَيْثُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا:
أَلا ارْعِوَاءَ لِمَنْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ
عِنْدَ الْمَذَايِيعِ وَالتَّلْفَازِ وَالطَّربِ
مُضَيِّعًا فِيهَا عُمْرًا مَا لَهُ عِوَضٌ
إِذَا تَصْرَّمَ وَقْتٌ مِنْهُ لَمْ يَؤُبِ
أَيَحْسِبُ العُمْرَ مَرْدُودًا تَصَرّمُهُ
هَيْهَاتَ أَنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِنْ الْحُقُبِ
أَمْ يَحْسَبُ العُمْرَ مَا وَلَّتْ أَوَائِلُهُ
يَنَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُمْرِ بِالذَّهَبِ
فَبَادِرِ العُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِمًا ِ
مَا دُمْتُ حَيًّا فَإِنَّ الْمُوتَ فِي الطَّلَبِ
وَأَحْرِصْ وَبَادِرْ إِذَا مَا أَمْكَنَتْ فُرَصٌ
في كَسْبِ مَا تُحْمَدَنْ عُقْبَاهُ عَنْ رَغَبِ
مِنْ نَفْعِ ذِي فَاقَةٍ أَوْ غَوْثِ ذِي لَهَفٍ
أَوْ فِعْلِ بِرِّ وَإِصْلاحٍ لِذي شَغَبِ
فالْعُمْرُ مُنْصَرِمٌ وَالوَقتُ مُغْتَنَمٌ
وَالدَّهْرُ ذُو غَيْرَ فَأجْهَدْ بِهِ تُصِبِ(1/487)
فاعْمَلْ بِقَوْلِي وَلا تَجْنَحْ إِلى فَدَمٍ
مُخَادِعِ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ وَالأَدَبِ
يَرَى السَّعَادَةَ فِي كَسْبِ الْحُطَامِ وَلَوْ
حَوَاهُ مَعَ نَصَبٍ مِنْ سُوءِ مُكْتَسَبِ
فَالرَّأْيُ مَا قُلْتُهُ فَاعْمَلْ بِهِ عَجَلاً
وَلا تَصِخْ نَحْوَ فَدْمٍ غَيْرِ ذِي حَدَبِ
فَغَفْلَةُ الْمَرْءَ مَعَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ
عَنْ وَاضِحٍ بَيْنَ مِنْ أَعْجَب العَجَبِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِكَ وَأَصْفِيَائِكَ، وَاجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنَ التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِنْ العَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيَاتِ مُنْتَفِعين وإلى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعينَ وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعِينَ وبالأعمالِ مُخْلِصِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وقال مُحمدُ بن الحسين: يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآن وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهُ.
وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ القُرْآنِ وَأَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتِهِ.
وَمِمَّن وَعَدَهُ اللهُ مِنْ الفَضْل العظيم.
وَمِمَّن قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قِيلَ: يَعْملون به حَقَّ العَمَل.
وَمِمَّنْ قَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذي يَقْرأ القُرْآن وهو مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرةِ الكرام(1/488)
البَرَرَةِ وَالذِي يَقْرَأ القرآن وهو يَتَتَعْتَعُ فيه عليه شاقٌ لَهُ أجْرَان» . رواه البخاري.
وقال بِشْرُ بنُ الحارث الزاهدُ المعروف سَمِعْتُ عيسى بن يُونُسَ يَقُولُ: إذا خَتَمَ العَبْدُ القرآن قَبَّل الملَكَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
فَيَنْبَغِي لِلإنسان الموفق أنْ يَجْعَلَ القُرآنَ كَلامَ رَبِّ العزَّةِ وَالْجَلالِ رَبِيعًا لِقَلْبهِ يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرَّبَ مِنْ قَلْبِهِ يَحْرِصُ كُلَّ الْحِرْصِ على تِلاوَتِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَالعَمَل به.
فَيَتَأَدَّبُ بآدابهِ وَيَتَخَلَّقُ بِأخْلاقِ شَرِيفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الناس مِمَّنْ لا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ.
فَأَوَّلَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِل تَقْوَى اللهِ فِي السِّرِ وَالعَلانِيَةِ بِاسْتِعْمَالِ الوَرَعَ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، ومُعَامَلَتِهِ، وَبَيْعِهِ، وَشِرَائِهِ.
وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادَ أَهْلِهِ، فَيَحْذَرهم عَلى دِينِهِ مُقْبِلاً عَلَى شَأنه مُهْتَمًا بإصْلاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِ، حَافِظًا لِلسَانِهِ، مُمَيّزًا لِكَلامِهِ.
إِنْ تَكلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْم إِذَا رَأَى الكلامَ صَوَابًا يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عَدّوِهِ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» .
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وُقِيَ شَرَّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ فقد وَجَبَتْ لَهُ الجنة»
أخرجه الديلمي من حَديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
القَبْقَبُ: البطن، والذَّبَذبُ: الفرج، وَاللَّقْلَقُ: اللِّسَان.
وَأَنْ يَكُونَ قَلِيلَ الضَّحِك مِمَّا يَضْحَكُ منه النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، فَإِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الحَقَ تَبَسَّمَ.
وَيَتَجَنَّبُ كثرة المزاح (لأَنَّهُ فِي الغَالب لِلْعَدَاوَةِ مِفْتَاح) فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا، بَاسِطَ الوَجْهِ طَيْبَ الكَلامِ، لا يَمْدَحُ نَفْسَهِ بِمَا فِيهِ فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.(1/489)
وَمَا حَسَنٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّ أَخْلاقًا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ
آخر:
(وَدَعْوَةَ الْمَرْءِ تُطْفِئ نُورَ بَهْجَتِهِ ... هَذَا بِحَقٍّ فَكَيْفَ الْمُدَّعِي زَللا)
وَأَنْ يَحْذَرَ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَهُ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلاه.
وَلا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلا يُحَقِّرُ أَحَدًا، وَلا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلا يَشْمُتُ بِمُصِيبَةٍ، وَلا يَبْغِي على أحَد، وَلا يَحْسِدُ أَحَدًا، وَلا يُسِيءُ الظَّنَّ إِلا بِمَنْ يَسْتَحِقَ ذَلِكَ.
وَيَجْعَلَ الكتاب والسُنَّة والفِقْهَ فِيهما دَلِيلَهُ إِلى كُلَّ خُلُقٍ حَسَن جَمِيل وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِجَوَارِحِهِ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
إِنْ مَشَى بِعِلْمٍ وَإِنْ قَعَدَ بِعِلْم، حَافِظًا لِلِسَانِهُ وَيده عما لا يعْنِيه، ولا يَجْهَل فَإِن جُهل عليه حَلُم.
وَلا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَا عَمَلاً بقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ولا يَبْغِي وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِم غَيْظَهُ لِيُرضِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَل (وَيغِيظَ عَدُّوهُ الذي لا يَأْلُو جُهْدًا في السَّعِي في هَلاكِهِ) .
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ، وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعَهمُ في دَارِ القَرَارَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفَّقَنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ والْمُبَادَرَةِ إلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآدَاب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِك والرِّضَا بِقَضَائِكَ والصَّبْر عَلى بَلائِك والشّكْر لِنَعْمَائِكَ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَامَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/490)
(فصل) : وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَأَنْ يَكُونُ (أَيْ مِنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنِ وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنَ لَمْ يَحْمِلْهُ) مُتَوَاضِعًا في نَفْسِهِ إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقَّ قَبِلَهُ مِن صَغِيرٍ أَوْ كَبِير يَطْلُبُ الرّفْعَة مِن اللهِ لا مِن المخلُوقين.
مَاقِتٌ لِلْكِبْرِ خَائفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، لا يَتَأَكَّلُ بالقُرْآنِ ولا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ.
وَلا يَسْعَى إِلى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَلا يُجَالِسُ بِهِ الأَغْنِياءَ لِيُكْرمُوه.
إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِن الدنيا الكَثِيرِ بَلا فِقْهٍ وَلا بَصِيرَةٍ كَسَبَ هُو القَلِيل بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ.
إِنَّ لََبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الفَاخِرَ لَبِسَ هُوَ مِنْ الْحَلالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إِنْ وُسّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَك.
يَقْنَعُ بالقَلِيل فَيْكَفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِن الدُّنْيَا مَا يُطْغِيه، يَتْبَعُ وَاجِبَاتَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
يَأَكُلُ الطَّعَامِ بِعْلمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْطَحِبُ الإِخْوَانَ بِعِلْمٍ، وَيَزْوُرهُم بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأَذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاورُ جَارَهُ بِعلم.
يُلْزِمُ نَفْسَهِ بِرَّ وَالِدَيْهِ فَيخَفِضْ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفَضُ لِصَوْتِهَما صَوْتَه وَيَبْذِلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلِيْهِمَا بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ والوَقَارِ، يَدْعُو لَهُمَا بالرَّحْمَةِ وَالبَقَاءِ وَيَشْكرُ لَهُمَا عِنْدَ الكِبر، ولا يضجر منهما، ولا يَحْقِرُهُمَا.
إِنْ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُطعْهُمَا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» .
وَإِنْ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ أَعَانَهُمَا وَيَرْفُقُ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتهِ إِيَّاهُمَا حَيْثُ لَمْ يُعِنهمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَيَكُونُ ذَلِكَ بحُسْنِ الأَدَب لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَ مِمَّا لا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُه.(1/491)
ويَصِلُ رَحِمَهُ، وَيَكْرَهُ القَطِيعَةِ، وَمِنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعَهُ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فِيهِ أَطَاعَ اللهَ فِيهِ، يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلمٍ، وَيُجَالِسُهُم بِعلمٍ، ومَن صَحِبَهُ نَفَعَهُ.
حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ، إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفقَ بِهِ، وَلا يُعَنِّفُ مَن أَخْطَأَ وَلا يُخْجِلُهُ.
رَفِيقٌ فِي أُمُوره صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيم الْخَيْر، يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا.
مُؤدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بآدَابِ القُرآن والسُّنَّةِ إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فالقُرْآنُ والسُّنَّةُ مُؤدِّبَانِ لَهُ.
يَحْزَنُ بِعِلْمٍ وَيَبْكِي بِعِلْم، وَيَتصَدَّقُ بِعِلم، وَيَصُومُ بِعِلم، ويحجُّ بِعِلْمٍ، ويُجَاهِدُ بِعِلم.
وَيَكْتَسِبْ بعلمٍ، ويُنفِقُ بِعلمٍ، وَيَنبَسِطُ في الأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَينقبض عَنْها بعِلمٍ.
قَدْ أَدَّبَهُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ يَتَصَفَحُ القُرْآنَ لِيُؤدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرضَ اللهُ عليه بِجَهْلٍ.
قَدْ جَعَلَ العِلْمَ والفِقْهَ دَلِيلَهُ إِلى كل خيرَ إذا دَرَسَ القُرْآنَ فَبِحُضُورِ فِهْمٍ وَعَقْل.
همَّتُهُ إِيقَاعُ الفَهْمِ لِمَا ألْزَمَهُ اللهُ مِنْ إتِّبَاع ما أَمَرَ وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى.
لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ، هِمَّتُهُ مَتَى أسْتَغْنِي بالله عن غَيرِهِ، مَتَى أكُونُ مِنْ الْمُتَّقِين.
مَتَى أَكُونُ مِنْ المحسنين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْمُتَوَكِّلِين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْخَاشِعِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنْ الصَّابِرِينَ.(1/492)
مَتَى أَكُونُ مِنْ الصَّادِقِين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْخَائِفِينَ، مَتَى أَكُونُ مِن الرَّاجين، مَتَى أَزْهَدُ في الدنيا، مَتَى أَرْغَبُ في الآخرة.
مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ، مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ المُتَوَاتِرَةِ، مَتَى أَشْكُرُ اللهِ عَلَيْهَا، مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي.
مَتَى أَسْتَحِي مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاء، مَتَى أشْتَغِلُ بَعْيبي، مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي، مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي.
مَتَى أَتَزَوَّدُ لَيْوَمِ مَعَادِي، مَتَى أَكُونُ عن اللهِ رَاضِيَا، مَتَى أَكُونُ بِلَقَائِهِ وَاثِقًا، مَتَى أَكُونُ بَزَجْرِ القُرْآنِ مُتَّعِظًا، مَتَى أَنْصَحُ للهِ.
مَتَى أَخْلِصُ له عَمَلي، مَتَى أُقِصِّرُ أَمَلِي، مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلي.
مَتَى أَعْمُر قَبْرِي، مَتَى أَفكِّرُ في الموقفِ وَشِدَّتِهِ، مَتَى أَفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي.
مَتَى أَحْذَرِ مِمَّا حَذَّرني منه ربي من نار حَرُّهَا شَدِيدٌ وَقَعْرُهَا بَعِيد لا يَمُوتُ أَهْلُها فَيَسْتَرِيحُوا وَلا تُقَال عَثْرتُهم، ولا تُرْحَمُ عَبْرتهم.
طَعَامُهُم الزقُومُ وشرابُهم الحَميم، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ، وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} الآية.
نَدِمُوا حَيْث لا يَنْفعُ النَّدمُ وَعضُّوا عَلَى الأيْدِي أَسَفًا على تَقْصِيرهم في طَاعَةَ اللهِ وَرَكُونهمِ لِمَعاصي الله.
فقال قائلٌ منهم: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، وقال قائل: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} .
وقال قائل: {أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .
وقال قائل: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .(1/493)
وقال قائل: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} .
شِعْرًا:
أمَا سَمِعْتَ بَأكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدْت ... خَوْفًا مِنْ النَّارِ فَانْحَطَّتْ إِلى النَّارِ
أمَا سَمِعْتَ بِضَيْقٍ في مَكَانِهِمُوا ... وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْ صَالِي النَّارِ
أمَا سَمِعْتَ بِحِيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا ... إِلِيْهُمُوا خُلِقَتْ مِنْ مَارَجِ النَّارِ
فِيهَا إِلَهِي بَأَحْكَامٍ وَمَا سَبَقَتْ ... بِهِ قَدِيمًا مِنْ الجناتِ والنَّارِ
أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي الَعَبْدَ الضَّعِيفَ فما ... لِلْعَبْدِ مِنْ جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ
وَالشَّمْسُ مَا لِي عَلَيْهَا قَطُّ مِنْ جَلدٍ ... فَكَيْفَ يَصْبُر ذُو ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَارِنَا وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ آمَالِنَا وَسَهِّلْ لِبُلُوغِ رِضَاكَ سُبُلَنَا وَحَسِّنْ في جَمِيعِ الأَحْوَالِ أَعْمَالِنَا يَا مُنْقِذُ الغَرْقَى وَيَا مُنْجِي الْهَلْكَى وَيَا دَائِمَ الإِحْسَانِ أَذِقْنَا بُرْدَ عَفْوِكَ وَأَنِلْنَا مِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ مَا تَقَرُّ بِهِ عُيُونَنَا مِنْ رُؤْيَتِكَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وقال رحمَهُ اللهُ تَعَالى: فَأَمَّا مَن قَرَأَ القُرْآنِ لِلدُّنْيَا، فَإِنَّ مِن أَخْلاقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ القُرْآن مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ مُتُعَظِّمًا في نَفْسِهِ مُتكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ.
قَد اتَّخَذَ القُرْآنَ بِضَاعَةً يَتَأَكَّلُ بِهِ الأَغْنِيَاءِ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائج، يُعْظِّمُ أبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَيحْقِّرُ الفُقَرَاءِ.
إِنْ عَلَّمَ الغَنِيِّ رَفَقَ بِهِ طَمْعًا في دُنْيَاه، وإِنْ عَلَّمَ الفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ لأَنَّهُ لا دُنْيَا لَهُ يَطْمَعُ فِيهَا.(1/494)
يسْتَخْدُم به الفُقَراءَ، وَيَتْيهُ بِهِ عَلَى الأَغْنِيَاء إنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ وَيُصَلِّي بِهِمْ طَمَعًا في دُنْيَاهُم.
وَإِنْ سَأَلَهُ الفُقَراءُ الصَّلاةَ بِهمِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ الدنيا في أيديهم وَإِنَّما طَلَبُهُ الدنيا حَيْثُ كَانَتْ رَبَضَ عِنْدَهَا.
يَفْخَرَ على الناسِ بالقرآن وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ دُونِهُ فِي الْحِفْظِ بِفَضْلِ مَا مَعَهُ مِنْ القِرَاءَاتِ.
فَتَرَاهُ تَائِهًا مُتَكَبّرًا كَثِيرَ الكَلامِ يَعِيبُ كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ.
وَمَنْ عَلِم أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَه، مُتَكبَرًا في جَلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا في تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ، لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ، كَثِيرُ الضَّحِكِ والخَوض فيما لا يَعْنِيهِ.
يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يأخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ.
هو إلى اسْتَمَاع حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَمِعَ لَهُ.
يُوري أنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ حَافِظًا فَهُوَ إِلى كَلامِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إلى كلام الله عَزَّ وجَل.
لا يَخْشَعُ عند اسْتِمَاعِ القُرْآن، ولا يَبْكِي وَلا يَحْزَنْ وَلا يَأْخُذُ نَفْسَه بالفِكر فيما يُتْلَى عَليه وقد نُدِبَ إلى ذلك.
رَاغِبٌ في الدنيا وما قَرَّبَ مِنْهَا لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ قَالَ أَهْلُ القرآن: لا يُقَصَّرُ في حُقُوقِهِم وَأهْل القرآن تُقْضَى حَوَائِجُهُم.
يَسْتَقْضِي من الناس حَقَ نَفْسِهِ وَلا يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا للهِ عَليها يَغْضَبُ عَلى غَيْرِهِ ولا يَغْضَبُ على نَفْسِهِ للهِ.
لا يُبَالِى مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مِنْ حَلال قد عَظُمَتِ الدنيا في قلبه إن فاته شيءٌ منها لا يَحِلُ لَهُ أَخْذُهُ حَزنَ على فَوْتِهِ.(1/495)
لا يَتَأَدَّبُ بآدابِ القُرْآنِ ولا يَزْجُزُ نَفْسَهُ عَنْ الوَعْدِ وَالوَعِيد لاهٍ غَافِل عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَليه.
همَّتُهُ حِفْظُ الحُرُوفِ إِنْ أَخْطَأَ في حَرْفٍ سَاءَهُ ذلك لِئلا يَنْقُصُ جَاهُهُ عِنْدَ المَخْلُوقِينْ فَتَنْقُصُ رُتْبَتُهُ عندهم.
فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي القُرْآنِ أَوْ نَهَى عَنْهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ.
أخْلاقُهُ في كثير من أموره أخْلاقُ الجُهَّالِ الذين لا يَعْلَمُون لا يأخُذُ نَفْسَهُ بالعَمل بما أوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ فِي القُرْآن إذا سَمِعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .
فَكَان من الواجب عليه أن يُلْزمَ نَفْسَهُ طَلَبَ العِلْمِ لِمَعْرَفَةِ مَا نَهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فينتهِي عنه إلى أن قال رحمه الله تعالى:
فأَمَّا العَاقِلُ إِذَا تَلَى القُرآن اسْتَعْرَضَ القُرآنَ فَكَان كَالمرآة يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِن فِعْلِهِ وَمَا قَبُحَ مِنْهُ.
فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلاهُ حَذِرَهُ وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ.
فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ تَلاهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايتِهِ وَكَانَ لَهُ القُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسا وَحِرْزَا.
ومَنْ كانَ هَذا وصْفه نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ وعَاد على وَالِدَيْهِ وعَلى ولَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ في الدنيا والآخرة. انتهى كلامه باخْتِصَار وتصَرُّف يسير.
فَطُوبَى لِمَنْ أَرْضَى الإِلَهَ مُسَارعًا ... إلى سُبُلٍ تَهْدِيه لِلرِّحْلَةِ الأُخْرَى
وَقَامَ وَصَلَّى فِي الدَّيَاجِي وَدَمْعُهُ ... عَلى خَدِّهِ تَجْرِي بِمُقْلَتِهِ العَبْرَا
وَأَخْلَصَ للهِ الَعِظيمِ قِيامَهُ ... وَرَاقَبَهُ سِرًا وَرَاقَبَهُ جَهْرَا
وأَحْيَا لَيَالِي عُمْرِهِ بِقِيَامِهِ ... إلى رَبِّهِ في اللَّيْلِ وَامْتَثَلَ الأَمْرَا(1/496)
فَذَاكَ بِحَمْدِ اللهِ في طَيْب عيشَةٍ ... يَفُوزُ بِهَا صَومًا وَيُحْظَى بِهَا فِطْرَا
اللَّهُمَّ قَابِلْ سَيِّئَاتِنَا بِإحْسَانِكَ، وَاسْتُر خَطِيئَتِنَا بِغُفْرَانِكَ وَاذْهبْ ظُلَمَةَ ظُلْمِنَا بِنُور رِضْوَانِكْ، وَاقْهَر عَدُوَّنَا بِعِزِّ سُلْطَانِكَ، فَمَا تَعُودَنَا مِنْكَ إِلا الْجَمِيل، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : 8- مَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ القُرْآنِ الكريمْ، والتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ، واَلإعْرَاضِ عَنْه:
يُسَنُّ خَتْمُهُ في كُلِّ أُسْبُوع لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بن عَمْرو - رَضِي اللهُ عَنْهَا -: «وَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ لَيَالٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل - رَحِمَهمَا الله - كَانَ أَبِي يَخْتِمُ القُرآنَ في النَّهَارِ فِي كُلِّ أُسْبُوع، يَقْرأُ كُلَّ يَوْمِ سُبْعًا لا يكادُ يَتْرَكَهُ نَظَرًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَبدِ اللهِ بن عَمْرو - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: «واقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ» . وَإِنْ قَرَأَ فِي ثَلاثٍ فَحَسَنْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبدِ اللهِ بن عَمْرو - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قُوَّةً، قَالَ: «اقْرَأْ في كُلِّ ثَلاثٍ» . رواهُ أبُو داودْ. ولا بَأسَ فِيمَا دُونَها أَحْيَانًا، وَفِي الأَوْقَات الفَاضِلِةِ كَرَمَضَانَ، خُصُوصًا اللَّيَالِي التِي تُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ القدر.
وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ القُرْآنِ أنْ يَتَعَّهدَهُ بالْحِفْظِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلاوَتِهِ، وَلَيْحَذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ هُجْرَانِهِ وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ لَهُ، فَيَتَعَّرضَ بِذَلِك لِنِسْيَانِهِ وَتَرْكِ العَمَلِ بِهِ الذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله: هَجْرُ الْقُرْآنِ أَنْوَاع:(1/497)
أَحَدُهُمَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ، والإيمانِ بِهِ، وَالإِصْغَاءِ إِلَيْهِ.
والثَّاني: هَجْرُ العَمَلِ بِهِ والوُقُوفِ عِندَ حَلالِهِ وَحَرَامِهِ، وَإِنْ قَرَأَهُ وَآمَنَ بِهِ.
شِعْرًا:
لا شَيْءَ مِثْلَ كَلامَ اللهِ تَحْفَظُهُ ... حِفْظًا قَوِيًّا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدَا
وَالثَّالثْ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّحَاكُمْ إِلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ لا يُفِيدُ اليَقِينِ وَأَنَّ أَدَلَّتَهُ لَفْظِيةَ لا تُحَصِّلُ العِلمَ.
والرَّابِعْ: هَجْرُ الاسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي بِهِ في جَمِيعِ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَدْوَائِهَا، فَيَطْلُب شِفَاءَ دَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَهْجُرُ التَّدَاوِي بِهِ.
وَالْخَامِسُ: هَجْر تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ.
وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمِدْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةْ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلاً قَائِمًا بِيَدِهِ فَهْرٌ أَوْ صَخْرَةٌ فَيَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ: فَيَتَدَهْدَهْ، فَإِذَا ذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ عَادَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ أَتَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بَاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَل بِهِ بِالنَّهَارْ، فَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ إِلى يومِ القِيامَ.
وَفي حدِيثِ عَمْرو بن شُعَيْب مَرْفُوعًا: «يُمَثَّلُ القُرآنُ يَومَ القِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا، فَيقُولُ: يَا رَبْ، حَمَّلْتَهُ إِيَّاي فَبِئْسَ حَامِلٌ تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكَبَ مَعْصِيَتِي وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالُ(1/498)
شَأنَكَ بِهِ فَيأخُذُ بِيَدِهِ فَمَا يُرْسِلَهُ حَتَّى يُكِبَّهُ على مِنْخِرِهِ في النَّارِ» . الحديث.
شِعْرًا:
ثلاثَةُ أَسْفَارٍ هَنِيئًا لِمَنْ لَهَا ... يُلازِمُهَا حِفْظًا وَدَرْسًا وَيَفْهَمُ
كِتَابَ إِلهِ الْخَلْقِ جَلَّ جَلالُهُ ... كَذَاكَ البُخَارِي ثُمَّ يَتْلُوهُ مِسْلِمُ
وَعَنْ سَعْدِ بِنْ عُبَادَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ امْرِئِ يَقْرَأُ القرآن ثُمَّ يَنْسَاهُ إلا لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمْ» . رواهُ أبو داود.
وَعَنْ أَبِي مَوْسىَ الأَشْعَرِي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنْ - فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه - لَهُوْ أَشَدَّ تَفَلُّتًا مِنْ الإِبْلِ مِنْ عُقُلِهَا» . رَوَاهُ البخاري، ومسلم. وَعَنْ ابن عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرآنِ كَمَثَلِ الإِبلِ الْمُعَلَّقَةْ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطَلْقَهَا ذَهَبَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - تَكَفَّلَ الله لِمَنْ قَرَأ القُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيَا وَلا يَشْقَى في الآخرة، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} . أ. هـ.
وَرَوَى أَنَسٌ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عُرضَتْ عَلَيَّ أَجُورَ أُمَّتِي حَتَّى القِذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ المسجدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبَ أمتي فلمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَة منِ القرآنِ أَوْ آيَةٍ أَوُتيِهَا الرَّجُلَ ثُمَّ نَسِيَهَا» . وَيَا لِلأَسفِ اسْتَبْدَلُوا الْخَبِيثَ بالطَّيِّبِ أَكَبَّوا عَلَى الجَرَائِدِ وَالمَجَّلاتِ وَالكُتُبِ الْخَلِيعَاتِ بَدَل تِلاوَةِ كِتَابِ الله فَلا حَوْلَ ولا قُوةَ إلا باللهِ العَلي العظيم، وهو حَسْبُنَا ونَعْمَ الوَكِيل.(1/499)
شِعْرًا:
قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ حَتَّى ... لَمْ أَجِدْ شَخْصًا أَمِينَا
وَانْتَهَتْ حَالِي إِلى أَن ... صِرْتُ في البَيْتِ حَزِينَا
أَمْدَحُ الوَحْدَةَ حِينًا ... وَأَذُّمُ الْجَمْعَ حِينَا
إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ لَمْ ... يَتَّخِذْ خَلْقًا قَرِينَا
وَفِي الْحَدِيثِ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَغَيْرُه عَنْ عَلَيَّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -
قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنٌ» . قُلْتُ: فمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلاَ تَشْبَعُ مِنْهُ العُلَماءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ القُرْآنِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادِ مِنْ أَصُولِ الدِّينِ وَفُروعِهِ وأحكام الدَّارِينِ حَتَّى أَنَّهُ تَعَالى يُثَنِّي الأُمُورَ الكِبَارَ التِي يَحْتَاجُ القَلْبُ لِمُرُورِهَا عَلَيْهِ كُلَّ وَقِتِ وَإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ سَاعَةِ بَألفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَدلةٍ مُتَنَزِّعَةٍ لِتَسْتَقِرَّ في القلوبْ.
قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فَفِيهِ بَيَانُ الحلالِ والحرامِ وَالثَّوَابِ والعِقَابِ وَهُدىً مِنْ الضَّلالَةِ، رَحْمَةً لِمَنْ صَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ فِيهِ وَحَكَّمَهُ في الدَّقِيقِ وَالجَلِيلِ وَالوَيْلُ لِمَنْ رَجَعَ إلى القَوَانِينِ وَتَرَكَهُ فَكُلُّ حُكْمٍ سِوَى حُكْمِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودُ، وَكُلُّ حَاكِمٍ بَغْيِرِ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ فَهُو طَاغُوتُ(1/500)
كَافِرِ باللهِ وَمَا أكْثَرَهم في هذا الزَمَنِ الْمُحَكِّمِينَ لِلْقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ وَالأَنْظِمَةِ الْحَالِيَّةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَهَذَا عَامٌ شَامِلٌ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ إِلا وَللهِ فِيهَا حُكْم، قَالَ اللهُ تَعَالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فَهَذِه الآيةُ الْجَلِيلَةُ القَدْرِ عَظِيمَةُ الموقِعْ كَبِيرَةُ الفَائِدَةِ حَسَنَةُ الْمَغْزَى اخْتَارَهَا الرَّبُّ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَخْتِمَ بِهَا كِتَابَهُ الكَرِيمَ وَوَحْيَهُ المعْجِزَ وَأَحْكَامَ شَرِيعَتِهِ السَّمْحَةِ وَدِينَهُ الْحَنِيفْ.
وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ التِي انْفَرَدَتْ بِهَا عَمَّا بَقِيَ مِنْ السِّورُ والآياتِ أَنَّ الله أَكْمَلَ بِهَا الدِّينَ بِمَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَةِ مِنْ الفَرَائِض وَالسُّنَنِ وَالحُدُودِ وَالأحكامِ وَالحلالِ وَالحرامِ وَلَمْ يَنْزِلُ بَعْدَهَا حَلالٌ وَلا حَرَامٌ وَلا شَيْءٌ مِنَ الفَرَائِض وَأَتمّ بِهَا النّعمَةُ على عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِدَايَتِهِمْ لأَحْكَامِهِ وَتَوْفِيقِهِم لِمَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَإنجازِهِ سُبْحَانَهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} .
فَكَانَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ أَنْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِينَ لَمْ يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ مِن المشْرِكِينَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اخْتَارِ لِهَذِهِ الأُمَّةَ دِينِ الإِسْلامِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ الأَدْيَانِ كُلِّهَا بَيَانًا لِشَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَاعْتِنَاءِ بِأَمَّةِ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وَحَسْبُنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وَهَذَا مَا دَعَا كَعْبُ الأحبارُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَكَانَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ اليهودِ أَنْ يَقُولَ لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ عُمُرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا أَمِيرَ المؤمنينَ آيةٌ في كِتَابِكم تَقْرءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليهودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَاهَا عِيَا وَأَقْمَنَا لَهَا مُحْتَفَلاً في كُلِّ عَامِ نُجَدِّدُ ذِكْرَاهَا وَنَتَدَارَسُ فَضَائِلَهَا الكثيرةِ وَذِكْرَيَاتِهَا العَطِرَةِ.(1/501)
فَيَبْتَدِرُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَائِلاً: أيُ آيةِ هِيَ؟ قَالَ كَعْب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} فَيُجِيبُهُ أَمِيرُ المؤمنينَ بِكُلِّ تَؤُدَةٍ وَسَكِينَةِ قَائِلاً: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَت فيهِ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايةِ إسحاقَ بنِ قبيصَة: نَزَلَتْ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَكِلاهُمَا بِحَمْدَ اللهِ لَنَا عِيدًا. أ. هـ.
وَمِنَ الأدلَةِ على وُجُوبِ الرُّجُوعِ إلى الكِتَابِ وَالسَّنةِ عِندَ التَّحَاكُمِ مَا يَلِي:
قَالَ تَعَالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
وَقَالَ تَعَالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} الآية.
وَقَالَ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وَقَالَ تَعَالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الآية.
وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَكْتُكُمْ عَلى الْمَحَجَّةِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ» . وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «مَا بُعِثَ مِنْ نَبِيَّ إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أَمَّتَهُ على خَيْرِ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمُ» . وَقَالَ أَبُو ذَرْ: لَقَدْ تُوُفِّي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا طَائُرٌ يُقَلِّبُ جِنَاحَيْهِ في السَّمَاءِ إِلا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا.
وَلا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسَنَّةَ رَسُولِهِ وَاعْتَاضَ عَنْهُمَا بالقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ أَنَّهُ كافرٌ كُفْرٌ نَاقِلٌ عَنِ الْمِلَّةِ الإِسْلامِيَّةِ وَكَذَا مَنِ اسْتَهْزَأَ بالقُرْآنِ أَوْ طَلَبَ تَنَاقُضَهُ أَوْ دَعْوَى أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ أَوْ مُخْتَلِقٌ أَوْ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ القُرْآنُ أَوْ نَفَا مَا أَثْبَتَهُ القُرْآنُ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ، وَقَالَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} ،(1/502)
وَلا خِلافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْ القُرْآنِ سُورَةً أَوْ آيَةً أَوْ كَلِمَةً أَوْ حَرْفًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ.
وَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَسَعُهُ الْخُروجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كَمَا وَسِعَ الخَضْرُ الخروجُ عن شَرِيعَةِ مُوسى، أَوْ زَعَمَ أَنَّ هَدْيَ غَيْرِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أَحْسَنْ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يَسَعُ النَّاسَ في مِثْلِ هَذِهِ العُصُورِ إلا الخِروجُ عن الشريعةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ كافيةٌ في الزَّمَانِ الأَوَّلِ فَقَطْ وَأَمَّا في هَذِهِ الأزْمِنَةِ فَالشَّرِيعَةِ لا تُسَايِرُ الزَّمَنَ ولا بُدَّ مِنْ تَنْظِيمِ قَوَانِينِ بِمَا يُنَاسِبُ الزَّمَنُ، فَلا شَكَّ أَنَّ هَذا الاعْتِقَادِ إِذَا صَدَرَ مِنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَهَانَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَنَقَّصَهُمَا وَلا شَكَّ في كُفْرِهِ وَخُروجِهِ مِنْ الدِّينِ الإسْلامِي بالكُلِّيَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْتَاج لِلشَّرِيعَةِ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دَوُنَ البَاطِنْ، أَوْ فِي عِلْمِ البَاطِنِ فَقَطْ أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِعِ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ بِدِينِ مُحَمَّدٍ، أَوْ اسْتَهَانَ بِدِينِ الإِسْلامِ، أَوْ تَنَقَّصَهُ أَوْ هَزَلَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ أَوْ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَكَذَلِكَ أَلْحَقَ بَعْضُ العُلَمَاءِ الاسْتِهَانَةِ بِحَمَلَِتهِ لأَجْلِ حَمْلِهِ فَهَذِهِ الأمورُ كُلُّهَا كُفْر. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ(1/503)
مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
وَقَالَ فِي تَحْذِيرِ أَهْلِ الإِيمَانِ عَنِ الحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} الآيتين. ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ في القُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي الزِّجْرِ عَنِ إتِّبَاعَ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ غَيْرُ هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ لَكَفَتْ العَاقِلَ اللَّبِيبَ الذي أُوتِيَ رُشْدَهُ وَأَهَمَّهُ صَلاحُ قَلْبِهِ عَنْ تَطَلُّبِ غَيْرِهَا فَكِيفَ وَالقُرْآنِ كُلَّهُ يَدْعُو إِلى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَعَدَمِ تَحْكِيمِ مَا عَدَاهُ، إِمَّا تَصْرِيحًا وَإِمَّا تَلْوِيحًا وَلَهُ جَاهَدَ وَيُجَاهِدُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ لَدُنْ بُعِثَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى يومِ تَقُومُ السَّاعَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَزَالُ طَائِفَةُ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرَّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا خِلافُ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ» . وَأَنَّهُ قَالَ: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلى ضَلالَةٍ» . فعَلَمِنْاَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعُ بِالسَّمْعِ أَنْ يَتَمَالأ العَالَمُ كُلَّهُمْ شَرْقًا مِنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إتِّبَاعِ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ بالْحُكْمِ الشَّرْعِي بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَوْ وَاحدٌ يُنْكِرُ عَلَى هَؤلاءِ الكُلِّ إِمَّا بِلِسَانِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْتِكُوا بِهِ وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَظَنَّ الفَتْكَ بِهِ كَمَا قَدْ كَانَ أَيَّامَ الاسْتِبْدَادِ.
وَالغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ طَائِفَةً عَلَى الْحَقِّ لا تَزَالُ تُقَاتِلُ وَتُجَاهِدُ عَلَى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِاللِّسَانِ وَالبَيَانِ وَالبَدَنِ وَالسِّنَانِ وَالمالِ وَكلِّ مُمْكِنٍ لِنَوْعِ الإِنْسَانِ وَأَنَّ بِهِ يتِمُّ نِظَامُ العَدْلِ وَالْمُلْكِ وَالدِّينِ وَالدُّنْيَا وَبِهِ يَسْتَقِيمُ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَتَكْمُلَ لَهُمُ الرَّاحَةُ وَالأَمْنُ وَالْحُرِّيَةُ التَّامَةُ وَالسِّيَاسَةُ العَامةُ لِجَمِيعِ الْمِلَلِ والرِّعَايَا الْمُخْتَلِفَةِ الأَصْنَافِ وَالألْسِنَةِ وَالأَمزِحَةِ.(1/504)
وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرِ الفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الإِسْلامِ في هذه القُرُونِ الْمُتَأَخّرَةِ التِي عُطَّلَتْ فِيهَا حُدُودُ الشَّريعَةِ وَأَحْكَامُهَا وَحَالِهِ فِي القُرُونِ الْمُتَقَدِّمَةَ التِي مَا كَانَتْ عَلَى شَيءٍ أَحْفَظُ مِنْهَا عَلَى أَحْكامِ الشَّريعَةِ وَأَرْعَى لَهَا يَجِدِ الْفَرقَ كَمَا بَيْنَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا، وَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قِبَائِلِ هَاشِمٍ ... وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِل
أَلا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَمْ - صلى الله عليه وسلم - فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِنْ أَقَالِيم البُلْدَانِ وَنَشَرُوا الإِسْلامَ وَالإيمان والقُرآنِ في مُدَّةِ نَحْوِ مائِةِ سَنَةٍ مَعَ قِلَِّة عَدَدِ الْمُسْلِمِين وَعُدَدِهِمْ وَضِيقِ ذَاتِ يدِهمْ وَنَحْنُ مَعَ كَثْرَةِ عُدَدِنَا وَوَفْرَةِ عَدَدِنَا وَهَائِلِ ثَرْوَتِنَا وَطَائِلِ قَوَّتِنَا لا نَزْدَادُ إلا ضُعْفًا وَتَقَهْقُرًا إلى الوَرَى وَذُلاً وَحَقَارَةً في عيُونِ الأَعْدَاءِ ذَلِكَ لأَن مَنْ لا يَنْصُرُ دِينَ الله لا يَنْصُرُهُ اللهُ قَالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَرَتَّب نَصْرَهم على نَصْرِهِ بِإقَامَةِ طَاعَتهِ وَطَاعَةِ رَسُولِه.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهم فَقَدْ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ أَنْ لا يُؤْمِنُوا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِكَنْ عَصَى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ مِنْ العُصَاة فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافرُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الأُمَّةِ في كلِّ مَا تَنَازَعَا فِيهِ مِنْ الأُمُورِ الاعْتِقَادِيَّةِ وَالعَمَليّةِ.
فالأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الأُمَّةِ لا يُحْكَمُ فِيهَا إِلا بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ لأحَدٍ(1/505)
أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِقَوْلِ عَالِم ولا أَمِيرٍ ولا شَيخٍ ولا مَلِكٍ وَحُكَّامُ المسلمينَ في الأمُورِ المُعَيَّنَةِ لا يَحْكُمونَ في الأمورِ الكُلِّيَةِ وَإِذَا حَكمَوا في الْمُعِينَاتِ فَعَليهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا في كِتَابِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا في سُنَّة َرسولِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا اجْتَهَدَ الْحَاكمُ بِرأيه. انتهى.
لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليمنِ قَالَ: «بِمَ تَحْكُمْ» ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللهِ «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: بِسنةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: أجْتَهِدُ رَأَيِي. قَالَ: «الْحَمْدُ اللهِ الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -» .
وفي كِتَابِ عُمْرَ بِنْ عَبْدِ العزيزِ إلى عُرْوَة كَتَبْتَ إليَّ تَسْأَلَنِي عَنْ القضاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّ رَأَسَ القَضَاءِ إِتَّبَاعُ مَا فِي كِتَابِ اللهِ ثُمَّ القَضَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بِحُكمِ أَئِمَّة الْهُدَى ثُمَّ اسْتِشَارَةِ ذَوِي العلمِ وَالرَّأيِ وَذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ ابنُ عُيَينَةِ قَالَ: كَانَ ابنُ شُبْرَمَةَ يَقُولَ:
مَا في القَضَاءِِ شَفَاعَةٌ لِمُخَاصِمٍ ... عِنْد اللَّبِيبِ ولا الفَقِيهِ العَالِمِ
هَوِنْ عَلَيَّ إِذَا قَضَيْتُ بِسُنَّةٍ ... أَوْ بالكِتَابِ بِرَغْمِ أَنْفِ الرَّاغِمِ
وَقَضَيْتُ فِيمَا لَمْ أَجِدْ أَثَرًا بِهِ ... بِنَظَائِرِ مَعْرُوفَةٍ وَمَعَالِمٍ
وَعَنْ بن وَهْبِ قَالَ: قَالَ مَالِكُ: الْحُكْمُ حُكْمَانِ حُكْمٌ جَاءَ بِهِ كِتَابَ اللهَ، وَحُكْمُ أَحْكَمَتَّهُ السُّنَة، قَالَ: وَمُجْتَهِدٌ رَأْيَهُ فَلَعَلَّهُ يُوَفقْ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهَ عَلى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية: فَأَقْسَمَ سُبْحَانَه بَأَجلِّ مُقْسَمٍ بِهِ وَهُو بِنَفْسِهِ عَزَّ وَجَل عَلَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لَهُمُ إيمَانَ ولا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِِهِ حَتَّى يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - في جميعِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ في جميعِ أَبْوَابِ الدِّينَ فَإِنَّ لَفْظَةَ (مَا) مِنْ صِيغِ العُمُوم تَقْتَضِي نَفْيَ الإِيمَانِ أَوْ يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ في جميعِ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
وَلَمْ يَقْتَصِر عَلَى هَذا حَتَّى ضَمَّ إليه انْشِرَاحُ صُدِورِهم بِحُكْمِهِ حَيْثُ لا(1/506)
يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهم حَرَجًا وَهُو الضيقُ وَالحَصْرُ مِنْ حُكْمِه بَلْ يَقْبَلُوا حُكْمَهُ بالانْشِرَاحِ وَيُقَابِلُوهُ بِالتَّسْلِيمِ لا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ على إغْمَاضِ وَيَشْرَبُونَ عَلى قَذَيّ فَإِنَّ هَذَا مُنَافٍ للإيمَان بَلْ لا بدُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ بِقُبولٍ وَرِضَا وانْشِرَاحِ صُدُورٍ.
وَمَتَى أَرَادَ العَبْدُ أَنْ يَعْلَم هَذَا فَلْيَنْظُر في حالِهِ وَيُطَالِعُهُ في قَلْبِهِ عِنْدَ وُرُودِ حُكْمِهِ عَلَى خِلافِ هَواهُ وَغَرضِهِ فَسُبْحَانَ اللهِ كَمْ مِنْ حَزَازَةِ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ كَثِيرٍ النُّصُوصِ وَبِودِّهِمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَرِدْوَكَمْ مِنْ حَرَارَةٍ في أَكْبَادِهِم مِنْهَا وَكَمْ مَنْ شَجَى فِي حُلُوقِهِم مِنْهَا وَمِنْ مُوْرِدَهَا سَتَبْدُوا لَهَمْ تِلَكَ السَّرَائِرُ بالذي يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرِ.
ثُمَّ لَمْ يَقْتَصرُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ضَمَّ إليهِ قَوْلَه تعالى: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فذكرَ الفِعْلَ مُؤَكَّدًا بِمَصْدَرِهِ القَائِم مَقَامَ ذِكْرُهِ مَرَّتِين وَهُوَ الخُضُوعُ لَهُ والانقيادُ لِمَا حَكَمَ بِهِ طَوْعًا وَرِضًا وَتَسْلِيمًا لا قَهْرًا وَمُصَابَرَةً كَمَا يُسْلِمُ المقهُورُ لِمَنْ قَهَرَهُ كُرْهًا بَلْ تَسْلِيمَ عَبْدٍ مُطِيعٍ لِمَوْلاهُ وَسَيِّدِِهِ الذِي هُوَ أَحَبُّ شيء إليهِ يَعْلَمُ أنّ سَعَادَتَهُ وَفَلاحهَ في تَسْلِيمهِ إِلَيْهِ وَيَعْلَمُ بأنَّهُ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَبَرَّ بِهِ مِنْهَا وأرْحَمُ بِهِ مِنْهَا وَأَنْصَحَ لَهُ مِنْهَا وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِ مِنْهَا وَأَقْدَرَ على تَخْلِيصِهَا.
وَأمَّلْ لِهَذَا الْمَعْنَى المذكُورِ في الآيةِ بوجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْ التَّأَكِيدِ أولها تصديرُها بالقسم يَتضَّمَّن الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُه: لا يظمنون، وثانيها: تأكيده بنفس القسم، وثالثها: تأكيده بالمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ إقْسَامهُ بِنَفْسِهِ لا بشيَءٍ من مَخْلُوقَاتِهِ، ورَابعًا: تأكِيدُه بانتِفاءِ الحَرَجِ وَهُوَ وُجُودُ التَّسْلِيم، وخامُسُها: تأكيدُ الفِعْل بالْمَصْدَرِ ومَا هَذا إلا لِشِدَّة الحاجةِ إلى هذا الأمْرِ العَظِيمِ وَأَنَّهُ مِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيُقَرَّرُ في نُفُوسِ العِبَادِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.(1/507)
(فصل)
وَقال رَحِمَهُ الله: لَمَّا أَعْرَض النَّاسُ عَنْ تَحْكِيمِ الكِتَابِ وَالسُّنةِ وَالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِمَا وَاعْتَقَدُوا عَدَمَ الاكْتِفَاءِ بِهِمَا وَعَدلوا إلى الآرَاءِ وَالقياسِ وَالاسْتِحْسَانِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الآرَاءِ عَرَضَ لَهَمْ مِنْ ذَلِكَ فَسَادٌ في فِطَرِهِمْ وَظُلْمَةٌ في قُلُوبِهم وَكَدَرٍ في أفْهَامِهِمْ وَمَحْقٍ في عُقُولِهِم فَعَمَّتْهمُ هَذِهِ الأُمُورُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ عَلَيْهَا الكَبِيرُ فَلَمْ يَرَوْهَا مُنْكَرًا.
فَجَاءَتهمْ دَوْلَةٌ أُخْرَى أَقَامَتْ فِيهَا البِدَعَ مَقَامَ السُّنَن، والْهَوى مَقَامَ الرُّشْدِ، وَالضَّلالَ مَقَامَ الْهِدَايَةِ، والْمُنْكَرَ مَقَامَ الْمَعْرُوفِ، وَالْجَهْلَ مَقَامَ العِلْمِ، وَالرِّيَاءِ مَقَاَم النَّصِيحَةِ، وَالظُلْمَ مَقامَ العَدْلِ، فَصَارَتْ الدَّولَةُ وَالْغَلَبَةُ لِهَذِهِ الأُمُور وَأَهْلُها هُمُ الْمُشَارُ إليهم.
فَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ أَقْبَلَت وَرَايَاتِهَا قَدْ نُصِبَتْ وَجُيُوشَهَا قَدْ رَكِبَت فَبْطنُ الأَرْضِ واللهِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرها وَقُلل الجبالِ خَيْرٌ مِنْ السُّهولِ وَمُخَالَطَة الوَحْش أسْلَمُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ.
اقْشَعْرَّتِ الأَرْضُ وَأظْلَمَتِ السَّمَاءُ وَظَهَرَ الفَسَادُ في البرِّ وَالبَحْرِ مِنْ ظُلْمِ الفَجَرَةِ، وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ، وَهَزلَتِ الوحْشُ وَتَكَدَّرْتِ الْحَيَاةُ مِنْ فِسْقِ الظَّلَمةِ وَبَكَى ضُوءُ النَّهَارِ وَظُلْةُ اللَّيْل مِنْ الأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ والأَفْعَالِ الفَظِيعَةِ، وَشَكَا الكِرَامُ الكَتابُونَ وَالْمُعَقَّباتُ إلى رَبِّهم مِنْ كَثْرَةِ الفَواحِشِ وَغَلَبَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَالقَبَائِحْ.
وَهَذَا وَالله مُنْذِرُ بِسَيْلِ عَذَابٍ قَدْ انْعَقَدَ غَمَامُهُ وَمُؤذِنٌ بَلِيْلِ قَدْ ادْلَهَمَّ ظَلامُهُ فَاعْزِلوا عَنْ طَرِيق هذا السَّيلُ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ مَا دَامتِ التَّوبَةُ مُمْكِنَةٌ وَبَابُها مَفْتُوحًا وَكَأَنَّكُمُ بِالْبَابِ وَقَدْ أَغُلِقُ وَبالرَّهْنِ وَقَدْ غَلِقَ وَبِالْجِنَاحِ وَقَدْ عَلِقَ وَسَيَعْلَمُ الذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون.(1/508)
وَقَالْ:
واللهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّها ... لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالغُفْرَانِ
لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسِلاخَ القَلْبِ مِنْ ... تَحْكِيمِ هَذَا الوحْي والقُرْآنِ
وَرِضَا بآرَاءَ الرِّجَالِ وَخُرْصِهَا ... لا كَانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ الْمَنَّانِ
فَبأيّ وَجْهٍ أَلْتَقِي رَبِّي إِذَا ... أَعْرَضْتُ عَنْ ذَا الوَحْي طُولَ زَمَانِ
وَعَزْلتُهُ عَمَّا أُرِيدُ لأَجْلِهِ ... عَزْلاً حَقِيقِيًا بلا كِتْمَانِ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل في ذكر طرق مما حدث في بعض السنين من الأزبية والأمراض)
أْجْدَبَتِ الأَرضُ في سنةِ ثماني عشرة فكانت الريحُ تسقِي تُرابًا كالرماد فسُمِّي عامَ الرمادة وجعلتِ الوحُوشُ تَأْوِي إلى الإنس، فآلىَ عُمَرُ ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناسُ واستسقَى بالعباس فَسُقُوا.
وفيها كان طاعون عَمَواسٍ مات فيه أبُو عُبيدةَ، ومُعَاذُ، وأَنسُ وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتَتْ أُمُ أمِيرِهِم فما وَجَدُوا من يَحْمِلَها.
وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارفُ هَلكَ في ثلاثة أيامٍ سَبْعُونَ ألْفًا وماتَ فيه لأَنَسٍ ثَمَانُون ولَدًَا وكانَ يموتُ أهلُ الدارِ فَيُطَيَّنُ البابُ عليهم.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة ماتَ أول يوم في الطاعون سَبْعُونَ ألْفًا في الثاني نَيِّفٌ وسبعون ألفًا وفي الثالث خمد الناس.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ذُبِحَ الأطفالُ وأُكِلَتُ الجيفُ وبيعَ العَقَارُ بِرُغْفَان واشْتَرى لِمُعِزِّ الدَّوْلَة كَرُّ بِعَشْرِينَ أَلفٍ دَرهم.(1/509)
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أصابَ أهل البصرةِ حَرٌّ فكانوا يتساقطون مَوْتَى في الطُّرقَاتِ.
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عَمَّ القُحْفُط فأُكِلتِ الميتةُ وبلغ المكوك من برز البقلة سَبْعَ دَنَانِير، والسفر جَلَةُ، والرمانةُ دِينَارًا، والخيارةُ واللينوفرةُ دينارًا، وَوَرَدَ الخبرُ من مِصر بأن ثلاثةً مِن اللُّصُوص نَقَبُوا دَارًا فوُجِدُوا عندَ الصباح مَوْتَى أحَدُهم على بابِ النقبِ، والثاني على رَأْسِ الدَّرَجَةِ، والثالثُ على الثياب الْمُكَوَّرَةِ.
وفي السنة التي تليها وقعَ وَبَاءٌ فكان تُحْفَرُ زِيبةٍ لِعَشْرِينَ وَثَلاثِينِ فَيُلْقَونَ فِيها وتابَ الناسُ كُلُّهم وَأَرَاقُوا الخمورَ وَلزِمُوا المساجدَ.
وفي سنة ستٍ وخمسينَ وأرْبِعِمِائةٍ وَقَعَ الوَبَاءُ وَبَلَغَ الرطلُ من التمرِ الهِندي أربعةَ دَنانير وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الجُوعُ والوَبَاءُ بِمِصْرِ حتى أَكلَ النَّاسُ بَعضُهم بَعْضًا وبيع اللَّوزُ وَالسُّكَّر بِوَزْنِ الدَّرَاهِم والبيضةُ بِعَشْرَةِ قَراريط وَخَرَجَ وَزِيرُ صَاحِب مَصْر إليه فنزلَ عَنْ بَغْلَتِهِ فأخَذَهَا ثَلاثَة فأَكَلُوها فَصُلَبُوا فأَصْبَحَ الناسُ لا يَرَوْنَ إلا عِظَامَهُمَ تَحْتَ خَشَبِهِم وَقَدْ أُكِلُوا، وَفِي سَنة أربع وستين وأربعمِائة وقعَ الموتُ في الدوابِ حَتَّى إِنَّ رَاعِيًا قامَ الغنمِ وَقْتَ الصباحِ لِيَسُوقَهَا فَوَجَدوهَا كُلَّها مَوْتَى. ذكر ذلك ابن الجوزي رحمه الله.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائةٍ وَقَعَ غَلاءٌ شَدِيدِ ببغداد حتى أَكَلُوا الميتةَ وَالسَّنَانيرَ والكلابَ، وَكَان مِن النَّاس مَنْ يَسْرِقُ الأولادَ فَيَشْوِيهِم ويأَكْلُهُم.
وَكَثُرَ الوَبَاءُ في الناس حتى كان لا يَدْفُنُ أحَدٌ أَحَدًا بَلْ يُتْركُونَ على الطرق فَيَأَكلُ كَثِيرًا منهم الكلاب.
وبِيعَةُ الدُّور بالخُبْزِ وانْتَجَع الناسُ إلى البَصْرة فكان منهم من ماتَ في الطريق.(1/510)
وذَكَرَ رحمه الله أن في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة في جماد الأولى غَلَتِ الأسعارُ ببغداد جِدًا وكَثُرت الأمطارُ حَتى تهدم البناء ومات كَثيرٌ مِن الناس تحتَ الهدم وتَعَطَّلَت أكثرُ المساجد مِن قلة الناس.
وَنَقَضَتْ قيمةُ العقار حتى بيع منه بالدرهم ما يُسَاوي الدينار وخَلَت الدُّور وكان الدَّلالُون يُعْطُونَ مَنْ يَسْكنُها أُجْرَةً لَيَحْفَظَها مِن الداخلين إليها ليُخَرِّبُوهَا.
وكَثُرَتِ الكَبَسَاتُ مِن اللَّصُوص بالليل حتى كان الناس يَتَحَارسُون وكُثرتِ الفِتنُ مِن كُلِّ جِهة فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أ. هـ.
وفي سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائة كانت زَلْزَلَةٌ عظيمةٌ بمدينةِ جَبْرَتْ فماتَ بِسَبَبِهَا مائتا ألف وثلاثون ألفًا وصَار مكانها ماءً أسودَ عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مثلها.
وزُلْزلَ أَهلُ حَلَب في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثَمانينَ مَرَّة فوضعَ السلطانُ مَحْمُودُ مُكُوسًا كثيرةً على الناس وكَثُرِت الأدعيةُ لَهُ.
قال: وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلزلةٌ عظيمةٌ بالشام هَلَكَ بسببها خَلْقٌ كثير لا يَعلَمُهم إلا الله.
وتَهدَّمَ أكثرُ حَلَب وحَماة وشِيرز وحِمص وكَفَر طَابَ وَحِصْن الأكراد والْمَعَرَّة وقَامِيَة واللاذقِيَّة وأنطاكية وطَرَابُلس.
قال: وقال ابنُ الجوزي: وأما قَامِية فَسَاخَت قَلْعَتُهَا، وتل حران انقسم قسمين فأبْدَى نَوَاوِيسَ وبُيوت كثيرة في وسطه.
وتَهَدَّمَتْ أَسْوَارُ أكثرِ مُدُنِ الشَّامِ حتى أن مَكْتبًا مِن مدينة حَماة انْهدم على مَن فِيهِ مِنْ الصغار فَهَلَكُوا عن آخِرهم.
وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلة فرغانة فمات فيها خمسة عشر ألفًا.
وفي السنة التي تليها رجفت الأهوازُ وَتَصَدَّعَتِ الجبالُ وهَرَبَ أَهْلُ البلد إلى البحر والسفن ودامت ستة عشر يومًا.(1/511)
وفي السنة التي تليها مطر أهل تيما مطرًا وبردًا كالبيض فقتل به 370 إنسانًا. وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن عبادك. ونظروا إلى أثر قَدِمٍ طولها ذراعٌ بلا أصابع وعَرْضُهَا شِبْرٌ وبين الخطوتين خمسة أذرع أو ستة. فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا.
وفي سنة 233 رجفت دمشق رجفة انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها فمات خلق كثير. وأنكفأت قرية في الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد. وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفًا.
وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتصلت نيفًا وخمسين يومًا. وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز، ثم ذهبت إلى همدان فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي وتعطلت الأسواق، وزلزلت هراة فوقعت الدور.
وذكروا أشياء كثيرة غريبة عجيبة يطول ذكرها اقتصرنا منها على هذا الطرف اليسير الذي ربما يكون سببًا للاعتبار والتيقظ والرجوع إلى الله.
نسأل الله الحي القيوم العلي العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يوقظ قلوبنا ويستر عيوبنا ويغفر ذنوبنا ويثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع قريب على كل شيء قدير.
شِعْرًا:
صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبِي
إلى الْمَلِكِ الأَعْلَى الذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في الْمَتَاعِبِ
إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذِي فَاضَ جُودُهُ ... وَعَمَّ الوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيلفْي إِذَا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَأَسْمَحَ غَفَّارٍ وَأَكْرَمْ وَاهِبِ
فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ
وَيَرْزُقْنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِينًا وَيَحْمِينِي وِبِيَّ الْمَكَاسِبِ(1/512)
إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكُ دُونِي قُصُورَهُمْ ... وَنَهْنَهَ عَنْ غِشيانِهِمْ زَخْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إلى بَابِ الْمُهَيمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنَادِي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ
فَلَمْ أَلَفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤلِي فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ
كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً في الدُّجَى وَالغَيَاهِبِ
سَأسْألَهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَيِّ وَالرَّغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبِّي الْهَرَّاهِزِ مَلْجًأ ... وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَامُ النَّوَائِبِ
اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِمَا فَهَّمْتَنَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ، وَخَالِص وُدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِقنا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وأيْقِظْنَا مِن سِنةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارزِقْنَا الاستعدادَ لذَلِكَ اليَوْم الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإِحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنَانِكَ واجعلنا مِن عِبادِكَ الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تَحرِمِنَا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
وقَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدٌ بن إبْرَاهِيمَ في رَدّه على مُحَكِّمِي القَوَانِين: إنَّ مِنَ الكُفْر الأكْبَرَ الْمُسْتَبِينِ تَنْزيلُ القَانُونِ اللَّعِينِ مَنْزِلَةَ مَا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِ محمدِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِين بلسانٍ عَربي مبينٍ في الحُكْمِ بِهِ بَيْنَ العالمين والرَّدِ إلَيْهِ عِنْدَ تَنَازُع المتنازعين مَنَاقَضَةً وَمُعَانَدَةً لِقَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .(1/513)
وَقَدْ نَفى اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالى الإيمانَ عَنْ مَنْ لَمْ يُحَكِّمُ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهِمْ نَفْيًا مُؤكَّدًا بِتَكَرُّرِ أَدَاةَ النَّفْيِ وَبِالقَسَم قالَ تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
قَالَ: وَتَأَمَّلْ مَا في الآية الأولى وَهِيَ قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} الآية، كَيْفَ ذَكَرَ النَّكِرَةَ وَهِيَ قَوْلُه: {شَيْءٍ} في سِيَاق الشَّرطِ وَهو قوله جَلَّ شَأْنُهُ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} المفيدُ العُمُومِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ التَّنَازُع فيه جِنْسًا وَقَدْرًا.
ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا في حُصُولِ الإيمانِ بِاللهِ واليومِ الآخر بقولهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} فَشَيْءُ يُطْلِقُ اللهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ لا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَرٌّ أَبَدًا بَلْ هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ عَاجِلاً وَآجِلاً.
ثُمَّ قَالَ: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، أي: عَاقِبةً في الدُّنْيَا والآخرةِ فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّدَ إلى غَيْرَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ التَّنَازُع شَرٌّ مَحْضٌ وَأسْوأ عَاقِبةً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَكْسَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَافِقُونَ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} وَقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} .
وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ عليهم قَائِلاً: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} وَعَكْسُ مَا يَقُولُهُ القَانُونِيُّونَ مِنْ حُكْمِهِم عَلَى القَانُونِ بِحَاجَة العَالَم بَلْ ضَرُورَتِهم إلى التَّحَاكُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا سُوءُ ظَن صِرْفٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - وَمَحْضُ اسْتنِقاصٍ لِبَيان الله ورَسوله والحكم عليه بعدم الكِفَايَةِ للنَّاسِ عِنْدَ التَّنَازِعُ وَسُوءِ العَاقِبَةِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِن هَذَا لازِمٌ لَهُمْ.
قالَ: وَقَدْ نَفَى اللهُ الإيمانَ عَنْ مَنْ أَرَادَ التحاكُم إلى غَيرِ مَا جَاء بهِ الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم -(1/514)
مِنْ المنافقينَ كَمَا قالَ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} .
فإنَّ قَوْله: (يَزْعُمُونَ تَكْذِيبِ لَهُمْ فِيمَا ادَّعَوهُ مِنْ الإيمَانِ) فَإِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ التَّحَاكُمِ إلى غَيرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَصْلاً بَلْ أَحَدهُمَا يُنَافِي الآخَرَ وَالطَّاغُوتُ مُشْتَقٌ مِنْ الطُّغْيَانِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَدْ حَكَمَ بالطَّاغُوتِ وَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ إلى خِلافِهِ فَقَدْ طَغَى وَجَاوَزَ حَدَّهُ حُكْمًا أَوْ تَحْكِيمًا فَصَارَ بِذَلِكَ طَاغُوتًا لِتَجَاوُزِهِ حَدّه.
قَالْ: وَتَأَمَّلْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} تَعْرِفُ مِنْهُن مُعَاندةَ القَانُونِيّينَ وَإِرَادَتَهُمْ خِلافَ مُرادِ اللهِ مِنْهُم حَوْلَ هَذَا الصَّدَدِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمْ شَرْعًا وَالذِي تُعِبِّدوا بِهِ هُوَ الكُفْرُ بالطَّاغِوتِ لا تَحْكِيمُهْ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} .
ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلِهُ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} كَيْفَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ضَلالٌ وَهَؤلاِء القَانُونِيُّون يَرْوَنَه مِن الْهُدى كَمَا دَلّتِ الآيَةُ على أَنَّهُ مِنْ إِرَادَةِ الشَّيْطَانِ هِيَ عَكْسُ مَا يَتَصَوَّرَهُ القَانُونِيُّونَ فَتَكُونُ عَلَى زَعمِهم مُرَادَاتُ الشَّيْطَانِ هِيَ صَلاحُ الإِنْسَانَ وَمُرَادُ الرَّحْمَنِ وَمَا بَعَثَ بِهِ سَيِّدَ وَلَدِ عَدْنَانَ مَعْزولاً مِنْ هَذَا الوصفِ وَمُنَحَّىً عن هَذَا الشَّأن.
وَقَدْ قَالَ تَعَالى مُنْكِرًا عَلَى هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّاسِ وَمُقَرِّرًا ابْتِغَاءَهم أَحْكَامَ الْجَاهِليةِ وَمُوَضِّحًا أَنَّهُ لا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكمِهِ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيةُ الكريمة وَكَيفَ دَلَّتْ أَنْ قِسْمَةَ الْحُكْمِ ثُنَائِيَّةْ وَأَنَّهُ لَيْسَ(1/515)
بَعْدَ حَكْمِ اللهِ تَعَالى إلا حُكْمَ الْجَاهِليةَ الْمُوضِّحُ أَنَّ القَانُونِيُّينَ في زُمْرَةِ أَهْلِ الْجَاهِلَيةَ شَاءوُا أَمْ أَبَوا بَلْ هُمْ أَسْوَأُ حَالاً مِنْهُمْ وَأَكْذَبُ مِنْهُم مَقَالاً ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِليةِ لا تَنَافُسَ لَدَيْهم حَولَ هَذَا الصَّدَدْ.
وَأَمَّا القَانُونِيُّونَ فَمُتَنَاقِضُونَ حَيْثُ يَزْعُمُونَ الإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - وَيُنَاقِضُونَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ في أمْثَالِ هَؤُلاءِ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} .
ثُمَّ انْظُر كَيْفَ رَدَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ على القَانُونِيَّينَ ما زَعَمُوُهُ مِنْ حُسْنِ زُبَالةِ أَذْهَانِهِمْ وَنُحَاتَةِ أَفْكَارِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
قَال الحَافِظُ بن كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِين الآية: يُنْكِرُ تَعَالى عَلى مَنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ اللهِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَعَدلَ إلى مَا سِوَاهُ في الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ وَالاصْطِلاحَاتِ التِي وَضَعَها الرِّجَالُ بِلا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجاهِليةَ يَحْكُمونَ بِهِ مِنَ الضَّلالاتِ وَالْجَهَالاتِ مِمَّا يَضَعُونَهُ بآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ التَّتَارُ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْمَلَكِيّةِ التِي يُقَدّمُونَها عَلَى الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالَهُ حَتَّى يَرْجَعُ إلى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا يُحَكِّمُ سِوَاهُ في قَلِيلٍ وَلا كَثيرٍ قَالَ تَعَالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وَعَنْ حُكْمِ اللهِ يَعْدِلُونُ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، أيْ: وَمَنَ أَعْدَلُ مِن اللهِ في حُكْمِهِ لِمَنْ عَقَلَ مِنْ اللهِ شَرْعَهُ وآمَنَ بِهِ وَأَيقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ مِنْ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا فَإِنَّهُ تَعَالى العَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ العَادِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ،(1/516)
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
فَانْظُرْ كَيْفَ سَجَّلَ تَعَالى عَلَى الحَاكِمِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهِ بالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالفِسْقِ وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يُسَمِّي اللهُ سُبْحَانَهُ الحاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرًا وَلا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ هُوَ كَافر مُطْلَقًا إِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ وَإِمَّا كُفْرُ اعْتِقَاد.
وَمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ في تَفْسِير هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرٌ إِمَّا كُفْرُ اعْتِقَادٍ نَاقِلٍ عَنْ الْمِلَّةِ وَإِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ لا يَنْقُلِ عَنْ الْمِلَّةِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْمَحَاكِمُ الآن في كَثِيرٍ من أَمْصَارِ الإسْلامِ مُهَيَّأةٌ مَفْتُوحَةُ الأبْوَابِ وَالنَّاسُ إليها أَسْرَابٍ إثْرَ أَسْرَابٍ يَحْكُم حُكَّامُهَا بَيْنَهُمْ فِيمَا يُخَالِف حُكْمَ الكِتَابِ وَالسُّنةِ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ القَانُونِ وَتُلْزِمُهُمْ بِهِ وَتَحْتمهُ عَلَيْهم فأيُّ كُفْرٍ فَوقَ هَذا الكُفْرِ وَأيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلشَّهَادَةِ بَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسَولُ الله بعدَ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ نَسْأَلُ الله العِصْمَةَ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِهِ الثَّابِتُ في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ. أهـ.
وَمِمَّا قِيلَ فِي الحَثِّ عَلَى التَمَسُّكِ بِالقُرآنِ الكَرِيمِ مَا قَالَهُ الصَّنْعَاني:
وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إلا كَمَا تَرَى ... فَهَلْ بَعْدَ هَذا الاغْتِرَابُ إِيَابُ
وَلَمْ يَبْقَ لِلرَّاجِي سَلامَةَ دَينِهِ ... سِوَى عُزْلَةٍ فِيهَا الْجَلِيسُ كِتَابُ
كِتَابٌ حَوَى كُلَّ العُلومِ وَكُلَّمَا ... حَوَاهُ مِنْ العلمِ الشَّريفِ صَوابُ
فَإِنْ رُمْتَ تَارِيخًا رَأَيْتُ عَجَائِبًا ... تَرَى آدَماً إذْ كَانَ وَهُوَ تُرَابُ
وَلاقِيتَ هَابِيلاً قَتِيلَ شَقِيقَهِ ... يُوَارِيهِ لَمَّا أَنْ رَآهُ غُرَابُ
وَتَنْظُرُ نُوحًا وَهُوَ في الفُلْكِ قَدْ طَغَى ... عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ عُبَابُ
وَإِنْ شِئْتَ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُمْ ... وما قَالَ كُلُّ مِنْهُمُوا وَأَجَابُوا
وَجَنَّاتِ عَدْنٍ حُورَهَا وَنَعِيمَا ... وَنَارًا بِهَا لِلْمُشْرِكِينِ عَذَابُ(1/517)
فَتِلْكَ لأَرْبَابِ التُّقَاءِ وَهَذِهِ ... لِكُلِّ شَقِي قَدْ حَوَاه عِقَابُ
وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الذِي إِنْ عَقَلْتَه ... فَإِنَّ دُموعَ العَينِ عَنْهُ جَوَابُ
تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِنْ كُلِّ مَشْرَبٍ ... وَلِلرُّوحَ مِنْهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ
وَإِنْ رُمْتَ إبْرَازَ الأَدِلَّةِ في الذِي ... تُرِيدُ فَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ تُجَابُ
تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِ قَوَاطِعٌ ... بِهَا قُطِّعَتْ لِلْمُلْحِدِينَ رِقَابُ
وَمَا مَطْلَبٌ إِلا وَفِيهِ دَلِيلُهُ ... وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلذَّكِي حِجَابُ
وَفِيهِ الدَّوَاءُ مِنْ كُلَّ دَاءٍ فَثِقْ بِهِ ... فَوَالله ما عَنْهُ يَنُوبُ كِتَابُ
يُرِيكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَغَيْرُه ... مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلَّهَا وَشِعَابُ
يَزِيدُ عَلى مَرِّ الجَدِيدِينِ جِدَّةً ... فَأَلْفَاظُهُ مَهْمَا تَلَوتَ عَذَابُ
وَآيَاتِهِ فِي كُلِّ حِينٍ طَرِيَّةٌ ... وَتَبْلَغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهِيَ كِعَابُ
وَفِيهِ هُدَىً لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَةٌ ... وَفِيهِ عُلُومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّالِينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) فِي فَضَائِلِ ذِكْرِ اللهِ
يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالى فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلاسَيَّمَا في رَمَضَانَ قَالَ اللهُ تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، وقال: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} ، وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقال: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَلِمَتَانِ(1/518)
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
اذْكُرْ إِلَه العَالَمِينَ جَهْرًا ... فَإِنْ خَشِيتَ سُمْعَةً فَسِرَّا
وَاخْتَرْ مِنْ الأَذْكَارِ مَا قَدْ أُثِرَا ... عن النَّبِيّ الْمُصْطَفَى وَاشْتَهَرَا
وَادْعُ لَدَى الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ ... بِمَا دَعَى الْمُخْتَارُ مِنْ دُعَاءِ
فَكُلُ مَأْثُورٍ مِنْ الأَذْكَارِ ... أَوْ مِنْ دُعَاءٍ صَحَّ في الأخبارِ
فَاحْرِصْ عليه والْزَمْ الْمُتَابَعَةْ ... فَإِنَّها مِنْ الْمَزَايَا النَّافعَةْ
وَسِرْ عَلَى نَهْجِ النَّبِيّ وَسَيْرِهِ ... وَلا تُتَابِعْ مِنْ رَضِي بِغَيْرِهِ
وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ أَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَالحمدُ للهِ، وَلا إله إلا الله، واللهُ أَكْبَرْ، أَحَبَّ إلي مِمَّا طَلَعْت عليهِ الشَّمْسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ. فِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بَأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» . وقال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . مُتَّفُقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
ما أَنعَمَ العيشَةَ لَو أَنَّ الفَتى ... يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الوَرَى
وَقَدْ تَحَلّى بِالسَّخَاءِ والتُّقَى ... لَيَقْتَدِي مَنْ قَصْدُهُ سُبلُ الْهُدَى
وَعَنْ أَبِي أَيْوُبِ الأنْصَارِي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» . مُتَّفَقٌّ عَلَيْهِ.(1/519)
وَعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللهِ. فَقَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ، وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . أَوْ قَالَ: «غَزَا مِائَةَ غَزْوَةٍ، وَمَنْ هَلَّلَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ كَبَّرَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَتَى بِهِ إِلاَّ مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٌ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا» . فَجَاءَ وَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضْجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» .
وَجَاءَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . حَسَّنَهُ التِّرِمذي وغرَّبه.
شِعْرًا:
الذّكْرُ بالْمَأثِور نِعْمَ القُرْبَةَ ... وَرُتْبَةُ الذَّاكِرِ أَعْلَى رُتْبَةْ
لأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الرَّغَائِبِ ... كَمَا عَلِمْتَ بَعْدَ فِعْلِ الوَاجِبِ(1/520)
وَأَفْضَلُ الذِّكْر كَلامُ الله ... كَمَا أَتَانَا عَنْ رَسُولِ اللهِ
وَبَعْدُ هَذَا الذِّكِرِ بالْمَأثُورِ ... عَنِ النَّبِيّ الْمُصْطَفَى البَشِيرِ
كَالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ ... كَمَا أَتَى فِي الْخَبَر الْمَشْهُورِ
أَمَا لَدَى الإِطْلاقِ فَالتَّهْلِيلِ ... أَفْضَلُ مَا قَدْ قُلْتَ أَوْ تَقُولُ
كَذَاكَ الاسْتِغْفَار ثُمَّ الْحَوْقَلَة ... كَمَا رَوَتْهُ السُّنَّةُ الْمُفَضَّلَةْ
فاذْكُرْ إِلهَ العَالَمِينَ دَائِمًا ... وَدُمْ عَلَى أَذْكَارِهِ مُلازِمًا
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: (جُمْدَانُ) فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» . قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ: «يَقُولُ اللهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَلَيكَ بِذِكرِ اللَهِ في كُلِّ سَاعَةٍ ... تجد نَفْعَهُ يوم الجزاءِ مَوَفَّرَا
وَعَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَ اللهِ ابْنَ قَيْسٍ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/521)
شِعْرًا:
لَو قيلَ لي ما تَمَنّى قُلتُ مُبْتَدِرًا ... دَوَامَ ذِكْرً لِخلاقَ السَّمَاوَاتِ
وَأَن أُلازِم في الدُنيا لِطَاعَتِهِ ... وَأنْ أَوَفّقْ لإِتْقَانِ الْعِبَادَاتِ
آخر:
وَعُدَّ مِن الرحمن فَضْلاً وَنِعْمَةً ... عَلَيْكَ إِذَا مَا جُزْتَ عُمْرَ مُحَمَّدِ
وَأَكْثِرْ مِنْ التَّهْلِيلِ في كُلّ سَاعَةٍ ... فَإِنَّك لا تَدْرِي مَتَى العُمْرُ يَنْفَدُ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله تعالى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . رَوَاهُ البُخَارِي.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: «لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، والحاكم. وَرَوَى عُمَرُ بن الخطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكِرُ الله في رَمَضَانَ مَغْفُورٌ لَهُ، وسائلُ الله فِيهِ لا يَخِيبُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي في (الأَوْسَطِ) ، والبيهقي، والأصبهاني.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ الخدري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لا إِلهَ إلا اللهُ، وسبحانُ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ، والْحَمْدُ للهِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ» . أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أَخبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكَمْ مِنْ إنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرَقِ، وَخَيْرٌ لَكم مِنْ أَنْ تلْقُوا عَدُوَّكُم فَتَضْرُبُوا أَعْنَاقَكُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُْم» ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «ذِكُرُ اللهِ» .
وعَنْ عَبْدِ الله بن بُسْرٍ قال: جَاءَ أَعْرَابِي إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَيُّ الناس خَيْرٌ؟ فَقَالَ: «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْر الله» .(1/522)
شِعْرًا:
إِذَا أَلْهِمَ الإنْسَان ذِكرا لِرَّبِهِ ... وَكَانَ بَأَرْكَانَ العِبَادَاتِ آتِيَا
فَذَاكَ الفَتَى لا مَنْ يَكُونَ مُضَيِّعًا ... لأَمْرِ الذي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا
آخر:
فَوَائِدُ في ذِكْرِ الإِلَهِ كَثِيرَةٌ ... وَإِنْ كَانَ مَنْ يَعْبَأ بِهِنَّ قَلِيلُ
فَكُنْ يَا أَخَا اللبُّ الكَرِيمِ مُحَافِظًا ... عَلَيْهَا تَفُزْ بَالأجْرِ وَهُوَ جَزِيلُ
آخر: ... لا يَبْلَغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كَرَمُوا ... حَتَّى يُطِعُوا لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ
وَيَسْتَقِيمُوَا عَلَى مَا يَرْتَضِيهِ لَهُمْ ... وَيُكْثِرُوا ذِكْرَهُ في كُلِّ أَوْقَاتِ
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : قال ابنُ القَيم رحِمه اللهُ: قراءة القُرْآنِ أفضلُ مِن الذِّكْرُ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ لِكُلِّ مِنْهُمَا مُجَرَّدًا وَقَدْ يَعْرُضُ لِلْمَفْضُولِ مَا يَجْعَلَهُ أَوْلَى بَلْ يُعَيَّنُهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْدَلَ عَنْه إلى الفَاضِلِ وهذَا كَالتَّسْبِيحِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ أَفْضَل مِنْ قِرَاءَةِ القرْآنِ فِيهِمَا بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهَي تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ.
لما ورد عن ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داوُد.
وكذا التسبيحُ والتحميدُ في مَحَلِهِمَا أَفْضَلُ من القِرَاءَةِ وَكَذَا التَّشهدُ وَكذلكَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي واهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَفْضَلُ من القراءَةِ وكذلك الذكُر عقِبَ السَّلام من الصلاةِ ذِكْرُ التَّهْلِيلِ والتسبيحِ والتكبيرِ والتحميدِ أَفْضَلُ من الاشتغالِ عنه بالقِرَاءَةِ.(1/523)
وَكَذَلِكَ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالقَولُ كَمَا يَقُولُ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ فَضْلُ القُرْآنِ عَلى كُلِ كَلامٍ كَفَضْلِ اللهِ تَعَالى عَلَى خَلْقِهِ لَكِن لِكُلِ مَقَامٍ مَقَالٍ مَتَى فَاتَ مَقَالَهُ فِيهِ وَعَدَلَ عَنْه إلى غيرِهِ اخْتَلَّتْ الْحَكِمةُ وَفُقِدَتِ الْمَصْلَحَةُ مِنْهُ.
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله دَوْمًا فَإِنَّهُ ... بِهِ يَطْمَئِنُّ القَلْبُ فألْزَمْهُ تَسْعَدِ
آخر:
جَمْعُ الكُتْبِ يُدْرِك مَنْ قَرَاهَا ... مَلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَةْ
سِوَى القُرْآنِ فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَولِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ
وَهَكَذَا الأَذْكَارُ الْمُقَيَّدَةُ بِمَحَالٍ مَخْصُوصَةٍ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ الْمُطْلَقَةُ، وَالقِرَاءَةُ الْمُطْلَقَةُ أَفْضَلُ مِن الأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ بِمَحَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَالقِرَاءَةُ الْمُطْلَقَةُ أَفْضَلُ مِن الأَذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ يَعْرُضَ لِلْعَبْدِ مَا يَجْعَلَ الذِّكْرَ أَوْ الدُّعَاءِ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ القُرْآنِ مِثَالُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ في ذُنُوبِهِ فَيُحْدِثُ لَهُ تَوْبَةً مِنْ اسْتِغْفَارٍ أَوْ يَعْرُضُ لَهُ مَا يَخَافُ أذَاهُ مِنْ شَيَاطِين الإنْسِ وَالْجِنِ فَيَعْدِلَ إِلى الأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ التِي تُحَصِّنُهُ وَتَحُوطُه.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَبْدِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ إِذَا اشْتَغَلَ عَنْ سُؤَالِهَا بِقَرَاءً وَذَكْرٍ لَمْ يَحْضُرْ قَلْبُهُ فِيهَا وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى سُؤَالِهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا اجْتَمَعَ قَلْبُهُ كُلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالى وَأَحْدَثَ لَهُ تَضَرُّعًا وَخُشُوعًا وَابْتِهَالاً فَهَذَا قَدْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بالدُّعَاءِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ أَنْفَعُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ القِرَاءَةِ وَالذِّكِرْ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا.
شِعْرًا:
وَمَن يُنْفِقُ السَّاعَاتِ في ذِكْرِ رَبِّهِ ... يَعِيشُ حَمِيدًا وَهُوَ في الْحَشْرِ مُكْرَمُ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للهِ مَلائكةٌ يَطُوفُونَ في الطُّرُق يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهِ تَنَادُوا: هَلِمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ.
قَالَ: فَيَحُفُونَهُم بأجنِحَتِهِم إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْأَلُهُم رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلمُ بِهِم مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: يَقُولونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ(1/524)
ويُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْن؟ قَالَ: فَيَقُولُون: لا واللهِ ما رَأَوْكَ قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي.
قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبُّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا.
قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِن النارِ. قَالَ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا واللهِ يَا رَبُّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُول: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوَا أَشَدَّ فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.
قَالَ: فَيَقُولُ: فأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهم إِنَّما جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» . وَلِذَلِكَ حَثَّ - صلى الله عليه وسلم - على الْجُلُوسِ في مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَشَبَّهَهُ بِرَوْضَةِ الْجَنَّةِ.
وَرَوَى التِّرمذُي عَنْ أَنَسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا» . قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ» . وروى أبو داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» .
وروى مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ بن الربيع الأَسَدِي قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ، قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا.
قَالَ: أَبُو بَكْرٍ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ ذَلك. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى(1/525)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ وَتُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» . ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ أَحَدُ العُلَمَاءِ: إِذَا حَصَلَ الأُنْسِ بِذِكْرِ اللهِ انْقَطَعَ عَنْ ذِكْرِ مَا سِوَى اللهِ ومَا سِوَى الله عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الذِي يُفَارِقُ عِنْدَ الْمَوْتَ فَلا يَبْقَى مَعَهُ في القَبْرِ أَهْلٌ، وَلا مَالٌ، وَلا وَلَدٌ، ولا وِلايَةٌ، وَلا يَبْقَى إِلا عَمَلُهُ الصَّالِحُ ذِكْرُ الله وَمَا وَلاهُ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنِسَ تَمَتَّعَ بِهِ وَتَلَذَّذَ بِانْقِطَاعِ العَوَائِقِ الصَّارَفَةِ عَنْهُ إِذْ ضَرُورَاتُ الحَاجَاتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ولا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ عَائِقٌ فَكَأَنَّهُ جُلِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ فَعَظُمَتْ غِبْطَتُهُ وَتَخَلَّصَ مِنْ السِّجْنِ الذي كان مَمْنُوعًا بِهِ عَمَّا أُنْسُهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعَتِي أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» . أَرَادَ بِهِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَفْنِى بالموتِ في حَقِّهِ فَكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. أهـ.
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا مَا أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ رُقْدَةِ الغَافِلِينَ إِنَّكَ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ مُعِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانَ هَادِمًا لِلسيئات كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ عَادِمًا للحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفيتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأحَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(1/526)
(نصيحة)
اسْمَعْ يَا مُضَيَّعَ الزَّمَانَ فِيمَا يَنْقُصُ الإِيمَان مُعْرضًا عن الأرباح وَمُتَعَرِضٌ للخُسْران لقد سُرَّ بِفِعْلِكَ الشامِتْ.
يَا مَنْ يَفْرحُ بالعِيدِ لِتَحْسِين لِبَاسِهِ، وَيُوقِنُ بالموتِ وما اسْتَعَدَّ لِبَأسهِ ويَغْتَر بإخوانهِ وَأَقْرانِه وَجُلاسِه، وكأنه قد أمِنَ سُرْعَةَ اخْتِلاسِهْ.
يَا غَافِلاً قَدْ طُلِبْ، وَيَا مُخَاصِمًا قَد غُلِبْ، ويا واثقًا قد سُلِبْ، إيَّاكَ والدُّنْيَا فما الدُّنْيَا بدَائِمة، لَقَدْ أبانَتْ لِلنَّوَاظِرِ عُيُوبَها وَكَشَفَتْ لِلْبصَائِرِ غُيُوبَها وَعَدَّدَتْ عَلَى المَسَامِهِ ذُنُوبَها، وَمَا مَرَّتْ حتى أَمَرَّتْ مَشْرُوبَهَا.
فلذاتُها مِثْلُ لمعَانِ البَرْق وَمُصِيبَتُهَا وَاسِعَةُ الْخَرْق، سَوَّتْ عَوَاقِبُهَا بَيْنَ سُلطانِ الغرب والشرق فما نجا منها ذو عَدَدْ ولا سلم فيها صاحبُ عُدَدْ مَزَّقَت الكُلَّ بكَفِّ البُدَدْ ثم وَلَّتْ فما أَلْوَتْ على أَحَدْ.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «سبعة يُظِِلِّهُمْ الله في ظِلِّه» منهم: «رجل دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجمال فقال: إنِّي أخافُ الله» .
اسْمَعْ يَا مَنْ أَجَابَ عَجُوزًا هَتْمَا عَمْيَا صَمًّا جَرْبَا سَودَاءَ شَوهَاء مُقْعَدة على مَزْبَلَةَ ولكن غَلَبَتْ عَليكَ مَحَبَّتُهَا عُرضَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء مكة ذَهَبَا فَأبَى أَنْ يَقْبَلهَا.
مَا هذه الدنيا بدَارِ مَسَرَةٍ ... فَتَخَوَّفِي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الفَتَى فيهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ الْمَنِيَّةِ شَرْبةً ... وَحَمَتْهُ فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا
فَغَدًا بِمَا كَسَبَتْ يَداهُ رَهِينَةً ... لا يَسْتَطِيعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لَوْ كَانَ يَنْطِقُ قال مِنْ تَحْتَ الثرى ... فلْيُحْسِنِ العمَلَ الفَتَى مَا اسْتَطَاعَا
اللَّهُمَّ اجْعَلِ الإِيمَانَ هادِمًا لِلسيئات، كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ هَادِمًا(1/527)
لِلْحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفيْتَهُ واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأجَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل في فوائِدِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى)
قال ابنُ القيم - رحمه اللهُ -: وفي ذِكرِ اللهِ أَكْثَرُ مِنْ مائةِ فَائِدَةٍ يرْضِي الرَّحْمَنَ وَيَطْرُد الشَّيْطَانَ وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَيَجْلِبُ الرزقَ وَيَكْسِبُ الْمَهَابَةَ وَالْحَلاوَةَ وَيُورِثُ مَحَبَّةَ اللهِ التي هِيَ رُوحُ الإسْلامِ.
وَيُورِثُ الْمَعْرِفَةَ وَالإِنَابَةَ وَالقُرْبَ وَحَيَاةَ القَلْبِ وَذِكْرُ اللهِ لِلْعَبْدِ هُوَ قُوتُ القَلْبِ وَرُوحُهُ وَيَجْلِي صَدَاهُ وَيَحُطُ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَيُحْدِثُ الأُنْسَ وَيُزِيلُ الوَحْشَةَ.
وَيُذَكِّرُ بِصَاحِبِهِ وَيُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللهِ وَيُوجِبُ تَنَزُّلَ السَّكِينَةَ وَغَشَيَانَ الرَّحْمَةِ وَحُفُوفَ الْمَلائِكَةِ بالذاكِرِ وَيَشْغَلُ عن الكَلامِ الضَّارِ وَيُسْعِدُ الذاكِرَ وَيُسْعِدُ بِهِ جَلِيسَهُ مِنَ الْحَسْرَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَهو مَعَ البُكَاءِ سَبَبُ لإِظلالِ اللهِ العبدَ يَوْمَ الْحَشْرِ الأَكْبَرِ في ظِلِ عَرْشِهِ.
وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِعَطَاءِ الله لِلذَّاكِرِ أَفْضَلُ مَا يُعْطِي السَّائِلِينَ، وَأَنَّهُ أَيْسَرُ العِبَادَاتِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّهَا وَأَفْضَلِهَا؛ وَأَنَّهُ غِرَاسُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ العَطَاءَ وَالفضل الذِي رُبِّبَ عليه لم يُرَتَّبْ على غَيْرِهِ، وَأَن دَوَامَ الذِكْرِ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى يُوجِبُ الأَمَانَ مِنْ نِسْيَانِهِ الذِي هو سَبَبُ شَقَاءِ العَبْدِ في مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.
شِعْرًا:
لا شَيْء مِثْلَ كَلامِ اللهِ تَحْفَظُهُ ... حِفْظًا رَصِينًا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدًا
شِعْرًا:
لَوْ يَعْلَم العَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أَمْضَى الْحَيَاةَ بِتَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلِ
آخر: ... ما أَنعَمَ الْعِيشَةَ لَو أَنَّ الفَتَى ... يُلْهَمْ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الوَرَى(1/528)
وَأَن الذِكْرَ يُسَيِّرُ العَبْدَ وَهُوُ في فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ، وأن الذِكْرَ نُورُ الذَّكِرِ في الدُّنْيَا وَنُورٌ لَهُ في قَبْرِهِ وَنُورٌ لَهُ في مَعَادِهِ وأن في القَلْبِ خَلَّةٌ وَفَاقَةٌ لا يَسُدُهَا شَيْءٌ البَتَّةَ إلا ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَن الذِكْرَ يَجْمَعُ مَا تَفَرَّق عَلَى العَبْدِ مِنْ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهُمُومِهِ وَغَرْمِهِ وَالذِّكْرُ يُفَرِّقُ مَا اجْتَمَعَ عليه من الْهُمُومِ وَالغُمُومِ وَالأحزانِ وَالحَسَرَاتِ عَلى مَوْتِ حُظُوظِهِ وَمَطَالِبِه وَيُفَرِّقُ مَا اجْتَمَعَ عَلَى حَرْبِهِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ.
وَأَنْ الذِّكْرَ يُنَبَّهُ القَلْبَ مِنْ نَوْمِهِ وَيُوقِظْهُ، وَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الأَرْبَاحُ وَالْمَتَاجِرُ، وَأَن الذِكْرَ شَجَرَةٌ تُثْمِرُ الْمَعَارِفَ وَالأَحْوَالِ التِي شَمَّرَ إليها السَّالِكُونَ فَلا سَبِيلَ إلى نَيْلِ ثِمَارِهَا إلا مِنْ شَجَرَةَ الذِّكْرِ.
وَأَنَّ الذَّاكِرَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْكُورِهِ وَمَذْكُورِهِ مَعَهُ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَةٌ، وَأَنَّ الذكرَ يَعْدِلُ عِتْقَ الرِّقَابِ وَنَفَقَةَ الأَمْوَالِ وَالْحَمْلَ عَلَى الْخَيْلِ في سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّ الذِّكْرَ رَأَسُ الشُّكْرِ وَأَنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ على اللهِ من الْمُتَّقِينَ مَنْ لا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ.
وَأَن في القَلْبِ قَسْوَةً لا يُذِيبُهَا إِلا ذِكْرُ اللهِ تعالى وَإِنّ الذِكْرَ شِفَاءُ القَلْبِ وَدَوَاؤُهُ وَالغَفْلَةَ مَرَضُهُ، وَأَن الذِكْرَ أَصْلُ مَوالاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ مَا اسْتُجْلِبَتْ نِعمُ اللهِ وَاسْتُدْفِعَتْ نِقَمُهُ بِمِثْلِ ذِكرِ اللهِ.
شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كُلِّ لَحْظَةٍ ... فما خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر:
فَجَالِسْ رِجَالَ العِلْمَ وَاحْفَظْ حَدِيثَهُمْ ... ولاتَكُ للجُهَّالِ يَوْمًا مُوَاخِيَا
وَلازِم فَتَىً في كُلِّ وَقْتٍ مُلازِمٌ ... لِذِكْرِ الذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا
لَعَلَّكَ أَنْ تَعْتَادَ لِلذِّكْرِ مِثْلَهُ ... فَتُحْرِز غُفْرَانًا وَأَعْلَى الأَمَانَينَا
وَأن الذِكْرَ يُوجِبُ صَلاةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلائِكَتِهِ عَلَى الذَّاكِرِ وَأَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَسْكُنَ رِيَاضَ الْجَنَّةِ في الدُّنْيَا فَلَيْسَتَوْطِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَإِنَّهَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ،(1/529)
وَأن مَجَالِسَ الذِّكْرِ مَجَالِسُ الملائِكَة.
وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِالذَّاكِرِينَ مَلائِكَتَهُ وَأَنَّ مُدْمِنَ الذِّكْر يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَضْحَكُ وَأَن جَمِيعَ الأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ إِقَامَةً لِذِكْرِ اللهِ تعالى، وأن أَفْضَلَ أَهْلِ كلِ عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَفْضَلُ الصُّوَامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وأنَّ ذِكْرَ اللهِ يُسَهِّلُ الصَّعْبَ وَيُيَسِرُ العَسِيرَ وَيُخَفَّفَ الْمَشَاقَ، وَأَنَّ ذِكْرَ اللهِ يَذْهَبُ عَنْ القلبِ مَخَاوِفَهُ كُلَّهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ في حُصُولِ الأَمْنِ، وَأَن في الاشتغالِ بالذِكر اشْتِغَالاً عَنْ الكلام البَاطِلِ مِنْ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَاللَّغْوِ، وَأَنَّ عُمَّالَ الآخِرَةِ كُلُهُم في مَضْمَارِ السِّبَاقِ وَالذَّاكِرُونَ أَسْبَقُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَضْمَارِ وَلكِن الفَتَرَةُ وَالغُبَارُ يَمْنَعَانِ مِنْ رُوْيَةِ سَبْقِهِم.
فَإِذَا انْجَلَى الغُبَارُ وَانْكَشَفَ رَآهُمْ النَّاسُ، وَقَدْ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ وَأَنْ الذِّكْرَ سَبَبٌ لِتَصْدِيقِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدَهُ. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عن اللهِ بأَوْصَافِ كَمَالِهِ ونُعُوتِ جَلالِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهَا الْعَبْدُ صَدَّقَهُ رَبُّهُ وَمَنْ صَدَّقَهُ اللهُ لَمْ يُحْشَرَ مَعَ الكَاذِبِينَ وَرُجِي لَهُ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ الصَّادِقِينَ.
شعرًا:
وَدَاوِمْ وَلازِمْ قَرْعَ بابٍ مُؤَمِّلاً ... فَمَا خَيَّبَ الْمَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمَّلِ
وَصَابِرْ فَمَا نَالَ العُلا غَيْرَ صَابِرٍ ... وَقُلْ وَاعِظًَا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّمَلْمُلِ
مَعَ الصَّبْرِ إحْدَى الْحُسْنَيين مُنَاكِ أَوْ ... مُنَايَا كِرَامِ فَاصْبِري وَتَحَمَّلِ
وَدَاوِ لِسُقْمِ القَلْبِ واعْمُرْ خَرَابَهُ ... بِذِكْرِ الذي نَعْمَاهُ لِلْخَلْقِ تَشْمَلُ
آخر:
لَوْ يَعْلَم النَّاسُ مَا في الذِّكرِ مِنْ شَرَفٍ ... لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنَانِيرِ
وَلَمْ يُبَالُوا بَأَوْرَاقٍ وَلا ذَهَبٍ ... وَلَوْ تَحْصَّل آلافُ القَنَاطِيرِ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ(1/530)
الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ وَمِنُ فَوَائِد الذِّكْر أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهَ:
أَنَّ دُورَ الْجَنَّةِ تُبْنَى بالذِّكْرِ، فَإِذَا أَمْسَكَ الذَّاكِرُ عَنْ الذِّكْرِ أَمْسَكت الملائِكَةُ عن البنَاء، وَأنَّ الذِكْرَ سَدٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ جَهَنَّمَ فَإِذَا كَانَتْ لَهُ إلى جَهَنَّمَ طريقُ عَمَلٍ مِن الأَعْمَالِ، كان الذِكْرُ سَدًّا في تِلْكَ الطريقِ، وَأَنَّ الملائِكَةِ تَسْتَغْفِر لِلذَّاكِر كَمَا تَسْتَغْفِرُ لِلتَّائِبِ، وَأَنَّ الْجِبَالَ والقِفَارَ تَتَبَاهَى وَتَسْتَبْشَرُ بِمَنْ يَذْكُر اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا، وَأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أمانٌ مِنْ النِّفَاقِ، فإنّ الْمُنَافِقِينَ قَلِيلُوا الذِّكْرِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى في الْمُنَافِقِينَ: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} وَأَنَّ للذكْرَ مِنْ بَيْنَ الأعمَال لَذَّةً لا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلعَبْدِ مِنْ ثَوَابِهِ إلا اللَذَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلذَّاكِرَ وَأَنَّهُ يَكْسُو الوجْه نَضْرَةً في الدُّنْيَا وَنُورًا في الآخِرَةِ وَأَنْ في دَاوَمَ الذِّكْرِ في الطَّرِيق والبيتِ والْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالبِقَاعِ تَكْثِيرًا لِشُهُودِ العَبْدِ يومَ القِيَامَةِ فَإِنَّ البُقْعَةَ وَالدَّارَ وَالْجَبَل والأَرْضَ تَشْهَدُ للذَّاكرِ يَوْمَ القيامَة. وَإِنّ الذِّكْرَ يُعْطِي الذَّاكِرَ قُوةً حَتَّى أَنَّهُ لِيفَعَلُ مَعْ الذكْرِ مَا لَمْ يَظنَّ فِعْلَهُ بِدونِهِ قالَ: وَقَدْ شَاهَدتُ من قُوَّةِ شَيْخ الإِسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في سُنَنِه وَكَلامِهِ وَإِقْدَامِهِ وَكِتَابَتَه أمْرًا عَجِيبًا فَكَانَ يَكْتُبُ في اليومِ مِنْ التَّصْنِيفِ ما يَكْتُبُه النَّاسِخُ في جُمْعَةٍ وَأَكْثَرْ.
ما دُمْتَ تَقْدِرْ فأكْثِرْ ذِكْرِ خَالِقِنَا ... وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
فَسْوَفَ تَنْدَمُ إِنْ فَرطَّتَ في زَمنٍ ... مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ
وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ فاطمةَ وعليًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أن يُسَبِّحَا كلّ(1/531)
لَيْلَةِ إِذَا أَخَذَ مَضَاجِعُهُمَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، ويَحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِين، وَيُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِين، لَمَّا سَأَلْتُهُ الْخَادِمَ وَشَكَتْ إِلَيْهِ مَا تُقَاسِيهِ مِنْ الطَّحْنِ وَالسَّعْي والْخِدْمَةَ فَعَلَّمَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: «إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادَم» .
فَقِيلَ إِنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ وجَد قُوةً في عَمَله مُغْنِيَةً عَنْ خَادِمْ، قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ - رَحِمَهُ الله تعالى - يَذْكُر أَثَرًا في هَذَا البَابِ، وَيَقُول: إنّ الملائكة لَمَّا أُمِروا بِحَمْلِ العَرْشِ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا كَيْفَ نَحْمِلُ عَرْشَكَ وَعَلَيْهِ عَظَمَتُكَ وَجَلالَكْ، فَقَالَ قُولُوا: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله.
فَلَمَّا قَالُوا حَمَلُوهُ حَتَّى رَأَيْتُ ابن أبي الدُّنْيَا قَدْ ذَكَر هَذَا الأَثَر بِعَيْنه عَنْ اللَّيْثِ بن سَعْد عَنْ مُعَاويةِ بن صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَتُنَا أَنَّهُ بَلَغَهُم أنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حِين كانَ عَرْشُه على الماءِ حملة العَرْشِ قَالُوا: رَبَّنَا لِمَ خَلَقْتَنَا؟ قَالَ: خَلَقْتُكمْ لِحَمْلِ عَرْشِي. قَالُوا: رَبَّنَا وَمَنْ يَقْوَى عَلَى حَمْلِ عَرْشِكَ وَعَلْيِهِ عَظَمَتُكَ وَجَلالُكَ وَوَقَارِكَ؟ قَالَ: لِذَلِكَ خَلقْتكم، فَأَعادُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ مِرَارًا فَقَالَ: قُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله فَحَمَلُوه.
قَالَ: وَهَذِهِ الكَلِمَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيب في مُعَانَاةِ الأَشْغَالِ الصَّعْبَةِ وَتَحَمُّلِ المشاقِّ والدُّخُولِ على الْمُلوكِ وَمَنْ يُخَافُ، وَرُكُوب الأَهْوَالِ، وَلَهَا أَيْضًا تَأْثِير في دَفْعِ الفَقْر، قَالَ: وَمَبْنَى الدِّينِ عَلَى قَاعِدَتَيْنَ: الذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ.
إِذا رُمْتَ أَنْ تَحْظَى بِعِزِّ بِرِفعَةٍ ... بِدُنْيَاكَ وَالأُخْرَى لِنَيْلَ السَّعَادَةِ
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله جَلَّ جَلالُهُ ... وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلْ وَلَوْ قَدْرَ لَحْظَةِ
آخر:
إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ ... لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِ
وَلَيْسَ الْمُرادُ بِالذِّكْرِ مُجَرّدَ ذِكْرِ اللسانِ بَلْ الذِّكْرُ لِقَلْبِي وَاللِّسَانِي وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَته وَالإيمانَ بِهِ وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلالِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بأنواعِ اْلَمْدِح وَذَلِكَ لا يَتِمُّ إلا بِتَوْحِيدِهِ فَذِكْرُه الْحَقِيقِي يَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ نِعَمِهِ وَآلائِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلى خَلْقِهِ.(1/532)
وَأَمَّا الشُّكْر فَهُو القِيَامُ بِطَاعَتِهْ فَذِكْرُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَشُكْرُهُ مُتَضِمّنٌ لِطَاعَتِهِ وَهُمَا الغَايةُ التِي خُلَقَ لأَجْلِهَا الْجِنُّ وَالإِنْس.
(فائدة) : قَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّين: مَنْ ابْتُلِيَ بِبِلاءِ قَلْبٍ أَزْعَجَهُ فَأَعْظَمُ دَوَاءٍ لَهُ قُوّةُ الالْتِجَاءِ إلى اللهِ وَدَاومُ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ فَإِنْ يَتَعَلمّ الأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ وَيَتَوَخّى الدُّعاءِ في مَظَانِّ الإِجَابَةِ مِثْلُ آخِرَ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِ الآذَانِ وَالإِقَامَةِ وَفِي السُّجُودِ وَإدبارِ الصَّلَواتْ وَيَضُمُّ إِلى ذَلِكَ الاسْتِغْفَارِ.
وَلَيْتَخِّذُ وِرْدًا مِنْ الأَذْكَارِ طَرْفَي النَّهَارِ وَعِنْدَ النَّوْمِ وَلِيَصْبِرُ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْمَوَانِع والصَّوَارِفِ فَإِنَّهُ لا بد أَنْ يُؤَيّدَهُ اللهُ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيَكْتُبَ الإيمَانَ في قَلْبِه وَلِيْحَرْصَ عَلى عَمُودُ الدِّينِ، وَلِيَكُنْ هُجَيْرَاهُ لا حَوْلَ وَلا قِوَّةَ إلا بِاللهِ العَلي العظيمْ.
فَإِنَّهُ بِهَا يَحْمِلُ الأَثْقَالَ وَيُكَابِدُ الأَهْوَالَ، وَيَنَالُ رَفِيعَ الأَحْوَالِ وَلا يَسْأَمُ مِن الدُّعَاءِ وَالطَّلَبْ، فَإِنَّ العَبْدَ يُسْتَجَابُ لَهُ مَا لَمْ يَعْجَل وَلِيَعْلَمَ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَج مَعَ الكَرْب وَأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَا، وَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عَمِيمِ الْخَيْرِ إلا بِالصَّبْرِ والله الموفق.
شِعْرًا: ... لا تَقْصُدِ النَّاسَ إِذَا أَدْبَرَتْ ... دُنْيَاكَ وَاقْصُدْ مِنْ جَوَادٍ كَرِيم
كيفَ يُرَجى الرِّزْقُ مِنْ عِنْدِ مَنْ ... يَطْلُبُ الرِّزْقَ مِنْ الرَّبِ الرَّحِيم
آخر:
يا أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ مِثلِهِ ... رِزْقًا لَهُ جُرْتَ عَنِ الحِكمَةِ
لا تَطلُبَنَّ الرِّزْقَ مِنْ طَالِبٍ ... مِثْلُكَ مُحْتَاجُ إِلى الرَّحْمَةِ
وَاِرغَبْ إِلى اللهِ الَّذي لَمْ يَزَلْ ... في يَدِهِ النِّعْمَةُ وَالنِّقْمَةِ
شِعْرًا:
بِذِكْرِكَ يَا مَوْلَى الوَرَى نَتَنَعَّمُ ... وَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عَنْ سَبِيلِكَ قَدْ عَمُوا
شَهِدْنَا يَقِينًا أَنَّ عِلْمَكُ وَاسِعٌ ... فَأَنْتَ تَرى مَا في القُلوبِ وَتَعْلَمُ
إِلَهِي تَحَمَّلْنَا ذُنُوبًا عَظِيمَةً ... أَسَأْنَا وَقَصَّرْنَا وَجُودُكَ أَعْظَمُ(1/533)
وَحَقِّكَ مَا فِينَا مُسِيءٌ يَسُرُّهُ ... صُدُودُكَ عَنْهُ بَلْ يَخَافُ وَيَنْدَمُ
سَكَتْنَا عَنْ الشَّكْوَى حَيَاءً وَهِيبَةً ... وَحَاجَاتُنَا بِالْمُقْتَضَى تَتَكَلَّمُ
إِذَا كَانَ ذُلُّ العَبْدِ بالحال نَاطِقًا ... فَهَلْ يَسْتَطِيع الصَّبْرَ عَنْهُ وَيَكْتُمُ
إِلَهِي فَجُدْ واصْفَحَ وَأَصْلِحْ قُلُوبَنَا ... فَأَنْتَ الذِي تُولِي الْجَمِيلَ وَتُكْرِمُ
وَأَنْتَ الذِي قَرَّبْتَ قَوْمًا فَوَافَقُوا ... وَوَفَّقْتَهُم حَتَّى أَنَابُوا وَأَسْلَمُوا
وَقُلْتَ اسْتَقَامُوا مِنَّةً وَتَكَرُّمًا ... فَأَنْتَ الذِي قَوَّمْتَهُم فَتَقَوَّمُوا
لَهُمْ في الدُّجَى أُنْسٌ بِذِكْرِكَ دَائِمًا ... فَهُمْ في اللَّيَالِي سَاجِدُونَ وَقُوَّمُ
نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ نَظْرَةً بِتَعَطُفٍ ... فَعَاشُوا بِهَا وَالنَّاسُ سَكْرَى وَنُوَّمُ
لَكَ الْحَمْدُ عَامِلْنَا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَسَامِح وَسَلِّمْنَا فَأَنْتَ الْمُسَلِّمُ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِمَا وَفِّقْتَ لَهُ الصَّالِحِينَ مِنْ خَلْقِكَ اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قالَ في حَادِي الأَرْوَاحِ: وَلِمَّا عَلِمَ الْمُوَفّقُونَ مَا خُلِقُوا لَهُ وَمَا إِيجَادُهُمْ لَهُ رَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإِذَا عَلمُ الْجَنَّةِ قَدْ رُفِعَ لَهُمْ شَمَّرُوا إِلَيْهِ وَإِذَا صِرَاطُهَا الْمُسْتَقِيم قَدْ وَضَحَ لَهُمْ فاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ وَرَأَوْا مِنْ أَعْظَمِ الغَبَنِ بَيْعُ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَفِي أَبَدٍ لا يَزُول ولا يَنْفَذْ بِصُبَابهِ عَيْشٍ إِنَّمَا هُوَ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ أَوْ كَطِيفٍ زَارَ في الْمَنَامِ مَشُوبٍ بِالنَّغْص مَمْزُوجٍ بَالغُصَصِ إِنْ أَضْحَكَ قَلِيلاً أَبْكَى كَثِيرًا وَإِنْ سَرَّ يَوْمًا أحزَنَ شُهُورًا آلامُهُ تَزِيدُ عَلَى لَذّاتِهِ وَأَحْزَانُهُ أَضْعَافُ مَسَّرَاتِهِ أَوَّلُهُ مَخَاوِِفُ وَآخِرُهُ مُتَألِفُ.(1/534)
فَيَا عَجَبًا مِنْ سَفِيهٍ في صُورةِ حَكيم وَمَعْتُوهٍ في مِسْلاخِ عاقِل آثرَ الحَضَّ الفانِي الخَسِيسَ على الحضّ الْبَاقي النَّفِيس باعَ جَنَّةٍ عَرْضُها الأَرْضُ والسَّمَاوَاتُ بِسِجْنٍ ضَيِّقٍ بَيْنَ أَرْبَابَ الْعَاهَاتِ وَالْبَلِّيَاتِ وَمَسَاكِنَ طَيَّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار بِأَعْطَانٍ ضَيِّقَةٍ آخِرُها الْخَرابُ وَالبَوارُ.
وأبكارَا عُرْبًا أَتْرابًا كَأنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ والْمَرْجَانُ بِقَذرَاتٍ دَنِسَاتٍ سَيِّئَاتِ الأخْلاقِ مُسَافِحَاتِ أَوْ مُتَّخِذَاتِ أَخْذانٍ وَحُورًا مقْصُوراتًا في الخِيامِ بِخَبْيثَاتِ مُسَيَّباتٍ بَيْنِ الأنام، وَأنْهَارًا مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبينَ بِشَرَابٍ نَجَسٍ مُذْهِبٍ لِلْعَقْلٍ مُفْسِدٍ لِلدُّنْيَا وَالدِّين، وَلَذَّةِ النَّظَرِ إِلى وَجْهِ العَزِيزِ الرَّحِيمِ بِالتَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ القَبِيحْ الذَّميم.
وَسَمَاعَ الخِطَابِ مِن الرحمن بِسَماعَ الْمَعازِفِ وَالْغِنَاءِ وَالألْحَانِ، والجُلُوسِ على مَنَابِرِ اللُّؤْلؤ واليَاقُوتِ وَالمُرْجَانِ وَالزَّبَرْجَدِ وَيَوْمَ المزيدِ بالجُلُوسِ في مَجَالِسِ الفُسُوقِ مَعَ كُلِّ شيطانٍ مَرِيدٍ.
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْغَبْنُ الفاحِشُ في هَذَا البيع يومَ القِيَامَةِ وَيَتَبَيَّنَ سَفهُ بَائِعِهِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ والنَّدَامَةِ إَذَا حُشِرَ المُتَّقُونَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا وسِيقَ المُجْرِمُون إلى جَهَنَّم وِرْدًا وَنَادَى المُنَادِي عَلَى رُؤوس الأشْهادِ لِيَعْلَمَنَّ أَهْلُ المَوقف مَنْ أولى بِالكَرَمِ مِنْ بَيْنِ العَبَادْ.
فَلَوْ تَوَهَّمَ المُتَخَّلِّفُ عَنْ هَذِهِ الرِّفَقَةُ وَمَا أُعِدَّ لَهُم مِنَ الإكْرَامِ وَادُّخِرِ لَهُمْ مِنَ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ وَمَا أُخْفِى لَهُم مِنْ قُرَّةِ أَعْينٍ لَمْ يَقَعُ على مِثْلِها بَصَرٌ ولا سَمِعَتْهُ أُذنٌ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ عَلِمَ أَيُّ بِضَاعَةٍ أَضَاعْ وَأَنَّهُ لا خَيْرَ لَهُ في حَيَاتِهِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِن سَقَطِ الْمَتَاعُ.
وَأنَّ الْقَوْمَ قَدْ تَوَسَّطُوا مُلْكًا كَبِيرًا لا تَعْتَرِيه الآفَاتُ وَلا يَلْحَقُه الزَّوَالُ وَفَازُوا بِالنَّعِيمِ المقيم في جِوَارِ الرَّبِ الكَبيرِ المُتَعَالِ فَهُمْ في رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ(1/535)
يَتَقَلَّبُونَ وَعَلى أَسِرَّتِهَا تَحْتَ الحِجَالِ يَجْلِسُونَ وعلى الفُرُشِ التي بَطَائِنُهَا مِن إسْتَبْرَقِ يَتَّكِئُونَ وبِالحُورِ العِينِ يَتَمَتَّعُونَ.
وبأنواع الثِّمارِ يَتَفَكَّهُونَ {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} تاللهِ لقَدْ نُودِي عليها في سُوقِ الْكَسَادِ فَمَا قَلَّبَ وَلا اسْتَامَ إِلا أَفْرَادٌ مِنَ العِبَادِ. وقال رحمه الله في النونية:
بِاللهِ ما عُذْرَ امْرِءٍ هُو مُؤْمِنٌ ... حَقًا بِهَذَا لَيْسَ بِالْيَقْظَانِ
بَلْ قَلْبُهُ في رَقْدَةٍِ فَإِذَا اسْتَفا ... ق فَلُبْسُهُ هُوَ حُلَّةُ الْكَسْلانِ
تَاللهِ لَوْ شَاقتْكَ جَنَّاتُ النَّعِيـ ... ـمِ طَلَبْتَهَا بِنَفَائِسِ الأَثْمَانِ
وَسَعَيْتَ جُهْدَكَ في وَصَالِ نَوَاعِمٍ ... وَكَوَاعِبٍ بِيضِ الوُجُوهِ حِسَانِ
جُلَيَتْ عَلَيْكَ عَرائسٌ والله َلْو ... تُجْلَى عَلَى صَخْرٍ مِنَ الصُّوَّانِ
رَقَّتْ حَواشِيهِ وَعاد لَوَقْتِهِ ... يَنْهَالُ مِثْلَ نَقَىً مِنَ الكُثْبَانِ
لَكِنَّ قَلْبَك في القَسَاوَةِ جَازَ حَدَّ ... الصَّخْرَةِ وَالْحَصْبَاءِ في أَشْجَانِ
لَوْ هَزَّكَ الشَّوْقُ المُقِيمُ وَكُنْتَ ذَا ... حِسٍّ لَمَا اسْتَبْدَلْتَ بِالأَدْوَانِ
أَوْ صَادَقَتْ مِنْكَ الصِّفَاتُ حَياةَ قَلْـ ... ـب كُنْتَ ذَا طَلَبٍ لِهَذَا الشَّانِ
حُورٌ تُزَفُّ إلَى ضَرِيرٍ مُقْعَدٍ ... يا مِحْنَةَ الحَسْنَاءِ بِالْعُمْيَانِ
شَمْسٌ لِعَنِّينٍ تَزَفُ إليه مَا ... ذَا حِيلَةُ الْعِنّيْنِ في الْغَشَيَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَسْتِ رَخِيصَةً ... بَل أَنْتِ غَالية على الْكَسْلانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ ليس يَنَالُهَا ... بالألْف إلا واحدٌ لا اثْنَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ ماذا كَفُوهَا ... إلا أَولُو التَّقْوَى مَعَ الإِيمَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ سُوقُكِ كَاسِدٌ ... بِيْنَ الأَرَاذِلِ سَفْلَةِ الْحَيَوَانِ(1/536)
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ أَيْنَ المُشْتَرِي ... فَلَقَدْ عُرِضْتِ بِأَيْسَرِ الأَثْمَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ هَلْ مِنْ خَاطِبٍ ... فَالْمَهْرُ قَبْلَ المَوْتِ ذُو إِمْكَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَصَبُّرْ الْـ ... خُطَّابُ عَنْكِ وَهُمْ ذُوُو إِيمَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَوْلا أَنَّهَا ... حُجِبَتْ بَكُلِّ مَكَارِهِ الإِنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطُ مِن مُتَخَلِّفٍ ... وَتَعَطّلتْ دَارُ الجَزَاءِ الثَّانِي
لَكْنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرَيهَةٍ ... لِيَصُدَّ عَنْهَا المُبْطِلُ المُتَوْانِي
وَتَنَالُهَا الهِمَمُ التِي تَسْمُو إِلَى ... رَبِّ العُلَى بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعْهمُ في دَارِ القَرارِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآداب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لِنَعْمَائِكَ، اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَأَخْلِصْ عَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاء وَمَكْسَبَنَا مِنَ الرِّبَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى طَاعَتِكْ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في فَضَائِل الاسْتِغْفَار
يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِن الاسْتِغْفَار في كُلِّ وَقْتٍ وَيتَأَكَّدُ في الزَّمَانِ الفَاضِل وَالمَكَانِ الفَاضِلْ، قال تَعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، وقال: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ؛ وقال تعالى مُخْبِرًا عن نوح: { ... فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} الآيَةْ، وقَالَ تَعَالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} ،(1/537)
وقَالَ تَعَالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وَعَنْ شَدَّادٍ بنُ أوسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارُ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلِي، وَأَبُوء بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ» .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَال: إِنَّا كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المَجْلِسِ يَقُول: «رَبَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الغَفُور» . مائةَ مَرَّةْ.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بنْ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «طٌوبَى لِمَنْ وُجِدَ في صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَة لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ في الجَنَّة فَيَقُولُ: يَا رِبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكْ» .
شِعْرًا:
يِا ذَا المَعَارِجَ أَنْتَ الله أَسْألهُ ... وَأَنْتَ يَا رَبِّ مَدْعوٌّ وَمَسْئُولُ
أَدْعُوكَ أَدعُوكَ يَا قَيُّومُ فِي ظُلَمَ ... وَكُل دَعٍ بِحُلْوِ النَّوْمِ مَشْغُولُ
تُعْطِي لِمَنْ شِئْتَ مَنْ يَسْأَلُكَ مِنْ سَعَةٍ ... وَالخَيْرُ مِنْكَ لِمَنْ ناَدَاكَ مَبْذُولُ
تَغْفِرْ ذُنُوبِي وَتَخْتُمُ لِي بَخَاتِمِةٍ ... تُرْضِيكَ عَنِّي وَظَنِّي فِيكَ مَأمُولُ
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب» .(1/538)
وَعَنِ الأَغَرَّ الْمُزْنِي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» .
وَقَالَ حُذَيْفَةْ: كُنْتُ ذَرِبَ اللِّسَانِ عَلِى أَهْلِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يُدْخِلَنِي لِسَانِي النَّارْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهُ في اليْوَمِ مِائَةَ مَرَّة» . أَخْرَجَهُ النِّسَائِي.
وَعَنْ زَيْدٍ مَوْلَى رَسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدْ.
وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي.
وعنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ منك وَلاَ أُبَالِى، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
(فَصْلٌ) : وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ لا أَبْرَحُ أَغْوي عِبادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ في أَجْسَادِهُم، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ ما اسْتَغْفَرُونِي» .
وَعَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ(1/539)
تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِر فِيهَا مِنَ الاسْتِغْفَارْ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَتْ، فَإِنْ عَادْ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُو قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} » .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُول اللهُ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأٌ كَصَدَأ النُّحَاسِ، وَجَلاؤُهَا الاسْتِغْفَارُ» .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ بنُ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَسِيرَةٍ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا الله» فَاسْتَغْفَرْنَا، فَقَالَ: «أَتِمُّوهَا سَبِعِينَ مَرَّة» . فَأَتْمَمْنَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ وَلا أَمَةٍ يَسْتَغِفِرُ اللهَ في يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةٌ إِلا غَفَرَ اللهُ لَهُ سَبْعُمِائَةَ ذَنْب، وَقَدْ خَابِ عَبْدُ أَوْ أَمَة عَمِلَ في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِمائَةِ ذَنْبٍ» .
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانْ: «فاسْتَكْثِروا فِيهِ مِنْ خِصْلَتِيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمُ فَشَهَادَةُ أَنَّ لا إِلَهَ إَلا اللهَ، والاسْتِغْفَارُ، وَأَمَّا التِي لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَهُ الجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارْ» .
فَهَذِهِ الخِصَالُ الأَرْبَعُ المَذْكُورَةِ في الحَدِيثِ كُلٌّ مِنْهَا سَبَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَالعْتقِ مِنَ النَّار فَأمَّا كَلِمَةُ الإِخْلاصِ فَإِنَّهَا تَهْدِمُ الذُّنُوبِ وَتَمْحُوهَا مَحْوًا وَلا تُبِقِي ذَنْبًا، وَلا يَسْبِِقُهَا عَمَلٌ، وَهِي تَعْدِلُُ عِتْقُ الرِّقَابِ الذِي يُوجِبُ العِتْقَ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَتَى بِهَا حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي أَعْتَقَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا(1/540)
خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» .
وَأَمَّا كَلِمَةُ الاسْتِغْفَارُ فَمِنْ أَعْظَمُ أَسْبَابِ المَغْفِرَةْ. فَإِنَّ الاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ بِالمَغْفِرَةِ، وَدُعَاءُ الصَّائِمِ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ الشُّرُوطُ وَانَتَفَتْ المَوَانِعَ مُسْتَجَابٌ حَالَ صِيَامِهِ وَعِنْدَ فِطْرِهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَيَغْفِرُ اللهُ إِلا لِمَنْ أَبِى، قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: يَأْبَى أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهُ) .
وَقَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ عَوِّدْ لِسَانِكَ الاسْتِغْفَارَ، فَإِنَّ لِلَّهِ سَاعَاتٍ لا يَرُدُّ فِيهِ سِائِلاً، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ والاسْتِغْفَارِ في قَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} .
وَفِي بَعْضِ الآثَارْ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالاسْتِغْفَارِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ.
وَالاسْتِغْفَارُ خِتَامُ الأَعْمَال الصَّالِحَةِ كُلِّهَا فَيُخْتَمُ بِهِ الصَّلاةُ، والحَجُّ، وَالْقِيامُ في اللَّيْلِ، وَيُخْتَمُ بِهِ المَجَالِسُ، فَإِنْ كَانَتْ ذِكْرًا كَانَ كَالطَّابِعَ عَلَيْهَا وَإْنِ كَانَتْ لَغْوًا كَانَ كَفَّارَةٌ لَهَا، فَكَذَلِكَ يَنْبِغِي أَنْ يُخْتَتَم صِيَامُ رَمَضَانَ بالاسْتِغْفَارِ يُرَفِّعُ مَا تَخَرَّقَ مِنَ الصِّيَامِ بِاللَّغْوِ وَالرَّفَثِ (وَيَجْتَهِدُ في الإِكْثَارِ مِنَ الأَعْمَالِ وَالتَّقَلُّلِ مِنَ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا وَالإِقْبَالِ عَلَى الآخِرَةِ مَا دَامَ في قَيْدِ الحَياَةِ) .
وَمِنْ عِظَةِ الحَسَنَ الْبَصْرِي لِعُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ ظَعَنِ لَيْسَتْ بَدَارَ إِقَامَة، لَهَا فِي كُلِّ حِينٍ قَتِيلٍ تُذِلَّ مِنْ أَعَزَّهَا وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَهَا هِيَ كَالسُّمِّ يَأْكُله مَنْ لا يَعرِفُهُ وَفِيهِ حَتْفُهُ فَكُنْ فِيهَا كَالمُدَاوِي جِرَاحُهُ يَحْتَمِي قَلِيلاً مَخَافَةَ مَا يَكْرَهُ طَوِيلاً وَيَصْبِرُ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ مَخَافَةِ طُولِ الدَّاءِ، فَاحْذَرْ هَذِهِ الدُّنْيَا الخَدَّاعةَ الغَدَّارَةَ الخَتَّالَةَ التِي قَدْ تَزَيَّنَتْ بِخِدَعِهَا وَقَتَلَتْ بَغُرُورِهَا وَتَحَلَّتْ بِآمَالَهَا وَسَوَّفَتْ بِخُطَّابِهَا.(1/541)
فَأَصْبَحَتْ كَالعَرُوسَ المَجْلِيَّةِ، العُيُونُ إِلَيْهَا نَاظِرَةٌ وَالْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَالِهَةٌ وَهِي لأَزْوَاجِهَا كُلِّهِمْ قََالِيَة، فَلا الْبَاقِي بِالْمَاضِي مُعْتَبِرٌ وَلا الآخِرُ بِالأوَّلِ مُزْدَجِرٌ فَعَاشِقٌ لَهَا قَدْ ظَفِرَ مِنْهَا بِحَاجَتِهِ فَاغْتَرَّ وَطَغَى وَنَسِي المَعَادَ فَشَغَلَ فِيهَا لُبَّهُ حَتَّى زَلَّتْ بِهِ قَدَمُهُ فَعَظُمَتْ نَدَامَتُهُ وَكُثُرَتْ حَسْرَتُهُ وَاجْتَمَعْتَ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَتَأَلُمِهُ وَحَسَرَاتُ الفَوْتِ بِغُصَّتِهِ وَرَاغِبٌ فِيهَا لَمْ يُدْرِك مِنْهَا مَا طَلَبْ وَلَمْ يُرِجْ نَفْسَهُ مِنَ التَّعَبِ فَخَرَجَ بِغَيْرِ زَادٍ وَقَدَمَ عَلَى غَيْرِ مِهَادٍ.
فَاحْذَرْهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَكُنْ أَسَرَّ مَا تَكُونُ فِيهَا أَحْذَرُ لَهَا فَإِنَّ صَاحِبَ الدُّنْيَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَكْرُوهٍ وَضَارٍ وَقَدْ وَصَلَ الرَّخَاءُ مِنْهَا بِالْبَلاءِ وَجُعِلَ البَقَاء إلى فَناءِ فَسُرُورُهَا مُشُوبٌ بِالأَحْزَانْ، أَمَانِيهَا كَاذِبَةٌ وَآمَالُهَا بَاطِلَةٌ وَصَفْوهَا كَدَرٌ وَعَيْشُهَا نَكَدٌ وَابْنُ آدَمَ فِيهَا عَلَى خَطَرٍ. أ. هـ.
شِعْرًا:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسِي لِيَوْمِ رَحِيلِهِ ... أَرِاكَ عَنِ الموتِ المُفِرِّقِ لاهِيًا
أَلا تَعْتَبِرُ بِالرَّاحِلِينَ إِلَى الْبَلَى ... وَتَرْكِهُمُ الدُّنْيَا جَمِيعًا كَمَا هَيَا
وَلَمْ يَخْرُجُوا إِلا بِقُطْنٍ وَخِرْقَةٍ ... وَمَا عَمَّرُوا مِنْ مَنْزِلٍ ظَلَّ خَالِيَا
وَأَنْتَ غَدًا أَوْ بَعْدَهُ فِي جِوَارِهِمْ ... وَحِيدًا فَرِيدًا فِي المَقَابِر ثَاوِيَا
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ، اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ(1/542)
وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في أَحْكَامِ الاعْتِكَافِ في المَسْجِدْ
الاعْتِكَافُ لُغَةً: لُزُومِ الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ بِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرُهُ، وَفِي الشَّرْعِ: لُزُومِ مُسْلِمٍ لا غُسْلَ عَلَيْهِ، عَاقِلٍ وَلَوْ مُمَيَّزًا مَسْجِدًا وَلَوْ سَاعَةً مِن لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لِطَاعَةِ اللهِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي رَمَضَانَ آكَدَهُ، وَآكَدَهُ عَشْرهُ الأَخِيرُ لِمَا وَرَدْ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانْ) .
وَعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: (كَانَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانْ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ المُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) .
أَمَّا كَوْنُهُ لا يَصِّحُ مِنَ الكَافِرْ، فَلأَنَّهُ مَنْ فُرُوعِ الإِيمَانِ، وَلا يَصِحّ مِنْهُ كَالصَّوْمِ، وَأَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ كَالمَجْنُونِ فَلأنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلَِ العِبَادَاتِ فَلَمْ يَصِحّ مِنْهُ.
أَمَّا كَوْنُهُ لا غُسْلَ عَلَيْهِ فَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: «إِنّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍٍ وَلا جُنُبْ» .
وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَسْجِدٍ فَلِقَوْلِهِ تَعَالِى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَلا يَصِحُّ إِلا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الجَمَاعَةْ، لأَنَّ الاعْتِكَافَ في غَيْرِهِ يُفْضِي إِمَّا تَرْكِ الجَمَاعَةِ، أَوْ تَكَرُّرِ الخُرُوجِ إِلَيْهَا كَثِيرًا مَعَ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَهُوَ مُنَافٍ لِلاعْتِكَاف.(1/543)
والاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الجُمَعُ أَفْضَلُ، لِئَلا يَحْتَاجَ إَلَى الخُروجِ إِلَيْهَا، وَلأنَّ ثَوَابَ الجَمَاعَةِ فِي الجَامِعِ أَكْثَرُ وِلأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ.
وَيَجِبُ الاعْتِكَافُ بِالنَّذْرِ، قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الاعْتِكَافُ لا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا إِلا أَنْ يُوجِبَ المَرْءُ عَلىَ نَفْسِهِ الاعْتِكَافُ نُذْراً لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعِهُ» .
وَالأَفْضَلُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِصَوْمِ، وَلأَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ في شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِن اعْتَكَفَ بِغَيْرِ صَوْمٍ جَازَ، لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَال: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» .
وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا فِيهِ لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ، وَكَالصَّلاةِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ.
وَلا يَصِحُّ اعْتِكَافُ الأَبْنَِيَةِ لأنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَلِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ» .
وَمَنْ نَذَرَ الاعْتِكَافَ أَوْ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلاثَة، وَهِيَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، وَمَسْجِدُ المَدِينَةِ، وَالمَسْجِدُ الأَقْصَى، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ لأنَّهُ لا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» .
وَلأنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ المَسَاجِدُ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ فَرْضَهُ بِمَا دُونَهُ.(1/544)
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ جَازِ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الحَرَامِ لأنَّهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَلِمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى لأنَّ مَسْجِدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدَ الأَقْصَى جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي أَيِّ المَسْجِدَيْنِ أَحَبَّ لأنَّهُمَا أَفْضَلَ مِنْهُ. بِدَلِيل قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفَ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا المَسْجِدَ الْحَرَامِ» .
وَلا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِمَا رَوْتَ عَائِشَةُ - رَضِي اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لا يَدْخُلَ البَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا» .
وَعَنْهَا - رَضِي اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: (السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَنْ لا يُعُودَ مَرِيضًا، وَلا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلا يَمِسُّ امْرَأَةً وَلا يُبَاشِرَهَا، وَلا يَخْرُجَ لِحَاجِةِ إِنْسَانِ إِلا مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ، وَلا اعْتِكَافُ إلا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ) .
فَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطُلَ اعْتِكَافُهُ، لأنَّ الاعْتِكَافَ اللُّبْثُ في المَسْجِدِ فَإِذَا خَرَجَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يُنَافِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَوْ أَكَلَ فِي الصَّوْمِ ذِاكِرًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ وَلا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَكَذَا إِنْ خَرَجَ مِنَ المَسْجِدَ نَاسِيًا لِمْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشَاغُلِ بِفعل القُرَبِ كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةِ، وَالصَّلاةِ وَذِكْرُ اللهِ وَنَحْوَ ذَلِكْ.
وَسُنَّ لَهُ اجْتِنَابُ مَا لا يَعْنِيهِ مِنْ جَدَلٍ وَمِرَاءٍ وَكَثْرَةِ كَلامٍ لَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي(1/545)
هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» .
(فائدة) : قيل للقمان: مَا بَلَغَ ما نَرى؟ يُرِيدُونَ الفَضْلَ، قال: صِدْقُ الحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الأَمَانة، وَتركُ مَا لا يَعْنِي.
شِعْرًا:
عَلَى فِيكَ مِمَّا لَيْسَ يُغْنِيكَ شَأْنُهُ ... بِقُفِلٍ وَثَيقٍ مَا اسْتَطْعَتْ فَاقْفِلِ
اللَّهُمَّ يَا خَالِقَ الخَلْقِ يَا قَيُّومُ نَسْألُكَ بِأَسْمائِكَ الحُسْنَى أَنْ تنصُرَ الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ وَأَنْ تُعْلِي بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الحَقِّ وَالدِّينِ وَأْن تَشْمَلَ بِعَنَايَتِكَ وَتَوْفِيقِكِ كُلَّ نَصَرَ الدِّينَ وَأَنْ تَمْلأ قُلُوبَنَا بِمَحَبِّتَكَ وَمَحَبَّةِ مِنْ يُحبُّكَ وَأَنْ تَأْخُذَ بِنَوَاصِينَا إِلَى مَا تَرْضَاهُ وَأَنْ تَرْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِمَا أَمَامَنَا وَأَنْ تُهَوِّنَ أَمْرَ الدُّنْيَا عَلَيْنَا، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في بِنَاءِ المسَاجِدِ وَآدَابِهَا
وَيَبْحَثْ فِي:
1- مَا وَرَدَ فِي الحَثِّ عَلَى بِنَاءِ المَسَاجِدِ وَثَوَابِهَا العَظِيم.
2- مَا وَرَدَ فِي صِيَانَةِ المَسَاجِدِ عَنِ الأَقْذَارِ وَتَنْظِيفِهَا.
3- مَا وَرَدَ فِي تَجَنُّبِ آكِلِ البَصَلِ وَالثَّوْمِ الصَّلاةِ في المَسَاجِدِ وَإِبْعَادِ الصَّغِيرِ والمجنون.
4- يَنْبَغِي تَجْنِيبُ المَساجِدِ البيعَ وَالشِّرَاء وَرَفْعَ الصَّوْتِ وَنُشْدَانَ الضَّالَةِ فِيهَا.
5- حُرْمَةُ المُبَالَغَةِ فِي زَخرَفَةِ المَسَاجِدِ.
6- كَرَاهَةُ إلتْزَامُ مَوْضِعٍ مُعَيّنٍ مِنَ المَسْجَدِ لِلصَّلاةِ لِغَيْرِ الإمَامْ.(1/546)
1- مَا وَرَدَ في الحَثِّ عَلَى بِنَاءِ المساجِدِ وَثَوَابِهَا العظيمْ:
بِنَاءُ المَسَاجِدِ في الأَمْصَارِ وَالقُرَى وَالمَحَالِّ وَنَحْوِهَا حَسَبِ الحَاجَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ فِي الدَّورِ، وَتنْظِيفِهَا وَتَطْييبِهَا، قَالَ تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... } الآية. لما روت عائشة - رضي الله عنها – قالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المَسَاجِدِ فِي الدّورِ، وَأَنْ تُنَظِّفَ وَتُطَيَّبْ.
شِعْرًا:
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ ... كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ
وَعَنْ عُثْمَانَ بنُ عَفَّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «مَنْ بِنْى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّة» .
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحِصَ قَطَاةٍٍ بَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّة» .
وَعَنْ عُمَرَ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ الله، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجنة» .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَنَى بَيْتًا يُعْبَدُ اللهُ فِيهِ مِنْ مَالٍ حَلالٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّة» .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةٍ - رَضِي اللهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لا يُرِيدُ رِيَاءً وَلا سُمْعَةً بِنَى اللهُ لُهُ بَيْتًا فِي الجنة» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مَمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَه، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صَحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تَلْحَقُهُ بَعْدِ مَوْتِهِ» .(1/547)
وَأَحَبُّ البِلادِ إِلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأبغَضُ البلادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَحَبُّ البلادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ البِلادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» .
اللَّهُمَّ أَتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بِإصْلاحِ قُلُوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : 2- مَا وَرَدَ في صِيَانَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْظِيفِهَا:
وَيُسَنُّ صِيَانَةُ المَسَاجِدِ عَنْ كُلِّ وَسَخٍ، وَقَذَرٍ، وَقَذَاةٍ، وَمُخَاطٍ، وَبُصَاقٍ، وَتَقْلِيمِ أَظْفَارٍ، وَقَصِّ شَارِبٍ، وَحَلْقِ رَأْسٍ، وَنَتْفِ إِبْطٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَيّ أُجُورُ أَعْمَالِ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُل مِنَ المَسْجِدِ» .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «البُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَة، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ امرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدِ فَفَقْدِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: «فَهَلا أَذَنْتُمُونِي» ؟ فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا.
وَعَنْ سُمْرَةَ بنُ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتْخِذَ الْمَسَاجِدِ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفُهَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمًا إِذَا رَأَى نُخَامَةً فِي قَبْلَةِ المَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى النَّاس ثُمّ حَكَّهَا - قَالَ: وَأَحْسِبْهُ قَالَ -: فَدَعَا بِزَعْفَران فَلَطَّخَهُ بِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قِبَلَ وَجْهِ(1/548)
أَحِدِكُمْ إِذَا صَلَّى فَلا يُبْصُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ» .
وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَفَلَ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ السَّائِبِ بنِ خَلادٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلاً أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي القِبْلَةِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ فَرَغَ: «لا يُصَلِّي لَكُمْ هَذَا» . فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّي لَهُمْ فَمَنَعُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رِسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نَعَمْ» . وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ» .
3- مَا وَرَدَ فِي تَجَنُّبِ آكِلِ البَصَلِ وَالثَّوْمِ الصَّلاةَ فِي المَسَاجِدِ وإبعادِ الصَّغِيرِ وَالمجنونِ عنهما:
يُسَنُّ صِيانَةُ المَساجِدِ عَنْ رَائحةٍ كريهةٍ مِنْ بَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاتٍ وَنَحْوهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا يَقْرَبَنَا وَلا يُصَلّينَ مَعَنَا» .
وَعَنِ ابْنُ عُمَرِ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ – يَعْنِي الثُّومَ – فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» .
وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا – أَوْ -: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا» .
وَفِي رِوَايِةٍ لِمُسِلْمٍ: «مَنْ أَكَلَ البَصَلَ وَالثُّومَ وَالكُرَّاثَ، فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا تَأَذّى مِنْهُ بَنُوا آدَمَ» .
وَعَنْ عُمَرَ بنُ الخَطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الجُمُعَة فَقَالَ في خُطْبَتِهِ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا إِلا خَبِيثَتَيْنِ، الْبَصَلُ، وَالثّومُ وَلَقَدْ رَأيتُ رَسولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمْتُهَا طَبْخا) .(1/549)
اللَّهُمَّ أعْطِنا من الْخَيْرِ فَوقَ ما نَرْجُو، واصْرِفْ عنَّا مِن السُّوءِ فَوقَ ما نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجائِكَ واقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فاسْتُرْهَا وتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وليًّا وكَفَى بِكَ نَصِيرًا يا رَبَّ العالمينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسجِدِ عَنْ صَغِيرٍ لا يُمَيّزُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَأَنْ يُصَانَ عَنْ مُجْنُونٍ حَالَ جُنُونِهِ، وَعَنْ لِغَطٍ، وَخُصُومَةٍ، وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لاغٍ، وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهٍ، وَعَنْ رَفْعِ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُمْ بِاللَّعِبِ وَغَيْرِهِ، وَيُمْنَعَ فِيهِ اخْتِلاطُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِيذَاءُ المُصَلّينَ وَغَيْرِهِم بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُمْنَعُ السَّكْرَانُ مِنْ دُخُولِهِ. وَعَنْ وَاثِلَةَ بنُ الأُسْقعِ: أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُم صِبْيَانِكُم وَمَجَانِينكَمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا المَطَاهِرَ وَجَمَّرُوهَا في الجُمَعِ» .
وَعَنْ عَبْدِ الله - يَعْنِي ابنُ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَيَكُونُ في آخرُ الزَّمَانِ قُوْمٌ يَكونُ حَدِيثُهُمْ في مَسَاجِدِهِمْ لَيْسَ لِلِّهِ فِيهم حَاجِةٌ» .
رَأَى أَبُو مُسْلِم الخَوَلانِي جَمَاعَةً فِي المَسْجِدِ فَمَالَ إِلَيْهِمِ لِيَجْلِسَ مَعَهُمْ وَظَنَّ أَنَّهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فَوَجَدَهُمْ في ذِكْر الدُّنْيَا فَقَالَ: أَنْتُمْ في سُوقِ الدُّنْيَا وَحَسِبْتُ أَنكُم في سُوقِ الآخِرة وَأَعْرض عَنْهُمْ.
وَعَنْ حَكِيم بن حِزامٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقَامُ الحدودُ في المَسَاجِدِ، وَلا يُسْتَقَادُ فِيهَا» .
وَعَنِ الحَسَنِ – رَحِمَهُ اللهُ – مُرْسَلاً قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَأْتِي(1/550)
عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُم في مَسَاجِدِهم في أَمْرِ دُنْيَاهُم فَلا تُجَالِسُوهُم فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهم حَاجَةْ» .
وَعَنْ السَّائِب بنُ يَزيدٍ قَالَ: (كُنْتُ نَائِمًا في الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عُمَرُ بن الْخَطَّاب فقال: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْن فَجِئْتُهُ بِهِمَا فَقَالَ: مِمَّنْ أنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفُ قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وَعَنْ مَالِكِ قَالَ: بَنَى عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَحَبَةٍ نَاحِيَةِ تُسَمَّى (البَطْحَاء) وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدِ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَلْيَخْرُجْ إلى هَذِهِ الرَّحَبَةِ.
وَعَنْ أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اتَّخَذَ الفَيء دُولاً وَالأمانةُ مُغْنَمَا وَالزكاةُ مَغْرمًا وَتُعلّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ وَأطاعَ الرَّجُلٌ امْرَأتَهُ وَعَقَّ أُمَّهْ، وَأَدْنَى صَدِيقهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرِتِ الأَصْواتُ في الْمَسَاجِدِ وَسَادَ القبيلةَ فَاسْقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ القَومِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرَمَ الرّجُلُ مَخَافَةِ شَرِّه وظَهرتِ القَيْنَاتُ والمعازفُ، وشُرِبَتِ الخمورُ، ولَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَوْلَهَا فَارْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةَ وَخَسْفَا وَمَسَخَا، وَقَذْفَا وَآياتِ تَتَابَع كَنِظَامِ قُطِعَ سلْكه فَتَتَابَعْ» .
شِعْرًا:
قَدِّم لِنَفسِكَ تَوبَةً مَرجُوَّةً ... قَبلَ المَماتِ وَقَبلَ حَبسِ الأَلسُنِ
بادِر بِها عُلَقَ النُفوسِ فَإِنَّها ... ذُخرٌ وَغُنمٌ لِلمُنيبِ المُحسِنِ
4- يَنْبَغِي تَجْنِيبُ الْمَسَاجِدِ البَيْع والشرّاء، ورَفْع الصّوتِ وَنَشْدَانْ الضَّالةِ فِيهَا. واللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.
(فَصْلٌ) : وَيَحْرَمُ فِي الْمَسْجِد البيعُ وَالشِّرَاء، فَإِنْ فَعَلَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِحَدِيثِ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن(1/551)
البيع والابتياعِ وعَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَار في المساجِدِ) . رواهُ أحْمد، وأبو داود، والنِّسَائي، والترمذي وحَسّنه.
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى في المسجد: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَك، لِمَا وَرَدَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّها اللَّهُ عَلَيْكَ» . رواهُ الترمذي، والدارمي.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، والتحذيرُ عَنْهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ المساجدِ الكُتُبِ التِي فِيهَا صُورُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، كَالهِجَاءِ لِلسَّنَةِ الأولى الاِبْتِدَائِيَةِ، وَكَالمطالَعَةِ لِسَائِرِ السَّنَواتِ وَكالعلومِ، فإنَّ بَعْضَ التَّلامِيذِ يَأتُونَ بِهَا إِلى المسَاجدِ لِيُطَالِعوا فِيهَا وَإِذَا تَخَلَّقَتْ وَضَعَها في المسجد، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ ابنِ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: وَعَدَ رَسُولَ اللهِ جِبْرِيلُ أَن يَأْتِيَهُ فَرَاثَ عليهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرَج فَلَقِيهَ جِبْرِيلُ فَشَكا إليه فقال: (إنَّا لا نَدْخُلِ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولا سُورة) . رواهُ البُخَاري.
وَيُسَنُّ صَوْنُ المسجد عن إنْشَادِ شِعْرٍ قَبِيحٍ، وَإِنْشَادِ ضَالَّة وَنُشْدَانِهَا، وَيُسَنُّ لِسَامِع نُشْدَانِ الضَّالة أَنْ يَقُول: لا رَدّهَا الله عَلَيْكَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هريرة - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنْشِدُ فِي المسجدِ ضَالَّةً فَلَيْقُلْ: لا أَدَّاهَا الله إليكَ، فَإِنَّ المساجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . رَواهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِم، وابن مَاجَة.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المسجِدِ فَقَال: مَنْ دَعَا إلى الجَمَل الأحْمَر؟ فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ المساجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» . رواهُ أحْمَدُ، وَمُسْلِمُ، وابن ماجَة.
5- حُرْمَةِ الْمُبَالَغةِ في زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدْ:(1/552)
وَتَحْرُمُ زَخْرَفَتُهَا بِنَقْشٍ وَصِبْغٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلاتِهِ غَالِبًا، وَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الوقْفِ حَرُمَ فِعْلُه، وَوَجَبَ ضَمَانُ مَالِ الْمُوْقَفِ الذي صُرِفَ فِيهِ لا لِمَصْلَحةٍ فِيهِ.
عَنْ ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُمِرْتُ بِتَشيِدِ المساجد» . قَالَ ابن عَبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (لَتُزَخْرِفُنَّها كَمَا زَخْرَفَتِ اليهودُ والنّصارى» . رواه أبو داود.
وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاس في المساجد» . رواهُ الخمسةُ إلا الترمذي.
وقالَ البخارِي: - رَحِمَهُ الله - قالَ أبو سَعيد: كَانَ سَقْفُ المسجدِ مِنْ جَريدِ النَّخل وأمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المسجِدِ وَقَال: أَكِنَّ الناسَ مِن المطر، وَإِيَّاكَ أن تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لا يَسْتَعْمِلَ النَّاسُ حُصُرَ المسجدِ وَقَنَادِيلَهُ وَسَجَاجِيدَهُ وَبُسَطَهُ وَسَائِرَ ما وُقِفَ لِمَصَالِحِه في مَصَالِّهِمْ، كالأعراسِ وَيَجِبُ صَرْفُ الوَقْفِ لِلْجِهَةِ التِي عَيَّنَهَا الواقِفْ.
6- كَراهةُ التِزَامِ مَوْضِع مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسْجِدِ للصَّلاةِ لِغيرِ الإمام:
وَيَكْرَهُ لِغَيْرِ الإِمَامِ مُدَاوَمَةُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِن المَسجدِ لا يُصَلي إلا فِيه لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن شبل قال: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ: «نَقَرْةِ الغُرابْ، وَافْتِرَاشِ السَّبْع، وَأنْ يُوَطّنَ الرِّجلُ المكانَ في المسجد كَمَا يُوَطّنُ البَعِيرُ» . رواهُ أبو داود، والنِّسائي، والدّارمي. فَإِنْ دَاوَمَ عَلى الصلاة بموضعٍ فَلَيْسَ هو أَوْلَى مِنْ غَيْرهِ فَإِذَا قَامَ مِنْه فلغيره أجُلُوسُ فِيهِ لِحَدِيثِ: «مَنْ سَبَقَ إلى مباحٍ فَهُوَ لَه» . قالَ في الاختِيَارَاتِ الفقهيةِ وَإِذَا فَرَشَ مُصلى وَلَمْ يَجْلِس عليه لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ رَفْعُهُ في أَظْهَرِ قَوْلَي العُلَماء قُلْتُ: وَمِثْلُهُ وَضْعُ خِرْقَة أوْ عَصَا أو نَعْل أوْ تَقْدِيم خَادِمٍ أَوْ وَلَدٍ ثُمَّ إِذَا حَضَرَ قامَ عَنْهُ وَجَلَسَ فِيهِ فَهَذَا لا يَجوزُ. والله أعلم.(1/553)