أخي الطبيب .. قاطع!!
د. راغب السرجاني
أخي الطبيب .. قاطع!!
بين يدي الكتاب
...
اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعُنا وزدنا علما، اللهم إنا نسألك خشيتَك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الغنى والفقر ونسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألك قرةَ عينٍ لا تنقطع.
... اللهم زيِّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وصلي اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين ثم أما بعد،
... أخي الطبيب:
في هذه الأيام العصيبة التي تمر بالأمة الإسلامية ، سواء في فلسطين أو العراق أو في غيرها من الأقطار الإسلامية الجريحة – وما أكثرها – يتساءل كثير من المسلمين الغيورين على دينهم والغيورين على أمتهم: ماذا نفعل؟ هل من وسيلة إيجابية فعالة نستطيع أن نقوم بها لمساعدة إخواننا في هذه البلاد؟ وبرزت فكرة المقاطعة للمنتجات الأمريكية والإنجليزية – وبالطبع اليهودية- كوسيلة من وسائل المقاومة. وقام بين الناس جدل طويل حول جدوى المقاطعة , ما بين مؤيد ومعارض. وأنت - أخي الطبيب – على ثغرة عظيمة , ولك مكانة مرموقة في المجتمع , وتستطيع أن تؤثر في فئات شتى. ولذلك آثرت أن أكتب هذا الكتيب لك ,أوضح الخلفية التاريخية لسلاح المقاطعة ، والفوائد المتحققة من استخدامه ، والردود – قدر المستطاع – على ما أثير حوله من شبهات.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، وأن يجعله نافعاً لصاحبه ولعامة المسلمين.
...
خلفية لابد منها
...
أسلوبَ الحصار – أو أسلوبَ المقاطعة – أسلوبٌ قديمٌ جداً ، استخدمه المشركون كثيراً ليضغطوا على المسلمين كي ينزلوا على رغباتهم.(1/1)
... استُخدم أسلوبُ المقاطعة مع المسلمين منذ أربعة عشر قرنًا ، وذلك عندما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم مؤمنها وكافرها في شعب أبي طالب, وذلك لمدة ثلاث سنواتٍ كاملة.. ومازال يُستخدم معنا إلى الآن ، ولكن بصورةٍ أشدَ ظلمًا ، وأكثر فتكًا ، وأقلَ ضميرًا..
... رأيناه في العراق ، وفي ليبيا ، وفي السودان ، وفي إيران ، وفي البوسنة ، وفي كوسفو ، وفي كشمير ، وفي أفغانستان ، وبالطبع نراه في صورة قاسية في حبيبتنا فلسطين.. رأيناه يعكس وجهًا قبيحًا لحضارة مزيفة.. قلبت الباطل حقًا والحقَ باطلاً
انظروا ماذا حدث في العراق مثلاً..
إحصائية سنة 1998 بعد ثمانيةِ أعوام من الحصار:
مليون ونصف مليون ماتوا من جراء الحصار والقصف.. أكثرُ من نصفهم من الأطفال..
من رفع صوته وقال لظالمي العراقِ.. حرام! حرامٌ ما تفعلوه في أهلنا!..
في شرع الإسلام حرامٌ أن يفعلَ هذا مع حيوان أو حتى نبات!..
حرامٌ أن نحبس هرة..
حرامٌ ألا نسقيَ كلبًا..
حرامٌ أن نقطع شجرة..
حرامٌ أن نَعْقُرَ نخلة..
حرامٌ في شرعنا.. لكن في شرعهم فضائل!!..
لا تستحيان أمريكا وإنجلترا من حملاتِهمُ الجوية وقنابلهم العنقودية..
لا تستحيان من مليون طفل عراقي يعانون من سوء تغذية مزمن..
لا تستحيان من أن ربعَ أطفالِ العراق لا يذهبون إلى المدارس ، لنقص الكتب ، وللفقر ، وللعمل..
لا تستحيان من وفاة خمسةِ آلاف طفل كلَ شهر لنقص الألبان والتطعيمات..
لا تستحيان من يورانيوم يبقى في تربة العراق مليار سنة - إن كان في عمر الأرض بقية - يصيب بالأورام الخبيثة ، ويشوه الأجنة في بطون الأمهات..
لا يستحيان.. وإذا لم تستح فاصنع ما شئت!.
وماذا نفعل؟!.. ماذا نفعل نحن المسلمون؟ نحن المليار وثلث مليار؟!
أتراه مناسبًا يا أخي بعد ما رأيت ما يحدث في فلسطين والعراقِ والبوسنة وكوسفو وأفغانستان والسودان وليبيا.. أتراه مناسبًا أن يمر الأمر دون وقفةٍ وتعليق؟(1/2)
أتراه مناسبًا أن نستمر في علاقاتنا معهم كشعب, وكأمة ، وكجيل شاهد بعينه وسمع بإذنه. أتراه مناسبًا أن نستمر في معاملاتنا معهم وكأن شيئًا لم يكن؟..
أتراه مناسبًا أن نبيعَ لهم ونشتري منهم وهم لا يرتوون إلا بدمائنا؟
أتراه مناسبًا أن نأكلَ أكلهم ، ونشربَ شربهم ، ونلبسَ ملابسهم ، ونلعبَ ألعابهم ، ولا يتحركُ في قلوبنا شيء..؟
أين قلوب الملهوفين على إخوانهم؟ أين قلوبُ الخائفين من إلهٍ يرقُبُهم ، ويحصي عليهم أعمالهم؟
إن لم يكن لنا طاقةٌ نَفُكُ بها حصارَهم عن إخواننا.. لضعف قوتنا وقلةِ حليتنا وهواننا على الناس.. إن لم يكن لنا طاقة بذاك ، فليس أقلَ من أن نحاربَهم بسلاحهم.. ولكن بضوابطنا الشرعية كمسلمين..
ليس أقلَ من أن نحاربَهم عن طريق المقاطعة ..
المقاطعة لمنتجات اليهود ، ومن عاونهم ، وأعلن ذلك دون حياء..
المقاطعة لإسرائيل وأمريكا وإنجلترا.. ومن حذا حذوهم وسار على طريقتهم.
مع العلم أنني لا أضع المقاطعة بديلاً للقتال.. فإنه لو فتح باب لقتالٍ في فلسطين ، أو في العراق , أو في أي بلد إسلامي محتل ، فإن القتال أوجب.. لكن إن أغلق باب المقاتلة، فباب المقاطعة مفتوح.. ومن الصعب جدًا أن يغلق.
وإن كنا ننادي بالمقاطعة.. فإننا كمسلمين متمسكين بديننا وأخلاقنا.. فإننا لا نقاطع إلا بضوابطنا الشرعية.. نحن لا نُجر إلى أقذار السياسة الغربية والعلمانية.. نحن نحارب بأسلوبنا الذي يُقره قرآنٌ وسنة..
كيف تكون المقاطعةُ بالضوابط الشرعية الإسلامية؟
نحن المسلمون في شرعنا لا نقتل المدنيين ، ولا نحرض على قتلهم ، ولا نروعهم.. نحن في مقاطعتنا لا نقاطع بطريقة أبي جهل ، أو بطريقة بوش وكلينتون ثم بوش من جديد.
نحن لا نستخدم المقاطعة إلا لجلب مصلحة هي أعلى من مصلحة أخرى ، أو لدفع ضرر هو أكبر من ضرر آخر.
نحن لا نستخدم المقاطعة في مصادرة ما لا يجوز لنا أن نصادره.. لا نجمد أرصدة أحد ولا نسطو على أموال أحد.(1/3)
نحن لا نستخدم المقاطعة لتدمير ما لا يجوز لنا تدميرُه.. فنحن المسلمون ضد حرق ممتلكات الغير المدنية ، سواء كان ذلك في بلادنا أو بلاد غيرنا ، وسواء كانت البلاد الأخرى محاربة لنا أو غير محاربة لنا.. هكذا.. كما أمرنا الله أن نحافظ على مساجدنا أمرنا أن نحافظ على كنائسهم ومعابدهم.. وكما أمرنا الله أن نحافظ على أموالنا أمرنا أن نحافظ على أموالهم.
المقاطعة بالضوابط الشرعية تعني أنه إذا عرضت عليّ سلعة مسلمة أو وطنية , وأخرى من دولة تعلن العداء السافر لنا أخذت السلعة المسلمة أو الوطنية لأقوي من اقتصاد بلادي، وتجنبت السلعة الأخرى إضعافًا لاقتصاد دولة معادية.. أما إن كانت الدولةُ معاهدةً أو غير محاربة جاز الشراء منها ، وإن كان من الأفضل أن ننفع المسلمين.
المقاطعة بالضوابط الشرعية تعني أنني فقط قاطعت الشراء لكن مازالت السلعةُ سلعته.. ما صادرتها.. وما أتلفتها.. لكن فقط قاطعتها.
من المفيد أن تدرس موقفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة.. كان صلى الله عليه وسلم يعلمُ أنه سيحاصر يومًا ما في المدينة ، وستجتمع عليه قريش، وحلفاؤها من القبائل العربية، وسيغدر اليهود كعادتهم.. ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد جهز نفسه لهذا اليوم، فأمنّ الماء بشراء بئر رومة، وأنشأ السوقَ الإسلامي، بديلا عن السوق الأجنبي ، وقاطعوا بذلك سوقَ بني قينقاع اليهودي ، وشجع التجار والزراع والصناع على العمل حتى يكفوا حاجة المدينة.
لا مجال هنا لقول أن تجار اليهود قد أوذوا.. فإن التجارة عرض وطلب.. والمشتري مخير بإرادته أن يشتري ممن يشاء.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصادر بئر رومة ، ولم يصادر سوق بني قينقاع.. بل اشترى البئر بالمال.. وأقام السوق البديل.. والناس جميعًا مخيرون.. ولا شك أن الصحابة كانوا راغبين في تدعيم السوق الإسلامي بدلاً من اليهودي.. فحولوا تعاملهم معه..(1/4)
واليهود في المدينة لا يُجبرون على الشراء من أسواق المسلمين.. لهم أن يبتاعوا من حيث يشاءون.. بل قد يتعاملون فقط فيما بينهم.. وهذا مقبول في عرف العالم أجمع.. وكذلك في شرعنا معروفٌ ومقبول..
والمسلمون أن احتاجوا لبضاعة ليست في سوق المسلمين كانوا يشترونها من اليهود بثمنها.. لا يبخسون أحدًا حقه..
إذن المقاطعة الاقتصادية لمنتجات اليهود والأمريكان والإنجليز ومن عاونهم أمر مشروع ، بل محمود ومندوب ، بل هو واجب ، لكن لا يخرجنا عداؤنا لغيرنا عن ضوابطِنا الشرعية ، وحدودِنا الأخلاقية.
"ولا يجرمنكم شنئان قوم (أي عداوة قوم) على ألا تعدلوا.. اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون".
كانت هذه خلفية لابد منها ، ولننتقل إلى الحديث عن جدوى المقاطعة.
فوائد المقاطعة
سؤال، لا شك أنه خاطرٌ على أذهانكم:
أترانا لو عذبنا أنفسنا بمقاطعة طويلةٍ محكمةٍ..هل يمكنُ أن نحدث أثرًا في شركاتٍ عملاقةٍ جبارة.. مثل هذه الشركات الغربية متعددةُ الجنسية.. هذه الشركات التي يساوي اقتصادُها اقتصادَ بعضِ الدول في العالم؟..
أفي هذا العذابِ فائدة؟ أم أنه مجهودٌ ضائع وعملٌ مُبَدد؟
للإجابة على هذا السؤال عددت لكم من فوائد المقاطعةِ عشرة، ومن الشبهات حولها خمسة، ومن فنونها وطرائقها خمسة ٌأخرى , ولك - أخي الطبيب – عشر نصائح فوق ما سبق , فتلك ثلاثون كاملة.. أسأل الله ألا يجعل بعدها سؤالاً حائرًا في أذهانكم, ولا شكًا - ولو بسيطًا - في عقولكم..
وأبدأ بالفوائد – أفادنا الله وإياكم منها:
فأما الفائدة الأولى فهي:
الخسارة الاقتصادية الحتمية لهذه الشركات ، وإن كانت في ظننا بسيطة, لكن في الواقع هي ليست بسيطة ، ولنقم سوياً بحسبة سريعة ..(1/5)
... العالم الإسلامي سوقٌ استهلاكيٌ ضخمٌ هائل.. العالم الإسلامي مليار وثلث مليار مسلم .. 1300مليون مسلم في أكثر من 60دولة.. فلنفترض أن نصف مليون رجل فقط في كل دولة سيقتنعون بفكرة المقاطعة..
هذا معناه أن 1/2 مليون × 60دولة = 30مليون رجل.. ومتوسط عائلة الرجل خمسة أفراد (هو وزوجته وثلاثة أولاد)..
إذن المحصلة هي 30مليون رجل×خمسة أفراد= 150مليون رجل وامرأة وطفل.. أي 150مليون مشتري سيقاطعون المنتجات اليهودية والأمريكية والإنجليزية..
أليست هذه خسارة محققة؟!
هذا لو اكتفى الرجل المسلم المقتنع بأسرته الصغيرة.. فما بالك لو أقنع أباه وأمه، وأخاه وأخته، وأصدقاءه .. بذلك سيصبح المقاطعون الضعف مثلاً على أقل تقدير!! هذا يعني أن حوالي 300 مليون مشتري سيقاطعون.. وهو ما يمثل حوالي 23% فقط من الأمة الإسلامية..
الرقم مهول وخطير ومبهر.. لكنه ليس ببعيد.. المهم هو النصف مليون الأول في كل قطر إسلامي.. بل إن المهم هو الخمسة آلاف رجل الأوائل في كل قطر، والذي سيدعو كل واحد منهم مائة إلى المقاطعة. ولا تتعجبوا من دعوة مائة فالرجل منا يقابل أكثر من مائة كل يوم .. ادع مائةً على مدار الأسبوع أ والشهر أو حتى السنة..
اكتب مقالاً عن المقاطعة..
ألق كلمة في ندوة.. في مسجد.. في مدرج جامعة.. في مستشفى..
وزع شريطًا عن المقاطعة أو كتابًا عن المقاطعة..
ادع متحدثاً إلى صالون ثقافي في بيتك..
وسيمر الوقت ويصبح الرجل رجلين، والرجلان أربعة، والأربعةُ مائة، والمائةُ نصفَ مليون رجل.. ولا تنسى أن أول الغيث.. قطرة!..
المهم ابدأ الآن ، ونل شرف السبق.. ادع غيرك ، ولا تنتظر أن يدعوك أحد..
"لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى"..(1/6)
إذن اتفقنا أن الحصيلة المادية التي ستدخل خِزانات هذه الشركات سوف تقل.. وبالتالي ستقل الضرائب المدفوعة للحكومة الأمريكية أو الإنجليزية.. نتيجة قلة الأرباح.. وهذا سيمثل لها خسارة, ومن ثم لإسرائيل , لأنه من المعروف أن جزءًا كبيرًا من حصيلة الضرائب في أمريكا يوجه لمساعدة إسرائيل مباشرة.. (إسرائيل هي أكثر دول العالم تلقيًا للمعونات الأمريكية)..
ومع هذا فإني أعلم أن البعض مازال يشك أن يحدث خسارة فعلية في هذه الشركات ، وبالتبعية لإسرائيل.. يعتقدون إننا ليست لنا طاقة.. وهذا من رواسب الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين في هذا الزمان .. وسبحان الله!!.. يبدو أن المسلمين هم الوحيدون في الأرض الذين لا يدركون مدى قوتِهم.. ولكن إذا كنا نحن لا ندرك قوتنا فهم يدركون.. وإذا كنا نحن لا نقدر طاقتنا فهم يقدرون..
أضرب أمثلة على ذلك:
شركة مستلزمات رياضية أمريكية مشهورة كتب لفظ الجلالة على أحذيتها الرياضية المسوقة بأمريكا.. وفجع المسلمون هناك بذلك.. ولوحوا - مجرد تلويح - أنهم سيقاطعون الشركة.. ماذا كان رد فعل الشركة العملاقة؟ مع العلم أن المسلمين في أمريكا 8مليون فقط ، وليسوا مليار وثلث مليار.. انظروا ماذا فعلت الشركة العملاقة..
اعتذارٌ صريحٌ في أكثر من صحيفة أمريكية.
سحبٌ للمنتج بكامله من السوق مع التضحية بالخسارة المادية الملموسة.
عرضٌ سخيٌ لأموال ضخمةٍ تبرعًا للمراكز الإسلامية.
انظر إلى فزع الشركة العملاقة من مجرد التلويح بمقاطعة.. ومن فئة محدودة جدًا من المسلمين.
- مثال آخر..
كلنا شاهدنا ما حدث في مصر مثلاً لما تصاعدت فكرة المقاطعة ، وذلك في أوائل أيام الانتفاضة الفلسطينية .. ماذا حدث من هذه الشركات الجبارة؟!
إعلانات في كل مكان في الصحف والمجلات والتليفزيون والإنترنت وعلى واجهات المحلات أن هذه الشركات تدار بأيدي مصرية مائة بالمائة، وكأنها ما جاءت لهذه البلاد إلا رأفة بأهلها وخدمة لشعبها..(1/7)
إعلانات مكثفة أنها لا تساعد إسرائيل..
تخفيضات لا مثيل لها على المنتجات..
هدايا لكل المشترين..
تبرعاتٌ للمستشفيات وللفقراء والمساكين وأبناء السبيل.
ونتساءل.. لماذا هذا العطف المفاجئ؟!..
ولماذا هذه المشاعر النبيلة الفياضة التي اكتشفوها في قلوبهم؟!
كيف انقلب الجشع إلى رحمة؟!
وكيف تحول الطمع إلى زهد؟!
وكيف تغير الشح إلى كرم؟!
هل لأن هذه الشعوب البسيطة الفقيرة المسلمة قد قررت أن تقاطع؟! لو كانت الشركة فعلاً جبارة وعملاقة ، لماذا تهتم بمقاطعة بلد لا يمثل في سوقها إلا القليل؟
ثم لماذا التضخيم المفزع لقوة الغرب؟ رأينا مؤخرًا بعد حوادث سقوط الطائرات في أمريكا في 11 سبتمبر سنة 2001 كيف تداعت وانهارت شركاتٌ ما كان يدخل في حسابات أحد أنها تتأثر بإحداث عارضة ، ولو كانت جسيمة..
شركات الطيران الأمريكية تسرح أكثر من 120 ألف عامل.
شركة بوينج (من أضخم تصنيع الطائرات في العالم) تسرح 30ألف عامل.
شركة رولز رويس لتصنيع محركات الطائرات (وهي ثاني شركة في العالم) تقلل إنتاجها إلى النصف وتسرح آلاف العمال.
إفلاس شركة ساس السويسرية للطيران، وكذلك شركة سابينا البلجيكية.
شركات يابانية واسترالية أغلقت أبوابها..
هذا غير ما حدث لشركات السياحة والفنادق والمحلات التجارية وغيرها.
ألهذه الدرجة تكون هذه الشركات من الضعف بحيث أن مقاطعة الناسِ لها في شهر أو شهرين يؤدي إلى كل هذه التداعيات؟!
وقد شاهد المصريون بأعينهم كيف أغلق سوبر ماركت غربي هائل أبوابه بعد أسابيع قليلة من المقاطعة ، وذلك مع كل العروض التي قدمها للناس ، ومع كل التخفيضات التي كان الشعب في أشد الحاجة إليها..
هذا نشاهده رأي العين.. لكن المهم هو البداية..
إذا كانت هذه هي الفائدة الأولى.. وهي الخسارة المادية الملموسة لأمريكا وإنجلترا , والتي ستؤدي حتماً إلى إنقاص دخل إسرائيل.
الفائدة الثانية:(1/8)
خسارة هذه الشركات ستؤدي إلى تغيير القرار السياسي في أمريكا من الحرب السافرة إلى غيره , ومن التحيز السافر لإسرائيل إلى غيره..
في هذه البلاد يصل مغيرو السياسة وأصحاب القرار إلى مراكزهم في الكونجرس والرئاسة عن طريق الانتخابات الحرة.. والتي تتأثر بدورها بجماعات الضغط هناك.. ومن أكبر جماعات الضغط في أمريكا جمعية رجال الأعمال ، والمكونة من أصحاب الشركات التي نفكر نحن بمقاطعتها.. ولا شك أن هذه الشركات إذا لاحظت تناقصاً مستمراً في أرباحها ، فإنها "ستضغط" على الحكومة الأمريكية لتغير من قراراتها.
إذن الخسارة الاقتصادية تؤثر على القرار السياسي بوضوح ، وبالذات في هذه البلاد الرأسمالية.. فالمال مقدم عندهم على كل شيء.. ولعلكم تعرفون أن كثيراً من العلميات الفدائية الفلسطينية تتم بتسهيلات من اليهود ذاتِهم في نظير المال!!.. ولعلكم تعرفون أيضاً أن معظم السلاح الذي يشتريه المجاهدون الفلسطينيون يكون عن طريق اليهود!!
إذن عندهم يغيرون القرار حفاظًا على المصالح ، ولابد أن يعلم الغرب أنه - وإن كان له مصالحُ حيويةٌ في إسرائيل - فإن له مصالحَ أخرى - أكثر حيوية - في بلاد المسلمين.
الفائدة الثالثة:
هذه المقاطعة ستؤدي إلى استخدام البدائل الوطنية مما سيؤدي إلى انتعاشها ، وبذلك يتقوى اقتصاد الأمة على ممتلكاتها ، وليس على ممتلكات الغير..
وهذه قضيةٌ محوريةٌ وأمرٌ مصيري.. والأمة التي لا تملك احتياجاتها لا تملك قرارها..
فالقضية ليست فقط خسارة للشركات اليهودية والأمريكية.. القضية قضية بناء أمة.. وحياة أمة.. ما الفارق بين أمة الإسلام والصين أو اليابان مثلاً؟!.. هم لا يملكون مناهج أفضل من منهجنا، ولا شعباً أفضل من شعبنا.. والعقل الإسلامي يتفوق كثيرًا على عقولهم إذا توافقت الظروف.. لماذا لا نخلق الظروف التي تمكن أمتنا من التفوق؟!(1/9)
بداية الصين واليابان كدول صناعية لم تكن بعيدة عن بدايتنا.. بدأت الصناعات الصغيرة المحلية ، وقُلل من الاستيراد ، واعتمد الشعب في بادئ أمره على منتجاتٍ أقلِ جودة من المنتجات الغربية ، ثم مرت الأيام وتحسن الإنتاج ، ثم تفوق..
السيارات اليابانية من ثلاثين سنة كانت لا تسوق إلا في بلاد العالم الثالث.. أما الآن.. السيارة اليابانية هي السيارة رقم واحد في أمريكا..
والحقيقة أن هذه النقطة تحتاج منا إلى وقفة وتعليق..
عن أي شيء يبحث المستهلك؟ إنه يبحث عن الجودة المناسبة والسعر المناسب.. ولا شك أن المنتجات المستوردة كثيرًا ما تكون أكثر جودةً وأقل سعرًا.. أما حسن الجودة فمفهوم ، للتقنية العالية ، ولدقة النظام ، ولضخامة المصانع ، وللكفاءة المهارية .. لكن كيف يكون السعر أقل من المنتج المحلي؟ كيف يأتي المنتج من آخر بلاد الدنيا إلى بلادنا ثم نجده أرخص من منتجنا المُصنع في بلادنا؟! وليست منتجات الصين منا ببعيد!!
لماذا هذا السعر المنخفض؟!
الواقع إنه لعوامل عديدة منها رخص الأيدي العاملة ، ولا أعتقد أن الأيدي العاملة في بلادنا مكلفة جدًا..
ومنها أنهم يكسبون قليلاً ليبيعوا أكثر ، وهو مبدأ تجاري معروف ، ويستخدم أيضًا كثيرًا في بلادنا..
ومنها أيضاً الإنتاج بكميات كبيرة جدًا تغطي التكلفة والأرباح.. وهذا ما لا يستطيع المصنع المحلي أن يفعله خشية كساد السلعة..
وهنا يبرز دور المقاطعة.. فلو قاطعنا المنتجات المستوردة ، فإن هذا سيشجع المصنع المحلي على مضاعفة الإنتاج ، وبالتالي تخفيض السعرِ إلى أدناه.. أما وهو يعلم أنه لن يبيع إلا وحداتٍ محدودة فإنه قد يوفر في التكاليف على حساب الجودة ، ويصبح الأمر دائرة لا نخرج منها أبدًا..(1/10)
ومع ذلك فأنا أدرك أن الموضوع ليس بهذه البساطة.. ليست النتيجة المباشرة للمقاطعة أن يتم إصلاح الاقتصاد المسلم ، ويتغير الحال.. ولكن هناك بعض النقاط الهامة التي لابد من الإشارة إليها على عجالة:
هناك الهزيمة النفسية التي يعاني منها كثير من أفراد الأمة الإسلامية ، والتي تؤدي إلى أن كثيرًا من المسلمين لا يعتقدون في إمكانية إنتاج منتج محلي ينافس المنتج الغربي.. نحن نحتاج إلى ثقةٍ بالله ، وثقةٍ بالنفس ، وثقةٍ بالوطن ، وثقةٍ بأهلنا وعمالنا.. يتبعها ثقةٌ في المنتج إن شاء الله..
نقطة أخرى هامة: إنه ليس معنى ذلك أن المنتج المحلي سيكون سريعًا على قدم المساواة مع المنتج الغربي ، وفي كل التخصصات.. أبدًا.. لابد أن يعرف المستهلكون المسلمون أنهم إذا أرادوا أمةً قويةً اقتصاديًا وسياسيًا.. فلابد أن يصبروا في البداية.. ويقبلوا بما هو أضعف نسبيًا إلى أن يتحسن.. لابد من تضحية.. وستكون تضحيةٌ مأجورةٌ إن شاء الله..
ثم أيضًا نقطة أخرى في قضية استخدام البدائل الوطنية.. وهي كلمةٌ أوجهها إلى المستثمرين وأصحاب الشركات والمصانع المحلية.. أنت على ثغرة عظيمة.. فراقب ربك في عملك.. يرتفع أجرك في الآخرة ويكثرُ ربحُك في الدنيا..
ثم بعض النصائح السريعة للمستثمرين المسلمين:
أتمنى أن يتجه أصحاب رؤوس المال ولو كان صغيرًا إلى إنتاج ما يفيد الأمة:
بدلاً من اللبان والشيبسي والمصاصة أشكال وألوان فلنتجه إلى أنتاج مستلزمات المستشفيات وآلات الزراعة والسماد والإلكترونيات والورق..
بدلاً من المضاربة في البورصة في شركات تنتج أفلاماً ومسلسلات ، أو شركات تنتج خموراً ، أو بنوك ربوية ، فلنضع أموالنا في شركات بترول وحديد وأسمنت وأدوية ودقيق..
بدلاً من الاستيراد من إسرائيل أو أمريكا أو الحرص على أخذ توكيل أمريكي ، هيا نستورد من ماليزيا أو إندونيسيا أو تركيا أو سوريا أو مصر أو الجزائر وستجد ما تريده إن شاء الله..(1/11)
كلمة أخرى للمستثمرين وأصحاب الشركات المحلية الذين يقفون على ثغرة عظيمة..
أتمنى أن تهتم بإتقان العمل وجودة الصناعة ، حتى لا تفتن المسلمين ، فيتوجهوا للشرق والغرب.
أتمنى أن نخفض من السعر قدر المستطاع ، وسيزيد الربح إن شاء الله.
أتمنى أن نحسن معاملة العمال في شركاتنا ، وتعطي حوافز مجزية على كثرة الإنتاج ، وتبتسم في وجه العمال البسطاء ، وفي وجه العملاء المشترين ، فبعض الناس يلاحظون فرقًا في المعاملة الحسنة في الشركات الأجنبية والمعاملة الجافة في بعض الشركات المحلية.
خلاصة هذه النقطة أننا نريد مقاطعة للمنتج الأمريكي ، مقرونةً بتحسين وتجويد وشراء للمنتج المحلي.. وهذا ما أسميه المقاطعة الإيجابية , والتي تؤدي إلى بناء وإنتاج , وعلى المسلمين أن يصبروا في البداية ، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة.
الفائدة الرابعة:
... إذا حدث حصار اقتصادي على البلد في أي وقت ماذا سيكون موقفنا؟ وهذا وارد لأتفه الأسباب ، ودوام الحال من المحال.. أهل العراق كانوا يتمتعون بمال وفير ، وخير كثير ، ثم ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.. فمن يدري ؟! ماذا سيحدث في العالم غداً ، ويتخذونه ذريعة لحصار أي قطر إسلامي؟.
أليس من الحكمة ألا نعتمد على المنتجات الغربية التي ستقطع لو حوصرت البلاد المسلمة؟.. ماذا سيحدث لو سحبت هذه الشركات نفسها فجأة من السوق المحلي؟..
محل غربي كبير (سوبر ماركت) دخل السوق المصري بثقل كبير ، وفتح فروع كثيرة جدًا ، ورخص الأسعار بشكل لافت للأنظار.. ماذا كانت النتيجة؟.. معظم المحلات المحلية المجاورة أغلقت أبوابها.. والمستثمر الأجنبي على استعداد أن يخسر في البداية - وخسارة كبيرة - في سبيل أن تغلق مصنعك أو محلك ، ثم بعد ذلك يتحكم هو في السوق..(1/12)
والأخطر من هذا ، هو ماذا يحدث لو فتح محل مثل هذا ، وأغلق كل المتاجر الوطنية المجاورة ، ثم انسحب فجأة من السوق إذا حدث حصار اقتصادي على البلاد؟
كارثة محققة!!..
أنا أتخيل لو أنه حدث حصار اقتصادي على مصر في هذه الظروف ، ستغلق المستشفيات - على سبيل المثال - أبوابها.. لا ترابيزات عمليات.. لا كشافات إضاءة للعمليات.. لا خيوط.. لا أدوات جراحية.. لا قساطر..لا مشارط .. لماذا هذا الاعتماد المشين والمهين وغير الحكيم على الغرب والشرق؟!
لماذا لا يحاول المسلمون أن يتعاونوا ويتكافلوا ويتبادلوا الخبرات فيما بينهم؟
باكستان لها تجربة عظيمة في إنتاج الأدوات الجراحية .. لماذا لا يتعلم العالم الإسلامي منها بل ويستورد منها.
الجزائر لها تجربة رائدة في صناعة القناطر والسدود على الأنهار فليتعلم منها المسلمون ويستوردوا منها (مع العلم أن طاقتها الإنتاجية تكفي لسد احتياجات 60% من البلاد العربية ، بل ويمكن لهم أن يسدوا حاجة الدول العربية بكاملها ، ويتجاوزوها إلى البلاد الإسلامية ، لو ساهمت معهم بعض رؤوس المال الإسلامية).. لماذا لا يستثمر الممولون المسلمون أموالهم في مثل هذه المشاريع ، بدلاً من وضعها في البنوك الأمريكية والأوروبية؟!
مصر لديها تجارب كبيرة في صناعات الورق والنسيج والحديد وغيره ..لماذا لا يستفيد العالم الإسلامي من هذه الخبرات؟
إذن المقاطعة تجهزنا ليوم نحاصر فيه .. تجهزنا تجهيزًا إيجابيًا اختياريًا ، وفي ظروف أفضل جداً من وقت الحصار الحقيقي.. والحصار كما رأينا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسية قديمة غير مستبعدة في أي زمان.. وليس من الحكمة أبداً افتراض عدم حدوثه.
الفائدة الخامسة:
المقاطعة ستؤدي إلى التذكر المستمر للعدو الحقيقي للمسلمين..(1/13)
الناس من عادتها أن تنسى مع مرور الوقت وتغير الظروف.. قد يبتسم الظالم في وجهك يومًا ، ويمد إليك يده مصافحًا ، ويفتح لك صدره متوددًا ، ومع ذلك هو مستمر في ظلمه ، فينسى الناس الظلم لاختفائه خلف الابتسامة والتودد!!..
حدث ذلك مثلاً عندما مد مناحم بيجن مثلاً يده مصافحًا ومعاهدًا ومبتسمًا ، والجميع يعلم أنه صاحبُ مجزرة دير ياسين ، ومازال يقبع بجيوشه في بلادٍ مغتصبةٍ ، ظالمًا الملايين دون اكتراث.. نسي الناس ذلك ، ونظروا إليه على أنه رجل السلام ، ثم ما لبث أن مرت الأيام وأخذ المجرم السفاح جائزة نوبل للسلام ، وصدق بعض المسلمين الأكذوبة!!
استمرار المقاطعة يجعلنا في حالة استنفار دائم .. فلا ننسى عدونا مهما تغير الزمان ، أو تغيرت الظروف.. استمرار المقاطعة يعيننا على تربية أبنائنا بطريقة يعرفون فيها عدوهم.. ولا يخفى على عاقل أي فائدة هذه.
الفائدة السادسة:
أن هذه المقاطعة ستقضي على الانبهار المسيطر على الناس من كل ما هو يهودي أو أمريكي أو غربي أو مستورد.. لقد سيطرت حالةٌ من الانبهار على الناس شملت البضائع وغير البضائع.. بل شملت الأشخاص وشملت الأفكار.. فالرجل الأمريكاني في نظر كثير من الناس أبعدُ نظرًا ، وأقوى شكيمة ، وأذكى عقلاً ، وأسرعُ خطوة ، وأخفُ دماء ، بل وأكثر اعطفًا وحنانًا!!..
استمرار المقاطعة سيقضي كثيرًا على هذا الانبهار المخيف، وستعلم الأمة أنها تستطيع أن تعيش بدون أمريكا ، بل وبدون الغرب جميعًا، هذا إذا ما أرادت الأمة أن تعيش..
الفائدة السابعة:
المقاطعة سترفع معنويات الشعوب المسلمة عندما ترى نجاحًا من النجاحات نتيجة للمقاطعة:
عندما ترى صرحًا أجنبيًا ضخمًا بفروع متعددة ، وأعداد هائلة من العمال ، وأموال لا تحصى ، وقدرات لا تنتهي.. عندما ترى هذا الصرحَ الكبيرَ يغلق أبوابه نتيجة المقاطعة ، معلنا فشله التام في كسر إرادة الشعب الأبي الفاهم الواعي.. فهذا والله هو النجاح بعينه..(1/14)
عندما تمر على محلات الأمريكان للأطعمة فتجدها خاوية على عروشها ، وقد ازدحمت المحلات المحلية بالرواد.. أليس هذا انتصارًا؟!..
عندما تشاهد تكالبًا من محلات الغرب على اكتساب الزبائن عن طريق الخصم والهدايا والمسابقات والحفلات ، ثم تجد أعراضًا من الناس مع حاجتهم أحيانًا ، ومع رغبتهم أحيانًا أخرى.. لكنهم يُعرضون مقاطعة لهم ، وبعدًا عنهم.. عندما تشاهد هذا.. اعلم أن الشعب قد نجح بالفعل..
عندما تقرأ عن محل أطعمة أمريكي شهير يخسر حوالي 35% خمسة وثلاثين بالمائة من دخله المعتاد في الشرق الأوسط ، وذلك في الأسابيع الأولى للانتفاضة ، فاعلم أن هذا مقياسٌ جيد لنجاح الأمة..
وهكذا بالمقاطعة وملاحظة النتائج ستعيش الأمة نوعًا من الانتصار ، وسترى لونًا من النجاح هي في أشد الحاجة إليه..
الفائدة الثامنة:
استمرار المقاطعة سيحدث حالة من الرعب عند أعداء المسلمين مقابلة لحالة الشعور بالفخر والنصر عند المسلمين..
سيشعر أعداء المسلمين بالهزيمة في مجال من المجالات ، وسيشعرون بالهلع عندما يشاهدون وحدة الصف المسلم في كل الأقطار الإسلامية ، وسيشعرون بالصغار عندما يلحظون قوة إرادة الأمة في مقاطعتها لهم مع احتياجها إليهم ، وسيشعرون بالذل الواضح أمام عزة الإسلام والمسلمين..
هذه كلُها بوادرُ نصر.. والهزيمة النفسية لعدونا من أشد أنواع الهزائم ، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ قال: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"..
الفائدة التاسعة:
المقاطعة تربية عظيمة للنفس بأن تحرمها من شيءٍ اعتادت عليه، وذلك مثلُ فكرة الصيام.. أنت في نهار رمضان تمنع نفسك عن الطعام والشراب ، وهما في الأصل من الأمور الحلال.. فإن استطعت ذلك , فأنت على تجنب الحرام أقدر.. هذا نوع من التربية..(1/15)
نريد أن نُعوِّد أنفسنا على كسر الروتين اليومي في حياتنا ، وعلى التغلب على شهواتنا ، وعلى الانتصار على أنفسنا ، وعلى تغليب المصلحة العامة للأمة على المصلحة الخاصة للأفراد..
ووالله ..لو خرجنا من المقاطعة بهذا الدرس العظيم.. درس التربية.. لكان هذا مكسبًا لا يقارن بما قبله من المكاسب..
الفائدة العاشرة:
وأختم بها الفوائد.. وأنا أعتبر أن أهم فوائد المقاطعة هي هذه الفائدة العاشرة.. وهي أننا مع إخلاص النوايا في نصرة الإسلام والمسلمين ، وفي مساعدة إخواننا في فلسطين والعراق، وفي تقوية اقتصاد المسلمين ، وفي تربية الأمة المسلمة ، مع إخلاص النوايا في كل هذه الأمور ، فإننا نرجو من الله ثوابًا ، ونسأله عونًا ، ونتوقع منه نصرًا ، وننتظر منه رضًا ورحمةً وفضلاً وكرمًا..
هذا كله بالإضافة إلى الفتوى التي أصدرها كثير من الفقهاء "بتحريم" شراء المنتجات اليهودية والأمريكية ، وبالذات في هذه الظروف. وأيضاً "تحريم" إبراز رموز هذه المحلات أو الإعلان عنها، ومن هؤلاء الفقهاء الدكتور العالم الفاضل يوسف القرضاوي..
يا أخي – ما أدراك – لعل حسناتِ المقاطعة تكون هي المرجحة لكفتنا يوم القيامة.. "يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم"..
لهذه الأسباب مجتمعة وقد يكون لغيرها أيضًا.. أرى أن المقاطعة تعتبر من الأسلحة الحتمية التي يجب على المسلمين جميعًا أن يتحدوا في القيام بها.. نسأل الله أن يعيننا عليها ، وأن يتقبلها منا ، وأن يجعلها في ميزان حسناتنا أجمعين..
شبهات وردود حول المقاطعة
يثير هذه الشبهات طوائف مختلفة من الناس:
فمنهم من يستفيد ذاتياً من الشركات الأمريكية أو الصهيونية ، ولذا فهو يدافع عن مصالحه..
ومنهم المسلم الذي يجهل حقائق الأمور ، وفوائد المقاطعة ، فهو ينكرها جهلاً ، ولو شرحت له أبعادها لقاطع..
ومنهم المسلم المتكاسل المترف الذي لا يقوى على مفارقة روتين حياته اليومي..(1/16)
ومنهم المسلم المهزوم نفسياً ، والذي يشعر أنه لا أمل في حرب هؤلاء..
ومنهم العدو الحاقد الذي يسرب إشاعاته إلى أمتنا بغية تحطيمها وإبادتها..
وقد يكون منهم المسلم المتحمس الواعي الذي يقاطع بحمية ، ثم مع مرور الوقت يفتر أو ينسى.
كل هذه الطوائف – وقد يكون هناك غيرها – تساهم في محاولة سحب سلاح المقاطعة الهام والإستراتيجي من أيدي المسلمين. ولذا وجب علينا أن نبحث عن هذه الشبهات ، ونرد عليها تباعاً ، حتى نحافظ على فعالية هذا السلاح الخطير..
عددت لكم من هذه الشبهات خمسة:
الشبهة الأولى ... :
تقول أن الأيدي العاملة في هذه المحلات وطنية 100% ، وغلق المحلات سيؤدي إلى تشريد الآلاف أو الملايين على نطاق أمة المسلمين.. كما سيؤدي إلى خسارة رأس المال الوطني صاحب التوكيل..
وللرد على هذا نقول:
1-نحن جميعًا متفقون أن الشركة الأجنبية ما جاءت إلى البلاد المسلمة ، بحدها وحديدها ، وما لها ورجالها وأفكارها ، إلا بغية الربح وجمع المال.. ولم تأتِ حبًا في مصلحة البلاد أو تأثرًا بحال الفقراء.. كما أنها لم تعط توكيلات للمسلمين رأفة بحال المستثمرين منهم!!
إذن نحن متفقون أن عملنا في شركاتهم سيؤدي حتمًا إلى قوتهم ، وزيادة أموالهم ، وتوسيع أعمالهم ، وتثبيت دعائمهم..
وهذا – في الحقيقة - لا ينبغي لنا فعله ، إذا كنا مستيقنين بعدائهم ، أو بمساعدتهم لأعدائنا، وبالذات في أوقات الحروب والأزمات.. حتى لو كانت خسارتُنا حتمية..
2-أين كان يعمل هؤلاء المسلمون قبل أن تفتح الشركة الأجنبية أبوابها لهم؟؟ ألم يكن العامل الذي يعمل الآن في محل الدجاج أو البيتزا الأمريكاني عاملاً في محل الكباب الوطني؟.. والعامل الذي يبيع في السوبر ماركت الغربي ألم يكن يبيع في السوبر ماركت الوطني؟.. والعامل الذي يعمل في محطة بنزين غربية (ومعظم رأس مالهم يهودي) ألم يكن يعمل في محطة بنزين وطنية؟.. وهكذا..(1/17)
3-الخسارة المتوقعة للعمال في فارق المرتبات ، ولرؤوس المال في الأرباح خسارةٌ مقبولة.. فنحن في حالة مواجهة لمؤامرةٍ وحربٍ وكيد وتدبير من قبل أعدائنا ، لا لفلسطين فقط ، أو للعراق فقط , ولكن لعموم أمة المسلمين..
إذا اعتدى عدو على بلدك.. هل تقاتلُه لتردَه ، أم تقول أن القتال فيه خسارة سلاح ، وخسارة مال وخسارة معمار ، بل وخسارة نفس.. إنك تقاتله.. والخسائر تصبح لا قيمة لها إذا قورنت برد العدوان..
وهكذا أيضًا فالخسائر المتوقعة مقبولة ، لأنها نوع من رد العدوان على الاقتصاد المسلم والشعوب المسلمة.. ثم إن هذه الخسارة مؤقتة ، ولو تحسن الإنتاج المحلي وزاد ، لعاد الوضع أفضل مما كان عليه من قبل.
4- نحن المسلمون نختلف عن غيرنا من البشر في أننا نعتقد تمامًا أن الرزق مضمون من رب العالمين.. ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فالإنسان المسلم يقتنع بأنه لن يقل رزقه الذي قسمه الله له بانتقاله من مكان إلى آخر.. فإن قيل بأن هذا أخذ بأسباب الرزق ، فإننا نقول اللهم لا تجعل رزقنا أجورًا من أعداءنا.. فليس من جمال الطلب أبدًا أن أطلب رزقي من قاتل إخواني..
5-صاحب رأس المال الوطني عندما يشاهد بُعد الناس عن المنتج اليهودي أو الأمريكي سيفكر ألف مرة قبل أن يأخذ توكيًلا من شركة يهودية أو أمريكية ، وبذلك مع مرور الوقت سيجد أصحاب رؤوس الأموال البدائلَ المناسبة ، وستدور الدورة من جديد ، ولكن لصالح المسلمين.
6-ألا يشعر المسلمون بالأنفة والغيظ والهم والنكد لأنهم يعملون في مصانع وشركات أمريكية وإنجليزية بعد كل ما شاهدناه في أفغانستان والعراق , فضلاً عن أنها تؤيد اليهودَ ، سواء عن طريق الضرائب أو المساعدات المباشرة.(1/18)
لقد كان المصريون في السابق يأنفون من العمل في مصانع وشركات وثكنات الإنجليز لأنهم محتلون للبلاد.. كذلك كان يفعل الليبيون مع الطليان ، والجزائريون مع الفرنسيين.. فما الذي تغير؟
أليس لراحة النفس بالعمل في شركات المسلمين ثمن؟!
والله ، أرى أنه لو كان الثمنُ لهذه الراحةِ النفسية هو فارق المرتب فإنه ثمن زهيد.. حق زهيد..
7- اعتبر فارق المرتب هذا صدقة على المجاهدين ، وإسهامًا في قضايا المسلمين، وإنفاقًا في سبيل الله ، وما نقص مال من صدقة.. وستعوض من طريق آخرإن شاء الله.. أو يُسد عنك باب إنفاق .. هذا ما لا يشك فيه مؤمن..
الشبهة الثانية:
إننا بهذه المقاطعة نستعدي الشعب الأمريكي علينا ، فالشعب شيء والحكومة شيء آخر.
وعلى هذه الشبهة نرد ونقول:
1- المقاومة حق مشروع لا يختلف عليه اثنان.. نحن ندافع عن اقتصادنا وعن بلادنا وعن إخواننا..
إذا كان هناك اقتصادٌ سيعاني من أجل اقتصاد آخر ، فإنه من واجبنا أن نهتم باقتصادنا وإخواننا ، ولو كان على حساب اقتصادهم ، دون ظلم لهم أو عدوان..
أمريكا نفسها لما رأت السيارات اليابانية تغزو السوق الأمريكي ، وتؤدي إلى كساد السيارات الأمريكية رفعت الجمارك عليها ، لتجبر الناس على شراء المنتج الوطني.. بل لعلنا سمعنا مؤخراً عن بحث الكونجرس الأمريكي لقرار مقاطعة الطيران الفرنسي والجبن الفرنسي لأن فرنسا عارضت – مجرد معارضة – لقرار أمريكا في قضية حرب العراق , وكذلك يدرس الكونجرس مقاطعة الصادرات الألمانية , والتي تبلغ أكثر من 60 بليون دولار سنوياً , هذا مع العلم طبعاً أن فرنسا وألمانيا يعتبران من الحلفاء التقليدين لأمريكا , ولكن أمريكا تأنف أن تتعاون مع معارضيها!!(1/19)
2- لماذا الفصل بين الحكومة والشعب؟.. من أين أتت الحكومة؟! ألم تأت من الشعب؟ ومن الذي صعد بالرئيس الأمريكي والكونجرس الأمريكي أصحاب القرارات الظالمة إلى كرسي الحكم؟ أليس الشعب الأمريكي؟ ومن الذي يوافق على الظلم الأمريكي في الاستفتاءات المتكررة؟ أليس الشعب الأمريكي؟!..
3- الحكومة الأمريكية نفسها أتت بكثير من الشركات الأمريكية ، وفرضتها على كثير من دول المسلمين ، للتجارة أو للإعمار أو للتوظيف.. وكثير من هذه الشركات كانت تتجه إلى إفلاس مؤكد ، لولا تدخل الحكومة الأمريكية بفرضها على بلاد المسلمين.. لأن نجاح هذه الشركات في النهاية هو نجاح للحكومة الأمريكية ، وقوة هذه الشركات في النهاية هي قوة للحكومة الأمريكية.. وبالذات الشركات العملاقة التي توزع في أنحاء الأرض ، بما فيها بلاد المسلمين.. فتستطيع أن تعتبرها – بلا مبالغة – جزءًا رئيسيًا من الحكومة.
الشبهة الثالثة:
أن هذه الشركات ستنعش الاقتصاد المسلم بإنفاقها الأموال الغزيرة داخل بلادنا ، وبإقامتها للمشروعات العملاقة.
وعلى هذه الشبهة نرد ونقول:
1- هل ستنفق هذه الشركات 10مليون دولار مثلاً داخل البلد وتخرج خالية الوفاض؟ أم أنها ستخرج بأضعاف ما دخلت به؟!
2- هذا إنعاش مؤقت لأنه يقوم على شفا جرف هار.. وإلا فكيف تكون البنية الأساسية في الاقتصاد مملوكة لفريق لا يستغرب عداؤه ، ولا يُتوقع استمرار ولائه..
3- ما أدراك أن وراء الأمور أمور.. وأن هذه الشركات أو المصانع أو الهيئات تهدف في النهاية إلى إضعاف ، أو إهلاك الاقتصاد المسلم.. بطريقة نعلمها أو لا نعلمها.
وليس ببعيد ما فعله خبراء الزراعة اليهود الذين استخدموا أسمدة أدت إلى إنتاج أنواع عظيمة من الفاكهة والخضراوات عامًا أو عامين ، ثم أدت بعد ذلك إلى بوار الأرض.. ومثل شركات الأسمنت التي لا تستطيع أن تقيم مصانعها في بلادها خشية التلوث ، فتأتي بالمصانع إلى بلادنا.. وعلى نفسها جنت براقش!!(1/20)
الشبهة الرابعة:
إن هناك أشياء لا تصنع من الأصل في بلادنا ولا في بلاد المسلمين.. ولابد من استيرادها من الغرب..
وعلى هذه الشبهة نرد ونقول:
في حالة الاضطرار الأكيد فإننا نأخذ حكم المضطر في ذلك ، إلى أن يفتح الله علينا بتصنيع ما نحتاج إليه .. مع ملاحظة أن الاضطرار يجب أن يكون اضطراراً حقيقياً وليس نوعاً من الترف.
العالم به بدائل أخرى وإن لم تكن مسلمة ، لكنها من دول لا تعلن العداء السافر للمسلمين، فلا مانع من الاستعانة المؤقتة بها.
لابد أن يسعى المسلمون لعدم استيراد المنتج ، ولكن لاستيراد تكنولوجيا التصنيع ، بحيث يستطيع المسلمون مع مرور الوقت أن يكملوا احتياجاتهم ، ثم بعد ذلك يصنعون تكنولوجيا التصنيع ، وليس هذا بمستحيل.
على العقول المسلمة المهاجرة إلى بلاد الغرب أن تعود إلى بلاد المسلمين.. فليس من المعقول أن يبقى علماء الذرة يعلون من شأن الطاقة النووية الأمريكية ، ويبقى علماء الكيمياء والفيزياء يعلون من شأن المعامل الأمريكية ، ويبقى علماء الطب يعالجون الأمريكان ويتركون المسلمين في مرضهم..
الشبهة الخامسة:
إن بعض الناس يقولون أنهم لا يستطيعون الحياة بدون بعض المنتجات الغربية..
وعلى هذه الشبهة نرد ونقول:
اعتبر تخليك عن هذه الأشياء هو جهاد في سبيل الله.. استحضر فيه النية وستؤجر أن شاء الله.. وهو اختبار.. والأجر على قدر المشقة.. واعلم أنك إن كنت لا تحب الشيء الذي تقاطعه فليس هذا باختبار.. بل الاختبار أن تقاطع ما تحب ، بل ما تغلغل حبه في قلبك ، رغبة فيما هو أعظم.. وهو الأجر.
أحياناً يسيطر الإعلام على أفكارنا بحيث تتخيل الحياة صعبة بدون شيء معين.. عندما ترى إعلان المياه الغازية تشعر أنه لن تستقيم لك حياة ، ولن يصلح لك حال ، ولن تقوى لك عزيمة ، إلا بكوب المياه الغازية!!..(1/21)
والله ، كوب عصير القصب أو التمر هندي أو الكركديه أفيد مائة مرة من المياه الغازية. ودائماً ما ينصح الأطباء الناس بتجنب المياه الغازية ، وبالذات مرضى القولون العصبي ومرضى المعدة من قرحة أو التهابات أو خلافه ، وأيضاً بعض الأطباء يربطون هذه المشروبات بزيادة معدل تكوين الحصوات في الكليتين..
وفي النهاية إذا لم يستطع أحد الأفراد أن يقاطع منتجاً بعينه, فليقاطع المنتجات الأخرى الأمريكية واليهودية.. وما لا يدرك جله ، لا يترك كله..
فن المقاطعة
نريد أن نصل في النهاية إلى ما اسميه بفن المقاطعة أو الإبداع في المقاطعة أو التطور في المقاطعة.. وأعرض ذلك تحت خمسة عناوين ، والأمر مفتوح لعامة المسلمين الغيورين على أمتهم ، ليسهموا بإسهاماتهم ، ويدلوا بدلوهم ، وجزا الله خيراً كل من ساهم في تفعيل سلاح المقاطعة الخطير..
المقاطعة المتخصصة:
بمعنى أنه بالإضافة إلى عمل قوائم للمنتجات اليهودية والأمريكية ، والتي يقاطعها كل الناس ، يجب عمل قوائم أخرى تخصيصية أخرى توزع على أصحاب التخصص الواحد، ولا داعي لشغل بقية الأمة بها..
مثلاً الأدوية: من المعروف أن عامة الأمة لا يصفون لأنفسهم الأدوية ، فليس هناك داعي أن يعرف الناس جميعًا مصادر الأدوية ، لكن من المهم جدًا أن يعرف ذلك الأطباء والمستشفيات والصيدليات ، فتوزع قوائم بالأدوية على هذه الطائفة فقط من الناس, وهكذا المهندسون ، وهكذا الزراعيون ، وهكذا الكيميائيون..
المقاطعة المُعوضَة:
أيضًا في فن المقاطعة أن ترشد بوضوح إلى البديل.. اسميها (المقاطعة المعوضة).. لابد أن نبحث عن البديل الوطني ، وندل عليه ، ونعرف الناس به.. من المهم أن نثير ذلك في مجالسنا ، أو يكتبَ كلُ واحد منا البدائل لأقاربه وأصحابه وزملائه في العمل، حتى نسهل على الناس المقاطعة..
المقاطعة المتطورة:
أيضاً في فن المقاطعة البحث عن التطورات في السوق والاهتمام بها ونشرها:(1/22)
قد تشتري شركة يهودية أو أمريكية شركة أخرى ، فننبه إلى ذلك كما حدث عندما اشترت مؤخرًا شركة بطاطس أمريكية شركة أخرى وطنية..
قد تغلق شركة أمريكية أبوابها نتيجة المقاطعة ، فيشار إلى ذلك لتشجيع الناس.
قد تتبرع أحد المحلات الأمريكية لإسرائيل مباشرة ، فينشر ذلك حتى يشجع الناس على المقاطعة ، كما حدث من شركة كبيرة للأدوية ، فقد تبرعت لإنشاء المستوطنات اليهودية في فلسطين.
المقاطعة المستمرة:
أيضًا في فن المقاطعة الحديث عنها بصفة مستمرة ، والتذكير بها دائماً ، ففي عادة الناس أن تنسى ، وكثيرًا ما يكون المرء متحمسًا جداً لشيء ، لكن ينساه مع مرور الوقت، فإن أعيد التذكير به عاد حماسه ، وبالذات إذا أشير إلى حال المسلمين في فلسطين أو العراق ، وكيف يفعل بهم اليهود والأمريكان وأعوانهم..
المقاطعة المبتكرة:
من المؤكد أن هناك ابتكارات كثيرة في هذا الفن ، وليس المجال يتسع لشرح هذه الأمور ، لكن من المؤكد أن عقول المسلمين لا تنضب عن الأفكار الحسنة والذكية.. مثل استخدام الإنترنت ، أو رسائل المحمول ، أو الإعلان في الفضائيات ، أو غير ذلك من الابتكارات ، والله ولي التوفيق.
نصائح خاصة لكل طبيب
(1)ـ لن يتقوى اقتصاد البلاد الإسلامية إلا على ما ينتج بها ويصنع بداخلها, لا على الذي يستورد من الخارج، ومن ثم فإذا كنت تريد قوة لبلادك، فالخطوة الأولى أن تشجع المنتجات الوطنية الخالصة.(1/23)
... وهناك العديد من الشركات المصرية لإنتاج الدواء، وهي تحتاج إلى تشجيع وتفعيل، فحاول قدر استطاعتك كتابة الدواء المصري.. واختبر بنفسك جودة المنتج عند الشركات المصرية المختلفة حتى تستقر على أحدها، فإن لم تجد منتجاً مصرياً في أحد الأدوية فعليك بالبديل الأوروبي أو الأسيوي.. فهناك الكثير من الأدوية السويسرية والفرنسية والبلجيكية والألمانية والسويدية والكورية واليابانية، وهي على مستوى راق من الجودة، وتستطيع استخدامها إلى أن ينتج البديل الوطني لها، ولكن على كل الأحوال لا تكتب الدواء الأمريكي أو الإنجليزي, إلا في حالة الاضطرار الشديد، وعدم وجود بديل مطلقاً..
(2)ـ قم بعمل قوائم لأدوية المقاطعة الأمريكية والإنجليزية, والبدائل الوطنية لها, والبدائل الأوروبية في حالة عدم وجود البديل الوطني، واجعل هذه القوائم خاصة بالتخصص الذي تعمل به، فأطباء الباطنة لهم قوائم معينة، وأطباء العيون لهم قوائم أخرى، وأطباء الجلدية لهم قوائم ثالثة وهكذا..
ثم قم بعد ذلك بتوزيع هذه القوائم على أصدقائك في التخصص، وشجعهم على المقاطعة، وتابع معهم نتائج المقاطعة.. واستمع إلى تعليقاتهم على القائمة، وتعديلاتهم التي يرغبون فيها، وإضافاتهم لبعض الأدوية أو حذفهم لبعضها، وهكذا حتى تخرجوا بالقائمة في أفضل صورة ممكنة، ومن الأفضل تكوين لجنة للمقاطعة في كل تخصص تتولى متابعة هذه الأمور, حتى تضمن لها الاستمرارية والمداومة والتطوير..(1/24)
(3)ـ قل لمريضك أنك ستكتب الدواء المصري أو الأوروبي، وأنه دواء جيد ومناسب، وإنك لن تكتب الدواء الأمريكي أو الإنجليزي إلا في حالة الاضطرار, لأنك تقاطع المنتجات التي تأتي من بلاد معادية للمسلمين، ثم استغل الفرصة لسؤاله عن واقعه مع المقاطعة.. هل يقاطع أم لا يقاطع ؟ وإن لم يكن يقاطع فلماذا ؟ ولا مانع بتذكيره بآخر الأخبار في فلسطين والعراق وغيرها من بلاد المسلمين، وتذكر أن المريض ـ وهو في هذه الحالة من الضعف ـ يتأثر جداً بطبيبه، وكما يجد عنده علاجاً لآلامه الجسدية، فإنه يبحث عنده عن حل لمشكلاته الاجتماعية والنفسية والسياسية وغيرها.. فاستغل الفرصة ولو في دقائق معدودات..
(4)ـ بالنسبة لمندوبي شركات الأدوية فلك يا أخي الطبيب معهم دور هام:
* أما مندوبي الشركات الأمريكية والإنجليزية:
فأنا لا أوافق على ما يفعله بعض الأطباء من كتابة ورقة في عيادتهم تقول : "نحن لا نقابل مندوبي الشركات الأمريكية والإنجليزية" .. فهذا أسلوب جاف جداً في نشر فكرة المقاطعة.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمح بمقابلة من عبد غير الله أصلاً.. يناقش ويحاور ويشرح ويفسر.. فأنا أدعوك إلى أشياء اعتقد بشدة أنها في غاية الأهمية:
أولاً: عليك باستقبال هذا المندوب بترحاب كبير، وبأدب جم، وبصدر منشرح، وبابتسامة واسعة.. أنا أريد منك أن تبالغ في الترفق به.. ثم أجلسه في أدب.
ثانياً: استمع بصبر إلى شرحه لمنتجه.. ولا تقاطعه أثناء الشرح إلى أن يفرغ من شرحه..
ثالثاً: قل له أنك لا تختلف معه في الجانب العلمي في الحوار. وفي الأثر الفعال للدواء الذي يقدمه.(1/25)
رابعاً: أخبره أنك مع إقتناعك بأثر الدواء فإنك - للأسف الشديد – لن تكتبه لأنك تقتنع بفكرة مقاطعة المنتجات الأمريكية والإنجليزية.. ولأنك تعتقد أنه ليس من المعقول أن تشتري من أولئك الذين يسفكون دمائنا ويستبيحون ديارنا وحرماتنا، وقل له أنك تعتب على المصريين الذين يعملون في مصانع تحمل أسماء أمريكية حتى وإن كان معظم الدخل يدخل للمصريين. قل له كل هذا في ترفق شديد.. لأنه – ولا شك - واقع في فتنة كبيرة.. فالشركات الأمريكية والإنجليزية تعطي راتباً أكثر بكثير من الشركات الوطنية، وأنت إن كنت تتحدث عن منتج ستقاطعه، فهو يتحدث عن عمل سيفتقده..
خامساً: ابدأ في شرح فوائد المقاطعة والردود على الشبهات
سادساً: ادعوه صراحة إلى محاولة البحث عن عمل بديل
سابعاً: اطلب منه أن يقاطع المنتجات الأمريكية الأخرى
ثامناً: اطلب منه أن يحمل رسالة بأمانة إلى شركته الأمريكية أو الإنجليزية, وهي أن الطبيب فلان يخبركم أنه يقاطع منتجاتكم إلى أن تغير أمريكا من سياستها تجاه الإسلام والمسلمين
تاسعاً: لا تتوقع اقتناعاً كاملاً في لقاء عابر, فلا مانع من إهداء هذا المندوب كتيباً عن المقاطعة أو شريطاً عنها ثم اطلب منه أن يقرأه أو يسمعه بعناية ثم يعود إليك ليناقشه معك.
عاشراً: اخبره في النهاية أنك أحياناً تكتب الدواء الأمريكي إذا لم يكن له بديل مطلقاً، لأنك تهتم بصحة مرضاك، ولا تخاطر بصحتهم من أجل المقاطعة..
بهذا تكون قد أوصلت رسالة هامة قيمة لرجل مؤثر جداً. فهذا الرجل من ناحية سينقل هذه الأخبار إلى داخل الشركة الأمريكية، ومن ناحية أخرى ستضعف من طاقته التسويقية للمنتجات الأمريكية، ومن ناحية ثالثة فإنه قد يترك عمله وبذلك تفقد الشركة الأمريكية أفرادها، وهذا ولا شك سيؤثر عليها سلباً.. ومن هنا فلا مانع مطلقاً أن تنفق من وقتك مع هذا المندوب بالذات أكثر من غيره، ومن الواضح إنك ستفقد كل هذه المزايا إذا رفضت مقابلته أصلاً..(1/26)
* أما بالنسبة لمندوبي الشركات الوطنية:
فأخبرهم أنك تكتب منتجاتهم الآن لأنك تقاطع المنتجات الأمريكية، واطلب منهم أن يبلغوا شركاتهم أن هذه فرصة ثمينة لتحسين المنتجات، وللاهتمام بالجودة, لأن فرصة انتشار بضاعتهم كبيرة إذا كانت على مستوى طيب من الجودة، ولا تنس أن تتحدث مع المندوب عن فكرة المقاطعة للمنتجات الأمريكية والإنجليزية غير الطبية، وكيف يتفاعل معها هذا المندوب..
(5)ـ قاطع المؤتمرات الدولية الطبية التي تعقد في أمريكا وإنجلترا، ولا تكتفي بالمقاطعة، بل أرسل إليهم خطاباً أو بريداً إلكترونياً تخبرهم فيه أنك قاطعت المؤتمر في هذا العام لأنك لا توافق على سياسات أمريكا وإنجلترا ناحية أهل بلدك، وأنك لا تقبل أن تزور بلداً يقتل إخوانك، وإنك ستهتم بالمؤتمرات البديلة في البلاد الأخرى إلى أن تغير أمريكا وإنجلترا من سياستهما..
(6)ـ اجتهد ألا تشتري الأجهزة الطبية الأمريكية والإنجليزية قدر المستطاع، واستعمل الأجهزة البديلة، بالذات لو كنت في مكان اتخاذ القرار في مستشفى أو جامعة، أو لك اتصال بمن في يده أخذ القرار.. وتذكر أن هذه الأجهزة تكون أحياناً بمئات الألوف وأحياناً بالملايين من الجنيهات.. وقرار واحد بالمقاطعة قد يؤثر جداً على الشركة المنتجة..(1/27)
(7)ـ ضع في عيادتك كتيبات عن المقاطعة، وعن واقع المسلمين في فلسطين والعراق وغيرها، وبذلك تشغل المرضى بقراءة شئ نافع بدلاً من المطالعة في التلفزيون أو في مجلة لا قيمة لموضوعاتها، وتذكر انك مسئول عن وقت المرضى في أثناء تواجدهم بعيادتك.. ففي يدك أن توفر لهم سبل تحقيق الفهم الصحيح لبعض قواعد الدين، وأن تكثر من حسناتهم، وفي يدك أيضاً أن تجعل وقتهم هباءً منثوراً، وكذلك في يدك أن توفر لهم سبيلاً للمعاصي والآثام برؤية ما يغضب الله عز وجل.. فاحترس جيداً من هذا الباب.. واحرص على نفع مرضاك لتنفع نفسك.. كما أنصحك بتصوير كميات كبيرة من الورق الذي يشتمل على أسماء المنتجات الأمريكية والإنجليزية والتي يجب أن تقاطعها, ووزع بنفسك على كل مريض أو مرافق له ورقة، وشجعه على المقاطعة..(1/28)
(8)ـ لقد أنعم الله عليك ـ أخي الطبيب ـ بمكانة مرموقة في مجتمعك، وبصوت مسموع في المحافل التي تحضرها، وباحترام كبير في قلوب من يعرفك.. وهذه نعمة من الله عز وجل.. ونعم الله لابد أن نشكرها، وشكر النعمة يكون بصرفها إلى ما يرضي الله عز وجل.. ومن شكر نعمة هذه المكانة المرموقة أن تدعو غيرك إلى ما عرفته من الخير.. لا شك أنك تختلط بدوائر كثيرة جداً في حياتك، فلك اختلاط على سبيل المثال بدائرة العمل الواسعة.. معك الكثير من الأطباء وهيئة التمريض والموظفين والعمال ومندوبي الأدوية والأجهزة.. لك اختلاط كذلك بدائرة الأهل والأقارب.. لك اختلاط في دائرة الجيران.. لك اختلاط في دائرة المسجد.. لك اختلاط في دائرة النادي.. لك اختلاط في الندوات واللقاءات والصالونات الثقافية والمنتديات العامة والخاصة.. لك أصدقاء ومعارف.. لك اتصال بصحف ومجلات.. لك اتصال بشبكة المعلومات الدولية "الإنترنت".. لك اتصال بمن هو داخل البلاد وبمن هو خارجها.. لك اتصال بمن يعرفك ومن لا يعرفك.. وفي كل هذه الدوائر لك صوت مسموع.. فإن قلت في كل يوم كلمة عن المقاطعة مع أحد أفراد هذه الدوائر فقد فعلت الكثير.. كن إيجابياً, وتحرك في كل هذه الدوائر ولا تنتظر أحداً أن يدفعك إلى الحركة..
ولا تنس ـ أخي الطبيب ـ إن كنت أستاذاً في الجامعة أن هناك دوائر هائلة من الطلبة المتحمسين للعمل لهذا الدين لا يعرفون كيف يتحركون.. وأثرك فيهم واضح، وهم شديدو التأثر بأساتذتهم، وبالذات إن كانوا مخلصين في عملهم.. فكثف جهدك في هذه الدائرة.. فسوف يأتي من وراءها خير كثير إن شاء الله..(1/29)
(9)ـ أنت يا أخي الطبيب ـ فوق أنك طبيب ـ فأنت مواطن يعيش حياته الطبيعية في مجتمعه، فلا تقاطع في مجال المنتجات الطبية فقط، ولكن استمر على سياسة المقاطعة في كل المنتجات الأمريكية والإنجليزية الأخرى.. لا تأكل ولا تشرب ولا تلبس من تلك المنتجات.. لا تملأ سيارتك ببنزين من محطات أمريكية.. لا تتعامل مع بنوك أمريكية.. لا تشتري أجهزة كهربائية أمريكية أو إنجليزية..
واعلم أن الأطباء طاقة شرائية كبيرة، فلو تكاتفوا سوياً في هذا المجال فإن أثرهم ـ ولا شك ـ سيكون كبيراً..
(10)ـ النصيحة العاشرة ـ أخي الطبيب ـ هامة جداً، وهي أن ترفع من مستواك العلمي في تخصصك الدقيق حتى تصل إلى حد الإبداع والاختراع.. فلابد لنا من رؤية الأمور التي تفوق فيها الغرب علينا فنحاول أن نتقنها في بلادنا.. ثم بعد ذلك نطور فيها ونبدع فيها.. فنسد الثغرة الهائلة التي نقف عليها.. فليس من المقبول أن نقاطع دون محاولة اختراع البديل وتحسين المجال المهني بصفة عامة.. فليعمل كل طبيب عمله.. وليطور علمه.. وليجدد نيته وإخلاصه.. وليبدأ في العمل الجاد الدؤوب الذي يجعله أهلاً لحمل الأمانة، ويجعله أهلاً لتوريث الخبرات إلى الأجيال اللاحقة، فلا يحتاج الشباب أن يذهبوا إلى أمريكا ليلتقطوا العلم من هذا أو ذاك..
وهذا الباب لو نجحنا فيه، فإنه سيكون ـ إن شاء الله ـ بداية النشأة القوية للأمة..
وختامًا....
كلمة أخيرة..
أخي المقاطع في سبيل الله..
لا شك أنك ستتألم من مقاطعتك.. لا شك في ذلك.. بل هو ألمٌ كبير.. وليس هذا بمستغرب.. فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر..
اعلم أنك إن كنت تألم ، فألمك بأجر.. أما هم فيألمون ، وعليهم الوزر.. "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون"..
تذكر إخوانك المحاصرين في فلسطين والعراقِ وأفغانستان.. تذكر أنهم حرموا دون أرادتهم ، من أشياء قاطعتها أنت بإرادتك..(1/30)
تذكر آباءك وأجدادك، عاشوا طويلاً دون أشياءٍ، ادخل الناس في روعك أن الحياة بغيرها لا تستقيم ، وكذبوا..
تذكر عدوا يقتل بيد ويبيع بالأخرى.. كيف تشتري منه؟!..
تذكر يومًا عصيبًا طويلاً نحاسب فيه.. مقاطعتك حسناتٌ في رصيدك.. لا تضيعها..
تذكر أن حرمانك من أشياءٍ بسيطةٍ في الدنيا ، قد يورث جنةً لا حرمان فيها..
تذكر إلهاً ناظرًا إليك ، مراقبًا لأعمالك ، فرحًا بطاعتك ، مؤيدًا لخطواتك.. تذكر أنه يحب الصابرين ، ويحب المجاهدين ، ويحب المتقين ، فكن منهم..
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله.. إن الله بصير بالعباد..(1/31)