أخلاقيات مهنة الوراقة في الحضارة الإسلامية
عابد سليمان المشوخي
أستاذ مساعد، قسم علوم المكتبات والمعلومات، كلية الآداب،
جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية
(قدم للنشر في 1/6/1421هـ ؛ وقبل للنشر في6/3/1422هـ)
ملخص البحث. لمهنة الوراقة في الحضارة الإسلامية تعريفات متعددة خلاصتها أنها حرفة صناعة الورق، ونسخ الكتب والاتجار بها، إلى غير ذلك من الأعمال التي تدخل في صناعة الكتاب.
ومن المتعارف عليه أن لكل مهنة أخلاقيات، ومجموعة من القواعد والأصول المتعارف عليها عند أصحابها. ومهنة الوراقة في تاريخنا العربي الإسلامي من المهن التي عرفت منذ بداية التدوين وزاد انتشارها، واتسع نطاقها مع ظهور صناعة الورق.
وهناك فئات متعددة من الناس مارست مهنة الوراقة، ومن بين هؤلاء: وراقون، ونساخ، ومجلدون، وتجار، وهؤلاء لهم علاقة مباشرة بنسخ المخطوطات وإعدادها وتجليدها وبيعها. وقد ركزت هذه الدراسة على هذه الفئات بحكم احتكاكهم اليومي بالعلماء وطلاب العلم، وسلطت الضوء على آدابهم وسلوكهم، وأخلاقهم النابعة من عقيدة إسلامية راسخة قائمة على الأخلاق.
تمهيد
تبوأت الأخلاق في الإسلام مكانة رفيعة وأهمية بالغة، واعتبرها الأساس الذي تستند إليه كل معاملات الإنسان مع خالقه، ومع نفسه، ومع الآخرين، ولقد امتدح الله عز وجل نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ???????????????????????????????????????????????. (1)
__________
(1) سورة القلم، الآية 4.(1/1)
لقد جاء الإسلام بكل خلق حسن، وحث المسلمين على التحلي بالأخلاق الحميدة؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه." (1) وقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده." (2)
ونقل عن أكثم بن صيفي بن رباح التميمي -أحد حكماء العرب- في دعوته لقومه إلى الإسلام: "إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا لكان في أخلاق الناس حسنا."
وقد جعل الله الأخلاق مقياسا للخيرية، جاء في الحديث الشريف: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا." (3) وجعل الأخلاق من كمال الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا." (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن صاحب حسن الخلُق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة." (5) ومن أسباب دخول الجنة حسن الخُلق. "سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر من يُدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق." (6) وبحسن الخلق ينال الإنسان المسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرب منه مجلسا يوم القيامة. ففي الحديث: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا." (7)
__________
(1) ... محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح (الرياض: مركز الدراسات والإعلام – دار إشبيليا، د.ت.)، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 9:1.
(2) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، 8:1.
(3) البخاري، الجامع الصحيح، 7: 82.
(4) ... محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وشرحه (القاهرة: مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1398هـ/1978م)، حديث (1162).
(5) الترمذي، سنن الترمذي، كتاب البر، حديث (2003).
(6) الترمذي، سنن الترمذي، كتاب البر ، 62، حديث (2004).
(7) الترمذي، سنن الترمذي، كتاب البر، 71، حديث (2018).(1/2)
وعندما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن،" (1) أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف.
والخلق في الحياة يجعل سلوك الإنسان متصفاً بالثبات والتماسك والتوافق والاضطراد ، والخلق مظهر من مظاهر الالتزام بشرع الله عز وجل لأنه يعني احترام الناس، والوفاء بالعهد، والصدق في التعامل، واحترام المواثيق، وإتقان العمل، والأمانة، وغير ذلك من الصفات الحميدة التي يجب أن يتخلق بها الإنسان المسلم.
والعمل في مهنة الوراقة يتطلب من العاملين فيها سلوكا موافقا لشرع الله؛ فالأخلاق المهنية هي المبادئ والمعايير التي تعد أساسا لسلوك أفراد المهنة التي يتقيد أفرادها بالالتزام بها.
ولمهنة الوراقة آداب وسلوك ينبغي أن يلتزم بها جميع المنتمين إلى هذه المهنة.
وتمثل هذه الآداب أحد أشكال الرقابة الذاتية النابعة من عقيدة إسلامية، يؤمن بها الفرد إيمانا راسخا بأنه مراقب من الله عز وجل في كل أعماله وأفعاله وحتى أقواله، يقول الله عز وجل:????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????. (2) بالإضافة إلى مراقبة المحتسبين الذين يقومون بمراقبة أعمال الآخرين، وتقويم أعمالهم وفق الضوابط الشرعية، ومحاسبة من يخل بمهنته، وفق نظام العقوبة في الإسلام.
إن المسؤولية الأخلاقية في الإسلام مسؤولية ثابتة لا تتغير، بعكس المسؤولية القانونية التي تتغير حسب القوانين المعمول بها في مجتمع ما.
__________
(1) يحيى بن شرف النووي، صحيح مسلم بشرح النووي (القاهرة: دار الفكر، 1401هـ/ 1981م)، 6: 26.
(2) سورة ق، الآيتان 17- 18.(1/3)
علاوة على ذلك، نجد أن المسؤولية الأخلاقية في الإسلام تمارسها قوة الضمير والنفس والوجدان، بعكس المسؤولية القانونية التي تنفذها سلطة خارجية، من قضاء ورجال دولة؛ لأن الضمير هو الذي يسيطر على خافية الأنفس وما تخفي الصدور في الإنسان. والله سبحانه وتعالى الذي خلقنا يعلم ما في نفوسنا. قال تعالى: ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، (1) وقوله تعالى: ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، (2) وقال تعالى: ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????، (3) وقال تعالى: ???????????????????????????????????????????????????????? ?، (4) وهذا يعني أن الله رقيب على الرقيب من نفس الإنسان، ولا خير في الضمير إذا لم يكن حيا، فإذا تبلد الضمير تبلد معه الشعور، ووهنت الفضيلة والنخوة لديه، فالإنسان بلا ضمير هو إنسان ميت الحس. وبالتالي يصبح مجردا من الأخلاق الفاضلة، وهذا ينعكس على حياته اليومية، وعلى عمله الذي يمارسه، وتعامله مع الآخرين. فضمير الإنسان هو الموجه لسلوكه وأخلاقياته، والرقيب على أعماله ، والله يعلم السر والجهر، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والضمير الحي خير عاصم للإنسان من الزلل وقوة كبيرة لحفزه على أداء عمله على خير وجه. وعندما يعرف الإنسان أن هناك ربًّا يحاسبه على أعماله، وأنه رقيب عليه حيث كان، فإنه يفكر في كل عمل قبل أن يقدم عليه.
__________
(1) سورة ق، الآية 16.
(2) سورة الحديد، الآية 4.
(3) سورة طه، الآية 7.
(4) سورة الأحزاب، الآية 52.(1/4)
وبالنظر في أحوال الذين مارسوا مهنة الوراقة وأتقنوها من علماء ووراقين، ونساخ، ومجلدين، وغيرهم نجد أنهم كانوا على خلق كريم، وقد شهد لهم التاريخ بذلك.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن حجر العسقلاني عن أحمد بن سعد العسكري النحوي أنه نسخ بخطه وذكر أنه كان دينا شارك في الفضائل. (1) وذكر أن إسماعيل، الناسخ المعروف بالزمكحل، كانت كتابته للخط الدقيق إلى الغاية لا يطمس واوا ولا ميما. (2) وأن بكتمر الساقي كان من مماليك بيبرس، وكان يتلطف بالناس، ويقضي حوائجهم، وكان جيد الطباع، حسن الخلق. بيع له من الكتب والمصاحف ونسخ البخاري والنفائس ما لا يدخل تحت الحصر. (3)
والذين أساؤوا إلى مهنة الوراقة وصفتهم بعض المصادر، وكتب التراجم بالكذب والخيانة، وغير ذلك من الصفات السيئة، من خلال قيام البعض منهم بالتدليس، والكذب، والتزوير، والتزييف وغير ذلك من الأعمال التي لا تليق بخلق الإنسان المسلم الذي حسن إسلامه.
ومن الأمثلة التي أوردها ابن حجر العسقلاني -على سبيل المثال لا الحصر- ما ذكره عن محمد بن شريف الزرعي، المعروف بابن الوحيد، بقوله إنه بلغ الغاية في الخط، وكان يبيع المصحف نسخا بلا تذهيب ولا تجليد بألف، حتى أن بعض تلامذته كان يحاكي خطه، فكان هو يشتري المصحف من تلميذه بأربع مائة، ويكتب في آخره كتبه محمد بن الوحيد، فيشترى منه بألف. وكان يتهم في دينه حتى قيل إنه صب في دواته نبيذا، وكتب منها المصحف. وكان أخوه علاء الدين مدرس البادرائية يحط عليه، ويذكره بالسوء. (4)
__________
(1) أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (بيروت: دار الجيل، د.ت.)، 1: 135.
(2) العسقلاني، الدرر الكامنة، 1: 385.
(3) العسقلاني، الدرر الكامنة، 1: 486-487.
(4) العسقلاني، الدرر الكامنة، 3: 453.(1/5)
إن الأمثلة عن هؤلاء أو أولئك كثيرة جدا، في مصادر التاريخ وكتب التراجم، يطول سردها، ويصعب حصرها. ومن أراد الاطلاع على مزيد من الأمثلة، فلينظر -على سبيل المثال لا الحصر- إلى ما أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء ، وياقوت الحموي في معجم الأدباء ، والسخاوي في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع.
الهدف من الدراسة
تمتاز كل مهنة من المهن بوجود مجموعة من القيم والأخلاق التي يفترض أن يلتزم بها جميع العاملين فيها، وتُعد أخلاقيات المهن عنصرا ضروريا يضبط سلوك العاملين فيها؛ إذ أن لكل مهنة أخلاقيات، ومجموعة من القواعد والأصول المتعارف عليها عند أصحاب المهنة الواحدة.
ومهنة الوراقة، في تاريخنا العربي الإسلامي، من المهن التي عرفت منذ بداية التأليف، وزاد انتشارها، واتسع نطاقها مع ظهور صناعة الورق. وقد اتصف العاملون بمهنة الوراقة بمجموعة من الأخلاقيات والقواعد والأصول المتعارف عليها، والتي سلكوها فيما بينهم عند قيامهم بما يوكل إليهم من أعمال رئيسة أو فرعية داخل نطاق مهنة الوراقة، وعند تعاملهم مع الآخرين بمختلف مستوياتهم، وميولهم، وثقافاتهم، واتجاهاتهم.
ويمكن تلخيص أهداف الدراسة في النقاط التالية:
أولا: إلقاء الضوء على مهنة الوراقة، وكل ما يدخل في إطار هذه المهنة من أعمال.
ثانيا: التعرف على القيم الأخلاقية التي كان يتحلى بها بعض العاملين بمهنة الوراقة.
ثالثا: المساهمة في سد الفجوة القائمة في الدراسات العربية في مجال أخلاقيات مهنة الوراقة، من خلال بيان أخلاق العاملين بمهنة الوراقة، وتشجيع الباحثين للكتابة في هذا الموضوع، وإثراء الرصيد المعرفي في المجال. ويرمي هذا البحث أيضا إلى الإجابة عن بعض الأسئلة التي من أهمها:
- ما فئات العاملين بمهنة الوراقة؟
- ما الأعمال التي تندرج تحت مهنة الوراقة؟
- ما الضوابط الرئيسة لممارسة مهنة الوراقة؟
- ما السلوكيات التي تحكم أداء من ينتمي إلى مهنة الوراقة؟(1/6)
- ما نظرة الناس إلى من يمارس مهنة الوراقة؟
- ما الأمور التي يجب أن يتجنبها من يعمل في مهنة الوراقة؟
الدراسات السابقة
لم يعثر الباحث -من خلال اطلاعه على كثير من الكتب والبحوث- على دراسة تناولت موضوع أخلاقيات مهنة الوراقة بشكل مستقل ومباشر، فالدراسات حول أخلاقيات المهن قليلة؛ فالنديم، في كتابه الفهرست، لم يتحدث عن أخلاقيات المهن، بل إنه لا يذكر علم الأخلاق كفن مستقل، ولم يخصص له مقالة أو فنا من مقالة.
والخوارزمي في مفتاح العلوم لم يسجل أية اصطلاحات لعلم الأخلاق كما فعل بالنسبة للعلوم الأخرى، وابن خلدون لم يذكره ضمن العلوم الإسلامية.
وربما دخل علم الأخلاق ضمن علوم أخرى كالفلسفة والتصوف.فقد ذكر أن الفيلسوف الكندي (المتوفى سنة 246 أو 256هـ) له رسالة في علم الأخلاق، ورسالة في تسهيل سبل الفضائل، وثالثة في التنبيه على الفضائل، إلا أن هذه الرسائل التي أشار إليها النديم في كتاب الفهرست لم تصل إلينا.
وللفارابي كتابان الأول بعنوان المدينة الفاضلة ، والثاني بعنوان تحصيل السعادة، وهما يعالجان الأخلاق والسياسة معا، إلا أنه لم يشر إلى أخلاقيات المهن. علاوة على ذلك، نجد أن الفارابي تأثر في كتبه بالفكر اليوناني ومثله ابن سينا.
وأشهر من ألف في الأخلاق أحمد بن مسكويه (المتوفى سنة421 هـ)، له مؤلف بعنوان تهذيب الأخلاق ، إلا أنه ينقل عن الفلسفة اليونانية، ولم يتناول في كتابه أخلاق مهنة الوراقة.
ويتفق معظم الباحثين على أن الكندي، والفارابي، وإخوان الصفا، وابن سينا، ومسكويه، وابن ماجه، وابن طفيل، وابن عربي: "أقاموا مذاهبهم في الأخلاق على أساس من الفلسفة التي ثقفوها عن اليونان، معلنين ذلك غير مستخفين." (1)
__________
(1) ... محمد يوسف موسى، تاريخ الأخلاق، ط 3 (القاهرة: مكتبة صبيح، 1953م)، 164.(1/7)
وربما دخل علم الأخلاق ضمن التصوف؛ ومن أبرز علماء التصوف الحارث بن أسد المحاسبي (المتوفى سنة 243هـ) من أكابر الصوفية. من مؤلفاته الرعاية لحقوق الله تناول فيه بعض الموضوعات، من بينها آفات الأعمال، حيث شرح بعض الرذائل الخلقية، والإمام الغزالي ومن مؤلفاته في الأخلاق: ميزان العمل و إحياء علوم الدين .
وبالنظر في كتب هؤلاء وغيرهم، نجد أن أفكارهم حول الأخلاق قد تأثرت بطريقة أو بأخرى بالفكر اليوناني، ولم يتحدثوا عن أخلاقيات مهنة الوراقة.
وإذا نظرنا إلى علماء أهل الحديث وعلومه، نجدهم قد اكتفوا بتدوين الأحاديث النبوية المتعلقة بالأخلاق وبوبوها في فصول.
وأقدم سجل لهذه الأحاديث كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري، وفيه أصول أخلاقية، إلا أن البخاري لم يشرح ذلك.
وفي سنن ابن ماجه بابان من هذا النوع:"كتاب الأدب" و "كتاب الزهد." وفي كنز العمال لعلي المتقي الهندي أكبر مجموعة من الأحاديث التي تعلم الفضائل الإسلامية.
وهناك بعض الكتب التي اعتمدت على الأحاديث النبوية في موضوع الأخلاق. ومن ذلك:
- رسائل ابن أبي الدنيا.
- أدب الدنيا والدين لأبي الحسن البصري الماوردي (المتوفى سنة 450هـ).
وهذه المؤلفات وغيرها من الكتب التي تناولت موضوع الأخلاق لم تفرد حديثاً عن أخلاقيات مهنة الوراقة.(1/8)
إن موضوع أخلاقيات مهنة الوراقة لم يكتب فيه شيء مجموع إلا شيء يسير. من ذلك: كتاب المدخل لابن الحاج، ويكاد يكون هذا الكتاب الوحيد الذي تحدث عن أخلاقيات المهن بشكل عام، وأخلاقيات بعض الأعمال الداخلة ضمن مهنة الوراقة، من منطلق النظرة الفقهية لأداء العمل. أما الكتاب الآخر فهو معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي، تناول فيه الجانب العملي لكل من الوراقين والنساخ والمجلّدين والمذهّبين، وركز على سلامة أداء العمل، وتناول بعض وسائل الغش والتدليس، ونبه عليها. وبالإضافة إلى هذين الكتابين هناك بعض النتف المتفرقة هنا وهناك في بطون بعض المصادر، خاصة المصنفة في علم الفقه والحسبة وبعض كتب الفتاوى.
منهج الدراسة
اعتمد الباحث في هذه الدراسة على منهج البحث التاريخي، من خلال جمع النصوص المتعلقة بمهنة الوراقة، ومعلومات عن جملة من العاملين بهذه المهنة، ومن ثم تم استقراء تلك المعلومات بغرض تحقيق الأهداف المرسومة للدراسة سلفا.
وقد تم توزيع هذه الدراسة إلى تمهيد،وستة مباحث ثم خاتمة.
تناول المبحث الأول: الأخلاق وأخلاقيات المهنة.
والمبحث الثاني : ... تعريف الوراقة.
والمبحث الثالث: ... أخلاق الوراقين.
والمبحث الرابع: ... أخلاق النساخ.
والمبحث الخامس: ... أخلاق المجلدين.
والمبحث السادس: ... أخلاق التجار، ثم الخاتمة.
المبحث الأول: الأخلاق وأخلاقيات المهنة
أولا: معنى الخُلُق
الخُلُق -بضم الخاء واللام، ويجوز سكونها- في اللغة، معناه السجية والمروءة والطبع والدين، وجمعه أخلاق، والخلق اصطلاحا: هو قوة راسخة في الإرادة، تنزع إلى اختيار ما هو خير أو اختيار ما هو شر. (1)
__________
(1) ... محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب (بيروت: دار لسان العرب، د.ت.)، 1: 889.(1/9)
قال الراغب: الخَلق والخُلق بالفتح والضم في الأصل بمعنى واحد كالشَرب والشُرب، لكن خص الخَلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. (1)
وقال القرطبي: "الأخلاق أوصاف الإنسان التي يتعامل بها مع غيره، وهي محمودة ومذمومة؛ فالمحمود على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها، ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، وقضاء الحوائج، والتودد، ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك. (2)
ثانيا: معنى أخلاقيات المهنة
إن علم الأخلاق هو العلم الذي يبحث في الأحكام القيمية التي تتعلق بالأفعال الإنسانية من ناحية أنها خير أو شر.
والسلوك الأخلاقي هو السلوك الذي أقره الإسلام الذي رفع من شأن العمل إلى مصاف العبادة، وجعله من الواجبات المفروضة على المسلم. وقد سار الفقهاء والمشرعون بذلك، مستندين إلى القرآن الكريم والسنة النبوية.
وقد كان للوراقين القدح المعلى في ذلك؛ لأن أغلبهم من العلماء، والأدباء، والشيوخ والقضاة، وأرباب القلم، فقد أحبوا مهنتهم رغم معاناتهم منها. (3)
__________
(1) ... الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصبهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق أبي اليزيد العجمي ودراسته، ط3 (المنصورة: دار الوفاء، 1408هـ/1987م)، 113.
(2) ... أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرياض: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، د.ت.)، 1: 456.
(3) ... لمزيد من التفصيل انظر: خير الله سعيد، وراقو بغداد في العصر العباسي (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1421هـ/2000م)، 249.(1/10)
إن السلوك الأخلاقي يتكون من مجموعة القواعد التي تبين للأفراد كيف يجب أن يتصرفوا في الحالات والمواقف التي تعرض لهم، دون أن يخالفوا في ذلك ضمائرهم، أو ما أقره الشرع. ويعد تصرف الفرد غير أخلاقي إذا خدش قاعدة أخلاقية أقرتها الشريعة الإسلامية.
والمهنة كعمل، تتطلب من العاملين فيها، سلوكا لابد أن يكون موافقا للقواعد الأخلاقية المتفق عليها في المهنة.
إن الأخلاق المهنية هي المبادئ والمعايير التي تعد أساسا لسلوك أفراد المهنة المستحب، والتي يتعهد أفراد المهنة بالتزامها.
ولكل مهنة آداب وسلوك متعارف عليها بين العاملين فيها، بحيث يترتب على عدم الالتزام بها ومراعاتها النفور والنبذ من الآخرين. لهذا تُعد آداب سلوك المهنة أحد أشكال الرقابة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع الصغير المكون من العاملين في هذه المهنة، بالإضافة إلى مراقبة ولي الأمر لها ومحاسبة من يخل بشرف المهنة.
المبحث الثاني : تعريف الوراقة
تعني كلمة "وراقة"حرفة صناعة الورق، ونسخ الكتب، والاتجار بها. وقد وضح ابن خلدون مكونات مهنة هذه الصناعة بقوله: إنها معاناة الكتب بالاستنساخ، والتصحيح، والتجليد، وسائر الأمور الكتابية، والدواوين. (1)
ومن التعريف السابق، بالإضافة إلى ما نقلته لنا بعض المصادر، وكتب التراجم العربية، يتضح لنا أن هناك معاني عدة جامعة في هذا الاصطلاح، منها ما هو مهني، أو إبداعي، أو تجاري، أو ديني. ويمكن القول بأن مهنة الوراقة يندرج تحتها العديد من الأعمال التي منها:
1- نسخ الكتب، ويشمل أحيانا: تزويقها، وزخرفتها، وتذهيبها، وتصويرها.
2- تجليد الكتب.
3- تجارة الكتب.
4- بيع الورق، والأقلام، وأنواع المداد (الحبر).
5- الإشراف على صناعة الورق.
__________
(1) ... عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، د.ت.)، 421.(1/11)
6- إعداد قوائم الكتب والمؤلفات، وهو ما يطلق عليه اليوم " الوراقيات." وسوف يقتصر الباحث في هذه الدراسة على تناول أخلاقيات العاملين بنسخ الكتب، وتجليدها، والاتجار بها؛ لأنها من أكثر أعمال مهنة الوراقة التي لها احتكاك مباشر بالعلماء والأدباء بصفة خاصة.
ظهور مهنة الوراقة
إن ظهور مهنة الوراقة قد لازم ظهور صناعة الورق، وبالتالي يصبح تاريخ دخول الورق إلى البلاد الإسلامية، هو تاريخ ظهور مهنة الوراقة، وذكر الوراقين نجده منذ عهد هارون الرشيد، أي منذ استعمال الورق في الدواوين في القرن الثاني الهجري.
وهناك الكثير من العوامل التي أدت إلى انتشار مهنة الوراقة، واتساع نطاقها ومن هذه العوامل:
1- اتساع نطاق صناعة الورق في البلاد الإسلامية ورخص أسعاره.
2- ظهور حركة الترجمة، واتساع نطاقها وتشجيع الخلفاء والأمراء لها، خاصة في عهد المأمون.
3- انتشار المجالس العلمية، ومجالس الإملاء.
4- تشجيع الخلفاء والأمراء للعلم والعلماء وطلاب العلم؛ مما أدى إلى تزايد النشاط العلمي في مختلف فنون المعرفة.
مدح مهنة الوراقة وذمها
تعد مهنة الوراقة من المهن السامية التي احترفها الوراقون والنساخ بالإضافة إلى جملة من الوزراء والأدباء، والفلاسفة، والقضاة وغيرهم من العلماء في مختلف فنون المعرفة،وفي الوقت نفسه كانت مهنة الوراقة متعبة لبعض الناس في فترات معينة.
لقد عمل الكثير من الناس في مهنة الوراقة إما عن رغبة وحب لهذه المهنة، وإما بسبب ظروف معيشية صعبة ألمت ببعض العلماء وغيرهم؛ مما ألجأهم إلى ممارسة هذه المهنة، إلى غير ذلك من الأسباب.
وقد ذكرت لنا مصادر التاريخ، وكتب التراجم جملة من العاملين بمهنة الوراقة، فمنهم من مدح هذه المهنة، ومنهم من ذمها. وسنقتصر على بعض الأمثلة فيما يتعلق بمدح مهنة الوراقة أو ذمها.(1/12)
وممن امتدح مهنة الوراقة أبو علي بن شهاب العكبري (المتوفى سنة 428هـ/1036م). فقد "حدث عيسى بن أحمد الهمذاني قال: قال لي أبو علي، ابن شهاب (العكبري) يوما: أرني خطك فقد ذُكر لي أنك سريع الكتابة فنظر فيه فلم يرضه ثم قال لي: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضية، وكنت أشتري كاغدا بخمسة دراهم فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال وأبيضه بمائتي درهم وأقله بمائة وخمسين درهما، وكذلك كتب الأدب كانت مطلوبة. قال الأزهري: أخذ السلطان من تركة ابن شهاب ما قدره ألف دينار سوى ما خلفه من الكروم والعقار." (1)
وقال أبو بكر الداودي: سمعت أبا حفص بن شاهين (المتوفى سنة 385هـ/ 995م)، وهو من الوراقين ببغداد، يقول: "حسبت ما اشتريت من الحبر إلى هذا الوقت، فكان سبعمائة درهم. قال الداودي: وكذا نشتري الحبر أربعة أرطال بدرهم. قال: وقد مكث ابن شاهين بعد ذلك يكتب زمانا." (2)
__________
(1) ... أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1931م)، 7: 329 -330.
(2) ... عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (حيدر آباد الدكن: دائرة المعارف العثمانية، 1359هـ)، 7: 183.(1/13)
وهناك من ذم مهنة الوراقة، ورأى أنها مهنة متعبة، وقد عبر عن ذلك محمد بن أحمد الدقاق، المعروف بابن الخاضبة (المتوفى سنة 489 هجرية)، وهو أحد الوراقين الذين اتخذوا الوراقة مهنة لهم، ينفقون على أهلهم من منتوجها. وقد اضطر لإرهاق نفسه بالعمل المتواصل، إذ أنه نسخ في سنة واحدة صحيح مسلم سبع مرات. يقول ابن الخاضبة عن نفسه: "فلما كان ليلة من الليالي، رأيت في المنام أن القيامة قد قامت ومناديا ينادي ابن الخاضبة. فأحضرت، فقيل لي: ادخل الجنة. فلما دخلت الباب وصرت في الداخل، استلقيت على قفاي، ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت: آه، استرحت واللَّه من النسخ. (1)
وقد وصف الشاعر أبو محمد عبدالله محمد البكري الأندلسي مهنة الوراقة والنتائج التي تترتب على ممتهنها عندما قال:
أَمَّا الوِرَاقَةُ فَهِيَ أَنْكَدُ حِرْفَةٍ ... أَوْرَاقُهَا وَثِمَارُهَا الحِرْمَانُ
شَبَّهْتُ صَاحِبَهَا بِصَاحِبِ إِبْرَةٍ ... تَكْسُو العُرَاةَ وَجِسْمُهَا عرْيَان (2)
__________
(1) ... ياقوت الحموي، معجم الأدباء (بيروت: دار إحياء التراث، د.ت.)، 11: 184؛ 17: 228.
(2) ... أحمد بن محمد بن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس ( بيروت: دار صادر، 1972م)، 2: 279-280.(1/14)
يقول أحد الباحثين:وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من العلماء والفضلاء اشتغلوا بمهنة الوراقة، إلا أنه كان ينظر في بعض الأوقات إلى منتحلها بشيء من الازدراء. (1) فهذا علان الشعوبي، وكان صاحب دكان في سوق الوراقين، أحضر إلى دار أحد رجال الدولة العباسية ليكتب هناك وينسخ. فدخل الدار أحمد بن أبي خالدة يوما، فقام إليه جميع من فيها سوى علان الشعوبي فإنه لم يقم. فقال أحمد: "ما أسوأ أدب هذا الوراق. فسمعه علان فقال: كيف أنسب إلى سوء الأدب ومني تتعلم الآداب وأنا معدنها". وقد حصل شيء من هذا القبيل لأبي حيان التوحيدي؛ فقد كان ينسخ ذات يوم في دار الصاحب بن عباد، فرآه الصاحب. يقول أبو علان: فلما أبصرته قمت قائما. فصاح بحلق مشقوق: اقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا. (2)
وقد وصف أبو حيان التوحيدي، وهو أحد الوراقين المشهورين، حرفة الوراقة بأنها حرفة الشؤم. (3)
وقد شكا عدد من الوراقين من هذه المهنة الشاقة، ومن هؤلاء وراق من نيسابور يدعى أبا حاتم، عمل في المهنة لمدة خمسين سنة، وهو القائل:
إِنَّ الوِرَاقَةَ حِرْفَةٌ مَذْمُومَةٌ ... محرُومَة عَيْشِي بِهَا زَمَن
إِنْ عِشْتُ، عِشْتُ وَليْسَ لِي أكْلٌ ... أَو متُّ، متُّ وَليْسَ لِي كَفَن (4)
__________
(1) ... ربحي مصطفى عليان، "حركة الوراقين في الحضارة الإسلامية،" مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، 41، (1411-1412هـ/1991م)، 153.
(2) ... ياقوت ، معجم الأدباء، 15: 26.
(3) ... حبيب زيات، الوراقة و الوراقون في الإسلام، المشرق، 41 (تموز-أيلول 1947م)، 305-350.
(4) ... ياقوت ، معجم البلدان (بيروت: دار صادر، د.ت.)، 4: 463.(1/15)
وعندما سأل أحمد بن عبد الله بن حبيب، المعروف بأبي هفان، أحد الوراقين عن حاله، قال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرقُّ من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سوادا من الحبر بالزاج، وحظي أخفى من شق القلم، ويداي أضعف من قصبة، وطعامي أمرّ من العفص، وشرابي أحرّ مِن الحبر، وسوء الحال ألزم لي من الصمغ؛ فقلت له: عبرت عن بلاء ببلاء. (1)
إن الأخبار التي تناقلتها كتب التاريخ عن الوراقة (مدحا، وقَدْحا) كثيرة يطول سردها، ومع هذا فقد كان الوراقون روادا في نشر الثقافة الإسلامية، وانتشار العلم في أصقاع المعمورة، وهم الشعلة المضيئة التي أنارت الطريق أمام العلماء في مختلف فنون المعرفة؛ مما أدى إلى قيام نهضة علمية واسعة لم يشهد لها التاريخ مثيلا من قبل، وبخاصة في القرنين الثالث، والرابع الهجريين.
العاملون في مهنة الوراقة
ضمت مهنة الوراقة أناسا من مختلف مراتب الثقافة، بينهم وزراء، وقضاة، وفقهاء، وأدباء، وشعراء، وعلماء أجلاء، وطلاب علم، بالإضافة إلى القائمين على تجليد الكتب، والاتجار بها.
وسوف نركز في دراستنا هذه على أربع فئات من العاملين بمهنة الوراقة، ممن لهم علاقة مباشرة بنسخ المخطوطات، وإعدادها، وتجليدها، وبيعها. وهؤلاء هم:
1- الوراقون
2- النساخ
3- المجلدون
4 - التجار
المبحث الثالث: أخلاق الوراقين
عرّف ابن خلدون الوراقين بأنهم "الذين يعانون انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها." (2) وقال السمعاني: "الوراق اسم من يكتب المصاحف وكتب الحديث وغيرها،وقد يقال لمن يبيع الورق وهو الكاغد ببغداد الوراق أيضا." (3)
__________
(1) ... إبراهيم بن علي الحصري القيرواني، زهر الآداب وثمر الألباب؛ تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد (بيروت: دار الجيل، د.ت.)، 1: 555.
(2) ... ابن خلدون، المقدمة، 421.
(3) ... عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، الأنساب (ليدن: بريل، 1912م)، ورقة 579.(1/16)
أما كلمة "ورق" فهي "اسم جنس يقع على القليل والكثير، واحده ورقة وجمعه أوراق. وجمع الورقة ورقات، وبه سمي الرجل الذي يكتب وراقاً، ويسمى القرطاس والصحيفة والكاغد والطرس ومهرق." (1)
أعمال الوراقين
لم تقتصر أعمال الوراقين على نسخ الكتب فقط، فقد نجد بعض الوراقين ممن له القدرة على القيام بجميع الأعمال التي تندرج تحت مهنة الوراقة، أو القيام ببعضها، فهم مثل العلماء الأوائل الذين برعوا وأجادوا في كثير من فنون المعرفة، ولم يقتصروا على علم بعينه.
فها هو الطبري -على سبيل المثال- يعد من جهابذة التفسير، وفي الوقت نفسه، يعد من أبرز علماء التاريخ، ومثله في كثرة التصنيف في مختلف فنون المعرفة ابن القيم، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وغيرهم الكثير الكثير من العلماء. ويكفي أن يطَّلع أحدنا على كتب التراجم والسير، ليقرأ: فلان الأديب، الشاعر، الطبيب، المؤرخ، وفلان المحدث، المقرئ... إلى آخر ما هنالك من الكلمات الدالة على كثير من العلوم المتنوعة والمتعددة.
وكذلك كان شأن كثير من الوراقين؛ فمنهم المؤلف، والناسخ، والمجلد، والتاجر، والمزوّق، والمذهّب، والمصوّر ... إلى غير ذلك من الأعمال التي تندرج تحت مهنة الوراقة. ومن هؤلاء: النديم، والجاحظ، وياقوت الحموي، وغيرهم الكثير الكثبر في مختلف القرون، كانت لهم جهودهم الكبيرة والكثيرة في نسخ المخطوطات، وتجليدها، وبيعها، إلى جانب نشاطهم العلمي في التصنيف في مختلف فنون المعرفة.
ومن الأعمال التي كانوا يقومون بها:
أولا: اختيار الورق المناسب من حيث الحجم والنوع واللون.
ثانيا: القيام بنسخ الكتب، أو الإشراف على النساخ أثناء قيامهم بالنسخ.
ثالثا: القيام بإجراء المقابلة بين المخطوطات التي تم الانتهاء من نسخها، وبين الأصل الذي نقل عنه.
__________
(1) ... أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا (القاهرة: المطبعة الأميرية، 1331هـ /1913م)، 2: 476.(1/17)
رابعا: قيام بعضهم بتجليد الكتب.
خامسا: بيع الكتب والمؤلفات إلى جانب بيع الأوراق، والأقلام، وأنواع الأحبار.
من ناحية أخرى، نجد أنه ليس باستطاعة أي إنسان أن يكون ورّاقا، حيث إن لهذه المهنة شروطا أساسية، وبخاصة في مجال نسخ الكتب من أهمها:
- جودة الخط، ووضوحه وصحته.
- الضبط في النقل.
- دقة التزويق، والتذهيب، وبخاصة في كتابة المصاحف.
أخلاق الورّاقين
تحدث ابن الحاج عن أخلاق الوراقين، مبتدئا بنية الوراق الصادقة في أداء عمله، وصولا إلى التقنين الفقهي النظري لكيفية الأداء، حيث قال: "اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا السبب من أعظم الأسباب التي يتقرب بها إلى المولى سبحانه وتعالى إذا حسنت النية فيه؛ إذ أن القرآن الكريم يكتب في الورق، وتفسيره، والناسخ والمنسوخ، وما يتعلق به من العلوم، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وشرحه، وما احتوى عليه من الحِكم، والمعاني، والفوائد الجمة التي لا يأخذها حصر، وكُتب الفقه، وباقي العلوم الشرعية، وما يحتاج الناس إليه من كتب الصدقات، وعقود البياعات، والإجارات، والوكالات، إلى غير ذلك وهو كثير؛ وهذه من الأمور المهمة في الدين. فإذا كان المتسبب فيها ينوي بذلك إعانة إخوانه المؤمنين على قضاء مآربهم فيما يحاولونه، كان شريكا لهم فيما يحصل لهم من الثواب على فعل ذلك، مِن غير أن ينقص من أجورهم شيئا، فيحصل له هذا الثواب الجزيل، وإن كان قد أخذ عنه عوضا، فيكون بسبب نيته في ذلك من أجل العبادات، ويعول في رزقه على ربه عز وجل الذي قدره له." (1)
__________
(1) ... محمد بن محمد بن محمد بن الحاج، المدخل (القاهرة: دار الحديث، 1401هـ/ 1981م)، 4: 79.(1/18)
وهنا نجد أن ابن الحاج يخاطب الإيمان عند الوراق، لأن العقيدة الإسلامية تحض الإنسان المسلم على حسن الأخلاق في العمل، وتحسين النية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى..." فالقرآن الكريم يكتب على الورق، وكذلك التفسير، والأحاديث النبوية، وعلوم الدين الإسلامي، من فقه، وتوحيد، وعلوم شرعية أخرى، إضافة إلى ما يحتاجه الناس من أمور تتعلق بالدين والدنيا، بالإضافة إلى خدمة الناس.
ومن المحرمات الأخلاقية التي أشار إليها ابن الحاج والتي تمارس في مهنة الوراقة هو التأكيد على تجنب بيع الأوراق للظالم ومناصريه، وتجنب الكذب في نقل الروايات، وعدم نسخ ما لا يمتّ بصلة إلى الواقع.
ويرى ابن الحاج أنه لا ينبغي للوراق نسخ الحكايات المضحكة، وما أشبهها مما يلهو به المرء، لأن في هذا مضيعة للوقت، وهو ما نبه إليه كثير من العلماء. يقول ابن الحاج: "لأنه –أي الوراق- إن باع الورق لمن يكتب فيه ذلك فقد فعل ما لم يقله بلسانه، ولم ينوه بقلبه، فيدخل بذلك تحت هذه الآية الكريمة: ?????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? (1) فيرجع بعد أن كان في أعلى عليين إلى أسفل سافلين. (2)
__________
(1) ... سورة الصف، الآيتان2-3.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 80.(1/19)
والشريعة الإسلامية تربط النية بالبيع؛ فما دام المشتغلون بمهنة الوراقة مسلمين ففي ضوء النية يحاكم البائع –الوراق- يقول: فإن قال البائع مثلا: إني لا أعلم في الغالب حال المشتري، فالجواب أن الذي ينبغي في حق البائع أن يحمل المسلمين على الطهارة، والسلامة، حتى يتبين غيرهما،ثم إن المشتري قل أن يعرف حاله في هذا الزمان، بسبب غلبة الجهل على أكثرهم، لأنهم يرون أن ما هم فيه مباح أو مكروه، بل بعضهم انغمس في الجهل، حتى إنه يعتقد وجوب ذلك أو ندبه، فلا يستخفون بشيء مما هم فيه؛ إذ إنه لا يستخفي أحد إلا بالشيء الذي هو عنده معصيته، وهم عند أنفسهم ليسوا في معصية، بل بعضهم يفتخر بذلك. وهذا القيد الإيماني قد يخلق حالة من التوتر والتجافي بين البائع والمشتري، الأمر الذي ينعكس على حالة السوق والمهنة، إضافة إلى الوضع النفسي بين الطرفين. لذلك اقترح ابن الحاج اقتراحا فقهيا يقول فيه: وليحذر من أنه إذا رأى ما يكره في المشتري أن يظهر له الكراهة، بل يذكر أعذارا مانعة له من بيعه؛ إذ أنه أظهر ذلك له، أو عرض له به في هذا الزمان،ترتبت بسبب ذلك فتن كثيرة، قل أن يتخلص منها، والأعذار كثيرة، فليحذر على نفسه من ذلك؛ وهذا الذي يتعين عليه، إذ لا يجب عليه أن يسأل عن أخبار النساء، ولا يكشف عن أحوالهن، فإن فعل ما تقدم ذكره، ثم تبين أنه باع لمن لا يرتضي حاله في الشرع الشريف، من غير شعوره بذلك، فقد سلم من الإثم، لأنه قد فعل ما تعين عليه الورع في تسببه وتصرفه؛ فذلك له حكم يخصه، هو أن لا يبيع ولا يشتري ممن يحوك في نفسه شيء ما يكرهه الشرع. (1) وهنا نجد أن الأمر متروك للوراق، وحسن تدبيره، إذا توافر شرط النية الصادقة فيه.
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 80.(1/20)
ويقترح ابن الحاج في هذا الموضوع ما يأتي : "إذا وقع له -أي للوراق- ذلك، فليتحيل على فسخ العقد، فإن لم يمكن ذلك فهو مخير بين رد الثمن على صاحبه، إن تعين له في ذلك منفعة ما بحسب ما يراه، وإلا فليتصرف به ولا يدخله في ماله، ولا ينتفع به، وهذا عام في الثمن والمثمنون، وفي الوراق وغيره، ممن تقدم ذكره أو تأخر." (1)
وهنا يلاحظ أن نية الوراق هي الأساس والأصل، وقد أكدت الشريعة ذلك قولا وعملا، بل عدت النية شرطا في صحة إسلام المسلم. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى." (2) ومن هنا نجد أن تشديد ابن الحاج على مسألة النية إنما ينطلق من أساس الشريعة الإسلامية، حيث عد شرط النية من الثوابت في أي عمل يقوم به الإنسان المسلم.
وعن أهمية الخطوات العملية التي يقوم بها الوراق أثناء ممارسته لمهنة الوراقة وسلامتها، يقول السبكي: "هي من أجود الصنائع، لما فيها من الإعانة على كتابة المصاحف وكتب العلم، ووثائق الناس وعهدهم. فمن شكر صاحبها نعمة الله تعالى أن يرفق بطالب العلم وغيره، ويرجح جانب من يعلم أن يشتري الورق لكتابة كتب العلم، ويمتنع عن بيعه لمن لا يعرف أنه يكتب ما لا ينبغي من البدع والأهواء ومن شهادات الزور والمرافعات وأنحاء ذلك." (3)
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 80-81.
(2) ... البخاري، الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، 1: 2.
(3) ... عبد الوهاب بن علي تاج الدين السبكي، معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق محمد علي النجار وآخرين (القاهرة: دار الكتاب العربي، 1367هـ/1948م)، 132.(1/21)
ومن الأخلاق الحميدة التي ينبغي أن يتحلى بها الوراق المسلم: طلب الإذن من صاحب المخطوط بأن يأذن له بنسخ "المسودة." وإذا وافق المؤلف، يبدأ الوراق بالنسخ، مراعيا كل نقاط منهج الوراقة، لتخرج "المسودة" بصيغة كتاب مستوف للشروط، من حيث المقابلة، والتصحيح، وغير ذلك من الأمور التي يقوم الوراق بمراعاتها عند تبييض نسخة المؤلف، كذكر البسملة، ومقدمة الكتاب التي تتضمن فاتحة الكتاب بعد البسملة، واستهلال الكلام بعد البسملة والدعاء بكلمة أما بعد. ...
وقد يحدث أن يكون المؤلف في بلد آخر، والوصول إليه صعب ومكلف. ففي هذه الحالة، يقوم بعض الوراقين بنسخ كتابه، ثم يحرص على الالتقاء به لأخذ موافقته. ومن أمثلة ذلك ما قام به ياقوت الحموي من نسخ كتاب ابن العديم الأخبار المستفادة من ذكر بني أبي جرادة وهم أهل ابن العديم ونسبه إليهم، وظل محتفظا به مدة إلى أن صادفه في إحدى جولاته، وقرأه عليه فأقر به." (1)
وبهذا فقد حصل ياقوت الحموي على الإجازة بعد هذا الإقرار من المؤلف. وبذا يحق له نسخ المخطوط.
الأمانة والابتعاد عن الغش: ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم "من غشنا فليس منا." (2) وقد نصت شروط الوراقين على أنه ينبغي للوراق أن يحذر من الغش، ومثال ذلك إعطاء الدست (3) الذي يساوي ثلاثة دراهم، فيبيعه على أنه من الدست الذي يساوي أربعة، لأن الورق في ذلك يختلف ثمنه، بسبب صفته، فقد يكون ورقا زائدا في البياض وفي الصقال، أو يكون مما في الصيف، وآخر عكسه، يعني فيه سمرة ونقص في الصقال أو البياضة وعمل في الشتاء وما بين ذلك. (4)
__________
(1) ... ياقوت ، معجم الأدباء، 16: 5-7.
(2) ... النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، 2: 108 ، وهو جزء من حديث رواه مسلم في الإيمان، 101 ، باب (43) ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا."
(3) ... هو الرزمة من الورق.
(4) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 81.(1/22)
ومن الأمور التي حافظوا عليها في تعاملهم الأخلاقي:عدم خلط أصناف الورق: حيث اعتبروا هذا الفعل نوعا من أنواع التدليس على المشتري، لأن الورق الخفيف لا يحتمل الكشط (1) لخفته، وعليه أن يكون ذلك عنده بمعزل، وتكون علاقة بائع الورق بالناسخ علاقة مهنية بحتة، يدخل فيها الجانب الأخلاقي من زاوية (المنفعة المتبادلة)؛ وبذا يتوجب على الأول أن يبيع للثاني، ويعطيه ما يوافقه منه، وإن علم أنه ممن يكتب فيه الرسائل –يعني الورق- أعطاه من الورق الخفيف بعد أن يبين له ذلك. (2)
التأكد من خلو الورق المعاد تصنيعه من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ولفظ الجلالة: يقول ابن الحاج: "ويتعين على الوراق الذي في الوراقة أن لا يعمل شيئاً من الورق المكتوب إلا بعد أن يعرف ما فيه، لأنه قد يكون فيه شيء له حرمة شرعية، بل هو الغالب. فإذا نظر فيه عرف ما فيه من الكتاب العزيز، أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو اسم من أسماء الله تعالى، أو اسم نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو اسم ملك من الملائكة عليهم الصلاة والسلام؛ فيجتنب ذلك كله لحرمته وتعظيمه في الشرع الشريف، لأن الصناع يدوسون ذلك بأرجلهم وغيرها، وهذا من أعظم ما يكون من الامتهان." (3)
__________
(1) ... ويسمى الحك أو البشر.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 82.
(3) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 82.(1/23)
ومن أخلاق الوراقين: أن يباشر الوراق العمل بنفسه، ولا يوكله إلى من دونه، فقد يسيء إلى هذا العمل، كما أنه يتحمل مسؤولية هذه الإساءة، كمن يشتري المصاحف من تلاميذه الذين يقلدون خطه، ثم ينسبه لنفسه، لأن خطه مشهور، ويبيعه بسعر مرتفع، ومثال ذلك -كما ذكرنا سابقا– ابن الوحيد (المتوفى سنة 711 هـ). فقد كان يتقن النسخ، فكانت أعماله رائجة تباع بأعلى الأثمان، ويبدو أن الطلب على أعماله كان كبيرا؛ مما دفع به إلى شراء ما كان ينسخه بعض تلاميذه الذين كانوا يقلدون خطه ويكتب في آخره اسمه ثم يبيعه بسعر مرتفع. (1)
أن يقوم بأمانة وإخلاص بمقابلة النسخة التي انتهى من كتابتها بالأصل الصحيح الموثوق به، مع التدقيق، وبدون زيادة أو نقصان، بحيث يحدث التماثل بين النسخة التي بين يديه والنسخة التي نقل عنها حتى يستويا مع تصحيح الأخطاء.
جاء في أدب الكتاب:" فإن الوراقين ينتبهون إلى الخطأ، وهو في اللغة ضد الصواب، (2) فيصححونه، ثم لا يأخذون بالمشق (3) في الكتابة، ولم يتعاطوا في مهنتهم بـ"الزلف"، وهو تجاوز الشيء إلى شيء غيره، (4) ثم إنهم أخذوا بمبدأ "عرض الكتاب،" وهو إمرار الطرف عليه بعد الفراغ منه، لئلا يقع في خطأ. (5) ومن ثم انتبهوا جيدا إلى مسألة "اللحن في الكتابة،" وعدوا ذلك من العيوب. لذلك قالوا: "اللحن في الكتاب أقبح منه في الخطاب." (6)
__________
(1) ... العسقلاني، الدرر الكامنة، 4: 73.
(2) ... محمد بن يحيى الصولي، أدب الكتاب (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995م)، 122.
(3) ... المشق : إدماج الحروف مع ما قبلها ومع ما بعدها.
(4) ... الصولي، أدب الكتاب، 123.
(5) ... الصولي، أدب الكتاب، 127.
(6) ... الصولي، أدب الكتاب، 130.(1/24)
وقد بلغت عناية العلماء بالمقابلة إلى الحد الذي عدوا فيه النص المنقول بدون معارضة كأنه لم يكتب. يؤكد هذا ما رواه هشام من أن والده عروة بن الزبير قال له: "كتبت؟ قال: نعم. قال: عارضت؟ قال: لا. قال:لم تكتب." (1)
ويروى عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: "الذي يكتب ولا يعارض، مثل الذي يدخل الخلاء ولا يستنجي." (2)
وقد تأثر النساخ من علماء المسلمين، وغيرهم من الوراقين بهذا المنهج، رغبة منهم في الوصول إلى أصوب الروايات وأصحها، وبالتالي كانوا يقابلون ما ينسخونه على الأصل، ثم على النسخ الأُخر إذا ما توافرت، أو يقرأونه على الشيخ إن كان حيا.
ولهذا يشير بعض النساخ من الوراقين في نهاية المخطوط إلى أن نسختهم قد تم نقلها عن نسخة المؤلف، أو عن نسخة كتبت عن نسخة المؤلف، أو من نسخة قرئت على المؤلف.
__________
(1) ... عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، أدب الإملاء والاستملاء (بيروت: دار الكتب العلمية، 1981م)، 79.
(2) ... يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله (بيروت: دار الكتب العلمية، 1978م)، 1: 77.(1/25)
ثم رأوا أن الكتاب إذا صحح بالمقابلة على أصل صحيح أو على شيخ، فينبغي أن يعجم المعجم، ويشكل المشكل، ويضبط الملتبس، ويتفقد مواضع التصحيف. أما ما يفهم بلا نقاط، ولا شكل، فلا يعتني به لعدم الفائدة، فإن أهل العلم يكرهون الإعجام والإعراب إلا في الملتبس والمشتبه. (1) وسبب ذلك أن إعجام الخط يمنع من استعجامه، وشكله من إشكاله. وقال بعضهم: رب علم لم تعجم فصوله استعجم محصوله. علاوة على ذلك ليس كل الناس يعرفون النطق أو القراءة من غير علامات الإعراب. فقالوا في ذلك: "ينبغي الإعجام والشكل للمكتوب كله، والمشكل وغيره، لأجل المبتدئ في ذلك الفن، كما جاء في وصية القاضي عياض قوله: لأن المبتدئ لا يميز ما يشكل وما لا يشكل ولا صواب الإعراب من خطئه، ولأنه ربما يكون الشيء واضحا عند قوم مشكلا عند آخرين، بل ربما يظن لبراعته المشكل واضحا، ثم قد يشكل عليه بعد، وربما وقع النزاع في حكم مستنبط من حديث يكون مستنبطا من حديث يكون متوقفا على إعرابه كحديث "زكاة الجنين زكاة أمه." فجمهور الشافعية والمالكية، وغيرهم لا يوجبون زكاته بناء على رفع زكاة أمه، بالابتدائية والخبرية، وهو المشهود في الرواية، والحنفية وغيرهم يوجبونها على نصب زكاة الثانية على التشبيه، أي يزكى مثل زكاة أمه. ومثل هذه الأمور كثيرة، وقد أشاروا إليها. (2)
ثم يؤكد العلموي أهمية ضبط الملتبس من الأسماء، إذ لا يدخلها قياس، ولا قبلها ولا بعدها شيء يدل عليها. وأضاف: وإذا احتاج إلى ضبط الشكل في الكتاب وبيانه في الحاشية قبالته فعل. (3) وفي هذا جواز استخدام الحاشية لتوضيح بعض الرموز في النص، وكثيرا ما نجد في المخطوطات العربية بعض الأمور، كالكلمات والعبارات التوضيحية.
__________
(1) ... عبد الباسط بن موسى بن محمد العلموي، المعيد في أدب المفيد والمستفيد (دمشق: المكتبة العربية، 1349هـ)، 135.
(2) ... العلموي، المعيد، 135-136.
(3) ... العلموي، المعيد، 136.(1/26)
فالناسخ إذا كتب في النص كلمة، أو خطأ ورد في النص، وأراد توضيحه، أوضحه في الحاشية القريبة من الخطأ، وكتب فوقها كلمة صغيرة بيان أو حرف "ن،" وله أن يكتبها في الحاشية بصورتها، وله أن يكتبها مقطعة الأحرف بالضبط، ليأمن اللبس والاشتباه، وله أن يضبطها بالحرف كقوله: بالحاء المهملة والدال المهملة، والتاء المثناة، والتاء المثلثة ونحو ذلك. (1)
ثم إنهم وضعوا في بعض الأحيان إشارات معينة لتسهيل القراءة، وهي مما يلحق بضبط المعجم، كأن يكتب في باطن الكاف المعلقة كافاً صغيرة "ك" أو همزة، ويكتب في باطن اللام هكذا ( لام ) ولا يكتب هكذا. (2)
وقد أشار العلموي إلى بعض الكلمات التي تستخدم أثناء التصحيح بقوله: ينبغي أن يكتب -أي الناسخ- على ما صححه وضبطه في الكتاب، وهو في محل شك عند مطالعته، أو تطرق احتمال (صح) صغيرة ويكتب فوق ما وقع في التصنيف أو في النسخ وهو خطأ (كذا) صغيرة، أي هكذا رأيته، ويكتب في الحاشية (صوابه كذا) إن كان يتحققه أو يكتب (لعله كذا). (3)
وقد يجد الوراق، بعد الانتهاء من النسخ، وأثناء القيام بالمقابلة، بعض الزيادة أو بعض العبارات غير مترابطة مع بعضها البعض، أو نقصا، أو خلاف ذلك؛ الشيء الذي يتطلب منه معالجة ذلك الأمر.
ومن الطرق التي اتبعوها:
1- حذف الزيادة من النص بكتابة لفظة "من" في أوله، أو لفظة "لا" وكتابة لفظة "إلى " في آخره.
2 - الضرب على الزيادة بخط، أو إحاطة النص الزائد بخط حوله، أو الضرب على السطور الزائدة بخطوط أفقية أو عمودية دون طمسها.
3 - محو الكلمات بالإصبع، أو بالخرقة.
4 - بشر الورق بسكين ونحوها. وهذا يسمى الكشط.
وبعض النساخ يستخدم كلمة "سهو" في حذف الزيادة الناتجة عن التكرار، أو كلمة "مكرر."
__________
(1) ... العلموي، المعيد، 136.
(2) ... العلموي، المعيد، 136.
(3) ... العلموي، المعيد، 136.(1/27)
أما بالنسبة لإكمال النقص، أو السقط من أصل الكتاب، فيتم إلحاقه في الحاشية، حيث يخط الناسخ خطا من موضع سقوطه من السطر، صاعدا إلى فوق، ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة، إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها الملحق. ويبدأ في الحاشية بكتابة الملحق مقابلا للخط المنعطف، ويكتب الملحق صاعدا إلى أعلى الورقة، لئلا يخرج بعده نقص آخر، فلا يكون ما يقابله في الحاشية فارغا له لو كتب الأول نازلا إلى أسفل.
وإذا تكررت كلمة أو أكثر سهوا، ضرب على الثانية لوقوع الأولى صوابا في موضعها، إلا إذا كانت الثانية أجود صورة وأدل على القراءة، وكذلك إذا كانت الأولى آخر سطر، فإن الضرب عليها أولى، صيانة لأول السطر، وبالجملة فصيانة أول السطور وآخرها متعين، إلا أن مراعاة أولها أولى كما يقولون.
ومن المسائل المهمة التي اتبعوها: الاختصار والفصل بين الكلام، حيث أكد على الوراق أهمية أن يفصل بين كل كلامين أو حديثين بدائرة، أو قلم غليظ عند النسخ، ولا يصل الكتابة كلها على طريقة واحدة، لما فيه من عسر استخراج المقصود، ورجحوا الدائرة على غيرها.
ودأب الكثير من الوراقين على اختصار الكلمات التي تتكرر كثيرا في النص في كتب الحديث والتاريخ، على وجه الخصوص، توفيرا للوقت مثل: حدثنا، أخبرنا ونحو ذلك كثيرا.
كما أنهم أوجدوا رموزا خاصة للدلالة على بعض المصطلحات التي تخص كتب الحديث مثل: حرف (خ) لصحيح البخاري، وحرف ( م ) لصحيح مسلم، وحرف (ت) لسنن الترمذي، وحرف (د) لسنن أبي داود، وحرف (ن) لسنن النسائي، و (جه) لابن ماجه و (ط) للدارقطني ونحو ذلك.
وقد ذكر القيرواني الأمور التي يجب أن يراعيها الوراق أثناء النسخ بقوله: إنه ينبغي أن يصحبها الفكر إلى استقرارها، ثم تستبرأ بإعادة النظر فيها بعد اختيارها، ويوسع بين سطورها، ثم تحرر على ثقة بصحبتها، وتتأمل بعد التحرير حرفا حرفا إلى آخرها.(1/28)
فقد كتب المأمون مصحفا اجتمع عليه، فكان أوله: بسم الله الرحيم، فأغفلوا الرحمن، لأن العين لا تعتبر ذلك، ثقة أنه لا يغلط فيه،حتى فطن المأمون له. (1)
أخطاء الوراقين
لم يكن كل الوراقين من أهل الثقة والعلم، وإنما كان منهم المحترفون الذين أساءوا للوراقة بالمبالغة والكذب، والاختلاق، والتزوير، والانتحال، ففرطوا بالأمانة العلمية، حيث كانوا يزورون الحقائق، أو ينسبون كتبا إلى غير مؤلفيها، أو يدسون معلومات من عندهم إلى الكتاب، أو يضعون اسم مؤلف كبير على كتاب ليس من تأليفه، ولقد وجدت هذه الفئة مجالا واسعا للكسب من كتب الأسمار والخرافات، إذ كانت هذه الكتب مرغوبة في أيام العصر العباسي.
ولو نظرنا إلى أحوال مثل هؤلاء الذين أساءوا إلى مهنة الوراقة من خلال ما ارتكبوه من أعمال تخل بالمهنة وشرفها، لنجد أكثرهم من ضعاف النفوس، ومن ضعاف الإيمان، لأنهم لم يتخلقوا بأخلاق الإسلام التي تدعو إلى إتقان العمل، وأدائه بإخلاص وأمانة، وتدعو إلى الوفاء بالعهد، واجتناب الغش، وخداع الناس.
وقد أشارت مصادر التاريخ، وكتب التراجم إلى جملة من هؤلاء، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، النموذجين الآتيين :
_ علي بن يحيى بن فضل الله بن مجلي العدوي (المتوفى سنة 737هـ) كان يغش الورق ويزوّر. قال عنه ياقوت: كان يعتق الورق والحبر، وينقل القطع بخط الولي العجمي، وابن البواب، وغيرهما ممن تقدم وتأخر، فلا يشك من ينظر ذلك من كتاب المنسوب أنه خط من نقله منه، إلا الفرد النادر. (2)
- السري بن أحمد الرفاء (المتوفى سنة 362هـ) اشتغل بالوراقة، وكان ينسخ دواوين الشعر ويزيد فيها بتصرف من عنده ليزيد في حجمها ويسوقها. (3)
المبحث الرابع: أخلاق النساخ
__________
(1) ... القيرواني، زهر الآداب، 1: 155.
(2) العسقلاني، الدرر الكامنة، 3: 213.
(3) ياقوت ، معجم الأدباء، 11: 184.(1/29)
النساخ هم الذين ينسخون الكتب لقاء أجر معلوم، أو من المكثرين بغير أجرة، واشتق منه مصطلح النساخة (1) مقابلا لمصطلح التوريق، عندما يقصد به نسخ الكتاب. وقد كثرت أعدادهم مع انتشار صناعة الورق في العصر العباسي. وكان لهؤلاء دور واضح في المحافظة على تراث حضارتنا، من خلال نسخهم المستمر لكنوز الثقافة، منذ بداية التدوين وحتى عصر الطباعة.
وهنا يقول ابن الحاج عن النساخ:اعلم رحمنا الله وإياك أن الناسخ في الأجر والثواب يربو على الوراق، لأنه في عبادة عظيمة، إذ أنه لا يخلو من أن يكون نسخه في كتاب الله تعالى، أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو في الفقه، أو غيره من العلوم الشرعية. (2)
تميز النساخ ببعض الصفات الحميدة، شأنهم في ذلك شأن الوراقين، حيث تميز جلهم بأخلاقيات مهنة الوراقة والتي منها: وضع الكتاب أثناء النسخ في مكان مرتفع. وفي هذا يقول العلموي: إذا أراد كاتب أن ينسخ من الكتاب أو يطالعه ألا يضعه مفروشا على الأرض، بل يجعله مرتفعا. (3)
__________
(1) عبد الله الحبشي، الكتاب في الحضارة الإسلامية (الكويت: شركة الربيعان للنشر والتوزيع، 1982م)، 30.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 82.
(3) ... العلموي، المعيد، 131.(1/30)
ويبين لنا هذا منزلة الكتاب في الحضارة الإسلامية. وقد ذكرت لنا بعض المصادر عناية الأوائل بالكتاب والمحافظة عليه؛ فكانوا يضعون الكتب على شيء مرتفع حتى لا تتعرض للبلل، وإذا وضعت الكتب مصفوفة، فلتكن على شيء مرتفع عن الأرض، لئلا تندى فتبلى، ويراعى الأدب في وضعها باعتبار علومها، فيوضع الأشرف أعلى الكل، فإن استوت كتب في فن، فيراعى شرف المصنف فيجعله أعلى، وليجعل المصحف الكريم أعلى الكل، والأولى أن يكون في خريطة ذات عروة في مسمار ونحوه في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس، ثم يلي المصحف،كتب الحديث كالبخاري ومسلم، ثم تفسير القرآن، ثم تفسير الحديث، ثم الفقه، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم النحو والتصريف، ثم أشعار العرب، ثم العروض وما في معناه ونحو ذلك. ويراعى أيضا عدم وضع الكتب ذوات القطع الكبير فوق ذوات القطع الصغير، كيلا يكثر تساقطها. (1)
ومن الأمور الأخرى التي راعوها في صف الكتب على الرفوف أن يكون مكتوبا عليها اسم الكتاب في حرف عرضه، ويجعل رؤوس الترجمة إلى مرد الجلد المقابل للسان، لئلا تصير الكتابة معكوسة، كما راعوا أيضا في صف الكتب حسن الوضع، وذلك بأن يجعلوا الحبكة في ناحية، والمجلد الآخر يجعل حبكته في الناحية الأخرى، فتكون الكتب قائمة بلا اعوجاج، ولا يجعل الكتاب خزانة للكراريس وغيرها، ولا مخدة، ولا مروحة، ولا مستندا، ولا متكأ، ولا مقتلة للبق، ولا يطوي حاشية الورقة، وزاويتها، كما يفعل كثير من الجهلة. (2)
__________
(1) ... العلموي، المعيد، 132.
(2) ... العلموي، المعيد، 132.(1/31)
ومن أخلاق النساخ، أن الناسخ إذا نسخ شيئا من كتب العلوم الشرعية، يستحسن أن يكون على طهارة، ومستقبلا القبلة، طاهر البدن والثياب، ويبتدئ كل كتاب بكتابة "بسم الله الرحمن الرحيم." وإن كان مصنفه تركها، فليكتبها هو، ثم طالبوه أن يكتب "قال الشيخ، أو قال المصنف "ليبرئ ذمته من جهة، ومن جهة أخرى لتحميل المؤلف وزر ما كتب في كل ما ورد في الكتاب؛ وبعد ذلك يشرع بكتابة ما صنفه المصنف. وإذا فرغ من كتابة الكتاب أو الجزء، عليه أن يختم الكتابة بالحمد لله والصلاة على الرسول، وليختم بقوله: آخر الجزء الأول أو الثاني -مثلا- ويتلوه كذا وكذا، إن لم يكن أكمل الكتاب، فإن أكمله فليقل: تم الكتاب الفلاني. (1)
ومثل هذه الإشارات المعرفية لها فوائد كثيرة، تنفع القارئ، والناسخ، والمصنف، على حد سواء. كما اشترطوا على الناسخ أنه: كُلّما كتب اسم الله تعالى، أتبعه بالتعظيم، مثل: تعالى أو سبحانه، أو عز وجل، أو تبارك، ويتلفظ بذلك. وكلما كتب اسم النبي كتب بعده: عليه الصلاة والسلام (2) انطلاقا من قوله تعالى: ????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????? } . (3)
__________
(1) ... العلموي، المعيد، 132.
(2) ... العلموي، المعيد، 132.
(3) ... سورة الأحزاب، الآية 56.(1/32)
ومن الأخلاق التي التزموا بها كذلك عدم اختصار صيغة الصلاة على النبي في الكتابة، ولا يسأم من تكريرها، كما يفعله البعض، حيث يكتبون (صلعم، أو صلع أو صم أو صلسم،" لأن ذلك مكروه في عرف الشرع. كما ينسبون ذلك إلى الشيخ العراقي، معتبرين أن أجر كتابة الصلاة بكمالها عظيم، ومن أكبر الفوائد العاجلة، ومحذرين من التغاضي عن ذلك، مشيرين إلى أن أول من كتب (صلعم) قطعت يده، (1) ثم دأبوا على كتابة "رضي الله عنه، أو رضوان الله عليهم" كلما مرّ اسم أحد من الصحابة، أو الخلفاء أو الأئمة- لاسيما الأعلام منهم أو يكتب: "رحمه الله، أو رحمة الله عليه، أو تغمده الله برحمته" ولا يكتب الصلاة والسلام لغير الأنبياء والملائكة إلا تبعا لا اختصاصا، وذلك عرفا وشرعا بالأنبياء والملائكة، (2) وعدوا ذلك واجبا، حيث قالوا: ومتى سقط من ذلك شيء فلا يتقيد به، بل يثبته مع النطق به. (3)
ومن أخلاق النساخ، الامتناع عن نسخ الكتب الساقطة والملهية، والتي لا تعود بالنفع، بل تؤدي إلى ضياع الوقت. يقول ابن الحاج: ينبغي أن يحذر (الناسخ) من النسخ في غير العلوم الشرعية، لأنه إن فعل ذلك، فقد ناقض نيته التي جلس بها.
وليحذر من نسخ بعض الكتب كقصة الأبطال وعنترة وشبههما؛ فإن ذلك ممنوع أو الحكايات المضحكة وشبهها، فإنه مما لا ينبغي. (4)
__________
(1) ... العلموي، المعيد، 133.
(2) ... العلموي، المعيد، 133.
(3) ... العلموي، المعيد، 133.
(4) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 82.(1/33)
وفي هذا يقول السبكي: "ومن حقه -أي الناسخ- ألا يكتب شيئا من الكتب المضلة، ككتب أهل البدع والأهواء، وكذلك لا يكتب الكتب التي لا ينفع الله تعالى بها، كسيرة عنترة وغيرها من الموضوعات المختلفة التي تضيع الزمان، وليس للدين بها حاجة، وكذلك كتب أهل المجون. وما وضعوه في أصناف الجماع، وصفات الخمور، وغير ذلك مما يهيج المحرمات. فنحن نحذر النساخ منها؛ فإن الدنيا تغرهم. ويعطى مستكتب هذه الأشياء من الأجرة، غالبا، أكثر مما يعطيه مستكتب كتب العلم؛ فينبغي ألا يبيع دينه بدنياه.
ومن النساخ من لا يتقي الله تعالى، ويكتب عن عجلة، ويحذف من أثناء الكتاب شيئا رغبة في إنجازه، إذا كان قد استؤجر على نسخه جملة. وهذا خائن لله تعالى في تضييع العلم، وجعل الكلام بعضه غير مرتبط ببعض. قال أصحابنا: ولو استأجره ليكتب شيئا، فكتبه خطأ أو بالعربية فكتبه بالعجمية، أو بالعكس، فعليه ضمان نقصان الورق،ولا أجرة له." (1)
ويقول النووي في هذا الصدد: ويقرب منه ما ذكره الغزالي في الفتاوى: إنه لو استأجره لنسخ كتاب، فغيّر ترتيب الأبواب، فإن أمكن بناء بعض المكتوب على بعض بأن كان عشرة أبواب، فكتب الباب الأول آخرا منفصلا، بحيث يبني عليه، استحق بقسطه من الأجرة، وإلا فلا شيء له. واستفتى الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في ناسخ استأجره مستأجر على أن ينسخ له ختمة بأجرة معينة، فتأخر الناسخ عن كتابتها مدة سنة، وفي تلك المدة جاد خطه، فهل له أن يطلب زيادة على تلك الأجرة لأجل جودة خطه، أو يختار الفسخ، فأفتى بأنه ليس له واحد من الأمرين، بل عليه كتابتها بتلك الأجرة. ومن يستأجر ناسخا يبين له عدد الأوراق والأسطر في كل صفحة. واختلف في الحبر إذا لم يعين على ما يكون، فالأصح الرجوع إلى العادة؛ فإن اضطربت وجب البيان وإلا فيبطل العقد. (2)
__________
(1) ... السبكي، معيد النعم، 131.
(2) ... السبكي، معيد النعم، 131- 132.(1/34)
ومن الأمور التي أشار إليها ابن الحاج أن يمتنع الناسخ عن النسخ للظلمة. وفي هذا يقول: "وكذلك لا ينسخ لظالم، أو من يعينه على الظلم، أو من في كسبه شبهة، كما تقدم في غيره، فإنه إن فعل ذلك، دخل في عموم قوله تعالى: ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????. (1)
جودة الخط ووضوحه وتنقيطه
يقول ابن الحاج: "وينبغي للناسخ أن يبين الحروف في كتابته، ولا يعلق خطه حتى لا يعرفه إلا من له معرفة قوية، بل تكون الحروف بينة جلية، فلا يترك شيئا من الحروف التي تحتاج إلى النقط دون أن ينقطها، لأن الباء تختلف مع التاء والثاء، ولا يقع الفرق بينهما إلا بالنقط، وكذلك الجيم والحاء والخاء إلى غير ذلك، فليتحفظ على ذلك، لأن بفعله تعم المنفعة لكثير من المسلمين، بخلاف ما إذا لم ينقط أو يعلق خطه عكس ما يفعله كثير ممن يكتب الوثائق في هذا الزمان، لأنهم اصطلحوا على شيء لا يعرفه غيرهم، بل بعضهم لا يعرف أن يقرأ خط غيره، لأن لكل واحد منهم اصطلاحا يخصه في ذلك قل أن يعرفه غيره، وهذا مخالف للسنة المطهرة. لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية رضي الله عنه: "يا معاوية، ألق الدواة وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن وجود الرحيم، وضع قلمك خلف أذنك فإنه أذكر للمملي." (2)
__________
(1) ... سورة الصف، الآيتان 2-3.
(2) ... محمد عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، ط 2 (بيروت: دار المعرفة، 1391هـ/1972م)، 1: 433.(1/35)
وقد يؤدي عدم وضوح الكتابة إلى إضاعة حقوق المسلمين، وعقود أنكحتهم، لاحتمال أن يموت الكاتب، أو يتعذر وجوده، ولا يعرف غيره أن يقرأ ما كتبه، فإذا تحفظ من هذا وأشباهه عمت منفعة كتابته لأكثر المسلمين، بخلاف ما إذا لم ينقط أو يعلق خطه. (1)
وهنا وبالرغم من عدم صحة الحديث المذكور آنفا إلا أن كثيرا من العلماء كانوا يميلون إلى جودة الخط، ووضوحه، وكبر حجمه، للمحافظة على أبصارهم.
الأمانة في النسخ والحرص على سلامة النص
وحين يعم التعامل بالأمانة، يؤدي الذي اؤتمن أمانته، وقد أمر الله بأداء الأمانات إلى أهلها بقوله تعالى: { ?????????????????????????????????????????????????????????????????? } (2) وفي الحديث الشريف: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم." فالأمانة ركن من هذه الأركان الأخلاقية الأربعة، التي لا يعدلها شيء في الدنيا، بل قد يكون سببا في إقبال الدنيا على العبد، لما يجده الناس فيه.
وإذا تمكنت صفة الأمانة من صاحبها، تعامل بها مع القريب والبعيد، والمسلم والكافر. ومن صور الأمانة إتقان العمل، وكتمان أسراره.
ومن أخلاق الناسخ التحلي بالأمانة في ما ينقل وينسخ، بحيث ينقل النص طبق الأصل، وإلا فسد المعنى، وضاعت الفائدة. وقد ذكرت بعض المصادر العربية وكتب التراجم جملة من العلماء الذين اتصفوا بأمانة النقل وجودة الضبط.
جاء في ترجمة محمد بن عبد الله بن محمد الأنصاري المعروف بابن غطوس (المتوفى سنة 610 هـ/1214م) أنه انقطع إلى كتابة المصاحف الشريفة، وقيل إنه كتب ألف نسخة من القرآن الكريم، وكان متقدما في براعة خطها، إماما في جودة ضبطها، وقد امتدت شهرة ابن غطوس شرقا وغربا.
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 84.
(2) ... سورة المؤمنون، الآية 8.(1/36)
قال عنه الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات: "قلت: أخبرني -من لفظه- الشيخ الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن الصياد الفاسي بصفد سنة ست وعشرين وسبعمائة، أنه كان له بيت فيه آلة النسخ والرقوق وغير ذلك لا يدخله أحد من أهله، يدخله ويخلو بنفسه، وربما قال لي: إنه كان يضع المسك في الدواة، وكان مصحفه لا يهديه إلا بمائتي دينار، وأن إنسانا جاء إليه من بلد بعيد مسافة أربعين يوما، أو قال أكثر من ذلك، وأخذ منه مصحفا. ولما كان بعد مدة، فكر في أنه وضع نقطا أو ضبطا على بعض الحروف في موضعه، وأنه سافر إلى ذلك البلد، وأتى إلى ذلك الرجل، وطلب المصحف منه، فتوهم أنه رجع إلى البيع فقال: قبضت الثمن مني وتفاصلنا، فقال لابدّ أن أراه، فلما أتى به إليه، حك ذلك الغلط وأصلحه، وأعاده إلى صاحبه ورجع إلى بلده." (1)
استخدام الحبر بما يوافق كل نوع من أنواع الورق
يقول صاحب المدخل: "ويتعين على الناسخ ألا ينسخ بالحبر الذي يخرق الورق، فإن فيه إضاعة للمال، وإضاعة للعلم المكتوب به، سيما إن كانت نسخة الكتاب الذي كتبه معدومة أو عزيزٌ وجودها، ويلحق بذلك النسخ بالحبر الذي يمحى من الورق سريعا. وأما النسخ بالمداد الذي تسود به الورقة وتختلط الحروف بعضها ببعض -وهذا مشاهد- مرئي فلا شك في منعه، اللهم إلا أن يكتب رسالة من موضع إلى آخر وما أشبهها، فنعم بشرط ألا يتعلق بها حكم شرعي، ككتاب القاضي بحكم من الأحكام بشرطه المذكور في كتب الفقه، وما أشبه ذلك من الوكالة وغيرها، فحكمه ما تقدم في نسخ العلوم الشرعية. وقد قيل إن خير الخط ما قرئ." (2)
ومن الأمور الأخرى التي يتبعها النساخ
الوضوء قبل الجلوس للنسخ
__________
(1) ... صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق هلموت ريتر وآخرين (فيسبادن: فرانزشتايز، 1962-1980م)، 3: 351-352.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.(1/37)
وفي هذا يقول ابن الحاج: "وينبغي له أنه إذا جلس للنسخ أن يكون على وضوء، فإن شق ذلك عليه، فليكن في أول جلوسه على وضوء، ثم يغتفر له ما بعد ذلك إلا أن يكون ينسخ في كتاب الله، فلا بد من الوضوء، حين يباشره في كل حين طرأ عليه الحدث، اللهم إلا أن يكون ممن تجوز له الصلاة بذلك الحدث، فيتوضأ في أول جلوسه، ويغتفر له ما بعد ذلك." (1)
تجنب المماطلة والوفاء بالوعد
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان." (2)
وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، فقال: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } .
وقد امتدح الله عز وجل عباده المؤمنين،لأنهم { لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } . فهي صفة دائمة لهم في كل حين،وما تستقيم حياة الأمة إلا بأداء الأمانات، ورعاية العهود، وبهذا تتوافر الثقة والأمن والاطمئنان.
والوفاء بالوعد وعدم المماطلة من شيم النفوس الشريفة، والأخلاق الكريمة، لأنها تعظم صاحبها في العيون، وتصدق فيه خطرات الظنون. وفي هذا يقول ابن الحاج: وليتجنب... المماطلة بالشغل، وهذا أولى، بل أوجب أن يوفي بما يقوله، لأنه في محض العبادة، فلا يشوبها لما يناقضها بوقوعه في خلف الوعد بقوله غدا، أو بعد غد، ثم لا يوفي بذلك، وكذلك يحذر من وقوع الأيمان منه فيما يحاوله. (3)
النسخ حسب الأسبقية دون مفاضلة شخص على آخر
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل،4: 85.
(2) ... رواه البخاري في صحيحه، الإيمان، 24، 1، 14، ومسلم في صحيحه، الإيمان، 25، ح (107)، 78:1.
(3) ... البخاري، الجامع الصحيح، 83-87.(1/38)
وفي هذا السياق، يقول ابن الحاج: "وليحذر مما يفعله بعضهم، وهو أنه يأخذ النسخ من جماعة فينسخ لهذا ولهذا ولا يعلم أحدا منهم أنه ينسخ لغيره، وذلك يناقض النصح لمن لم يعلمه بذلك، ولأنه جمع فيه بين الاستشراف والحرص؛ وقد تقدم ما فيهما من الذم." (1)
تحاشي النسخ داخل المساجد
لأنها أماكن للعبادة، ولأن النسخ سبب للرزق، من أجل هذا ينزه المسجد عنها، علاوة على ذلك، قد يحدث النساخ نتيجة عملهم في المسجد بعض التلف.
ترك النسخ في حالة سماع الأذان
يقول ابن الحاج: "ويتأكد في حقه -أي الناسخ- أنه إذا سمع الأذان أن يترك ما هو فيه، ويشتغل بحكاية المؤذن، ويتهيأ لإيقاع الصلاة في وقتها المختار في جماعة، اللهم إلا أن يكون الآذان وهو يكتب في أثناء الورقة، فلا يترك الكتابة حتى يكملها، لأنه يختلف خط الورقة بسبب قيامه عنها، فيمهل حتى يتمها. وكذلك لو كان يسطر في أثناء الورقة، فلا يرفع يده حتى يكملها. وليس هذا بمذموم، لأنه راجع إلى حسن الصنعة، ونصح إخوانه المسلمين، بخلاف ما تقدم في غيره، وهذا ما لم يخش فوات الجماعة، والله أعلم." (2)
عدم جواز نسخ الختمة على غير مرسوم المصحف
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.(1/39)
قال أبو إسحاق الزجاجي: معنى ختم وطبع في اللغة واحد. (1) وقد اشترط على النساخ أن يتركوا ما أحدثه بعض الناس في نسخ لختمة على غير الرسم العثماني الذي اجتمعت عليه الأئمة على ما وجدته بخط عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقد قال مالك رحمه الله: "القرآن يكتب بالكتاب الأول." فلا يجوز غير ذلك، ولا يلتفت إلى اعتلال من خالف بقوله إن العامة لا تعرف مرسوم المصحف، ويدخل عليهم الخلل في قراءتهم في المصحف، إذا كتب على المرسوم، فيقرؤون مثلا: "وجائي، وجاي" لأن رسمها بألف قبل الياء. ومن ذلك قوله: { فأنى يؤفكون } { فأنى يصرفون } "فإنهم يقرؤون ذلك وما أشبهه بإظهار الياء إما ساكنة وإما مفتوحة. وكذلك قوله تعالى: { وَقَالوُا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ } مرسوم المصحف فيها بلام منفصلة عن الهاء، فإذا وقف عليها التالي وقف على اللام. وكذلك قوله تعالى { لا أَذْبحنَّهُ } { ولا أوضعوا خلالكم } مرسومهما بألف بعد لا فإذا قرأهما من لا يعرف قرأهما بمدة بينهما إلى غير ذلك وهو كثير، وهذا ليس بشيء، لأن من لا يعرف المرسوم من الأمة يجب عليه أن لا يقرأ في المصحف إلا بعد أن يتعلم القراءة على وجهها، أو يتعلم مرسوم المصحف؛ فإن فعل غير ذلك، فقد خالف ما اجتمعت عليه الأمة، وحكمه معلوم في الشرع الشريف. فالتعليل المتقدم ذكره مردود على صاحبه، لمخالفته للإجماع المتقدم. وقد تعدت هذه المفسدة إلى خلق كثير من الناس في هذا الزمان، فليتحفظ من ذلك في حق نفسه، وحق غيره، والله الموفق. (2)
__________
(1) ... ابن منظور، لسان العرب، مادة ختم.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.(1/40)
وينبغي للناسخ بل يتعين عليه ألا ينسخ الختمة بلسان العجم، لأن الله عز وجل أنزله بلسان عربي مبين، ولم ينزله بلسان العجم. وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف في أجزاء متفرقة، وقال إن الله عز وجل قال: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } وهؤلاء يفرقونه، فإذا كره هذا في الأجزاء فما بالك بتغييره على اللسان العربي المبين. (1)
ولقد سرى هذا لبعض الناس في هذا الزمان حتى أنهم ليعدُّون قراءة القرآن بالعجمية، ونسخ الختمة بها من الفضيلة، وبعضهم يجمع في الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربي واللسان العجمي، فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربي، ثم يكتبها بعدها باللسان العجمي؛ وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول، والسلف الصالح والعلماء رضي الله عنهم. وإذا كان ذلك كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك وليحذر من ذلك. (2)
أخطاء بعض النساخ
بالرغم من الدور الكبير الذي لعبه النساخ ونشاطهم المميز، وجهودهم الجبارة في كثرة المخطوطات، وزيادة أعدادها في مختلف فنون المعرفة، إلا أنهم لم يكونوا على درجة واحدة من الوعي، والإتقان، والضبط، والأمانة، والإخلاص؛ إذ أن بعضهم أساء في عمله، ووقع في أخطاء متعددة، حيث كان بعضهم مجرد أداة للنسخ، لا دراية لهم بما ينسخونه، وإما نتيجة السهو والغفلة، فيكتب غير ما هو موجود في الأصل. وربما يقع الخطأ المتعمد، والأمثلة كثيرة على ذلك منها:
1 - التصحيف، والتحريف، وإسقاط بعض الكلمات، أو العبارات سهوا.
2 - التغيير والتبديل.
3 - نسخ المخطوطات بدون إعجامها وضبطها.
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.(1/41)
4 - التدخل في النص بإضافة بعض الشروح، أو الحواشي في المتن، أو قد يحدث أن يضيف أصحاب المخطوطات في بعض الأحيان بعض الفصول، أو الأبواب الإضافية، أو القيام بشرح مسائل في المتن. ثم تمر الأيام، ويقوم النساخ بنسخ بعض هذه الكتب، فتدخل الزيادة في الأصل، ويثبت الشرح في المتن، ويختلط الأمر، فينسب كل ما جاء فيها إلى مؤلفيها، والأمر غير ذلك.
وقد أشار النديم في كتابه الفهرست أنه رأى بنفسه بابين قد زيدا على كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع من الفارسية.
والأمثلة كثيرة على ذلك. بل إن بعض النساخ قد تجاوز حد الزيادة إلى الدس المتعمد في النص. فابن وحشية مثلا -وقد كان قريبا من حركة الشعوبية في العراق- كان يأمل عن طريق كتاباته القديمة المخترعة أن يثبت تفوق البابليين، وهم -فيما يزعم- أجداد قومه النبط. (1)
ومثل هذه الزيادات لا تظهر إلا أثناء المقابلة بين النسخ المختلفة للكتاب الواحد.
وذكر في معجم الأدباء أن السري بن أحمد أبو الحسن الكندي، المعروف بالسري الرفاء الموصلي، الشاعر المشهور، كان يرفو ويطرز. فلما جاد شعره، انتقل من حرفة الرفو إلى حرفة الأدب، واشتغل بالوراقة؛ فكان ينسخ ديوان شعر كشاجم، وكان مغري به، وكان يدس فيما يكتبه منه أحسن شعر الخالديين، ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويشنع بذلك على الخالديين، لعداوة كانت بينه وبينهما. فكان يدعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره، فكان فيما يدسه من شعرهما في ديوان كشاجم، يتوخى إثبات مدعاه. (2)
__________
(1) ... شاحت وبوزورث، تراث الإسلام، ترجمة حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1978م)، 96.
(2) ... ياقوت ، معجم الأدباء، 11: 182 وما بعدها.(1/42)
وعن جهل بعض النساخ ذكر العباس بن أسد: أن أبا الحسن علي بن عيسى كتب إلى أبي الطيب أحمد بن عيسى كتابا من مكة فقرأه، ثم رمى به إليه، فقال: اقرأ. فقرأت: كتابي إليك يوم القر، بالرفع. فقال: ما معنى يوم القر؟ فقلت: القر البرد، فقال: إنما هو يوم القر بالفتح، حين يقر الناس بمنى، وهو اليوم الثاني من النحر. ومثل ذلك كثير.
قال صاحب نهاية الأرب: "وقد اتسع الخرق في ذلك، ودخل في الكتابة من لا يعرفها البتة، وزادوا عن الإحصاء، حتى إن فيهم من لا يفرق بين الصاد والطاء." (1)
المبحث الخامس: أخلاق المجلدين
المجلد هو من يعمل في صنعة التجليد. وهو مصطلح مشتق من الفعل جَلَّدَ، و"جلد الكتاب، ألبسه الجلد" (2) ويستخدم هذا المصطلح في كافة بلاد المشرق. أما في المغرب العربي فقد استخدم مصطلح "التسفير،" مشتق من الفعل سفر، أي كتب يقال "سفر سفرا الكتاب كتبه، والسفر جمع أسفار الكتاب الكبير، وجزء من أجزاء التوراة،" ويطلق على العاملين في هذه المهنة، المجلدون، والمفرد مجلد. وفي المغرب العربي المسفرون، والمفرد مسفر.
ويعد تجليد الكتب أحد فروع الوراقة، وهي من المهام التي يقوم بها بعض الوراقين والذي واكبها منذ البدايات، حتى بلغ فن التجليد في العصر العباسي ذروته.
__________
(1) ... القلقشندي، صبح الأعشى، 1: 48.
(2) ... أبو الحسن علي بن الحسن الهنائي (كراع النمل)، المنجد في اللغة، تحقيق أحمد مختار عمر وضاحي عبد الباقي، ط 3 (بيروت: دار المشرق، 1988م)، 99.(1/43)
ولقد كان لتجليد المخطوطات الأثر الكبير في حفظ الكثير من الكتب والمؤلفات لفترة طويلة. وعلى الرغم من أن التجليد بدأ ساذجا بسيطا، شأنه في ذلك شأن كل حرفة في أطوارها الأولى، إلا أنه تطور فيما بعد أيما تطور، فلم يكن الهدف من التجليد صيانة الكتاب فحسب، بل كان يراد من الجلد ذاته أن يكون تحفة فنية، كان المجلدون الأوائل قليلي التفنن في عملهم، حيث انتبه الوراقون إلى صناعة الجلود ودباغتها، تلك الصناعة التي كانت تستخدم جلود دباغ النورة، وهي الشديدة الجفاف، ثم ظهرت الدباغة الكوفية مستخدمة التمر في الدباغة؛ (1) الأمر الذي أكسبها لينا، ومرونة، كما ذكر النديم في كتابه الفهرست؛ مما ساعد على التعامل مع هذه الجلود، واستخدامها في فن التجليد.
ويؤخذ من قول النديم السابق عن دباغة الجلود أن جلود الكتب كانت في قديم الزمان يابسة صلبة، لسوء دباغتها، ثم حسن الناس بعد ذلك دباغتها وصقلها، فجعلوها لينة ناعمة الملمس.
ولقد تطور فن التجليد في العصر العباسي في بغداد وغيرها من المدن الإسلامية؛ فمنذ بداية القرن الرابع الهجري، تطورت صناعة التجليد.
وقد أشار المقدسي في معرض حديثه عن نفسه، حيث ذكر أنه لقب بـ"وراق ومجلد." (2) ثم ذكر أنه اشتغل بتجليد المصاحف بالكري. (3)
__________
(1) ... محمد بن إسحاق النديم، الفهرست (بيروت: دار المعرفة، 1417هـ/1997م)، 36.
(2) ... محمد بن أحمد المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (ليدن: بريل،1967م)، 43.
(3) ... المقدسي، أحسن التقاسيم، 44.(1/44)
ثم يذكر صاحب كتاب أحسن التقاسيم أن أهل اليمن يلزقون الدروج، ويبطنون الدفاتر بالنشاء. وبعث إلي -والحديث للمقدسي- (1) أمير عدن مصحفا أجلده، فسألت عن الأشراس (2) –بالعطارين- فلم يعرفوه، ودلوني على المحتسب، وقالوا عساه يعرفه. فلما سألته، قال: من أين أنت؟ قلت: من فلسطين، قال: أنت من بلدة الرخاء، لو كان لهم أشراس لأكلوه، عليك بالنشاء، ويعجبهم التجليد، ويبذلون فيه الأجرة الوافرة، وربما كنت أعطى على المصحف دينارين. (3) وهذا يدلنا على مدى انتشار هذا الفن وأهميته.
ومن أشهر المجلدين الذين ذكرهم صاحب الفهرست:
- ... ابن أبي الحريش، وكان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون ببغداد
- ... شفه المقراض العجيفي
- ... أبو عيسى بن شيران
- ... دميانة الأعسر بن الحجام
- ... إبراهيم بن محمد
- ... الحسين بن الصفار
وذكر أن محمد بن محمد بن محمد، أبو بكر، ابن عاصم القيسي الغرناطي، من فقهاء وقضاة المالكية بالأندلس، كان يجلد الكتب في صباه. (4)
__________
(1) ... كان المقدسي في عدن باليمن، قد تعلم تجليد الكتب على طريقة أهل الشام. وكان أهل اليمن يعجبهم التجليد الحسن، ويبذلون فيه الأجرة الوافرة؛ فكانوا يعطون الكتب للمقدسي ليجلدها، وهو يفتخر بأنه ربما كان يعطى على تجليد المصحف دينارين. انظر: آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام؛ تعريب محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط4 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1387هـ/1967م)، 2: 333.
(2) ... الأشراس: إحدى المواد الأساسية في التجليد. لعله الصمغ.
(3) ... المقدسي، أحسن التقاسيم، 100.
(4) ... أحمد بن محمد بن أحمد المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1388هـ/1968م)، 3: 402.(1/45)
وعن أخلاق المجلدين، يحدثنا ابن الحاج مبتدئا بالنية، حيث خصص عدة فصول بدأها بقوله: "فصل في نية الصانع الذي يجلد المصحف والكتب وغيرها. اعلم وفقنا الله وإياك أن هذه الصنعة من أهم الصنائع في الدين، إذ بها تصان المصاحف، وكتب الأحاديث، والعلوم الشرعية، فيحتاج في ذلك إلى النية المتقدم ذكرها في الناسخ، لأنه معين بصنعته على صيانة ما تعب فيه، الناسخ وحصله، وفيه أيضا جمال للكتاب، وترفيع له، واحترامه، وترفيعه متعين، فإذا خرج الصانع من بيته أخذ من نيات العالم والمتعلم ما يعتوره ويحتاج إليه، ثم مع ذلك ينوي إعانة إخوانه المسلمين بصناعته على صيانة مصاحفهم وكتبهم، ثم يصحب مع ذلك نية الإيمان والاحتساب. فإن قال قائل إن الصانع مثلا أو غيرهم من الصناع ممن تقدم ذكرهم أو تأخر لا يحتاج إلى نية العالم، لأن العالم يخرج إلى المسجد أو غيره إلى التعلم والتعليم، وذلك يقبل كل ما نواه الصناع ليسوا كذلك، لأنهم مستغرقون في الأسباب. فالجواب أنه لا فرق بين العالم وغيره، إذ أن الصانع وغيره من المتسببين يحتاج إلى أربعة علوم:
الأول: علم الصنعة التي يحاولها.
والثاني: العلم بلسان العلم فيها.
والثالث: العلم بما يخصه في نفسه، وذلك عام في حقه وحق غيره فيما يعتور كل إنسان منهم في عبادته من الصلاة والصوم وغيرهما، وما هو مأمور به في ذلك من الفرائض والسنن والفضائل، وما يصلح العبادة، وما يفسده.
والعلم الرابع: علم ما يحتاج إليه المكلف من مخالطته لغيره من التحفظ على نفسه وعلى من خالطه من الوقوع فيما لا ينبغي، وذلك كثير.
فهذه أربعة علوم لابد له منها. فإما أن يتعلمها أو يعلمها لمن يطلبها منه، إن وقع له ذلك، وإنما يترك المتسبب من نية العالم مثل دخول المسجد وتحيته وما أشبههما؛ مما لا يعتوره في السوق أو الدكان.
ومن أخلاق المجلدين استغلال أوقاتهم في فعل الخير(1/46)
يقول ابن الحاج: "ينبغي للمجلد إذا جاء إلى دكانه أن يمتثل السنة، مثل تقديم اليمين وتأخير الشمال في الدخول والخروج سواء بسواء، مع الابتداء بالتسمية والذكر المأثور في ذلك، وأن يبدأ بصلاة ركعتين قبل أن يجلس لبيعه وشرائه، فيبدأ بهذه الصلة العظيمة، ثم بعد ذلك يأخذ فيما جلس إليه. وهذا مع الإمكان، فإن لم يمكنه ذلك يكون الدكان ليس فيه موضع يركع فيه، فيعوض عن ذلك ذكر الله تعالى. وقد حكى عن السماد أحد مشايخ الرسالة أنه بلغت به نافلته في دكانه مع بيعه وشرائه خمس مئة ركعة في اليوم، فهذا يدلك على أنهم كانوا يتنفلون في دكاكينهم، لكن منهم المكثر ومنهم المقل. فمن قدر على التشبه بهم، كان به أولى، لأن التشبه بالكرام فلاح. وينبغي له أنه مهما قدر أن لا يجلس في دكانه إلا وهو مستقبل القبلة فليفعل. اللهم إلا أن يتعذر عليه ذلك فلا بأس إذن." (1)
تجنب المفاسد في العمل
ومن الاشتراطات المهنية والأخلاقية للمجلد أن يتجنب المفاسد التي تعتوره في صنعته، إذ هي المقصود الأعظم، لأنه بتجنبها يحصل له -أي للمجلد- الدخول في عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الدين النصيحة." فإذا تجنب المفاسد، نصح لإخوانه المسلمين، فتحصل له شهادة صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه بأنه من أهل الدين، فإذا سلم من المفاسد، صحت له الغنيمة، وإلا رجع على الضد من ذلك. فمن ذلك أن يتجنب ما يفعله بعضهم، وهو أن يعطي الكتاب إلى الصانع على شيء معلوم، عوضا عن أشياء أخرى؛ لأنه جمع فيه بين بيع الجلد والبطانة والحرير وبين أجرته في عمل ذلك، وهذا كله مجهول. والوجه في ذلك أن يأتي إلى الصانع بالجلد والبطانة والحرير من عنده ويؤاجره على عمل ذلك. ووجه ثان وهو أن الصانع يبين له واحدا منها على حدة ويعين ثمنه، ثم بعد ذلك يؤاجره على صنعته. ووجه ثالث وهو أن يوكله في شراء ما يحتاج إليه.
ومن أخلاق المجلدين
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 83-87.(1/47)
عدم استعمال الورق المكتوب عليه آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومسائل شرعية، وغير ذلك من الأوراق التي تحتوي على معلومات مهمة، حيث يلجأ الكثير من المجلدين إلى حشو أغلفة الكتب بالأوراق الزائدة، أو التي لم تعد صالحة للاستعمال لسبب أو لآخر، فيقوم بضمها مع بعضها البعض. وقد تحتوي هذه الأوراق على وثائق، أو رسائل ذات قيمة علمية مهمة قد لا يدركها المجلد.
يقول السخاوي عن كتب ناصر بن أحمد بن يوسف البسكري (المتوفى سنة 823هـ): "إنه شرع في جمع تاريخ للرواة لو قدر له أن يبيض لكان مائة مجلدة جمع منه في مسوداته ما لا يعدّ ولا يدخل تحت حصر، ولم يقدر له أن يبيضه، ومات فتفرقت مسوداته شذرا مذرا. ولعل أكثرها عمل بطائن لجلود الكتب." (1)
يقول أحد الباحثين: "وكان من نتيجة جهل بعض المجلدين ضياع كثير من الكتب، إذ أغلبهم يجعلون من إلصاق الأوراق ببعضها البعض ورقة واحدة غليظة تقوم مقام البطانة، ومن يتأمل الجلود لتلك الكتب القديمة يجد مصداق ما قلنا، بل إني استطعت أن أستخلص من جلد واحد الأوراق الأولى لعدة كتب نادرة." (2)
__________
(1) ... محمد بن عبد الرحمن السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (بيروت:دار مكتبة الحياة، د.ت.)، 1: 195.
(2) ... الحبشي، الكتاب ، 120.(1/48)
وأثناء الإعداد لمعرض "الخط العربي من خلال المخطوطات" الذي أقامه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بمدينة الرياض سنة 1406هـ، كنا نبحث عن أنموذج من خط السياقت، (1) ولم نعثر عليه إلا في أحد جلود المخطوطات، حيث وجده أستاذ الخط فوزي عفيفي. (2)
__________
(1) ... خط السياقت: هو أحد أنواع الخطوط التي كانت تستعمل في تركيا، وهو خط متعدد الأنواع، ذو نصوص مغلقة؛ وحروف هذا الخط قريبة الشبه من حرف الخط الديواني، وقد استعمل هذا الخط في الدفاتر الخاقانية والبراءات التجارية والأوقاف. انظر: "خط السياقت التركي،" الفيصل، 32 (صفر1400هـ/1980م)، 64-65.
(2) ... أحد المشاركين في إعداد معرض "الخط العربي من خلال المخطوطات" الذي أقامه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض عام 1406هـ. له العديد من المؤلفات عن الخط العربي.(1/49)
وقد أشار صاحب كتاب المدخل إلى عمل المجلد وما يقع فيه بعضهم من أخطاء أثناء العمل بقوله: "ويتعين عليه أن ينظر في الورق الذي يبطن به؛ فإن الغالب على بعض الصناع في هذا الزمان أنهم يستعملون الورق من غير أن يعرفوا ما فيه وذلك لا يجوز لأنه قد يكون فيه القرآن الكريم، أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو اسم من أسماء الملائكة، أو الأنبياء عليهم السلام. وما كان من ذلك كله، فلا يجوز استعماله ولا امتهانه حرمة له وتعظيماً لقدره. وأما إن كان فيه أسماء العلماء، أو السلف الصالح رضي الله عنهم، أو العلوم الشرعية، فيكره ذلك، ولا يبلغ به درجة التحريم، كالذي قبله، وطالب العلم أولى بأن ينزه نفسه عن الدخول في المكروه؛ فإن كان يعلم الصانع، أو يظن به أنه يفعل شيئا مما تقدم ذكره، فلا يعمل عنده شيئا، أو يعمل عنده بعد أن يبين له الحكم في ذلك، ويعلم أنه قد سمع منه. ولا بأس أن يبطن الجلد بالأوراق التي فيها الحساب، وليس ذلك بمكروه إلا لأنه يتثبت في ذلك، ويمهل لعله أن يكون ضاع لبعض الناس الدفتر الذي هو محتاج إليه، فيضيع ماله بسببه؛ فإذا كان الصانع ممن يتحفظ من هذا وأمثاله، حفظت على الناس أموالهم بعد أن كانت ضائعة عليهم. ويتعين عليه أن يتحفظ على عدد كراريس الكتاب وأوراقه، فلا يقدم ولا يؤخر الكراريس ولا الأوراق عن مواضعها، ويتأنى في ذلك، فإنه من باب النصح وتركه من الغش.(1/50)
وإذا كان ذلك كذلك، فيحتاج الصانع أن يكون عارفا بالاستخراج، ليعرف بذلك اتصال الكلام بما بعده، أو تكون عنده مشاركة في العلم يعرف بها ذلك، ثم مع ذلك يحترز أن يولى عملها لمن لا يعرف تمييزها من الصناع والصبيان لئلا يختلط الكتاب على صاحبه وكثيراً ما يقع هذا في هذا الزمان فيتعب في عمله ثم مع التعب الموجود يأكل الحرام فيما أخذه من صاحبه، فإن وقع شيء من ذلك، وجب على الصانع إعادته ولو مرارا حتى ينصلح، ولا يأخذ عليه إلا العوض الأول، لأنه ما تسلمه إلا أن يعمله على السلامة من هذا وأشباهه." (1)
عدم التجليد لأهل الأديان الباطلة
يقول ابن الحاج: "ويتعين على الصانع أن لا يجلد كتابا لأحد من أهل الأديان الباطلة، لأنه بفعله ذلك يكون معينا لهم على كفرهم، ومن أعان على شيء كان شريكا لفاعله هذا وجه. ووجه ثان وهو مثل الأول أو يقاربه، وهو تغبيطهم بدينهم لأنهم إذا رأوا أحدا من المسلمين يعينهم سيما على حفظ ما في كتبهم، يعتقدون أنهم على حق بسبب ذلك. ولو علم أن الكتاب الذي أتوا به إليه من الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل والزبور، فالحكم في ذلك ما تقدم من المنع سواء بسواء لأنه قد صح أنهم بدلوا وحرفوا فيها وغيروا وذلك لا تعلم مواضعه فتترك كلها فإن أتوا إليه بكتاب مكتوب بالسريانية أو العبرانية وما أشبههما فلا يجد شيئا من ذلك. وقد قال مالك رحمه الله في الرقى بغير العربية وما يدريك لعله كفر فكل ما حاك في صدر الإنسان من هذا وما أشبهه فيتعين تجنبه." (2)
تعليم الصناع الحلال من الحرام
فقد يحدث أن يقع المجلد في مخالفة شرعية إما عن قصد أو من غير قصد، ويكون عنده أحد طلاب العلم يعمل لديه؛ فهنا ينبغي توجيه النصح للمجلد لعله يتوب أو يرجع وإلا تركه.
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 89 -90.
(2) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 90-91.(1/51)
يقول ابن الحاج: "ويتعين على طالب العلم وغيره ممن يحتاج إلى العمل عنده أن يتحرز ممن هذا حاله من الصناع، فلا يعمل شيئا بعد أن يعلمه بذلك، لعله أن يتوب أو يرجع. هذا إن كان عاجزاً عن رفع ذلك إلى من له الأمر بحسب القدرة كما تقدم في إنكار المنكر، فإن تعذر عليه رفعه إلى من له الأمر أو رفعه ولم يجد شيئا، فيتعين عليه هجران الصانع الذي يتعاطى ذلك بعد أن يعلمه بالحكم فيه، حتى يشيع بين الناس، ويعلم أن هذا حرام لا يجوز، لأنه قد ورد "إن الظلمة يحشرون هم وأعوانهم حتى من مد لهم مدة" فإذا كان من مد لهم مدة بهذا الحال فما بالك بالصانع الذي يجلد لهم ما يصونون به ما ارتكبوه مما هو ممنوع في الشرع الشريف.
النهي عن تجليد الدواة (1) بالذهب أو الفضة
حيث لجأ بعض كبار الأمراء والوزراء والكتاب في العصور العباسية المتأخرة في القرن الرابع الهجري إلى استخدام الدواة المصنوعة من الذهب أو الفضة. (2) وهذا يتناقض مع روح الشريعة الإسلامية.
__________
(1) ... الدواة: هي أم آلات الكتابة وسمطها الجامع لها. انظر: القلقشندي، صبح الأعشى، 2: 441.
(2) ... الصولي، أدب الكتاب، فصل ما قيل في الدواة، 92 - 100.(1/52)
وقد نبه ابن الحاج في كتابه المدخل إلى هذه المسألة بقوله: "ويتعين عليه -أي المجلد- أن لا يعمل غلافا لدواة فيها ذهب أو فضة لأنه لا يجوز استعمالها، فكذلك لا يجوز الإعانة عليه بتجليدها. وكذلك لا يجلد شيئاً لظالم لوجهين: أحدهما ما تقدم أن المعين شريك. الثاني أن أكثر أموالهم حرام والصانع يتعب في صنعته ليأكل الحلال، ثم مع تعبه يأكل الحرام، فيتحفظ من ذلك أن يقع فيه وينهى غيره عنه ولو كان الناس يتحفظون من هذا وأشباهه لقل الظلم وعرف صاحبه، ولكن قد صار الأمر عند الصانع وغيره سواء في الغالب، فيسوون بين من كسبه حلال وحرام، ولا يعرجون على شيء من ذلك كله. كل هذا سببه التغافل عما أمر الإنسان به، وانضم إليه استئناس النفوس المحدثة مع وجود الاستشراف للزيادة من الدنيا. (1)
أخطاء بعض المجلدين
وقد يقع بعض المجلدين في أخطاء عديدة أثناء عملهم من ذلك:
1 - إسراف البعض منهم في قص حواف الورق ويترتب على هذا فقدان التعقيبات التي ترد في أواخر الصفحات اليمنى من أوراق المخطوطات، وفقدان بعض النصوص، والشروح، والحواشي، والتعليقات في كثير من الأحيان.
2 - تقديم كراسات وأوراق بعض المخطوطات وتأخيرها، وخصوصا التي تخلو من التعقيبات والترقيم في أثناء التجليد.
3 - تجليد مجموعة من الرسائل ذات أحجام مختلفة.
4 - ضم بعض الكراسات والأوراق التي لا صلة لها بالمخطوط إليه.
5 - تجليد بعض المخطوطات بجلد أقدم من تاريخ نسخ المخطوط، ربما بمدة زمنية طويلة. ومثل هذا الأمر قد يدفع الباحث أو المفهرس إلى أن يعطي تاريخا غير دقيق للمخطوط الخالي من تاريخ النسخ.
6 - تجليد الكتاب دون التأكد من سلامة النص وترابطه، والتأكد من وضع الأوراق في اتجاه سليم. حيث وجدت مخطوطات بعض أوراقها معكوسة.
__________
(1) ... ابن الحاج، المدخل، 4: 91-92.(1/53)
7 – استبدال جلد المخطوط بجلد آخر فيه زخارف، وهذا يؤدي إلى تضليل الباحث والمفهرس وكل من له اهتمام بالمخطوطات؛ ذلك لأن الزخارف الموجودة على الجلود تمثل عصرها. فعصر المماليك، على سبيل المثال، تميزت فيه جلود المخطوطات بنقوش وزخارف وميداليات معينة تختلف عن العصور الأخرى... وهكذا.
ولا يعني هذا أن كل المجلدين كانوا على هذه الشاكلة، بل كان أكثرهم يتقن عمله، ويدقق فيه، فقبل أن يبدأ في قص الحواف، يتفقد الحواشي من جميع الجهات، فإذا وجد حاشية أو أكثر تجاوزت حدودها، بحيث وصل الكلام فيها إلى حافة الورق، قام بقص طرفيها، ثم ثناها إلى داخل الورقة، لكي تبقى الكتابة خارج حدود القص؛ وهذا ما يفسر لنا ما نجده من ثني أجزاء من حواف الورق في كثير من المخطوطات.
وبالإضافة إلى ذلك فقد كان بعضهم يحرص على تثبيت الجذاذات في أماكنها بين بعض الأوراق، وبعضهم يضيف بعض الأوراق الخالية من الكتابة في بداية المخطوط ونهايته محافظة عليه.
المبحث السادس: أخلاق تجار المخطوطات
لم تقتصر تجارة الكتب على فئة معينة من الناس، إذ عمل في هذه التجارة جملة من الناس الذين اتخذوها حرفة لهم، يتعيشون من ورائها؛ من بينهم علماء مشاهير، بالإضافة إلى الكثير من الوراقين، والنساخ، والمجلدين، وغيرهم.
وقد ذكرت لنا بعض مصادر التراث وكتب التراجم العديد من المصطلحات التي أطلقت على جملة من الأعلام الذين مارسوا تجارة الكتب. ومن هذه المصطلحات: الدلال، المنادي، الكتبي، السمسار، التاجر، المتكسب، المرتزق، المتسبب، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تشير وترمز إلى ممارسة مهنة تجارة الكتب.(1/54)
فقد قيل عن أبي حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني النحوي اللغوي (المتوفى سنة 255هـ): "كان جماعة للكتب يتجر فيها." (1) وعن ياقوت الحموي (المتوفى سنة 626هـ) جعل بعض تجارته كتبا. (2) وعن علي بن أحمد بن يوسف الخضر الآمدي الحنبلي (المتوفى سنة 710هـ)، "كان يتجر في الكتب." (3) وقيل عن محمد بن عثمان بن عيسى الصالحي الكتبي (المتوفى سنة 909هـ): "تسبب ببيع الكتب." (4) وعن محمد بن علي بن موسى البدر القاهري الماوردي (المتوفى سنة870هـ) أنه "تكسب بالوراقين." (5) ووصف محمود بن بركات بن محمد نور الدين الباقاني الدمشقي (المتوفى سنة 1003هـ) بأنه "ملك كتبا كثيرة، وكان يتاجر فيها ويتكسب من ذلك مالا كثيرا،" (6) ومحمد بن العبدري الغرناطي النحوي (المتوفى سنة 753هـ/1353م) كان
__________
(1) ... محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط وأكرم البوشي (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403هـ/ 1983م)، 12: 269
(2) ... ابن خلكان، وفيات الأعيان، 6: 127.
(3) ... العسقلاني، الدرر الكامنة، 3: 90.
(4) ... محمد بن عبد الله بن حميد النجدي، السحب الوابلة على ضرايح الحنابلة، تحقيق بكر بن عبدالله أبي زيد وعبد الرحمن بن سليمان العثيمين (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1996م)، 1: 178.
(5) ... السخاوي، الضوء اللامع، 8: 222.
(6) ... محمد أمين المحبي، خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ( القاهرة: المطبعة الوهبية، 1284هـ)، 4: 317.(1/55)
يكتسب بالكتب. (1) وسهل بن محمد السجستاني الجشمي النحوي اللغوي (المتوفى سنة 255هـ/869م)، ذكر القفطي عنه أنه "كان جماعة للكتب، وكان يتجر فيها." (2)
إن الحديث عن العلماء الذين كانوا يتاجرون بالكتب يطول بنا، و لا يتسع المقام لذكرهم جميعا، وإنما اكتفينا بالإشارة إلى بعضهم، ويطلق على بعض تجار الكتب أيضا مصطلح "الكتبي" نسبة مباشرة إلى الكتاب.
وممن عرفوا بهذه النسبة: جمال الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم، المعروف بالوطواط الكتبي الوراق (المتوفى سنة 718هـ/ 1318م)، صاحب كتاب مباهج الفكر ومناهج العبر الذي يعد أول موسوعة في سلسلة الموسوعات الضخمة التي ظهرت في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي. ويدل لقب الكتبي الوراق المصاحب لاسم الوطواط بوضوح تام على أنه كان من تجار الكتب ونساخها، وهي أمور تجعله وثيق الصلة بموضوعات الأدب. (3) وصلاح الدين محمد بن شاكر بن أحمد بن عبدالرحمن الدمشقي، المعروف بابن شاكر الكتبي (المتوفى سنة 764هـ/ 1362م)، قال عنه ابن حجر العسقلاني: "كان فقيرا جدا، ثم تعاطى التجارة في الكتب، فرزق منها مالا طائلا." (4) وكان لجودة خطه ووضوحه وإتقانه في الوراقة، بالإضافة إلى حسن معاملته في تجارة الكتب إقبال الناس عليه. (5)
وقد أشار السخاوي إلى مجموعة من الأعلام عرفوا بهذه النسبة؛ كانوا يتعاطون تجارة الكتب منهم:
__________
(1) ... عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1979م)، 100.
(2) ... جمال الدين أبو الحسين علي بن يوسف القفطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار الفكر العربي، 1406هـ/1986م)، 2: 59.
(3) ... الصفدي، الوافي بالوفيات، 2: 16-18.
(4) ... العسقلاني، الدرر الكامنة، 4: 71.
(5) ... إحسان عباس، مقدمة فوات الوفيات لابن شاكر، 3.(1/56)
1- محمد بن عمر القمري الكتبي، الخردفوشي، "قطن القاهرة وجلس بها في حانوت بسوق الكتب."
2- محمد بن يوسف بن سليمان الأمشطي الكتبي "تكسب في حانوت بيع الكتب دهرا."
3- أحمد بن محمد أبو العباس القاهري الكتبي القصصي؛ كان يكتب القصص بالرملة، ويبيع الكتب تحت الصرغتمشية.
4- علي بن عبدالكريم الكتبي؛ "كان عارفا بالكتب وأثمانها."
5- حسن بن علي بن سالم بن البدر الكتبي "تكسب بسوق الكتب." (1)
وقد يطلق على تاجر الكتب بالمزاد المنادي. (2) وقد عرفت جملة من الأعلام بدلالي الكتب. وكانت مهمتهم ترويج الكتاب بالبيع أو الشراء. ومصطلح دلال من دلل الشيء خففه وفرقه، والدلالة مصدر، والاسم من الدلال الجامع بين البائع والمشتري، والدلال على السلعة عرضها للبيع منادياً عليها. (3) وقال السبكي: "الدلالون، فمنهم دلال الكتب، ومن حقه ألا يبيع كتب دين ممن يعلم أنه يضيعها، أو ينظرها لانتقادها والطعن عليها وألا يبيع شيئا من كتب أهل البدع والأهواء، وكتب المنجمين، والكتب المكذوبة، كسيرة عنترة وغيره، ولا يحل له أن يبيع لكافرٍ المصحف، ولا شيئا من كتب الدين والفقه." (4) ومن الأعلام الذين حملوا نسبة دلال الكتب أو وصفوا بها: عبد الرحمن بن موسى بن عمر بن الناسخ بن المنادلي، كان حسن الخط، نسخ كثيرا من الدواوين، وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة 715هـ/1315م ، (5) وخيران الوراق أحد الدلالين المقومين للكتب.
__________
(1) ... يحيى بن جنيد، الحياة العلمية في القرن التاسع من خلال الضوء اللامع (الرياض: دار العلوم، 1412هـ/ 1992م)، 20-30.
(2) ... السيوطي، بغية الوعاة، 97 .
(3) ... بطرس البستاني، محيط المحيط (بيروت: مكتبة لبنان، 1987م)، 289.
(4) ... السبكي، معيد النعم،110.
(5) ... العسقلاني، الدرر الكامنة، 349.(1/57)
ذكر صاحب معجم الأدباء " أن أحمد بن ثعلب بعد وفاته" خلف كتبا جليلة، فأوصى إلى علي بن محمد الكوفي، أحد أعيان تلاميذه، وتقدم إليه في دفع كتبه إلى أبي بكر أحمد بن محمد إسحاق القطربلي. فقال الزجاج للقاسم بن عبد الله (الوزير) هذه كتب جليلة فلا تفوتنك. فأحضر خيران الوراق، فقوم ما يساوي عشرة دنانير بثلاثة، فبلغت أقل من ثلاثمائة دينار، فأخذها القاسم بها. (1) وأبو القاسم إسماعيل بن أحمد ابن عمر أبي الأشعت السمرقندي الدمشقي المولد، ثم البغدادي الموطن (المتوفى سنة 536هـ) "قال ابن عساكر كان ثقة مكثرا، صاحب أصول، دلالا في الكتب -قال ابن ناصر: كان دلالا." (2) وناصر بن أبي الحسن علي بن خلف الأنصاري، المعروف بابن صورة المصري، دلال الكتب (المتوفى سنة 607هـ). ووصفه ابن خلكان بأنه: "كان سمسارا في الكتب بمصر." (3)
ومصطلح "سمسار" يقصد به الشخص الذي يتوسط بين البائع والمشتري، والساعي للواحد منهما في استجلاب الآخر، وهو غير الدلال. (4)
__________
(1) ... ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 2: 144-145.
(2) ... الذهبي، سير أعلام النبلاء، 2: 28-31.
(3) ... ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1: 197.
(4) ... البستاني، محيط المحيط، 426.(1/58)
ونرى ابن خلكان يسمي الوراق بسمسار الكتب. فيقول إنه كان في القرن السابع الهجري سمسارا للكتب في القاهرة يدعى "ابن صورة،" كانت داره ندوة أدبية يجتمع فيها كل يوم أحد وأربعاء من كل أسبوع أعيان الرؤساء والفضلاء، ويعرض عليهم الكتب التي تباع، وما يزالون عنده حتى انقضاء السوق. (1) ومن الأعلام الذين حملوا هذه النسبة: الإمام المحدث أبو إسحاق إبراهيم بن حرب العسكري، السمسار، مؤلف مسند أبي هريرة (المتوفى بعد سنة 282هـ). وأحمد بن عبد الله بن علي بن محمد الشهاب بن الجمال الكناني العسقلاني القاهري، ابن الجندي (المتوفى سنة 881هـ)، ارتزق مدة بالسمسرة في الكتب، وتقدم بين أهلها، ثم تركها بعد ولاية ابن عمه العز قضاء الحنابلة. (2)
وهكذا نجد أن لفظة التاجر، والمتسبب، والمتكسب، والوراق، والكتبي، والمنادي، والدلال، والسمسار أطلقت على بعض الأعلام في كتب التراجم، ومصادر التاريخ؛ ويقصد بها من كان يعمل في تجارة الكتب.
أخلاق التجار
تعد تجارة الكتب من المهن الرفيعة والشريفة، فبها تم نشر العلم، وعم النفع، وارتقت الأمم وشمخ شرفها. ولا يتسع المقام هنا لسرد الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وآثار السلف من العلماء المتقدمين التي تبين فضل العلم ونشره. ومن هنا نجد أن الأوائل من التجار المسلمين اتصفوا بالأمانة، والنزاهة، والصدق، والوفاء. هكذا كانت أخلاقهم في البيع والشراء، وكافة المعاملات المتعلقة بذلك.
__________
(1) ... الذهبي، سير أعلام النبلاء، 13: 305.
(2) ... ابن حميد النجدي، السحب الوابلة، 1: 178.(1/59)
وقد أدت هذه الصفات الحميدة إلى دخول كثير من الناس الذين احتكوا بهم في الإسلام، كما حدث في جنوب شرق آسيا، وأماكن كثيرة في أقطار العالم في ذاك الوقت. حيث كانوا يذكرون مزايا وعيوب المخطوطات؛ مما لا يعرفه المشتري من غير مبالغة وإطناب، ويقصدون بذلك تعريف إخوانهم بمعروضاتهم من الكتب. وكانوا لا يحلفون البتة من أجل بيع كتبهم، لأنه إن كان كاذبا، فقد جاء باليمين الغموس، وهي من الكبائر؛ وإن كان صادقا، فقد جعل الله تعالى عرضة لأيمانه. وقد أساء فيه، إذ الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة.
وروى أبو ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يَنظُرُ إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مِرار. "قال أبو ذر: خابوا وخسروا: من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب." (1)
فاليمين الكاذبة، وإن كانت منفقة للسلعة، فهي ماحقة للمكسب. وقد رأى الأوائل أن الثناء على السلعة مع الصدق مكروه، من حيث أنه فضول لا يزيد في الرزق، ولا يخفي التغليظ في أمر اليمين.
روي عن يوسف بن عبيد الإبلي، وكان خزارا، أنه طلب منه ثوب للشراء، فقال لغلامه: انشر الرزمة، فنشر الغلام الرزمة، وضرب بيده على الرزمة، فقال: صلى الله على محمد. فقال: ارفعه، وأبى أن يبيعه، مخافة أن يكون مدحه. (2) فمثل هؤلاء لم يضيعوا دينهم بدنياهم، بل علموا أن ربح الآخرة أولى بالطلب من ربح الدنيا.
__________
(1) ... النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، 2: 114.
(2) ... أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (بيروت: دار الكتب العلمية، 1409هـ /1988م)، 3: 16.(1/60)
ومن أمثلة الصدق والأمانة لدى تجار المخطوطات قديما ما رواه صاحب معجم الأدباء عن ابن البرفطي (1) بقوله: "بلغني عن رجل معلم في بعض محال بغداد أن عنده جزازا كثيرا، ورثه عن أبيه، فخيل لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة، فمضيت إليه وقلت له: أحب أن تريني ما خلف لك والدك، عسى أن أشتري منه شيئا. فصعد بي إلى غرفة، فجلست أفتش حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب قلم الرقاع أرانيها أيضا، فضممت إليها شيئا آخر لا حاجة بي إليه وقلت له: بكم هذا ؟ فقال لي يا سيدي: ما صلح لك في هذا كله شيء آخر ؟ فقلت له: أنا الساعة مستعجل، ولعلي أعود إليك مرة أخرى. فقال: هذا الذي اخترته لا قيمة له فخذه هبة مني. فقلت: لا أفعل وأعطيته قطعة قراضة (أي ما سقط بالقرض، كقراضة الذهب أو الثوب) مقدارها نصف دانق (2) فاستكثرها وقال: ياسيدي ما أخذت شيئا يساوي هذا المقدار فخذ شيئا آخر، فقلت: لا حاجة لي في شيء آخر، ثم نزلت من غرفته، فاستحييت، وقلت: هذا مخادعة، ولا شك أنه قد باعني ما جهله، ووالله لا جعلت حق خط ابن البواب أن يشترى بالمخادعة، فعدت إليه وقلت له: يا أخي هذه الورقة بخط ابن البواب. فقال: وإذا كانت بخط ابن البواب، أي شيء أصنع؟ قلت له: قيمتها ثلاثة دنانير أمامية. فقال: يا سيدي لا تسخر بي، ولعلك قد عزمت على ردها فخذها وحط الذهب. فقلت بل أحضر ميزانا للذهب فأحضرها، فوزنت له ثلاثة دنانير وقلت له: بعتني هذا بهذا. فقال: بعتك فأخذتها وانصرفت." (3)
ومن أخلاق التجار
__________
(1) ... هو: محمد بن أحمد بن محمد بن حمزة بن بريك الأنصاري، المعروف بابن البرفطي. ولد في بغداد في شهر رمضان سنة 566 هجرية، ومات في أول رجب سنة 625 هجرية، وخلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن البواب، كان يغالي في شرائها. ويعد ابن البرفطي أوحد عصره في حسن الخط.
(2) ... الدانق: سدس الدرهم.
(3) ... ياقوت ، معجم الأدباء، 17: 277 وما بعدها.(1/61)
الامتناع عن بيع الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله تعالى. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مبحث البيوع المحرمة: "وكذلك الكتب المشتملة على الشرك، وعبادة غير الله؛ فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها." (1)
وقياسا على ذلك، لا يجوز بيع كتب الخرافات، والشعوذة، وكتب العزائم والتمائم والتعاويذ، وتحضير الأرواح والجن، ودواوين الشعر الذي فيه هجاء، وخمر، وخنا، والمجلات الخليعة، والكتب التي يغلب عليها المخالفات الشرعية.
وسئل ابن رشيد -رحمه الله تعالى- عن رجل اشترى مصحفا أو كتابا، فوجده ملحونا كثير الخطأ، غير صحيح، ويريد أن يبيعه؛ هل عليه أن يبين؟ وإن بين لم يشتر منه. فأجاب على ذلك بأن قال: "لا يجوز أن يبيع حتى يبين ذلك، وبالله التوفيق." (2)
فعلى تجار الكتب أن يتقوا الله سبحانه، وأن يبينوا للناس عيوب الكتب التي يعرضونها للبيع إن كان بها عيوب أو مآخذ.
هكذا كانت صفات العاملين بمهنة الوراقة، وهكذا كانت أخلاقهم علماء ونساخا وتجارا. فالأمانة، والدقة، والصدق، وصحة النقل صفات تميزت بها أخلاقهم في معاملاتهم اليومية، انطلاقا من نواياهم الصادقة.
الخاتمة
وبعد إتمام هذه الدراسة عن أخلاقيات مهنة الوراقة ، يمكن تلخيص أهم نتائجها في النقاط الآتية:
__________
(1) ... شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الزرعي بن قيم الجوزية زاد المعاد في هدي خير العباد؛ تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ط3 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1419هـ/1998م)، 675.
(2) ... أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي، المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس وبلاد المغرب (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1407هـ)، 6: 203.(1/62)
1- يتسع مفهوم الوراقة ليشمل: نسخ الكتب، وتجليدها، وتزويقها، وزخرفتها، والاتجار بها إلى جانب إعداد قوائم الكتب والمؤلفات، وهو ما يطلق عليه اليوم "الوراقة."
2- لم تقتصر مهنة الوراقة على محترفي هذه المهنة فحسب، وعلى النحو الذي ذكرناه في سياق الدراسة، بل استحوذت على اهتمام فئات أخرى من ذوي الشأن في المجتمع: كالوزراء، والأمراء، والعلماء، والأدباء، والشعراء إلى جانب الوراقين، والنساخ وغيرهم.
3- حكمت مهنة الوراقة قيم إسلامية المصدر والمنبع. وبقدر التزام العاملين فيها، وتمسكهم بهذه القيم الأخلاقية، كان الارتقاء بمهنة الوراقة، وإتقان العمل فيها وضبطه في حين كان البعد عن شرع الله مؤديا إلى التخلي عن الأخلاق الإسلامية؛ مما أدى بدوره إلى الإساءة لمهنة الوراقة، والتنازل عن الكثير من آدابها.
4 - إن تجارة الكتب قد مارسها جملة من الناس منهم: العالم، والوراق، والناسخ، والمجلد، وغير هؤلاء. وقد أطلق على بعضهم العديد من المصطلحات، مثل: التاجر، المتسبب، المتكسب، السمسار، المنادي، الدلال، الوراق، الكتبي، إلى غير ذلك من المصطلحات الدالة على تجارة الكتب.
Ethical Conducts and Trade Practices of
Warraqs in Islamic Civilization
Abed b. Sulaiman al-Mashwakhi
Assistant Professor, Dept. of Libraries and Information Sciences,
College of Arts, King Saud University, Riyadh, Saudi Arabia
Abstract. It is understandably clear that the wiraqa profession in the Islamic world has acquired many specifications and definitions throughout its long history. Notwithstanding the diversity of meanings, it can be summarized as such in paper-making, manuscript copying, book binding and above all trading in books, including buying and selling any item that is needed in book production.(1/63)
It is an established fact that each profession has its own set of ethical rules and lines of conducts which are well known to its adherents and to whoever deals in such trade. In such respect, the wiraqa profession in the Arabic-Islamic world is no exception.
The wiraqa profession flourished, at the moment when the art of writing was first introduced in the Islamic world while its spreading on awider and professional scale commenced at the advent of papermaking. Taking part in this profession were not only the transcribers, the binders and booksellers but many well- known scholars.
Our study is mainly concentrated on these groups whose contacts were primerily with scholars and students alike and who chose such profession either to copy, transcribe, bind, buy and sell paper manuscripts copied by others or just trade in them as any commodity. A certain amount of our attention is directed at their ethical conducts and moral behavior from an Islamic angle, which is anchored in Islamic ethical doctrines and conduct.(1/64)