أثمر زرعي شوكًا
محمد بن عصبي الغامدي
الناشر / دار الطرفين
( 1 )
جلس أحمد محسن مع زوجته شامية في أحد الملاهي البحرية بجانب كورنيش مدينة جدة لتناول طعام العشاء وبينهما أبنهما خالد الذي لم يكمل السنة الأولى من عمره وأخذا يتذكران تلك الأوقات الجميلة التي قضياها في شهر العسل قبل سنتين .
- نريد أن نركب في تلك السفينة فأنها تذكرني بأيام زواجنا قالت ذلك شامية .
- أتذكرين عندما سقطت تلك البنت الصغيرة من السفينة .
- نعم وأنت الذي أنقذتها .
- عندها قدم لنا صاحب المطعم دعوة مفتوحة مجانية لمدة أسبوع.
- ونحن لم نضيع منها وجبة واحدة .
- لو كان الحظ سيكرر تلك الحادثة الليلة .
- أنني لن أدعك تنزل في الماء .
- لن يسقط أحد بأذن الله .
وأخذا يتناجيان ويتبادلان أحاديث الود والمحبة ما شاء الله من ليلتهما ثم عادا إلى الفندق . وفي صباح اليوم التالي ذهب أحمد إلى كيلو 14 ومن ثم اشترى أخشابا ومستلزمات لورشة النجارة وطلب من التاجر إرسالها إلى تلة الروابي في جنوب الطائف .
كان أحمد لا يسافر لشراء ما يلزمه للورشة ألا بصحبة زوجته شامية وأبنه خالد وكان كثيراً ما يقضي أوقاته معهما في المنتزهات بعد انتهاء عمله في الورشة .
كان يعيش بزوجته مع أخيه جمعان وزوجته وأولادهما في بيت شعبي في قرية تلة الروابي وكانا يجدان راحتهما في الخروج من البيت....... يخرجان بعد انتهاء العمل في الورشة ولا يعودان إلا في أوقات النوم بعد أن ينال منهما التعب جهده ..... تلك الحياة التي استثارت غيرة أخيه وزوجته نورة وتذمرهما من تلك النزهات وكثيراً ما كانت حياتهما تلك مثار خلاف بين العائلتين وسبب لنزاعهما المستمر .(1/1)
كان أحمد قد عمل في الشرطة العسكرية لمدة خمس سنوات تعرض بعدها لإصابة في رجله على أثر بعض التدريبات لم يعد بعدها يستطيع العمل وتقاعد براتب لا بأس به كما حصل على مبلغ من المال كتعويض عن الأصابة ...استطاع أن يفتح به ورشة النجارة ومعمل الألمنيوم ثم تزوج شامية بعد ذلك بسنة .
أما اخوه جمعان فقد كان يعمل في الزراعة لكنه هو وأخوه أحمد لا يزالان يعتبران عائلة واحدة وجميع متطلبات البيت كان أحمد هو الذي يحضرها ورغم أنه أصغر من أخيه بما يقرب سبع أو ثمان سنوات فأنه يعتبر الأب الحقيقي للعائلة ..
كان لجمعان ولدان هما محسن ومعيض وبنت أسمها فردوس كانت في سن خالد تقريبا.ً
يبلغ السيد أحمد محسن ثلاثين عاماً أما شامية فعمرها أربعاً وعشرين سنة من أجمل فتيات القرية بل كانت أجملهن على الإطلاق .
نصب الحسن عرشه فسألنا ... من تراها له فدل عليك
تنافس على الزواج منها كثير من شباب القرية فتزوجها أحمد محسن بحكم الصداقة التي كانت تربطه بأخيها عثمان .
كانت معتدلة القامة ذات جاذبية كمن قال فيها أبن ذريح :
لها كفل يرتج منها إذا مشت ... وفرع كغصن البان مضطمر الخصر
أو كمن قال فيها ذو الرمة :
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالأ لباب ما تفعل الخمر
وقد زاد في جمالها تلك الملابس والألوان التي كانت تختارها بعناية فعاشت مع زوجها حياة هنيئة كأنها حلم من الأحلام فترة من الزمن إلا أنها لم تدم طويلاً فقد كانا كمن قال أبن زيدون فيهما :
غاظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدهر آمينا
لم تدم حياتهم الهادئة طويلاً . فقد تعرض أحمد لحادث سيارة قضى نحبه على أثرها في ليلة لم يظهر لها صباح وأنقلب الزمان على شامية وابنها رأساً على عقب .
(2)(1/2)
تقع قرية تلة الروابي على سفح جبل صغير في جنوب مدينة الطائف . وهي حاضرة عدد من القرى المجاورة لها ففيها الأسواق المركزية والورش والمحلات التجارية والمتخصصة في بيع قطع الغيار وأدوات الكهرباء وتعتبر سوقاً للقرى المحيطة بها.
هنا منزل السيد جمعان وأخوه وقريباً منهما تقع منازل أخوة شامية الثلاثة عثمان وعمر وسالم وقد استقل كل منهم بمنزله الخاص به .
وبالقرب منهما منـ.زل السيد جابر الصالح وزوجته وابنه وحيد وفي وسط السوق تقع عمارة السيد عبد الرحيم أبو حفاف وبجانبه المسجد وقريباً منه منزل لتلك الأرملة العجوز نوال وقريباً من ذلك مدرسة للبنين تحتوي على ابتدائية ومتوسطة كما أن هناك في الطرف الأخر مدرسة للبنات أيضاً وهناك مركز صحي في طرف السوق أما على جانبي الطرق العام فهناك الورش والمحلات التجارية.
بعد أن توفي أحمد محسن بقيت زوجته أيام الحداد في بيت زوجها ثم انتقلت إلى بيت أخيها عثمان مع أبنها الذي تجاوز السنة الأولى من عمره بقليل وبقيت تتنقل في بيوت أخوتها عند كل واحد منهم فترة من الزمن .
أصبحت شامية أرملة وأصبح خالد يتيماً وألقى عليهما الزمان رحلة وأبدلهم بعد العز ذلاً وبعد السعادة بؤساً وحرمانا .
أما جمعان فقد استولى بدوره على الورشة ومعمل الألمنيوم بحجة أنه كان واخوه شريكين في كل شي وانه عندما توفي أحمد كانت الورشة والمعمل مثقلتين بالديون وأنه قام بتسديدها فأصبحت من حقه لوحده .
كانت شامية ترسل إلى السيد جمعان تطلب منه من مال زوجها المتوفي ما تعيش به هي وابنها إلا أنه لم يكن يرسل إليها سوى اقل من القليل بحجة أنه بحاجة إلى من يتصدق عليه هو أيضا... وأن اليتيم لم يعد له حصة في الورشة والمعمل وأن الدخل قليلاً جداً وإلا لقاسمها اللقمة الواحدة .(1/3)
كان المسرور الوحيد من وفاة أحمد محسن هو الشاب وحيد ابن السيد جابر الصالح جار شامية في بيتها القديم وقد تقدم لخطبتها ضمن الذين تقدموا لخطبتها في أيام الصبا ولا يزال يحبها حتى تلك اللحظة . وبعد وفاة أحمد تجدد لديه الأمل في الزواج منها .
كانت شامية لا تزال جميلة وإن كان الحزن قد سرق منها كثيراً من ذلك الجمال ألا أن أنوثتها لا تزال جذابة ولا يزال لها في قلبه شأن وأي شأن :
وكم في الناس من حسن ولكن ... ألذ العيش ما تهوى القلوب
فانشغل بها عن كل شغل وأصبحت همه ومحط تفكيره وأخذ يختلس النظر إليها ويتعمد الذهاب والروحة من أمام منزلها طمعاً في رؤيتها وإغماظ عينه على تلك الصورة الرائعة التي يراها وكانت شامية تلاحظ ذلك وتعلم ما يعانيه ذلك الملهوف وتطمع أيضا أن يكتب الله لها نصيباً عنده فهو افضل الموجودين وأصبحت تريد رؤيته أيضاً ولكن يمنعها الحياء والتقاليد من الالتقاء به أو التحدث معه فأخذت تتعمد الوقوف في طريقة و الجلوس في حديقة المنزل عندما تراه مقبلاً أو مدبراً من أمام المنزل واصبحت تشتاق له ايضا فأدرك ذلك وزاد من مروره من امام البيت حتى لفت انظار الجيران من حولهم .
وأرمي إلى الأرض الي من ورائكم ... لترجعني يوماً إليك الرواجع
سمع عثمان بتلك الحركات التي تصدر من وحيد فامسك به وهدده بالترصد له وإيذائه إذا استمر على تلك الحالة وأوعده خيرا ً أن كان قصده الزواج منها فكانت تلك بشارة خير من عثمان لوحيد الذي انطلق إلى أبيه وطلب منه خطبة شامية .
- أنني أريد الزواج يا أبي .
- هذا أمر يسعدني جدا ...
- أنني أريد الزواج من شامية .
- شامية ..... ونهض من مجلسه وقال .
ألم يرفضك أخوها عندما تقدمت لخطبتها قبل زواجها ؟
- هذا نصيب يا أبي .
- لقد أنقطع نصيبك منها إلى الأبد .
- أنني لا أريد سواها .
- إذاً تبقى بدون زواج ، ثم خرج من عنده . وتركه فدخلت أمه فإذا هو صامت لا يتكلم .
- ما بك يا وحيد ......؟(1/4)
- لا شيء .
- لقد خرج أبوك ممتلئاً غضباً .
- هذا طبعه يا أمي . أنت تعرفينه جيداً .
- ما الذي جعله يغضب ؟
- طلبت منه التقدم لخطبة شامية.
- ألا زلت تحبها يا وحيد ؟
- كل الحب يا أمي .
وإني لتعروني لذكراك هّزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
- وهي تحبك ؟
- اعتقد ذلك .
- ولكنها فضلت عليك أحمد محسن في صباها .
- لا زالت حبيبة يا أمي .
- يرى أبوك أن كرامته قد جرحت عندما رفضوك في المرة السابقة .
- والله لن يسكن قلبي غيرها .
- يا بني إن البنات كثر وهي الآن لا تصلح لك فلديها طفل من زوجها السابق وقد تكون لا تريد الزواج حتى يكبر وأنت تحتاج الآن إلى زواج . ولو بقي زوجها حياً لم تنظر إليك وعليك أن تحترم نفسك . وأبوك يعرف مصلحتك .
ولا أريدك أن تفكر بها إذا كان أبوك يغضبه ذلك . واسترسلت في حديثها ذلك . لكنه كان مصمما" على الزواج منها مهما كلّفه ذلك مما ادى بوالده الى طرده من البيت ولم يعد اليه الا بعد ان قبل اخيرا بالزواج من الفتاة التي تختارها له والدته.... التي استطاعت اقناعه بفتاة كانت جميلة ايضا وتمت خطبتها لوحيد .
خطب وحيد إحدى فتيات القرية وبزواجه منها أرصد الزمان باباً من أبواب الأمل التي كانت شامية ترى النور من خلاله وانقطع بذلك حبلاً من حبال الرجاء الذي كانت تتعلق به .
قلب الزمان ظهره لشامية وابنها وأصبحت تتعرض للإهانة والذل من قبل زوجات أخوتها كما أصبح ابنها يتعرض للضرب والمضايقة شبه اليومية من أولاد أخوتها واستثقلت نفسها على الزمان وأهله فطلبت من أخيها عثمان الذي كانت تناقشه في كثير من أمورها الخاصة أكثر من الآخرين وترتاح للجلوس معه طلبت منه أن يسمح لها بالسكن مع ابنها لوحدهما في غرفتين كانتا في فناء منزله بحيث تستقل بذاتها عنهم وذلك أفضل لها من التنقل بين بيوت أخوتها فوافق واشترى لها ما يلزمها من أثاث ومتاع واستقلت بحياتها عنهم جميعاً .(1/5)
أما جمعان فقد أهمل ابن أخيه ولم يتعهده بصلة ولا مصروف أو معروف إلا في أيام الأعياد وأصبح في مستوى مساكين القرية بالنسبة له .
حاول الشيخ عبدالرزاق إمام القرية أن يعرض على جمعان الزواج من شامية لكي يحفظ ابن أخيه ويعيش مع ولديه الآخرين إلا أن جمعان كان يعلم تماماً مقدار الكراهية التي تكنّها زوجته نورة.. لشامية منذ أن كانت زوجة لأخيه كما كان يدرك تماماً أنه لو أقدم على هذا الأمر لقلبت له زوجته حياته نكداً فأحجم عن هذا الأمر وامتنع عن الزواج أو القبول بفكرته من أصلها ، بحجة أنه يتذكر أخوه عندما يراها وشيىء من تلك الحجج .
وفي يوم من الأيام أتى خالد إلى أمه ينزف دماً وهو يبكي :
- ما بك يا بني ؟
- ابن خالي عمر ضربني .
- أي ولد منهم ؟
- إنه طارق .
فأخذت عصا وخرجت مسرعة فإذا الولد واقف بين أمه وأبيه وهما يلاعبانه ويضحكان معه .
- لماذا تضرب خالد يا طارق ؟
- هو الذي بد أ بضربي .
- إنت أكبر منه وليس لك أن تضربه .
- إذا ضربني فسوف أضربه .
- إن ضربته مرة أخرى فأنا التي سأضربك .
ثم التفتت إلى أخيها وزوجته .
- كأنك راض عن هذا الدم الذي ينزف من وجه خالد .
- ابنك هو الذي ضرب طارق أولاً .
قالت ذلك زوجته .
- أنا لم أكلمك أنت .
- بل أنا الذي سأرد عليك لأنني أرى في يدك عصا تريدين أن تضربيه بها .
- إن عاد لضرب خالد سأضربه حقاً .
- هذا الذي ننتظره منه ..
- هذا يعني إنك أنت التي حرضت على ضربه .
- إذا أخطاء فسوف ينضرب واحسبيه مثل أولادنا واتركيه يمتزج معهم فالأطفال هكذا يضربون ويُضربون .
- إلا خالد فإنه لا يؤذي أحد . أنه يتيم وليس له من يدافع عنه .
- إنهم أحياناً لا يخلصون من أذاه .
عند ذلك التفتت شامية إلى أخيها وقالت :
كنت انتظر منك أن ترد عليّ بلسانك ولا تترك زوجتك ترد بلسانك وأنت تستمع إليها .(1/6)
- لن أرضى يا أختي على خالد أبداً ولكنك منفعلة جداً ولا أريد أن يبتعد عنهم فاتركي لي الأمر وأنا سأعاقب أي ولد من الأولاد يعتدي عليه بدون سبب ولن تتكرر بإذن الله .
فأخذت شامية ابنها وعادت إلى غرفتها وأخذت تغسل الدم من وجهه وتقبله وتبكي .
وفي هذه اللحظة كانت العجوز نوال عابرة من أمام بيت شامية بينما كانت ذاهبة إلى الوادي الذي في طرف القرية فسمعت صوت شامية ومرت بها فإذا شامية تغسل الدم من وجه خالد وهي تقول :
- حسبنا الله ونعم الوكيل ـ حسبنا الله ونعم الوكيل .
- ما بك يا ابنتي ؟
- إنهم يضربونه كل يوم وهذا الدم من آثار ضرب طارق له في وجهه.....
- هل شكوته إلى أبيه ... ؟
- شكوت إلى أبيه فردت عليّ أمه وكأنها قد أفرحها ذلك .
- هذه عادة الأطفال ولا يجب أن تغضبي فهم هكذا .
- إذا لم أغضب من أجل أبني فمن اجل من اذا" ؟
- غداً يلعبون مع بعضهم وكأن شيئاً لم يكن أما أنت فلا يجب أن تكوني هكذا يا ابنتي .
بدت حالة البؤس والعوز تظهر على شامية وابنها . وكانت ملابسها رثة وقد خلي صدرها من الحلي التي كانت تزينه ...كذلك لم يعد لتلك الأساور التي كانت في يديها أثر فرقّت لها العجوز وطلبت منها أن تصحبها بابنها إلى الوادي إلا أنها رفضت لكن إصرار تلك العجوز جعلها تقبل الذهاب معها .فسارت معها.
وفي نهاية اليوم عادت شامية مع العجوز التي طلبت منها أن تزورها قريباً وان تخرج من ملابس الحزن فلا ينبغي لها أن تبقى ملتبسة ثوب البؤس المؤلم .
وفي اليوم التالي . أخذت شامية ابنها بعد صلاة العصر وانطلقت إلى العجوز نوال فاستقبلتها ورحبت بها وبينما كانت شامية مع مضيفتها . كانت العجوز تسألها وتناقشها لتستنتج ما يدور بخلد شامية عن الزواج .
- أنت يا بنتي لا زلت شابة والدنيا لا زالت جميلة أمامك والحزن والتشاؤم لا يفيدك بشيء والحزن لن يعيد زوجك اليك وحياتك اهم مالديك .
- انه فقد زوجي يا أم علي وكذلك ابني هذا المسكين .(1/7)
- ابنك سيعيش حتى ولو كنت لست موجودة .
- إنني أرملة وأخاف عليه . وهو يتيم أكل عمه حقه واولاد اخواني يعاملونه بقسوة نساؤهم لا يطيقون رؤيتي . أنني وابني كل شيء في هذه الدنيا ضدنا فكيف تريدين مني أن أفرح كيف تريدين مني أن أخلع ثوب الحزن . إن حزني كل يوم يتجدد يا خالة.
ثم وضعت وجهها بين راحتيها وأخذت تذرف دموعها دونما صوت .
بكيت بلادمع ومن كان حزنه ... شديداً بكى من دون صوت ولادمع
- ليست هذه الطريقة يا بنتي التي من خلالها يمكن أن تواجهي الزمن. فالزمن قاس ولا يمكن مواجهته إلا بعزيمة قوية وإصرار تتغلبي بهما على كل المصاعب وأنت لا زلت في مقتبل العمر ولابد أن تكوني جسورة ولعلها شدّة وانتهت بإذن الله.
- لكنني مكسورة الجناح يا خالة .
- بل أنت عروس العرائس وهنا الكثير من الرجال الذين يتمنى كل واحد منهم أن تكوني عروسته .فأسمعي كلامي وسيأتي العريس يقبل يدك ورجلك فانت لازلت اجمل فتيات القرية .
- وابني ....؟
- ابنك سيعيش معك أو مع أهله أو مع أخواله .
- لا تكملي لن أدعه يعيش مع أخواله أبداً ولا مع عمه إذا لم أجد من يرضى به أن يعيش معي فلن أتزوجه .
- أنت تتخيلين ذلك ولو عاش مع أخواله أو مع عمه لاندمج في مجتمعهم ثم أصبح الأمر طبيعياً بعد ذلك .
- لن أتركه أبداً وأخذت تحضنه وتبكي .
- أنت لا زلت جميلة وأخاف أن يسرق منك الزمن هذه الصورة الحسنة ثم لا تجدي من يبكي عليك .
- لا تهمني نضارتي ولا جمالي .
- بل هي ما يريده الرجل من المرأة وأنت الآن في يدك الفرصة وإن أطعتني بحثت لك عن من يعرف قدرك وقيمتك وسوف اجتهد في إيجاد من يقبل أن يعيش ابنك معك وإذا سمحت لي فسوف أعمل جهدي لكي أراك عروساً في أقرب وقت .
- أخاف أن أصدم بمن يزيد لوعتي بابني .
- ابنك سوف يكبر ويذهب ويتركك كما فعل ابني . أنه نسيني الآن ولم يعد يذكر سوى زوجته .
- إذا علموا أهله أنني ساتزوج فسوف يطلبوه مني .(1/8)
- لن يأخذوه قبل أن يكبر هذا شرعاً . وأنا أعلم أن زوجة عمه لا تريد أن تراه يمشي على الأرض .
- يعني ..
- اتركي لي هذا الأمر وأنا سأتدبره بحكمة بإذن الله وستكونين راضية عني كل الرضا يا ابنتي قريباً .
عادت شامية وابنها الى بيتهما بعد أن وجدت لدى العجوز نوال بصيص أمل ينقلها إلى الحياة بعد أن كانت جميع الأبواب موصدة في وجهها منذ أن توفي عنها زوجها وأبصرت شعاعاً يدخل إلى حياتها من فوق هامة تلك العجوز بعد ظلام دامس خيم على حياتها حيناً من الدهر .
(3)
لاحظ عبدالرحيم أبو حفاف صاحب السوق المركزي الواقع بجانب منزل العجوز نوال ..تلك المرأة تخرج منه فاتبعها نظره حتى عرف أنها شامية فخلفها إلى منزل العجوز ودخل يسألها عن سبب مجيئها إليها ..
- من التي كانت عندك يا أم علي ؟
- لم يكن لدي أحداً .
- بل خرجت من عندك فتاة جميلة ..وأنا قد عرفتها .
- مادمت عرفتها فلماذا تسأل ..؟
- عرفتها ....... اليست شامية ...؟
- وماذا تريد منها ؟
- ربما كان قصدي خيراً .
- من يقصد خيراً يجده .
- أنا والله ذلك الرجل ..
- ماذا تعنى ؟
- ربما يوفقك الله لتجمعي بين رأسين بالحلال .
- هل تفكر بالزواج يا أبا صالح ؟
- من هذه الفتاة فقط .
- وزوجتك ؟
- أنا الذي سأتزوج وليست هي .
- ألا تمانع في ذلك ؟
- لن أطلب موافقتها وهي عاقلة ولا اعتقد إنها سوف تدخل معي في اشكال من أجل هذا الأمر .
- إنها ستغضب علي أنا .
- الغضب يذهب في فترة قصيرة .
- هل انت جاد فيما تقول
- نعم كل الجد ..
- سأحاول أن أبحث معها هذا الأمر .
- أرجو أن تعطي الأمر اهتماما يا أم علي..... إنها حلم حياتي .
- وولدها !
- إذا أرادت أن يبقى معها فلا مانع .
- في شقة بمفردها .
- نعم سيكون لها شقة خاصة وعندي شقة خالية في الدور الثاني من الممكن أن أجهزها لها . ولكن !
- لكن ماذا ؟
- إذا طلب جمعان ابن أخيه ؟
- تحاول أنت بطريقتك الخاصة أن تتولى الأمر .(1/9)
- لك ذلك .............وسأتولى هذا الأمر مع عمه .
- أعدك أن أبذل جهدي في إقناعها .
وفي اليوم التالي : ذهبت إلى منزل شامية فإذا هي قد لبست ملابس مختلفة عما كانت عليه .بالامس
- نعم أريدك أن تلبسي وتخرجي فالدنيا جميلة والشاعر يقول :
كن جميلاً ترى الوجود جميلاً
- ليس في الوجود اليوم شيئاً جميلاً يا أم علي .
- بل كل الجمال ...... اليوم لدي خبر جميل جداً .
- خبر عن ماذا..... ؟
- عريس يا أميرة العرائس .
- عريس . وضحكت..... .ألا زلت في هذا الأمر ؟
- نعم ...... إنه أكفاء أهل القرية . إنه أبو حفاف .
- أبو حفاف .
- إنه يريدك عروسته في أقرب وقت .
- لكن !!
- ليس في الأمر لكن لو أطعته فإنه يتمنى لو كنت عروسته الليلة ...... إنه مستعجل جداً ومستعد بكل طلباتك .
- وابني .
- استعد بكل ما أمليته عليه .
- إنني محتارة يا أم علي .
- لا أريد تردداً فلن تجدي مثله أبداً .
- هذا الكلام يكون مع أخوتي يا أم علي . إذاً !
- إذا وافقتني أنت التي يهمني أمرك ...... فأمر أخوتك سوف يقوم به أبو حفاف.
- من ناحيتي أنا شبه موافقة .
- نعم .......قولي موافقة وأريدك أن تنطقيها مبتسمة فالدنيا تفتح لك ذراعيها.
- موافقة قالتها بابتسامة خفيفة .
- بارك الله عليك وأتمنى لك كل خير . وسوف أخبره بذلك واطلب منه أن يتقدم لخطبتك من أخوتك رسمياً .
(4)
يبلغ السيد عبدالرحيم أبو حفاف الثانية والخمسون من العمر لكنه يبدو للرائي أنه لا يزال في سن الأربعين وهو شخصية محبوبة ذا جاه ووقار..... حنطي البشرة .......متزوج من زوجته خديجة وله منها خمسة أطفال صالح وإبراهيم وحسن و فوزية وصفاء . أكبرهم ابنته فوزية التي قد تزوجت وتقيم مع زوجها في مدينة الرياض أما صالح فيدرس في الجامعة بمكة المكرمة وإبراهيم وحسن يدرسان في المرحلة المتوسطة أما صفاء فهي أصغرهم سنا" تدرس في الصف الثاني الابتدائي .(1/10)
يعيش السيد عبدالرحيم حياة هادئة مع زوجته وأطفاله ، يعمل في السوق المركزي الذي يملكه في الدور الأول من عمارته التي في طرف السوق والمكونة من ثلاثة أدوار ويسكن في الدور الثالث منها مع عائلته .... شخصيته قوية في بيته وفي القرية وله كلمة مسموعة.
وفي اليوم التالي عادت اليه تلك العجوز لتخبره بما وجدت من أخبار سعيدة .فوجدته جالساً بمفرده في السوق المركزي .
- ألف مبروك يا أبو صالح .
- بارك الله فيك . وافقت معك .....أليس كذلك ...؟
- بكل تقدير واحترام .
- لن أنسى جميلك هذا يا أم علي .
- كيف ستخبر زوجتك ......؟
- قد مهدت لذلك الأمر .
- ماذا قالت ....؟
- كنت قد أخبرتها بنيتي بالزواج منذ فترة .
- هل علمت من تكون ؟
- أنا لم أعرف إلا في هذه اللحظة.. فكيف . بها ؟
- ثم ناولها مبلغاً من المال ، فشكرته وانصرفت .
وفي اليوم التالي ذهب السيد عبد الرحيم أبو حفاف إلى السيد عثمان وخطب أخته منه فاستقبله أحسن استقبال ، لكنه طلب منه أن يمهله بعض الوقت لكي يشاور صاحبة الشأن وبقية إخوانه في هذا الآمر وبعد أسبوع من ذلك وافقت الإطراف المعنية .....وخُطبت شامية شرعاً . للسيد عبد الرحيم أبو حفاف وتم الزواج بعد ذلك بفترة قصيرة ،........ وانتقلت شامية مع أبنها إلى بيت السيد عبد الرحيم أبو حفاف الذي كان يخطب ودها في كل حين كما أنه استطاع أن يؤلف بين زوجتيه حتى عم الوئام والسعادة جو البيت بكاملة .(1/11)
بقي خالد مع أمه حتى انتهى من المرحلة الابتدائية وفي هذه الفترة لم يكن جمعان يتعهد ابن أخيه بصلة او كسوة او غيرها حيث أن شامية وافقت على ذلك عند زواجها من السيد عبد الرحيم مقابل أن يبقى الولد مع أمه حتى انتهاء المرحلة الابتدائية وبعد أن أتم خالد تلك المرحلة الدراسية طلب جمعان من عبد الرحيم أبو حفاف وزوجته شامية أن يعيش أبن أخيه مع أولاده اللذين كأن الأكبر منهم محسن يدرس في كلية الشرطة و ا لأخر معيض يدرس في الصف الاول من المرحلة الثانوية .
رفضت شامية ذلك الطلب إلا أنه وبعد التدخل من الأصدقاء والأقرباء وافقت أن يعيش مع عمه وعائلته وعلى أن يسمح له بزيارة أمه متى شاء وأنتقل خالد ليعيش مع عمه جمعان وزوجته نورة وابنه معيض وابنته فردوس .
اشترى جمعان لأبنه معيض سيارة يذهب بها إلى المدرسة ويوصل أخته بها وكذلك خالد في طريقه وهو ذاهب أو عائد من المدرسة .
كانت السيدة نورة لئيمة الطباع سيئة الخلق قصيرة القامة ذات عينين جاحضتين وقد قامت بقسمة اعمال البيت بين أبنتها فردوس وبين خالد وأخذت تحاسب خالد على أي قصور في عمله المكلف به .
كان يطبخ ويكنس وينظّف. ويغسل الملابس وعليه كي ملابس العائلة كلها حتى أنه لا يكاد يفرغ من عمل حتى يكلف بعمل أشق منه حتى أعتاد الغلام على هذه الأعمال وأصبح يقوم بها على أكمل وجه وكان عمه يرى ما تكلفه زوجته به فما يستطيع الاعتراض عليها أو إبداء أي رأي حوله .
وفي ذات يوم وبينما كان خالد يقوم بأعمال الكي احرقت المكواة بعض ملابس معيض فقام بالاعتداء عليه وضربه ضرباً مبرحاً فخرج خالد يبكي أمام المنزل واثناء ذلك كان خاله عثمان . عابراً من أمام البيت فسأله :
- مابك يا خالد ... ؟
- لا شيء .
- بلى أني أراك تبكي .
- لقد ضربني معيض .
- لماذا ضربك . ؟
- من أجل حرق صغير لحق ملابسه وأنا أكويها دون قصد مني .
- ولماذا لا تكويها أمه أو يكويها هو . ؟(1/12)
- أنه عملي فأنا مكلف بكي الملابس .
ثم دخل فوجد السيدة نورة جالسة بين زوجها وأولادها فقال:
- من الذي ضرب خالد ؟
فا لتفت إليه معيض قائلاً .
- لقد أحرق ملابسي أتريد أن تراها .
- لا أريد أن أراها..... ولكنه يتيم بينكم فا حسنوا اليه .
- لقد أحرقها متعمداً .
- لا أعتقد ذلك ولماذا لا تكويها أنت أو أمك .
- هذا ليس من شأنك قالت ذلك نورة .
ألا يكفيه أنه يأكل ويشرب ويلبس مجاناً .
- أنه في ملك أبيه .
- لم يترك لنا أبوه إلا الديون ـ الله المستعان ـ ، لم تترك شامية في يده شيء .
ـ سوف يحاسبك الله على قسوتك عليه انه لا يستطيع أن يأخذ حقه منك ولكن الله قادرعلى كل شيء.
ثم أنصرف يكيل لها اللعنات والشتائم وهي ترد عليه بأسوأ مما قال .
توجه خالد بعد ذلك إلى بيت أمه ليشتكي عليها ما وقع بينه وبين معيض فانطلقت به إلى خاله عثمان .
- أريدك أن تذهب معه إلى عمه لقد ضربوه وهو لا يحسن أن ينتصف منهم .
- لقد تكلمت معهم في ذلك قبل قليل .
- وماذا وجدت .؟
- كانت نورة تتكلم عليّ وتشتمني وزوجها جالس وكأن الأمر لا يعنيه .
بقي خالد عند أمه يومين حتى جاء عمه جمعان يطلبه وبعد أن تكلم معه أبو حفاف استعد جمعان أن لا يرضى عليه أي ظلم في البيت أبداً .
من بعد تلك المشكلة أصبح خالد لا يركب مع معيض في السيارة الى المدرسة ويذهب معيض بأخته فقط أما خالد فأنه يمشي على رجليه يومياً بحجة أنه تعمد إحراق ملابسه كما أن المصروف الذي أعتاد طلاب المدارس أن ياخذوه من اهلهم في صبيحة كل يوم لم يكن خالد يعرفه فكان معيض يذهب إلى مقصف المدرسة ويشتري ما يحلو له أما خالد فإنه لا يملك ما يذهب به إلى المقصف. الشيء الذي جعله في فسحة كل يوم دراسي يأخذ كتابه ويتسلى بالقراءة فيه بينما جميع الطلاب يتناولون وجبة الإفطار.(1/13)
كان خالد لا يذهب إلى المدرسة إلا بعد أن يقوم بالأعمال التي من الواجب أن تقوم بها زوجة عمه وكانت المدرسة متنفّس وراحة بالنسبة له إلا أن زوجة عمه قد فطنت لذلك وأصبحت تعاقبه بحرمانه من المدرسة إذا أرادت عقابه .
(5)
أكمل خالد دراسته المتوسطة كما تخّرج معيض من الثانوية العامة وكان في تلك السنة أيضاً أن اكمل محسن دراسته في كلية الشرطة فعمل في شرطة الطائف وطلب من أبيه أن يسمح لأخيه معيض بإكمال دراسته عنده في مدينة الطائف .
سافر معيض إلى الطائف مع أخيه وبقي خالد في البيت وزادت عليه أعباء العمل في البيت وأضيفت إليه شراء ما تحتاجه الأسرة من السوق .
وفي ذات يوم ذهب خالد إلى أمه وسألته :
- كيف أنت يا ولدي ؟
- إنني لا أريد البقاء مع عمتي يا أمي ، إنني أعمل مثل خادمة عندها .
- أصبر وغداً ستكبر ويرزقك الله بعيداً عنهم ، ألم ترى أن معيض سافر بعد أن أنهى دراسته في المرحلة الثانوية .
- لا أستطيع أن أتحمل ما تكلفني به زوجة عمي .
- عاقبة الصبر جميلة وسوف يعاقبها الله.
- بالأمس طلبوا مني أن أنام في غرفة السطوح بدلاً من المجلس.
- لماذا ؟
- يقولون أنني كبرت وهم يخشون على فردوس مني .
- انت كبرت وهي كبرت وهذا شيئ طبيعي ، وأنت ما رأيك في ذلك ؟
- إنها أختي . ولكنني وافقت وكأنني لم أسمع ، إنني أريد أن أبعد عنهم أكثر من السطوح .
- أنت رجل وأعمل ما يطلبونه منك وغداً سيكون الفرج بإذن الله.
- أريد أن أسافر يا أمي .
- أين تذهب ؟ أنت لا زلت صغيراً على السفر . هل تريد أن تشقيني وأبقى مشغولة عليك ....؟......... فأنا لا أتحمل بعدك عني.... وهنا أراك على الأقل في كل يوم ، أما السفر فلا أريد أن أسمع ذكره منك مرة أخرى .
ومرت الأيام وتعوّد خالد على ما يقاسيه من عناء وتعب من عمه وعمته واستمر في أعمال البيت وكره الدراسة وأصبح يكثر غيابه عنها.(1/14)
وفي ذات يوم وبينما كان التلاميذ في مدارسهم خرج خالد إلى طرف الوادي وبقي هناك يصطاد طيوراً فقابله أحد شباب القرية وسأله:
- ماذا تعمل هنا يا خالد ...؟
- لا شيء .
- هل أنت هارب من المدرسة ....؟
- لم أذهب اليها من الصباح .
- كنت أحسبك من الأوائل في الدراسة فإذا بك تترك المدرسة وتأتي .... لأ صطياد الطيور هنا .
- لقد كرهت الحياة بكاملها....... ويأست من كل شيء .
- العجز من صفات الجبناء وأنا أرى فيك علامات الرجوله وغداً يكبر أولاد عمك فيتوظفون ويعملون وأنت لا تجد لقمة خبز او تبقى خادما لهم .
- الله الذي يرزق .
- نعم . ولكن لابد لذلك من سبب .
- قلت لك كرهت الحياة .
- من ماذا ......؟
- ماذا يهمك في الأمر .
- ألا تعرفني.... ؟
- أعرفك إنك ابن عمي عبدالرزاق .
- واسمي عبدالعزيز .
- اسمك لا أعرفه ولكنني أعلم أنك تعمل في مدينة ينبع ولي إليك حاجة لو قضيتها لأشكرنك ما حييت .
- وما هي ......؟
- أريد أن أذهب معك إلى جدة .
- لماذا .....؟
- ابحث عن عمل .
- عندها سوف يحسب عمك أنني أفسدتك عليه وهربت بك من القرية .
- سيكون معروفك عليّ أنا .
- لماذا تسافر .. ؟
- إن أخبرتك عن السبب لن تقوله لأحد .....؟
- نعم سيكون سرك محفوظ .
- إذاً اسمع مني :
وقص عليه خالد قصته كلها فرق له قلب ذلك الشاب كما نزع الثوب عن جسده وأراه علامات الضرب التي بان تأثيرها فزاد قلب ذلك الشاب شفقة عليه .
- إذا لم تخبر أحداً أنت أيضاً سآخذك معي غداً في الصباح الباكر وتسافر معي ولكن لا أريد أن يعلم أحداً بذلك .
- أكون شاكراً لك هذا الجميل ولن أخبر أحداً .(1/15)
وتفارقا وذهب خالد إلى أمه وأعاد عليها نفس الكلام وأخبرها أنه لم يعد يحتمل البقاء خادماً لزوجة عمه كما استعد بأن يرسل لها جوابات يخبرها بمكان وجوده وأن يطمنها عن نفسه باستمرار وبقي خالد بقية يومه ذاك ساعة عند أمه ومثلها في الشارع وتارة في المسجد ، ولم يذهب إلى منزل عمه إلا بعد صلاة المغرب .
وعند عودته كانت زوجة عمه تنتظره بفارغ الصبر فسألته :
- أين كنت إلى الآن.... ؟
- ألعب مع صبيان القرية .
- أليس لديك عمل في البيت......؟
- لقد تعبت من شغل البيت فالصبيان لا يشتغلون كما يقول زملائي ، وإنما هو من شغل البنات وعندك فردوس . لماذا لا تشتغل هي الأخرى ...؟
لم يكمل كلمته حتى ضربته بالعصا ضربتين لم ترفع الثانية منها حتى نضخ الدم معها من ساقه فخرج من البيت هارباً يبكي بأعلى صوته حتى وصل إلى باب المسجد فوجد المصلين داخلين لصلاة العشاء وهو يبكي مما حدى بالناس إلى الخروج لسماع ذلك الصوت فإذا خالد ممسك برجله والدم يسيل منها ومكان ضربة العصا ظاهرة على رجله وهو يقص على الناس ما تفعل به عمته يومياً .
فحمله عبدالرحيم أبو حفاف هو وابنه وذهبا به إلى أمه شامية.
أما السيد جمعان فقد خرج إليه نفر من أهل القرية بعد صلاة العشاء وأنّبوه ولاموه وزوجته على ضرب ذلك المسكين الذي يستحق كل رعاية وشفقة .
وعندما انصرفوا ألتفت السيد جمعان إلى زوجته وقال :
- هذا ما كنت أخشاه أن يلتّف اهل القرية علينا ويتفرج الناس على أعمالك السيئة .
- لابد أن أربيه فأمه لم تحسن تربيته .
- كان أولى بك الشفقة عليه .
- دع الشفقة لك أنت .
- سوف يحاسبك الله على ضربه .
- سوف يحاسبنا جميعاً . وأنا لم أرد إلا إصلاحه .(1/16)
عندما دخل خالد على أمه كان يسحب رجله فترى الدماء تسيل من ساقه فأخذت تدعي على عمته وتبكي معه لكنها اقتنعت الآن أن الصبي على حق عندما طلب الأذن منها للسفر والخروج من جحيم العذاب الذي يعيش فيه واخبرها بما نوى عليه وعاهدها على ان يخبرها بمكان اقامته وان يكتب لها رسالة كل يوم تطلع فيه الشمس .
وفي اليوم التالي التقى صاحبه مبكراً وأخذه معه إلى مدينة جدة وهناك سأله:
- وأين تريد من جدة ..........؟... فها نحن في طرف المدينة..
- أنزلني في طرف السوق وأنا سأتدبر أمري .
نزل خالد من سيارة ذلك الشاب بعد ان اعطاه بعض النقود لم ياخذها خالد الا بعد اصرار والحاح شديدين . امام بوابة باب شريف .
في اليوم الذي سافر فيه خالد ذهب جمعان إلى السيد عبدالرحيم أبو حفاف يسأله عن ابن أخيه :
- هل نام خالد عند أمه البارحة ....؟
- أنني أعتقد أنه ذهب إلى الشرطة ليقدم شكوى ضدك انت وزوجتك .
- بل نام عند أمه ..... لقد هرب من البيت بعد صلاة المغرب .
- لقد شاهده الناس عند المسجد والدماء تسيل من ساقه .
- لقد سألته عمته أين ذهب طيلة النهار فكان رده قبيحاً .
- بل ضربته وأنت تسمع وترى والله الذي سوف ينتقم له منك ومنها . لقد ضربت ذلك اليتيم لأنه لم يقوم بخدمتها كما تحب وذهب يبكي عند باب المسجد وأهل القرية شاهدوه جميعاً .
- ما دمت تعرف ذلك فهو عندك .
- بل أن جميع أهل القرية يعرفون ذلك وسيشهدون معه .
- وأين هو الآن..... ؟
- إن أمه تبحث عنه أيضاً ولم تنم طيلة ليلتها .
- إنه عندها بالتأكيد .
- بل أظنه ذهب إلى الشرطة وعليك أن لا تفارق المنزل فربما حضر بعضهم مع خالد .
- أريد أن تسأل أمه عنه .
وصعد عبدالرحيم إلى باب الشقة ثم فتح الباب وسأل زوجته شامية :
- هذا جمعان يسأل عن خالد .
- الله ينتقم منه ومن زوجته وأنت تدري أنني لا أعلم عنه أيضاً وإنني مشغولة عليه....
- لقد قلت له ذلك فلم يقتنع .(1/17)
- الله ينتقم منهم .. الله ينتقم منهم ، قالت ذلك وهي تبكي بصوت مرتفع ثم أغلقت الباب وبقي جمعان يستمع في ذلك الدعاء وهو لا يلوي على شيء . ثم قال:
- وأين نبحث عنه الآن .......؟
- ابحث عنه بمفردك أو أنت وزوجتك والمفروض أنها لا تضربه هكذا . لقد شاهد جرحه جميع من صلى صلاة العشاء في المسجد إنهم يدعون عليك وعليها جميعاً . ألا تستطيع أن تحكمها . ألا تستطيع أن تحمي ابن أخيك . غداً بإذن الله ستضربك أنت.
ثم تركه وانصرف وبقي حيران لا يدري أين يبحث عنه يذهب إلى أطراف الوادي وإلى طرف الطريق المؤدي إلى المدرسة كما قام بمراقبة شقة أمه ، إلا أنه لم يحصل على خبر عنه إلا بعد أسبوع حيث سمع أنه قد وصل إلى جدة فأراد اللحاق به إلا أن زوجته كانت ترى أنه لن يعود أبداً وأن هذا هو الطريق الذي تتخلص به منه إلى يوم الدين .
( 6 )
جلس خالد بجانب بوابة باب شريف ينظر إلى الناس ما بين بائع ومشتري وبين راكب وماش الناس تذهب وتعود في كل الاتجاهات ، ذا يحمل على كتفه وذاك يدفع عربة عليها بضاعة لأحد التجار وشاهد رجلاً ينقل بعض البضائع من الأرض ويضعها في سيارته ، فانطلق أليه وأخذ يساعده ويحمل معه تلك البضائع حتى استكمل الرجل ما عنده وربط معه تلك الحمولة على ظهر السيارة ثم شكره صاحب السيارة وأعطاه خمسة ريالات وأنصرف .
عاد خالد إلى مكانه وكان كل تفكيره أنه يعمل مثل أولئك العمال اللذين يحملون البضائع من المحلات التجارية إلى ذلك الميدان الذي تقف فيه سيارات العملاء ، وبعد صلاة العشاء وبعد أن نال منه التعب جلس أمام بوابة إحدى البنايات فنام بجانب باب البناية حتى لاح نور الفجر وعاد إلى عمله وخلال ثلاثة أيام جمع خالد اكثر من 200 ريال .
كتب خالد رسالة الى امه يخبرها بعمله وذهب بها الى مكتب البريد وأرسلها الى تلّة الروابي فكانت مصدر ارتياح لها ......(1/18)
وفي الليلة الرابعة وبعد ما وضع رأسه على كرتون أمام البناية التي أعتاد أن ينام عند بابها إذ وقف عنده صاحب البناية ومعه شرطي فاصطحباه إلى قسم الشرطة الذي لم يكن يبعد عنهم كثيرا" .
- ماذا تنوي من تواجدك عند باب البناية ..... ؟
قال ذلك ضابط الشرطة .
- كنت أريد أن أنام ..
- ألا تعلم أن ذلك ممنوعاً ....؟
- لم أعلم بذلك ...
- هل سبق لك أن نمت في هذا المكان.... ؟
- ثلاث ليال .
- كنت تريد أن تسرق أليس كذلك... ؟
- لا . لست لصاً .
- جميعكم تقولون ذلك .
- حقاً أنني لست لصاً .
- ماذا تريد إذا ..... ؟
- أنني أنام هناك فقط . فليس لي منزلا" انام فيه ...ولم أوذي أحداً كما أنني لا آوي إلى مكاني هذا ألا بعد أن يمضي من الليل وقتاً ليس قصيراً .
- هل سمح لك صاحب البناية بذلك ..... ؟
- لا أعرفه . ولو عرفته لاستأذنت منه .
- ألا ترى هذا الرجل الذي جاء معك .....؟
- أراه حقاً .
- انه صاحب البناية وهو الذي اخبر عنك .
- جزاه الله خيراً . لو كان يعلم بقصتي لما وشى بي إليك .
- لقد شك في أمرك ومن حقه أن يخبر عنك .
- قد يكون معذوراً ولكنني لست ممن يخاف منهم السيد ...
ثم سكت . فقال الضابط . إبراهيم حتحت..
- ابراهيم حتحت سامحه الله . وماذا تريد مني.... ؟.
- أريد أن تذهب إلى السجن الا ان يتنازل عنك السيد إبراهيم ......
التفت إبراهيم حتحت إلى الضابط وقال :
- أريدك أن تأخذ عليه تعهداً بعدم العودة للنوم هناك وتسمح له في هذه المرة .
فقال الضابط : هذا ما افكر فيه الآن .
فما كان من الضابط إلا أن كتب عليه تعهداً . بعدم العوده للنوم في ذلك المكان وقام خالد بالتوقيع عليه وانصرف..... وعندما كان خالد يخرج من مركز الشرطة همس الضابط للسيد إبراهيم حتحت :
- يظهر أن هذا الغلام ليس لصاً .
- معك حق ارى انني قد تسرعت ايضا"(1/19)
ثم شكر ضابط الشرطة وانصرف السيد إبراهيم حتحت ولحق بالغلام فوجده جالساً بجانب بوابة باب شريف وقد أخذ كرتوناً وجلس عليه .
- إذا أردت أن تنام فقط فعليك أن تنام هنا ولن يعترضك أحداً .
- نعم قد أكون أخطأت فعلاً فلا يجب أن أقرب من البنايات .
- من أين أنت ؟
- من منطقة في جنوب الطائف .
- لماذا لا تدرس.... ؟
- .. .. .. لم يرد .
- ألم تدرس في المدرسة ......؟
- كنت أدرس .
- والآن !
- قررت أن ابحث لي عن عمل .
- وماذا تعمل في النهار .......؟
- أحمل بعض البضائع و أحصل على بعض النقود . اشتري بها طعاما".
- إنك لا تقوى على ذلك فأنت لا تزال غلاماً .
- الزمان جعلني هكذا .
- وأين أبوك....... ؟
- أبي مات منذ زمن .
- هل تقرأ وتكتب .......؟
- ألا يكفيني تحقيق الضابط . اذهب لشأنك وفقك الله .إنني تعب وأريد أن أنام.
- اين ستنام ..؟
- سأنام هنا ..
عند ذلك تركه السيد ابراهيم وانصرف الى منزله .
(7)
عندما وصل الى البيت كان السيد ابراهيم يستعيد صورة ذلك الغلام كان يرى أمامه غلاماً يشبه ابنه عدنان الذي فقده قبل خمس سنوات في تلك الحارة عندما دهسته سيارة أمام دكانه واخذ يحدث نفسه .
·? أنه شبه عدنان تماماً .
·? لو لم ادفنه بيدي لقلت انه هو .
·? أن كل شيء فيه يشبه تماماً .
·? من أين أتى لي هذا .
·?سبحان الله العظيم .
عاد الى الغلام ثانية فأخذ ينظر اليه بعناية لكنه اقتنع بأن الغلام لن يسمع منه شيئا" بل لايريد ان يراه .. قال له قبل ان يذهب :
- اذا اردت أي مساعدة فسوف اساعدك .
- لااريد منك شيء ....لقد ساعدتني وانا مدين لك بهذه المساعدة . انصرف يارجل .
- فتركه وعاد الى بيته .
و عندما وضع السيد إبراهيم حتحت رأسه على الوسادة أخذ يستعيد صورة ذلك الغلام مرة اخرى ويحدث نفسه .
·? لقد استعجلت في امري نحو هذا الغلام .
·? لكنني كنت محقاًَ. كثير من اللصوص يعملون هكذا .
·? لكنها صورة عدنان تماماً . ويقول أنه يتيم .(1/20)
·? كيف لو كان عدنان حياً . وتعرض للفقر مثل هذا الغلام .بعد موتي .
·?سوف اعرض عليه ان يعمل لدي لكي اراه على الاقل امام عيني .
·?ان شوفته تريح عيني وتطمئن قلبي .
·?بل انها تفتح جروح قد وقف نزفها ..
·? انني على أي حال لااستطيع ان انسى عدنان ابداً . كيف لا وهو ولدي الوحيد الذي كنت انتظره في هذه الدنيا , ولكن لله في ذلك حكمة .
·?اللهم لك الحمد على كل حال .
·?حسبي الله ونعم الوكيل .
·? انا لله وانّا لله راجعون .
اخذ الرجل يتقلب على فراشه ويردد حسبي الله ونعم الوكيل .
سمعت زوجته السيده نعمة تلك الكلمات فالتفتت اليه وسألته :
- مابك ياابا عدنان .؟..
- لاشيء .
- الم تنم بعد . ... فيم تفكر ؟..
- لاادري .
- اقرأ آية الكرسي ويمكن تنام .
لكن الرجل قام من فراشه ثم توضأ واخذ يصلي على سجادته التي كانت بجانب سريره وعند ذلك شعرت زوجته بانه في حالة نفسية سيئة فقامت ايضاً وجلست بجانب السرير حتى انتهى زوجها من صلاته فأخذت تناقشه :..
- مابك يا إبراهيم في ماذا تفكر .
- لاشيء .
- هل تعرضت لخسارة ......أن التجارة هكذا يارجل يوم مكسب ويوم خسارة ولعل الله يعوضك خيراً . عند ذلك دمعت عينه وقال:
- لقد رأيت عدنان الليلة يا ام عدنان .
- حلمك بخير ان شاء الله .
- انه ليس حلما .
- اذا" اين رأيته .
- انه عند البوّابة الأن .
- لا اله الا الله . ابنك في الجنة ان شاء الله . ولعل الله ان يشفعه فينا .
- انه ذلك الغلام الذي اخذته الى الشرطة .
- ماذا تقصد .
- اقصد انه صورة ابنك عدنان تماما .
- يخلق من الشبه اربعين .
- لكن مثل تطابق هذا الشبه لم ارى في حياتي .
- ربما رأيت ذلك من اجل محبتك لعدنان . لقد ذكّرك به فقط.
- وهل انا نسيته . لا اله الا الله . وأنّ انّة" دوّت لها جنبات الغرفة
انني ارى انني قد اسأت اليه عندما ذهبت به الى الشرطة ... لاحول ولا قوة الا بالله ثم قص عليها ماحدث .(1/21)
– انت لم تسئ اليه . اقصد لم تقصد الأساءة اليه .
- اضافة الى ذلك انه يتيم . آه ما اقسى قلبي . انه في عمر عدنان ايضا .
- اعرض عليه المساعدة لعلك تخرج من عقدة الذنب ان كنت ترى نفسك مذنبا في حقه .
- حاولت لكنه لم يقبلها .
- ياخويه بكرة يقبلها . قم الان الى فراشك لتنام لتستطيع ان تروح عملك بكرة وقد اقتربت الساعة من الثالثة صباحا .
- آه من اين سيأتي اليّ النوم . ثم نهض وقام الى فراشه .
وفي صباح اليوم التالي وبعد ان ادّى صلاة الفجر في المسجد جلس السيد ابراهيم امام مدخل العمارة ينظر الى برحة باب شريف والى البوابة لعله يرى ذلك الغلام الذي كان معه في ليلة البارحة .
نظر يمنة ويسرة فلم يرى احدا . ان كل شئ لايزال خامدا دون حركة
وقف يسأل نفسه ......؟
....... اين ذهب الغلام ؟
·? لعله قد نام في احد المقاهي ..
·? او لعله قد سئم من حارة باب شريف كلها وطفش منها .
·? او يكون قد نام بالقرب من احد المساجد ..
·? بعد قليل سوف تطلع الشمس ولعلي اراه ثانية .
انتظر هناك بعض الوقت ثم صعد الى منزله فوجد زوجته وبناته الثلاث بانتظاره وبينهن ابريقا" من الحليب وبعض الشابورة وقد لبس البنات ملابس المدرسة فناولته ابنته الكبرى كوبا من الحليب فتناوله ورشف منه رشفة ثم وضعه امامه واخذ يقلب نظره في بناته ويحدث نفسه .......
* لو كان عدنان حيا لعلّمته قيادة السيارة وكان هو الذي يذهب باخواته الى المدرسة ولكفاني هذا المشوار المتعب الذي اذهب اليه في كل يوم مرتين
* ....... نعم لقد تعبت وكبر سني وقد يأتي علّي يوما لا استطيع ان اذهب بهن الى المدرسة..
·? لهن الله رب العالمين....
·? كم اود ان ارى ذلك الغلام الذي يشبهه .
·? لو عثرت عليه لعرضت عليه ان يعمل معي من اجل ان ارى فيه صورة عدنان
آه يفرجها الله .
- اشرب الحليب يا ابو عدنان ... . قالت ذلك زوجته .
- ايه ... توكلت على الله .
- الا زلت تفكر في الغلام .(1/22)
- ان صورته لم تفارقني .
- يارجل لعل الله يعوضنا خير .
- لو رأيته لعذرتني يا ام عدنان .
- انا لااريد ان اراه .
- اما انا فلا اريد ان تفارقه عيني ثم نهض من مجلسه واخذ بناته امامه وذهب بهن الى المدراس .
رجع بعد ذلك الى الدكان كعادته في كل يوم فوقف بجانب الباب واخذ يجول بنظره في الساحة حتى وقعت عينه على ذلك الغلام الذي كان مفترشا كرتونا" بجانب سيارة قديمة في موقف السيارات فذهب اليه : ...
- خالد.......؟
- نعم....0انت ... 0 حتى هنا تلاحقني حسبي الله ونعم الوكيل |.
كانت هذه الكلمة كسوط جلد به ا لسيد ابراهيم .
- قم يا بني انني اريد مساعدتك .
- قلت لك لااريد منك مساعدة .
- انا سأعرض عليك مساعده فان قبلتها والا ..فشأنك وحدك .
- ماذا تريد مني 0 الأن0 وجلس واسند ظهره الى عجلة تلك السيارة التي نام بجانبها ..
- قلت لك اريد مساعدتك..
- حسنا ... 0 هيا ... قل ما عندك 0
- قم بنا الى الدكان0
عندما سمع كلمة الدكان ايقن خالد انه صاحب دكان وطمع في مساعدته فعلا .
ومشى بجانبه واخذ السيد ابرهيم يد الغلام في يده ودخل معه الى الدكان .
افسح العمال للسيد ابراهيم المكان وجلس خلف طاولة الحساب وأجلس خالد بجانبه والتفت الى احد العاملين معه وطلب منه ان يحضر افطارا لهم جميعا كعادتهم في كل يوم ثم قال لخالد :
- ارجو ان لا تحمل علي حقدا فكثير من البيوت تعرض اهلها لسرقات في الايام القليلة الماضية .
- لا ابدا . من حقك ان تكون حذرا.
كان السيد ابراهيم يسمع كلام الغلام فيعجبه رده السريع وسرعة البديهه وانتقاء العبارات التي يتكلم بها .
- من اين انت يا خالد ......؟
- من تلة الروابي 0
- اين تقع تلة الروابي....؟
- في منطقة جنوب الطائف .
- وما الذي اتى بك الى جدة ...؟
- الزمان ... ..
- هل تقصد ان تقول انك تبحث عن عمل ...؟
- نعم .
- وماذا تريد ان تعمل ...؟
- أي شيء .
- واين تسكن ..؟
- الله يفرجها .(1/23)
- ونعم باالله ...........اريد ان اساعدك 0 ولكن ..
- لكن ماذا ..؟
- لا بد ان اعرف عنك كل شئ .
- ماذا تريد ان تعرف ... ... . واتبعها با بتسامة مريرة ..... ليس عندي ما اخبرك به غير الذي اخبرتك به البارحة ..
- لا اقصد ذلك .
- ماذا تقصد اذا ؟..
- انا اريدك ان تعمل معي في هذا الدكان ولابد ان اثق فيك قبل ان تعمل لدي فا لعمل هنا يحتاج الى ثقة وامانة
- وستجدني محل الثقة والامانة اذا رغبت في ذلك .
- واين ستسكن..... ؟
- لاادري .
- ما رأيك ان تكون حارسا للعمارة ...؟
- لا استطيع ان ابقى ساهر"ا طول ليلي فلن استطيع العمل في اليوم التالي .
- بامكانك ان تقفل الباب بعد الساعة الثانية عشرة وتنام وكل ساكن من سكان العمارة لديه مفتاح وبامكانه ان يدخل اليها او يخرج منها متى شاء من ليلته.
- وكم اجرتها ؟
- انا سأختبرك لمدة اسبوع فأن وجدتك محلا للثقة فلن نختلف على الاجرة وقد تسكن بها مقابل حراستك للعمارة كما انني لااريد ان يزورك فيها احد ولا تستقبل فيها اصحابك .
- انا لا اعرف احدا .
- من الافضل ان تكون هكذا فسكان العمارة لايريدون التجمعات عند المدخل ولا عند غرفة الحارس .
- هذا جميل لن انساه لك .
- والان قل لى ماهي قصتك ياولدي...؟
ثم بداء خالد يسرد قصته للسيد ابراهيم بكاملها وعند ذلك بكى خالد ولم يكمل من سرد قصة حياته الا ودموع السيد ابراهيم تتساقط على شعر لحيته ايضا .
ثم التفت الى عبد الجبار ذلك العامل الذي مسئول عن الدكان وقال له 0
اريد منك ان تدرب خالد على العمل وكذلك مراجعة الادرات الحكومية 0 اريده ان يعرف كل شي وان تعوده على تحمل المسؤلية ثم قال لخالد :
اما انا فسوف اذهب الى البيت لأحضر لك مفتاح غرفة الحارس في تلك العمارة التي وجدتك امامها لتكون مقر سكنك من الآن بل تذهب معي الآن الى الغرفة لتستلمها واخذ يد خالد في يده وذهب به الى العمارة وهناك قال له:
- انتظرني هنا حتى احضر لك المفتاح .(1/24)
- حسنا 0ثم جلس الغلام عند باب العمارة وهو يتذكر ذلك الشرطي الذي اخذه من هذا المكان الى الشرطة ويقول في نفسه 0رب ضارة نافعة .
وصعد السيد ابراهيم الى زوجته والفرحة تسبقه لكي يخبرها انه وجدا الغلام الذي بقي ليلته ينتظر مقابلته وفتح الباب : لقد وجدته يا ام عدنان ...وجدته .....وجدته.
- حسنا مادامت هذه رغبتك .....
- انه صورة عدنان 0 صورته وشكله الخالق الناطق .....انني ارى فيه عدنان قد يكون لنا ولدا بدلا من عدنان .
- لن يسد مكان عدنان احدا ..
- لعل الله يا ام عدنان .. لعل الله .
- لعل الله 0 الله يسمع منك ويقّر به عينك .
- باذن الله 0 باذن الله .
وأخذ المفتاح ونزل به الى خالد وفتح له غرفة الحارس وقال 0
كان لدي حارس من احدى الدول الاسيوية ولكنه ذهب في اجازة ولم يعد واحسب انه لن يعود ثانية ثم قال لخالد :
- سوف اعطيك بعض النقود لشراء اثاث افضل من هذ الذي تراه وتشتري ملابس جديدة فأنا اريد ان يكون منظرك جيدا مع عملاء الدكان اكثر من زملا ئك العاملين معك0
ثم ناول خالد مبلغا من المال وقال عليك ان تشتري فراشا وملابس ولك ان ترتاح هذا اليوم لكي تصلح من شأنك وتاتي من الغد لمزاولة عملك في الدكان واريدك ان تكون محلا للثقة والامانة
- سوف ترى مني ما يقر عينك ويرضيك عني باذن الله وسوف اكون عند حسن ظنك .....
ثم تركه السيد ابراهيم في الغرف وعاد هو الى دكانه و في نفس الوقت قام خالد بشراء ما يحتاج إليه من احد المحلات القريبة من العمارة وأصلح من امر الغرفة التي سوف يسكن بها .
وفي اليوم التالي بداء خالد العمل في دكان السيد ابراهيم حتحت ..
كان يريد ان يتعلم كل شيء ويقوم بكل شيء وهو الى الان لم يسأل صاحب الدكان كم سيكون مرتبه في الشهر ..... لكنه يرى انه لن يظلمه ..(1/25)
بينما كان السيد ابراهيم جالساَ في دكانه وخالد يناول بعض الزبائن بضاعته قال السيد إبراهيم لنفسه :........( انا لم أرزق بولد وقد يصلح لي الله هذا الغلام . ربما قد ساقه الله إلي ).
وعلى أي حال هو أفضل وآمن من هؤلاء العمال ... . فقال لخالد بعد أن انصرف ذلك الزبون :
- هل تجيد القراءة والكتابة ياخالد........؟
ـ إنني أدرس في الصف الأول ثانوي .
- يعني تقرأ وتكتب جيداً .
- نعم وسترى مني ما يعجبك بإذن الله .
- اتمنى ذلك .
وبدأ خالد في العمل مع السيد إبراهيم حتحت وأصبح خالد يعرف كل شيء في الدكان حتى تضاعف عمل الدكان وتضاعف الدخل أيضاً وكان قدم سعد على الدكان وصاحبه وازدادت ثقة السيد ابراهيم في الغلام يوما" بعد يوم .....
كان يرسله إلى بيته ويشتري جميع متطلبات البيت وأصبح لا يستغني عنه ويطمئن له حتى عندما يرسله إلى البيت ، كما أن خالد قد عمل بكل أمانة وإخلاص .
اخذ السيد ابراهيم يتابع خالد في جميع حركاته ولا يخفي اعجابه به كما كان يتعمد ان يرسله لأنهاء المعاملات الرسمية التي تخص مؤسسته وهكذ بمرور الزمن ازدادت ثقته به ولمس منه الأستقامة والأمانة الشئ الذي زاد من قناعته على تبني ذلك الغلام فسلمه ادارة المؤسسة المالية
ولاحظ خالد مقدار الود الذي يكنه له السيد إبراهيم فازداد حبه لعمله وحسب أنه لن يجد أفضل منه فهو الرجل الذي يحسبه الآن في مكانة أبيه.
كان خالد يعرف رقيّة ابنة السيد ابراهيم الكبرى عندما كان يذهب الى بيت السيد ابراهيم فتعجبه ايما اعجاب لكنه كان يقول لنفسه ( رحم الله امروأ" عرف قدر نفسه )
(( انني مجر ّد عامل لديهم )) فيقنع بذلك نفسه
ويغض طرفه احتراما" لصاحب الدار الذي هو الآن عمه وصاحب نعمته . لكن الامور قد سارت بها الأقدار لصالحه اكثر مما كان يخططه لنفسه وتسير الأيام والسنين وتتسارع الأقدار لمصلحة خالد ..
ففي يوم من الأيام وبينما كان السيد ابراهيم جالسا معه في الدكان
قال لخالد :(1/26)
- اريد ان اسألك عن ذلك الرجل الذي اراه يزورك بين حين واخر هنا ؟
- انه زوج امي السيد عبد الرحيم ابو حفاف .
- لم ارى احد يزورك غيره .
- نعم وأنا لا اريد ان يكثر اصحابي . اليست هذه نصيحتك عندما التقيت بك .....؟
- بلى . لكنني اقصد ان اسأل عن اقاربك . اليس لك اقارب؟
- آه . ابي قد مات وأمي متزوجه من هذا الرجل الذي تسأل عنه وأخوتي من امي لايزالون صغار السن . اما عمي وزوجته وأولاده فأنا لا احبهم وهم كذلك .
- الاتعتقد ان الزمان قد غيرهم .
- لا اعتقد ذلك . انني عانيت منهم متاعب لا استطيع ان انساها .
- يا رجل . ان الله غفور رحيم .
- رب ضارة نافعة . لولا قسوتهم لم اتعرّف عليك . قال ذلك بابتسامة .
- هل انت سعيد بمعرفتك لي .
- جد "ا . لقد نسيت انني يتيما" كيف لا اكون سعيدا" معك وأنت الذي ربيتني وكفلتني وكأنني ابنك .
- ان ذلك بجهدك وتعبك وانا لم اعطيك اكثر من حقك .
- انني لو اعمل معك ليلا" ونهارا" فلا ازال مدينا" لك .
كان ذلك الكلام حافزا" للسيد ابراهيم على السير قدما في ما كان يفكر فيه فقال لخالد :
- لقد وعدت زوج امك بزيارة له فقل لي كيف اذهب اليه . هل تذهب معي ؟
- انا لا اريد ان اذهب الى هناك . اما انت فلك ان تذهب اذا شئت .
- الا تريد شيئا" من هناك .
- سأعطيك بعض النقود له ليعطيها الى امي.
- اذا" سأذهب الى هناك غدا" بأذن الله
عاد السيد ابراهيم الى زوجته واخبرها بأنه سوف يسافر الى مدينة الطائف غدا" في امر يهمه .
وفي اليوم التالي ركب سيارته من الصباح وأتجه الى الطائف . ومن ثم اتجه جنوبا" الى تلّة الروابي .
كان يمشي مسترشدا" بالوصف الذي سمعه من خالد حتى وصل الى تلّة الروابي ومن ثم بدأ يسأل عن دكان السيد عبد الرحيم ابو حفاف حتى وجد من دلّه عليه فدخل وسلّم عليه.
- يظهر انّك عرفتني اليس كذلك .
- حق المعرفة الست السيد ابراهيم الذي يعمل عندك خالد .
- نعم هذا صحيح .(1/27)
- اهلا" وسهلا" . كيف حال خالد .
- انه بخير والحمد لله .
- لماذا لم يأت معك . اصدقني القول هل هو بخير ؟
- انه بخير والحمد لله . انت تخاف عليه اذا" .
- انه يتيم وليس له الا الله ثم نحن ... . انا زوج امه .
- لقد اخبرني بذلك وهو يثني عليك كثيرا".
- كان الله في عونه . لقد تعب كثيرا" ولكنني ارى انه قد ارتاح للعمل معك .
- خالد طيّب ويستاهل كل خير...
حيّاك الله ياسيد ابراهيم . ثم اخذ بيد ه بعد ان اغلق دكانه وصعد به الى البيت .
وبعد ان ادخله الى مجلسه وبعد ان قدم لضيفه القهوة سأله السيد عبد الرحيم .
- هل خالد بخير حقا" . الم يصبه مكروه ؟ .
- انه بخير الم تصدقني يارجل ؟ انّه مثل ابني تماما" .
- اعرف ذلك . لكنني .
- لكنك مستغربا" هذه الزيارة اليس كذلك ؟ .
- نعم هذا صحيح .
- كنت في مدينة الطائف . وقد وعدتك بزيارة . اليس كذلك ....؟
ام انك نسيت ولا تريد ان يزورك احد ؟ .
- حياك الله لقد اسعدتني بهذه الزيارة .
- قريتكم جميلة جدا . فيها الهدوء والراحة وجمال الطبيعة .
- هي كما ترى .
- لماذا لايبني خالد له منزلا" هنا .؟ اليس له ارضا" وأملاك ؟
- خالد لايريد ان يعيش هنا . لقد تعب في صغره كثير ا"
- لكنه يملك ارضا" هنا . اليس كذلك ؟
- ان له املاك كثيرة .لكنها الان لاتزال مع املاك عمه . فهي لم تقسم بعد .
- لكنه ان ارادها فبا ستطاعته الحصول عليها .
- بكل تأكيد . فأ هل القرية كلهم يعرفون ذلك . و عمه لايستطيع ان يقول غير ذلك .
- الم تقل انه كان قاسيا"عليه .
- انني اعرف انه انسان طيّب لكن زوجته سيئة وهو لا يستطيع ان يعارضها الرأي . لكن لماذا هذه الأسئلة ؟
هل تريد ان تشتري شيئا" من املاكه ؟.
- ابدا" ولكنني احرص عليه مثل حرصك عليه . انه مثل ابني تماما" واحب له كل خير وقد سمعت منه مثل قولك هذا فأردت ان اتأكد من صدق قوله . .
- اتريدني ان اصدّق ان زيارتك لتلّة الروابي من اجل هذا الكلام فقط .(1/28)
- قلت لك انني انتهزت فرصة سفري الى الطائف فأردت ان اتعرّف على القرية التي منها خالد .
- حسنا" سوف اصّدقك .
- اذا" اسمح لي الآن في العودة الى الطائف . ومن ثم سأكمل مشواري الى جدة .
- لن ادعك تذهب اليوم من تلة الروابي .
- لا استطيع البقاء وأنت تعرف مشاغلي ولكنني سأعزم نفسي عندك للغداء .
- حسنا" . كما تريد والغداء سيكون جاهزا بعد ساعة ..... وحياك الله ..
وبعد ان تناولا طعام الغداء سويا" ركب السيد ابراهيم حتحت سيارته وغادر تلّة الروابي متجها" الى الطائف .
وفي اليوم التالي اخذ السيد ابراهيم يحدث خالد عن ما رآه في تلّة الروابي وعن اعجابه الشديد بطبيعة القرية ومناخها والهدوء الذي يخيّم عليها وما يحيط بها من اودية خضراء . ثم قال لخالد :
- اريد ان تذهب معي الليلة الى مطعم جديد على شاطئ البحر فلدي موضوع اريد ان ابحثه معك ..
- حسنا" كما تريد .
بعد ان سمع خالد هذا الكلام . اخذ يفّكر عن ذلك الموضوع الذي يريد ان يبحثه معه السيد ابراهيم في ليلته تلك ..
* ماذا يريد منه .
* لماذا سافر الى تلّة الروابي .
* ماذا يقصد بوصفه لجمال الطبيعة.
* هل يريد ان يبني له منزلا" .
* هل يريد ان ابيعه ارضا" هناك .
* انني لن ابيعه من ارضي هناك . سأقدمها له هدية وأترك له تقدير ثمنها .
* انه يستاهل كل خير . لقد اخجلني بمعروفه . انه يغدق علي المكافآت وكذلك زيادة المرتب علاوة" على المعاملة الحسنة التي القاها لديه منذ ان عرفته .
وعز م خالد على انه ان طلب منه ارضا" فسوف يقدمها له هدية او يترك له تقدير قيمتها ولن يظلمه السيد ابراهيم في قيمتها بل سيدفع له اكثر من قيمتها التي تستحقها .
اما السيد ابراهيم فقد جلس مع زوجته السيدة نعمة بعد الغداء فقال لها :
- تعلمين يا ام عدنان ان ابنتك رقيّة قد كبرت وهي الآن في سن الزواج(1/29)
وليس لنا ولد ..... وهذا الغلام الذي ربيته منذ اكثر من عشر سنوات على خلق ودين والرسول صلى الله عليه وسلم قال: اذا اتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه . وانني ارضى به زوجا" لها وهو كذلك سوف يساعدني في الدكان وهو الآن الذي يقوم بكل شئ فما رأيك . انني اريد ان اسمع رأيك قبل ان اخبر البنت بذلك .
- هل طلب يدها منك ؟
- انه لم يطلبها . لكنني اتوقع انه يريدها وقد يكون يمنعه الحياء .
- انني لم ارى احدا" يخطب لأبنته قبلك .
- سبقني لذلك سيدنا شعيب عليه السلام .
- ابن خالتها اعتقد انه يريدها ايضا".
- انت تعلمين انني لن ازوجها له ابدا"
- قد تكون ابنتك تريده ..
- هي لاتريده ايضا" وانت تعلمين بذلك .
- كما تريد لكنني افضل ا ن يكون الرأي الأول والأخير للبنت فهي التي ستتزوج ولست انا .
- اريدك ان تجلسي معها وتستطلعي رأيها في هذا الأمر ثم تخبريني عن اجابتها وليكن هذا الأمر عاجلا".
- لماذا عاجلا" كأنك انت الذي ستتزوّج يارجل .
- اكثر والله يا أم عدنان .. فقد سافرت الى قريته بالأمس لكي اطمئن على مكانة خالد في قريته قبل ان اقدم على هذه الخطوة .
- وماذا وجدت هناك...... ؟
- وجدت انه من احسن الناس .
- تقصد انك ترضاه زوجا" لأبنتك .
- كل الرضا وألا لما اقدمت على ذلك . انني اعلم انه سيحترمها ولن يظلمها ابدا" .
- اذا" ما رأيك ان تسمع بنفسك رأي البنت في هذا الأمر .
- تكلمي معها انت اولا" ثم لنتكلم معها سويا".
خرجت السيدة نعمة من عنده وعادت بعد نصف ساعة لتخبره ان ابنته موافقة على مايراه ابوها مناسبا" وكأن البنت كانت تنتظر هذه اللحضة ايضا" فطلب من زوجته ان يبقى هذا الأمر سرا" حتى يتأكد من شعور خالد نحوها .
وفي المساء ذهب خالد مع السيد ابراهيم الى منتزه بجانب البحر على كورنيش جدة وبعد تناول العشاء بداء السيد ابراهيم الحديث مع خالد فقال:
- اعجبتني قريتكم كثيرا" .(1/30)
فكّر خالد انه قد خرج لنفس الأمر الذي قد حسبه وهو ان السيد ابراهيم يريد ارضا" في تلّة الروابي فقال :
- هي كما رأيت جميلة وجوّها جميل ايضا".
- لماذا لاتبني لك مسكنا" هناك .
- لا اريد ان اعيش هناك .
- هل تفضل البقاء في جدة .
- نعم ان عملي هنا . .
- واملاكك التي هناك . ؟
- ستبقى هناك .
- انت الان رجل ومن الواجب ان يكون لك زوجة ومسكن .
- هذا صحيح وانا افكّر في هذا الأمر الآن . قلت لي ان هناك امر مهم تريد ان تبحثه معي فما هو ؟.
- دعك من هذا الآ ن ودعني اكمل حديثي . الا تريد ان تتزوج ؟.
- بلى .. ( ثم سكت برهة) لكن الزواج مسؤلية . ولا بد ان يتم اختيار الزوجة وانا ليس لدي وقت لذلك واخشى ان يكون الأ ختيار غير موفق لذلك ليس لدي سوى الأنتظار .
- الى متى ....؟
- الى ان يأتي الله بالفرج .
- هل تريد مساعدتي ...؟
- انا لا أستغني عن مساعدتك دائما" . انت في مقام ابي وانت تعرف ذلك مني .
- اذا اردت ان تتزوج من جدة وتريد مني ان ابحث معك فأ نا مستعد او كنت تريد فتاة بعينها فأنا مستعد للذهاب معك لخطبتها ... انني احسبك الآن مثل ابني تماما".
- من الذي سيوافق على ان يزوّّج ابنته لشخص لا يعرفه .
- انت معروف يابني في هذه الحارة منذ اكثر من عشر سنوات . ولم يعرف الناس عنك الا كل خير.
- انت تقول ذلك .
- بل هذه الحقيقة وكل اهل الحارة يقولون ذلك .
- اذا" فأنا من تعرف يا ابا عدنان ...... وقد فكّرت في هذا الأمر كثيرا" ولكن كان يمنعني الحياء ان اطلب منك مساعدتي في هذا الموضوع ولكن بعد ان رأيت ان لك رغبة " في مساعدتي فأنا فعلا" اريد الزواج .
- هل هناك فتاة بعينها تريد ان اخطبها لك .
- الفتاه التي تراها مناسبة ... انا اقبل بها .
- مهما كانت ....؟
- مهما كانت .
- اتريدها من الحارة التي نعيش بها ...؟
- كلما كانت قريبة منك كانت الأفضل عندي .
- وانا لن اختار لك الا الأفضل بأذن الله .(1/31)
- اذا" ماهو الأمر الذي تريد ان تحدثني عنه
- دعك من هذا الأمر الآن ولنعد الى البيت .
ثم ركبا السيارة وغادرا المنتزه..
وفي اليوم التالي قال السيد ابراهيم لخالد :
- لقد وجدت لك عروسة يا خالد فكم لديك من الفلوس ..؟
- عندنا وعندك الخير ... .. كم طلب ابوها مهرا"
- الا تريد ان تراها اولا" .
- لن اكون افضل منك على أي حال فما تقبله لي فأنا اقبله ..
- اذا غدا اذهب انا وأنت لترى العروس وتراك هي ايضا.
وفي الليلة التاليه تأخر السيد إبراهيم في الدكان بعض الوقت وطلب من خالد أن يرافقه ...... فذهب به السيد ابراهيم حتحت إلى منزله وبعد العشاء طلب السيد إبراهيم من ابنته أن تأتي لهما بالشاي فحضرت رقية في أجمل ملابسها وجلست بجانب والدها .
- هذا هو خالد يا رقية يريدك زوجة له وهذه ابنتي يا خالد ومن حقكما الشرعي أن يرى كل منكما الأخر وقد اخترت لك ياخالد اغلى ماعندي في هذه الحياه انها ابنتي رقية.
واخترت لك يا ابنتي خالد الذي ربيته واعرف اصله ودينه وخلقه واعلم انه سيصونك ويحترمك وأرضى ان يكون لك زوجا" فما رأيكما .
أخذ خالد يختلس النظر إليها وهي كذلك .
- كيف أنت ؟ قال ذلك خالد .
- بخير والحمد لله . لم تزد عليها ولم ينطق هو بكلمة أخرى إلا أنهما أخذا يطيلا النظر في بعضهما وقد أعجب كل منهما صاحبه .
قمر دون حسنه الأقمار ... وكثيب من النقا متعار
أعجبت رقية خطيبها فقال السيد ابراهيم
- أموافقة يا رقية .....؟
- موافقة على ما تراه يا أبي ....فكانت موافقة صريحة تدل على الاقتناع بخالد . اما خالد فقد خنقته العبرة واخذ يقبل كف عمه ابراهيم ويبكي ..
- لو كان ابي حيا" لم يعمل معي اكثر من ماعملته انت ... .. هذا شئ لايصدق ... لايصدق ..(1/32)
وبعد ذلك تم الاتفاق على كل شيء من المهر إلى الشقة إلى حفل الزواج وقد تكفّل إبراهيم حتحت بكل ما يستطيع وتحمل أكثر الأعباء وتم زواج خالد في مدينة جدة وحضر زواجه كثير من أهل قريته وعلى رأسهم عمه عبدالرحيم أبو حفاف وأمه شامية التي أصبح لها ولدين وبنت من عبدالرحيم أبو حفاف هم أخوة خالد من أمه .
وضاعف خالد جهده في المحل كما أن زوجته رقية قد التحقت للعمل بالتدريس وتحسن وضع خالد واستطاع أن يطور أعمال صهره التجارية وأن يدخل شريكاً معه في شركة مقاولات ومحلات تجارية لأدوات الكهرباء والسباكة وتجارة الأخشاب وأصبح المدير العام والمتصرف بكل شيء وسارت الشركة من حسن إلى أحسن وفتح الله له أبواب الرزق من كل جانب فبنى خالد له مسكناً قريباً من شاطئ البحر .. ،وسكن بزوجته رقية فيه بعد ان كانا يسكنان في شقة بعمارة السيد ابراهيم حتحت ..
أما شامية فقد أبدلها الله براحة البال بعد أن شاهدت ابنها قد فتح الله عليه وعوضه عن ما فقده في صباه خيراً وبقيت مع زوجها عبدالرحيم أبو حفاف الذي تقدم به العمر ، أما زوجته الأولى خديجة فقد ماتت وتزوج جميع أولاده وبناته اللذين أنجبهم منها وبقي هو وزوجته شامية واطفاله منها في تلّة الروابي ,..
(8)
بعد هروب خالد من منزل عمه جمعان تعرضت زوجة عمه لسقوط مفاجىء من سطح المنزل باتت على أثره مشلولة جنبها الأيمن وغدت طريحة الفراش فأخذ السيد جمعان يقوم بخدمتها في البيت بعد أن تزوجت ابنته فردوس .
أما أولاده فمحسن بقي في شرطة الطائف ومعيض أصبح مدرساً في مدينة مكة المكرمة .(1/33)
بقي السيد جمعان على هذا الحال فترة من الزمن حتى ضاق ذرعاً من حياته تلك فطلب من ابنيه مساعدته على الزواج فكان ردهما سلبياً وطلبا منه أن ينتقل ويعيش معهما في مدينتي الطائف اومكة المكرمة هو وأمهما أو أن يحضرا له خادمة تكفيه أعباء المنزل ، فأختارا الخيار الثاني واتصل بابنه محسن وطلب منه أن يبعث إليه بخادمة تقوم بخدمته وزوجته .
قام ابنه محسن بنقل كفالة بعض العاملات التي ترغب في نقل كفالتها من احد مكاتب الاستقدام وأتى بها الى تلّة الروابي.
وصلت سالي ( الخادمة الجديدة ) إلى بيت السيد جمعان
و خصص لها غرفة خاصة هي الغرفة التي كان ينام فيها خالد على سطوح المنزل وبدأت العمل .
أحس السيد جمعان بالحرية فأخذ يخرج كثيراً للتجوال داخل القرية وخارجها . وقامت سالي بخدمة زوجته وكأن هذه الخادمة قد أنزلت عن ظهره حملاً كان ثقيلاً عليه.
أما سالي فقد بدأت العمل ولكون العمل كان بسيطاً في البيت فقد استراحت هي الاخرى للعمل في ذلك المنزل .
كانت تقدم لهما الطعام ثم تقوم بأعمال النظافة اليومية ... وليس هناك اطفال اواعمال مرهقة لذلك فقد احبت عملها.
وذات يوم ذهب السيد جمعان إلى دكان عبدالرحيم أبو حفاف وجلسا يتناقشان ويشتكي له جمعان الحالة التي يعيشها فقال السيد عبدالرحيم :
- أنتم عزوبية جميعاً . أنت وزوجتك والخادمة .
- هذا حال الدنيا .
- بل بل والله انه الضعف والجبن الذي خيمته فوق راسك . فأنا منذ عرفتك لم يكن لك رأي أبداً وإنما الأمر والنهي لأم محسن حتى بعد أن أصبحت مقعدة . وهذا طبعك جبان مع احترامي لك ..
- أنت تتشمت بي إذاً ....!
- بل هو الأمر الواقع ولو أدرك أولادك غير ذلك لما وقفوا ضد زواجك ولكنك تنتظر منهم السماح وكأنهم والديك ... . لعلّك خائفا" ان يقطعا عنك المبلغ الشهري الذي اعتقد انه لايكفي لطالب في المرحلة الابتدائية ..
- لم يعد بيدي شيء أستطيع أن أتصرف به .(1/34)
- بل في يدك الكثير فابتع من أرضك وتزوج لن يرحمك أحداً ولن يلتفت إليك احدهم طالما أنت رضيت ..... وستكبر ثم تضعف .. ولن يرحموك منذ ان عرفتك وانت ضعيف وستموت وانت ضعيف .
- أعرف ذلك .
- إذاً تزوج الخادمة التي في بيتك فأنت عزوبي وهي كذلك وسوف تقوم بخدمتك أنت وزوجتك .
- لن ترضى .
- وربما ترضى .
- لا لن أتزوج منها وإذا أردت الزواج فأنا الذي أختار بنفسي .
- كما تشاء ولكنني أرثي لك من الحالة التي أنت بها وأنت رجل والرجل لا بد له من امرأة ...
ثم استأذن جمعان وانصرف إلى بيته ودخل إلى غرفته غاضباً ثم استلقى على ظهره ونادى الخادمة ....:
- أريد قهوة .
لم تتأخر سالي حتى أحضرت القهوة إليه وأخذ ينظر إليها وهي مقبلة ومدبرة ويحدث نفسه :
* إنها جميلة وشابة .
* لماذا لا أتزوجها.......
* لن يرضى محسن وأخوه بذلك .
* لكنني لا يمكن أن أبقى بدون زواج .
* وقد تكون أنسب من غيرها .
* إنها جميلة الملامح.
* ومقبولة ولطيفة وخفيفة دم .
* قد تقبل بي زوجاً لها .
* ولن يقبل بي أحد من نساء القرية لعلمهن بزوجتي وسوء أخلاقها ومعاملتها للناس ، إنها .....سيئة السمعة .
* قد تكون هذه الخادمة هي أنسب زوجة .
وأخذ يحدق عينيه فيها إن قامت وإن جلست وأصبح يكثر من دخوله الى المطبخ وأحست الخادمة بذلك وفطنت إلى اهتمام الرجل بها ولكنها قد حسبت اهتمامه بها من نوع آخر الشيء الذي جعلها تتزين وتلبس الملابس المغرية فتعلق بها السيد جمعان أكثر من ذي قبل وصمم على الزواج منها ولكنه لم يفاتحها في الأمر وعقد العزم على إفهام ابنه محسن بما يفكر فيه .
وفعلاً اتصل بابنه تلفونياً وأخبره بذلك فغضب ابنه وهدد وتوعد تلك الخادمة بالسجن والطرد رغم أن المسكينة لا تعلم من هذا الأمر شيئاً . وأخبره أنه سوف يأتي في نهاية الأسبوع مع أخيه لتدارس الموضوع.(1/35)
وفي نهاية الأسبوع وصل إلى تلة الروابي معيض وأخوه محسن وتناقشا مع والدهما في موضوع الزواج وأخبرهما بالحقيقة التي يعيشها مع والدتهما المقعدة .
- إنني رجل وأحتاج إلى زوجة...
- أنت بحاجة إلى الراحة ونحن سنقوم بخدمتك أنت وأمي ولن ندعك تحتاج شيء بعد اليوم . قال ذلك محسن .
- كنت أريد موافقتكما على زواجي من سالي إن كانت توافق على ذلك .
- لن تتزوج من سالي فهي لا تعرف عاداتنا ولا طبائعنا وإذا لم تناسبك الحياة معنا فإننا سوف نسعى في امر زواجك من امرأة تكون افضل منها . قال ذلك معيض.
بقي الأمر بين أخذ ورد حتى اقتنع السيد جمعان مكرهاً رغم عدم اقتناعه وتم الاتفاق على أن يسافر وزوجته المريضة مع ابنه معيض إلى مكة المكرمة ليعيشا معه ويقوم بخدمتهما . أما الخادمة فإنها ستذهب مع محسن الى الطائف ومن ثم تسافر إلى بلدها .
لم يكن أمام السيد جمعان إلا الموافقة ، وفي اليوم التالي سافر مع زوجته إلى مكة المكرمة مكرهاً أخاك لا بطل .
( 9 )
يسكن السيد معيض جمعان في شقة في الدور الثاني من عمارة سكنية في حي العزيزية بمكة المكرمة ومتزوج من فتاة من مكة أيضاً تعمل معلمة وله منها بنتان وتعمل لديه خادمة تقوم بخدمتهم .
وتتكون شقته من خمس غرف واحدة هي غرفة نومه وأخرى للخادمة وبها مجلس رجال وآخر للنساء أما الخامسة فقد جهزها لتكون لوالديه وأحضر بها كل ما يحتاجان إليه .
يذهب معيض في صباح كل يوم بزوجته كل إلى مدرسته ثم يعود إلى عمله أما بنتاه فإنهما تبقيان لدى الخادمة بعد أن يقفل باب الشقة عليهن ، وهكذا تمضي حياة السيد معيض وعائلته .(1/36)
استيقظ جمعان في اليوم التالي وطلب من الخادمة قهوة لكن البيت لم يكن به قهوة كما ان تلك الخادمة لاتفهم ماذا يطلبانه منها فقدمت لهما كوبان من الشاي فشرباه وأستلقى السيد جمعان على فراشه قليلا" ثم نهض وحاول ان يمشي قليلا" فأخذ يتنقل من غرفة إلى غرفة.. ووصل باب الشقة فوجده مقفلاً بالمفتاح فاستقر به المقام في المجلس وأخذ يتابع أفلام الكرتون التي يعرضها التلفزيون حتى جاء ابنه بعد صلاة الظهر فاستبشر خيراً وأراد أن يخرج من هذا السجن الذي قد دخله ..... بل أدخل إليه مكرهاً .
بعد تناول الغداء دخل ابنه معيض مع زوجته إلى غرفة نومهما ولم يخرجا إلا قبل صلاة المغرب فازداد السيد جمعان هماً على هم ....وطلب من ابنه حينئذ أن يوصله إلى الحرم فاعتذر بحجة أن لديه موعداً مع أحد أصحابه .
وتمضي الايام على تلك الحالة حتى ضاقت في عينه الدنيا وأصبح مثل طير في قفص فهو لم يعد يحتمل ذلك الحبس الذي يعيش فيه فطلب من ابنه أن يترك الباب مفتوحا عند ذهابه إلى عمله صباحاً ليذهب إلى الحرم وطلب منه أن يأتي إليه بعد الدوام ليأخذه من هناك فاعتذر معيض بأنه لا يدري أين يجده بعد الظهر ولا يستطيع أن يدع الباب مفتوحاً لأنه يخشى أن تذهب الخادمة من البيت أو تخرج إحدى البنات إلى الشارع ولكنهما اتفقا أخيراً على مكان يجلس فيه السيد جمعان حتى يحضر ابنه ليأخذه من مكان معيّن في ساحة الحرم ويقابله فيه بعد نهاية الدوام .
وتمر الأيام ....ويتصل تلفونياً بابنه محسن ويشتكي عليه الحالة التي يعيشها فأخبره أنه سيأتي إلى مكة ويأخذه وامه معه إلى الطائف إن كان لا يستطيع أن يحتمل حرارة الجو في مكة أو الحياة داخل شقة مغلقة .(1/37)
وبعد فترة انتقل السيد جمعان بزوجته الى فيلا يسكنها ابنه محسن في مدينة الطائف حولها حديقة تحيط بها أشجار عالية وأختار ابنه لهما غرفة في الدور الأول من العمارة وبجانبها حمام وكانت أكثر انشراحاً من الغرفة التي كان يعيش فيها في مكة المكرمة كما أن الطقس أخف حرارة وقد ارتاح للمكان الذي انتقل إليه فعلاً .
متزوج محسن من قرية بجانب قرية تلة الروابي ولم تكن زوجته تعمل بل ربة بيت ولها منه ثلاثة أولاد وثلاث بنات ولكنها من أول يوم وصل فيه السيد جمعان وزوجته كانت مستثقلتهما بل لم تكن الأسرة بكاملها مسرورة بوجودهما في الطائف .
قام السيد جمعان من نومه في صباح اليوم التالي بعد أن ذهب ابنه إلى عمله وانتظر أن يأتي إليه أحد بقهوة أو شاي أو حليب فلم يرى شيئاً .
كانت غرفة نوم زوجة ابنه وأولادها في الدور الثاني . فصعد الدرج وقرع جرس كان بجانب أحد الأبواب فلم يرد عليه أحداً وقرع الأبواب كلها ولكن لم يسمع صوتا" فعاد إلى الدور الأسفل وجلس قليلاً في المجلس ورفع صوت التلفزيون لكي يستيقظ من في البيت ويرى شيئاً يأكله أو يشربه إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل .
فخرج إلى حديقة المنزل وأخذ يتنقل من ظل شجرة إلى ظل أخرى ويمشي بجانب السور قليلاً ثم يعود إلى الغرفة .
وعندما عاد ابنه محسن من عمله لم يكن السيد جمعان وزوجته قد أكلا شيئاً سوى فتات الخبز الذي كان عندهما من الليلة السابقة ...........
تناول محسن الغداء مع أبيه في غرفته ... وقدم لأمه غدائها وصعد الى غرفته لينام إلى ما بعد صلاة العصر وهكذا لم يتغير من حياة السيد جمعان شيئاً سوى تلك الحديقة التي يخرج فيها .... كلما ضاق ذرعا من الجلوس في الغرفة لكن تلك الحديقة لم يكن بها ما ياكل او يشرب منه .وقد عمدت زوجة ابنه محسن إلى محاربتهما عن طريق التجويع وإظهار التأفف منهما والحياة معهما في بيت واحد .(1/38)
ولم يكن ابنه محسن بأوفر حظاً من أبيه فهو لا يستطيع أن ينبس مع زوجته ببنت شفه .
وبالرغم من شكوى أبيه إليه إلا أنه لم يستطيع أن يناقشها في ذلك الأمر كما أن الأولاد والبنات أصبحوا يظهرون التأفف من السيد جمعان وزوجته .
لكن محسن أصبح يضع عند باب غرفة أبيه وأمه في كل صباح وعندما يكون ذاهباً إلى عمله ثلاجة من القهوة وأخرى بها شاي وأفطارا" كاملا". وهكذا يكون ذلك طعام أبوه وأمه حتى عودته من الدوام .
( 10 )
وفي يوم من الأيام خرج السيد جمعان من منزل ابنه عاقدا العزم على عدم العودة اليه ومشى قليلاً ثم اوقف سيارة تاكسي وطلب من سائقها ان يوصله إلى موقف سيارات الأجرة ثم استقل من هناك سيارة أخرى أوصلته إلى تلة الروابي .
عاد جمعان ابن الثانية والستين إلى قرية تلّة الروابي بعد أن غاب عنها ثلاثة أشهر هي أطول أيام عمره عليه وترك زوجته مع ابنها الأكبر فقد آن الأوان أن يحملها ويساعده في رعايتها والإحساس بمسئوليته نحوها .
عاد السيد جمعان إلى القرية خالي اليدين لا يجد ما يصرفه ولا ما يشتري به ما يصلح به نفسه .
إنه يريد الزواج ، لكنه لا يجد حتى ما يأكله فمن اين له وكيف يتصرف....... !
ذهب مباشرة إلى دكان أبو حفاف بعد صلاة الظهر وطلب منه ما يمكن أن يشتريه بالأجل من عنده من طعام أو شراب فاصطحبه أولاً إلى شقته وتناول معه الغداء وأخبره بما وجده عند ولديه إلا أن رأي أبي حفاف في السيد جمعان لا يخفي عليه منذ زمن وهو يصفه بالجبن والخوف لكن جمعان أخبره الآن بما عزم العقد عليه في موضوع الزواج وطلب منه أن يشير عليه فقال :
- أنت تعرف رأيي في أمرك منذ زمن .
- أريد أسمعه مرة أخرى .
- عليك أن تتزوج فأنت رجل ولا بد لك من زوجة تستأنس بوجودها وتتكلم معها وتعيش معها باقي عمرك لقد آن لك ان تستريح.
- من أين........ ؟ أنني لا أجد ما أكله الآن .
- عليك أن تبيع من أرضك فأولادك لايستحقون أن تدخّر لهم شيئاً
- أترى ذلك .(1/39)
- بل لا بد منه .
- وأين هي تلك الأرض .....؟
- أن تختار ذات القيمة .
- أنها تلك التي بجانب الطريق العام . ..... لكن أبن أخي لا يزال شريكاً في كل شيء .
- أقسم التركة وأنا سأنوب عن أبن أخيك ،ثم تبيع قسمك من تلك الأرض وتتزوج بقيمتها .
وفي اليوم التالي خرج السيد عبد الرحيم أبو حفاف مع السيد جمعان وقسما جميع الأراضي . التي كانت ملكيتها بين السيد جمعان وأبن أخيه.... وبعد ذلك ذهبا إلى أمام القرية السيد عبد الرزاق ليكتب بينهما كتاباً يوضح فيه حصة كل واحد منهما ثم أشهدا على ذلك بعض أفراد القرية تمهيدا" لتقديمها للمحكمة لأستخراج صك استحكام بذلك ..
وتشاورا على الأرض التي يريد السيد جمعان أن يبيعها فقال جمعان ... ..:
- أنت ستشتريها .
- بل أبن أخيك أنها بجانب أرضه وهو الآن قد أصبح غنياً ولن يبخسك في قيمتها.
- لن أبيعها له .
- لماذا ....... ؟
- لأنه نسي أنني عمه .
- كل الحق عليك وأنت تعرف ذلك فلا تلمه... وأنت الذي أخطأت بحقه .....ولكنني أعرفه يسامح ويغفر ولو لم تكن زوجتك قاسية عليه لما سافر من عندك .
- أنه يحسبني عدواً من أعداءه .
- بل كان يشتكي دائماً من زوجتك نورة .
- وكم سيدفع ...؟
- أربعون ألفاً .
- هذا لا يكفي .
- لن يدفع أحداً غيره هذا المبلغ كما أنك تعلم أن له حق الشفعة ومن الواجب أن تعرضها عليه أولاً .
- فليزيد المبلغ قليلاً .
- كم تريد . ....؟
- خمسون ألفاً .
- علي أن أشاوره في ذلك .
- لا أريد أن يعلم بذلك أحداً حتى ينتهي كل شيء. .
- وهو كذلك .
وبعد أيام قليلة طلب السيد عبد الرحيم أبو حفاف من السيد جمعان أن يكتب أوراق مبايعة لابن أخيه على الأرض التي اتفقا على بيعها ، بعد أن أستعد خالد بدفع المبلغ الذي طلبه عمه منه قيمة لها.... إلا أن السيد جمعان أبدى رأياً جديداً للسيد عبد الرحيم أبو حفاف بأنه يريد أن يسافر إلى أولاده ويعرض عليهم شراء الأرض منه اولاً قبل بيعها لابن أخيه .(1/40)
سافر السيد جمعان إلى أبنه محسن وقد مضى على ذهابه من عنده ثلاثة اسابيع فدخل مباشرة إلى الغرفة التي كانت ترقد فيها زوجته فلم يجدها فحسب أنهم قد نقلوها بالقرب منهم في الطابق الثاني ألا أنه بعد سؤاله عنها كانت المفاجأة....... !
- أين أمك يا محسن .
- لقد تعبت علينا بعد سفرك فنقلناها إلى دار الرعاية الاجتماعية وهي بخير والحمد لله .
- كيف يا ولدي تنقلها إلى هناك..... ؟
- أنها تجد هناك عناية" طبية ، .... وكما تعلم أنني موظف وأذهب إلى عملي . وأنت ذهبت وتركتها وحدها وأنت تعرف ذلك ياأبي ..
- وزوجتك . الا تستطيع مساعدتها .
- هي لا تعرف احتياجاتها كما أن أمي لاتقبل منها مساعدة.
- بل هي تكره أمك وقد امرتك بذلك ..... ومتى تكون الزيارة ؟
- الآن قد بدأت .
- قم فاذهب بي إليها .
وركب جمعان مع ابنه في سيارته وانطلقا إلى دار الرعاية الاجتماعية ودخل جمعان عند زوجته فإذا هي في حالة سيئة جداً . فلما أبصرت زوجها بكت وتعلقت بثوبه وبكى معها أيضاً .
- ما الذي أتى بك إلى هنا . قالت ذلك زوجته .
- جئت زائراً .
- كيف علمت أنني هنا .
- اخبرني محسن بذلك الآن ...
- انهم لا يريدون ان اعيش معهم لقد بقيت يوماً أو يومين بعد سفرك لا أجد الطعام حتى فقدت وعيي وكان أبني يضع الطعام أمامي ويذهب فلا أراه إلا بعد يوم كامل وأنا لا استطيع ان آكل بمفردي كما تعلم ثم نقلوني إلى المستشفى وأنا كما ترى.
- حسبي الله ونعم الوكيل .
- لقد أحسنت لنفسك إذا هربت من الطائف .....أنهم يريدونك أن تأتي إلى هنا أيضاً .
- أنني قد رسمت طريقي .
- ثم التفت إلى أبنه .(1/41)
- هذا ما كنت انتظره أنا وأمك منك وأخوك في أخر أيامنا يا محسن .... لقد زرعت انا وأمك زرعا" كبقيّة اهل القريه الا ان ثمار مزارعنا شواكا" ... .ثم التفت الى زوجته وقال :اصبري واحتسبي فلعل وجودك هنا ارحم من بيت ابنك محسن ..... وعليه ان يقوم بالأشراف عليك فقد آن الأوان ان يتحمل مسئوليته نحوك فأنت امه..
- أنها بخير يا أبي وهنا تلقى عناية أكثر من بيتي . قال ذلك ابنه محسن ...
- فعلا" انه افضل من بيتك ... . هيا فلنذهب فلدي أمر أريد أن أشاورك عليه .
- هيا بنا .........
ثم ركبا السيارة وغادر المستشفى وفي الطريق عرض السيد جمعان على أبنه شراء الأرض التي يريد أن يبيعها فرفض محسن واخبره أنه غير ذي مال ولا يمكن أن يدفع أكثر من عشرة آلاف ريال كما أنه لا يريد من أبيه أن يبيعها .
- لكنني لن أبيعها بأقل من خمسين ألف ريال وأنا محتاج إلى ذلك ولو أعطيتني انت وأخوك لم أكن مجبراً على البيع بعد ذلك .
- ليس لدي ذلك المال الذي تطلبه .
- لكنني سأبيعها وأنت أولى .
- لو كنت بقيت في الطائف لما احتجت إلى زواج يا أبي .
- وكنت في الغرفة التي بجانب غرفة أمك .... اليس كذلك ... .، هذه الحقيقة لكنني لن . أركع بعد الآن ولن يكون من أمري ألا ما أراه أنا وعليك أن تشاور أخاك في هذا الأمر فأنني قد عزمت على بيع الأرض الواقعة بجانب الطريق العام . لكي أتزوج بثمنها ... أنني أحتاج لمن يقوم بأمري ويعيش معي .. احتاج الى زوجة .... هل تفهم ؟.
- المبلغ الذي تطلبه ليس متوفرا" لدي وقد أخبرتك بذلك وكان بودي أن تبقى مع أمي وتعيش معنا لكنك تريد التهرب منها أيضاً .
- بل هي سوء الخاتمة يابني..... فقد أنتقم الله لذلك اليتيم منّي ومنها وليس مما قضاه الله مهرب ...وليسامحنا الله ....
(11)(1/42)
عاد السيد جمعان إلى تلة الروابي وقابل السيد عبد الرحيم أبو حفاف واتفقا على بيع الأرض لخالد بمبلغ خمسين ألف ريال . وتم البيع وسمع الناس بذلك حتى محسن بن جمعان الذي علم ايضا ان المشتري هو ابن عمه خالد ...
تزوج السيد جمعان من فتاة من قرية مجاورة سبق لها الزواج من شخص آخر ولها من زوجها السابق بنت وولد لكنها لا تزال شابة فهي لا تزيد عن خمس وثلاثون سنة وعاش معها جمعان حياة هادئة وقام ببناء بعض الغرف الجديدة بجانب بيته وأصبح مناسباً أكثر من ذي قبل .
ومرت الأيام وأنجب منها السيد جمعان ثلاث بنات واشتدت حاجته إلى ما يحتاج إليه الناس فلم تعد يداه تملك شيئاً . ولم يعد يتلقى من ابنيه ايّّة مساعده وأصبح يفكر أن يبيع قطعة أرض أخرى يملكها ليحصل على ما يستعين به على حياته هو وزوجته وبناته ....
وفي يوم من الأيام قال لزوجته .:
- إن الحال كما ترين وإني أفكر في بيع قطعة أرض أخرى .
- لا أريد أن تبيع أرضك كلها وبإمكاننا أن نصبر على العوز والفقر ولا نبتاع أرضنا فقد يكون المستقبل أصعب مما نحن فيه الآن.
- المستقبل بيد الله .
- سبحانه ولكن لو ذهبت إلى ابنك فالناس يقولون عنه أنه موظف وظابط كبير .
- أنه كبير عليّ أنا فقط .... ولن يعطيني شيء .
- فلنقرع هذا الباب .
- سبق أن قرعته .
- لو ذهبت أنا وأنت والبنات بعد نهاية الدراسة لربما أخذته الشفقة على أخواته .
- أنه لم يشفق علي أنا .
- ربما يكون أفضل من ما نتوقع .
- لكنني لا أريد أن أبدو ضعيفاً أمامه .
- لن تكون ضعيفاً وهذا من واجبه نحوك .
- لا أريد ذلك أبداً .
كانت البنت الكبرى تستمع إلى مايتحدث به والداها فطلبت من أبيها أن يسافر بهم إلى الطائف
- نريد أن نرى أخي محسن وأولاده يا أبي أننا نحبهم .
عند ذلك ذرفت دمعة من عينه فقال :
- أنني أعلم يا ابنتي أنه قاس ولا يمكن أن يحبكم .
- بل نريد أن نذهب إليه .
فوافق بعد أن صّدق ما سمع من زوجته وابنته .(1/43)
وفي اليوم التالي أستأجر سيارة وذهب إلى ابنه محسن . فقرع باب الفيلا ونزل بساحة ابنه ضيفا" مع زوجته وبناته الثلاث....
لم يكن استقبال الضيوف على قدر ما توقعه السيد جمعان وزوجته .
لقد أعدت لهم الغرفة التي كانت ترقد فيها زوجته الأولى وكانت زوجة ابنه لا تطيق الضيفة وبناتها بل عاملتهن بتعال وغطرسة اكثر من معاملتها لأم محسن ..فعندما تضع الخادمة الأكل أمامهم تظهر زوجة محسن لهم عدم رغبتها في الأكل . كما كانت كثيرة الجلوس في غرفتها لوحدها وأحس الضيوف بالمهانة والملل فهم يأكلون لوحدهم ويجلسون لوحدهم ولم تزيدهم هذه الزيارة ألا بعداً وحنقاً وغضباً من السيد جمعان وعائلته على أبنه الذي كان قليل الحضور إلى البيت ايضا" الشيء الذي أودى بأبيه إلى استئجار سيارة في اليوم الرابع من وصوله الى الطائف والسفر بعائلته إلى مكة المكرمة بعد ان زار زوجته الأولى في دار الرعاية ألاجتماعية ....
لكنه لم يجد لدى ابنه معيض أفضل من ما وجده عند أخيه وضاقت عليه الدنيا بما رحبت فاصطحب زوجته وبناته إلى ساحة الحرم الشريف بعد صلاة العشاء من اليوم الثاني لزيارته له هرباً من الهوان الذي أحس به لدى ابنه معيض واخذ يراجع مع زوجته نتيجة تلك الزيارة التي نصحته بها زوجته عندما كان في تلة الروابي .
- لم نوفق في هذه الزيارة يا أبا محسن . قالت ذلك زوجته ..
- لقد كنت أعرف ذلك ولكنك لم تصدقيني .
- لقد كنا ثقلاء عليهم جداً .
- كم بقي لدينا فلوس ....؟
- ثلاثمائة ريال فقط . ... لم تفرح أي بنت من بناتنا من ولديك بريال واحد .
- وأنت .
- لم أكن أوفر حظاً منهن .
- هذا قدري .
- هناك باب واحد أفكر أن نقرعه .
- أين هو ........؟
- أبن أخيك فالناس يذكرونه بخير ويقولون عنه غني جداً وطيّب جدا .
- أسمع عنه كذلك .
- لماذا لا نذهب إليه .
- لم أوفق في أولادي فكيف بابن أخي .
- ربما يكون أرحم منهما .. ربما يأتينا الغيث من آخر السحب .(1/44)
- لم أقدم لديه ألا الاساءة .
- ربما يغفر لك إذا رأى حالتنا هذه ويرد على الاساءه بالاحسان.
- كنت قاسياً عليه .
- أن الله غفور رحيم وربما لا يحاسبك عليها .
- صعب عليّ ذلك جداً ....كما انني لااعرف مكانه في جدة ..
- أنني أسمع أن لديه مؤسسة أسمها تلة الروابي بأسم قريتنا وأنها في شارع فلسطين فلنسأل .
- سامح الله أم محسن كم كانت قاسية عليه .
- قد نالت عقابها . في الدنيا .
- لم أكن أستطيع مقاومتها .
- هذا جزء من عقابك أنت أيضاً .
- إذاً دعي عنك هذا الموضوع .
- ربما تكون بداية الفرج يا رجل وأنا لدي احساس أنه سيكون أرحم من ولديك.
- لو كنت سمعت كلامي لم نخرج من تلة الروابي .
- أنه أخر باب أرى أن نطرقه .
- قد لا يكون ساراً .
- لن نخسر شيئاً فتوكل على الله .
- توكلنا على الله .
ونام الجميع في ساحة الحرم حتى الصباح وبعد شروق الشمس وارتفاعها أستأجر سيارة ليموزين وطلب من سائقها أن يوصلهم إلى مدينة جدة .
ومن هناك استقل سيارة تاكسي أخرى وطلب من سائقها أن يوصله إلى مؤسسة تلة الروابي في شارع فلسطين فأخذ سائق التاكسي يبحث في ذلك الشارع وأنزل السيد جمعان بزوجته وبناته أمام موسسة تلّة الروابي ..
كان الوقت ظهرا فاجلس السيد جمعان زوجته وبناته أمام باب البناية وصعد إلى المؤسسة التي كانت في الطابق الثاني منها .
كانت هموم الدنيا على وجهه ورجلاه لا يكاد يستطيع نقلهما والخجل قد أعيى بصيرته فسأل عن السيد خالد . فسار أمامه أحد العاملين إلى باب مكتبه وقرع الباب وأدخله عليه .
كان خالد جالساً في مكتبه يراجع بعض الأوراق ويمارس أعماله .
فإذا ذلك الرجل المسن واقفاً عند الباب قد عبثت بوجهه الأيام وبان غبارها عليه .
- السلام عليكم ورحمة الله .
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته(1/45)
نظر خالد فلم يعرفه فاستمر في عمله لكنه رفع نظره إليه مرة أخرى والرجل واقف في مكانه فإذا ملامحه ليست بغريبة ولو أنه قد مضى عليه أكثر من خمس عشرة سنة لم يره خلالها .
أعاد النظر إليه مرتين وثلاث والرجل لا يزال واقفاً عند باب الغرفة وعندما عرفه رمى القلم من يده وذهب إليه .
- عمي جمعان ....... وأخذ يسلم عليه . خنقت عمه العبرة فلم يقدر على الأجابة ..... بل قال ..: إن أهلي معي وهم يجلسون الآن على باب البناية .
- معك الآن .؟
- نعم .
- إذا فلنذهب إلى البيت . حياكم الله ثم أقفل خالد مكتبه وركب سيارته وركب معه عمه وعائلته وانطلق بهم إلى لبيت .
(12)
وصل خالد بعمه وزوجته وبناته إلى البيت الذي يتكون من ثلاثة ادوار... امامه حديقة كبيرة وأدخلهم في مجلسه واستدعى زوجته وعرّفها عليهم هذا عمي جمعان وقد كنت أتمنى زيارته لنا منذ زمن وهذه زوجته وهؤلاء بناته ....... إنهم بقية أهلي .
كان عمه جمعان جالسا" بجانبه فأخذ خالد كفه وأخذ يقلبها ويردد......: إنهم بقية أهلي ..... إنهم بقية أهلي ..... في تلك اللحظة كانت الدموع تتساقط من عيني السيد جمعان بصمت .... ثم يقول خالد ....: هذه زوجتي رقية ياعمي انها ابنة الرجل الذي ساعدني ورباني مثل ابنه ... إنني مدين لرقية وأبيها مدى الحياة .
استقبلتهم زوجته بكل ترحيب ومودة وكان السيد جمعان لا يصدق ما يراه من ابن أخيه وزوجته .........
عرف خالد أنه لم يأت عمه إليه إلا بعد أن ضاقت به الدنيا وأخذ ينظر في ملابس البنات والزوجة فإذا الفقر والبؤس خطيبا من فوق رؤوسهن وإذا حالهم يكفيه أن يعرف بها أخبارهم وبعد القهوة والشاي التفت خالد إلى عمه .
- كيف حالك يا عمي؟
- سلمك الله .
- كان من الواجب أن أجيء إليك أنا ولكنك أكرم مني فقد تحملت مشاق السفر سامحك الله فأنت احق ان ابرّك .(1/46)
كان السيد جمعان يقول في نفسه .....(آه لو تدري ....اي قدر ساقني اليك ...... انها الحاجة والفقر) ويتمثل في نفسه بقول الشاعر :
وما كان ظني أن أكون كما ترى ... ولكنني راض بما حكم الدهر
- كيف محسن و معيض .
- بخير والحمد لله .
- لقد حاولت أن تكون المسافة بيني وبينهما قريبة إلا أنني وجدتهم لا يريدون أن أكون مجرد صديقاً لهم .
- هم هكذا مع كل الناس .
- كيف حالك أنت ؟
- كما ترى ...
- أرى كل خير فزيارتك لي هذه أنهت كل شيء وأنت كما قلت لك بقية أهلي.... ثم التفت إلى زوجته .
- نريد الغداء يا أم أحمد نريد غداء فاخراً إن لدينا ضيوف من اعز الناس عليّ .
- إنهم في بيتهم وبعد قليل سيكون كل شيء جاهز .
استراح جمعان لتلك المقابلة التي لم يجد مثلها عند ولديه .وبعد الغداء اصطحب خالد ضيوفه إلى شقة في الدور الأول كانت مجهزة بكل ما يحتاج إليه الساكن فيها وقال :
- هذه الشقة ستكون تحت تصرفكم طالما رغبتم الإقامة عندنا فانا ولدك ايضا..... وهذا بيتك....
وبعد أن انفرد جمعان بزوجته وبناته في الشقة ، قال لزوجته:
- يقول المثل : قابلني ولأتغديني .
- لقد أخجلونا بمقابلتهم تلك .
وأنا أتوقع أن يساعدونا أيضا .ورائيي لن يخيب هذه المرة باذن الله.
أما خالد فقد استبشر بزيارة عمه ايضا وعلم انه لم يأت به إلا زمان أغبر وفقر وشدة ...... ورحم الله زماناً جاء بهم إليه فهو يريد أن يرد على الإساءة بالإحسان وأن يكافئه على السيئة بالحسنة فلم يأت إليه رغم ما يعلم من ماضيه إلا وقد ضاقت الدنيا في وجهه و عقد العزم على مساعدته بكل مايستطيع ..
كما أن عمه هذا من الأقربين اللذين أوصى بالصدقة لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وطلب أيضاً من زوجته أن تستوصي بهم خيرا .وقالت له زوجته :
- ألم ترى الحالة التي اقبلوا فيها يا خالد ....؟
- بلى..... إنه الفقر المدقع .
- ماذا تريد أن تفعل معه........ ؟
- سوف أساعده بقدر ما أستطيع.(1/47)
- إن حالتهم تخرس الألسن .
- وتبكي العيون أيضاً .
- ألا تقول أن له أولاد ...؟
- إنني اعرفهم....... لئام .
- حتى على أبيهم .
- وأمهم أيضاً إنها ترقد في دار الرعاية الاجتماعيه لقد أودعوها الدار وتركوها .وكل منهم يعيش في أرغد عيش .
- وأبوهم هكذا ....؟
- وأمهم أسوأ منه .
- كيف ستتصرف مع عمك ....؟
- اتركي لي موضوعهم الان أما أنت فعليك بزوجته وبناته أريدك أن تغيري تلك الحالة التي اقبلن فيها وتحاولي إدخال السعادة إليهن بكل ما تستطيعين ... خذي من المال ما شئت واصلحي احوالهن .
- لدي رأي إذا وافقتني عليه فسيكون ذو فائدة بالنسبة لهم .
- ما هو ...؟
- إن أبي صاحب ثروة كبيرة كما تعلم ويحب أن يتصدق منها وأرى انهم احق بالصدقة من غيرهم وأنا سوف اطلب من أبي بعض النقود وما تحتاجه الزوجة وبناتها وسأقوم به من مال أبي وأنت لا تحسد أبي على الصدقة .
- ولكنني أريد أن أقوم بشأنهم وحدي .
- أنت وأبي سواء ولأفرق بينكما .
- كما تريدين .
كانت رقية لا تفارق السيدة فاطمة وبناتها لحظة واحدة إلا عند النوم فقد أسعدتهن وأسعدنها .كانت تأخذها وبناتها إلى بيت أبيها وتذهب بهن إلى السوق واستطاعت أن تشتري لهن كل ما يحتجن إليه من ملابس ومستلزمات المدارس من دفاتر وأقلام حتى أصبح عند كل واحدة منهن الشيء الكثير.... كما أن والدتها قد ساهمت معها ايضا" ولم يمض أكثر من أسبوعين إلا والسيدة فاطمة وبناتها مثل الورد .
كانت تذهب بهن إلى المنتزهات وعلى شاطىء البحر وبالأسواق حتى اقتلعت من داخلهن جو الفاقة والخيبة التي اقبلن فيها .
أما السيد جمعان فقد كان يصطحبه ابن أخيه الى عمله احيانا وألى الأحياء الجديدة في جدة وشاطيء البحر والمنتزهات تارة اخرى وأدخل على قلبه السعادة أيضا وأعاد له الحياة من جديد ، وذات يوم وقد ذهب معه إلى شاطئ البحر .
قال السيد جمعان :(1/48)
- إننا نريد أن نسافر يا بني وقد قدمت أنت و زوجتك لنا الشيء الكثير و الذي لم يعمله معي ولداي ،
و أنا لم أحسب إنني عملت معك خيراً ... إنني أخجل من نفسي عندما أتذكر أيام طفولتك .
- لا عليك يا عمي فالدنيا هكذا والحمد الله إن الله قد عوضني خيرا .وهذا الخير كله لله وأنت ذو رحم ومن حقك علي أن اكرمك.
انني ابنك ايضا" ولن أدعك بعد اليوم أما بناتك هؤلاء فهن اخواتي وأنت ضيفي الآن ولن تسافر قبل أن تنتهي إجازة الصيف فقد ملأتم علينا البيت واستأنسنا بوجودكم ... . أنت صاحب الفضل في زيارتك لي.
- لكنني أريد العودة إلى تلّة الروابي ..
- أسمح لي بهذا الشهر ... .اريد ان احس ان ابي لم يمت بعد.
- لن يكون إلا ما تريد ......انني اخجل من نفسي ان ارفض لك طلبا .
وفي ليلته تلك جلس السيد جمعان مع زوجته فإذا هو يرى أكثر من عشر حقائب في الغرفة
- ما هذا يا فاطمة ...... ؟
- هذه هدايا رقية وأهلها .
- ماذا فيها يا ترى.... ؟
- من كل شيء . ملابس وعطور وذهب وأواني . أظن أننا لن نحتاج شيء لمدة طويلة نحن والبنات . ايضا .
- وماذا غير ذلك ......؟
- هناك ثلاثة مظاريف طلبت مني أن لا أفتحها إلا بعد وصولي إلى القرية .
- لا تأخذي منهن نقوداً ........
- اعتقد إن بها نقوداً ولكن تجنبا" لإحراجي فقد وضعتها في المظاريف وطلبت مني عدم فتحها إلا بعد سفري .
- وأنت ما رأيك في هذا......... ؟
- لم يأت بنا هنا إلا الفقر .
- ماذا تعنين .......؟
- اعني أنني اسأل الله أن يزيدهم من فضله إنهم الفرج الذي كنا ننتظره وهذا رزق بناتك والمثل يقول ( أبو البنات مرزوق ) ، ثم أنه قص عليها ما دار بينه وبين ابن أخيه على شاطئ البحرايضا.
أما خالد فقد كان كريما مع عمه فأعطاه نقوداً ما يكفيه لفترة طويلة واستعد له بمصروف شهري كما قررت زوجته أن تأخذ من أبيها ما ترسله لهم شهريا .....(1/49)
وفي نهاية الصيف طلب جمعان من ابن اخيه السماح له بالعودة إلى تلة الروابي بعائلته فأستأجر لهم خالد سيارة خاصة أوصلتهم إليها .في نهاية الأجازة الصيفية .
( 13)
رجع جمعان إلى قرية تلة الروابي محملا بالهدايا واخذ يقلب تلك الحقائب التي جاء بها من جدة فوجد فيها ما لم يحلم به هو وزوجته وبناته ثم سأل زوجته أن تفتح تلك المظاريف فإذا حصيلتها 7000ريال أما هو فقد ناوله ابن أخيه عشرة آلاف ريال وأخذا يحدثا الناس عن خالد وزوجته ويمتدحانهما في كل مجلس حتى علم بقصتهما القاصي والداني وحتى أبناءه محسن و معيض اللذان لم تحرك فيهما قصته ساكن بل زاد ذلك كرههما لأبيهما وخالد على حد سواء وأخذ السيد جمعان يردد قول الشاعر
جزى الله منا الخير من ليس بيننا ... ولا بينه ودّ و لا نتعارف
فما سامنا خسفا ولا عمنا أذى ... من الناس إلا من نود ونعرف
وفي يوم من الأيام توفيت السيدة نورة زوجة السيد جمعان الأولى فأتصل بخالد وطلب منه مقابلته في مكان ما من الطائف وذهبا للعزاء سويا .
كانت صدمة محسن كبيرة جداً عندما جاء أبوه بصحبة ابن عمه خالد فقدما العزاء وجلسا برهة من الزمن ثم استأذنا وأراد ا الانصراف ..
- الا تبقى في العزاء يا أبي .( قال ذلك محسن )
- أريد أن أذهب مع خالد .
- أنا ولدك يا أبي .
- ايضاً هذا ولدي .
- وأنا ؟
- كنت أحسبك ولدي حتى .. .. .. ثم سكت .
- أدري بأنه الذي أملى عليك هذا الكلام .
- سامحك الله ياابن عمي قال ذلك خالد . وهو يتهيأ لركوب سيارته .
- هو الذي نافق بيننا وبينك .قال ذلك محسن لابيه .
- أنا رأيت بعيني .
- إن ما تراه منه يا أبي مجرد سحابة صيف .
- ما أجمل المطر في زمن الجدب يا ولدي وإن كانت سحابة . آتية من مكان بعيد فقد كنت أرجي المطر من سحب أقرب منها . أنه الغيث الذي أتاني من بعيد ، وذهب جمعان وابن أخيه إلى موقف النقل العام وركب جمعان من هناك سيارة إلى تلة الروابي . اما خالد فقد عاد الى جدة .(1/50)
وبعد فترة رزق السيد جمعان بولد أسماه خالد تيمنا""بخالد ابن اخيه ..
(14)
جلس السيد جمعان . متكئاً بجانب زوجته فاطمة وحولهما الأطفال وقد وضعت زوجته ولدها بين يديها وأخذا يستعيدان مامرّ بهما خلال رحلتهما في العام الذي مضى إلى كل من الطائف ومكة وجدة فقال لزوجته .
- أن زرعي قد أثمر شوكاً .
- انهم أمر ُمن الشوك.
- كنت اتوقع ذلك من محسن ومعيض .
- لم أكن احسبهم بتلك القسوة .
- اما أنا فقد كنت اعرف ذلك جيداً لكنني لم افهم الدرس من اول وهله .
- انني لا آمن جانبهما على بناتي وعلى هذا الصبي ايضا" وهذا الذي في بطني.
- هل أنت ....؟
- نعم أنني حامل .
- لهم رب العالمين .
- ونعم بالله .......ولكننا قد رأينا امراً مرعباً .
- ماذا تقصدين .
- اقصد أنهم ليس فيهم رحمة ولاشفقة .... ومثل هذه العينات لايمكن الأطمئنان اليهم ولو نبيع قطعة ارض اخرى ونشتري بثمنها بيتاً في مدينة جدة وتكتبه بأسمي أكون أنا وأطفالي في منأى عن محسن ومعيص مستقبلا"...
- لم يعد لدينا ارض ذات قيمة سوى الارض المؤجرة لورشة النجارة .
- فلتكن .....
- أن اجارها ينفعنا فلا يوجد لنا أي دخل سواه .
- سيكون دخل البيت الذي نشتريه أفضل من اجار الارض المقام عليها الورشة .
- ومن يشتريها .
- تعرض الامر على خالد فهو يستاهل كل خير .
- وهو كذلك .
نهض السيد جمعان من مجلسه وذهب إلى ورشة النجارة وأخذ
ينظر إلى ارضها ويمشي من امامها وخلفها وهو يتوهم قيمتها
ويفكر بكم يشتريها ابن اخيه خالد .
ثم دخل إلى الورشة وهناك اتجه الى المعلم صابر وطلب منه أن
يكتب له رساله إلى ابن اخيه خالد ثم وضع الرسالة داخل
مضروف وكتب عليه العنوان وانصرف من الورشة وعاد إلى
زوجته .
- لقد كتبت رسالة إلى خالد اعرض عليه أن يشتري مكان الورشة .
- حسناً فعلت .
- الا ترين أن ذلك سوف يغضب محسن ومعيض ....؟
- قد يكون ذلك . لكن
- لكن ماذا ......؟
- ماذا تنتظر منهم غير ما رأيت .(1/51)
- انني لم ارى منهما خيراً .
- اذاً فلنتوكل على الله .
لقد راينا منهما القسوة ونكران الجميل ..
- بل انها سوء الخاتمه بالنسبة ليّ ولقد فكرت ان اعرض عليهما شراء الارض قبل خالد الا انني قد اخذت درساً من
ذلك في المرة الاولى .
ثم غادر منزله واتجه إلى مكتب البريد واودع الرسالة
الى ابن اخيه .
بينما كان خالد في مكتبه في شارع فلسطين اذ دخل مكتبه احد
الموظفين وناوله خطابات البريد التي كان ظمنها رسالة عمة
جمعان .
اخذ خالد الرسالة وفتحها فاذا هي من تلة الروابي من عمه يعرض عليه شراء الارض المقامة عليها ورشة النجارة ..
قرأ الرساله مرة ومرتين وثلاث واخذ يفكر في هذا الامر..انها ورشة ابيه وهذه فرصته ان يحوز عليها وأن تعود ملكيتها اليه ولكن...
* لماذا يريد عمه بيعها ................!
* لعله يكون بحاجه الى مال ..
* لعله يريد ان يبني بيتاً .
* انها الضربة الموجعة فعلا لمحسن ومعيض .
* لا ينبغي ان يتردد في هذا الامر.
* ان سكوته واحترامة لهما جعلهما لا يقيمان له وزناً .
نهض من على كرسيه واغلق مكتبه وانصرف إلى بيته .
وجد زوجته قد عادت من مدرستها فأخبرها انه يريد ان يسافر إلى تلة الروابي واخبرها بكل ما يجول بخاطره وعن فحوى تلك الرسالة التي ارسلها له عمه .....وركب سيارته وغادر جدة متوجهاً إلى تلة الروابي
و لم يبت خالد ليلته تلك الا في منزل عمه عبدالرحيم ابو حفاف.
واستعرض مع عمه عبدالرحيم ووالدته الامر الذي جاء من اجله إلى تلة الروابي وكذلك أوضح لهما ما يفكر فيه من استرجاع ورشة ابيه التي يرى ان كل قطعة فيها من عرق ابيه وجهده.
فكان هذا الرأي موضح استحسان والدته وعمه اللذان شجعاه على الاقدام على تلك الخطوة في صباح اليوم التالي ذهب خالد إلى عمه فاستقبله احسن استقبال وبدأ الحديث مع عمه .
- لقد وصلتني رسالتك التي ابديت فيها رغبتك في بيع الارض المقام عليها ورشة النجارة .
- نعم لقد قررت ذلك .(1/52)
- ارجو ان لا تكون الحاجة هي التي اجبرتك على ذلك .
- لا يابني ولكنني قد رأيت مع زوجتي رأياً نريد ان نطلعك عليه.
ثم سردله ما أتفق عليه وزوجته من رغبتهما في شراء بيت في مدينة جدة بقيمة الارض التي يريد أن يبيعها له .
- وها ئنذا قد وصلت . فكم تريد ثمناً لها.
- انت اعلم بقيمة العقار مني .
- لكن قيمة الارض لاتكفي لشراء بيت .
- كل بيت وله قيمه ونحن لا نريد بيتاً فخماً . نريد منزلا ً يكفي دخله لمصاريف هؤلاء الأطفال عندما انتقل عنهم إلى مثواي الاخير.
- بعد عمر طويل .
- كلنا سنموت ياولدي ولكن محسن ومعيض لم يكونا على مستوى المسئولية التي قد يحتاج اليها اخواتهما .
- اذاً كم تريدا ثمناً للارض .
- مائة الف .
- ومني عشرة الآف فوق ذلك .
- اذاً على ذلك اتفقنا .
- توكلنا على الله . غداً ستذهب معي إلى المحكمة في مدينة الطائف وافرغ لك صك ملكيتها .
- توكلنا على الله . وانا سوف اسحب من البنك هناك نقوداً وأسلمها لك .
- لا أريد فلوساً عليك ان تتدبر بها منزلاً لنا وتكتبه باسم زوجتي ليكون بعيداً عن متناول يد محسن ومعيض .
وفعلاً ذهبا في صباح اليوم التالي إلى مدينة الطائف وتم نقل ملكية تلك الارض إلى السيد خالد أحمد محسن ثم عادا إلى تلة الروابي .
وفي صباح اليوم التالي ذهب خالد إلى ورشة النجارة وطلب من العاملين بها ابلاغ صاحب المنجرة ان عليه ان يخلي الارض في خلال شهر من ذلك التاريخ كما همس للمعلم صابر انه في حالة رغبة صاحب الورشة بيعها فأنه مستعد لشراءها واوحى إلى العاملين بها انه لامانع لديه في نقل كفالتهم وابقاءهم للعمل بها في حالة موافقة صاحب المنجرة على ذلك .... كما تعمد أن يطلع المعلم صابر على صورة لصك ملكية ارض الورشة بعد افراغه من المحكمة بأسمه لعلمه ان صابر سوف يبث الخبر في كل مكان .(1/53)
بدأ خالد بعد عودته إلى جدة البحث عن منزل يشتريه لعمه في مدينة جدة لكن المبلغ لم يكن كافياً فما كان منه الا ان اتصل ببعض التجار في مدينة جدة من اهل الخير ومن اصحاب الثروات اللذين ساعدوا في زيادة المبلغ حتى بلغ ثلاثمائة الف ريال .
كان المبلغ كافياً لشراء منزلاً مناسباً به عدداً من الشقق المؤجرة كما ان الاجار في مجموعة يتجاوز الثلاثة الآف ريال شهرياً فأشتراه باسم زوجه عمه وارسل لعمه رساله يطلب فيها منه ومن زوجته الحضور إلى جده لأستلام البيت والتعرف عليه .
استاجر السيد جمعان سيارة وذهب إلى جده مع عائلته واطلعهم خالد على ما قام به في سبيل زيادة المبلغ فشكروه جميعاً وبقي بعائلته مع خالد هناك يومين ثم عاد بأهله إلى تلة الروابي .
اما خالد فقد عاد بعد انقضاء المهلة التي كان قد وعد بها عمال ورشة النجارة فوجد صاحب الورشة يريد بيعها فعلاً فأشتراها ونقل كفالة العاملين يها على مؤسسته ودارت عجلة الورشة مرة اخرى لتعود بملك ابيه اليه .
بقيت الألفة بين خالد وعمه وبقي جمعان يذهب إلى ابن أخيه في الإجازة الصيفية وفي مناسبات الأعياد وأصبح خالد كل شيء بالنسبة له ولعائلته .
وعندما أحس السيد جمعان أن مرض السرطان قد أنهكه اتصل بابن أخيه الذي نقله إلى مستشفى الملك فهد بجدة وحاول الأطباء علاجه إلا أن الأجل قد أدركه وتوفي وهو في جدة عند ابن أخيه ولم يتكلف أي من محسن و معيض زيارته في المستشفى إلا أنهما عند موته حضرا وقاما معه في العزاء وكل واحد منهم يلومه على عدم إشعاره بمرض أبيهما ، الشيء الذي جعلهما محل سخرية ومقت من جميع الحاضرين .
توفي السيد جمعان وعادت زوجته فاطمة وأطفالها إلى تلة الروابي وأستمر خالد في تفقد أحوالهم ومواصلتهم حتى كبروا وتزوجوا ورحم الله الشاعر الذي قال :
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين وزلت
أبو ان يملونا ولو أن أّمنا ... تلاقي الذي لا قوه منّا لملّت(1/54)
هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظّلت
وانتهت القصة ......................... محمد عصبي الغامدي(1/55)