"كانت فرنسا وأسبانيا قد تطلعتا إلى إيطاليا واستهدفتا تحقيق غرضين هما: التوسع الإقليمي بالاستيلاء على ممتلكات جديدة في شبه الجزيرة الإيطالية, ثم السيطرة والتفوق السياسي في القارة الأوروبية، كانت كل منهما تمثل الدولة الملكية الموحدة ذات الحكومة المركزية، وكانت كل منهما أيضا، "والقرن الخامس عشر يلفظ أنفاسه الأخيرة". في طليعة الدول اللاتينية والكاثوليكية في غرب أوروبا، وقد بلغت كلتاهما مستوى من التقدم الحضاري -الثقافي والمادي- يفوق كثيرا المستوى السائد في شرق أوروبا، وكان من المتوقع أن تركز هاتان الدولتان جهودهما لتنشيط حركة البعوث الكشفية الجغرافية لتحقيق مزيد من النجاح بعد أن بدت تباشير اكتشاف عالم جديد يتيح آفاقا جديدة رحيبة للتجارة والثراء والقوة، ولكن بدد ملوك أسبانيا وفرنسا قواهم طوال فترة امتدت زهاء خمسة وستين عاما في صراع مرير استهدف السيطرة على إيطاليا، وأنزل بهم جميعا أضرارا فادحة. وأذل بلادا متحضرة شهدت مولد النهضة الأوروبية في فجر التاريخ الحديث.. وقد أدى هذا الصراع إلى أفول النهضة الإيطالية، وخضوع إيطاليا لصرامة الحكم الأجنبي"1.
ولنستعرض فقط بعض عناوين الكتاب ذات الدلالة على الدوامة التي اجتاحت أوروبا في ذلك الحين بسبب التنافسات القومية: أحلام شارل الثامن ملك فرنسا, مقدمات التدخل الفرنسي في إيطاليا, الزحف الفرنسي الخاطف على إيطاليا, نجاح انسحاب الجيش الفرنسي من إيطاليا, فرنسا تكتسح دوقية ميلان, فرنسا تروم استكمال سيطرتها على إيطاليا, هزيمة ملكة نابولي, بابا جديد يكتل نصف أوروبا ضد جمهورية البندقية, الحلف المقدس ضد فرنسا سنة 1511, انتصار الفرنسيين في معركة رافنا سنة 1512, توسيع قاعدة الحلف المقدس ضد فرنسا, انتكاس فرنسا عسكريا, انتقام البابا, أطماع البابا, عودة إلى سياسة الأحلاف العسكرية, القوات السويسرية تحسم الموقف لصالح حلف مالين, أطماع فرنسوا الأول ملك فرنسا, موقعة مارينيان ونتائجها, اشتداد المنافسة بين ملكي فرنسا وأسبانيا على منصب الإمبراطور, انتخاب ملك أسبانيا
__________
1 ص173, 174 من المرجع السابق.(1/565)
إمبراطورا, عودة الصدام المسلح, عدوان ثلاثي على فرنسا, معركة بافي "24 من فبراير 1525", الموقف الداخلي في فرنسا بعد كارثة بافي, حملة سنة 1528, فرنسا تحرز انتصارات خاطفة, جيش فرنسي جنوبي إيطاليا يضطر إلى التسليم, هزيمة جيش فرنسي في شمالي إيطاليا وأسر قائده, أسباب التعجيل في عقد الصلح , تجدد الحرب ومعركة سيريزول, استمرار الصراع بين فرنسا وأسبانيا على عهد هنري الثاني, الصدام المسلح بين فرنسا والإمبراطورية, استمرار الصراع الحربي على عهد فيليب الثاني, البابا يورط ملك فرنسا في صدام مسلح ضد ملك أسبانيا الجديد, فرنسا تتعرض لهزيمة محققة, فرنسا تنتزع ثغر كاليه من إنجلترا, نهاية الحروب الإيطالية!!
وهذه كلها حرب واحدة من الحروب العديدة التي جرت في أوروبا على فترات متتابعة.. وتكفي حروب نابليون الشهيرة مثلا ثانيا على تلك الروح الشريرة التي اجتاحت أوروبا منذ ظهرت فيها حمى القومية، ولسنا في حاجة إلى تتبع تفصيلاتها فلن يزيدنا ذلك معرفة بتلك الروح التعسة، كما أن قصة نابليون بصفة عامة معروفة عند كثير من القراء ...
ثم جد عامل جديد زاد من حدة الصراع، ذلك هو الثورة الصناعية ...
إن "أخلاق" الثورة الصناعية هي "الأخلاق" اليهودية -إن سميت هذه أخلاقا- أي: السعي إلى الربح بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، ولم يكن غريبا أن تتخلق الثورة الصناعية بهذه الأخلاق الهابطة، مذ كانت خاضعة للسيطرة اليهودية منذ نشأتها، كما بينا في التمهيد الثاني من هذا الكتاب1, ولما كانت القوميات قد اتجهت أساسا إلى تحقيق "المصالح القومية" بصرف النظر تماما عن "المصالح الإنسانية" ... وإذ كانت المصالح القومية مصالح مادية بالدرجة الأولى.. فنستطيع أن نتصور الحال حين تدخل القوميات بصراعاتها المادية في دوامة الثورة الصناعية، فإن هذه الصراعات لا بد أن تتضاعف عدة مرات، ولا بد أن تأخذ صورة الصراع المادي البحت.. وكانت "الفلسفة" التي قام عليها هذا الصراع -إن سميت هذه فلسفة- هي الفلسفة الرأسمالية المتذرعة بقول الداروينية: "البقاء
__________
1 راجع فصل "دور اليهود في إفساد أوروبا".(1/566)
للأصلح"1 ولما كانت كل قومية تزعم لنفسها أنها هي الأجدر بالبقاء، وتريد أن تثبت ذلك بالفعل، فلنا أن نتصور كيف يعنف الصراع بين القوميات المختلفة ويصل إلى حد الوحشية! وتموت في دوامة الصراع الوحشي كل المعاني "الإنسانية" ويسمى هذا "تقدما" حسب التفسير الدارويني للحياة، والتفسير المادي للتاريخ!
ومع الثورة الصناعية الرأسمالية المتلبسة في ذات الوقت بالقومية, اتسعت رقعة "الاستعمار".
لقد كان الاستعمار الأوروبي في منشئه دفعة صليبية بحتة.
فحين سقطت الأندلس في يد المسيحيين أصدر البابا قرارا بتقسيم أرض "الكفار" -أي: المسلمين- إلى دولتين هما أسبانيا والبرتغال2، وقامت محاكم التفتيش بمجهود وحشي ضخم للقضاء على بقايا الإسلام في الأندلس، فاستخدمت أبشع وسائل التعذيب التي عرفها التاريخ لمطاردة الإسلام في كل شبر من أرض ما صار يسمى أسبانيا والبرتغال، حتى صارت الهينمة في جوف الليل مبررا لدخول رجال التفتيش أي بيت تسمع فيه؛ لأنها مظنة قراءة القرآن سرا في هدأة الليل، وصار وجود حمام في أي بيت يدخله رجال التفتيش مبررا لصب أفظع ألوان التعذيب على أهله؛ لأن الحمامات داخل البيوت كانت في ذلك الوقت خصيصة من خصائص المسلمين! ومع ذلك كله فقد استغرق الأمر مائتي عام حتى أفلح التعذيب الوحشي في تنصير الأندلس كلها ومحو كل أثر للإسلام فيها.
ولما تم "رسميا" إزالة الحكم الإسلامي -أي: منذ 1492م- شجع البابا النصارى على متابعة المسلمين خارج الأندلس، في حرب صليبية جديدة، بغية القضاء على الإسلام في كل أرض، ولكن وجود الدولة العثمانية القوية في الشرق, التي أزالت الدولة البيزنطية باستيلائها على القسطنطينية عام 1453م، لم يكن يتيح للحرب الصليبية الجديدة أن تتجه إلى الشرق نحو بيت
__________
1 تفهم هذه العبارة خطأ أن "الأصلح" هو الأصلح خلقيا أو معنويا أو على أساس أية قيم رفيعة. والتعبير في لغته الأصلية لا يحمل شيئا من هذه المعاني فكلمة Fittest معناها "الأنسب" أي: الذي يحمل المواصفات التي تجعله يتفوق في الصراع الدائر بين الكائنات وبين البيئة؛ لأن هذه المواصفات هي الأنسب للظروف البيئية المحيطة، فحين يحدث الجفاف مثلا يكون الكائن "الأنسب" هو النبات أو الحيوان الذي يحتمل العطش أكثر من غيره.. ولكنها حملت معنى "الأصلح" من إحياءات الداروينية العامة.
2 كلمة البرتغال "برتقال" هي كلمة عربية فقد كان المسلمون يسمون هذه المنطقة أرض البرتقال!(1/567)
المقدس كما اتجهت الحروب الصليبية الأولى الفاشلة، فحاولت الدوران حول العالم الإسلامي من جهة الغرب، وكانت البرتغال أول دولة استجابت للتحريض البابوي وسارعت إلى تنفيذه.
في عام 1497 قام فاسكوداجاما برحلته الشهيرة التي كشف فيها للأوروبيين طريق رأس الرجاء الصالح1 وبمعاونة البحار العربي المسلم "ابن ماجد" وعلى هدي الخرائط الإسلامية للشواطئ الإفريقية والآسيوية2, دار فاسكوداجاما حول إفريقيا متجها إلى الشرق حتى وصل إلى جزر الهند الشرقية, وهناك قال قولته الصليبية المشهورة، التي تقطع بأن رحلته لم تكن "علمية" كما يدعى لها، ولم تكن من أجل الكشف الجغرافي الخالص كما قيل عنها، فقد قال عند وصوله إلى تلك الجزر "الآن طوقنا عنق الإسلام, ولم يبق إلى جذب الحبل ليختنق فيموت"!
وبعد ذلك تتابعت "الكشوف" وتتابعت "الرحلات العلمية" التي مهدت للاستعمار الصليبي للعالم الإسلامي.
ولما برزت القوميات في أوروبا تلبست بالروح الصليبية تجاه المسلمين، فأصبح التنافس يتمثل -من بين ما يتمثل- في التنافس على استعمار العالم الإسلامي ومحاولة تنصير أهله عن طريق الحملات التبشيرية التي صاحبت الاستعمار الصليبي دائما، ممهدة له أحيانا، ومستندة إلى وجوده أحيانا، ولكنها مصاحبة له على الداوم!
وحتى حين أصبحت تلك القوميات "علمانية" تماما لم يؤثر ذلك في صليبية الحملات الاستعمارية، ولا قللت مقدار ذرة من النشاط التبشيري المصاحب للاستعمار الصليبي.
وقد يبدو ذلك متناقضا لأول وهلة.. فكيف تهمل أوروبا "الدين" في حياتها الخاصة، ثم تتذكره في الهجوم على العالم الإسلامي؟ الواقع أن الذي تذكرته أوروبا -ولا تزال إلى هذه اللحظة تتذكره- تجاه العالم الإسلامي ليس هو "الروح الدينية" فقد انسلخت أوروبا من دينها تماما.. إنما هو "الروح الصليبية" التي كانت ذات يوم متلبسة بالدين. ولكنها ظلت على ضراوتها حتى
__________
1 كان هذا الطريق معروفا للمسلمين قبل ذلك بعدة قرون!
2 كان لدى المسلمين خرائط دقيقة للشواطئ الآسيوية والإفريقية يستخدمونها في رحلاتهم التجارية من شواطئ الصين شرقا إلى بريطانيا غربا وشمالا.(1/568)
بعد أن فقدت منبعها الأصلي، وصارت شيئا قائما بذاته، لا علاقة له بتدين أصحابه، إنما هي كراهية وحقد ومقت للإسلام والمسلمين، لا لحساب النصرانية كدين، ولكن لحساب الأوروبيين بوصفهم أعداء للمسلمين.
يقول ليوبلدفايس "محمد أسد" في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق": "إن الاصطدام العنيف الأول بين أوروبا المتحدة من جانب وبين الإسلام من جانب آخر -أي: الحروب الصليبية- يتفق مع بزوغ فجر المدنية الأوروبية، في ذلك الحين أخذت هذه المدنية -وكانت لا تزال على اتصال بالكنيسة- تشق سبيلها بعد تلك القرون المظلمة التي تبعت انحلال رومية، حينذاك بدأت آداب أوروبا ربيعا منورًا جديدا. وكانت الفنون الجميلة قد بدأت بالاستيقاظ ببطء من سبات خلفته هجرات الغزو التي قام بها القوط والهون والآفاريون. ولقد استطاعت أوروبا أن تتملص من تلك الأحوال الخشنة في أوائل القرون الوسطى، ثم اكتسبت وعيا ثقافيا جديدا. وعن طريق ذلك الوعي كسبت أيضا حسا مرهفا، ولما كانت أوروبا في وسط هذا المأزق الحرج حملتها الحروب الصليبية على ذلك اللقاء العدائي بالعالم الإسلامي.. إن الحروب الصليبية هي التي عينت في المقام الأول، والمقام الأهم موقف أوروبا من الإسلام لبضعة قرون تتلو، ولقد كانت الحروب الصليبية في ذلك حاسمة؛ لأنها حدثت في أثناء طفولة أوروبا، في العهد الذي كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها1 وكانت لا تزال في طور تشكلها، والشعوب كالأفراد، إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة التي تحدث في أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرا أو باطنا مدى الحياة التالية، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرا عميقا، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية في الدور المتأخر من الحياة، والمتسم بالتفكير أكثر من اتسامه بالعاطفة أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندر أن تزول آثارها تماما. وهكذا كان شأن الحروب الصليبية، فإنها أحدثت أثرا من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الشعب الأوروبي، وإن الحمية الجاهلية العامة التي أثارتها تلك الحروب في زمنها لا يمكن أن تقارن بشيء خبرته أوروبا من قبل ولا اتفق لها من بعد".
"ومع هذا كله فإن أوروبا قد استفادت كثيرا من هذا النزاع، إن "النهضة" أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من
__________
1 يقصد: أخذت تظهر.(1/569)
المصادر الإسلامية والعربية على الأخص، كانت تعزى في الأكثر إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب، لقد استفادت أوروبا أكثر مما استفاد العالم الإسلامي، ولكنها لم تعترف بهذا الجميل، وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام، بل كان الأمر على العكس, فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن، ثم استحالت عادة. ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذكرت كلمة "مسلم" ولقد دخلت الأمثال السائرة عندهم حتى نزلة في قلب كل أوروبي, رجلا كان أم امرأة. وأغرب من هذا كله أنها ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافي، ثم جاء عهد الإصلاح الديني حينما انقسمت أوروبا شيعا، ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها في وجه كل شيعة أخرى، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها، بعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الديني فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر".
"ولقد يتساءل بعضهم فيقول: كيف يتفق أن نفورا قديما مثل هذا -وقد كان دينيا في أساسه وممكنا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية- يستمر في أوروبا في زمن ليس الشعور الديني فيه إلا قضية من قضايا الماضي"!
"ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدا، فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقنها أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة -والتي كانت من قبل تدور حول هذ الاعتقادات المهجورة- في قوتها تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أدوار ذلك الإنسان، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلامي، فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصرا من الوعي الباطني في عقول الأوروبيين، وأما درجة هذا النفور فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر، ولكن وجوده لا ريب فيه. إن روح الحروب الصليبية -في شكل مصغر على كل حال- ما زال يتسكع فوق أوروبا، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفا يحمل آثارا واضحة من ذلك الشبح المستميت في القتال"1.
__________
1 الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة عمر فروخ، مقتطفات من ص52-59.(1/570)
يقول "ولفرد كانتول سميث" المستشرق الكندي المعاصر في كتاب "الإسلام في التاريخ الحديث Islam in Modern History:
"إلى أن قام كارل ماركس وقامت الشيوعية، كان النبي "يقصد الإسلام" هو التحدي الحقيقي الوحيد للحضارة الغربية الذي واجهته في تاريخها كله، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدي حقيقيا، وكم كان يبدو في يوم من الأيام تهديدا خطيرا حقا".
"لقد كان الهجوم مباشرا، في كلا الميدانين: الحربي والعقيدي، وكان قويا جدا، ولا شك أنه بالنسبة للمسلمين يبدو أنه الحق والصواب، والأمر الطبيعي المحتوم، أن يمتد الإسلام كما امتد، ولكن الأمر كان مختلفا بالنسبة للشخص الواقع خارج نطاق الإسلام، الذي لم يكن يرى فيه شيئا من ذلك كله، والذي كان التوسع الإسلامي يقع على حسابه، وقد كان هذا التوسع إلى حد كبير على حساب الغرب. فقد فقدت المسيحية دفعة واحدة "أجمل مقاطعات الإمبراطورية الرومانية" لتتسلمها منها القوة الجديدة، وكانت في خطر من ضياع الإمبراطورية بكاملها، وعلى الرغم من أن القسطنطينية لم تقع -تماما- في يد الجيوش العربية كما وقعت مصر وسوريا، فقد استمر الضغط عليها فترة طويلة، وفي موجة التوسع الإسلامي الثانية وقعت القسطنطينية بالفعل سنة 1453، وفي قلب أوروبا المفزعة ذاتها أحاط الحصار بفينا سنة 1529 بينما ظل الزحف الذي بدا عنيدا لا يلين، مستمرا في طريقه، وحدث ذلك مرة أخرى في وقت قريب لم يتطاول عليه العهد في سنة 1683، وإن وقوع تشيكوسلوفاكيا في قبضة الشيوعة عام 1948 لم يكن له قط في العصر الحديث ذلك الفزع في نفوس الغرب المتهيب، كما كان لذلك الزحف المستمر قرنا بعد قرن، من تلك القوة الضخمة المهددة التي كانت لا تكلف ولا تهدأ ويتكرر انتصارها مرة بعد مرة".
"وكما هو الأمر مع الشيوعية كذلك كان التهديد والانتصارات "الإسلامية" قائمين في عالم القيم والأفكار أيضا. فقد كان الهجوم الإسلامي موجها إلى عالم النظريات كما هو موجه إلى عالم الواقع،.. وقد عملت العقيدة الجديدة بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسي للعقيدة المسيحية، التي كانت بالنسبة لأوروبا العقيدة السامية التي أخذت في بطء تبني حولها حضارتها.. وكان التهديد الإسلامي موجها بقوة وعنف وكان ناجحا ومكتسحا في نصف(1/571)
العالم المسيحي تقريبا ... والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيدة التي انتزعت من بين المسيحيين أناسا دخلوا في الدين الجديد وآمنوا به.. بعشرات الملايين, وهو القوة الوحيدة التي أعلنت أن العقيدة المسيحية ليست مزيفة فحسب، بل إنها تدعو إلى التقزز والنفور".
"وإنه لمن المشكوك فيه أن يكون الغربيون -حتى أولئك الذين لا يدركون إطلاقا أنهم اشتبكوا في مثل هذه الأمور- قد تغلبوا قط على آثار ذلك الصراع الرئيسي المتطاول الأمد.. أو على آثار الحروب الصليبية التي استغرقت قرنين من الحرب "العقيدية" العدوانية المريرة"1.
وفي هذا وذاك تفسير لهذه الظاهرة التي تبدو غريبة لأول وهلة، وهي أن أوروبا قد أهملت الدين في حياتها، ولكنها لم تنس الروح الصليبية التي أججتها ظروف الحرب والصراع في نفوسهم من قديم.
وحين قامت الثورة الصناعية اتسم "الاستعمار" عامة بالصبغة الاقتصادية؛ لأنه كان بحثا عن الموارد الرخيصة من جهة، والأسواق المضمونة لتوزيع فائض الإنتاج من جهة أخرى.. وشمل الاستعمار كل أرض مستضعفة سواء كانت أرضا إسلامية أو غير إسلامية، ومع ذلك لم ينس الصليبيون صليبيتهم إزاء المسلمين، فحيثما كانت الأرض المستعمرة غير إسلامية اكتفى الاستعمار بنهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج ... أما حيث تكون الأرض إسلامية فالعناية الأولى موجهة لمحو الإسلام عن طريق التبشير والغزو الفكري ومناهج التعليم التي تفرض على المسلمين ووسائل الإعلام التي توجه إليهم، ثم يأتي بعد ذلك نهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج. وخير مثال لذلك استعمار البريطانيين للهند، فقد كان أول عمل لهم هو إزالة الحكم الإسلامي في الهند، ثم تركوا الهنود لمعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم لم يتعرضوا لهم بشيء، ووجهت الحرب الضارية ضد المسلمين وحدهم، فصودرت الأوقاف المرصودة للتعليم الإسلامي فجفت منابعه، وحورب المسلمون في الوظائف العامة وأعطيت للوثنيين الهنود، ووجه الغزو الفكري ضد المسلمين لإخراجهم من حقيقة الإسلام!
__________
1 ص109, 110 من الأصل الإنجليزي الطبعة الأولى سنة 1975م.(1/572)
وأيا ما كان الأمر فقد ارتبطت القوميات في أوروبا بالاستعمار بكل سفالاته، وكل بشاعاته، ونشبت الحروب بين القوميات المختلفة أبشع ما تكون. وصارت نهاية الأمر حروبا عالمية، تشترك فيها كل القوميات، ويصلاها العالم كله بذنب وبغير ذنب.
في الحرب الكبرى الأولى التي استمرت من 1914-1918م قتل عشرة مليون شاب، غير الذين شوهوا أو أصيبوا إصابات تقعدهم عن العمل، واستخدمت الغازات السامة والقنابل المحرقة وغيرها من الوسائل الإجرامية، التي لم تجد أوروبا في ضميرها حرجا من استخدامها؛ لأن الغاية تبرر الوسيلة، ولأن المصالح القومية مقدمة على كل اعتبار!
صحيح أنه كان هناك تكتل بين مجموعة من القوميات سمت نفسها "الحلفاء" لأنها -في لحظة من اللحظات- وجدت أن مصالحها القومية -رغم اختلافها فيما بينها وتنافسها- تقتضي التجمع لتحقيق هدف مشترك.. وكان الهدف في الحرب الأولى مزدوجا: القضاء على الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية -لأمر يراد1- والقضاء على القومية الألمانية التي تطالب بأن يكون لها مستعمرات كما لبقية القوميات مستعمرات ... !
وربما يظن الإنسان لأول وهلة أن أوروبا قد فطنت إلى حماقة التجمع القومي وما يؤدي إليه من فساد في الأرض وتقطيع للروابط الإنسانية فأنشأت تجمعا جديدا على أساس المبادئ لا على أساس القوميات.. أو هكذا قالوا هم في دعاياتهم! ولكن الحقيقة أن التجمع الجديد كان هو أيضا تجمع مصالح يتستر وراء المبادئ, ويريد لمجموعة من الشعوب، أو مجموعة من القوميات على الأصح، أن يكون لها السيطرة على العالم، وحدها من دون العالمين.. لأمر يراد!
وتم -على أي حال- لهذا التجمع ما أريد له من السيطرة في الأرض ما يقرب من عشرين عاما، حتى قامت الحرب العظمى الثانية، التي استمرت من عام 1939 إلى عام 1945م، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب، غير المدن التي دمرت، والمدنيين الذين قتلوا في الغارات الجوية، وغير قنبلتي هيروشيما ونجازاكي الذريتين، اللتين قضتا على الوجود الحي كله من نبات
__________
1 سيأتي بيان هذا الأمر في سياق الحديث.(1/573)
وحيوان وإنسان في مساحة واسعة من الأرض، وما تزال تولد أجنة مشوهة من أثر الإشعاع الذري السام الذي انتشر من القنبلتين في أماكن بعيدة عن مكان الانفجار، بعد ما يقرب من أربعين عاما من الحدث البربري الفظيع، الذي سمح به الضمير الأمريكي بلا تحرج ولا تأثم تأمينا "لمصالح" ذلك التجمع الشرير! وما كان التجمع الآخر الذي انهزم بأقل شرا ولا خبثا ولا انعدام إنسانية عن التجمع الذي انتصر! فلو أن هتلر سبق إلى استكمال القنبلة الذرية قبل أن يداهمه "الحلفاء" ويسرقوا "العلماء" الذين يعملون في صنعها، لكان قمينا أن يفعل بها مثل ما فعلوا أو أشد.
وبرز من الحرب الثانية "معسكران" مختلفان, هما المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي، يبدو في ظاهر الأمر أنهما تجمعان قائمان على "مبادئ" مختلفة.. خاصة وأن الشيوعية على الأقل تحمل مبادئ محددة, وتحمل دعوى عالمية لنشر هذه المبادئ في الأرض.
وقد مر بنا الرأي في هذا الاختلاف وهل هو في الجوهر الحقيقي أم في القشرة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ... ولكن هذا ليس معرض حديثنا هنا.. إنما نتكلم عن "المبادئ الإنسانية" التي تقوم عليها هذه التجمعات أو تزعم أنها تقوم عليها!
تعلن الشيوعية -دائما- أن الدين لا يجوز أن يكون أساسا للتجمع! إنما هو من الآثار البالية التي أحدثتها عصور الرق والإقطاع والرأسمالية.. وأن تصحيح الأوضاع الذي تحدثه الشيوعية يقضي على تلك الآثار البالية, ويقيم مجتمعا إنسانيا "حرا" لا تقوم فيه التفرقة على أساس الدين.. وطالما أبدت رأيها صريحا في استنكار رغبة المسلمين في شبه القارة الهندية في إنشاء دولة "إسلامية" وقالت إن هذه اتجاهات رجعية لا ينبغي تشجيعها.
ثم قامت الدولة اليهودية عام 1948م، على أساس الدين، فهي من منشئها، أو من منشأ الدعاية لها وطن "لليهود" ودولة "لليهود" وتجمع "لليهود".
وفي منتصف الليل، بتوقيت المنطقة التي أقيمت فيها الدولة اليهودية، أعلنت أمريكا اعترافها بالدولة، وبعد عشر دقائق اعترفت روسيا، روسيا القائمة على أساس "المبادئ" التي تنكر قيام أي تجمع على أساس الدين!(1/574)
ومنذ تلك اللحظة إلى هذا اللحظة، تجتمع أمريكا الرأسمالية الإمبريالية التوسعية الرجعية، وروسيا الشيوعية العقائدية التقدمية على الوقوف في صف إسرائيل وعدوانها المستمر الذي لم ينقطع. ضد العرب والمسلمين!
ثم تختصم روسيا وأمريكا في كل شيء عدا ذلك، ففي أي شيء تختصمان؟! على إقامة الحق والعدل في الأرض؟!
على تقرير حرية الشعوب في اختيار مصيرها؟!
كذلك تقول الدعاية المستمرة من الجانبين.. ولكن ما حقيقة الواقع؟
ما الذي يحدث حين تمس المصالح القومية لأمريكا أو لروسيا.. أو يقف حائل دون "التوسع" و"السيطرة" و"السلطان"؟!
إنهما تختصمان على توزيع "مناطق النفوذ" في العالم. أي: تختصمان على توزيع "المستضعفين في الأرض" هل يكونون في هذا المعسكر أم ذاك المعسكر. وكلتاهما لا تسمح لأحد من "الخاضعين لنفوذها" أن يتحرر ويقرر لنفسه مصيره.
كيف فعلت روسيا في المجر حين أرادت الأخيرة أن تختار مصيرها بنفسها وترجع عن الشيوعية عام 1956م؟ كيف هدمت الدبابات الروسية البيوت على أصحابها تأديبا لهم على تجرؤهم على هذا العمل الشنيع الذي ارتكبوه؟
وكيف فعلت حين أراد العمال في بولندا، الذين تزعم الشيوعية أنها قامت لتحريرهم ورد الحقوق المغتصبة إليهم.. كيف فعلت حين أراد هؤلاء العمال أن يعلنوا أن الشيوعية لم تحقق مطالبهم، ولم ترد إليهم إنسانيتهم الضائعة، وأنهم في ظلها مقهورون مظلومون مسحوقون، وأن لهم "مطالب" يريدون تحقيقها في مقدمتها ممارسة الحرية، والمشاركة في إدارة دفة الأمور؟!
أما أمريكا ودورها الاستعماري، ودور أجهزتها الخفية في نشر الفساد في الأرض عن طريق الانقلابات العسكرية، التي يختار أصحابها من غلاظ الأكباد قساة القلوب المرضى بجنون العظمة المتعطشين إلى السلطة لينفذوا لها مخططاتها في إذلال الشعوب وجرها إلى العبودية، فأمر غني عن البيان وإن كان الذي يغيب عن أذهان كثير من الناس مداراة كل من المعسكرين على عميل المعسكر الآخر ومده بالمساعدة حين يكون دوره هو تذبيح المسلمين والقضاء على حركات البعث الإسلامي!(1/575)
وتلك هي التجمعات التي قامت في العالم على أساس قومي.. وإن تسترت أحيانا وراء مختلف العناوين!
إلى هنا كنا نتحدث عن القوميات والوطنيات في أوروبا، كيف نشأت وكيف تطورت خلال التاريخ الحديث والمعاصر، وما كان من آثارها الشريرة في حياة العالم كله، حين صارت "المصالح القومية" هي الأصل المعترف به في حياة الناس، على حساب القيم والمبادئ وكل معنى من معاني "الإنسانية" عرفته البشرية في يوم من الأيام.
ولكن هناك جانبا من الموضوع ما زال في حاجة إلى بيان.. ذلك هو "تصدير" دعاوى القومية والوطنية إلى الشرق الإسلامي!
ولن نتحدث هنا عن "العدوى" التي جاءت إلى العالم الإسلامي من أوروبا حين ضعف المسلمون وتخلوا عن مقومات حياتهم الأصلية، وانبهروا بما عند الغرب، وتابعوه في انحرافاته ظنا منهم أن هذا هو الطريق الذي يخلصهم من ضعفهم وتخلفهم.. فذلك مبحث آخر نعالجه في غير هذا الكتاب1 ولكن نتحدث عن التصدير المتعمد لهذه التيارات من أوروبا إلى العالم الإسلامي.
حين وقع لويس التاسع في الأسر في الحروب الصليبية الأولى وسجن في سجن المنصورة أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب. جعل يتفكر في سجنه ويتدبر.. فلما فك أسره وعاد إلى قومه حدثهم بما هداه إليه فكره، فقال لهم: إن التغلب على المسلمين بالسلاح وحده أمر غير ممكن.. وإن على أوروبا إذا أرادت التغلب على المسلمين أن تحاربهم من داخل نفوسهم، وأن تقتلع العقيدة الإسلامية من قلوبهم.. فهذا هو الطريق!
ووعى الصليبيون المحدثون نصيحة الصليبي القديم حين بدءوا جولتهم الصليبية الثانية ضد العالم الإسلامي. فجاءوا -لا بالسلاح وحده كما جاءوا في المرة الأولى- ولكن بما هو أخطر منه كثيرا وأشد فاعلية، ذلك هو "الغزو الفكري" الذي يهدف إلى اقتلاع العقيدة من قلوب المسلمين، وتحويلهم عن صراط الله المستقيم إلى سبل الشيطان:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2.
__________
1 في النية إن شاء الله إلحاق هذا الكتاب بكتاب آخر عن حاضر العالم الإسلامي وأسباب انتشار المذاهب الهدامة فيه بعنوان "واقعنا المعاصر".
2 سورة الأنعام: 153.(1/576)
يقول شاتلييه في مقدمة كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" "تعريب محب الدين الخطيب":
"ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها ولا يتم ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوروبا، وتتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي، وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها".
وقد كانت دعاوى القومية والوطنية المصدرة عن عمد إلى العالم الإسلامي، من بين وسائل الغزو الفكري الذي استخدمه الصليبيون المحدثون في "غزو العالم الإسلامي" كما سمى "شاتلييه" كتابه السالف الذكر1.
والهدف من ذلك واضح ولا شك.. فطالما كان المسلمون "مسلمين" فسيصعب على الغزاة ابتلاعهم مهما كانوا عليه من الضعف والتخلف، ذلك أن العقيدة الإسلامية عقيدة جهاد، وقد ذاق الفرنسيون في الشمال الإفريقي وذاق الإنجليز في الهند وغيرها من أقطار إفريقيا وآسيا من عقيدة الجهاد هذه ما لا يزال عالقا بنفوسهم برغم كل الضعف والتخلف الذي كان عليه المسلمون. فاقتلاع هذه العقيدة واستبدال غيرها بها أمر ذو أهمية بالغة, سواء من وجهة النظر الصليبية أو من وجهة النظر الاستعمارية البحتة، فالمسلمون لا يقبلون الاستعمار ولا يرضخون له طالما كانوا "مسلمين" فإذا اجتمعت وجهة النظر الصليبية ووجهة النظر الاستعمارية تجاه الإسلام -كما هو واقع الأمر-كانت الرغبة في اقتلاع هذه العقيدة آكد، والعمل على استبدال غيرها بها أعنف وأشد.
وبالفعل بذرت بذور الوطنية أولا في العالم الإسلامي، ثم جاء دور القومية بعد ذلك "لظروف سنبينها بعد قليل" فحققت أكثر من هدف في وقت واحد..
كان الهدف الأول هو تحويل حركات الجهاد الإسلامي ضد الاستعمار الصليبي إلى حركات وطنية، كما فعل سعد زغلول في مصر وغيره من الزعماء "الوطنيين" على اتساع العالم الإسلامي، والحركة الوطنية تفترق عن حركة
__________
1 الكتاب في أصله الفرنسي يسمى "La Conquette de Monde Musulman" أي: غزو العالم الإسلامي، ولكن المعرب اختار له اسم "الغارة على العالم الإسلامي".(1/577)
الجهاد الإسلامي بادئ ذي بدء في أنها لا تنظر إلى "العدو" على أنه "صليبي مستعمر" ولكن على أنه "مستعمر" فقط.. وفرق واضح في درجة العداء وطريقة المجاهدة بين أن يكون العدو منظورا إليه على حقيقته، وبين أن يكون مغلفا برداء الاستعمار فحسب.
والهدف الثاني: هو تحويل حركات الجهاد الإسلامي على حركات "سياسية" عن طريق تحويلها إلى حركات وطنية ... فالعدو غير قادر على "التفاهم" مع الحركات الإسلامية؛ لأنه لا سبيل إلى التفاهم معها في الحقيقة إلا بإخراج ذلك العدو خارج البلاد. ومن ثم فلا سبيل إلى استعمال "السياسة" من جانب العدو. أما الحركات الوطنية فالتفاهم معها سهل وممكن! وعود من المستعمر بالجلاء. ويأتي الوقت الموعود فيتذرع المستعمر بشتى المعاذير لتأجيل جلائه، ويعطي وعودا جديدة يعتذر عنها بدورها إذا جاء دورها.. والساسة "الوطنيون" يغضبون -أو يتظاهرون بالغضب لإرضاء الجماهير- والجماهير تثور ثورة صاخبة -لكنها فارغة- سرعان ما تنطفئ بعد الاستماع إلى خطبة رنانة من الزعيم الوطني يعد فيها بأنه لن يفرط في شبر من الأرض، ولن يرضى بغير "الجلاء التام أو الموت الزؤام"! 1 وبين هذا وذاك تجري "مفاوضات" بين الساسة والاستعمار تنتهي إلى أشياء تافهة يلعب بها الساسة على عقول الجماهير فيوهمونها أنها "مكاسب وطنية" وقد تنتهي إلى غير شيء على الإطلاق، ومع ذلك يقول زعيم يعتبر من كبار الزعماء الوطنيين في العالم الإسلامي في العصر الحديث وهو سعد زغلول: "خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز" ويقول: "الإنجليز خصوم شرفاء معقولون"!! وهو شيء ما كان يمكن أن يحدث لو بقيت حركة الجهاد الإسلامية كما كانت في مبدئها، ولم تتحول إلى حركة وطنية على يد الزعيم الكبير!!
والهدف الثالث: هو تيسير عملية "التغريب" من خلال تحويل حركة الجهاد الإسلامي إلى حركة وطنية سياسية ... فحين تقوم حركة الجهاد على أساس إسلامي يكون الباب موصدا تماما بين المجاهدين وعدوهم، لا يأخذون شيئا من فكره ولا عقائده ولا عاداته ولا تقاليده ولا أنماط سلوكه. أما حين يتحول الجهاد إلى حركة وطنية سياسية فالحاجز أرق، يسمح بالأخذ.. ومعاذير الأخذ
__________
1 كانت تلك من هتافات الحركة الوطنية في مصر!(1/578)
كثيرة، فقد قال" أستاذ الجيل" لطفي السيد: إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر. وليس السبيل أن نحاربهم، بل السبيل أن نتعلم منهم، ثم نتفاهم معهم!! 1.
وأي شيء تعلم المصريون من الإنجليز؟ هل تعلموا منهم جلدهم على العمل وانضباطهم فيه؟ أم تعلموا منهم السكر والعربدة وفساد الأخلاق؟
إنما يتعلم الأولى "المجاهد" لأن المجاهد يعلم من عدوه فضائله إن كانت له فضائل، أما "السياسي" المتسيب فالرذائل أقرب إلى قلبه؛ لأنها سهلة لا تكلف جهدا ولا تحتاج إلى مجاهدة!
وعملية التغريب -أو الغزو الفكري- كانت أهم ما يحرص عليه الصليبي المستعمر.. فحين يفقد المسلم شخصيته الإسلامية فإنه يفقد في الحقيقة نقطة ارتكازه.. ومن ثم فإنه يتهاوى ويضيع.
حين يظل المسلم مسلما فإنه يمكن أن "يستعير" من العالم حوله ما يحس أنه في حاجة إليه، دون أن يفقد شخصيته، ودون أن يفقد استعلاءه الذي يستمده من الإيمان.
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2.
وذلك ما فعله المسلمون الأوائل حين بدءوا ينشئون حضارتهم، فقد كانوا في حاجة إلى أشياء لا سابقة لهم بها وهي عند عدوهم -البيزنطي أو الفارسي- فلم يجدوا في أنفسهم حرجا على الإطلاق أن يأخذوا ما يحتاجون إليه من هنا ومن هناك، ولكن في استعلاء المؤمن الواثق المطمئن. فأخذوا ما رأوا أنه نافع لهم، وأعرضوا عن كثير مما وجدوه عند أعدائهم؛ لأنهم نظروا إليه بعين المسلم فأنكروه، وهذا يفسر لنا لماذا أخذوا العلوم الإغريقية ولم يأخذوا الأساطير!
أما حين "يستغرب" المسلم فإنه يفقد -أول ما يفقد- إيمانه بأنه هو الأعلى بعقيدته الصحيحة ونظامه الرباني وأخلاقياته المتطهرة وقياسه كل شيء بالمقياس الرباني.. وينظر إلى عدوه نظرة الإكبار والإجلال. فينقل عنه كل شيء بلا تحرز، بل ينقل عنه ما يضر وما يفسد في حين يعجز عن نقل ما ينفع؛ لأنه
__________
1 لا يمكن لمسلم، فضلا عن مسلم مجاهد أن يقول عن عدو دينه أنه ولي أمره مهما تغلب الأخير عليه في معركة السلاح وقهره. أما الزعيم السياسي فما أيسر عليه أن يقول ذلك!
2 سورة آل عمران: 139.(1/579)
"واهن" بعد فقدانه الإيمان، والواهن لا يقدر على بذل الجهد الذي يحتاج إليه تعلم النافع من الأمور1.
لذلك لم يتعلم "المستغربون" من الغربيين قط قدرتهم الفائقة على "التنظيم" ولا جلدهم الشديد على "العمل" ولا التزامهم الشديد "بالانضباط" في كل شيء. إنما تعلموا اللهو والعبث والمجون والرطانة بلغة الأعاجم. وتعلموا -أسوأ من ذلك كله- التباهي بالانسلاخ من الدين والعرض والأخلاق الدينية المتطهرة من الرجس.
وكان ذلك هو التنفيذ الدقيق لوصية الصليبي القديم للصليبيين المحدثين.
أما القومية العربية فقد كان لها دور أخبث وأشد.
لقد كنا حتى اللحظة نتكلم عن الصليبي المستعمر ...
ولكن دخل معه -على نفس خطه- عدو آخر، هو اليهودي المستعمر، لغرض آخر خاص به، ولكنه يلتقي معه في النهاية في بغض الإسلام، والرغبة في القضاء على الكيان الإسلامي.
في عام 1897م عقد هرتزل -أبو الصهيونية كما يسمونه- مؤتمره الشهير في مدينة "بال" بسويسرا، ذلك المؤتمر الذي قرر فيه زعماء اليهود ضرورة إنشاء الدولة اليهودية خلال خمسين عاما في فلسطين.
وذهب هرتزل إلى السلطان المسلم عبد الحميد يعرض عليه كل المغريات التي يطمع فيها حاكم أرضي، ذهب يعرض عليه إنعاش الاقتصاد العثماني وكان متدهورا بسبب ما تنفقه الدولة لإخماد المناوشات المستمرة التي يقوم بها الأعداء لإحراج الدولة العثمانية أو "الرجل المريض" كما أطلقوا عليها في أواخر أيامها، ويعرض عليه قروضا طويلة الأجل ويعرض عليه التوسط لدى روسيا وبريطانيا بالكف عن إثارة الأقليات، فقد كانت روسيا تتعهد بإثارة الأقليات الأرثوذكسية وخاصة الأرمن وكانت بريطانيا تتكفل بإثارة بقية الأقليات! وكان ذلك من أشد ما يزعج الدولة ويعرض ميزانيتها للخراب.. وفي
__________
1 يقول القسيس المبشر "زويمر" الذي كان له نشاط تبشيري ضخم في العالم العربي فيما ينقل عنه كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" في خطاب المبشرين: "إنكم أعددتم نشئا "في بلاد المسلمين" لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء".(1/580)
مقابل هذا العرض السخي كله طلب هرتزل منح اليهود وطنا قوميا لهم في فلسطين.
وكان من المتوقع من أي رجل يحرص على الدنيا، ويحرص على السلطان المستبد1 أن يتقبل العرض ويستجيب للمغريات. ولكن السلطان المسلم رفض ذلك كله، وقال لهرتزل قولته الشهيرة "إن هذه ليست أرضي ولكنها أرض المسلمين، وقد رووها بدمائهم ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها"2.
عندئذ وقعت الواقعة، ودبر اليهود لخلع السلطان عبد الحميد. ثم لإزالة الخلافة كلها على يد اليهودي المتمسلم كمال أتاتورك.
وكانت الوسيلة لكل ذلك هي "القومية".
فاليهود المتمسلمون، المعروفون بيهود الدونما، الذين هاجروا من المغرب واستوطنوا البلقان، كانوا هم المنظمين الحقيقيين لحزب الاتحاد والترقي، الذي نادى بالقومية الطورانية "وهي قومية الأتراك في جاهليتهم قبل دخولهم في الإسلام" ورفع شعار الذئب الأغبر "وهو معبود الأتراك في جاهليتهم" كما نادى بضرورة "تتريك" الدولة، أي: جعل المناصب فيها وقفا على الأتراك وحدهم، ومعنى ذلك -كما حدث بالفعل- أن يحس "العرب" أنهم مظلومون في ظل الحكم التركي وأنهم مهضومو الحقوق.. عندئذ تلقفتهم الصليبية -حليفة اليهودية في الحرب ضد الإسلام- فأرسلت إليهم "لورنس" ليؤجج فيهم روح "القومية العربية" ردا على القومية الطورانية.. ويؤلف "الثورة العربية الكبرى" ضد دولة الخلافة!
وببساطة تم الأمر.. في غفلة من "المسلمين"!
يقول التاريخ إن أول من نادى بالقومية العربية هم نصارى لبنان وسوريا وانضم إليهم "المسلمون" الذين تربوا في مدارس التبشير.. ثم انضم إليهم المستغفلون من المسلمين الذي لم يجدوا تعارضا بين الإسلام والعروبة على أساس أن العروبة هي عصب الإسلام وأن العرب هم الذين حملوا الإسلام إلى كل البشرية!
والنصارى في لبنان وسوريا كانوا جزءا من أدوات أوروبا لإزعاج "الرجل المريض" وإرباكه، بغية تسهيل القضاء عليه وتوزيع تركته بين المتربصين
__________
1 هكذا تصف الدعاية المغرضة السلطان المسلم.
2 وذلك هو سر كراهية اليهود له وتشنيعهم به ونشر الدعايات المغرضة ضده.(1/581)
الذين ينتظرون الساعة "العظمى" التي يقضون فيها على بقايا الإسلام.
وما كان نصارى لبنان وسوريا في تلك الفترة يجرءون أن يخرجوا على الحكم الإسلامي علانية وبالاسم الصريح للخروج، فقد كانوا أقلية محوطة بأكثرية مسلمة، تدين بالولاء القلبي والسياسي لدولة الخلافة. ولا تتصور لنفسها حكومة غير الحكومة الإسلامية، لذلك فلم يكن في وسع أولئك النصارى أن يقولوا: لا نريد حكم الإسلام علينا ولا نريد حكم الخلافة الإسلامية! ولذلك كان نشاطهم سريا من جهة، وباسم غير اسم الخروج على الحكم الإسلامي من جهة أخرى..كان نشاطهم يقوم باسم العروبة والقومية العربية، وهو شعار يمكن أن يلتبس فيه الأمر على المسلمين العرب، ولا يروا -لغفلتهم- أنه موجه ضد الإسلام.. وضدهم هم!
كانت دعوى القومية الطورانية تحز في نفوس العرب المسلمين فينفخ الشياطين في الحزازة لتشتعل، وكان يقال لأولئك العرب المسلمين أنتم أولى بالخلافة من أولئك الطورانيين! فلماذا تسكتون على الظلم؟ لماذا لا تثورون وتستقلوا عن الأتراك؟
وكان عبد الحميد يقظا للعبة كلها1 ولكن أحوال دولة الخلافة يومئذ وأحوال المسلمين جميعا في العالم الإسلامي، كانت أضعف من أن تصمد للكيد. فمضى الكيد في سبيله حتى بلغ غايته.
ولسنا هنا نؤرخ لتلك الفترة2 إنما نحن نتحدث عن القوميات والوطنيات، ودورها في اللعبة التي أريد بها القضاء على الإسلام، وإنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين.
كان عبد الحميد يطارد تلك الجماعات السرية التي تنادي بالعروبة والقومية العربية كما يضيق على النشاط السري لحزب الاتحاد والترقي، لإدراكه المقصود من ورائهما، وفيتخذ ذلك ذريعة لمزيد من الكيد ضده ويتهم بالدكتاتورية والطغيان في داخل تركيا، وباضطهاد الأقليات خارجها! وتصنع من هذه وتلك مادة للدعاية ضده ونشر البغض والكراهية له، تمهيدا لما يخطط من عزله، عقابا له على عدم موافقته على إنشاء الدولة اليهودية!
وجرت الأمور في مجراها المقدر في علم الله، ولكن بسبب من غفلة المسلمين
__________
1 كما تدل على ذلك مذكراته.
1 راجع إن شئت مذكرات السلطان عبد الحميد.(1/582)
التي مكنت الأعداء من تنفيذ مخططاتهم، والله يحذرهم من كتابه المنزل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2.
ومع ذلك التحذير فقد كان مسلمون يتولون اليهود في حزب الاتحاد والترقي، ومسلمون آخرون يتولون النصارى في الجمعيات السرية القائمة باسم العروبة والقومية العربية، ومسلمون آخرون يتولون "لورنس العرب! " ويتبعونه وهو يدعوهم إلى قتال دولة الخلافة التي ظلت تحميهم من الغزو الصليبي قرابة أربعة قرون!
يقول لورد أللنبي، قائد الجيش "العربي" الذي حارب الخلافة! لولا مساعدة الجيش العربي والعمال العرب ما استطعنا أن نتغلب على تركيا!!
ولقد كان الحرب العظمى الأولى تدبيرا يهوديا نصرانيا للقضاء على دولة الخلافة، وتقسيم تركة "الرجل المريض" والتمهيد لإنشاء الدولة اليهودية في الأمد الذي حدده مؤتمر هرتزل سنة 1897م.. في غفلة من "المسلمين" إلى جانب الهدف الآخر الذي تحقق كذلك من تلك الحرب، وهو القضاء على القومية الألمانية لحساب القومية البريطانية والقومية الفرنسية.. ولكن الهدف الأعظم من هذه الحرب كان ولا شك تدمير الخلافة الإسلامية لحساب اليهود والنصارى مجتمعين، وحساب اليهود بصفة خاصة!
ووزعت الأسلاب بين بريطانيا وفرنسا، صديقتي اليهود يومئذ، ووضعت فلسطين بصفة خاصة تحت الانتداب البريطاني، والانتداب درجة أسوأ من الحماية، والحماية درجة أسوأ من مجرد الاستعمار. وكان ذلك بعد وعد بلفور الشهير، الذي صدر عن وزير خارجية بريطانيا اليهودي "اللورد بلفور" سنة 1917 في أثناء الحرب، وبدأت دولة الانتداب في تنفيذه عقب الحرب مباشرة تحت إشراف المندوب السامي البريطاني اليهودي السير صمويل هور!
__________
1 سورة آل عمران: 118.
2 سورة المائدة: 51.(1/583)
وخلال خمسين عاما من مؤتمر هرتزل قامت الدولة اليهودية سنة 1947م1 ولكن الأمر كان محتاجا إلى حرب "عظمى" ثانية!
وسواء كانت الحرب الثانية "طبيعية" نتيجة القهر العنيف الذي وقع على القومية الألمانية من القومية البريطانية والقومية الفرنسية، ونزوع القومية الأولى للانتقام لنفسها من القوميتين الأخريين -كما نعتقد نحن- أو كانت تدبيرا خالصا لليهود- كما يعتقد "وليم كار" في كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"2 فقد استغلها اليهود استغلالا واسعا لصالحهم، لاستدرار عطف العالم كله عليهم -بوصفهم من ضحايا النازية- ليوافق عن طيب خاطر على سلب العرب جزءا من وطنهم لإقامة الدولة اليهودية فيه. وقد سبقت الإشارة إلى الكاتبة الألمانية التي تقول في كتابها إن اليهود هم الذين دبروا عملية تعذيب النازي لهم ليتخذوها مادة دعاية لهم على أنهم المظلمون المضطهدون المشردون في الأرض، الذين يبحثون عن مأوى يقيهم من التشريد والظلم والطغيان، وأن حجم التعذيب -الذي دبروا له تدبيرا- كان أضأل بكثير مما قيل في الدعاية اليهودية العالمية التي ظلت طيلة سنوات الحرب تجلجل في كل أرجاء الأرض لتصل إلى الهدف المطلوب.
وأيا كان الأمر فقد تم لليهود ما أرادوا بمناصرة الصليبية العالمية لهم، وبغفلة المسلمين.
وقد كان التدبير اليهودي الصليبي ما بين الحربين الأولى والثانية محكما في الحقيقة.
فقد قسم العالم العربي إلى دويلات ضعيفة مسلوبة القوة لا حول لها ولا طول. فالقوة السياسية والعسكرية ذهبت بذهاب دولة الخلافة وصار حكام تلك الدويلات يعتمدون اعتمادا كاملا على بريطانيا وفرنسا -صديقتي اليهود- وصارت جيوشها جيوش استعراض وزينة لا جيوش قتال حقيقي، تعتمد في سلاحها وذخيرتها اعتمادا كليا على بريطانيا وفرنسا، واقتصادياتها غاية في التخلف، أما شباب تلك الشعوب -وهو قوة خطرة إذا وجد التوجيه
__________
1 قامت الدولة واقعيا سنة 1947 ولكنها لم تعلن رسميا إلا عام 1948 بعد مسرحيات الحرب التي مثلتها الجيوش العربية حسب مخطط متفق عليه.
2 يبالغ وليم كار في نسبة كل أحداث العالم الكبرى إلى اليهود، ولانوافقه في ذلك رغم إخلاصه في كتابته.. راجع فصل "دور اليهود في إفساد أوروبا".(1/584)
الجاد- فقط سلط عليه "التغريب" يقتلعه من إسلامه ومن روح الجهاد الإسلامية، وسلطت عليه السينما والإذاعة والمسرح والقصة والصحيفة والشواطئ العارية، كلها تصب الميوعة في نفسه وتصرفه عن الاهتمامات الجادة، وتفسد أخلاقه وتشغله بفتنة الجنس. وفوق انشغال كل بلد بقضاياه ومشاكله الخاصة، وفوق بذر بذور البغضاء بين كل بلد والآخر حتى لا تجتمع كلها على قضية واحدة ولا أمر واحد مشترك.
وفي ظل ذلك قامت الدولة اليهودية بعد مسرحية "الحرب" ثم الهدنة.. ثم الحرب ثم الهدنة الثانية بعد وقوف الجيوش "المتحاربة" عند خط التقسيم المتفق عليه! ولكن أمرا حدث لم يكن على خاطر الصليبيين واليهود.. فوجئوا به جميعا مفاجأة لم تكن في الحسبان. فقد اشترك في القتال فدائيون مسلمون، يحرصون على الموت حرص أعدائهم على الحياة. وحين عركهم اليهود وعرفوا حقيقتهم، كانوا إذا جابهوهم يفرون من مستعمراتهم تاركين أسلحتهم وذخيرتهم ومئونتهم لينجوا بجلودهم!
كانت المفاجأة من جهتين:
فقد كان الصليبيون واليهود يظنون أن الإسلام كله قد شاخ ولم يعد بوسعه أن يخرج مثل هذه العينات من البشر، وكانت المفاجأة الثانية أنهم ظنوا أن مصر بالذات التي عمل الصليبيون على دك معاقلها الإسلامية منذ وقت مبكر, منذ الحملة الصليبية الفرنسية بقيادة نابليون، لا يمكن أن تخرج هذه العينات الصلبة المستميتة في القتال بروح جهاد إسلامية خالصة لا يريدون بذلك جزاء ولا شكورا.
عندئذ تقرر أمران في وقت واحد:
الأمر الأول ضرورة القضاء على حركة البعث الإسلامي التي أخرجت مثل هؤلاء المجاهدين. والأمر الثاني ضرورة إيجاد بديل من الراية الإسلامية التي أخرجت أولئك المقاتلين وتوشك أن تمتد ظلالها من مصر إلى البلاد العربية الأخرى ...
وكان البديل هو "القومية العربية".
يقول جورج كريك "George Kirk" مؤلف كتاب موجز تاريخ الشرق الأوسط "A Short History of the Middle East": إن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني!!(1/585)
ولقد كانت بريطانيا قد فكرت من قبل في إيجاد "الجامعة العربية" على مستوى الحكومات, فطار "أنتوني إيدن" وزير الخارجية البريطاني إلى القاهرة عام 1946م ودعا الملوك والرؤساء العرب إلى الاجتماع به هناك، وعرض عليهم في الاجتماع فكرة إنشاء الجامعة العربية في القاهرة لتتبنى قضايا العرب وتدافع عن مصالحهم!! ولكن ذلك لم يكن كافيا، فقد كان لا بد من رفع راية "القومية العربية" على مستوى الجماهير!
فلما ورثت أمريكا بريطانيا وفرنسا بعد الحرب وبسطت نفوذها على "الشرق الأوسط"1 أقامت -عن طريق الانقلابات العسكرية- زعامات كاملة تدافع عن "القومية العربية" في الوقت الذي تحارب فيه الإسلام والمسلمين! وقالت الدعاية -التي أقامتها أمريكا وإسرائيل- إن أمريكا وإسرائيل لا تخشيان شيئا خشيتهما للقومية العربية. ولا تخشيان أحدا خشيتهما لزعيم القومية العربية!
وفي ظل القومية العربية التي أقامتها الصليبية العالمية، توسعت إسرائيل وتوسعت حتى توشك أن تبتلع فلسطين كلها.. وتتطلع إلى المزيد!
لقد كانت "القومية" التي صدرت إلى العالم الإسلامي هي القومية المأكولة لا القومية الآكلة التي قامت في أصلها هناك!
ليس هنا مجال التفصيل للظروف التي أحاطت "بالمسلمين" وأدت بهم إلى هذا الضياع كله وهذا الهوان.. إنما نقول في ختام هذا الفصل إن الإسلام لا يعرف تلك الدعاوى الزائفة التي روجها أعداء الإسلام بغية القضاء عليه، وتشربها "المسلمون" في غفلتهم، غافلين عما فيها من السموم.
إن الإسلام لا يغير انتماء الناس إلى أرضهم ولا شعوبهم ولا قبائلهم؛ لأن هذا أمر مادي حسي واقع لا سبيل إلا تغييره، فالذي يولد في الأرض المصرية مصري بحكم مولده والذي يولد في الأرض العراقية عراقي بحكم مولده، والذي يولد في الأرض الباكستانية باكستاني بحكم مولده.. وهكذا.
ولكن الإسلام ينكر أن تكون صلة التجمع شيئا غير الإسلام! غير العقيدة
__________
1 كلمة "الشرق الأوسط" ذاتها كلمة دخيلة من تخطيط الأعداء من أجل تسويغ إقامة الدولة اليهودية في المنطقة. فإنها لو بقيت في التسمية منطقة إسلامية أو حتى عربية فيكف تقوم فيها دولة لليهود؟ أما حين تصبح منطقة جغرافية لا انتماء لها فكل شيء ممكن!(1/586)
الصحيحة في الله! لا الدم ولا الأرض ولا اللغة ولا "المصالح" الأرضية.
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1.
وانظر إلى قصة نوح مع ابنه:
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا2 لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3.
لقد وعد الله نوحا أن ينجو أهله معه، إلا من سبق عليه القول:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 4.
فلما رأى ابنه في معزل ناداه ليركب معه سفينة النجاة.. ولكنه عصى وقال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.. وكانت عاقبته أن غرق مع المهلكين.
ولما قضي الأمر ونجا من نجا وهلك من هلك راح نوح -في مرارة الفقد التي تشوب فرحة النجاة- يناجي ربه، ويسأل عن تفسير ما حدث: لقد وعده الله بنجاة أهله، وابنه من أهله، ومع ذلك كان من الهالكين!
وكان الرد الرباني: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
__________
1 سورة التوبة: 24.
2 بعدا أي: هلاكا من بعد أي: هلك كما جاء في قوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [سورة هود: 95] .
3 سورة هود: 42-47.
4 سورة هود: 40.(1/587)
ذلك أن الآصرة الحقيقية التي تجعله من أهلك ليست هي رابطة الدم التي تجمع بينه وبينك، إنما هي رابطة العقيدة، وقد رفض الابن أن يكون على العقيدة الصحيحة فانفصم ما بينه وبين أبيه من رباط؛ لأنه "عمل غير صالح"!
ذلك هو ميزان الإسلام.
وقد مرت بنا الآية التي تجعل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال والتجارة والأرض وهي مقومات القومية كلها في كفة، وفي الكفة الأخرى حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله، والمفاصلة الكاملة بين هذه وتلك.
وليس معنى ذلك أن الإسلام يحرم كل تلك الروابط!
كلا! إنما يجيزها كلها حين تقع تحت رابطة العقيدة وداخلها:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1.
أي: حين يكونون كلهم مؤمنين.
أما حين تكون تلك الروابط حاجزا يحجز بين المؤمن والمؤمن بسبب رباط الدم أو اللغة أو الأرض أو المصالح، فهذه التي قال فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" 2.
فكيف إذا كانت تلك القومية تقول لك في صراحة إن المشرك الذي يشاركك في قوميتك أقرب إليك من المسلم الذي ينتمي إلى قومية أخرى!
هذه..ما ميزانها في كتاب الله؟!
__________
1 سورة الأنفال: 75.
2 رواه البخاري.(1/588)
الإنسانية:
الإنسانية -أو العالمية كما يدعونها أحيانا- دعوى براقة، تظهر بين الحين والحين، ثم تختفي لتعود من جديد، يا أخي! كن إنساني النزعة، وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء.. دع الدين جانبا فهو أمر شخصي، علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب، لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين.. فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين البشر.. بين الأخوة في الإنسانية، تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو لون أو وطن أو دين!
دعوى براقة كما ترى.. يخيل إليك حين تستمع إليها أنها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التي تفرق بين البشر على الأرض، تدعوك لترفرف في عالم النور.. تدعوك لتكون كبير القلب.. واسع الأفق، كريم المشاعر، تنظر بعين إنسانية، وتفكر بفكر عالمي، وتعطي من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء، بدافع الحب الإنساني الكبير!
أي رفعة، وأي سمو، وأي نبل، وأي عظمة في القلب والفكر والشعور!
ولكن مهلا! انتظر حتى يخفت الرنين الذي تحدثه الكلمات والعبارات، وفتش عن الحقيقة بعيدا عن العواطف والانفعالات، وانظر أين تجد هذه الشعارات مطبقة في واقع الأرض؟! هل لها رصيد حقيقي من الواقع أم إنها شعارات زائفة ترفع لأمر يراد؟!
ثم انظر إلى تلك العبارة الماسونية "اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك"!
ألا ترى شبها بين هذه الدعوة وتلك؟ أما ترى أنهما قريبتان؟ بل شقيقتان؟!
"اخلع عقيدتك على الباب "أي: عند دخولك الماسونية" كما تخلع نعليك.." وادخل بلا عقيدة.. فهكذا يريدك الشياطين ليستعبدوك.. ليسخروك لمصالحهم!
"الأمميون هم الحمير الذي خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار"..(1/589)
والحمار الآدمي هو ذلك الذي خلع عقيدته على الباب كما يخلع نعليه.. ودخل، حيث أريد له أن يدخل.. بلا دين ومن ثم بلا أخلاق!
وفي القديم، حين كان الدين قويا لا يقوون على مواجهته، لم يكونوا يجرءون على التلفظ بمثل هذه العبارة، بل كانوا ينافقون ليصلوا إلى أغراضهم من "إغواء" الآخرين.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 1.
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2.
ولكنهم اليوم آمنون، فلا حاجة بهم إلى التظاهر بالإيمان بما أنزل على المؤمنين، بل إنهم لينشرون الإلحاد اليوم بجسارة في كل الأرض، ولكنه بضاعة للتصدير فقط! يصدرونها للأمميين لإغوائهم عن الدين، ولكن لا يستخدمونها بين أنفسهم، فالهدف الأخير من التخطيط كله هو محو كل دين لدى الأمميين، لكي يبقى اليهود وحدهم في الأرض أصحاب الدين! وهم على جبلتهم لا يغيرونها.. يتظاهرون أمام الناس بشيء، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون!
وهزأة اليوم هي هذه الدعوة: "اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك! " فإذا صدقها الأمميون وخلعوا عقيدتهم كما يخلعون نعالهم، فرك الشياطين أيديهم سرورا حين يخلو بعضهم إلى بعض، وقال بعضهم لبعض: إنا معكم، ما نزال على دين الشياطين.. إنما نحن نهزأ بالأمميين!
والفارق بين دعوى الإنسانية ودعوى الماسونية ضئيل..
الفارق أنه في تعبير الماسونية الخشن المتوقح يوضع الدين جنبا إلى جنب مع النعال؛ لأن المقبل على الماسونية لا يبقل عليها إلا وقد خلع دينه بالفعل أو أوشك على خلعه، فالكلمة الخشنة لا تؤذيه، بل قد تكون منه موضع ترحيب! فهي كلمة للتوكيد.. وقد تكون للتهديد! تهديد من بقيت في قلبه بقية خفية من بقايا الدين.. فليتنبه وليخلعها قبل الدخول!
__________
1 سورة البقرة: 14.
2 سورة آل عمران: 72.(1/590)
أما في دعوى الإنسانية فالتعبير للترغيب والتحبيب، ومن ثم فهو مهذب لطيف يبتلعه من يبتلعه وهو مسرور. أو قل إنه يبتلعه وهو أشبه بالمخدور.
ولكن هذا وذاك يدعوك في النهاية أن تترك دينك وتواجه الحياة بلا دين. فإذا فعلت ذلك اجتالتك الشياطين!
ولكن إناسا قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق، فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عن الحقيقة التي تنطوي عليها. وقد لا يصدقون أصلا أنها دعوة إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين في الأرض لأمر يراد.
فلنصدق -مؤقتا- أنها دعوى مخلصة للارتفاع بالإنسان عن كل عصبية تلون فكره أو سلوكه أو مشاعره، ليلتقي بالإنسانية كلها لقاء الصديق المخلص الذي يحب الخير للجميع ...
فلنصدق ذلك في عالم المثل.. في عالم الأحلام.. فما رصيد هذه الدعوى في عالم الواقع؟!
ما رصيدها في العالم الذي تجتاحه القوميات من جانب.. والعصبيات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية من كل جانب؟
فلنأخذ مثالا واحدا من العالم المعاصر.. من المعاملة التي يلقاها المسلمون في كل مكان في الأرض يقعون فيه في حوزة غير المسلمين، أو في دائرة نفوذهم من قريب أو من بعيد ...
فلننظر إلى "الإنسانية" التي يعاملون بها "والحماسة" التي يقابلون بها، "وسعة الصدر" و"حب الخير" الذي ينهال عليهم من كل مكان!
خذ مثال الحبشة..
يبلغ المسلمون فيها 55% على الأقل من مجموع السكان وذلك قبل ضم أريتريا -عنوة- إليها، وأريتريا كلها مسلمون، فكيف تعاملهم الدولة المسيحية المتسلطة عليهم؟
لا يوجد في الدولة وزير مسلم واحد يمثل أغلبية السكان! ولا موظف واحد من كبار الموظفين! ومدارس الدولة لا تعلم القرآن لأبناء المسلمين ولا تلقنهم مبادئ دينهم1، وحين يفتح المسلمون "كتاتيب" لتعليم القرآن لأبنائهم
__________
1 في مصر يدرس للتلاميذ الأقباط مبادئ دينهم على يد مدرسين مسيحيين، وتوضع دورسهم في الجدول الرسمي للدراسة وتعطى لهم الحرية الكاملة يقولون في دروسهم كل ما يريدون بلا رقيب عليهم.(1/591)
على نفقتهم الخاصة، تظل الدولة تفرض عليها من الضرائب ما يثقل كاهلهم حتى يغلقوها1 ويحرم عليهم أن يتلقوا أي معونات من المسلمين من الخارج2 وإلى عهد غير بعيد كان المسلم الذي يستدين من مسيحي حبشي ويعجز عن وفاء دينه يسترق لدائنه! ووقف هيلاسلاسي عام 1962 في هيئة الأمم فالقى خطابا "ضافيا" أعلن فيه أنه في خلال اثني عشر عاما لن يكون في الحبشة إلا دين واحد! ولم يرتفع صوت واحد في تلك "المؤسسة الإنسانية" يستنكر ذلك التصريح!
والفلبين كانت ذات يوم أرضا إسلامية فغزاها الصليبيون3 وحكموها قهرا عن أصحابها، فيكف عاملوا المسلمين فيها؟
لقد ظلوا يطاردونهم ويخرجونهم من أرضهم وديارهم وأموالهم حتى حصروهم في قطاع من أصل أرضهم, ثم سموهم "متمردين" فاستباحوا لأنفسهم قتلهم، وقتالهم وتحريق مزارعهم، بل تحريقهم هم أنفسهم شفاء للحقد الصليبي المتأصل في نفوسهم، ولا يتحرك واحد في الأرض كلها ليرد البلاء عن المسلمين، ويكف عدوان المعتدين.
والهند حكمها المسلمون ثمانية قرون فلم يكرهوا أهلها على الإسلام، ولم يضطهدوهم وهم يعبدون البقر ويعبدون الأوثان، فلما حكمها الهنود فانظر كيف يعاملون المسلمين:
لا تنقطع أخبار "الشغب" كما تسميه الدولة والصحافة ... وخلاصتها أن يهجم الهندوس على القرى الإسلامية فيحروقها على أصحابها ويقتلوا منها من تطوله أيديهم.. فيحتج المسلمون، ويخرجون لرد العدوان فتعتقلهم الشرطة بتهمة إثارة الشغب وتودعهم في السجون! هذا وحكومة الهند حكومة "علمانية" أي: إنها لا تقيم حكمها على الدين، ولا تتعرض لأصحاب الدين! ومن سنوات غير بعيدة صرح نهرو تصريحا عجبا قال فيه إن تقرير المصير حق لكل الناس. إلا في كشمير!! ولم يستنكر ذلك أحد في العالمين!
__________
1 وفي مصر يفتح الأقباط -بجانب الدروس الدينية الرسمية التي يتلقونها في مدارس الدولة- مدارس دينية خاصة تسمى "مدارس الأحد" لا تتعرض لها الدولة أي نوع من التعرض.
2 وفي مصر يتلقى الأقباط المعونات من الدول المسيحية والهيئات والأفراد فلا تسألهم الدولة من أين يأخذون ولا فيم ينفقون.
3 كان "ماجلان" الذي يطلق عليه لقب "الرحالة العظيم" ممن قاموا بغزوة صليبية على الفلبين بعد إلحاح شديد على "البابا" أن يأذن له في فتح تلك البلاد وضمها إلى المسيحية، وقد قتله الأهالي في المعركة التي جرت على أثر تجرؤه على رفع الصليب على أرض بلادهم الإسلامية فسموا "المتبربرين".(1/592)
وفلسطين ظلت أربعة عشر قرنا من الزمان أرضا إسلامية ... ثم جاء اليهود ليقيموا عليها دولة يهودية.. ولم يستنكر أحد من "الإنسانيين" طرد السكان الأصليين وإجلاءهم عن أرضهم بالقنابل والمدافع. بل بشق بطون الحوامل والتلهي بالتراهن على نوع الجنين كما فعلت العصابات اليهودية التي كان يرأس إحداها مناحم بيجن ... وإنما استنكرت من المسلمين أن يطالبوا بأرضهم، وألا يخلوها عن طيب خاطر للغاصبين!
ويطول الأمر بنا لو رحنا نستعرض أحوال المسلمين الواقعين في قبضة غير المسلمين، أو الذين يتعرضون لعدوان غير المسلمين في كل مكان في الأرض ... في روسيا الشيوعية التي قتلت ما يقرب من أربعة ملايين من المسلمين، وفي يوغسلافيا التي قتلت ثلاثة أرباع مليون منهم، وفي أفغانستان التي تستخدم فيها الأسلحة المحرمة "دوليا" و"قانونيا" و"إنسانيا! " وفي أوغندا، وفي تنزانيا، وفي.. وفي.. وفي.. وفي.
فمال بال "الإنسانيين"؟ ما بالهم لا يتحركون؟! ما بالهم لا يصرخون في وجه الظلم الكافر الذي لا قلب له ولا ضمير؟!
إنما توجه دعوى "الإنسانية" فقط ضد أصحاب الدين!
فمن كان متمسكا بدينه فهو "المتعصب" "ضيق الأفق" الذي يفرق بين البشر على أساس الدين، ولا يتسع قلبه "للإنسانية" فيتعامل معها بلا حواجز في القلب أو في الفكر أو في السلوك!
أو قل على وجه التحديد إن الذين يحاربون اليوم بدعوى "الإنسانية" هم المسلمون!
يحاربون بها من طريقين، أو من أجل هدفين: الهدف الأول هو إزالة استعلاء المسلم الحق بإيمانه الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به في كل الأرض. لكي تَنْبَهِم شخصيته وتتميع؛ والهدف الثاني هو إزالة روح الجهاد من قلبه.. ليطمئن الأعداء ويستريحوا!!
في الهدف الأول يقول المستشرق النمساوي المعاصر "فون جرونيباوم Von Grunebaum" في كتاب له يسمى "الإسلام الحديث1 Modern Islam" إن
__________
1 لا يتسع المجال هنا للتعليق على عنوان الكتاب الذي يقصد به أن الإسلام ليس شيئا ثابتا محدد المعالم، وإنما هو شيء دائم التغير! فالإسلام الأول شيء، وإسلام القرون الوسطى "وهذا عنوان لكتاب آخر لنفس المؤلف" شيء آخر، والإسلام الحديث شيء ثالث! وهذه القضية ذاتها من وسائل الحرب التي يستخدمها المستشرقون ضد الإسلام!(1/593)
الحاجز الذي يحجز المسلم عن "التغريب Westenization" هو استعلاؤه بإيمانه، وإنه لا بد من تحطيم ذلك الحاجز لكي تتم عملية التغريب!
أرأيت! إنه هدف مقصود لذاته ... ألا يشعر المسلم بالاستعلاء بالإيمان! يراد له أن تذوب شخصيته وتتميع، ولا تكون لها تلك السمة المميزة التي أرادها الله.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1.
إن أعداء الإسلام لن يستريحوا حتى يزيلوا ذلك التميز الذي يحسه المؤمن:
{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} 2.
وتلك قضية قديمة عمرها الآن أكثر من أربعة عشر قرنا.. أي: منذ وجد المجتمع الإسلامي في المدينة.. ولكن وسائل القتال تتغير, ومن بينها اليوم ما نسميه "الغزو الفكري" ومن بين الغزو الفكري هذه الدعوى ... دعوى الإنسانية!
فباسم الإنسانية يقال للمسلم الحق: يا أخي لا تعتزل الناس! إن الإنسانية كلها أسرة واحدة، فتعامل مع الأسرة كفرد منها، ولا تميز نفسك عنها! وشارك في النشاط "الإنساني" ومظاهر الحضارة "الإنسانية"!
ولا نقول لهؤلاء: هل تعاملون أنتم المسلمين كأفراد من أسرتكم "الإنسانية" "العالمية" فتعطونهم حقهم بوصفهم أفرادا في تلك الأسرة فلا تطاردونهم، ولا تنبذونهم، ولا تتعصبون ضدهم، ولا تتجمعون على أذاهم؟!
لا نقول لهم ذلك؛ لأنه لا فائدة من جدالهم، ولكن نقول "شهد شاهد من أهلها" فهو غير متهم فيما يشهد به! ذلك هو "توينبي" المؤرخ المعاصر المشهور، وتعصبه ضد الإسلام والمسلمين أمر كذلك مشهور!
يقول في محاضرة له باسم الإسلام والغرب والمستقبل بعد أن قسم العالم تجاه عملية "التغريب" إلى متحمسين بغير عقل3، ومقلدين بلا تحفظ، وبعد أن امتدح حركة كمال أتاتورك المقلدة للغرب:
__________
1 سورة البقرة: 143.
2 سورة البقرة: 217.
3 يقصد بهم -بصفة خاصة- المسلمين المحافظين على إسلامهم!(1/594)
"ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة ولا يسخر1 لأن ما يحاول "المقلدون" الأتراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه إلى حالة كنا نحن منذ التقاء الغرب بالإسلام ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم. وها هم حاولوا -ولو متأخرين- إقامة صورة طبق الأصل لدولة غربية وشعب غربي".
"وعندما ندرك تماما هدفهم الذي رموا إليه لا نستطيع إلا التساؤل بحيرة: هل يبرر هذا الهدف حقا الجهد الذي بذلوه في صراعهم لبلوغه2".
"من المؤكد أننا لم نكن نحب التركي التقليدي المسلم الذي كان يثير حنقنا عندما ينظر إلينا من عل على أننا فريسيون زناديق! ويحمد الله على أنه لم يجعله مثلنا، وبما أن التركي التقليدي القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة، حاولنا أن نحط من كبريائه بتصوير هذه الطينة الخاصة شيئا ممقوتا وسميناه "التركي النكرة" إلى أن استعطنا أخيرا أن نحطم سلاحه النفسي، وحرضناه على القيام بهذه الثورة "المقلدة" التي استهلكها الآن أمام أعيننا".
"والآن، وبعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا، وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة لجعل نفسه مماثلا لنا، وللشعوب الغربية من حوله، الآن نحس نحن بالضيق والحرج، بل ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق، تماما كما شعر صموئيل عندما اعترف بنو إسرائيل بفظاظة غايتهم ورغبوا في وجود ملك".
"لذلك فإن شكوانا الجديدة من الأتراك في هذا الظرف أمر أقل ما يقال فيه إنه غير لائق3، وبإمكان التركي أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ في نظرنا".
"على كل حال، قد يكون انتقادنا للأتراك فظا وغير لائق، ولكن ليس فيه أي تحامل4 ولا هو خارج عن الموضوع، إذ ما الذي سيكسبه التراث الحضاري، في حالة عدم ذهاب جهود الأتراك سدى؟ أي: في حالة نجاحهم -فرضا- النجاح المرجو؟ وهذه النقطة تكشف حركة المقلدين عن نقطتي ضعفها الأصليتين فيها:
__________
1 هذا اعتراف من المؤلف بأن الغربيين يسخرون من الأتراك بعد أن تغربوا وتركوا إسلامهم!.
2 لاحظ سخرية المؤلف بالأتراك، مع أنه ينصح الغربيين بعدم السخرية بهم!
3 وهذا اعتراف بأن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين تصل إلى حد "عدم اللياقة" أي: سوء الأدب.
4 يعود إلى سخريته -على طريقته الخاصة- فيقول إن سخرية الغرب بالأتراك المقلدين ليس فيها أي تحامل! يعني أنهما يستحقون ذلك!(1/595)
"أولها: أن الحركة مقلدة متبعة، وليست مخترعة، لذا ففي حالة نجاحها -جدلا- لن تزيد إلا في كمية المصنوعات التي تنتجها الآلة في المجتمعات المقلدة, بدل أن تطلق شيئا من الطاقة المبدعة في النفس البشرية".
"ثانيهما: في حالة النجاح الباهت -المفترض- هذا، وهو أقصى ما يمكن للمقلدين الوصول إليه، سيكون هناك خلاص -مجرد خلاص- لأقلية ضئيلة في أي مجتمع تَبَنَّى طريقة التقليد؛ لأن الغالبية لا
تأمل في التحول إلى أعضاء في الطبقة الحاكمة للحضارة المقلدة، ومآل هذه الغالبية هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة المقلدة".
"كانت ملاحظة موسوليني ملاحظة حادة عندما قال: هناك شعوب بروليتارية1 مثلما هناك طبقات بروليتارية وأفراد بروليتاريون"2.
تلك هي القضية! إن تمسك المسلم بإسلامه شيء يغيظ أعداء الإسلام بصورة جنونية.. ولا يهدأ لهم بال حتى يذهبوا عنه ذلك التمسك ويميعوه "ومن وسائل ذلك كما أسلفنا دعوى الإنسانية والعالمية" فإذا تميع بالفعل، ولم تعد له سمته المميزة له، احتقروه كما احتقرت أوروبا الأتراك بعد أن أزال أتاتورك إسلامهم و"فرنجهم" و"غربهم"! بينا يقول أحد المبشرين في كتاب "الغارة في العالم الإسلامي": إن أوروبا كانت تفزع من "الرجل المريض" "وهو مريض" لأن وراءه ثلاثمائة مليون من البشر مستعدون أن يقاتلوا بإشارة من يده3 وهذا النص الأخير يدخل بنا إلى النقطة الثانية أو الهدف الثاني من استخدام دعوى "الإنسانية" في محاربة المسلمين.
__________
1 أي: شعوب ذليلة تابعة مقدر عليها الذل والتبعية لا فكاك لها منها!
2 تعريب الدكتور نبيل صبحي باسم "الإسلام.. والغرب ... والمستقبل" ص51-53.
3 ظهر في بريطانيا في أوائل الستينات كتاب بعنوان "معضلة الرجل الأبيض" The White Man's Dilemma شرح فيه مؤلفه موقف الرجل الأبيض من الرجل الملون. وخلاصة فكرة الكتاب أن الرجل الأبيض يتصايح اليوم بضرورة تحديد نسل الرجل الملون. ويحاول إقناع الرجل الملون بتحديد نسله بشتى الوسائل على أساس أن أقوات الأرض لا تكفي لمواجهة "الانفجار السكاني" في المستقبل، ويناقش المؤلف هذا الزعم، ويثبت أن موارد الأرض لم تستثمر كلها بعد، فضلا عن أن موارد البحر تعتبر غير مستثمرة أصلا. وأن الأرض -بيابسها ومياهها- تحمل من الأقوات ما يكفي أضعاف أضعاف العدد الحالي من البشر. ولكن الحقيقة الكامنة وراء هذه الصيحة أن الرجل الأبيض يخشى على سيادته وسيطرته ورفاهيته الناعمة من يقظة الرجل الملوك الذي سلب الرجل الأبيض خيراته عن طريق السيطرة والاستعمار، فإذا ظل نسل الرجل الملون يتزايد بنسبته الحالية -بينما نسل الرجل الأبيض يتناقص بسبب عمل المرأة وانشغالها بالمحافظة على رشاقتها وانشغالها بملذاتها عن الحمل والأمومة- فسيستيقظ الرجل الملون إلى الحقيقة الواقعة، وهي أن خيراته التي تشتد حاجته إليها بسبب تزايد أعداده مسلوبة بيد الرجل الأبيض، وعندئذ سيثور على الرجل الأبيض لاسترداد خيراته المسلوبة، فيفقد الرجل الأبيض سلطانه ورفاهيته، ومن أجل ذلك ينصحه بتحديد نسله ويخوفه بالجوع!!(1/596)
إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه! وقد مر بنا في الفصل الماضي كلام المستشرق الكندي المعاصر "ولفرد كانتول سميث" الذي يقرر فيه أن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذي ظلت تزاوله عدة قرون من الفتح الإسلامي، وأن هذا الفزع لا يدانيه شيء في العصر الحديث، ولا فزع أوروبا من استيلاء الشيوعية على تشيكوسلوفاكيا سنة 1948!
وهذا هو المستشرق الأمريكي "روبرت بين Robert Payne يقول في مقدمة كتابه السيف المقدس The Sacred Sword:
"إن لدنيا أسبابا قوية لدراسة العرب والتعرف على طريقتهم، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل، وقد يفعلونها مرة ثانية! إن النار التي أشعلها محمد ما تزال تشتعل بقوة، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء"!
ولنترك المستقبل لعلم الله. فما ندري ماذا يكون من أمر المسلمين غدا.
ولكنا ننظر إلى الحاضر ذاته فنلمح السبب في فزع أعداء الإسلام من روح الجهاد الكامنة فيه..
إن أوروبا لم تتضخم كما تضخمت اليوم، ولم تصل إلى الرفاهية الناعمة التي تعيش فيها إلا باستعمار العالم الإسلامي ونهب خيراته واستعباد أهله وإخضاعهم لنفوذها، فماذا يكون إذا استيقظت في المسلمين روح الجهاد فطردوا ذلك الاستعمار بكل أنواعه الخفية والظاهرة، العسكري منها والسياسي والاقتصادي، واستردوا سيادتهم على أرضهم وأرواحهم وأفكارهم وضمائرهم؟!
ماذا يحدث لأوروبا لو تم ذلك؟ ومن أين لها الرفاهية الناعمة التي تعيش فيها اليوم، إذا احتفظ المسلموم بخيراتهم لأنفسهم. أو باعوها لأوروبا بيعا حرا بالسعر الحقيقي الذي تستحقه في التجارة الحرة المتكافئة؟ ومن أين لها التضخم الذي تمارسه اليوم، سواء التضخم العسكري أو العلمي أو المادي، إذا انحسرت مواردها وكسدت بضاعتها التي توزعها اليوم على "المتخلفين" وتربح فيها بغير حساب؟!
كلا! ما يحب أعداء الإسلام قط أن تستيقظ روح الجهاد الكامنة فيه، ولو لم يتحقق شيء من كلام روبرت بين، الذي يزعج به أعصاب الغرب ليشتدوا في(1/597)
الضغط على المسلمين ولا يتيحوا لهم أي فرصة للنهوض. أو -على وجه التحديد- لا يتيحوا لهم أي فرصة للرجوع إلى حقيقة الإسلام التي فقدوها بعملية "التغريب"!
ودعوى الإنسانية من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين.
يا أخي! لقد تغيرت الدنيا! لا تتكلم عن الجهاد! أو إن كنت لا بد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعي فحسب! ولا تتكلم عنه إلا في أضيق الحدود! فهذا الذي يتناسب اليوم مع "الإنسانية المتحضرة"! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة! وهناك قانون دولي وهيئات دولية تنظر في حقك وتحل قضاياك بالطرق "الدبلوماسية"! فإذا فشلت تلك الهيئات في رد حقك المغتصب فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك ولكن لا تسمه جهادًا. فالجهاد قد مضى وقته! إنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة!!
أما نشر الدعوة فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد! هناك اليوم وسائل "إنسانية" لنشر الدعوة فاسلكها إن شئت.. هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضرة والدرس.. إياك إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة في أفواه المتحضرين!
ولا نقول لهؤلاء: أين هي الهيئات الدولية في قضية فلسطين؟ وفي قضية الفلبين؟ وفي قضية كشمير، وفي قضية أفغانستان؟ وفي كل قضية كان المسلمون طرفا فيها؟ أين هي الحقوق التي ترد بالطرق الدولة أو العدوان الذي يصد؟!
ولا نقول لهم: ما قيمة هذه الهيئات الدولية والقانون الدولي وكل الإجراءات الدولية. إذا كان هذا القانون يعترف رسميا بأن هناك جبابرة خمسة في الأرض لهم الحق -الشرعي!! - أن يوقفوا أي إجراء لا يوافق أهواءهم ومطامعم العدوانية -مهما يكن عادلا في ذاته- عن طريق "الفيتو" "حق الاعتراض"؟!
لا نقول لهم ذلك؛ لأنه لا فائدة من جدالهم! إنما نقول لهم إن إسرائيل تضرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن عرض الحائط، وتعلن في تبجح -وهي المعتدية دائما- أنها لن تخضع لهذه القرارات ولن تلتزم بها،(1/598)
ولا يتحرك "الإنسانيون" لتأديبها.. إنما يشهر سلاح "الإنسانية" في وجه المسلمين فقط حين يطالبون بحقهم المشروع!
الإسلام -دين الله- صريح غاية الصراحة، حاسم كل الحسم، لا يداور ولا يناور، ولا يتاجر بالشعارات.
{خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 1.
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 2.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} 3.
ويقرر في صراحة حاسمة أن ولاء المسلم هو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويحرم الولاء فيما وراء ذلك:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ... } 4.
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 5.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 6.
ويقرر في صراحة حاسمة كذلك أن الجهاد لنشر الدعوة ماض إلى يوم القيامة:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 7.
ولكنه لا يقاتل من أجل فرض عقيدته على الناس وهم كارهون، إنما يقاتل كما قلنا من قبل لإزالة القوى الجاهلية التي تمنع وصول الحق للناس دون حواجز نفسية أو حسية مادية، ممثلة في نظم جاهلية لها في حس الناس ثقل "الأمر الواقع" وجيوش ودول تحمي تلك النظم الجاهلية وتعطيها ثقلها في الأرض، فإذا أزيلت الحواجز فلا إكراه في الدين:
__________
1 سورة التغابن: 2.
2 سورة الزمر: 9.
3 سورة فاطر: 19-22.
4 سورة المائدة: 55.
5 سورة آل عمران: 28.
6 سورة المائدة: 51.
7 سورة الأنفال: 39.(1/599)
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1.
إنما يقام العدل الرباني ليستمتع به الناس ويعيشوا في ظله ولو كانوا لا يعتنقون عقيدة الإسلام.
وقد فتح المسلمون مصر وكان سكانها على دين النصرانية، فلم يكرههم المسلمون على اعتناق الإسلام، ولو كان هناك إكراه ما بقي الأقباط على دينهم حتى هذه اللحظة!
إنما أقام المسلمون العدل الرباني كما أمرهم الله فردوا للأقباط كرامتهم الإنسانية المفقودة التي سلبهم إياها حكامهم الرومان وهم على نفس الدين، ولكن على مذهب مخالف. فقد كان الرومان يلهبون ظهور الأقباط بالسياط لمخالفتهم إياهم في المذهب فلا يتحرك الأقباط لرد العدوان. ولا يجدون ملجأ ليجئون إليه يمنحهم الحرية الاعتقادية ويمنحهم العدل والكرامة، فلما جاء المسلمون منحوهم كل ذلك. وقصة القبطي الذي ذهب إلى المدينة ليشكو إلى عمر بن الخطاب ضربة العصا التي وقعت على ظهر ابنه من ابن عمرو بن العاص شهيرة لا تحتاج إلى إعادة، ولكن دلالتها واضحة. فهذا القبطي الذي كان يتلقى سياط الرومان ولا يشكو ولا يثأر لكرامته المسلوبة. يسافر هذه الرحلة الطويلة طلبا للعدل؛ لأن الإسلام رد له كرامته فصار يستنكر الظلم ويطلب العدل؛ ولأن الإسلام أوجد له ملجأ حقيقيا يطلب العدل فيه فطلبه هناك.
ومن أجل هذا يقاتل المسلمون. لا لفرض عقيدتهم، ولا للتوسع الاستعماري، ولا لسلب أقوات الناس والاستئثار بها لأنفسهم، ولا لأي فائدة أرضية من التي تسعى الدول إليها، ولكن قياما بأمر الله، ونشرا لهذا العدل الرباني في الأرض.
وفتح المسلمون الأندلس، وظلوا هنالك ثمانية قرون.. فلم يفرضوا عقيدة الإسلام على نصارى الأندلس بل دخل منهم من دخل الإسلام حبا فيه وإيمانا بصدقه، وبقي النصارى نصارى حتى ردوا للمسلمين الجميل بطردهم من الأندلس مع التعذيب والتنكيل والتشريد على أبشع صورة وعاها التاريخ، ونشر المسلمون النور في الأندلس وغيرها من البلاد عن طريق مدارسها وجامعاتها وأساتذتها وكتبها وعلومها وحضارتها، التي مرت شهادات الشاهدين بها من
__________
1 سورة البقرة: 256.(1/600)
منصفي الغرب على قلتهم! وكانت الأندلس هي الملاذ الآمن لليهود والنصارى على السواء، يشعرون فيها بالآمن الكامل في ظل الحكم الإسلامي، بينما أوروبا كلها تضطهد اليهود وتنكل بهم، وبينما النصارى المخالفون لمذهب الكنيسة يعيشون في رعب دائم من الإرهاب.
وفتح المسلمون الهند، وحكموها ثمانية قرون.. فلم يفرضوا العقيدة الإسلامية على الوثنيين الهنود، بل تركوهم لعقائدهم مع أن فيها ما لا يعقله عاقل، من عبادة للبقر، وتبرك بروثها وبولها.. وإنما فرضوا عليها فقط أن يكفوا عن بعض عاداتهم الوحشية التي كانوا يمارسونها من دفن الأرملة حية مع زوجها المتوفي، أو حرقها حية. من أجل رفع هؤلاء الناس إلى درجة الآدمية في بعض تصرفاتهم دون المساس بعقائدهم. وظل الهندوس محافظين على عقائدهم وتقاليدهم في ظل الحكم الإسلامي حتى تسلموا حكم الهند بمساعدة الصليبيين الإنجليز فردوا الجميل للمسلمين بالعدوان المستمر عليهم وتحريق قراهم وتعمد الإثارة الدائمة لهم. والتهييج الدائم لخواطرهم.
كذلك كان فتح المسلمين للأرض.. ومن أجل هذه المعاني الرفيعة أمرهم الله بالقتال لنشر الدعوة.. ومع ذلك فهم لا يبدءون بالقتال، إنما يبدءون بعرض الإسلام، فإن لم يقبل منهم فالجزية، فإن لم تقبل فالقتال من أجل إخراج الناس من ظلمات الجاهلية وظلمها إلى عدل الإسلام وسماحته، على النحو الذي تم به الأمر في واقع التاريخ.
وللحرب مع ذلك تقاليد.. بل قل إنها أخلاقيات الإسلام في كل شيء حتى مع المشركين المعاندين.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجيشه يعلمه أخلاقيات الحرب في الإسلام: "اغزوا باسم الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا.." الحديث1.
ثم إن أعطوا الأعداء عهدا أو موثقا فالله يأمرهم أن يوفوا بالعهد ولا ينقضوا الميثاق، تحت أي ظرف من الظروف ولأي هدف من الأهداف، فإن خافوا منهم خيانة فلينبذوا إليهم عهدهم علانية ولا يغدروا ولا يفاجئوا عدوهم بالقتال قبل انقضاء العهد:
__________
1 رواه مسلم.(1/601)
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1.
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2.
ولقد كان معاوية قد أعطى عهد للروم إلى أمد محدد، ثم جاءته عيونه تخبره أن القوم يستغلون الهدنة للاستعداد للانقضاض على المسلمين، فأراد أن يباغتهم. فاستشار فأبى عليه مستشاروه، وقالوا له إما أن تنبذ إليهم عهدهم على سواء وإما أن تنتظر إلى نهاية العهد، والله ينصرك بالطاعة، فانتظر حتى نهاية العهد وانتصر بإذن الله.
ويروي التاريخ كيف غدر الصليبيون بعهدهم مع صلاح الدين وفاجئوا المسلمين الآمنين على بغتة فاحتموا بالمسجد فدخلوا عليهم المسجد وأعملوا فيهم القتل حتى غاصت الخيل إلى ركبها في الدماء.. فلما دارت الدورة وانتصر صلاح الدين أبى أن ينتقم منهم -سماحة- ولم يغدر قط بميثاق واحد أعطاهم إياه.
وظل وفاء المسلمين بمواثيقهم في السلم والحرب مضرب المثل خلال التاريخ، اتباعا لتعاليم الإسلام، وتخلقا بأخلاق لا إله إلا الله.
والإسلام صريح في توجيه أتباعه إلى التميز عن أحوال الجاهلية، التميز بنظافة السمت ونظافة الأخلاق ونظافة السلوك، والاستعلاء بالإيمان على كل مصدر ليس إسلاميا أو متعارض مع الإسلام، حتى لو لحقت بهم هزيمة مؤقتة أو ضعف طارئ:
__________
1 سورة النحل: 91-94.
2 سورة الأنفال: 58.(1/602)
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
ومصدر التميز هو الإحساس بأنهم على الهدى وغيرهم على الضلال، وأن المنهج الذي يعيشون به هو المنهج الأعلى؛ لأنه المنهج الرباني، والذي يعيش عليه غيرهم هو المنهج الأدنى؛ لأنه منهج جاهلي، فهو ليس تميزا مبنيا على الجنس ولا اللون ولا الجاه ولا الغنى ولا القوة ولا أي معنى من المعاني الأرضية التي تعتز بها الجاهلية وتستعلي بها على الناس، إنما التميز المستمد من معرفة المنهج الرباني واتباعه.
ومع ذلك كله فكيف يكون التعامل الإسلامي مع غير المسلمين؟!
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2.
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} 3.
كما أنه ليس مقتضى التميز والاستعلاء هو "مخاصمة" كل ما يأتي من مصدر غير إسلامي، إن كان شيئا نافعا في ذاته، ولم يكن متعارضا مع الإسلام، فقد أخذ المسلمون الأوائل من الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية ما رأوه نافعا لهم ولا يتعارض مع عقيدتهم وأخلاقهم وأفكارهم وتصوراتهم الإسلامية، إنما مقتضى ذلك ألا يأخذوا من مصدر غير إسلامي أمرا يتصل بالعقيدة أو يتصل بالقيم أو يتصل بالشريعة أو يتصل بالأخلاق؛ لأن مرجعهم في ذلك كله هو كتاب الله وسنة رسوله، وهو حسبهم وفيه كل ما يحتاجون إليه في هذه الأمور, أما "الأدوات" الحضارية، وأما "العلم" وأما "التجارب" النافعة فلا خصومة معها، ولا عداء ما دامت لا تصادم أصلا من أصول الإسلام.
ذلك هو الواقع الإسلامي.. وخلاصته أن "الإنسانية" الحقيقية "والسماحة" الحقيقية هي الإسلام!
__________
1 سورة آل عمران: 139.
2 سورة الممتحنة: 8.
3 سورة المائدة: 5.(1/603)
فحيث تكون دعاوى الإنسانية والعالمية والتسامح في كل النظم مجرد شعارات لا رصيد لها من الواقع، فإنها في الإسلام واقع حقيقي، لا دعاوى ولا شعارات مرفوعة بغير رصيد.
والإسلام دين الله الحق، وكل أمر فيه -بما في ذلك الجهاد لنشر الدعوة، والتميز والاستعلاء بالإيمان، واعتزال أدران الجاهلية وعدم المشاركة فيها- هو أمر رباني، لم يبتدعه المسلمون من عند أنفسهم، ولا قاموا به لصالح لأنفسهم، إنما تنفيذا لأمر الله، سواء وقع عليهم منه في الأرض الغنم أو الغرم -بالمقاييس البشرية المحدودة- إنما يصنعونه ابتغاء مرضاة الله، وطمعا في الجزاء في الآخرة.
ولكن غير المسلمين لا يؤمنون بذلك بطبيعة الحال، فلا نناقشهم بمنطق الإيمان الذي لا يلزمهم، بل نفترض -جدلا- أن كل النظم ذات حق متساو في الوجود وفي الانتشار في الأرض.. فلننظر في الواقع التاريخي نظرة "علمية" "موضوعية" "مجردة". أي النظم مارس حقه في الوجود وي الانتشار في الأرض بروح إنسانية حقيقية، وأيها مارس الوجود والانتشار بسلوك خال من القيم الإنسانية هابط إلى الحضيض؟!
فمن كان في شك فلينظر إلى الواقع المعاصر وما يتم فيه من ألوان من البربرية الوحشية لا تخطر على البال، وألوان من نقض المواثيق لا تخطر على البال، وألوان من العبث بكرامات الشعوب والاستخفاف "بحقوق الإنسان" لا تخطر على البال.
وذلك رغم كل الشعارات المرفوعة، والقيم المسطرة في ديباجات الدساتير والمعاهدات والمواثيق!
أما الإسلام فلا يداور ولا يناور، ولا يرفع الشعارات البراقة بلا رصيد، إنما هو رغم الصراحة الحاسمة التي يعالج بها كل أمر، هو الذي يطبق الروح الإنسانية الحقيقية والتسامح الحقيقي.. ولا عجب في ذلك، فإنما هو المنهج الرباني الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.(1/604)
الإلحاد:
الإلحاد -بمعنى إنكار وجود الله، والقول بأن الكون وجد بلا خالق أو أن المادة أزلية أبدية، وهي الخالق والمخلوق في ذات الوقت- بدعة جديدة في الضلالة فيما أحسب، لم توجد من قبل في جاهليات التاريخ السابقة، ومن المؤكد على أي حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذي تمارسه الجاهلية المعاصرة، في أي فترة سابقة من فترات التاريخ.
وبعض الناس يشير إلى الآية الكريمة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1 ويستدلون منها على أنه وجد في الجاهلية العربية "وبالتالي في غيرها" من ينكر وجود الله، وأن هؤلاء الدهريين كما أطلق عليهم هم صنو القائلين بالطبيعة المنكرين لوجود الله.
والآية -فيما أرى- لا تعطي هذه الدلالة بصورة قاطعة، فإنها تقطع فقط بأن القوم المشار إليهم ينكرون البعث، ولكنها لا تقطع بأنهم ينكرون وجود الله.
وما لم يثبت من مصدر يقيني2 أنه وجد في العرب أو في غيرهم من الأمم من قبل من ينكر وجود الله فأغلب الظن عندي أن هؤلاء القوم المشار إليهم في الآية هم الذين يؤمنون بوجود الله وبأنه هو الخالق المدبر ثم ينكرون قدرته سبحانه وتعالى على بعث الموتى بعد أن يصيروا ترابا وعظما: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4 ومع إقرارهم بذلك كله فقد كانوا ينكرون البعث إنكارا شديدا ويعجبون ممن
__________
1 سورة الجاثية: 24.
2 أي: حديث مقطوع بصحته.
3 سورة لقمان: 25.
4 سورة المؤمنون: 84-89.(1/605)
يقول به: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} 1.
فتكذيبهم بالبعث لم يكن ناشئا من إنكارهم لوجود الله إنما من إنكارهم قدرته سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بعد أن بليت أجسادهم وضلوا في الأرض:
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 2.
ولذلك كان الجدل معهم في هذا الموضوع يدور كله حول معنى واحد هو أن الذي خلق الخلق من العدم أول مرة قادر على أن ينشئهم مرة أخرى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} 4.
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5.
والذين أطلق عليهم اسم "الدهريين" قوم ينكرون البعث إنكارا مطلقا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا، أي: لا توجد حياة أخرى بعدها, يموت منا من يموت ويحيا منا من يحيا، وما يهلكنا إلا مرور الزمن، فكلما مر الزمن ماتت نفوس.. ولكن لا بعث وراء ذلك ولا حياة، أما إنكارهم لوجود الله فاستدلال لا تدل عليه الآية دلالة صريحة ولا دلالة لازمة، والقوم إنما نسبوا إلى الدهر -أي: إلى مرور الزمن- أنه هو الذي يهلكهم، ولكنهم لم يقولوا إن الدهر هو الذي خلقهم أو هو الذي منحهم الحياة، أي: إنهم لم يتخذوه إلها بدلا من الله!
__________
1 سورة سبأ: 7, 8.
2 سورة السجدة: 10.
3 سورة يس: 78-83.
4 سورة الإسراء: 98, 99.
5 سورة الروم: 27.(1/606)
وحتى لو فرضنا جدلا -بغير دليل يقيني- أنهم أنكروا وجود الله، فليس هناك من يقول إنهم كانوا كثرة يحسب لها حساب، ولا إنهم كانوا هم الصورة الغالبة للجاهلية، أما إنكار وجود الله على النحو الذي تتبجح به الجاهلية المعاصرة، وبالسعة التي تمارس بها ذلك التبجح، فأمر غير مسبوق في تاريخ البشرية..
ذلك أن الفطرة بذاتها تعرف وجود الله، وتتجه إليه اتجاها فطريا بالعبادة على نحو من الأنحاء.. ولو ضلت الطريق! ولم يكن الضلال الغالب على البشرية في جاهلياتها هو إنكار وجود الله، إنما كان الضلال الغالب هو الشرك، وتصور الله على غير حقيقته، فقد يتصورون أنه هو الشمس أو هو القمر أو هو النجم أو ما إلى ذلك من المخلوقات.. {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1.
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 2.
أو يتصورونه آلهة متعددة متعادلة في القوة والسطوة كإله الخير وإله الشر عند الفرس، يتنازعان أبدا ولا يغلب أحدهما الآخر، أو غير متعادلة كما كان الرومان والإغريق يؤمنون بوجود إله كبير هو رب الأرباب، ودونه آلهة شتى، وكما كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بأن الله هو رب الأرباب الخالق الرازق المهيمن، وثمة آلهة أخرى يشاركونه في بعض الأمر فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.
ولم يبعث الله رسولا ولا نبيا ليقول للناس إن هناك إلها فالفطرة تعرف ذلك بغير رسول! ولا ليقول لهم إن هناك إلها فاعبدوه. فالفطرة تتجه بالعبادة تلقائيا إلى الإله الذي تعتقد بوجوده بغير رسول! فقد أودع الله ذلك كله في الفطرة والبشر ما زالوا في عالم الذر:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4!.
__________
1 سورة فصلت: 37.
2 سورة النجم: 49.
3 سورة الزمر: 3.
4 سورة الأعراف: 172.(1/607)
إنما الذي أرسل به الرسل جميعا هو "التوحيد":
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1.
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2.
وذلك لتصحيح مسار العقيدة وتقويم الفطرة مما تقع فيه من الضلال، لا لإنشاء العقيدة ابتداء وإثبات وجود الله.
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 3.
نعم.. تعرف الفطرة بذاتها وجود الله، وتتجه إليه بالعبادة منذ أن أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم..
ولا ندري نحن كيف تم ذلك..
ولكنا نلحظ من أحوال الفطرة مصداق تلك الحقيقة.
هناك منافذ في الفطرة تتلقى إيقاعات من الكون والحياة، فتستيقظ من غفلتها، إن كانت غافلة، فتروح تتساءل: ما وراء ذلك؟ ومن وراء ذلك؟ فتهتدي إلى وجود الله ثم تتصوره على حقيقته، فردا صمدا خالقا رازقا مدبرا مهيمنا.. فتعبده العبادة الحقة وتخلص له العبادة، أو تضل فتتصوره على غير حقيقته، وتشرك معه آلهة آخرى. ولكنها في الحالين تعرف وجوده، وتتوجه إليه بالعبادة على نحو من الأنحاء.
هناك بادئ ذي بدء هذا الكون الهائل، الذي يروع الحس بضخامته المعجزة.
وبغير الأدوات التي استحدثها الإنسان لتزيد بصره حدة، وتجعله ينفذ في آماد الكون المتطاولة التي لا تنفذ إليها النظرة بالعين المجردة، كان الإنسان يحس بضخامة الكون وسعته المعجزة، من رؤية السماء التي لا يحيط بها بصره، ورؤية الشمس والقمر، ورؤية العدد الهائل من النجوم التي يعجز عن إحصائها.. وكان يروعه ذلك كله ويسترعي انتباهه فيظل يفكر فيه، ويتساءل.. أو تتساءل فطرته، من وراء ذلك؟ وماذا وراء ذلك.. فيهتدي إلى الله الحق..أو يضل فيتصور الشمس هي الله، أو القمر هو الله، أو النجم هو
__________
1 سورة محمد: 19.
2 سورة هود: 61.
3 سورة الروم: 30.(1/608)
الله.. أو أنها جميعا آلهة في وقت واحد، ولكنه في كل حالة يعلم أن هناك خالقا لهذا الكون الهائل. فيتخيله على صورة من الصور، ويعبده لونا من العبادة يحتوي على ركوع وسجود، وشعائر أخرى والتزامات.
وحين مد الإنسان ببصره إلى داخل الكون من خلال المناظير رأى عجبا يأخذ بالألباب!
رأى أن الشمس كلها والمجموعة الشمسية من حولها ليست إلا "نجما" واحدا من نجوم لا تحصى في مجموعة واحدة تعرف "بالمجرة" وأن المجرة التي فيها شمسنا ليست إلا واحدة من مجرات أخرى غيرها في الكون تعد بالملايين! كلها ذات نجوم تعد بالملايين!
ورأى أن هناك نجوما تبعد عنا عدة آلاف.. لا من الأميال.. ولا من ألوف الأميال "أي: ألوف الألوف" ولكن من السنين الضوئية! أي: المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة وهي رقم فلكي لا يتعامل به البشر على سطح الأرض:
186000× 60× 60× 24× 365.25= 5.896.713.600.000 ميلا تقريبا.
ورأى من حيث الحجم أن هناك نجوما تبلغ أضعاف حجم شمسنا، التي لا نراها بطبيعة الحال في حجمها الطبيعي لأنها تبعد عنا حوالي 93 مليون ميل، وأن هذه النجوم تبدو لنا مجرد نقط في الفضاء رغم حجمها الهائل ذلك؛ لأن مسافتها منا شيء مذهل، لا يقاس إليه بعد شمسنا منا.. وأن المسافة بين نجم ونجم في هذا الفضاء لا يكاد يتصورها عقل.. فما بال الفضاء كله؟ كم حجمه؟ ما أبعاده؟ هل هو منته أم ممتد بلا انتهاء!
وعلم -من طريق المناظير- أن الكون المرئي كله إن هو إلا جزء من الكون فحسب، وأن نسبته إلى الكون أمر لا يمكن تحديده؛ لأنه لا يمكن بعد تحديد مقدار ذلك "الكل".. لأنه كلما اخترع الإنسان آلة أبعد. بدا له من الكون مزيد لم يكن يراه من قبل، ولم يكن يحسب أنه كائن في الوجود!
ومع هذه الضخامة المعجزة يلحظ الحس البشري دقة معجزة كذلك.
ومن قبل أن يتوصل الإنسان إلى الأجهزة الدقيقة البالغة الدقة ليقيس بها مقدار الدقة في هذا الكون، كان يرى ما يروع حسه ويستغرق انتباهه.
كان يرى الدقة العجيبة في تتابع الليل والنهار بمواعيد مضبوطة على مدار(1/609)
العام، والدقة العجيبة في مسار الظل وتغيره يوما عن يوم حتى يعود إلى نفس مكانه بعد عام كامل من كل يوم.. ومن هنا نبتت فكرة المزاولة ثم فكرة الساعة وكان يرى الدقة في مسار القمر وتغير أوجهه ليلة بعد ليلة حتى يعود إلى نفس وضعه بعد شهر كامل من كل يوم يرصد فيه.. وكان يرى دورة النبات من البذرة المغمورة في الأرض. إلى الشطأ الذي يخرج منها. إلى الساق والأغصان والأوراق، إلى الزهرة والثمرة والبذرة في نهاية المطاق.. وكان يرى الزهرة الملونة تتكون من خيوط دقيقة ومساحات دقيقة من اللون يعجز الرسام الماهر أن يرسمها بهذه الدقة، ويعجز عن تكرارها بنفس الصورة في رسم آخر فضلا عن ألوف وملايين؛ ولكنها في الطبيعة تبرز ملونة بهذه الدقة في كل زهرة دون جهد مبذول. ويرى ريشة الطائر الملون مكونة من عدد لا يحصى من الخطوط والخيوط، كل يحمل نصيبا دقيقا من اللون يعجز الرسام أن يرسم مثله في دقته، ثم يحدث من تجمعها في الريشة ذلك المنظر البهيج الذي يروع النظر ويروع الحس. وكان يرى دقة دخول الليل في النهار حتى يتلاشى الضوء، ودقة دخول النهار في الليل حتى يتلاشى الظلام.. وكان يرى أشياء وأشياء توقظ فطرته إن كانت غافلة فيتساءل: هل يمكن أن توجد هذه الدقة العجيبة كلها بغير موجد؟ ثم يروح يتطلع إلى الموجد. فيهتدي إلى أنه حقيقة لا تدركها الأبصار فيؤمن بالله على بصيرة، ويعبده على بصيرة، أو يضل فيتصور أنه الشمس أو القمر أو النجوم أو الروح الساكنة في التمثال الذي ينحته بيديه..ولكنه في كل حال يعلم أنه لا بد من خالق خلق هذا الوجود بتلك الدقة التي يلحظها في تلك الكائنات حوله.
ثم مد الإنسان ببصره إلى داخل هذا الكون المعجز عن طرق الأدوات التي استحدثها فرأى عجبا لم يكن يخطر له على بال! رأى هذا الكون العجيب كله مكونامن ذرات متناهية في الدقة لا تراها العين المجردة، إنما ترسمها الأدوات التي استحدثها الإنسان. في صورة شمس تدور حولها كواكب على ذات النمط الذي تتكون منه المجموعة الشمسية ولكن في دقة متناهية لا يدركها الحس. وفي كل قطعة صغيرة من المادة ملايين وملايين من هذه الذرات متراكبا بعضها مع بعض، ومشدودا بعضها إلى بعض، بذات القوة التي تمسك الكون كله بعضه إلى بعض، وتسمح له بالحركة الدائبة دون أن يصطدم أو يتناثر، والتي أطلق عليها اسم "قوة الجاذبية".(1/610)
بل رأى أعجب من ذلك حين فتتت الذرة وأطلق منها "الطاقة".
إن الذرة ليست "مادة" مصمتة كما كان يتخيل أول الأمر، وليست هي الصورة النهائية "للمادة" ولكنها جسيمات كهربية موجبة وسالبة ومتعادلة، يمكن تفتيتها وتفكيكها فتتحول إلى طاقة، والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة، ولا يوجد ذلك الحاجز الذي كان يتخيله بين المادة وبين الطاقة.. والكون في النهاية طاقة تأخذ صورا شتى. صورة متكتلة في هيئة المادة، وصورة منطلقة في هيئة شعاع ضوئي، وصورة منطلقة في هيئة جاذبية مغناطيسية، أو مغناطيسية كهربية تحير الألباب!
ورأي من بين ما رأى عجبا عاجبا في تكوين الجنين ونموه المتتابع حتى يصبح خلقا تام التكوين.
فهو في أصله بويضة ملقحة وحيدة الخلية، تتكاثر عن طريق الانقسام المستمر إلى خلايا جديدة متشابهة في التكوين ولكنها متخصصة، وإلى أن تكون مضغة لا يظهر للعين ذلك التخصص. ولكن في وقت معين مقدر محدد. تصدر لكل خلية أوامر خفية، فهذه الخلية يصدر لها أمر أن تكون هي الأنف، وتلك الخلية يصدر لها أمر أن تكون هي العين، وثالثة يصدر لها الأمر أن تكون هي القلب. ثم تتكاثر كل منها على النحو المقدور لها فيتكون من تكاثرها أنف وعين وقلب وبقية الأعضاء..
ثم هناك "الجينات" أو "المورثات" متناهية في الصغر كالذرات.. عجيبة كل العجب في شأنها كله.
فكل جنس من أجناس الكائنات له عدد محدد من "الكروموسومات" حاملات الصفات الوراثية لا يتجاوزها في كل فرد من أفراده، تحدد له خصائصه كلها من أعضاء وقدرات وأعمال, فالكلب له عدد من "الكروموسومات" معين، والحصان له عدد معين والقرد له عدد معين.. والإنسان هو أكثرها عددا.. ولا يتجاوز كل جنس حدوده إلى جنس آخر، محكوما بعدد هذه الكروموسومات وما تحمله في داخلها من الخصائص.. فلا يستطيع القرد أن يكون إنسانا في يوم من الأيام ولا في جيل من الأجيال!
ثم هذا الإنسان، أعجب مخلوقات الله وأشدها إعجازا، وإن كان الخلق كله معجزا بالنسبة إلينا، وهينا بالنسبة للخالق الذي يقول للشيء كن فيكون، ولا يتعب في تشكيله وتكوينه كما تتعب المخلوقات!(1/611)
عدد "الكروموسومات" بالنسبة للإنسان كله واحد، ولكن الإنسان أكثر كائنات الخلق تعددا في صوره وأشكاله، فهذا قصير وهذا طويل وهذا أبيض وهذا أسود، وهذا أزرق العينين وهذا داكن ... وهذا عبقري وهذا خامل ... وهذا موهوب في الأدب وهذا موهوب في الرياضيات ... وهذا جلد صبور وهذا مستثار حائر.. كل إنسان تركيبة وحده، وهو مكون من ذات العناصر.. من ذات العدد من حاملات الصفات الوراثية التي يحملها "الإنسان" ولكنها في كل فرد غيرها في الفرد الآخر، فلا يكاد يتماثل اثنان في ملايين البشر في الجيل الواحد ولا في جميع الأجيال, بل تصل الدقة في بصمات الأصابع إلى حد تصبح معه من وسائل التعرف؛ لأنها لا تتكرر في فردين اثنين من بين ملايين الأفراد!
كيف يحدث ذلك كله؟ كيف تحدث هذه العجائب التي لا ينقضي العجب منها سواء في تكوين المادة أو في تكوين الكون كله. أو في المادة الحية من أول الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان، أو التناسق و"التوازن" في بنية الكون، وخاصة ذلك التوازن الكائن في تلك المجموعة الشمسية التي منها أرضنا، والتي يتبدى التنسيق الدقيق فيها بحيث لو اختل عنصر واحد منها ما أمكنت الحياة على صورتها الحالية ولا أمكن استمرار الحياة.. لو اقتربت الأرض من الشمس أكثر تحترق الكائنات الحية ولو ابتعدت أكثر تهلك من الصقيع.. لو اقترب القمر من الأرض أكثر لارتفع المد حتى يغرق كل الأرض ... ولو زاد الأكسجين لاشتعلت الكائنات ولو قل لم تجد كفايتها للحياة.
كيف يحدث ذلك كله؟ من غير خالق مدبر حكيم؟
ويتلقى الحس البشري إيقاعات من الحياة من حوله. الحياة ذاتها إعجاز.. كيف تكونت الحياة أول مرة من الموات؟
ثم كيف تعددت على هذا النحو الذي نراه، من نبات وحيوان وإنسان؟ ثم في أنواع النبات المختلفة وأنواع الحيوان المختلفة وأشكال الإنسان المختلفة؟
ما الحياة؟ ما سرها؟ من واهبها؟ وكيف يهبها؟
كيف "ينمو" الكائن الحي وتتغير أحواله من طور إلى طور..؟
والكائن البشري بالذات.. المعجز في كل تفصيلاته ... كيف تتم عمليات النمو المختلفة فيه.. كيف يتعلم الكلام؟
إن الكلام ذاته معجزة لا يحيط بها العقل البشري! كيف تم للبشر أن ينطقوا(1/612)
بلغة ذات رموز وتراكيب؟ كيف تأتي للأصوات المبهمة أن تكون ألفاظا محددة، وكيف تم للألفاظ أن تعبر عن المعاني.. وكيف تعددت اللغات التي تعبر عن ذات المعاني ما بين شعب من البشر وشعب، وكلهم "نوع" واحد. يعاني تجربة واحدة هي تجربة الحياة في هذه الأرض؟!
وهذه المعاني.. هذه الأفكار المجردة.. كيف تمت؟
وعملية التفكير ذاتها.. وعملية التذكر.. كيف تتم هذه وتلك؟
وكيف "ينمو" هذا كله مع نمو الطفل.. كيف تنمو قدرته على الكلام، وقدرته على التفكير والتذكر؟
وكيف اختص "الإنسان" -دون مقدمات من الكائنات الأدنى منه- بخاصية التفكير المجرد، وخاصية الرمز للأفكار بالكلمات ذات الأصوات والحروف والمقاطع، وخاصية الإبداع المادي والمعنوي، فصارت له حضارة وصار له تاريخ؟!
ثم.. ذلك الجانب الآخر من "الحياة" الذي يسمى "الموت".
ما سره؟ كيف يحدث؟ من الذي يملكه؟
إن الطفل -لفرط حيويته- يتخيل الوجود كله "حيا" مثله.. ويتخيل أن الحياة هي الأمر الطبيعي لكل الأشياء.. فيتعامل مع اللعبة التي يلعب بها، كما يتعامل مع الباب والنافذة والكرسي والعصا على أنها كائنات حية، تفهم عنه لغته التي لم تتبلور بعد، وتتجاوب معه وإن لم تنطق بحرف!
ثم ينمو إدراكه ويعرف بطبيعة حال أن هناك أحياء حقيقيين، وأشياء أخرى لا حياة فيها، كان هو يخلع الحياة عليها في طوره السابق، واليوم يعلم أنها لا تتحرك من ذات نفسها ولا تأكل ولا تشرب ولا تتغير حالها كما تتغير أحوال الأحياء، ولكنه من فرط حيويته لا يزال يخلع عليها الحياة وهو عالم بأنها غير حية في حقيقتها، ويكلمها ويتخيل أنها ترد عليه، ويضربها أو يربت عليها، ويتخيل أنها تتألم وتبكي أو تسر وتفرح، كما يتخيل الشاعر فيما بعد وهو يكلم الأطلال ويستوحيها ويناجي "الطبيعة" ويتخيل أنها ترد عليه!
ثم ينضج في يوم من الأيام حتى يدرك إدراكا لا لبس في أن هناك فارقا حاسما بين الأحياء وغير الأحياء من الكائنات. ولكنه بعد يفترض أن الحياة دائمة في الأحياء كما أن الجمود دائم في الجوامد من الأشياء.
ولكنه ذات يوم يفاجأ بحقيقة الموت، وبأن "الحياة" ليست دائمة كما كان(1/613)
يظن. ذلك حين يموت أمامه كائن حي يعرفه، سواء كان القطة التي كان يلهو بها، أو العصفور الذي يراه يقفز فوق الأغصان، أو قريبا له كان يحبه ويتعلق به.. وعندئذ تفعل المفاجأة فعلها في نفسه، فتهزه من أعماقه وتثير الأسى في قلبه، ويظل التأثر بالموت يصاحبه كلما جد له داع من دواعيه.. حتى يأخذ دوره في الركب الراحل عن الحياة.
وتظل الظاهرتان معا، ظاهرة الموت وظاهرة الحياة، تهزان كيانه، وتبعثانه يتساءل: من وراء ذلك؟ من وراء الحياة يخلقها بكل مظاهرها، ومن وراء الموت الذي ينهي الحياة ويقف دفعتها عن السريان؟! ويهتدي فيعرف الله على حقيقته، وأنه هو المحيي المميت، أو يضل فينسب الحياة إلى مصدر والموت إلى مصدر آخر كما كان يفعل "الدهريون" أو ينسبهما معها إلى آلهة آخرى غير الله. ولكنه يعلم -على الأقل- أن واهب الحياة هو خالق الخلق فيتعبده ويترضاه.
ويتلقى الحس البشري إيقاعات كذلك من جريان الأحداث من حوله:
فهذا الوجود حوله ليس ساكنا في أي حالة من حالاته.
فهناك الليل والنهار حركة يومية دائبة تنقل الأشياء كلها من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور، وهناك دورة الفلك حركة سنوية دائمة تنقل الأشياء كلها من الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف ومن الخريف إلى الشتاء ومن الشتاء إلى الربيع، مع ما يصحب ذلك من اختلاف مستمر في الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة واخضرار الزرع وجفافه وإيناعه وإثماره ونضجه وسقوطه، واختلاف مستمر في نشاط الإنسان وأحواله بما يناسب الجو وأحواله والعمل وأحواله.
وهناك حركة الحياة والموت في الأحياء لا بوصفها "ظاهرة" ولكن بوصفها حركة تنتج عنها أحداث، هذا يولد وهذا يموت، وهذا يكون صغيرا فينمو، وصحيحا فيمرض أو مريضا فيصح. وهذا غني فيفتقر أو فقير فيغنى، وتدول دول وتولد أخرى، وتحدث حروب وسلم، وهزيمة ونصر، ورفع في مكانة الناس وخفض، وتقدم وتأخر، وعز وذل ...
وتشد الأحداث انتباه الناس وتهزهم، فيروحون يتساءلون: هل هناك "رابط" بين الأحداث؟ وهل هناك "نظام"؟ أم إنها تحدث كيفما اتفق؟ وهل(1/614)
وراءها غاية أم يسير الوجود كله بلا هدف ولا غاية؟ وما الغاية إن كان هناك؟ ومن صاحب الغاية؟ ومن يدبر الأحداث؟ ويهتدي الإنسان إلى الحقيقة، فيعلم أن مدبر الأحداث هو خالق الكون، وأنه يجري الأحداث بمشيئته وقدره، وأن له حكمة من وراء ذلك يعلمها البشر أحيانا ويجهلونها أحيانا.. أو يضل فلا يعرف الغاية ولا يعرف الحكمة ويحسب الأمور تجري خبط عشواء.. ولكنه في كل حالة يعلم أن هناك مشيئة تجري بمقتضاها الأحداث، وأنها ليست مشيئة البشر إنما مشيئة كائن أعلى من البشر، فيشعر نحوه بالرهبة وقد يشعر نحوه بالإجلال.
ويتلقى حس الإنسان إيقاعات "ذاتية" دائمة من شعوره الدائم بالعجز.. يولد الطفل عاجزا تمام العجز لا يقدر على شيء. ولولا رعاية الذين يحيطونه وإمدادهم له بالغذاء وقضاؤهم له حاجاته ما استطاع أن يعيش، ورويدا رويدا يقدر على شيء من الحركة وهو محمول في حضن والديه أو المكلفين برعايته، حتى يستطيع في وقت من الأوقات أن يجلس مستقلا بعض الشيء. وفي اللحظة التي "يقدر" فيها على الجلوس يحس "بالعجز" عن المشي! ويجاهد حتى يتمكن أخيرا من الحبو على الأرض.
وفي اللحظة التي يقدر فيها على الحبو يحس بالرغبة في الوقوف والعجز عن تحقيق تلك الرغبة! وفي مرحلة تالية يتمكن من الوقوف ولكنه يحاول المشي فيقع على الأرض ويحس بالعجز عن تحقيق ما يريد.. وتمضي الأيام والسنون فيمشي ويجري ويخرج إلى الطريق ويتعلم العلم ويحس "بالقدرة" على أشياء كثيرة لم يكن يقدر عليها من قبل ...
فهل تنقضي رغباته؟ وهل يكف عن الشعور بالعجز؟
كلا! إنه هكذا ركب في طبيعته.. كلما حقق حلما راح يشتاق جديدا, ولم يقنع بما وصل إلى تحقيقه بالفعل، حتى حين ركب الصاروخ ووصل إلى القمر ونزل على سطحه.. حتى حين سيطر على كثير من شئون البيئة من حوله ونظمها حسبما يريد.. حتى حين اخترع من الآلات ما صار يحقق في جزء من الثانية ما كان يستغرق منه الساعات والأيام والشهور ولا يحكم تنفيذه.. حتى حين وصل إلى ذلك كله فهل رضيت نفسه، وقال: لقد حققت وجودي كاملا فما أرغب المزيد؟!(1/615)
كلا! إنه يريد في حقيقة الأمر شيئا لا يقدر عليه، ويحس "بالعجز" الدائم عن تحقيقه، يريد أن يسيطر على الكون، يريد أن يقول للشيء كن فيكون!
ويعلم الإنسان في دخيلة نفسه أنه عاجز عن تحقيق ذلك، وأنه مهما أوتي من القدرة والسيطرة على بعض جوانب الوجود. فإن بينه وبين السيطرة الحقيقية التي يحلم بها أمدا لا يمكن بلوغه؛ لأن مدى قدرته محدود بحدود، ومدى عمره محدود بحدود، ومدى تمتعه -في عمره المحدود- بالصحة والقوة والنشاط والقدرة محدود بحدود!
وهكذا يشعر الإنسان بالعجز كلما شعر بالقدرة، ولا يصفو له قط الشعور بالقدرة الكاملة التي يحلم بها في كل مراحل عمره، فضلا عن أنواع العجز التي يعلم أنها مفروضة عليه لا محالة، ومن بينها الموت الذي يعجزه عن الخلود!
ومن شعور الإنسان بالعجز الدائم الذي يلاحقه حتى آخر لحظة من حياته يلتفت الحس البشري إلى الكائن الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض!
كل شيء يعجز عنه هو يقدر عليه ذلك الكائن الذي لا يعجزه شيء!
الخلق من العدم بادئ ذي بدء، والسيطرة المطلقة على كل شيء، والتسخير المطلق لكل شيء، والقوة التي لا يقهرها شيء وهي تقهر كل شيء, والمشيئة التي تحقق كل شيء في لمح البصر؛ لأنها تقول للشيء كن فيكون..
والخلود الأزلي الأبدي صفة يتفرد بها ذلك الكائن الذي لا يعجزه شيء.. وكل ما عداه يفنى ويزول..
عندئذ يتحول الحس إلى ذلك الكائن الذي قدرته لا تحد.. فيهتدي، ويعرف الله على حقيقته ويعبده حق عبادته، أو يضل فيظن ذلك الكائن هو الشمس أو القمر أو النجم أو الروح القاطن في الوثن الذي ينحته بيديه.. ولكنه يعلم في كل حالة أنه هناك. أنه موجود. وأنه إله، وأنه معبود، فيتقدم إليه بالشعائر، ويلتزم نحوه بلون معين من السلوك.
رغبة أخرى من رغبات الإنسان لا تقل عمقا في نفسه عن رغبة السيطرة ورغبة الخلود، يحس فيها الإنسان بالعجز المطلق الذي لا تحده حدود، تلك هي رغبته في استكناه الغيب!
الرغبة في معرفة الغيب قديمة قدم الإنسان على الأرض، وستظل تصاحبه طالما كان هناك بشر يعيشون في الأرض!(1/616)
يريد الإنسان أن "يطمئن" على حياته.
كم سيعيش؟
هل يسلم من الأحداث؟
هل يستمتع بالقوة والصحة والنشاط والحيوية فيما قدر له من العمر؟
هل يحقق أحلامه؟ يتزوج ويسعد ويحصل على الثروة والجاه.. أو يكون بطلا مجاهدا.. أو يكون زعيما قائدا.. أو..
ماذا يكسب غدا؟
بأي أرض يموت؟
عشرات من التساؤلات ومئات.. يريد أن يعرفها "ليطمئن"..
ويروح يستكنه الغيب فلا يقدر..
لا غيب السنوات القادمة ولا الشهور ولا الأيام، بل غيب الساعات القليلة القادمة.. بل غيب اللحظة المقدمة عليه. التي دخل أولها من الباب وما زال آخرها محجوبا بحجاب!
كيف يقدر والغيب وراء الأستار؟!
هل تنزاح الأستار؟!
يمضي الإنسان -في جاهليته- نحو الكاهن والعراف، يستلهمه أمر الغيب، ويتعلق بكل كلمة تخرج من شفتيه كأنها أسرار الغيب الحقيقي.. ولكن.. هل يستيقن؟ هل "يطمئن"؟
وحين يهتدي يعرف أن الكاهن والعراف والمنجم وضارب الرمل والشياطين والجن كلهم محجوبون مثله عن الغيب، فيكف عن طلب الغيب منهم، ولكن هل تغادره الرغبة في أن يعلم سر الغيب ويطمئن على نفسه ومن يحبهم من حوله ويخاف عليهم؟
يروح يستلهم حسه الباطن.. ويستلهم الرؤى.. ويستلهم تلك القوة الخفية في نفسه التي تقدر على الاستشفاف.. ولكن هل يستيقن؟ هل "يطمئن"؟.
كلا! إنه يشعر بالعجز الكامل عن النفاذ وراء الأستار، ويظل الغيب المحجوب ملفعا بالحجاب..
عندئذ يتحول الحس إلى الكائن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ لأنه هو العليم بكل شيء، وهو خالق الأحداث والأشياء وكل شيء سائر بمشيئته وحده لا بمشيئة أحد سواه.(1/617)
ويهتدي فيعرف أن الله الحق علام الغيوب، أو يضل فيظنه كائنا آخر.
ولكنه يعلم دائما أن أسرار الغيب مكشوفة للكائن العلوي الذي يخلق ويبدع وينتهي إليه مصير كل شيء.. فيعبده لونا من العبادة، ويلتزم نحوه بلون من السلوك.
تلك بعض منافذ الفطرة التي تتلقى إيقاعات الكون والحياة، فتستيقظ من غفلتها إن كانت غافلة، فتروح تبحث عن الله سواء اهتدت إلى الله الحق أم ضلت في الطريق.
لذلك فإن الفطرة دائما تعرف وجود الله، وتؤمن به في داخل أعماقها، وإن ضلت عن الهدى فتصورت الله على غير حقيقته أو أشركت به آلهة مزعومة ليس لها وجود.
أما أن تنكر الفطرة وجود الله أصلا، وتقول إن الخلق قد وجد بلا خالق.. فبدعة في الضلال غير مسبوقة في التاريخ.
صحيح أن الحس البشري بحكم الإلف أو العادة يتبلد..
يتبلد على المنظر المكرور فلا يعود يهزه كما هزه أول مرة. ويتبلد على المعنى المكرور أو الحدث المكرور فلا يعود يستجيش مشاعره كما استجاشها أول مرة، فيعيش في وسط الآيات غافلا عن دلالتها ويموت قلبه فلا يتحرك لمعنى الألوهية كما ينبغي له أن يتحرك.. فيعيش كما تعيش السائمة:
{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.
وصحيح أن البشرية حين يطول عليها الأمد "تتعب" من الإيمان بما لا تدركه الحواس، وتتجه إلى المحسوس، فتنشئ آلهة محسوسة تعبدها من دون الله أو تعبدها مع الله، في صورة أوثان وأصنام، أو في صورة بشر، أو في صورة أفلاك.. وذلك لأن الإيمان بما لا تدركه الحواس يستلزم أن يكون الإنسان في وضعه الطبيعي -أو الفطري- كما خلقه الله، تعمل كل أجهزته في وقت واحد، فتعمل أجهزة الإدراك الحسي جنبا إلى جنب مع أجهزة الإيمان المعنوي أو الإيمان بما لا تدركه الحواس، عملا فطريا طبيعيا متناسقا ينتج عنه الإيمان بالله عن طريق رؤية آياته في الكون، والإيمان به إيمانا مباشرا عن
__________
1 سورة الأعراف: 179.(1/618)
طريق الروح، فيعمق كل منهما الآخر فيصل إلى درجة اليقين.
فإذا طال على البشرية الأمد يحدث "هبوط" في كيان الإنسان، يعطل أجهزة الإدراك المعنوي تعطيلا جزئيا أو كاملا، وتبقى أجهزة الإدراك الحسي هي التي تعمل، وعلى قدر الهبوط يكون نوع الشرك ودرجته، فيظل صاحبه مؤمنا بالله ويشرك به آلهة محسوسة، أو يؤمن بالآلهة المحسوسة وحدها من دون الله.
وصحيح أن البشرية في حالة هبوطها تجنح إلى ثقلة الأرض فتشدها الشهوات إلى أسفل، فتتفلت من تكاليف الدين والتزاماته، تتفلت من "قيد الإنسان" الذي تصاحبه "حرية الإنسان" وتجنح إلى "حرية الحيوان" التي تصاحبها قيود الحيوان1 ولكنها -في مبدأ أمرها على الأقل- تحب أن تسند هذا التفلت بأمر شرعي!
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} 2.
ورويدا رويدا تحتاج إلى اختراع آلهة تسند إليها ذلك التفلت، من البشر أو غير البشر، تتخذ أربابا مع الله أو من دون الله:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.
وصحيح أن الطغاة في الأرض يضيقون بالقيد الرباني الذي يجعلهم عبيدا لله ككل العبيد، خاضعين لأمره منفذين لشريعته، ويريدون أن يكون لهم السلطان الطاغي في الأرض، ويريدون أن يكون الولاء لهم لا لله، فيضيقون دائما بديانة التوحيد، وبإخلاص العبادة لله وحده، فيفرضون أنفسهم بالقوة الغاشمة وبالإرهاب أربابا من دون الله أو مع الله، هم الذين يشرعون، وهم الذين يفرضون التشريع، وهم الذين يعاقبون "عبيدهم" إذا خرجوا على ذلك التشريع.
وفي هذه الحالات كلها يقع الشرك الذي تجنح إليه البشرية كلما ضلت الطريق، ولكنها في كل حالاتها السابقة لم تكن تنكر وجود الله.
وحتى فرعون حين قال لموسى عليه السلام {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4.
__________
1 انظر الفصل القادم.
2 سورة الأعراف: 28.
3 سورة التوبة: 31.
4 سورة الشعراء: 23.(1/619)
وحين قال لهامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} 1.
وحين قال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2.
وحين قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 3.
لم يكن ينكر وجود إله خالق لهذا الكون، ولم يكن يقصد أنه هو الإله الخالق، والدليل على ذلك قول الملأ من قومه له:
{أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ} 3.
فقد كان له إله يعبده، هو الذي يؤمن بأنه خالق السموات والأرض وخالق الكون كله4, وعلى الرغم من أنه -كما سجلت الآثار الفرعونية- كان يدعى "الإله ابن الإله" وكانت تقدم له شعائر التعبد من ركوع وسجود كما كانت تقدم لقيصر وكسرى، إلا أن ألوهيته وبنوته للإله الأكبر كانت في حسه كما هي في حس "الجماهير" من قومه ألوهية مجازية لا حقيقية. وكان يقصد من أقواله لموسى وهامان ولقومه أمرين في آن واحد: الأمر الأول أن الإله الذي يتحدث عنه موسى، ويقول إنه مرسل من عنده، ويعطي نفسه بناء على ذلك سلطانا يأمر به فرعون وينهاه، ويطلب منه أن يطلق سراح بني إسرائيل، هذا الإله لا وجود له، وموسى كاذب في دعواه بوجوده، وبإرساله من عنده، إنما الإله الموجود حقيقة هو الإله الذي يعبده هو وقومه، وينحتون له التماثيل ويرسمون له الرسوم، الإله المحسوس الذي تعبده الجاهلية هبوطا منها عن الإيمان بما لا تدركه الحواس، والأمر الثاني -وهو مشتق من الأول- أنه يقول لقومه خاصة: ما علمت لكم من سلطة تأمر فتطاع إلا سلطتي، فأطيعوني ولا تطيعوا ذلك الخارج عن سلطاني، والذي يزعم أنه صاحب الكلمة التي ينبغي أن تطاع.
وحتى النمرود حين حاج إبراهيم في ربه؛ لأنه يرى نفسه ملكا ذا سلطان وإبراهيم فرد من أفراد "الشعب" لا يحق له أن يناقش صاحب السلطان ولا يأمره ولا ينهاه.. لم يكن يعتقد أنه هو الإله الخالق، إنما كان يصدر عن كبر
__________
1 سورة غافر: 35, 36.
2 سورة النازعات: 24.
3 سورة الأعراف: 127.
4 هو الإله "آمون" الذي يرمزون له بقرص الشمس.(1/620)
أجوف بإزاء إبراهيم عليه السلام، ولكن في حماقة أشد من حماقة فرعون الذي كان يعلن على الملأ أن له إلها يعبده هو وقومه.. أما النمرود فقد جره الاستكبار على إبراهيم إلى الادعاء بأن له سلطانا في الأرض يشبه سلطان الله، وأنه -مثل الله- يحيي ويميت! حتى حاجة إبراهيم عليه السلام فأخرسه:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} 1.
وهذا الشرك -الذي ينجم عن مثل الأسباب التي ذكرناها في الفقرة السابقة- هو الذي يبعث الرسل لتقويمه وتصحيحه، ويوقع الوحي الرباني على ذات الأوتار التي خلقها الله في الفطرة، وجعلها تهتز لإيقاعات الكون والحياة. فتستيقظ من غفلتها إن كانت غافلة، وتروح تبحث عن الله لتعبده وتخشاه.
فعن الكون بضخامته المعجزة ودقته المعجزة وما يحدث فيه من حركة معجزة يقول الوحي الرباني:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} 4.
__________
1 سورة البقرة: 258.
2 سورة البقرة: 64.
3 سورة الأعراف: 54.
4 سورة لقمان: 10.(1/621)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 1.
وعند قدرة الله لا في الخلق فحسب، بل في تنويع الخلائق كذلك:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 4.
وفي أطوار الجنين:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 5.
وفي عجائب الخلق في الأرض عامة وفي الإنسان خاصة:
{وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} 6.
وفي الموت والحياة:
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 7.
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
__________
1 سورة الفرقان: 45, 46.
2 سورة الأنعام: 99.
3 سورة الرعد: 4.
4 سورة فاطر: 27, 28.
5 سورة المؤمنون: 12-14.
6 سورة الذاريات: 20, 21.
7 سورة الملك: 1, 2.(1/622)
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1.
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.
في جريان الأحداث:
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3.
وفي العجز البشري مقابل القدرة الإلهية:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ، أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4.
وفي علم الغيب خاصة:
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... } 5.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 6.
__________
1 سورة الزمر: 42.
2 سورة غافر: 68.
3 سورة آل عمران: 26, 27.
4 سورة الطور: 35-43.
5 سورة الرعد: 8-11.
6 سورة سبأ: 2, 3.(1/623)
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2.
والقرآن كله في الحقيقة توقيعات على أوتار القلب البشري لاقتلاع كل دواعي الشرك واستنبات بذرة الإيمان.
فأما الغفلة التي ترين على القلب بحكم الإلف والعادة، فالقرآن يستعرض آيات الله في الكون بطريقة موحية تعرضها كأنما يشهدها الحس لأول مرة. فيتلقى شحنتها كاملة، ويتيقظ لدلالتها يقظة كاملة. فإذا استثير الوجدان بالآيات المعروضة على هذا النسق الفريد، قال له الحقيقة المطلوبة: "ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون" فيتلقى الوجدان الحقيقة حية متحركة تزيل عنه الغفلة وتذهب عنه "الران".. فيتطلع القلب إلى الله، شاعرا بعظمته، مقرا بألوهيته وربوبيته، مستيقنا بوحدانيته، فيعبده وحده بلا شريك.
وأما الهبوط الذي تهبط به البشرية عن الإيمان بما لا تدركه الحواس، فإن القرآن يعيد الروح البشرية إلى طلاقتها وإشراقها، تارة بعرض سعة الكون الهائلة وإحاطة قدرة الله بها، وتارة بعرض الدقة المعجزة في الكون وارتباطها بقدرة الله, وتارة بعرض إحاطة علم الله بكل ما في الكون من أشياء وأشخاص وأحداث، وتارة بعرض مشاهد القيامة حية مجسمة كأنها الحاضر الذي يعيشه الإنسان في هذه اللحظة، والحياة الدنيا كأنها ماض كان منذ زمان سحيق، وتارة باستجاشة الوجدان بآيات رحمة الله بالإنسان ورعايته له في سرائه وضرائه، وتارة بعرض هيمنة الله المطلقة على كل شيء في هذا الكون، سماواته وأرضه وأفلاكه، وناسه وأحداثه، سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة، يوم يبعث الموتى ويعرضون للحساب {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} 3، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} 4.
__________
1 سورة لقمان: 34.
2 سورة الأنعام: 95.
3 سورة طه: 108.
4 سورة طه: 111.(1/624)
وحين يخاطب القرآن "الإنسان" كله، من جميع جوانبه، وفي كل حالاته، يعود إلى وضعه الفطري، فتعمل أجهزته كلها في وقت واحد، فتعود لأجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس حيويتها الطبيعية، فيؤمن الإنسان بالله الذي {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1 بلا جهد يبذله في ذلك الإيمان، بل بشعور عميق بالطمأنينة والرضا والاسترواح والسكينة التي تغمر القلوب.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 2 فتصبح لحظات القلق هي لحظات البعد عن النور الإلهي الفياض وساعات الرضا هي ساعات الاقتراب.
وأما ثقلة الشهوات التي تجنح بالإنسان إلى التفلت من أمر الله، وتؤدي به في النهاية إلى ألوان مختلفة من الشرك، فإن القرآن يرفع الإنسان عنها بتوسيع آفاقه، ورفع اهتماماته، وتوجيه طاقاته إلى جوانب الخير في الحياة. فيحدث "التسامي" أو "التصعيد" الذي يطهر النفس من الأرجاس:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 3.
وحين تصل النفس إلى هذه الرفعة فإنها لا تعود تستنكر القيد الرباني وتسعى إلى التفلت منه، بل تحس أنه القيد الذي يمنح الإنسان الحرية اللائقة به.. حرية الإنسان. وتعود تنفر من ذلك الهبوط الذي كانت تتشهاه من قبل، وتلمس فيه القيود الكريهة التي لم تكن تراها من قبل.. قيود الحيوان.. وعندئذ تقبل النفس على الله راضية بعبادته وحده دون سواه.
وأما الطغاة الذين يستعبدون الناس في الأرض، ويصنعون من أنفسهم
__________
1 سورة الأنعام: 103.
2 سورة الرعد: 28.
3 سورة آل عمران: 14-17.(1/625)
أربابا مع الله أو من دون الله، ويسوقون الناس إلى الشرك في نهاية المطاف، فالوحي الرباني يجند النفوس المؤمنة لجهادهم وإجلائهم من الأرض على أساس من إخلاص العبادة لله، ذلك الإخلاص الذي يتضمن الاعتقاد اليقيني في القلب بوحدانية الله، والتوجه بالشعائر التعبدية لله وحده، وتحكيم شريعة الله وحدها، ورفض أي شريعة أخرى لم يأذن بها الله.
وبهذه الوسائل كلها مجتمعة تفيء الفطرة إلى سوائها، وتعود إلى صفائها، ويصبح الإنسان في أحسن تقويم.
ولقد كانت "مؤهلات" الشرك كلها قائمة في الجاهلية المعاصرة منذ "النهضة الأوروبية" إلى اليوم، مما ران على القلوب من غفلة، ومن الهبوط الذي يعطل أجهزة الإيمان بما لا تدركه الحواس، ومن الهبوط الخلقي واتباع الشهوات. ومن تحكيم غير شريعة الله.
ولكن لأمر ما لم تؤد هذه "المؤهلات" بأوروبا إلى الشرك -كما كان شأنها في الجاهليات السابقة- ولكنها أدت بها إلى الإلحاد!
ولا بد من وقفة لدراسة هذا الأمر الذي لا مثيل له من قبل في كل جاهليات التاريخ.
الكنيسة الأوروبية -بحماقاتها- هي المسئول الأول عن ذلك ولا شك.
فهذه الحماقات هي التي أدت إلى جعل العلم بديلا من الدين، وجعل السبب الظاهر بديلا من السبب الحقيقي، وجعل الطبيعة بديلا من الله.
فالعلم - في وضعه الطبيعي- ليس بديلا من الدين، إنما هو نافذة من نوافذ المعرفة التي تؤدي في النهاية إلى المعرفة الحقة بالله، ومن ثم إلى إخلاص العبادة لله، حين يدرك العقل البشري عظمة الخلق ويطلع على أسراره العجيبة التي تحير الألباب:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1.
وحين قالت أوروبا إن الدين قد أخلى مكانه للعلم وإن العلم هو البديل من الدين، لم تكن تتحدث عن حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة.. إنما كانت تتحدث عن "واقع" حدث في أوروبا بسبب حماقة الكنيسة حين حاربت العلم والعلماء، وخيرتهم بين اتباع الخرافة للمحافظة على "الدين" -دينها الذي
__________
1 سورة فاطر: 28.(1/626)
ابتدعته وشكلته على حسب أهوائها- وبين اتباع العلم والخروج من الدين.
وقد اختار العلماء اتباع العلم؛ لأنهم يعرفون قدره. ويعلمون أنه أحق بالاتباع من الخرافة، فلما طردتهم الكنيسة من "الدين" كان العلم -بالنسبة إليهم- هو البديل من الدين، لا لأنه في الحقيقة بديل عنه، ولا لأنه بطبيعته يغني عنه، ولكن لأن حماقة الكنيسة وضعت الأمور في هذا الوضع.
والسبب الظاهر ليس بديلا عن السبب الحقيقي؛ لأنه يفسر فقط كيف تحدث الأشياء على النحو الذي تحدث به، ولكنه لا يفسر لماذا كانت الأشياء على هذا النحو!
فقانون السببية يفسر كيف يتحول الماء إلى بخار بالتسخين، ولكنه لا يفسر لماذا كان التسخين يحول الماء إلى بخار! فلولا أن الله خلق الماء على النحو الذي يجعله التسخين يتحول إلى بخار ما تحول!
بعبارة أخرى: إن العلم بخواص المادة يفسر لنا الظواهر التي تحدث في عالم المادة، ولكنه لا يفسر لنا لماذا كانت المادة بهذه الصورة وبهذه الخواص، ذلك أن هذه الصورة ليست هي الصورة الوحيدة الممكنة عقلا.. بل هي إحدى الصور الممكنة، وقد كان يمكن -لو أراد الله- أن تكون على صورة أخرى وذات خواص مختلفة. فالذي جعلها على هذه الصورة، وأعطاها هذه الخواص هو مشيئة الله وحدها. وهذا هو السبب الحقيقي الذي لا يغني عنه معرفة السبب الظاهر، وإلى ذلك تشير سورة الواقعة:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} 1.
وحين قال علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعده إن السبب الظاهر بديل من السبب الغيبي، أو إن "الطبيعة" بديل عما "وراء الطبيعة" لم يكن ذلك حقيقة موضوعية ولا حقيقة مطلقة.. إنما كان "واقعا" عاشته أوروبا بسبب
__________
1 سورة الواقعة: 58-70.(1/627)
حماقة الكنيسة، التي كانت تمنعهم -أو لا تتيح لهم- أن يبحثوا عن السبب الظاهر، وتبرز لهم السبب الغيبي وحده مع إبقائهم في ظلمات الجهل، فلما اكتشفوا السبب الظاهر، وانبهروا "بالعلم" الذي كشف لهم -عن طريق معرفة السبب الظاهر- آفاقا لم يكونوا يعرفونها من قبل. كان الأمر الواقع بالنسبة إليهم أن السبب الغيبي لم يعلمهم شيئا عن ظواهر الكون المادي من حولهم، وأن السبب الظاهر هو الذي علمهم؛ ومن ثم كان وضع السبب الظاهر بديلا من السبب الغيبي هو الأنسب لهم والأكسب! فقالوا قولتهم من واقعهم الضيق الذي عاشوه، وخيل إليهم في بهرة "العلم" أن ما يقولونه هو الصواب!
وحين جعلت أوروبا الطبيعة بديلا من الله لم يكن ذلك -كما بينا في فصول الكتاب الأولى- إلا مهربا من إله الكنيسة الذي تستعبد الناس باسمه وتفرض عليهم الإتاوات والعشور، والخضوع المذل لرجال الدين، مع محاربة العلم، والحجر على حرية الفكر، ومع الوقوف الظالم مع رجال الإقطاع ضد المطالبين بالإصلاح.. ولم يكن قط حقيقة علمية، وإن بلغ الحمق "بالعلماء" أن يصدقوا الخرافة، ويقدموها على الحقيقة، ويصنعوا ذلك باسم "العلم"1.
ولكن هذا كله على أي حال كان إلحاد "العلماء" و"الفلاسفة" و"المفكرين" أما الجماهير فكانت ما تزال تؤمن "بالدين" ولا نتعرض هنا لما كان في ذلك الدين الذي آمنت به الجماهير من تحريف وتشويه وخرافة.. وإنما نتحدث عنه باعتبار أنه "دين" يحوي على أقل تقدير إيمانا بوجود الله وإيمانا بالوحي، وإيمانا باليوم الآخر، وفي مقابل "اللادين" ... في مقابل الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله، وإنكار الوحي، وإنكار اليوم الآخر ...
كيف انتقلت الجماهير من الدين إلى اللادين؟
الكنيسة هي المسئول الأول ما تزال..
والفتنة بالعلم من الأسباب.
والعودة إلى "الحضارة الإغريقية" أو بالأحرى "الجاهلية" الإغريقية الوثنية هي كذلك من الأسباب. فقد كانت تلك الجاهلية بالذات تصور العلاقة بين الإنسان والآلهة علاقة صراع وخصام متبادل. الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتستذله، وتتشفى في كل مصيبة يقع فيها, والإنسان يريد أن يلقي(1/628)
عنه نير الآلهة وينطلق بفاعليته دون قيود1.
والعودة إلى "الحضارة" الرومانية أو بالأحرى "الجاهلية" الرومانية هي كذلك من الأسباب، فقد كانت تلك الجاهلية بالذات تزين للإنسان لذائذ الحس والفتنة بها إلى حد الاستغراق مع كل ما تبدعه في الأرض من رقي مادي وتنظيم، ولكن هذه الأسباب كلها مجتمعة كان يمكن أن تؤدي إلى الشرك -كما أدت إليه في كل جاهلية سابقة- ولم يكن من الضروري -ولا من الطبيعي- أن تؤدي إلى الإلحاد بين الجماهير.
إنما الذي نشر الإلحاد في الأرض -تأسيسا على هذه الأسباب كلها، واستغلالا لها- كانوا هم اليهود!
كتب اليهود في "البروتوكولات"2 أنهم سينشرون الإلحاد في الأرض ... وقد نشروه بالفعل.
الثورة الفرنسية.. الداروينية.. الثورة الصناعية ... النظريات "العلمية" التي تهاجم الدين والأخلاق والتقاليد ... إنشاء مجتمع بلا دين ولا أخلاق ...
ما بنا من حاجة لأن نعيد شيئا مما قلناه من قبل3, وإنما نُذَكِّر فقط بهذه الحقيقة: أن اليهود استغلوا الأحداث التي هيأتها لهم حماقة الكنيسة، وردود الفعل التي نشأت من تلك الحماقة، فركبوا الموجة إلى نهايتها، ونفذوا كل ما في جعبتهم من مخططات الإفساد في الأرض، لاستحمار الأمميين واستعبادهم لصالح الشعب الشرير.
والإلحاد بالذات هدف أساسي من أهداف المخطط الشرير.. فالهدف الأخير من المخطط كله هو إزالة كل دين في الأرض، ليبقى اليهود وحدهم في الأرض أصحاب الدين!
__________
1 راجع أسطورة "بروميثيوس" سارق النار المقدسة، وانظر إن شئت ملخصا لها في كتاب "قبسات من الرسول".
2 بعض الذين يتمسكون "بالمنهج العلمي" يشككون في حجية كتاب "البروتوكولات" كوثيقة ويضعون في الاحتمال أن يكون بعض الناس قد تقولوا عليهم ما جاء في البرتوكولات. ونحن لا نقطع بصحة الكتاب من الناحية الوثائقية البحتة. ولكن ذلك -في نظرنا- لا يؤثر في صدق ما جاء في ثنايا الكتاب! لأنه سواء كان هذا الكلام كلام اليهود بالفعل أو كلام إنسان أتيح له أن يطلع على فكر اليهود ويترجمه في هذه الصورة، فإن كل ما جاء فيه قد نفذ بالفعل! جاء فيه أنهم سينشرون الإلحاد ونشروه. وجاء فيه أنهم سينشرون الشيوعية ونشروها, وجاء فيه أنهم
سيضحكون على الأمميين بشعار الحرية والإخاء والمساواة وضحكوا بالفعل, فسواء كان هذا كلامهم أو كان ترجمة أفكارهم فالنتيجة الأخيرة واحدة.. أن هذه مخططاتهم وقد نفذوها بالفعل في غفلة من الأمميين!
3 راجع فصل "دور اليهود في إفساد أوروبا" في أوائل الكتاب.(1/629)
إن اليهود في هذه المرة لم يفسدوا عقائد الأمميين كما كانت محاولاتهم السابقة في التاريخ، إنما أفسدوا فطرتهم. وقد أسلفنا القول بأن الفطرة -وإن ضلت- لا تتجه إلى الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله. وإنما تتجه إلى الشرك. فاتجاهها إلى لإلحاد في الجاهلية المعاصرة ليس مجرد ضلال ككل ضلال سابق، إنما هو فساد في أعماق الفطرة قام به اليهود استغلالا للأرضية الفاسدة التي كانت قائمة في أوروبا منذ "النهضة". وسواء كان الجهد الذي بذلوه في هذا الشأن عسيرا أو ميسرا فقد استغرقوا قرابة قرنين من الزمان حتى وصلوا به إلى صورته الشاملة الموجودة اليوم في الأرض، سواء في المعسكر الشرقي حيث يفرض الإلحاد فرضا في مناهج التعليم ووسائل الإعلام ويعاقب من يضبط "متلبسا" بمجرد الحديث في الدين لفتى أو فتاة دون سن الرشد ...
أو المعسكر الغربي حيث لا يفرض الإلحاد على الناس بتلك الصورة ولكن يشجع الناس عليه بكل وسائل التشجيع!
والإلحاد لا يستحق منا مناقشة "علمية" جادة؛ لأنه ليس من الأمور الجادة التي عرضت للبشرية في مسيرتها على هذه الأرض. إنما هو عبث صنعه الشياطين وأوقعوا فيه المستغفلين من الأممين في فترة كانوا فيها {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 1 ولقد كانت "الحمر" فارة من طغيان الكنيسة وحماقاتها، فأسرع الشياطين فركبوها وألهبوا ظهورها بالسياط لتجري إلى آخر المشوار، بدلا من أن تفيق من نفرتها المجنونة وتفيء إلى الدين الصحيح الذي يخلصها من كل ما كانت تشكو منه من مشكلات أو انحرافات أو حماقات..
وقد تحدثنا في مقدمة هذا الفصل عن بعض منافذ الفطرة التي توصلها إلى الإيمان بوجود الخالق المدبر المهيمن المسيطر, سواء عرفته على حقيقته فعبدته العبادة الحقة أم تصورته على غير حقيقته وأشركت به آلهة آخرى، وما بنا من حاجة إلى مزيد في مثل بحثنا الحاضر. ولكنا هنا -في هذا الفصل- بصدد شيء واحد هو التأكيد على هذه الحقيقة: أن الإلحاد ليس من شأن الفطرة حتى في حالة ضلالها، وأنه أمر مصطنع، لا تصل إليه الفطرة من تلقاء نفسها مهما وصل بها الحال من الضلال.
__________
1 سورة المدثر: 50, 51.(1/630)
ونكتفي بالتعرض لنقطة واحدة مما جاء في التواءات الجاهليين المعاصرين في شأن الدين، أو في شأن الإلحاد.
تلك هي قولة جوليان هكسلي في كتابه "الإنسان في العالم الحديث Man in the Modren World" إن الإنسان قد خضع لله بسبب عجزه وجهله. والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله.
نعوذ بالله.
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
نفترض جدلا أن العجز والجهل -وحدهما- هما سبب خضوع الإنسان لله في صورة دين وعقيدة وعبادة ... فما الذي تغير في حياة الإنسان المعاصر ليخرجه من الخضوع لله؟!
تلك القشور من العلم التي وصل إليها، وهذا القدر الضئيل من السيطرة على "البيئة"؟!
فأما العلم فندع "ول ديورانت" الفيلسوف المعاصر يتحدث عنه في كتاب "مباهج الفلسفة":
"ما طبيعة العالم؟ ما مادته وما صورته؟ وما مكوناته وهيكله؟ وما مواده الأولى وقوانينه؟ وما المادة في كيفها الباطن وفي جوهر وجودها الغامض؟ وما العقل؟ أهو على الدوام متميز عن المادة وذو سلطان عليها؟ أم هو أحد مشتقات المادة وعبد لها؟ أيكون كلا العالمين: الخارجي الذي ندركه بالحس والباطني الذي نحسه في الشعور، عرضة لقوانين ميكانيكية أو حتمية كما قال الشاعر "ما يكتبه الخالق في مطلع النهار نقرؤه في آخر النهار"؟ أم ثمة في المادة، أو في العقل، أو في كليهما، عنصر من الاتفاق والتلقائية والحرية؟.. هذه أسئلة يسألها قلة من الناس.. ويجيب عليها جميع الناس، وهي منابع فلسفاتنا الأخيرة، التي يجب أن يعتمد عليها في نهاية الأمر كل شيء آخر. وفي نظام متماسك من الفكر.. إننا نؤثر معرفة الإجابات عن هذه الأسئلة على امتلاك سائر خيرات الأرض.
__________
1 سورة غافر: 56.(1/631)
"ولنسلم أنفسنا في الحال لإخفاق ما مناص منه. لا لأن هذا الباب من الفلسفة يحتاج إلى إتقانه إلى معرفة كاملة ومناسبة بالرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والميكانيكا وعلم الحياة وعلم النفس فقط، بل لأنه ليس من المعقول أن نتوقع من الجزء أن يفهم الكل ... فهذه النظرة الكلية -وهي فتنتنا في هذه المغامرات اللطيفة- ستبعد عن فكرنا جميع الفخاخ والمفاتن، ويكفي أن نأخذ أنفسنا بقليل من التواضع وشيء من الأمانة، لنتأكد أن الحياة في غاية من التعقيد والدقة بحيث يصعب على عقولنا الحبيسة إدراكهما، وأكبر الظن أن أكثر نظرياتنا تبجيلا قد يكون موضع السخرية والأسف عند الآلهة العليمة بكل شيء1. فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نفخر باكتشاف مهاوي جهلنا! وكلما كثر علمنا قلت معرفتنا؛ لأن كل خطوة نتقدمها تكشف عن غوامض جديدة، وشكوك جديدة "فالجزيء" يتكشف عن "الذرة" والذرة عن الالكترون "الكهرب" والالكترون عن الكوانتوم" Quantum" "الكويمية" ويتحدى الكوانتوم سائر مقولاتنا "Categories" وقوانينا وينطوي عليهما.
والتعليم تجديد في العقائد وتقدم في الشك، وآلاتنا كما ترى مرتبطة بالمادة وحواسنا بالعقل.. وفي خلال هذا الضباب يجب علينا نحن "الزغب" على الماء، أن نفهم البحر2.
وعن تقلب "العلم" يقول:
"إلى أي نجم بعيد ذهبت نظريتنا السديمية المشهورة؟ هل يؤيدها علم الفلك الحديث أو يسخر من وجهها المغبر؟ ".
"وأين ذهبت قوانين نيوتن العظيم حين قلب أينشتين وميكوفسكي وغيرهما الكون رأسا على عقب بمذهب النسبية غير المفهوم؟
"وأين مكان نظرية عدم فناء المادة وبقاء الطاقة في الفيزيقا المعاصرة، وما يكتنفها من فوضى وتنازع؟ ".
"وأين إقليدس المسكين اليوم، وهو أعظم مؤلف للمراجع العلمية، ليرى كيف يصوغ الرياضيون لنا أبعادا جديدة بحسب أهوائهم، ويبتدعون لا متناهيات يحتوي أحدها الآخر كجزء منه، ويثبتون في الفيزيقيا -والسياسة كذلك- أن الخط المستقيم هو أطول مسافة بين نقطتين؟ ".
__________
1 انظر أثر الجاهلية الإغريقية في انحرافات الفكر الغربي.
2 ص61, 62 من الترجمة العربية "ترجمة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني".(1/632)
"وأين علم الأجنة ليرى أن "البيئة الناشئة" تحل محل "الوراثة" التي كانت إله العلم1؟ وأين "جريجوري" و"مندل" الآن ليشهدا انصراف علماء الوراثة عن "وحدة الصفات"؟ وأين "داروين" الهدام الدقيق ليرى كيف حلت طريقة "التغيرات السريعة" محل "الاختلافات الذاتية والمتصلة" في التطور؟ وهل هذه التغيرات هي الثمرة المشروعة لاختلاط الهجائن؟ وهل نضطر إلى الرجوع في تفسيرنا للتطور إلى الوراء عند نظرية "انتقال الصفات المكتسبة"؟ أنجد أنفسنا وقد عدنا مرة أخرى أكثر من قرن إلى الماضي نعانق رقبة زرافة "لامارك"؟
"وماذا نصنع اليوم بمعمل "الأستاذ فونط "Wundt" وباختبارات "استانلي هول" حين لا يستطيع أي عالم نفساني منا أتباع السلوكيين أن يكتب صحيفة واحدة في علم النفس الحديث دون أن يلقي بمخلفات أسلافه في الهواء؟ ".
"وأين علم التاريخ الحديث اليوم حيث يضع كل عالم في تاريخ قدماء المصريين كشفا بالأسرات وتواريخها على هواه، ولا يختلف عن كشوف غيره إلى ببضعة آلاف من السنين؟! وحيث يسخر علماء الأجناس من "تيلور" و"وستر مارك" و"سبنسر"؟ وحيث يجهل "فريزر" كل شيء عن "الدين البدائي" لأنه قد رحل إلى العالم الآخر؟.
فماذا أصاب علومنا؟ هل فقدت فجأة قداستها وما فيها من حقائق أزلية؟ أيمكن أن تكون "قوانين "الطبيعة" ليست سوى فروض إنسانية؟ ألم يعد هناك يقين أو استقرار في العلم؟ "2.
وعن "حقيقة" المادة يقول:
"وأول شيء نكشفه هو أن المادة القديمة غير المتحركة التي وصفتها طبيعيات القرن التاسع عشر قد ذهبت. وكانت "مادة" تندال وهكسلي غير فاسدة. فهي تقعد وتنام أنى وضعتها، كذلك الصبي البدين في قصة "أوراق بكويك"3 وهي تقاوم بكل ما فيها من وقار الحجم والثقل كل جهد لتحريكها، أو لتغيير وجهة حركتها متى أخذت في الحركة، وبين "برجسون" في يسر شديد أن مادة
__________
1 انظر إلى أثر الجاهلية الإغريقية مرة أخرة.
2 ص23, 24 من الترجمة العربية.
3 قصة مشهورة لشارل ديكنز، وكان مستر بكويك بطل القصة. "المترجم".(1/633)
في مثل هذا الخمود لا يمكن أبدا أن تفسر الحركة، ومن باب أولى لا تحدث الحياة والعقل. ولكن رجال الطبيعة مع ذلك، كما كتب برجسون، كانوا في سبيلهم إلى هجر تصور المادة خامدة. وإلى الكشف فيها عن حيوية لا ريب فيها. فهذه مثلا الكهرباء لا يمكن تفسيرها في صيغ من الخمود والذرات. فما هذه القوة الخفية التي تضاف إلى الكتلة فتزيد في طاقتها ولكنها لا تضيف شيئا إلى أبعادها وثقلها؟ وكيف تسري الشحنة الكهربية في سلك أو في الهواء اللاسلكي؟ أهي شيء يتحرك في داخل السلك والذرات؟ فهناك إذن ذرات أصغر من الذرات؟ وما الذي يتحرك في تلك الموجات الكهربية التي تكاد تبلغ في سرعتها سرعة الضوء نفسه؟ أهي الذرات؟ أو "الأثير" أو لا شيء؟ وفي أشعة إكس، عندما تمر شرارة كهربية في فراغ باعثة أشعة تنفذ من جدران الأنبوبة وتغير من اللوح الحساس كيمائيا، فما هذا الذي يمر خلال الفراغ أو الجدران؟ وعندما بدت المادة نشيطة لا تفرغ، كما هو الحال في الراديوم، وبدت الذرات "التي لا يمكن أن تنقسم" منقسمة إلى ما لا نهاية، وأصبحت كل ذرة نظاما كوكبيا من الشحنات الكهربية تدور حول شيء لا يزيد جوهره عن شحنة كهربية أخرى ...
فأي مأزق وقعت المادة فيه حين فقدت كتلتها ووزنها وطولها وعرضها وعمقها وعدم قابليتها للنفاد، وسائر تلك الخصائص الثقيلة التي ظفرت باحترام كل مفكر واقعي؟ أكان الخمود أسطورة؟ أيمكن أن تكون المادة حية؟ "1.
"لقد كانت هناك دلائل من قبل على وجود هذه الطاقة في المادة. فالتماسك والتآلف، والتنافر، كانت توحي بها. ويبدو اليوم من المحتمل أن تكون هذه الصفات وكذلك الكهربية والمغناطيسية صورا من "الطاقة الذرية" وهي ظواهر ترجع إلى حركات الالتكرونات الدائبة في الذرة.. ولكن، ما الالكترون؟ أهو جزء من "المادة" يظهر في ثوب من الطاقة؟ أو هو مقدار من الطاقة منفصل تمام الانفصال عن أي جوهر مادي؟ ولا يمكن أن نتصور الفرض الأخير! ويقول ليبون "قد يمكن ولا ريب لعقل أسمى من عقلنا أن يتصور الطاقة بغير مادة ... ولكن مثل هذا التصور في غير مقدورنا. فنحن لا نستطيع أن نفهم الأشياء إلا بوضعها في الإطار المتشرك لأفكارنا. ولما كانت ماهية الطاقة مجهولة فنحن
__________
1 انظر المحاولة الملتوية للتخلص من التحدي القائم في نشأة الحياة من الموات. وهو التحدي الذي يؤدي -فطرة- إلى الإيمان بالله.(1/634)
مضطرون إلى صوغها صياغة مادية حتى نفكر فيها" فنحن كما يقول برجسون ماديون بالطبع. فقد ألفنا التعامل مع المادة والأمور الميكانيكية، ولذا لم ننصرف عنها كي ننظر في أنفسنا فإننا نتصور كل شيء كآلة مادية. ومع ذلك فإن أوستولد "Ostwald" يصف المادة على أنها صورة من الطاقة وحسب.
ويرد رذرفورد الذرة إلى وحدات الكهرباء الموجبة والسالبة، ويعتقد لودج أن الالكترون لا يشتمل على نواة مادية أكثر من شحنته. ويقول ليبون ببساطة: "المادة صورة مختلفة من الطاقة" ويقول ج. ب. س. هالدين: "يعتبر بعض الناس من أقدر المفكرين في العالم اليوم المادة كمجرد ضرب خاص من الاضطراب التموجي". ويقول إدنجتون: "إن المادة مركبة من بروتونات والكترونات، أي: شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء، فاللوح هو في الحقيقة مكان فارغ مشتمل على شحنات كهربية مبعثرة هنا وهناك" ويقول هوايتهيد: "إن مفهوم الكتلة في طريقه إلى فقدان امتيازه الوحيد، باعتبارها المقدار الواحد الدائم في النهاية.. فالكتلة الآن اسم لكمية من الطاقة في علاقتها ببعض آثارها الديناميكية". وإلى هذه المرتبة الوضيعة سقط الجبار ورجعنا إلى بوسكوفيتش "Boscovich"1 الجزويتي القديم، إلى تلك العبارة غير المفهومة: من أن المادة التي تشغل "المكان" مركبة من نقط لا وجود لها! وفي ذلك يقول نيتشه: "لقد كان بوسكوفيتش وكوبرنيق حتى الآن أعظم خصمين وأكثرهما نجاحا في دحض شهادة العيان". فلا غرابة أن يستنتج ديوي أن "مفهوم المادة الذي يوجد بالفعل في تطبيق العلم لا يمت بصلة إلى مادة الماديين"".
"أيمكن أن يكون شيء أكثر غموضا وغرابة من هذا القول الذي يقوله علماء الطبيعة من أن "المادة" بمعنى "الجوهر المتحيز" Spatial قد بطلت عن الوجود؟ فهم يقولون إن الالكترونات ليس فيها شيء من خصائص المادة، فهي ليست صلبة، ولا سائلة، ولا غازية، وهي ليست كتلة، أو صورة، وانحلالها إلى نشاط إشعاعي يلقي شكوكا على أعز عقيدة في العلم الحديث، أي: عدم قابلية المادة للفناء ... ولنسمع رأي أحد علماء الطبيعة مرة أخرى "إن عناصر الذرات التي تنحل تفنى تماما، فهي تفقد كل صفة للمادة، بما في ذلك الثقل وهو أكثر
__________
1 فيلسوف يوغسلافي من دلماشيا أذاع في بلاده فلسفة نيوتن "المترجم".(1/635)
صفاتها أساسية. ذلك أن الميزان يعجز عن وزنها ولا شيء يستطيع أن يعيدها إلى حالة المادة، فقد اختفت في عظمة الأثير.. والحرارة والكهرباء والضوء إلى غير ذلك.. تمثل آخر مراحل المادة قبل اختفائها في الأثير.. والمادة التي تنحل تخرج عن ماديتها بمرورها في حالات متتابعة تنتزع منها تدريجيا صفاتها المادية، حتى تعود في النهاية إلى الأثير الذي لا يمكن وزنه، ذلك الأثير الذي يبدو أنها نشأت عنه".
"الأثير؟.. ولكن ما هو الأثير؟ لا أحد يعرف! ليس الأثير فيما يقول لورد سالسبوري إلا اسما على الفعل "يتموج" والأثير خرافة ابتدعت لإخفاء الجهل المثقف للعلم الحديث. فهو غامض غموض الشبح أو الروح! وافترض أينشتين وجود الأثير حين أعاد تفسير الجاذبية، وعزم أخيرا أن يدخره إلى حين مع تحديد سلطانه! وكلما يعجز عالم من علماء الطبيعة ويتحير يقول: "الأثير"!
ويقول الأستاذ ادنجتون أحدث حجة في هذا الموضوع: "ليس الأثير نوعا من المادة، فهو لا مادي"".
"ومعنى ذلك أن شيئا لا ماديا يحيل نفسه إلى مادة بوساطة بعض الالتواءات "Contortions" الغامضة "دوامات "Voritces" كما سماها كيلفن" ويصبح ذلك الذي لم يكن له بعد أو ثقل، بإضافة أجزاء منه بعضها إلى بعض، مادة متحيزة، ويمكن أن توزن. أهو اللاهوات قد أعيد؟ أم هو علم مسيحي جديد؟ أم هو صورة من البحث الطبيعي؟ وفي الوقت الذي يحاول علم النفس بكل سبيل أن يتخلص من "الشعور" حتى يرد "العقل" "للمادة" يأسف علم الطبيعة في تقريره أن المادة لا توجد! ولقد قال نيوتن متعجبا: "أيتها الطبيعة احفظيني مما بعد الطبيعة "الميتافيزيقا" فياللأسف لن تقدر الطبيعة أن تفعل أكثر من ذلك".
"يقول برتراندرسل: "يقترب علم الطبيعة من المرحلة التي يبلغ فيها الكمال "وجميع الدلائل تدل على العكس من ذلك ... أما هنري بوانكاريه فيرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى، فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف أين يقف، وقد تغيرت الأفكار الأساسية عن الطبيعة تغيرا تاما في العشرين السنة الأخير فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما، ولم تسمح أعمال كوري ورذرفورد سودي وأينشتين ومينكوفسكي لأي تصور قديم عن الطبيعة النيوتونية بالبقاء، وكان لابلاس يحسد نيوتن؛ لأنه كشف(1/636)
النظام الوحيد للعالم وحزن على عدم وجود نظم أخرى تكشف! ولكن عالم نيوتن قد انتحى اليوم جانبا، ولم يعد التثاقل "Gravitation" مسألة جاذبية "Attraction" وتمزقت "قوانين" الحركة في كل جهة بنظرية النسبية، وقد كانت الفلسفة تبحث ذات يوم في "الأشباح" والمجردات، وكان العلم يبحث في "المادة" و"المحسوس" و"الحقائق الواقعة"، أما الآن فعلم الطبيعة مجموعة مستورة "Esoteric" من القوانين المجردة، "وفكرة المادة مفقودة بالكلية في الدوائر العلمية"1. وكان على الفلسفة أن تتنحى جانبا "ولا يزال بعض الناس يتوقعون موتها خلال خمسين عاما" أما العلم فعليه أن يحل مشكلاتنا. والآن في الوقت الذي يحمل رجل الشارع العلم والعلماء جميع أفكار الإلهام واليقين التي كانت متصلة ذا يوم بالإنجيل والكنيسة2, يقال لنا في تواضع إن: "البحث العلمي لا يفضي إلى معرفة طبيعة الأشياء الباطنة""3. "ص68-73 من الترجمة العربية".
وأما السيطرة -أو قل العجز- فقد تحدثنا عنه في إحدى فقرات هذا الفصل، وبينا أنه عجز دائم أصيل لا يؤثر فيه ولا ينقص منه هذا القدر من السيطرة الذي يحققه الإنسان "بالعلم" "والتكنولوجيا" وإن فتت الذرة وأطلق طاقتها، وإن ركب الصواريخ وطاف بها في أرجاء الكون؛ لأن الذي يرغب فيه الإنسان، ويحس بالعجز عن تحقيقه هو أمر بالنسبة إليه مستحيل التحقيق: أن يسيطر سيطرة كاملة على الكون. أن يقول للشيء كن فيكون. أن يخلد في الأرض. أن يعلم الغيب. وبعض هذه كان من المغريات التي أغرى بها الشيطان آدم منذ بدء الخليقة:
{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ! 4.
ومن هنا فإن الشعور بالعجز شعور دائم ملازم للإنسان في كل أحواله وفي جميع أوضاعه، وليس إنسان العصر الحديث ناجيا منه حتى يقول جوليان
__________
1 ادنجتون ص274.
2 يقصد الدين.
3 ادنجتون ص303.
4 سورة الأعراف: 20.(1/637)
هكسلي إنه قد آن للإنسان أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1.
ونحب أن نضيف إلى ذلك أن الإنسان السوي يعلم أن ما يحققه من تسخير طاقات السموات والأرض ليس "اغتصابا" من الإله كما تصور ذلك الأساطير الإغريقية المجنونة، حتى يكون مبررا للخروج على طاعة الله، بله التبجح بإنكار وجود الله كما تفعل الجاهلية المعاصرة، إنما هو من قدر الله للإنسان، ومن رحمة الله بالإنسان, ومن فضل الله على الإنسان؛ لأنه هو الذي سخره ابتداء للإنسان، ثم أعانه على تحقيقه:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 2.
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 3.
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 5.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 6.
وأخيرا، فنحن نزعم أن الدين من الفطرة، وهم يزعمون أنه طلل بال ينبغي أن تزال آثاره، ليحل محله "العلم" و"الإلحاد".
ونحن نستشهد عليهم من أنفسهم كما أشرنا من قبل.
__________
1 سورة الروم: 7.
2 سورة الجاثية: 13.
3 سورة البقرة: 31.
4 سورة النحل: 78.
5 سورة الملك: 15.
6 سورة إبراهيم: 32-34.(1/638)
نستشهد عليهم برائد الفضاء الأول "يوري جاجارين" الذي قال بعد هبوطه من الفضاء في المؤتمر الصحفي العالمي الذي أعد لاستقباله: "حين صعدت إلى الفضاء أخذتني روعة الكون فمضيت أبحث عن الله"!
ولا عبرة "بالتصحيح" الذي أضافته الدولة على تصريحه أو أمرته أن يضيفه، فقال:
"فمضيت أبحث عن الله فلم أجده"!
إنه تمحل واضح ...
ولا يمكن أن يكون "جاجارين" قد قاله ابتداء! فما الذي يجعله يتحدث عن الله ابتداء إذا كان قصده هو النفي، ولا أحد من الحاضرين قد أثار القضية حتى يتعرض لنفيها؟! إنما المعقول أن يكون ذكره لله ابتداء للإثبات لا للنفي.
لإثبات استجابة "الفطرة" الطبيعية لعظمة الكون وروعته حين رآه لأول مرة من خارج الغلاف الجوي, فرآه في صورة مختلفة عما تبلد عليه حسه بحكم الإلف والعادة ... فاتجهت الفطرة اتجاها تلقائيا إلى فاطر السموات والأرض، رغم كل "الإلحاد" الذي صبته الدولة في قلبه وفكره منذ مولده إلى لحظة انطلاقه في الفضاء.
وهي شهادة "أفلتت" من المعسكر الملحد بغير قصد منه ولا تدبير:
{سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1.
ونستشهد عليهم بما يقوله "علماء" من علمائهم، تربوا في "الإلحاد العلمي" فألجألهم "العلم" ذاته إلى الإيمان بوجود الله، وتكتفي بهذه المقتطفات من كتاب "العلم يدعو للإيمان"2 وكتاب "الله يتجلى في عصر العلم"3 فهي تغنينا عن المزيد.
يقول "أ. كريسي موريسون" رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك:
"في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري.. فالدبور مثلا يصيد الجندب النطاط، ويحفر حفرة في الأرض، ويخز الجندب في المكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ، وأنثى الدبور تضع بيضا في
__________
1 سورة فصلت: 53.
2 تأليف كريسي مويسون ترجمة محمود صالح الفلكي.
3 تأليف جماعة من العلماء ترجمة الدكتور صالح الدمرداش عبد الحميد سرحان.(1/639)
المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها فيكون ذلك خطرا على وجودها. ولا بد أن يكون الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض.. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية: ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة".
"وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض أو ترحل فرحا ثم تموت، فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية وهي لا تعلم ما يحدث لصغارها، أو أن هناك شيئا يسمى صغارا، بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها"1.
"وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء، وينشئ النمل ما هو معروف "بمخزون الطحن" وفيه يقوم النمل الذي أوتي فكاكا كبيرة معدة للطحن، بإعداد الطعام للمستعمرة. وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين يأتي الخريف, وتكون الحبوب كلها طحنت فإن "أعظم خير لأكبر عدد" يتطلب حفظ تلك المئونة من الطعام، وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان. فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود, ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي، إذ كات له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه".
"وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير "واختر منهما ما يحلو لك" إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته "بحدائق الأعشاش" وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق، "وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية" فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له".
"والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب.. وبينما تضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها، وتستخدم صغارها -التي تقدر أن تغزل الحرير وهي في الدور اليرقي- لحياكتها معا, وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة".
__________
1 ص129, ص130 من كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان".(1/640)
"فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ ".
"لا شك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك"1.
ويقول عالم الطبيعة، "فرانك آلن":
"ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات الكون تفقد حرارتها تدريجيا وأنها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة.. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت".
"أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث، ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليست لقدرته حدود. ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه"2.
ونكتفي بهذه المقتطفات ولا نحتاج إلى المزيد، فهي كلها ناطقة بمدى سخف تلك البدعة الضالة التي نشرها الشياطين في الجاهلية المعاصرة، حين يسرت لهم "الحمر المستنفرة" أن يركبوها ويهيموا بها في وديان الضلال!
أما الذين يحسون اليوم أن "وجودهم الذاتي" أو مجدهم الذاتي مرتبط باعتناق الإلحاد بدلا من اعتناق الدين، فهم فقاقيع ستنفثئ غدا حين تعود البشرية إلى رشدها.. ونحسب أنها -بحكم الظروف كلها- عائدة إليه، ما لم يكتب الله عليها الفناء! 3.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} 4.
__________
1 مقتطفات من كتاب "العلم يدعو للإيمان" ص131, 132.
2 من كتاب "الله يتجلى في زمن العلم"ص5, 6.
3 انظر الفصل القادم.
4 سورة الرعد: 17.(1/641)
الإسلام ومستقبل البشرية:
تفزع أوروبا من الدين كما يفزع الملدوغ من الحبل.. ولو كان بالنسبة إليه حبل النجاة!
وأوروبا تسيطر اليوم بقوتها السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية على العالم كله، وتجر البشرية معها إلى الهاوية بسبب ذلك الموقف الأحمق المفزع من الدين!
ولقد زعمت الجاهلية المعاصرة في أول أمرها في عصر النهضة أنها تستطيع أن تدير ظهرها للدين ثم تظل تمارس الحياة بصورة طبيعية لا يعتورها نقص ولا اختلال. بل زعمت أنها حين تتخلص من الدين فستعالج ما كان في حياتها من نقص واختلال! ولقد كانت ظروفها كما بينا من قبل تؤدي بها إلى الانسلاخ من ذلك الدين الذي يعكر صفو الحياة، ويعطل دفعتها، وينشر الجهالة، ويحجر على الفكر ويحجب عن البشرية النور.
وحين بدأت أوروبا تنسلخ من دينها لم يكن في مقدورها أن تنسلخ دفعة واحدة من "القيم" التي كانت تصاحب ذلك الدين، وربما لم يكن ذلك في نيتها في مبدأ الأمر.
فراح القوم -مخلصين فيما نحسب- يبحثون عن مصدر آخر للقيم التي لا يمكن أن تعيش بدونها البشرية.
ولكن التجربة العلمية أثبتت أنه لا يوجد مصدر حقيقي للقيم غير الدين! قالوا العقل.. وقالوا الطبيعة.. وقالوا النفس البشرية ... وقالوا العلم.. وقالوا الفلسفة ... وقالوا كل ما يخطر في بالهم، ثم خرجوا من ذلك كله بما وصلوا إليه آخر الأمر: القلق والجنون والضياع والحيرة والأمراض النفسية والعصبية والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة والانحلال والمسخ الذي يشوه الفطرة.. والهبوط الخلقي والفكري والروحي في كل ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والدول كلها على السواء! وتحول الإنسان إلى آلة للإنتاج المادي في صباحه، وحيوان(1/642)
هائج في الليل يبحث عن المتاع الحسي الغليظ، ويبحث عنه أحيانا في تبذل يتعفف عنه بعض أنواع الحيوان!
وتلك نهاية طبيعية لبعد الناس عن الدين، وهي تجربة مكرورة في تاريخ البشرية وإن ظنت الجاهلية المعاصرة أنها تجربة "رائدة" تخوضها البشرية لأول مرة؛ لأنهم -في جهالتهم "العلمية"- لا يقرءون التاريخ، أو لا يحبون أن يأخذوا العبرة من التاريخ!
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} 1.
ثم إن الإنسان عابد بطبعه كما بينا في الفصول السابقة من الكتاب فلا تستطيع أن تحول الإنسان من العبادة إلى "اللاعبادة". إنما تستطيع أن تحوله من نوع من العبادة إلى نوع آخر، وليس الخيار -كما خيل للجاهلية المعاصرة- بين العبادة وعدم العبادة، إنما الخيار فقط في المعبود ... هل يكون هو الله جل جلاله أم يكون شيئا آخر غير الله.
الخيار -بالتعبير القرآني الحاسم- هو بين عبادة الله وعبادة الشيطان.
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2.
وصراط الله المستقيم واحد، ولكن سبل الشيطان كثيرة متعددة:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3.
والمعبودات في الجاهلية المعاصرة شتى، والسبل إليها متعددة، من عبادة "الدولار" إلى عبادة الهوى والشهوات، مرورا "بالإنتاج" و"المصالح القومية" و"العلم" و"العقل" و"التقدم" و"التطور" و"الحرية الشخصية" و"الطبيعة" و"الإنسانية" ... ولكل معبود من هذه المعبودات تكاليفه والتزاماته التي ينبغي أن تطاع..
فأين يذهب الإنسان حين يخرج من الدين، أي: من عبادة الله؟
__________
1 سورة يونس: 101.
2 سورة يس: 60, 61.
3 سورة الأنعام: 153.(1/643)
تقول الجاهلية المعاصرة إنه "يتحرر" من "القيد".
نعم! يتحرر من "القيد الإنساني" ليقع في قيود الحيوان!
فالقضية كما قلت مرة في كتاب "في النفس والمجتمع" ليست خيارا بين القيد والحرية كما يتوهم الناس لأول وهلة حين ينفلتون من الدين والقيم المصاحبة له. إنما الخيار هو بين قيد من نوع معين يصاحبه نوع معين من الحرية، وبين حرية من نوع آخر يصاحبها نوع آخر من القيود. قيد الإنسان ومعه حرية الإنسان، أو حرية الحيوان ومعها قيد الحيوان1.
الدين قيد لا شك فيه؛ لأنه التزام بما أنزل الله.. قيد على شهوات النفس وقيد على أهواء الإنسان.. ولكنه في الوقت ذاته يحرر الإنسان من ضغط الشهوات وثقلة الأرض والخضوع المذل للقوى القاهرة التي تقهر الإنسان في الأرض ممثلة في بشر يستبدون بالبشر، أو ضغوط مادية واقتصادية تسحق كرامة الإنسان.
والانفلات من الدين والقيم المصاحبة له هو "تحرر" دون شك. تحرر من القيود التي فرضها الله على الإنسان في تصرفاته، والحدود التي رسمها للناس وقال لهم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 2 {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} 3. ولكنه في الوقت نفسه يمسك الإنسان من خطامه، ويجره من حبل الشهوات أو من حبل الضغوط القاهرة فلا يملك ألا يستجيب!
وحين انفلت الناس في الجاهلية المعاصرة من قيد "الدين" فقد وقعوا في عبوديات لا حدود لها. سواء للحاكمين عليهم، الذين لا يحكمون بما أنزل الله، فيتخذون من أنفسهم أربابا يشرعون للناس، ويخضعونهم لهم بالسلطان القاهر، أو لشهواتهم التي لا يملكون الفكاك منها، أو لأعراف وقيم وموازين ما أنزل الله بها من سلطان، كلها تهبط بالإنسان من مكانه الكريم الذي كرمه الله به يوم خلقه، وتمرغه في الأوحال.
فهل هذه هي "الكرامة" التي يحققها الإنسان لنفسه حين يتمرد على الدين ويخرج من عبادة الله؟
__________
1 انظر -إن شئت- فصل "القيد والحرية" من كتاب في النفس والمجتمع.
2 سورة البقرة: 229.
3 سورة البقرة: 187.(1/644)
كلا! وما تستطيع البشرية أن تستمر في الحياة على هذه الصورة.
فمن ناحية تظل أمراضها الرئيسية تتضاعف؛ لأنها تعرض عن تناول الدواء.
ومن ناحية أخرى تصيبها السنة الحتمية التي لا تتبدل ولا تتخلف ولا يتغير مجراها على مر الدهور:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.
ولقد مضت السنة الربانية مع أوروبا في جاهليتها المعاصرة خطوة خطوة: نسوا ما ذكروا به ففتح عليهم أبواب كل شيء، من قوة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية وسياسية.. إلخ ففرحوا بما أتوا، أي: طغوا في الأرض بغير الحق، ولم تبق إلا الخطوة الأخيرة حتى تتم السنة بتمامها. وهي أخذهم بغتة إذا أصروا على ما هم فيه. والبغتة هي دائما بغتة وإن رأى بعض الناس بوادرها وتوقعوا حدوثها.
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2.
و"العقلاء" في الجاهلية المعاصرة بدءوا يتخوفون على أقوامهم من الدمار المؤكد إن لم يغيروا حياتهم من قواعدها.
قال الفيلسوف الإنجليزي المعاصر "برتراند راسل" في تصريح له:
"لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض.. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانونا من قوانين الطبيعة3 وأعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياما رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون ... "4.
وقال "جون فوستر دالاس" وزير خارجية أمريكا في كتاب "حرب أم سلام":
__________
1 سورة الأنعام: 44, 45.
2 سورة النحل: 45-47.
3 لا يريد الرجل أن يقول "السنن الربانية" فيسميها -بفعل الجاهلية- قوانين الطبيعة!
4 عن المستقبل لهذا الدين "ص55".(1/645)
"إن هناك شيئا ما يسير بشكل خاطئ في أمتنا، وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية، ولا يجدر بنا أن نأخذ موقفا دفاعيا "لعله يقصد تبريريا" وأن يتملكنا الذعر، إن ذلك أمر جديد في تاريخنا".
"إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية. إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون ما لدينا قليلا. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها، فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية فإن النتائج السيئة تصبح أمرا حتميا".
"وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس وتآكل لأرواحهم. وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي -كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس أن تقوم بحمايتنا في هذه الظروف"1.
وقال "ألكسيس كاريل" في كتاب "الإنسان ذلك المجهول":
"إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا، فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف ... وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا -ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية- بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري" "ص11, 12 من الترجمة العربية لشفيق أسعد فريد".
"إن الحضارة الغربية تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى
__________
1 عن المستقبل لهذا الدين "ص83".(1/646)
الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا ... " "ص28".
"يجب أن يكون الإنسان مقياسا لكل شيء، ولكن الواقع هو عكس ذلك فهو غريب في العالم الذي ابتدعه، إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه؛ لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته, ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية.. فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا.. إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقيا وعقليا.. إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من غيرها إليها.. ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها.. وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها أوجدت أحوالا معينة للحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة، وذلك لأسباب لا تزال غامضة.. إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ... " "ص44".
"الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة، وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري.. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره.. وعرفنا أنه لا يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها "التكنولوجيا" وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله، وأن العلم والميكانيكا ليسا مسئولين عن حالته الراهنة، وإنما نحن المسئولون؛ لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع ... لقد نقضنا قوانين الطبيعة1, فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى، الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائما.. إن مبادئ "الدين العلمي" والآداب الصناعية" قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة "البيولوجية" فالحياة لا تعطي إلا إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد "الأرض المحرمة".. تضعف السائل! ولهذا فإن الحضارة آخذة في الانهيار ... "ص322"2.
__________
1 انظر كيف يتأثر الرجل بالعرف الجاهلي رغم كل ثورته على الجاهلية المعاصرة!
2 عن المستقبل لهذا الدين "ص72-75".(1/647)
ولكن تخوف هذه القلة القليلة من "العقلاء" في خضم الجاهلية المجنونة لن ينقذها من الدمار إلا أن تصيخ لصوت العقل وتعود إلى الله!
ولقد كان الدين الذي انسلخت منه الجاهلية المعاصرة دينا فاسدا؛ لأنه من صنع البشر ... دينا لا يصلح للحياة. ولقد كانت -وهي تنسلخ منه- على مشارف الرشد.. ولكنها ضلت الطريق..
وعلى البشرية اليوم -إن أرادت النجاة من الهاوية المحتومة- أن تبحث عن الدين الحق. الدين الذي يؤمن العقيدة الصحيحة في الله، والمنهج الصالح للحياة.
الدين الذي لا يوجد فصاما مصطنعا بين الإيمان بالغيب والإيمان بالمحسوس، بين الإيمان بالعقيدة والإيمان بالعلم، بين نشاط الروح ونشاط الجسد، بين الدنيا والآخرة، بين العمل والعبادة، بين التقدم المادي والحضارة والالتزام بالقيم "الإنسانية".. ولا بين أي جانب من الكيان البشري السوي وجانب آخر.
الدين الذي يقيم حضارة "إنسانية" متكاملة؛ لأنه يأخذ الإنسان كله ولا يهمل جانبا منه، لا يهمل قبضة الطين من أجل إشراقة الروح، ولا يهمل إشراقة الروح من أجل قبضة الطين، ولا يهمل عمارة الأرض في جميع جوانبها وأشكالها من أجل الفوز بالخلاص في الآخرة. ولا يهمل أمر الخلاص في الآخرة من أجل عمارة الأرض. لا يهمل المشاعر الدينية الشفافة الرفيعة المرفرفة من أجل النظر العلمي والتجربة العلمية. ولا يهمل النظر العلمي والتجربة العلمية من أجل شفافية المشاعر الدينية. لا يهمل القيم الخلقية من أجل "النجاح" في الأرض، ولا يهمل النجاح في الأرض من أجل القيم الخلقية.
الدين الذي يؤمن العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل الاقتصادي، والذي يؤمن في الوقت ذاته التجدد والنمو في الحياة البشرية.
الدين الذي ينشئ الحضارة التي تليق بالإنسان الذي صوره الله في أحسن صورة، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق:
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ(1/648)
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2.
ولن يكون هذا الدين إلا الإسلام، فهو عند الله هو الدين:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 3.
وهو الذي تمت به نعمة الله على البشر واكتمل به شرع الله ومنهجه:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 4.
وهو الذي يشهد واقعه -وقت أن طبق في عالم الواقع- أنه أنشأ تلك الحضارة "الإنسانية" المتكاملة التي شملت كل جوانب الحياة وكل جوانب النفس البشرية، والتي كانت للإنسانية كلها نورا وهداية، والتي استمدت منها أوروبا العلم والحضارة حين انبعثت -بعد احتكاكها بالمسلمين- تطلب النهوض.
وحين تعنتق أوروبا هذا الدين فلن تحتاج أن تتخلى عن شيء من تقدمها العلمي والمادي والتكنولوجي، ولا شيء من عبقريتها التنظيمية، ولا شيء من جلدها الدءوب على العمل والإنتاج، وهي العوامل التي حفظت لها بقاءها حتى هذه اللحظة، وإن كانت -كما أشار جون فوتسر دالاس- لا تستطيع أن تحميها من الدمار الحتمي الذي يجره عليهما غياب "الروح".
كلا! لا تحتاج أن تتخلى عن شيء من ذلك، إنما تحتاج فقط أن تقيم ذلك كله على قاعدته الصحيحة وهي الإيمان بالله وتطبيق منهجه في الأرض، كما تحتاج أنت تتخلى عن عبوديتها للمادة وعبوديتها للشهوات.
والمسلمون بطبيعة الحال يحملون المسئولية الكبرى في هذا الشأن، فهم الذين أخرجهم الله ليكونوا هداة البشرية في الحياة الدنيا، والشاهدين عليها يوم القيامة:
__________
1 سورة غافر: 64.
2 سورة الإسراء: 70.
3 سورة آل عمران: 19.
4 سورة المائدة: 3.(1/649)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3.
ولن يكونوا شهداء على الناس يوم القيامة حتى يؤدوا الشهادة في الدنيا لهذا الدين، بإقامته في الأرض كما أمر الله، والدعوة إليه كما أمر الله، فتقوم الحجة على الناس إن قبلوه فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فقد أعذرت الأمة الإسلامية إلى ربها. ويوم القيامة يشهدون على الناس أمام ربهم، لقد أقمنا الدين في الأرض كما أمرتنا، ودعونا الناس إليه كما أمرتنا فأعرضوا فحق عليهم الجزاء.
والمسلمون اليوم في حضيض من الذلة والهوان والضعف والتخلف لم يهبطوا إلى مثله في تاريخهم كله بسبب تخلفهم عن هذا الدين، وإضاعة عقائده وأحكامه، والغفلة عنه، والتفريط فيه.
ولكنهم يحملون مسئوليتهم مع ذلك، مسئوليتهم نحو أنفسهم، ومسئوليتهم نحو البشرية، لا يعفيهم منها كل ما وقعوا فيه من الهوان والذلة، بل إن ذلك كله ليضاعف مسئوليتهم، فإنهم ما وقعوا فيه إلا لتفريطهم في هذا الدين الذي قال الله فيه:
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} 4.
فماذا هم قائلون لربهم غدا حين يسألهم؟!
وأي وزر يحملونه إذا احتاجت إليهم البشرية غدا فلم تجدهم في المكان الذي ينبغي أن يكونوا فيه، مكان الأمة التي تحمل الهدي الرباني وتبينه للناس؟!
فأما الله سبحانه وتعالى فلن يعجزه تخاذل الذين يحملون اسم الإسلام اليوم
__________
1 سورة آل عمران: 110.
2 سورة آل عمران: 104.
3 سورة البقرة: 143.
4 سورة الزخرف: 43, 44.(1/650)
وهم غافلون عنه، إذا أراد أن يهدي البشرية غدا إلى الدين الحق، فقد قال يحذر المسلمين من قبل:
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1.
فإذا أراد الله للبشرية الهدي فسيقيض لهذا الدين من يحمله وينافح عنه كما قال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2.
وإنا لنرى بواكير هذا الفضل الرباني في حركات البعث الإسلامي التي تنبعث اليوم من كل مكان في الأرض، تسعى إلى تحقيق الإسلام في الواقع، وتجاهد في سبيل الله لا تخاف لومة لائم، وتتعرض لأبشع ألوان التعذيب الوحشي، ثم تظل صامدة في سعيها إلى إقامة هذا الدين في الأرض كما أمر الله. كما نرى بواكير هذا الفضل فيمن يدخلون في هذا الدين في أوروبا وأمريكا من البيض والسود بعشرات الألوف ويتزايدون على الدوام.
أما البشرية فقد بدأت طلائعها على الأقل تضيق بالضياع والحيرة وتتلمس الطريق إلى النور، والنور هو دين الإسلام.
يقول "توينبي" في محاضرته التي أشرنا إليها من قبل:
"صحيح أن الوحدة الإسلامية نائمة، ولكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ إذا ثارت البروليتاريا العالمية للعالم المتغرب3 ضد السيطرة الغربية ونادت بزعامة معادية للغرب. فقد يكون لهذا النداء نتائج نفسانية لا حصر لها في إيقاظ الروح النضالية للإسلام، حتى ولو أنها نامت نومة أهل الكهف، إذ يمكن لهذا النداء أن يوقظ أصداء التاريخ البطولي للإسلام".
وهناك مناسبتان تاريخيتان كان الإسلام فيهما رمز سمو المجتمع الشرقي في انتصاره على الدخيل الغربي:
__________
1 سورة القتال: 38.
2 سورة المائدة: 54.
3 يقصد الدول الخاضعة للنفوذ الغربي.(1/651)
"ففي عهد الخفاء الراشدين، بعد الرسول حرر الإسلام سوريا ومصر من السيطرة اليونانية التي أثقلت كاهلهما مدة ألف عام تقريبا".
"وفي عهد نور الدين وصلاح الدين والمماليك احتفظ الإسلام بقلعته أمام هجمات الصليبيين والمغول".
"فإذا سبب الوضع الدولي الآن حربا عنصرية فيمكن للإسلام أن يتحرك ليلعب دوره التاريخي مرة أخرى.. وأرجو ألا يتحقق ذلك! "1.
أما نحن فنرجو أن يتحقق ذلك! لا على أساس حرب عنصرية كما يقول توينبي، الذي يحصر تصوراته في حدود التفكير الغربي الضيق الأفق، بل على أساس من الصراع الصحيح بين الحق والباطل الذي قال الله فيه:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 2.
نرجو أن يتحقق ذلك لا بوصفنا مسلمين فحسب، بل انطلاقا من كل الحب الذي نكنه للبشرية ... لكي تهتدي إلى النور.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 3.
__________
1 ص73 من الترجمة العربية.
2 سورة الحج: 40, 41.
3 سورة يوسف: 21.(1/652)
الفهرس:
صفحة
5 مقدمة.
9 التمهيد الأول: الدين والكنيسة، نبذة تاريخية.
9 أولا: تحريف الدين.
25 ثانيا: طغيان الكنيسة ورجال الدين.
53 ثالثا: فساد رجال الدين.
58 رابعا: الرهبانية وفضائح الأديرة.
63 خامسا: مهزلة صكوك الغفران.
67 سادسا: محاكم التفتيش.
70 سابعا: مساندة الكنيسة للظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
76 الخلاصة.
79 التمهيد الثاني: دور اليهود في إفساد أوروبا.
93 1- النظريات العلمية.
119 2- واقع المجتمع الصناعي.
178 الديمقراطية.
258 الشيوعية:
259 تمهيد:
268 أولا: المادية الجدلية.
270 1- المادة: أزليتها وأبديتها، وأسبقيتها في الوجود على الفكر.
273 2- قوانين المادة التي تحكم الطبيعة وتحكم البشرية كذلك.
281 ثانيا: المادية التاريخية:
283 1- التفسير المادي للتاريخ.
293 2- التفسير المادي للدين والأخلاق والأسرة.
305 تقويم النظرية المادية.
385 التفسير الجاهلي للتاريخ.
391 التفسير الإسلامي للتاريخ.
410 ثالثا: المذهب الاقتصادي بين النظرية والتطبيق.
414 النظرية الشيوعية.
423 بين النظرية والتطبيق.
440 بين الشيوعية والإسلام.(1/653)
صفحة
445 العلمانية
463 1- في السياسة.
471 2- في الاقتصاد.
477 3- في الاجتماع.
479 4- في العلم.
483 5- في الأخلاق.
487 6- في الفن.
495 العلمانية والإسلام.
500 العقلانية.
554 القومية والوطنية.
589 الإنسانية.
605 الإلحاد.
642 الإسلام ومستقبل البشرية.(1/654)