آيات القتال في سورة الأنفال (دراسة وتحليل)
( د. عبد الحق عبد الدائم القاضي (1) ()
مُقَدِّمَة:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين [ص: 29].
والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، النبي الأمي، الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد،
فإنَّ ما تعيشه الأُمَّة الإسلامية في هذه الفترة من تحديات الأعداء وغطرستهم، يتطلب اليقظة، ورص الصفوف، ونبذ الخلافات، وتوحيد الكلمة، حتى تستطيع أنْ تجاهد عدوها في الداخل والخارج. وهذا أمر واجب محتم عليها لا مفر لها منه.
إنَّ ما حلَّ بالمسلمين من ذل، وهوان، ومصائب، وفرقة، وصراع، وغير ذلك مما لا يخفى، سببه هو نسيانهم وتخليهم عن فريضة الجهاد، فما ترك قوم الجهاد إلاَّ ذلوا، وهذا هو الواقع فعلاً.
وعلى الأُمَّة أنْ تقتدي برسولها وقائدها، "فلقد بادر بعد الهجرة بإرسال السرايا، وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة شهور من الهجرة النبوية، ثم توالت هذه السرايا على رأس تسعة شهور، ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً، ثم كانت سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً، وهي أول غزوة وقع فيها قتل وقتال، وكان ذلك في الشهر الحرام، التي نزلت فيها آيات سورة البقرة [البقرة: 217].
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة" (2) . وهي التي نزلت فيها آيات القتال.
__________
(1) (() عميد الكلية العليا للقرآن الكريم ـ صنعاء (اليمن).
(2) سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، ط/9، 1400هـ، 3/1439. وانظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط/2، 1405هـ، 3/163 فما بعدها.(1/1)
إنَّ آيات القتال في كل سورة وبخاصة في سورة الأنفال حين يتلوها المقاتل أو حين يسمعها؛ تبعث في نفسه الشجاعة والجرأة على قتال العدو والثبات في وجهه، وتحفزه على قتال أعداء الله تبارك وتعالى.
إنَّها تحدد له طبيعة المعركة وحقيقة القتال وغرضه، وهي تحدث المقاتل عن صفات المؤمنين الذين يستحقون المنازل الرفيعة عند الله، والحياة الكريمة في الدنيا، فتوجهه إلى التحلي بهذه الصفات، والالتزام بهذه الخصال.
كما أنَّها تحدثه عن نعم الله سبحانه وتعالى على المسلمين في بدر من إمدادهم بالملائكة وتغشيتهم النعاس أمنة منه، وإنزال المطر ليطهرهم به، ويذهب الرجز عنهم، ويثبت أقدامهم، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين.
وآيات القتال في سورة الأنفال تحدث المقاتل عن عوامل النصر كالثبات عند اللقاء وكثرة الذكر والتزام أحكام الشرع في القتال وغيره، وطاعة القائد المسلم، واتحاد القلوب والصفوف، والصبر حتى النصر، والإخلاص في القتال، وترشده إلى الأخذ بهذه الآداب في كل المعارك.
إنَّ آيات القتال في سورة الأنفال تهدف إلى تحديد القضاء على الأنظمة التي ترهب الناس وتحول دون اختيارهم لعقائدهم بمحض إرادتهم وحرياتهم.
وإنَّها تبيِّن أنَّ القتال تحرير للإنسان من القهر والإذلال والخوف ليختار العقيدة التي يؤمن بها، ويعيش في المجتمع الإسلامي يحكم بشرع الله دون أنْ يكره على عقيدة من العقائد.
إنَّها تحمل في طياتها كثيراً من مبادئ القتال، ومن هذه المبادئ:
? أنَّ القتال ليس لمغنم ولا لسمعة؛ وإنَّما هو في سبيل الله ورفع راية الإسلام، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
? أنَّ القتال من أجل نصرة المستضعفين في الأرض من الشيوخ والنساء والولدان.
? أنَّ القتال من أجل توفير الحرية للناس في اختيار ما يعتقدونه دون إكراه.
? أنَّ القتال من أجل تأديب الغادر وزجره وإيقافه عند حده.(1/2)
? أنَّ الإثخان في القتال والتنكيل بالعدو سبب في انهيار قواه، فيضعف ولا يقوى على المقاومة مرة ثانية.
? أنَّ القتال يلقي الرعب في قلوب الأعداء البعيدين عن طريق البطش بالأعداء القريبين المقاتلين.
? الحذر الشديد والمراقبة الدائمة لحركة العدو والاستعداد لقتاله.
? أنَّ آيات القتال تأمر بإلغاء العهد مع العدو إنْ قامت الأمارات على عزمه الغدر بالمسلمين، وقبول السلم منه وفق الشروط والضوابط التي يضعها المسلمون ويرضون بها (1) .
والآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد وترغِّب فيه كثيرة، وكذا الأحاديث التي تفيض بها كتب السُّنَّة تدعو إلى الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة الله، والتوكُّل على الله وعدم الإنهزام أمام الأعداء، مع الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة بقدر المستطاع، وتقوية وسائل القتال بكل أشكالها وأنواعها.
وإنني أجد نفسي مشدوداً للكتابة حول موضوع يتعلق بالجهاد في سبيل الله، حتى نكون ممن ساهموا في هذا المجال وجاهدوا بالقلم واللسان، وهو ـ لا شك ـ نوع من أنواع الجهاد، وحتى نعيش في ظلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والسيرة العطرة.
ولهذا اخترتُ الحديث عن: "آيات القتال في سورة الأنفال (دراسة وتحليل)".
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يحرصون على قراءة هذه السورة وتلاوتها والتغني بها في المواقع الحرجة وهم يواجهون العدو، لأنَّها تبعث في نفوسهم الحماس والإقبال على القتال دون تقهقر أو تراجع، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها أحياناً في صلاة المغرب حتى يسمعها أصحابه منه، فتقوى عزائمهم وتعلو هممهم.
__________
(1) مقتبس من تفسير سورة الأنفال، للدكتور/ محمد عبد القادر أبو فارس، مكتبة المنار، الأردن، الزرقاء، 1406هـ، ص 11.(1/3)
فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بسورة الأنفال في صلاة المغرب" (1) .
لذلك سأحاول استلهام الدروس، والفوائد، والعبر، والعظات، من تلك الآيات.
ومهما حاول العلماء والباحثون الكتابة حولها فلن يعطوها حقها، كيف لا؟!! والقرآن بحر لا ساحل له، كل يغترف منه بقدر ما أعطاه الله من العلم وكثرة الإطلاع وحسن الاستنباط والغوص في بحاره لاستخراج كنوزه ودرره.
وقد قسمتُ هذا الموضوع إلى ثمانية مباحث، كل مبحث يتحدث عن مجموعة آيات، وهي عبارة عن وحدة موضوعية مترابطة.
وحاولتُ أنْ أستخلص لكل مبحث أو وحدة من تلك الوحدات القرآنية عنواناً يتناسب وما تحمله في طياتها من المعاني والعبر.
فإنْ أصبتُ فمن الله تعالى وله الحمد والمنة، وإنْ أخطأتُ فمن نفسي، وأستغفر الله أولاً وآخراً.
المبحث الأول
مقدمة لغزوة بدر
قال تعالى [الأنفال: 5-8].
ليس هذا مجال الحديث عن غزوة بدر الكبرى التي نزلت سورة الأنفال بسببها (2) .
__________
(1) انظر: فتح القدير الجامع بين فنيْ الرواية والدراية من علم التفسير، المطبعة المنيرية، 1383هـ، والحلبة 1350هـ، 2/282.
(2) فسورة الأنفال تكاد تكون كلها تتحدث عن القتال في سبيل إعلاء كلمة الله، فهي تحكي قصة أول معركة فاصلة بين الحق والباطل، ألا وهي قصة بدر الكبرى، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب السيرة النبوية إلاَّ ويتحدث عنها وما يتعلق بها من أحكام، وعبر، ومواعظ، بل ألَّف فيها تآليف مستقلة، وقد تحدث ابن هشام في كتابه: "السيرة النبوية"، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، 1/606 فما بعدها، وابن القيم في كتابه: "زاد المعاد"، 3/171-188، وسيد قطب في كتابه: "في ظلال القرآن"، 3/1453-1463، ود. أبو شهبة، محمد بن محمد في: "السيرة النبوية في ضوء القرآن والسُّنَّة"، دار القلم، دمشق، ط/1، 1409هـ، 2/123 فما بعدها.(1/4)
ولكني سأقتصر في الحديث عن هذه الوحدة القرآنية بما يتناسب وطبيعة البحث، فبعد أنْ حدث خلاف بين المقاتلين بالنسبة للغنيمة ـ وهي الأنفال ـ وتولى الله الحكم فيها، وأنَّها لله ورسوله يحكمان فيها في قوله سبحانه
جاء قوله تعالى الآيات، ليبيِّن لرسوله أنَّ المسلمين انقسموا إلى فريقين:
أحدهما: كره وجادل في قتال قريش، لأنَّه لم يكن مستعداً لذلك، وإنَّما خرج ابتداءً للعير لا للنفير. وقد ذكر أصحاب التفسير والسيرة أنَّه في شهر رمضان من السنة الثانية بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان، فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس للخروج إليها، ولم يحتفل لها احتفالاً بليغاً، بل خرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
وعندما علمت قريش بذلك خرجت بخيلها وخيلائها بطراً ورئاء الناس وللصد عن سبيل الله، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خروج قريش، فاستشار أصحابه وأخبرهم بأنَّ العير قد نجت وأنَّ قريشاً قد جمعت جموعها.(1/5)
قال ابن كثير ما ملخصه: "وروى الحافظ بن مردويه بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة: (إني أخبرتُ عن عير أبي سفيان بأنَّها مقبلة، فهل لكم أنْ نخرج قبل هذه العير لعل الله أنْ يغنمناها؟ فقلنا: نعم، فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوماً أو يومين، قال لنا: ما ترون في قتال القوم؟ إنَّهم قد أُخبروا بخروجكمّ فقلنا: ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فتكلم المهاجرون وأحسنوا، ومنهم أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ، ثم تكلم الأنصار فأحسنوا فتهلل وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وقال: (سيروا وأبشروا، فإنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين وإنّي قد رأيتُ مصارع القوم) (2) .
وكان موقف هذا الفريق من الصحابة ورغبته في لقاء العير وكرهه لمواجهة العدو لعدم استعداده لمواجهة عدوه، وليس تمرُّداً وعصياناً، لذا سماهم الله المؤمنين، وإنَّما خرج من أجل مواجهة العير، ولذلك قالوا: لو أخبرتنا لأعددنا للأمر عدته.
لأنَّ الأمر تغير فلم يصبح مقصوراً على اللحاق بالعير والاستيلاء عليها، فها هي قريش خرجت بجموعها الكثيرة، وبذلك ترجحت كفة القتال والمناجزة (3) .
والوقت ليس وقت جدال، فقد سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ الله سيحقق لهم أحد أمرين: إمَّا السيطرة على القافلة، وإمَّا النصر على قريش، فلم يبق إلاَّ
النصر على قريش، وهو الحق الذي يجادلون فيه (4) .
__________
(1) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار إحياء الكتب العربية، ومطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 2/287.
(2) المصدر نفسه، وانظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/173.
(3) د. أبو شهبة: السيرة النبوية، 2/129.
(4) د. أبو فارس: تفسير سورة الأنفال، ص 25.(1/6)
وقد اختلف العلماء في متعلق هذه "الكاف" وأوصلها بعض المفسرين إلى ما يقرب من عشرين قولاً (1) .
بينما نجد الإمام ابن الجوزي يذكر فيها خمسة أقوال، وأكتفي بذكر قول واحد من تلك الأقوال، وهو أنَّها متعلقة بالأنفال، أي: امض لأمر الله في الغنائم وإنْ كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون (2) .
أمَّا الإمام الزمخشري فقد اقتصر على ذكر وجهين: أحدهما: أنْ يرتفع محل الكاف على أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك، يعني أنَّ حالهم في كراهة تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب (3) .
ولعل هذيْن القولين هما أقرب إلى المعنى من بقية الأقوال التي يظهر عليها التكلُّف، فالكاف إذاً للتشبيه بمعنى مثل، وهي خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه، وما بعدها هو المشبه به، ووجه الشبه مطلق الكراهة، وما ترتب على ذلك من خبر للمؤمنين، والمعنى: حال بعض أهل بدر في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية، مثال حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة (4) .
__________
(1) انظر على سبيل المثال: أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، دار الفكر، بيروت، 4/459، والألوسي البغدادي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1398هـ، 3/169، والعجيلي: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، دار الفكر، بيروت، 2/226.
(2) ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير، طبعة المكتب الإسلامي، دمشق، ط/3، 1404هـ، 3/321.
(3) الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، بيروت، 2/143.
(4) د. محمد سيد طنطاوي: التفسير الوسيط للقرآن الكريم، مطبعة السعادة، 1399هـ، ص 42.(1/7)
وبعد هذا نستطيع أنْ نستخلص المعنى الإجمالي لهذه الوحدة القرآنية، حيث إنَّ الله تعالى يخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ هذه الحال المتعلقة بالغنائم وكيفية قسمتها وكراهة البعض منهم ذلك؛ تشبه حالهم عند خروجك من بيتك من المدينة بأمر الله لك لمواجهة النفير وهم كفار قريش الذين نفروا لاستئصال الإسلام والمسلمين، لقد أخرجك ربك، وأنت ملتبس بالحق وسداد الرأي، في الوقت الذي كان فريق من أصحابك المؤمنين كارهين للخروج، لأنهم لم يكونوا مستعدين للقاء العدو ومواجهته ولأنَّهم آثروا لقاء العير لما فيها من المال فقد حاولوا مجادلتك في الأمر الحق الواضح الجلي، وهذا كله بعد أنْ ظهر الحق واستبان، لأنَّ الذي لا ينطبق عن الهوى قد أخبرهم أنَّ العاقبة للمتقين وأنَّ النصر للمؤمنين، فالله قد وعد بالظفر بإحدى الطائفتين، ولا يمكن أنْ يتخلف وعد الله.
وبعد أنْ تبيَّن أنَّ أبا سفيان قد نجا بالعير ولم يبق إلاَّ النفير، فكان يجب عليهم التسليم والإذعان وعدم المجادلة لأنَّ نظرة الرسول صائبة ونظرتهم بالنسبة له قاصرة ولا تقاس الأمور بكثرة العدد والعدة، فالنصر من عند الله وهذا هو الذي حدث وتمخضت عنه المعركة.
وتبيَّن بعد الصواب وأنَّ اعتذارهم لم يكن صائباً وخورهم لم يكن لائقاً، ولقد صور الله عزَّ وجلَّ شدة خوفهم وفزعهم من عدوهم وكيف استولى عليهم ذلك كأنما أي أنَّهم يكرهون القتال ومواجهة العدو وهم على تلك الحال، كما يكره من يساق إلى الموت وهو ينظر إلى مقدماته وأسبابه، ويشاهد حتفه ومصيره، فلا مفر منه ولا هرب مهما بذل من أسباب النجاة فلن يفلت من ذلك، والسبب باتصافهم بهذه الحال أنَّهم رأوا الفرق الشاسع بينهم وبين عدوهم في العدد والعدة، ونسوا وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد [الروم: 47]، وأنَّ النصر ليس بكثرة العدد، فكم من فئة مؤمنة صادقة قليلة غلبت فئة كثيرة كافرة بإذن الله تعالى.(1/8)
ثم إنَّ الله جلَّ وعلا يذكرهم حين وعدهم إحدى الطائفتين العير ـ وهي الإبل الحاملة للأموال ـ أو النفير الذين استنفرهم أبو سفيان لحماية العير، وأنَّهم تمنوا وودوا أنَّ العير يكون لهم لما فيه من اليسر والكسب للمال، وليس فيها شوكة ولا قتال.
ولكن الإنسان يريد، والله يفعل ما يريد، فالله يريد غير ما أردتم، ويريد أنْ يمحصكم بملاقاة العدو الذي له الشوكة والقوة، وحتى تروا بأم أعينكم صدق ما وعدكم على لسان رسوله بأنَّ الدائرة تكون على أعدائكم المشركين وانتصاركم عليهم، وقتلكم لصناديدهم وأسركم للبعض الآخر منهم، وحيازتكم لأموالهم، وإذلال الكفر على أيديكم وانكسار شوكته وصولته وجولته.
وبهذا يكون الله قد أحق الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين واستأصلهم لكي يظهر دينه، ويعلي كلمته، ويدحض الباطل ويدفعه، ولو كره المجرمون والمشركون والمنافقون.
"وقد يتبادر إلى الذهن أنَّ في الآيتين تكريراً، وليس كذلك، لأنَّ المراد بقوله سبب لما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء، والمراد بقوله تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة، لأنَّ الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سبباً لعزة الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله الذي هو الشرك، وذلك في مقابلة "الحق الذي هو الدين والإيمان" (1) .
وقد ختمت هذه الوحدة القرآنية بقوله تعالى وفيه بيان لنفاذ إرادته سبحانه، أي اقتضت إرادته أنْ يعز الدين الحق وهو دين الإسلام، وأنْ يمحق ما سواه ولو كره المشركون والمجرمون والمنافقون ذلك، لأنَّ كراهيتهم لا وزن لها ولا تعويل عليها.
__________
(1) الفخر الرازي: التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، طهران، ط/2، 15/128، والفتوحات الإلهية، 2/229.(1/9)
وبهذا يتبيَّن أنَّه لا تكرار بين الآيتين، فالمراد بإحقاق الحق في الآية الأولى إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المشركين. والمراد بإحقاق الحق في الآية الثانية تثبيت دين الإسلام وتقويته وإظهار شريعته ومحق دين الكفر.
فكأنَّ ما اشتملت عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب، وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد والغاية (1) .
يقول سيد قطب: "لقد أراد الله بفضله ومَنَّه أنْ تكون ملحمة لا غنيمة، وأنْ تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أنْ يقطع دابر الكافرين، فيقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكِّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم الطواغيت، وأراد أنْ يكون هذا التمكين عن استحقاق، وبالجد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.
نعم أراد للعصبة المسلمة أنْ تصبح أمة، وأنْ تصبح دولة، وأنْ يصبح لها قوة وسلطان. وأنْ تعلم أنَّ النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد، إنَّما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد، وأنْ يكون هذا كله عن تجربة واقعية لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي، ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله، ولتوقن كل عصبة مسلمة أنَّها تملك في كل زمان وفي كل مكان أنْ تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة، ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد. وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان" (2) .
__________
(1) د. محمد سيد طنطاوي: التفسير الوسيط للقرآن الكريم، مرجع سابق، ص 49.
(2) سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، 4/1481.(1/10)
وبكلام الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ نأتي إلى ختام هذا المبحث، وبه نكون قد أعطينا القارئ صورة واضحة جلية عن هذه الوحدة القرآنية، وعرفنا من خلال ذلك العبر والمواعظ والدروس التي تتسم بها هذه الوحدة، حيث إنَّ الإنسان أكثر شيء جدلاً، وانَّ النفس البشرية يعتريها الضعف أحياناً فتؤثر الراحة والمال وتجادل عن ذلك، وهي لا تعلم أنَّ الله يريد لها الخير ويرزقها من حيث لا تحتسب.
ثم ننتقل إلى الوحدة الثانية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوحدة الأولى ـ فهي تبيِّن أنَّ المسلمين بعد أنْ استسلموا للأمر الواقع رفعوا أكفهم لطلب الإغاثة والعون والمدد في ست آيات.
المبحث الثاني
استغاثة المؤمنين وإجابة الله لهم بالإمداد بالملائكة
قال تعالى [الأنفال: 9-14].
كانت آيات الوحدة الأولى في المبحث الأول تتحدث عن فريق ممن شهد بدراً، ولكن قبل خوض المعركة الحاسمة، وقد حكى الله عن ذلك الفريق أنَّه كره لقاء العدو لأنَّه لم يكن مستعداً له، وإنَّما كان يرغب في لقاء العير التي لا شوكة فيها ولا مشقة. ولكنه بعد ذلك استسلم للأمر الواقع وامتثل أمر رسوله المؤيد بالنصر الذي وعده الله وأتباعه بإحدى الطائفتين.
وفي هذه الوحدة القرآنية يعدد الله سبحانه وتعالى نعمه على أولئك المؤمنين الضعفاء، وهم يخوضون المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، حيث استجاب دعاءهم وسمع نداءهم، وهم يرفعون أكفهم إلى السماء مستغيثين به، طالبين العون والمدد، وفي مقدمتهم نبيهم وقائدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .(1/11)
روى الإمام مسلم وغيره عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مَدَّ يديه فجعل يهتف بربه يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، الله آتني ما وعدتني، اللهم إنْ تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه فأخذه من ورائه، وقال: يا نبي الله؛ كفاك مناشدتك ربك، فإنَّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله [الأنفال: 9]، فأمدَّه الله بالملائكة" (1) .
فالدعاء عند النداء لا يرد، وعند البأس كذلك، حين يلتحم الجيشان: جيش الرحمن وجيش الشيطان (2) .
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في الغزو: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل) (3) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر، بيروت، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 12/84، والسيوطي: لباب النقول في أسباب النزول على هامش تفسير الجلالين، دار الفكر، بيروت، ص 366. وانظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مطبعة الملاح، بيروت، 1389هـ، 8/183، والبحر المحيط، 4/464، وروح المعاني، 4/17، وسنن الترمذي وعليه شرح تحفة الأحوذي للمباركفوري، مراجعة وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المعرفة، القاهرة، ط/2، 1383هـ، أبواب التفسير، 8/469.
(2) روى معناه أبو داود: (اثنتان لا تردان...)، سنن أبي داود السجستاني الأزدي، دار الحديث، حمص، سوريا، ط/1، كتاب الجهاد، باب الدعاء عند القتال، 3/45.
(3) سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا غزا، 10/44، وسنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء، 3/96.(1/12)
ومن الاستغاثة في قوله تعالى طلب الغوث والنصر والتخلص من الشدة والنقمة، والظاهر أنَّ المستغيث هم المؤمنون.
قيل: إنَّهم لما علموا ألاَّ محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك، أغثنا يا غياث المستغيثين. وقال الزهري: "إنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه" (1) .
والحديث السابق الذي رواه الإمام مسلم وغيره يدل في ظاهره على أنَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون الجمع للتعظيم.
والذي يظهر من كلام المفسرين والمحدثين أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ويستغيث، والمؤمنون يؤمِنون على دعائه، ويقتدون به في ذلك، فجاء اللفظ بصيغة الجمع .
وقوله تعالى .
وهذه الاستجابة تأتي عقب الاستغاثة وطلب النصر والمدد، وهذا يدل على سعة فضله تعالى وجوده وكرمه، وأنَّه يجيب دعوة المضطر إذا دعاه والتجأ إليه، فهؤلاء القلة من الضعفاء عندما علم الله منهم صدق النية واللجوء إليه واعتمادهم عليه سمع نداءهم وأجاب دعاءهم وأمدهم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضاً، أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً، ولسنا بصدد الكلام عن خلاف العلماء في هذه الآية من سورة الأنفال وعلاقاتها بقوله تعالى [آل عمران: 123-125].
ويكفينا من هذه النصوص أنَّ الله تعالى أمدَّ أولياءه بجند من عنده، والتنصيص على الألف لا ينافي ثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله تعالى
بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم (2) .
__________
(1) انظر: روح المعاني، 4/172، والفتوحات الإلهية، 2/229.
(2) انظر: تفسير ابن كثير، دار إحياء الكتب العربية، 1/401.(1/13)
"لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون، وأنبأهم أنَّه ممدهم بألف من الملائكة مردفين، ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله، إلاَّ أنَّ الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أنَّ هناك سبباً ينشئ نتيجة، إنَّما يرد الأمر كله إليه سبحانه تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره" (1) .
.
لقد استجاب دعاءكم وأمدكم بجند من عنده، وما جعل ذلك الإمداد الإلهي بالملائكة إلاَّ بشارة لكم بأنَّ النصر والتأييد لأوليائه إنَّما هو من عنده، وهو عائد عليكم، وهو معكم ينصركم ويخذل أعداءكم، وبهذا تسكن قلوبكم وتطمئن، ويزول عنكم الوجل والخوف ويهدأ روعكم، فتثبتون أمام الأعداء ثبوت الجبال الراسيات، وهذا كله فضل من الله ورحمته بكم، وما عليكم إلاَّ أنْ تبذلوا الأسباب وتعدوا العدة ـ بقدر استطاعتكم ـ لعدوكم ثم تتوكلوا على الله سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا الغالب القاهر فوق عباده لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال الخازن: يعني وما جعل الله الإرداف بالملائكة إلاَّ بشرى . وهذا يحقق أنَّهم إنَّما نزلوا لذلك لا لقتال.
والصحيح الأول وأنَّهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا فيما سواه من الأيام (2) .
يعني أنَّ الله هو ينصركم أيها المؤمنون، فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وشدة بأسكم.
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، 3/1483.
(2) وعلى هذا جمهور العلماء، وقال بعضهم: إنَّ الملائكة لم تقاتل في بدر ولا غيرها، وإنَّما نزلت لتكثير سواد المسلمين والدعاء لهم بالنصر والتثبيت. راجع: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 4/194، ود. محمد محمود حجازي: التفسير الواضح، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، ط/6، 1389هـ، 9/64، والفخر الرازي، 15/130.(1/14)
وفيه تنبيه على أنَّ الواجب على العبد المسلم ألا يتوكل إلاَّ على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره، فإنَّ الله تعالى بيده النصر والإعانة" (1) .
وبهذا نعلم أنَّ هذه الاستجابة، وهذا المدد والإخبار به، كل ذلك لم يكن إلاَّ بشرى ولتطمئن به القلوب، أمَّا النصر فلم يكن إلاَّ من عند الله، هذه هي الحقيقة التي يقررها السياق القرآني، حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً (2) .
ثم إنَّ الله سبحانه امتن على المؤمنين زيادة على ما سبق من الإمداد بالملائكة بالنعاس، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، وإنزال المطر لتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم .
فبعد السفر والسهر والإرهاق تأتيهم هذه النعمة العظيمة والمعجزة العجيبة، وهي نعمة النعاس والاسترخاء.
يقول الإمام الرازي: "واعلم أنَّ كل نوم ونعاس لا يحصل إلاَّ من قبل الله تعالى، فتخصيص هذا النعاس بأنَّه من الله لا بُدَّ فيه من مزيد فائدة، وذكروا في ذلك وجوهاً:
أحدها: أنَّ الخائف إذا خاف من عدوه فإنَّه لا يأخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.
وثانيها: لم يناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معافصتهم، بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الإعياء والكلال.
وثالثها: أنَّه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة، فلهذا السبب قيل: إنَّ ذلك النعاس كان في حكم المعجز (3) .
__________
(1) الخازن البغدادي: لباب التأويل في معاني التنزيل، دار الفكر، بيروت، لبنان، 3/11.
(2) انظر: في ظلال القرآن، 3/1483.
(3) تفسير الفخر الرازي باختصار، 15/132.(1/15)
إنَّها لمعجزة باهرة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - فقد غشى الجيشَ الإسلامي ذلك النعاسُ في وقت الخوف والبأس، ويا لها من عبرة وعظة لمن اعتبر واتعظ، ولقد نزل المسلمون في منزل شح فيه الماء، وهم في أمسِّ الحاجة إليه، يريدون أنْ يشربوا وأنْ يغتسلوا ويتطهروا، وأخذ الشيطان اللعين يوسوس للبعض منهم: لو كنتم على حق وفيكم نبي لما كان عدوكم على الماء وأنتم لا تجدون حاجتكم منه، فردَّ الله كيده، وأحبط وسوسته، وأكرم عباده المؤمنين، وأنزل عليهم من السماء ماء طهوراً، فشربوا وتطهروا، وثبت الله به الأرض من تحت أقدامهم، وهزم عدوهم شر هزيمة .(1/16)
يقول الإمام ابن كثير: "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء... وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم: تزعمون أنَّكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلّون مجنبين. فأمطر الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجس الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمدَّ الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، والمعروف أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك، أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، أهذا المنزل الذي نزلته؛ منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أنْ نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال: (بل منزل نزلته للحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله؛ إنَّ هذا ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى تنزل بنا على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك" (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير، 2/291.(1/17)
ونفهم من هذا أنَّ في هذه الليلة ـ وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر ـ كانت هذه الحالة التي يذكرها سبحانه وتعالى عن تلك الطائفة المؤمنة التي شهدت بدراً، وأنَّ المدد كان مدداً مزدوجاً؛ مادياً ومعنوياً، فالماء في الصحراء مادة الحياة، فضلاً على أنْ يكون أداة النصر، والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أنْ يواجه المعركة، ثم إنَّ هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان وهي حالة التحرُّج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء، ولم يكن قد شرع التيمم، فقد جاء متأخراً في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة.
وهنا تثور الهواجس والوساوس، ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب. والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها، وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة ويتم المدد الروحي بالمدد المادي، وتسكن القلوب بوجود الماء، وتطمئن الأرواح بالطهارة، وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسُّك الرمال (1) .
ويستمر الحديث عن نعم الله التي أنعم بها على تلك الطائفة المؤمنة وكل طائفة تنهج نهجها على مر الزمان، فوعد الله حق لا يتخلف، ومن تلك النعم: معية الله سبحانه لأوليائه بالنصر والتأييد، وإيحاؤه إلى الملائكة بتثبيت الذين آمنوا، وإلقاؤه الرعب في قلوب أعدائهم من الذين كفروا.
وأمر جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه ملائكته بالاشتراك مع المؤمنين في ضرب الرؤوس، وجز الرقاب، وقطع الأطراف، وزلزلة قلوب المشركين، ثم كان بيانه لعاقبة أولئك المشركين الذين حادّوا الله ورسوله .
قيل: المراد أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنَّه تعالى معهم، أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردئاً للمسلمين.
وقيل: المراد أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة أنَّي مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم.
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1485، بتصرف يسير.(1/18)
قال الإمام الفخر الرازي: "وهذا أوْلَى لأنَّ المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف، والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنَّما الخائف هم المسلمون" (1) .
فكان معنى التثبيت هو أنَّهم أخبروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الله ناصر المؤمنين، والرسول أخبر المؤمنين بذلك.
وقيل: كما أنَّ الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه.
وقيل: إنَّ الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر.
ومن أعظم تلك النعم الجليلة التي امتن الله بها سبحانه على تلك الطائفة المؤمنة أنَّه بعد أنْ بيَّن بأنَّه ربط على قلوب المؤمنين وثبتها وقواها وأزال عنها الخوف؛ ذكر أنَّه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين وأمر المؤمنين بضرب أعناق المشركين وإزالتها عن أجسادهم وقطع الأطراف من اليدين والرجلين، لأنَّها أضعف الأعضاء وفي هذا ذكر للأشرف وهو الرأس، والأخس وهو البنان، وفيه تنبيه على كل الأعضاء.
فهم مخيرون بين القتل بضرب الأعناق وبين قطع البنان وهي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة وتمكَّن المسلمون من أسرهم.
وهذا كله بسبب أنَّهم شاقوا الله ورسوله وجانبوا أمر الله تعالى ووقفوا ضد أوليائه ودينه.
وهذا العذاب والخزي الذي أصابهم في الدنيا هو قليل بالنسبة لما أعدَّ لهم من العقاب يوم القيامة، وهو في غاية الزجر والتهديد للكافرين في كل زمان ومكان (2) .
إنَّ تلك الرؤوس التي كانت في مكة تحيك المؤامرات وتفكر كيف تستأصل شأوة المسلمين وتقضي عليهم وعلى نبيهم أو على الأقل تشوه سمعتهم وتطاردهم بشتى أنواع الأساليب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي، 15/135.
(2) المصدر نفسه، باختصار وتصرف.(1/19)
أقول: إنَّ تلك الرؤوس وأمثالها في كل وقت وحين بحاجة إلى اجتثاث واستئصال حتى لا تقف عائقاً أمام كل من يريد أنْ يعتنق دين الله وأنْ يعرف هدى الله.
هذا في الدنيا، أمَّا في الآخرة فلهم عذاب أليم بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله، نسأل الله السلامة والعافية.
المبحث الثالث
توجيه وتحذير للمؤمنين من الفرار أثناء المعركة
قال تعالى الأنفال: 15-19].
كانت الآيات السابقة في الوحدتين السابقتين أو المبحثين السابقين تتحدث عن أول معركة فاصلة بين الحق والباطل، وقد بيَّنت تلك الآيات كيف كان المسلمون يهابون من لقاء عدوهم لقلة عددهم وضعف عدتهم، بينما عدوهم يفوقهم كثيراً في العدد والعدة.
ولم يكن المسلمون مستعدين لقتال، وإنما خرجوا للعير لا للنفير، ثم إنهم أذعنوا لأمر الله وأمر رسوله واستعدوا للنزال ورفعوا أكفهم إلى السماء يستغيثون ربهم ويطلبون منه العون والنصر والمدد.
فأراهم الله عونه ومدده، لأنَّه سبحانه أخرج رسوله من بيته بالحق، فلم يخرجه بطراً ولا رياءً، ووعدهم سبحانه بإحدى الطائفتين وهي ذات الشوكة التي فيها حرب وقتال لأمر يريده جل وعلا، وامتن عليهم بنعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، فغشاهم النعاس أمنة منه، وأنزل عليهم من السماء ماءً طهوراً، وأذهب عنهم رجز الشيطان ووساوسه، وأوحى إلى الملائكة بتثبيت المؤمنين والوقوف إلى جانبهم حتى نصرهم الله وكانت الدائرة على أعدائهم كما هو معروف.
بعد هذا تأتي هذه الوحدة القرآنية المتمثلة في هذا النص القرآني الكريم تأمر المؤمنين بالثبات في ميدان المعركة وتحرضهم على الصبر وتنهاهم عن الانهزام، بل وتحذرهم أشد تحذير من الفرار أمام أعدائهم بأسلوب في غاية من الفصاحة وهو التعبير بتولية الأدبار، ويا له من خزي وعار!!
.(1/20)
هكذا يناديهم بصفتهم الإيمانية حتى يستجيش مشاعرهم، وهذا أول نداء من النداءات الستة التي نادى الله بها عباده المؤمنين في هذه السورة، وفيه يأمرهم سبحانه أنهم إذا لقوا أعداءهم الكفار مجتمعين كأنهم متداخلين في بعضهم لكثرتهم يزحفون على الأرض كما يزحف الصبيان لا يكاد الإنسان يرى موضع قدم، ورغم وجود هذا الجيش العرمرم الزاحف، فلا يحل لمسلم أنْ يفر أمامه وأنْ يوليه دبره، لأنَّ هذا يكون سبباً في ضعفهم وطمع العدو في الالتفاف بهم والقضاء عليهم وقد بيَّن سبحانه وتعالى في الآية الكريمة أنَّه يجوز الهرب أو الفرار من ساحة القتال في حالتين اثنتين:
الأولى: أنْ يهرب من العدو ويفر منه ليريه أنَّه خائف منه فيغتر العدو ويلحقه، ثم إنَّ المسلم يكر ويحمل عليه فيقتله.
وهذا لا شك نوع من أنواع الخديعة في الحروب، والحرب خدعة، ولا يسمَّى فراراً، وإنَّما هو من باب الاستدراج، وهذا معنى قوله تعالى .
الثانية: أنْ يترك القتال في جبهة من الجبهات وينضم إلى فئة أخرى من المسلمين لتركيز الأعداء عليها أو قلة العدد فيها، فهي في حاجة إلى مدد وعون.
فهذا كذلك نوع من أنواع البطولة والصمود والإقدام، لأنَّه يعرِّض نفسه للخطر بانتقاله إلى عدد قليل يريد تكثير سواده، وهذا معنى قوله تعالى .
وما عدا هاتين الحالتين؛ فإنَّ الله تعالى قد توعد الفار من المعركة بأشد أنواع العذاب والغضب والخزي في الدنيا والآخرة حيث ارتكب كبيرة من الكبائر الموبقات التي توبق صاحبها وتدخله النار .
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم
وغيرهما (1) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (اجتنبوا السبع الموبقات؛ قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟! قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
__________
(1) انظر: جامع الأصول، 10/625.(1/21)
قال القرطبي: التحرُّف: الزوال عن جهة الاستواء.
فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم، وكذلك المتحيّز إذا نوى التحيُّز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضاً.
روى أبو داود (1) عن عبد الله بن عمر أنَّه كان في سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فحاص (2) الناس حيصة، فكنتُ فيمن حاص، قال: فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟! فقلنا: ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد، قال: فدخلنا، فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنْ كانت لنا توبة أقمنا، وإنْ كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجلسنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال: لا بل أنتم العكارون، قال: فدنونا فقبَّلنا يده فقال: (أنا فئة المسلمين) قال ثعلب: العكارون هم العطافون (3) .
وقد اختلف العلماء في مسألة هذا الوعيد الشديد لمن فر من عدوه، هل كان خاصاً بغزوة بدر أم هو عام باق إلى قيام الساعة؟
قال الفخر الرازي: اختلف المفسرون في أنَّ هذا الحكم هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق؟ فنقل عن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك، أنَّ هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر، قالوا: والسبب في اختصاص يوم بدر الحكم أمور:
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في التولي يوم الزحف، 3/105، وأخرجه الترمذي في أبواب الجهاد، باب ما جاء في الفرار من الزحف، 5/378.
(2) حاص بمعنى جال، أي جالوا جولة يطلبون الفرار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 7/20، مادة (حيص).
(3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 7/383. وراجع: البحر المحيط، لأبي حيان، 4/475.(1/22)
أحدها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر، وقد وعده سبحانه بالنصر والظفر، فلم يكن لهم التحيُّز إلى فئة أخرى.
ثانيها: أنَّه تعالى شدَّد الأمر على أهل بدر، لأنَّه كان أول الجهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم، فلهذا وجب عليهم التشدُّد والمبالغة.
والقول الثاني: أنَّ الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحرب، بدليل أن قوله تعالى عام فيتناول جميع الصور، أقصى ما في الباب أنَّه نزل في واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" إ. هـ (1) .
وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وترتاح، وهو ما رجحه كثير من العلماء كالجصاص الحنفي وابن العربي المالكي وغيرهما.
فقد ذكر ابن العربي القولين للعلماء وأنَّ ابن عباس وسائر العلماء يرون أنَّ الآية باقية إلى يوم القيامة، وإنَّما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر وليس به، وإنَّما ذلك إشارة إلى يوم الزحف، والدليل عليه أنَّ الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الكبائر كذا... وعد الفرار يوم الزحف، وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ويبيِّن الحكم.."
ا هـ (2) .
وما أجمل كلام الشهيد سيد قطب وهو يعقب على هذه الآية الكريمة بقوله: "إنَّ التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية، ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية.
إنَّ قلب المؤمن ينبغي أنْ يكون راسخاً ثابتاً لا تهزه في الأرض قوة، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي، 15/138. وراجع: البحر المحيط، لأبي حيان، 4/475.
(2) ابن العربي المالكي: أحكام القرآن، نحقيق محمد علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت، 2/843.(1/23)
وإذا جاز أنْ تنال هذا القلب هزة ـ وهو يواجه الخطر ـ فإنَّ هذه الهزة لا يجوز أنْ تبلغ أنْ تكون هزيمة وفراراً. والآجال بيد الله، فما يجوز أنْ يولي المؤمن خوفاً على الحياة، وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها، فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنساناً، فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة، ثم يمتاز المؤمن بأنَّه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها، ثم إنَّه إلى الله إنْ كان حياً، وإلى الله إنْ كُتبت له الشهادة، فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله" ا هـ (1) .
فلماذا إذاً يفر المسلم من عدوه ويوليه الدبر؟ ولا ينجي حذر من قدر، فلأنْ يموت ميتة شريفة وهو مقبل غير مدبر خير له من أنْ يلقى مصرعه وهو فار هارب، وهو يحمل غضب الله تعالى يصاحبه إلى مثواه الأخير، والعياذ بالله من غضبه.
إنَّها لدروس وعبر وعظات يستقيها المسلم من هذه الآيات البينات [البقرة: 269].
ثم بيَّن سبحانه وتعالى بعض مظاهر قدرته وفضله على تلك الطائفة المؤمنة ليشكروه على آلائه ونعمائه وكرمه وإحسانه لأوليائه، فقال تعالى .
أوحى الله سبحانه وتعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عند بدء المعركة أنْ يأخذ قبضة من الحصباء ثم يرمي بها وجوه المشركين، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القوم ورماهم قائلاً: (شاهت الوجوه). فأوصل الله ذلك إلى وجوههم فأصابت أعينهم ومناخرهم، فامتلأت تراباً، فانشغل كل واحد منهم بما أصابه وحدث له، وأخذ يصلح من شأنه فلم يلتفتوا إلى القتال، وأصبحوا في أيدي المؤمنين يحصدونهم حصداً فيقتلون ويأسرون، ولله الحمد والمنة (2) .
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1489.
(2) انظر: أحكام القرآن، لابن العربي، 3/844، وتفسير الفخر الرازي، 15/139، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 7/385، والبحر المحيط، 47/477، وتفسير ابن كثير، 2/295.(1/24)
ولما رجع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل: قتلت وأسرت فنزلت (1) .
وقد ذكر بعض المفسرين أنَّ بقوله هو رميه - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن خلف يوم أُحُد أو رميه لكنانة بن أبي الحقيق في غزوة خيبر أو رميه المشركين في غزوة حنين.
ولكن الإمام السيوطي ضعف تلك الراويات ثم قال: والمشهور أنَّها في رميه يوم بدر بالقبضة من الحصباء، قال: روى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنَّه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله بتلك الحصباء فانهزمنا، فذلك قوله الآية (2) .
والآية تحمل في طياتها نفياً وإثباتاً، ومعناها أنَّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلاَّ ما يبلغه رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمي لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنَّ صورة الرمي وجدت منه، ونفاها عنه لأنَّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله، فكأنَّ الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنَّها لم توجد من الرسول أصلاً (3) .
وما أعظمها من نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى على أوليائه بعد استغاثتهم به، وطلبهم منه العون والنصر على أعدائهم، وفيه نوع من الاختبار لهم؛ هل يشكرون أم يكفرون؟! .
ثم أشار سبحانه وتعالى بقوله إلى البلاء الحسن والمنحة التي منحهم إياها فنصرهم على أعدائهم وأعزهم بعد أنْ كانوا أذلة وقضى على تلك الشرذمة المشركة وأوهنها وأضعفها وجعلها لقمة سائغة بأيدي المؤمنين
.
__________
(1) البحر المحيط، 4/476. وانظر: الكشاف، 2/149.
(2) لباب النقول في أسباب النزول، ص 368. وانظر: البحر المحيط، 4/477.
(3) الكشاف، للزمخشري، 2/149. وانظر: تفسير الفخر الرازي، 15/139، والبحر المحيط، 4/477.(1/25)
وفيه بشارة للمؤمنين بأنَّ الله معهم وأنَّ الكافرين سيهزمون، فلا مجال للخوف والهلع وتولية الأدبار
[الحج: 40].
ثم تأتي الآية الكريمة في ختام هذه الوحدة القرآنية أو هذا المبحث فتوجه الخطاب للكافرين الذين كانوا يبتهلون إلى الله بأنْ يجعل الدائرة تدور على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، وذلك قبل غزوة بدر .
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنَّ بعض كفار قريش وعلى رأسهم أبو جهل ـ فرعون هذه الأُمَّة ـ حين أرادوا السير لقتال المسلمين في بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: "اللهم أيُّنا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه الغداة ـ أي أهلكه ـ، اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر، اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الفرقتين..." فأنزل الله هذه الآية (1) .
فلما وقعت غزوة بدر وقتل من المشركين سبعون، وأُسر سبعون، وكانت الدائرة عليهم، كان بمثابة الجواب على استفتاحهم، أي طلبهم الفتح بينهم وبين المسلمين والنصر عليهم، فجاء الجواب على سبيل التهكُّم، أي إنْ تطلبوا يا كفار قريش الفتح والنصر على المؤمنين، فقد جاءكم الفتح، وهو الذل والخذلان والهزيمة والقهر لكم، لأنَّكم على الباطل وهم على الحق.
فانتهوا خير لكم في دنياكم وآخرتكم، ولا تتمادوا بالباطل وكفوا عن حرب الرسول والمؤمنين، فإنْ أبيتم إلاَّ الحرب والقتال؛ فإنَّ الله سيعود لنصرة دينه ورسوله والمؤمنين، ولن تستفيدوا من كثرتكم وقوة عدتكم، فقوة الله فوق كل قوة، والله مع أوليائه بالنصر والحفظ والتأييد.
فالله تعالى هو الذي قتل المشركين ورماهم، واختبر المؤمنين وأبلاهم بلاءً حسناً، وأوهن كيد الكافرين، وهدَّدهم بالهزيمة إنْ تمادوا في الباطل.
__________
(1) انظر: تفسير الفخر الرازي، 15/141، وتفسير ابن كثير، 2/296، والجامع لأحكام القرآن، 7/386، ولباب النقول في أسباب النزول، ص 386، والبحر المحيط، 4/478.(1/26)
وهكذا فإنَّ وعد الله حق لا يتخلف على مر العصور والأزمان متى التزم المسلمون بشروط النصر والاستخلاف.
وبهذا نأتي إلى ختام هذه الوحدة القرآنية، وهو المبحث الثالث لكي ننتقل إلى الحديث عن الوحدة الرابعة، وهو المبحث الرابع من مباحث آيات القتال في سورة الأنفال.
المبحث الرابع
دعوة الكفار إلى التوبة والأمر بقتالهم إنْ أبوا
وتفصيل دقيق لبعض مظاهر نعم الله على المؤمنين في معركة بدر
قال تعالى [الأنفال: 38-44].
بعد أنْ بيَّن سبحانه وتعالى كيد الكفار ومؤامرتهم ضد هذا الدين وضد المؤمنين به وبذلهم في سبيل ذلك كل غال ونفيس، وأنَّه سيعود ما ينفقونه في سبيل الصد عن هذا الدين وبالاً عليهم في دنياهم وآخرتهم.
بعد هذا تنتقل الآيات لدعوة الكفار إلى التوبة النصوح والإنابة إلى الله تعالى وترغبهم في ذلك بالرغم من توغلهم في الكفر والعناد، ولكن الإسلام يَجُبُّ ما قبله.
.
قل يا محمد لقومك المشركين الذين كفروا بالله ورسوله، وحاربوا دينه، وأخرجوك وقومك من الوطن بسبب قولكم: ربنا الله، فهذه هي جريمتكم التي ارتكبتموها، قل لهم با محمد: إنْ ينتهوا ويقلعوا عمَّا هم عليه ويرجعوا إلى الله تعالى ويدخلوا في السلم كافة فإنَّ الله غفور رحيم، يقبل توبة التائبين وإنابة المنيبين إليه، مهما تمادوا في الكفر والعصيان وارتكاب الآثام فإنَّ الله يغفر الذنوب جميعاً.
وأمَّا إنْ استمروا في كفرهم وعنادهم وقتالهم لك وللمؤمنين، فإنَّ الله تعالى غيور على دينه فقد مضت سنته في إهلاك وتدمير الكفرة والمجرمين وأنَّه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته [هود: 102].
فالآية تحمل في طياتها الإعذار والإنذار لكل جبار عنيد على مر العصور والأزمان، وهي سنة لا تتخلف [فاطر: 43].(1/27)
ثم اتجه السياق إلى الذين آمنوا يأمرهم بقتال الكافرين إنْ هم أصروا على كفرهم وعنادهم، لأنَّه توعدهم في الآية السابقة بسنة الأولين التي لا تتخلف وهي تدمير أعدائه وأعداء رسله وأوليائه على أيدي رسله والمؤمنين المجاهدين حتى لا يفتن المؤمنون عن دينهم ويستفحل الشرك .
"وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان، لا في ذلك الزمان فحسب، ومع أنَّ النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة وبقوانين الحرب والسلام ليست هي النصوص النهائية، بل قد تلتها نصوص في سور أخرى متأخرة كسورة التوبة وغيرها.
ولقد جاء الإسلام ليكون إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ولهواه، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين، وأنَّ معنى هذا الإعلان: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها، وأشكالها، وأنظمتها، وأوضاعها.
ولا بُدَّ لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:
أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين.. وهذا لا يتم إلاَّ بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمُّع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام، وتنفذه في عالم الواقع، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه لمن يريدون اعتناقه.
وثانيها: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر في صورة من الصور، وذلك لضمان الهدف الأول، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها (1) .
إنَّ الهدف من القتال هو إزالة كل ما يحجز ويمنع إيصال الدعوة على الله في الأرض، فمتى أُزيلت تلك الحواجز والموانع المادية وكان للناس أنْ يختاروا ما يعتقدون دون ضغط أو قهر ودون أي إكراه لأحد منهم، عند ذلك ينبغي للفئة المؤمنة أنْ تكف عن القتال لأنَّه ليس هناك ما يدعو لذلك، فقد خضع الناس لسلطان الله في الأرض.
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1508، باختصار وتصرف يسير.(1/28)
ودخل في الإسلام من دخل عن اقتناع ورغبة، ودفع الجزية من دفع، وأصبح الناس يعيشون تحت ظلال الإسلام وأمته وتحت حكمه وعدله.
فمن رضي بهذا وأذعن واستسلم قبلنا منه ذلك، ولم نؤمر بمعرفة ما في حقيقة أمره وباطنه، فلنا الظاهر والله يتولى السرائر .
أي فإنْ انتهوا بقتالكم عمَّا هم فيه من الكفر فكفوا عنهم، وإنْ لم تعلموا بواطنهم وهذا كقوله [التوبة: 5]. وفي الآية الأخرى [التوبة: 11].
وقال سبحانه وتعالى في آية البقرة: [البقرة: 193].
فإنْ استمروا على خلافكم ومحاربتكم سيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير (1) .
فمن كان الله مولاه وناصره فقد كفاه كيد الأعداء، وكان في أمن واستقرار، وكان في الآخرة مع المتقين الأبرار.
وبعد أنْ بيَّن سبحانه وتعالى مصير المشركين الذين ينفقون أموالهم للصد عن دين الله، وأنَّ تلك الأموال ستكون وبالاً عليهم في الدنيا قبل الآخرة، وأمر المؤمنين بقتالهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم.
بعد هذا بيَّن سبحانه مصير تلك الأموال التي تؤخذ من الكفار عنوة وتولى قسمتها من فوق سبع سموات في قوله تعالى (2) .
كما بيَّن سبحانه وتعالى في هذه الآيات وفصل بعض الأحداث في معركة بدر الكبرى، قال تعالى الآيات.
بعد أنْ بيَّن الله تعالى حكم الغنائم وتولى قسمتها بنفسه، عاد مرة أخرى لتعداد نعمه التي لا تحصى، منها تذكيرهم بالحال التي كانوا عليها مع أعدائهم في غزوة بدر، فهو سبحانه يصور لهم ولكل من جاء بعدهم تلك الموقعة وكأنَّها رأي العين ليتذكروا نعمة ربهم عليهم.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير، 2/309.
(2) راجع: الجامع لأحكام القرآن، 3/8، وفتح القدير، 2/309.(1/29)
وكيف حقَّق الله لهم النصر المؤزر على أعدائهم بحوله وقوته، ويقول لهم: اذكروا أيُّها المؤمنون حالكم حين كنتم بالعدوة الدنيا، أي جانب الوادي وحافته من جهة المدينة المنورة، وكان أعداؤكم بالعدوة القصوى، أي على جانب الوادي الأبعد من المدينة مما يلي مكة، وكان الركب وهم الجماعة الذين يركبون الإبل أسفل منكم، أي كان أبو سفيان ومن معه من حراس العير في مكان منخفض عنكم بالقرب من ساحل البحر على بعد ثلاثة أميال منكم.
قال الإمام الزمخشري: فإنْ قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين، وأنَّ العير كانت أسفل منهم؟! قلتُ: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم (1) ، وأنَّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليس إلاَّ صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أنَّ ذلك أمر لم يتيسر إلاَّ بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أنَّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلاَّ بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياطهم، ولهذا كانت العرب تخرج الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحريم على بذل جهدهم في القتال، وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم، على ألا يبرحوا مواطنهم، ولا يجلوا مراكزهم، ويبذلوا قصارى نجدتهم وقصارى شدتهم (2) .
.
__________
(1) أي استرخاؤهم وبطؤهم. انظر: لسان العرب، 2/185، مادة (لوث).
(2) الكشاف، 2/160.(1/30)
أي لو كان كل منكم حدَّد الموعد والزمان الذي يكون القتال فيه؛ لاختلفتم في ذلك، لكن الله تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب بقدرته وحكمته، أما المؤمنون فلم يكن لديهم أي استعداد ـ كما سبق ـ حيث جمع بينهم بدون ميعاد، ليعلموا أنَّ النصر المبين الذي أحرزوه إنما كان بتدبيره سبحانه وصنعه، كما في قوله تعالى .
إي إنَّما فعل ذلك سبحانه وأظهر تلك المعجزة ليكفر من كفر عن بينة ووضوح ويؤمن من آمن عن بينة كذلك وبصيرة، فهو سبحانه عليم بنياتهم يسمع دعاء الجميع ويعلم حاجاتهم لا تخفى عليه خافية.
قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى الآية، أي أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيُّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له.. ليقضي أمراً كان واجباً أنْ يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك... واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح وبينة لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حُجَّة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنَّه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسُّك به" (1) .
وناسب أنْ تختم الآية الكريمة بقوله تعالى حيث جمع بين السمع والبصر وهما صفتان من صفات الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، أي يسمع ويعلم كفر من كفر وما يستحقه من العقاب، وإيمان من آمن وما يستحقه من الثواب، وهو يشمل القول والاعتقاد، أي يسمع أقوالهم ويعلم حقيقة معتقداتهم ويجزيهم عليها (2) .
__________
(1) المصدر نفسه، 2/160.
(2) انظر: تفسير أبي السعود، 4/24 بتصرف.(1/31)
ومن النعم التي أنعم الله بها على تلك الطائفة المؤمنة أنَّ الله سبحانه وتعالى أرى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - رؤيا منامية أنَّ عدد المشركين قليل، فسُّرَّ بذلك وأخبر أصحابه، فسروا كذلك، وكان ذلك سبباً في إقدامهم وتحمُّسهم للقتال.
وهذا بخلاف ما لو كان الأمر على العكس من ذلك، فإنَّه سيكون سبباً في خوفهم وجبنهم واختلافهم فيما بينهم في الإقدام على القتال من عدمه، وكانت العاقبة وخيمة والمصيبة عظيمة، وانتهى الأمر بالهزيمة، ولكن الله سلَّم .
قال أبو حيان: "الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتظاهرت الروايات أنَّها رؤيا منام، رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها الكفار قليلاً فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين انتبه: (أبشروا لقد نظرت على مصارع القوم). والمراد بالقلة هنا: قلة القدر والبأس والنجدة، وأنهم مهزومون مصروعون، ولا يحمل على قلة العدد، لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - رؤياه حق، وقد كان علم أنَّهم ما بين تسعمائة إلى ألف، فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد" (1) .
أمَّا الإمام الفخر الرازي فيروي عن التابعي الجليل مجاهد بن جبر قوله: "أرى الله النبي - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه، فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، فصار ذلك سبباً لجرأتهم وقوة قلوبهم، ثم قال: فإنْ قيل: رؤية الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز من الله أنْ يفعل ذلك؟
قلنا: مذهبنا أنَّه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأيضاً لعله سبحانه أراه البعض دون البعض، فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنَّهم قليلون" (2) .
__________
(1) البحر المحيط، 4/501.
(2) تفسير الفخر الرازي، 15/169.(1/32)
ثم ختمت الآية الكريمة بالتذييل الدال على كمال علمه وشموله لكل صغيرة وكبيرة، وظاهرة وخافية، ومن ذلك علمه بمن صبر وصابر، وجزع وولى وأدبر، فسبحان من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وتختم هذه الوحدة القرآنية بقوله سبحانه وتعالى .
وهي تحمل في طياتها نعماً أخرى غير التي تقدم الحديث عنها، وهي أنَّ الله سبحانه وتعالى أرى رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عند التحام الجيشين؛ أراهم المشركين قلة، وكان بمثابة التأكيد لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقويت عزيمتهم وارتفعت معنوياتهم فأقدموا على قتال عدوهم بكل شجاعة وحماس.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلتُ لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا، بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً فسألناه فقال: كنا ألفاً" (1) .
وقد أغرى الله سبحانه كلاً من الفريقين بالآخر، فأرى المشركين المسلمين قليلاً حتى يحصل التراخي وعدم الاستعداد التام لملاقاتهم، بل لقد قال فرعون هذه الأُمَّة في ذلك اليوم مستهزئاً بالمسلمين: إنَّما هم أكلة جزور، خذوهم أخذاً واربطوهم بالحبال (2) .
__________
(1) ذكر هذا الأثر عن ابن مسعود ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، 4/74، وأورده القرطبي في: الجامع لأحكام القرآن، 8/23، وابن الجوزي في: زاد المسير، 1/358.
(2) ذكره أبو حيان في البحر المحيط، 4/502، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، 8/23.(1/33)
وأمَّا عندما حمي الوطيس وبدأ القتال؛ فقد تغيرت الصورة بالنسبة للمشركين، حيث أظهر الله المسلمين أمام أعين المشركين ورأوا أنَّهم لا يستطيعون الوقوف أمام المسلمين، وقد نوَّه الله سبحانه إلى هذا المعنى في قوله تعالى: [آل عمران: 13]، أي يرى المؤمنون الكافرين أكثر منهم مرتين رؤية ظاهرة مكشوفة بالعين المجردة لا بالوهم والخيال، وقيل: المراد يرى الكافرون المؤمنين ضعفيهم في العدد، وذلك أنَّ الله أكثر المؤمنين في أعين الكفار ليرهبوهم ويجبنوا عن قتالهم.
ويظهر من كلام المفسرين أنَّ القول الأول هو الراجح (1) ، والله أعلم بأسرار كتابه.
المبحث الخامس
شروط النصر في القتال: الثبات، الصبر، الذكر، الطاعة، ...
قال الله تعالى [الأنفال: 45-48].
كانت الآيات في الوحدة الرابعة أو المبحث الرابع قد تناولت كثيراً من النعم التي امتن الله بها على تلك الجماعة المؤمنة في غزوة بدر الكبرى، من جمع المؤمنين والكافرين في زمان ومكان لم يتفقوا عليهما، ورؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - المنامية ـ وهي حق ـ المشركين قلة.
وكذا رؤية المسلمين للمشركين عند لقائهم قليلاً، وتقليل المسلمين في أعين المشركين حتى يغتروا ويقدموا على القتال فيحصدهم المسلمون حصداً، لأنَّ الحال تغيَّر وتحول وتبدل أثناء المعركة، فقد رأى المشركون المسلمين يفوقونهم في العدد والعدة، فأصابهم الوهن والضعف ونصر الله المسلمين عليهم، ولا شك أنَّ هذه كلها نعم تستحق شكر المنعم بها والثبات عليها، ولذلك تأتي آيات هذه الوحدة القرآنية في هذا المبحث لتبيِّن عوامل النصر في القتال.
__________
(1) انظر: صفوة التفاسير، لمحمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، ط/4، 1402هـ، 1/188. وراجع: فتح القدير للشوكاني، 2/321.(1/34)
وهذه العوامل هي وسيلة المؤمنين في كل زمان ومكان، لأنَّ تكاليف الجهاد والقتال في سبيل الله شاقة لا يطيقها إلاَّ من امتثل تلك العوامل وطبقها، كالثبات والذكر والاستغفار وكل ما يصل العبد بربه وبخاصة أثناء المعركة وفي ذلك الظرف الحرج، وكذا الطاعة التي لا يمكن بدونها أنْ يقوم جهاد، لأنَّه لا بُدَّ من أمير يطاع وجند يطيعون، وإلاَّ الفشل والتنازع والاختلاف .
كنا قد ذكرنا في المبحث الثالث أنَّ الله عزَّ وجلَّ نادى عباده المؤمنين في هذه السورة بستة نداءات بصفتهم الإيمانية التي اتصفوا بها.
وكان أول تلك النداءات هو قوله تعالى ، فاتفق الأمر في هذه الآية مع النهي في الآية الأولى.
والآن سنعيش مع النداء الأخير من تلك النداءات الربانية .
إنَّه يناديهم ويستجيش مشاعرهم بهذا النداء المحبب إلى نفوسهم، وهو وصفهم بالإيمان، وما أعظمه من حافز ومذكّراً لهم، بأنَّ القتال في سبيل الله تعالى يحتاج إلى تضحية وصبر وثبات، وهذه كلها من مقتضيات الإيمان وعوامل النصر.
فالله عزَّ وجلَّ يقول لهم: إذا حاربتم جماعة كافرة أو التحمتم معهم في ميدان القتال فعليكم بالثبات والصبر وعدم الفرار وتوليتهم الأدبار، والصبر سلاح المؤمن، واستعينوا بذكر الله في تلك اللحظات فبذكره تطمئن القلوب.
ولا شك أنَّ الله يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ومن باب أوْلَى الذين يدعونه وهم يقاتلون عدوه وينصرون دينه.
وطاعة الله هي أساس كل شيء، ومن أطاع الرسول أو القائد المسلم فقد أطاع الله، وبالطاعة يحصل الوئام والانسجام، ويحصل النصر على الأعداء، وبالتفرُّق والتشتُّت والتمزُّق والتنازُّع يحدث الفشل والانهزام.(1/35)
"والمتأمل في هاتين الآيتين يراهما قد رسمتا للمؤمنين مع كل زمان ومكان الطريق التي توصلهم إلى الفلاح والظفر، إنهما تأمران بالثبات، والثبات من أعظم وسائل النجاح، لأنَّه يعني ترك اليأس والتراجع، وأقرب الفريقين إلى النصر أكثرهما ثباتاً، وتأمران بمداومة ذكر الله، لأنَّ ذكر الله هو الصلة التي تربط الإنسان بخالقه الذي بيده كل شيء ومتى حسنت صلة الإنسان بخالقه صغرت في عينه قوة أعدائه مهما كثرت، وتأمران بطاعة الله ورسوله حتى يدخل المؤمنون المعركة بقلوب نقية وبنفوس صافية لا مكان فيها للتنازع والاختلاف المؤدي إلى الفشل وذهاب القوة، وتأمران بالصبر، أي بتوطين النفس على ما يرضى الله، واحتمال المكاره والمشاق في جلد، وهذه صفة لا بُدَّ منها لمن يريد أنْ يصل إلى آماله وغاياته" (1) .
إنَّ الفريق الغالب هو الذي يثبت في الشدائد، وإنَّ العدو يعاني كما يعاني المؤمنون، ويتألم كما يتألمون، إلاَّ أنَّ المؤمنين يرجون من الله ما لا يرجو الكفار، إنَّ العدو لا يريد إلاَّ العيش في هذه الحياة كما يعيش سائر الحيوان، بينما المؤمنون يعتقدون اعتقاداً جازماً أنَّ الله وعدهم إحدى الحسنيين إمَّا النصر والظفر وإمَّا الشهادة والفوز بجنة عرضها السموات والأرض.
يقول الإمام الفخر الرازي: "مقاتلة الكافر إنْ كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جارياً مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى، وهذا هو أعظم مقامات العبودية، فإنْ غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة، وإنْ صار مغلوباً فاز بالشهادة والدرجات العالية، أمَّا إنْ كانت المقاتلة، لا لله، بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال، لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح" إ هـ (2) .
__________
(1) التفسير الوسيط (سورة الأنفال)، ص 145.
(2) تفسير الفخر الرازي، 15/171.(1/36)
إذاً لا بُدَّ من الإخلاص والتجرُّد لله في كل الأعمال وبخاصة الجهاد والقتال في سبيل الله، فلا يخرج من بيته يريد الرياء والسمعة وطلب المنصب أو الجاه؛ فإنَّ هذا من سمة الكفار الذين خرجوا للمباهاة والبطر والرياء.
وصدق الله .
قال أبو حيان: "نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا لنصرة العير بالقينات ـ أي المغنيات ـ والمعازف ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني
ـ وكان صديقاً ـ بهدايا مع ابنه، وقال: إنْ شئت أمددناك بالرجال، وإنْ شئت بنفسي مع من خفَّ من قومي، فقال أبو جهل: إنْ كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله طاقة، وإنْ كنا نقاتل الناس فو الله إنَّ بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً، فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات، فإنَّ بدراً مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا آخر الأبد. فوردوا بدراً فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله المؤمنين أنْ يكونوا مثل بطرين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم إنَّ قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فأحنها الغداة). وفي قوله وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار (1) .
__________
(1) البحر المحيط، 4/504، وذكره ابن هشام مختصراً، 1/621. وانظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسُّنَّة، 2/135.(1/37)
وهو تذييل يقرر أنَّ الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم السر وأخفى، فمهما حاول الإنسان أنْ يبطن شيئاً ويظهر خلاف ذلك؛ فإنَّه لن يفلت من قبضته وعقابه سبحانه وتعالى، ولذلك كان جزاء المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر أنَّهم أشد عذاباً من الكفار، وهم أخطر على المجتمع الإسلامي من غيرهم، وبناءً على ذلك جازاهم الله من جنس عملهم وخادعهم من جنس مخادعتهم، وقذف بهم في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله من أهل النار.
"ويبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أنْ تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعجب بقوتها، وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها، والعصبة المؤمنة إنَّما تخرج للقتال في سبيل الله، تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر وتقرير عبودية العباد لله وحده، وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية ـ بغير إذن الله وشرعه ـ وتخرج لإعلان تحرير الإنسان في الأرض من كل عبودية لغير الله، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته، تخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الاستخدام المنكر.
وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة، فلا يكون لها من النصر والغلب إلاَّ تحقيق طاعة الله في تلبيه أمره بالجهاد، وفي إقامة منهجه في الحياة، وفي إعلاء كلمته في الأرض وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه.(1/38)
حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله، ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصداً عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها، كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزتها وكبريائها تحاد الله ورسوله، وعادت في آخر اليوم بالذل، والخيبة، والانكسار، والهزيمة..." (1) .
لقد نقلتُ هذا النص بكامله من كلام سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ وإنْ كان طويلاً؛ إلاَّ أنَّه يعالج الواقع الذي نعيش فيه، ويشحذ الهمم، ويربطه بذلك العصر الذي تنزلت فيه هذه النصوص القرآنية، وكأنَّ المسلم يلمسها ويشاهدها أمام عينيه غضة طرية، فلا يتمالك إلاَّ أنْ يتمنى أنْ تعود للأُمَّة كرامتها وعزتها، وأنْ يكون هو من ضمن تلك العصبة المؤمنة التي يحقق الله على يديها إعادة الخلافة الإسلامية، وقد رفعت راية لا إله إلاَّ الله ترفرف خفاقة عالية، وتهاوت دونها كل راية من رايات الكفر والبطر والإلحاد بإذنه سبحانه وتعالى.
وقد ختم هذا المبحث المتمثل في هذه الوحدة القرآنية بقوله تعالى
.
حيث حكت قصة عجيبة فريدة من نوعها ألا وهي قصة إبليس ـ عليه اللعنة ـ مع إخوانه المشركين.
فقال فقد ذكر المفسرون أنَّ إبليس تمثل للمشركين بصورة رجل من بني مدلج يدعى "سراقة بن مالك" ليبث فيهم روح البطولة والكفاح والوقوف أمام الجيش الإسلامي.
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1529.(1/39)
روى الإمام ابن كثير بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه، رأيته في صورة رجل من بني مدلج في صورة "سراقة بن مالك" فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه ـ وكانت يده في يد رجل من المشركين ـ انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنَّك لنا جار؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، وذلك حين رأى الملائكة (1) .
وروى الإمام مالك بسنده إلى عبيد الله بن كريز أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما رُؤِيَ إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلاَّ ما رأى يوم بدر)، قالوا: يا رسول الله: وما رأى يوم بدر؟ قال: (أما إنَّه رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة) (2) . ومعنى يزعها أي ينظمها ويصفها للقتال.
__________
(1) تفسير ابن كثير، 2/317. وعزاه السيوطي إلى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، كلهم عن ابن عباس. انظر: الدر المنثور، 4/77.
(2) تفسير ابن كثير، 2/317. وانظر: البحر المحيط، 4/505، وتفسير القرطبي، 8/26، والأثر رواه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب فضل يوم عرفة، 1/380. وراجع: سيرة ابن هشام، 1/612.(1/40)
وبغض النظر عن درجة هذه الرواية صحة وضعفاً وكيفية تزيين الشيطان للمشركين، وهل كان تزيين الشيطان بحضوره حسياً وتمثله بصورة إنسان أو كان ذلك معنوياً بوسوسته وكيده؟ فلسنا بصدد ذكر الأقوال والاختلافات، وليس هذا من منهج بحثنا، وإنَّما الهدف هو أخذ العبرة والعظة من هذه النصوص القرآنية التي تحمل في طياتها نعماً عظيمة، منها هذه النعمة الجليلة التي أنعم الله بها على تلك العصبة المؤمنة.
يقول الشهيد سيد قطب: "لقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار، وليس من بينها حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ ما رواه مالك في الموطأ". وذكر الحديث السالف الذكر.
ثم قال: وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، وهو ضعيف الحديث، والخبر مرسل، ثم ساق بعض الروايات عن ابن جرير الطبري، وكأنَّه لم ير أنَّها يمكن أنْ تكون صالحة في الحكم على أمور غيبية لم ترد في القرآن ولا في السُّنَّة النبوية الصحيحة.
قال: ونحن على منهجنا في الظلال لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد بها نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر، فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها بنص هذه درجته، ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض.
وفي هذا الحادث نص قرآني يثبت منه أنَّ الشيطان زيَّن للمشركين أعمالهم، وشجَّعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم، وأنَّه بعد ذلك لما تراءى الجمعان ـ أي رأى أحدهما الآخر ـ نكص على عقبيه وقال:
إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم ولم يوف بعهده معهم.
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زيَّن لهم بها أعمالهم، والتي قال لهم بها والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك.(1/41)
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها، ذلك أنَّ أمر الشيطان كله غيب، ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلاَّ في حدود النص المُسَلَّم به، والنص هنا لا يذكر الكيفية إنَّما يثبت الحادث، فإلى هنا ينتهي اجتهادنا" (1) .
نعم إلى هنا نقف عند صريح النصوص ولا نخوض في تقرير أو نفي مسائل غيبية نحن نجهلها ولسنا مسئولين عنها أمام الخالق تبارك وتعالى، بل إننا مسئولون عن هذا الدين، وهل كنا عنه مدافعين؟ ولتزيين الشيطان رافضين حذرين؟ وهل شكرنا نعمه تعالى ومنها هذه النعمة العظيمة التي امتن بها علينا وجعلنا نتغلب على أعدائنا المشركين فرد كيدهم في نحورهم وجعل كيد شيطانهم ضعيفاً الذي زيَّن لهم أعمالهم، وهذا هو دأبه وهذه هي سيرته الأولى منذ أنْ أخرج أبانا آدم من الجنة، وقد أخذ على نفسه العهد والميثاق ليغوين بني آدم إلاَّ الصالحين منهم الذين لا يجد إليهم سبيلاً ولا يستطيع أنْ يخلص إليهم، لأنَّه ضعيف فهو يخنس إذا سمع ذكر الله [النساء: 76].
ولذلك ولى مدبراً عندما التحم الجيشان ورأى ما لا يرون وخاف عذاب الله وشدة بأسه، ولم يخف من الله تعالى، فاللهم اصرف عنا كيد الشيطان إنَّ كيده كان ضعيفاً، واصرف عنا كيد أتباعه فإنَّهم لا يعجزونك.
المبحث السادس
موقف المنافقين من معركة بدر ومشاركة الملائكة
قال الله تعالى [الأنفال: 49-51].
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1530 باختصار.(1/42)
إنَّ المتتبع لآيات القتال في سورة الأنفال يجدها وكأنَّها عقد فريد متواصل لا ينفك بعضه عن بعض، فقد عرفنا في الوحدة القرآنية الخامسة (المبحث الخامس) عوامل النصر من: الثبات، وذكر الله، والأمر بالصبر، وتحمُّل مشاق القتال، والطاعة لولي الأمر عامة ولأمير الجهاد خاصة، وعدم التنازُّع والاختلاف، وتزيين الشيطان لأوليائه المشركين بأنَّه معهم وناصرهم، ثم خذلانه لهم، واستخفافه بهم، ونكوصه عنهم عندما رأى الفئتين التقتا. وهذه من نعمة الله سبحانه لأوليائه المجاهدين.
وفي هذه الوحدة القرآنية (المبحث السادس) يذكر سبحانه وتعالى ما كان من المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وبيَّن تعالى كيف يعذِّب أعداءه على أيدي ملائكته الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهذه على جهة العموم، ولكنه نصَّ على تعذيب الملائكة لكفار قريش في بدر وإذلالهم من جنس كبريائهم وبطرهم وخروجهم رئاء الناس، والجزاء من جنس العمل، وبهذا يتبيَّن أنَّ النص السابق كان يتحدث عن فريق من الناس ألا وهم الكفار الواضحون في كفرهم والذين خرجوا بطراً ورئاء الناس لحرب الإسلام والمسلمين.
بينما نجد هذا النص يتحدث عن صنفين آخرين ممن يحملون العداء أيضاً للإسلام والمسلمين، وهما: المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، وهم أهل الشك.
وفي تفسير الفخر الرازي: أمَّا المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج، وأمَّا الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا، ثم إنَّ قريشاً لما خرجوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أولئك: نخرج مع قومنا، فإنْ كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإنْ كان في قلة أقمنا في قومنا.
ثم قتل هؤلاء جميعاً مع المشركين يوم بدر.(1/43)
وقوله تعالى : قال ابن عباس: معناه أنَّه خرج بثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل، وما ذاك إلاَّ أنَّهم اعتمدوا على دينهم (1) .
والله جلَّ وعلا يذكِّر المؤمنين ويقول لهم: اذكروا وقت أنْ قال المنافقون والذين لم يخالط الإيمان شفاف قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .
أي أنَّ هؤلاء المؤمنين أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قد انخدعوا بدينهم وألقوا أنفسهم إلى التهلكة وأقدموا على قتال المشركين الذين يفوقونهم في العدد والعدة، وهذا يدل على جهلهم الفظيع وعدم معرفتهم بأسباب النصر الحقيقية، وكذا أسباب الهزيمة، ولذا انطلقت ألسنتهم ونطقت بما يضمرون في نفوسهم، ولكن الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية قد فضحهم، وهتك أستارهم، وهزمهم شر هزيمة على أيدي أوليائه الذين يعتمدون عليه ويفوضون أمرهم إليه .
فله العزة والقوة والغلبة، مهما تبجح الباطل وتطاول، وله الحكمة البالغة في نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.
هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه، وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه، وهذا ما يرجح الكفة، ويقرر النتيجة، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان.
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض عن العصبة المؤمنة يوم بدر
، هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه.
وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين، وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة، وهي الغيرة على ألوهية الله على حرمات الله، وهي التوكُّل على الله والثقة بنصره لأوليائه.
إنَّ المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر، وتستخف بالخطر، وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة وللأخطار الواضحة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي، 15/176.(1/44)
إنَّهم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور ـ كما يسمونه ـ وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة!!... إنَّهم يحسبون الحياة كلها ـ بما فيها الدين والعقيدة ـ صفقة في سوق التجارة، إنْ كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها، فأمَّا إنْ كان الخطر فالسلامة أوْلَى، إنَّهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان، إنَّها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائمة، فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلب أو الشهادة والجنة.
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أنْ تزن بميزان الإيمان والعقيدة، وأنْ تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه، أنْ ترى بنور الله وهداه، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة، وألا تستهين بقوتها ووزنها، فإنَّ معها الله، وأنْ تلقى بالها دائماً إلى تعليم الله سبحانه وتعالى للمؤمنين (1) .
ثم تتحدث الآيات في ختام هذه الوحدة القرآنية عن مصير الكافرين في الدنيا قبل الآخرة، وتذكرنا بقوله تعالى في أول السورة .
فالله تعالى يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكل من يصلح له الخطاب بقوله .
إنَّ الجزاء من جنس العمل، فلقد كان المشركون يعذبون المسلمين ويتفننون في ذلك فعاقبهم الله بمثل ذلك عندما نزع أرواحهم في غزوة بدر، وكذا بيَّنت الآيتان مصير الكافرين في الآخرة وما يلاقونه من عذاب الحريق بسبب ما اقترفوه من حرب لله ولرسوله والمؤمنين، ولو رأيت يا من تتأتى منك الرؤية وقت تعذيب الملائكة للكافرين وإهانتهم وإذلالهم لرأيت أمراً عظيماً ـ حيث حذف جواب (لو) للتهويل والتعظيم ـ فهم يضربون وجوههم وأستاءهم
ـ ولكن الله يكني ـ فكنى بالأدبار عن ذلك، إنَّها صورة بشعة يصورها القرآن الكريم للاعتبار والاتعاظ، فالناظر لا يطيق مجرد النظر إليها فضلاً عن تحمُّلها، كل ما حل بهم كان جزاءً وفاقاً لما عملوه وما ارتكبوه من الجرائم والآثام وإصرارهم على الكفر والطغيان .
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1533.(1/45)
والله سبحانه قد أعذر إليهم وبيَّن لهم الحق والصواب، ولكن نفوسهم الخبيثة أبت ذلك وأصرت على إلحادها وكفرها. فكان جزاؤها ما ذكر في هذا النص القرآني الكريم، ولكن هل من يتعظ بما جرى لأولئك وأنَّه سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم لم يفلته؟
ومن الظلم نقض العهود والمواثيق، وهو ما سنتحدث عنه في الوحدة القرآنية الآتية.
المبحث السابع
نقض أعداء الإسلام للعهود والمواثيق والأمر بإعداد العدة لقتالهم
قال الله تعالى [الأنفال: 55-60].
لا يزال الحديث عن آيات القتال متواصلاً في سورة الأنفال، لأنَّ غزوة بدر الكبرى تُعَدُّ البداية لانطلاقة القتال والفتوح، ووضع الأسس من العهود والمواثيق التي كانت بين المسلمين وغيرهم.
وقد جاءت هذه الآيات في هذه الوحدة القرآنية (المبحث السابع) لتبيِّن لنا صفات اليهود الذين ينقضون العهود، بعد أنْ عرفنا في الوحدة السادسة صفات الكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض.
فاليهود هذه طبيعتهم البارزة وصفتهم الخسيسة على مرّ العصور، وهي عدم وفائهم بالعهود، ومن هؤلاء بنو قريظة الذين نقضوا عهودهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاربوه ووقفوا مع المشركين في كثير من المواقف في بدر والأحزاب وغيرها.
قال أبو حيان: نزلت في بني قريظة، عاهدهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يمالئوا عليه، فنكثوا بأنْ أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، إلى أنْ قال ابن عباس: شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين منهم الناكثون للعهود، فأخبر تعالى أنَّهم جامعون لأنواع الشر (1) .
__________
(1) البحر المحيط، 4/508. وانظر: الكشاف، 2/164.(1/46)
كيف بالإنسان عندما يتصور نفسه، وليس هناك فرق بينه وبين سائر الحيوانات التي تدب على الأرض؟! وقد ميَّزه الله بالعقل، ولكنه عطَّل هذه النعمة وهبط إلى الحضيض فكان شر الدواب، لأنَّ هذا الصنف من الناس الذين أصروا على الكفر فصاروا أضل من الحيوانات، قد حكم الله وقضى أنَّهم لا يؤمنون، وأنَّ من سماتهم نقض العهود والمواثيق، كبني النضير وبني قريظة وغيرهم، فليس لهم عهد ولا ذمة عند الله جلَّ وعلا.
ومعنى أي تقدر عليهم وتلقاهم في حالة ضعف فتغلب عليهم فتأسرهم وتقتل بعضهم، وتنذر بهم من خلفهم من التسميع والتنكيل والتفريق والقتل، يقال: شردت بني فلان: قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها، وكذا الواحد، تقول: تركته شريداً عن وطنه وأهله (1) .
فإذا ما أدركت يا محمد ـ والخطاب له ولأُمَّته ـ هؤلاء الكفار من اليهود وغيرهم الذين ينقضون عهودهم، ففرِّق وشتِّت شملهم واجعلهم عبرة لغيرهم ممن تسول له نفسه المساس بهذا الدين ونقض العهود والمواثيق.
فلعل هذا القتل والأسر والتفريق يكون عبرة لأولئك المشردين فيفيئون إلى رشدهم ولا يفكرون في نقض عهودهم، وإذا ما بدر لك بادرة خيانة تدل على خيانتهم وغدرهم فاطرح إليهم عهدهم وانبذه بوضوح ظاهر قبل محاربتهم، ولا تباغتهم بقتال قبل إعلامهم، وبهذا يكون الأمر مستوياً بينكما في العلم بالقتال ونبذ العهود، حتى لا تتهم بالغدر والخيانة، فإنَّ الله تعالى لا يحب الخائنين، وهذا معنى قوله تعالى .
قال الإمام الفخر الرازي في معنى هذه الآية الكريمة: يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثاً بأمارات ظاهرة
فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر، وذلك أنْ تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بيناً، أنَّك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهُّم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك في العهود.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن باختصار، 8/30.(1/47)
وحاصل الكلام في هذه الآية أنَّه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أنْ يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه.
قال أهل العلم: آثار نقض العهد إذا ظهرت؛ فإمَّا أنْ تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به، فإنْ كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك لأنَّ قريظة عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله، فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه، فها هنا يجب على الإمام أنْ ينبذ إليهم عقودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.
أمَّا إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به، فها هنا لا حاجة إلى نبذ العهد، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة، فإنَّهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم من ذمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصل إليهم رسول الله بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة (1) .
وهكذا نرى تعاليم الإسلام وأخلاقه الفاضلة تفوق كل نظام على وجه الأرض، فتحتقر كل خوان أثيم، وتتوعده بالخزي والعار وبالهلاك والدمار في الدنيا قبل الآخرة، وبهذا تسمو هذه التعاليم بالبشرية، وتطلب منها أنْ تترفع عن كل ما من شأنه إصابة الناس بالخوف والذعر والاضطراب، ولهذا يُطمئن الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين المتمسكين بالتعاليم الإسلامية بأنَّه معهم وينتقم لهم من أعدائهم الكفار عاجلاً أو آجلاً .
إنَّ الكفار لا يفلتون من قبضة الله في كل زمان ومكان، فالذين أفلتوا من القتل والأسر يوم بدر وظنوا أنَّهم قد نجوا، وأنَّهم قد أعجزوا الله، فالله تعالى لهم بالمرصاد، وهم تحت تصرُّفه متى شاء أمكن المسلمين فقتلوهم وأسروهم، هذا في الدنيا، أمَّا في الآخرة فإنَّ الله قد أعدَّ لهم عذاباً أليماً خالدين فيه أبداً.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي، 15/183.(1/48)
"إنَّ الله تعالى في هذه الآية يعد المسلمين بالنصر ويهون عليهم أمر الكفار والكفر، فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق، لأنَّ الله لن يترك المسلمين وحدهم، ولن يفلت الخائنون لخيانتهم، والذين كفروا أضعف من أنْ يعجزوا الله حين يطلبهم، وأضعف من أنْ يعجزوا المسلمين والله ناصرهم. فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة ـ متى أخلصوا النية فيها لله ـ من أنْ يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة، فإنَّما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض، ويعلون كلمته في الناس، وينطلقون باسمه، ويجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك" (1) .
ثم بيَّن جلَّ وعلا أنَّ تلك الطائفة المنصورة والمؤيدة من عند الله، والموعودة بإهلاك عدوها مهما حاول الهروب والإفلات، هذه الطائفة لا بُدَّ أنْ تتخذ الوسائل النظيفة والأسباب الشريفة، وأنْ تعد العدة التي في استطاعتها ولا تدخر وسعاً في ذلك.
فكل ما في الاستطاعة يجب أنْ يبذل في سبيل الله خالصاً لوجهه الكريم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، بل يوفيهم الله خيراً مما أعدوا وأنفقوا، ولا يظلم ربك أحداً.
.
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1543.(1/49)
سبق أنْ عرفنا أنَّ الصحابة خرجوا إلى بدر وقصدوا الكفار دون أنْ يعدوا العدة، وجاء قبل هذه الآية أمره تعالى بالتشريد ونبذ العهد للناقضين، وكان هذا سبباً من الأسباب التي جعلت الأعداء يتكالبون على الرسول والمؤمنين لقتالهم، فأمرهم الله تعالى بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد، وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى، والأمر في الآية يقتضي العموم ـ أي عموم الكفار في أي زمان ومكان ـ فكما أُمِرَ المؤمنون أنْ يعدوا ما استطاعوا من أنواع القوة لقتال كفار قريش ومن والاهم ووقف معهم، فكذلك المؤمنون مأمورون بذلك لقتال أعداء الله المحاربين لدينه، الصادين عن سبيله، وما ورد في صحيح مسلم (1) عن عقبة بن عامر قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: : (ألا وإنَّ القوة الرمي، ألا وإنَّ القوة الرمي). فمعناه ـ والله أعلم ـ أنَّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي، كما جاء: (الحج عرفة) (2) .
وجاء قوله التخصيص بعد التعميم للتنصيص على فضل رباط الخيل، إذ كانت الخيل هي أصل الحروب والخير معقود بنواصيها، وهي مراكب الفرسان الشجعان، والمقصود من الإرهاب التخويف، فلا يفكر الكفار بدخول دار الإسلام، وقد يلتزمون بدفع الجزية أو يسلمون ولا يعينون سائر الكفار على حرب المسلمين.
فالكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خافوا وخوفوا من يليهم من الكفار، وأرهبوهم بإعلامهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب، فيخافون منكم، وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم، فخوفهم منكم من باب أوْلَى بل هو أشد، وذكر أولاً تعظيماً لما هم عليه من الكفر، وتقوية لذمهم، وأنه يجب لأجل عدواتهم لله أنْ يقاتلوا ويبغضوا، ثم قال:
__________
(1) كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، 13/64. وانظر: جامع الأصول، 2/147.
(2) أخرجه الترمذي في الحج، وأبو داود في المناسك، والنسائي في الحج، وجامع الأصول، 3/242.(1/50)
على سبيل التحريض على قتالهم، إذ في الطبع أنْ يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل.
وقد اختلف العلماء في المقصود بالذين من دونهم في قوله وسواء كانوا بني قريظة أو اليهود عموماً أو أهل فارس أو الجن أو المنافقين، فلا يهمنا ذلك، فالله عزَّ وجلَّ لم يحددهم، ولم يأت حديث صحيح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا عنهم .
ولذلك يرى بعض المفسرين أنَّه لا ينبغي أنْ يعين المقصود بهم، لأنَّه تعالى قال فكيف يدّعى أحد علماً بهم؟! (1) .
ثم حَضَّ تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره، وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل، وجهَّز عثمان جيش العسرة بألف دينار، وقد وعد سبحانه بأنْ يوف المنفق أجره، ويجازيه على إنفاقه وجهاده بماله، ويثيبه على ذلك دون نقص في الدنيا والآخرة (2) .
يقول الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ: "ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالاً، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله .
وهكذا يجرِّد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله من غاية أرضية، ومن كل دافع شخصي، ومن كل شعور قومي أو طبقي ليتمحض خالصاً لله
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 8/38.
(2) اقتبست معاني هذه الآية من البحر المحيط لأبي حيان، 4/512.(1/51)
لتحقيق كلمة الله، ابتغاء رضوان الله، ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه ـ منذ الوهلة الأولى ـ كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول، وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق، وكل حرب تقوم للقهر والإذلال، وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن أو قوم على قوم أو جنس على جنس أو طبقة على طبقة، ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة، حركة الجهاد في سبيل الله، والله سبحانه لا يريد تسويد جنس، ولا وطن، ولا قوم، ولا طبقة، ولا فرد، ولا شعب، إنَّما يريد أنْ تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته، وهو غني عن العالمين، ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير، والبركة، والحرية، والكرامة للعالمين (1) .
ونستطيع أنْ نتوصل إلى بعض العِبَر والعظات والمواعظ من هذه الآية الكريمة التي تأمر المسلمين بإعداد القوة للأعداء:
? أنَّه يجب بذل أقصى ما في الوسع واستفراغ الجهد الذي تقدر عليه الجماعة في الحصول على جميع أسباب القوة بأنواعها المختلفة، يدل على هذا قوله في الآية .
? أنَّ قوله سبحانه يدل على الوجوب، فالإعداد والاستعداد للقتال واجب ديني لا يسقط بحال، وهو ماضٍ إلى يوم القيامة.
? أنَّه لا بُدَّ من تضافر الجهود وحشد الطاقات لمواجهة الأعداء، فلفظ
خطاب للجماعة، فلا بُدَّ أنْ يكون الإعداد جماعياً حتى يكون له تأثير على الأعداء.
? أنَّ الإعداد يشمل كل ما تحمله هذه الكلمة في طياتها من صور الإعداد المادية والمعنوية المواكبة للعصر.
? إنَّ هذا الإعداد للسلاح والعتاد ينبغي أنْ يوجه إلى صدور الأعداء، وليس إلى الشعوب لقهرها وإذلالها وكتم أنفاسها، وهذا يفهم من لفظ في الآية الكريمة.
? أنَّ كل وقت له ما يناسبه من الإعداد، وكان الخيل له أهميته في ذلك الوقت ـ وسيظل مهماً في كل وقت ـ وهو نوع من أنواع القوة المطلوب إعدادها، لفضلها وورود الآيات والأحاديث الدالة على ذلك.
__________
(1) في ظلال القرآن، 3/1544.(1/52)
? أنَّ المسلمين لا بُدَّ أنْ يكونوا أقوياء حتى يحافظوا على حقوقهم ولا يطمع فيهم عدوهم، وخير وسيلة للمحافظة على الدين والسلام أنْ تكون قوياً. فقوة المسلمين سبب في إرهاب الأعداء الذين يظهرون الكفر أو يبطنونه.
? إنَّ بذل المال وإنفاقه على المجاهدين يُعَدُّ جهاداً في سبيل الله، ولهذا حثَّ الإسلام عليه وذكره في آية الأعداد والجهاد، و(من جهَّز غازياً فقد غزا) (1) .
والآيات والأحاديث كثيرة في هذا الباب، ولا يتسع المقام لذلك.
وينبغي أنْ يكون ما ينفقه المسلم خالصاً لوجه الله تعالى، وابتغاء رضوانه وإعلاء كلمته، فلا يتطلع إلى ثناء الناس عليه، حتى لا يكون أول من تسعَّر بهم النار والعياذ بالله.
المبحث الثامن
الميل إلى السلم وحض المؤمنين على القتال وتقوية الروح المعنوية في نفوسهم
قال الله تعالى [الأنفال: 61-66].
كانت الآيات في الوحدة السابقة ـ التي سبق الحديث عنها ـ تتحدث عن اليهود ومن على شاكلتهم الذين ينقضون العهود والمواثيق، وما ينبغي أنْ يتخذ في حقهم من ضربهم وقتالهم حتى يكونوا عبرة لمن وراءهم ممن تسول له نفسه نقض العهد والانقضاض على المسلمين.
كما كانت تتحدث كذلك عن فريق آخر منهم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتحينون الفرصة لنقض العهد، فالخوف منهم في نقضهم للعهد متوقع، والخيانة منهم ممكنة، لظهور أمارات وتصرفات ترشد إلى ذلك.
__________
(1) انظر: تفسير سورة الأنفال، للدكتور/ أبي فارس، ص 124 باختصار وتصرف.(1/53)
وفي هذه الوحدة الثامنة (في المبحث الثامن) لا يزال الحديث عن فريق ثالث من الناس، وهو الفريق المسالم الذي يبحث له عن مخرج حتى ينجو من جيش المسلمين فيطلب الهدنة ويسعى إلى السلام ويميل إليه حقاً، ولعل أعمالهم ومعاملتهم للمسلمين وتصرفاتهم تنبئ بذلك، فهذا الفريق ـ وبخاصة في تلك الفترة ـ قد أذن الله للمسلمين بالتعامل معهم والجنوح إلى المسالمة تحقيقاً لرغبتهم ومصلحة المسلمين في تلك الظروف التي تتطلب مثل ذلك.
قال تعالى .
يقال: جنح له وإليه يجنح جنوحاً، أي مال له وإليه، فالجنوح: الميل، وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه، ومنه جنحت السفينة، أي مالت إلى أحد جانبيها، وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير.
والمعنى: إنْ مالوا إلى السلم فَمِلْ إليهم، والسلم: المصالحة ولذلك انثت (1) .
فالمسلمون مأمورون بإعداد العدة وبذل ما في وسعهم لمواجهة عدوهم، ومتى شعر العدو بأنَّ المسلمين مستعدون لضربهم عند ذلك يلجأون إلى المسالمة والمصالحة، فمتى وصل المسلمون إلى هذه المرحلة ومال الأعداء إلى السلم وطلبوا ذلك؛ فعلى المسلمين أنْ يلبوا طلبهم، وهم متسلحون بإيمانهم، متوكلون على ربهم، مفوضون أمرهم إليه.
"وعبَّر سبحانه عن جنوحهم إلى السلم بحرف (إنْ) الذي يعبِّر به عن الشيء المشكوك في وقوعه، للإشارة إلى أنَّهم ليسوا أهلاً لاختيار المسالمة والمصالحة لذاتها، وإنَّما جنحوا إليها لحاجة في نفوسهم، فعلى المؤمنين أنْ يكونوا دائماً على حذر منهم وألا يأمنوا مكرهم" (2) .
وقد تكلَّم المفسرون حول هذه الآية؛ هل المراد بها فئة خاصة أم أنَّها عامة؟ وهل هي منسوخة بآيات القتال أم ليست بمنسوخة؟
__________
(1) انظر: لسان العرب، 2/428، مادة (جنح)، والبحر المحيط، 4/513.
(2) التفسير الوسيط، ص 187.(1/54)
وليس من طبيعة هذا البحث الخوض في مثل تلك الخلافات؛ والذي يهمنا أنَّ هذه الآية محكمة على الصحيح، وأنَّها عامة تنطبق على كل قوم يريدون الدخول في السلم ضمن ضوابط وشروط مقررة ومعروفة.
قال الزمخشري: "والصحيح أنَّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم، وليس بحتم أنْ يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً" (1) .
وهو كما قال ـ رحمه الله تعالى ـ فإنَّ الأمر موكول إلى الإمام، إلى القائد المسلم، فإنَّه هو الذي يقدِّر الأمور بقدرها ويقرِّر الحرب أو المصالحة والمسالمة بالتشاور مع أولي النهي والعقول من جنده.
يقول الإمام ابن كثير: "يقول تعالى إذا خفت من قوم خيانة ـ وهي عامة ـ فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإنْ استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، وإنْ جنحوا ومالوا للسلم والمصالحة والمهادنة؛ فاجنح لها، أي فمل إليها واقبل منهم ذلك، ولذلك لما طالب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخرى.
وأمَّا الآيات التي فيها الأمر بقتالهم؛ فهذا إذا أمكن ذلك، فأما إنْ كان العدو كثيفاً فإنَّه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية، وكما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم" (2) .
والكفار قد يميلون إلى السلم ويجنحون إليه ليس حباً فيه ولكن لوجود ضعف لديهم، وخوف من الجند الإسلامي فيطلبون المصالحة خداعاً منهم وتحيُّناً للفرصة السانحة التي ينقضون فيها على الأُمَّة الإسلامية.
__________
(1) الكشاف، 2/166. وانظر: البحر المحيط، 4/513.
(2) تفسير ابن كثير، 2/322 باختصار وتصرف يسير.(1/55)
والله عزَّ وجلَّ يوجه المسلمين ـ وفي مقدمتهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ـ بأنَّه كافيهم وسينصرهم عليهم، فلا يكون ذلك سبباً في عدم قبول السلم والميل إليه، والله تعالى يطمئنهم بأنَّه قادر على نصرهم، كيف لا؟!! وقد ألَّف بين قلوبهم بعد أنْ كانت متنافرة متباغضة، فصاروا بالإسلام إخوة متحابين ينصر بعضهم بعضاً ويؤثر بعضهم بعضاً.
.
قال الزمخشري: "لا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنَّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم.
والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة، لأنَّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغنية في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أنْ ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان.
ثم التفّت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحاب والتواد، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلاَّ من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء ويصنع فيها ما أراده.
وقد كان بين الأوس والخزرج من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم، ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن، ويديم التحاسٌّد والتنافُّس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المشابه أنْ تتجنب هذه ما أثارته أختها وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة، وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً، وما ذاك إلاَّ بلطيف صنعه وبليغ قدرته" (1) .
__________
(1) الكشاف، 2/166.(1/56)
إنَّ الدماء المسفوكة والضغائن الموروثة التي كانت بين القبيلتين لا يمكن أنْ تزيلها إلاَّ عقيدة الإيمان، فلولا نعمة الله عليهم وفضله، لما استطعت أنْ تؤلف بين قلوبهم، مهما توفرت لديك من وسائل وأعراض دنيوية، ومهما ناديت بأخوة الإنسان والأوطان، فإنَّ ذلك لا يجدي شيئاً، ولكن الله الذي جمعهم على كلمة التوحيد هو الذي جعل الإيمان يخالط شفاف قلوبهم، ويتجمعون في بوتقة واحدة متناسين كل شيء حدث بينهم، وبهذا التفوا حول قيادتهم الجديدة ونبيهم المرسل، فسعدوا في دنياهم وآخرتهم.
حض المؤمنين على القتال:
بعد أنْ تحدثت الآيات السابقة في هذا المبحث عن ذلك الفريق المسالم، وأمر الله فيها بالإجابة إلى المسالمة معه متى ما جنح إليها ومال إلى ذلك، وبيَّن تعالى مننه العظيمة عليهم، حيث ألَّف بين قلوبهم بعد تمزُّقها وتفرُّقها وتناحُّرها.
بعد هذا يأتي الخطاب لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمره فيه أنْ يحض أولئك الذين أنعم الله عليهم بالإيمان على الجهد في سبيله، وقتال أعدائه، ووعده بأنَّه كافيه وناصره هو وأتباعه من المؤمنين، فليست العبرة بالكثرة أو القلة، قال تعالى . هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال (1) .
ومعناها أنَّه لما وعده سبحانه بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً.
وفي معنى العطف في قوله تعالى قولان للعلماء:
الأول: التقدير: الله كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين، فالكاف في
في محل خفض، و في موضع نصب. والمعنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك.
فلا يقال ـ غالباً ـ: حسبك وأخاك، بل المعتاد أنْ يقال: حسبك وحسب أخيك.
__________
(1) انظر: تفسير الفخر الرازي، 15/191.(1/57)
والثاني: أنْ يكون المعنى: كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين، وعلى كلا المعنيين؛ فالنصر كله من عند الله، ولكنه سبحانه جعل المؤمنين ينصرونه من باب اتخاذ الأسباب المألوفة المعتادة (1) .
والمعنى: يا أيها النبي، هكذا يناديه سبحانه وتعالى بهذا النداء المحبب إلى نفسه، وهي صفة النبوة تشريفاً وتكريماً له - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يناده باسمه الصريح في كل القرآن، بينما نادى كثيراً من أنبيائه عليهم السلام بأسمائهم الصريحة كـ: آدم، ونوح، وإبراهيم، وداود، وموسى، وعيسى، وغيرهم. يا أيها النبي حسبك الله وكافيك، وحافظك من كل سوء ومكروه، وناصرك ومؤيدك أنت ومن اتبعك من المؤمنين، وعليكم أنْ تعملوا بالأسباب وتعدوا القوة حتى تكونوا أقوياء حسياً ومعنوياً.
وبعد هذا الوعد من الله تعالى يأتي الأمر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتحريض للمؤمنين على القتال، وحثهم عليه، وشحذ هممهم ببيان فضل الجهاد في سبيل الله وبذل الغالي والنفيس في ذلك، لأنَّهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إمَّا الظفر والنصر على الأعداء ونيل الغنيمة، وإمَّا الشهادة ونيل شرفها، فالمؤمنون يقاتلون لكي تكون كلمة الله هي العليا، ويدافعون عن دينهم الحق عن عقيدة راسخة ثابتة، بينما عدوهم يقاتل لكي ينال عرضاً من أعراض الدنيا، وقد يكون مكرهاً على ذلك فلا هدف له يسعى إليه، وعدوهم جاهل لا يفقه شيئاً في دنياه ولا آخرته.
.
والتحريض في اللُّغة: الحث على الشيء بكثرة الترغيب. وتسهيل الخطب فيه، كأنَّه في الأصل إزالة الحرض وهو الهلاك، ويقال لمن أشرف على الهلاك: حرض، ومنه قوله تعالى [يوسف: 85].
والتحريض على القتال: الحث والإحماء عليه (2) .
__________
(1) انظر: تفسير الفخر الرازي، 15/191، بتصرف واختصار. وراجع: زاد المسير في علم التفسير، 3/377.
(2) الفتوحات الإلهية، 2/255. وراجع: المفردات، للراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، مادة (حرض)، ص 113.(1/58)
وهذا النص الكريم يحمل الوعد من الله والبشارة بأنَّ الجماعة من المؤمنين إنْ صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ولأنَّ الكفار قوم لا يفقهون؛ فهم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى (1) .
وهنا سؤال يفرض نفسه: ما هي العلاقة بين عدم فقههم وبين نصر المؤمنين وهزيمتهم؟
الجواب: ما سبق من أنَّ الكفار قوم جهلة، يقاتلون دون هدف يسعون إليه، ودون إيمان بالله واليوم الآخر وطلب ثواب، فهم كالبهائم لا تفقه شيئاً.
يقول الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ: فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر؟
ولكنها صلة حقيقية، وصلة قوية، إنَّ الفئة المؤمنة إنَّما تمتاز بأنَّها تعرف طريقها، وتفقه منهجها، وتدرك حقيقة وجودها، وحقيقة غايتها، وأنَّها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فتفقه أنَّ الألوهية لا بُدَّ أنْ تنفرد وتستعلي، وأنَّ العبودية يجب أنْ تكون لله وحده بلا شريك، وتفقه أنَّها هي الأُمَّة المسلمة المهتدية بهدى الله، المنطلقة في الأرض بإذن الله، لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وأنَّها هي المستخلفة عن الله في الأرض، الممكنة فيها لا لتستعلي هي وتستمتع، ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله.
بينما أعداؤها قلوبهم مغلقة، وبصائرهم مطموسة، وقوتهم كليلة عاجزة، مهما تكن متفوقة ظاهرة، إنَّها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير (2) .
__________
(1) انظر: الكشاف، 2/167.
(2) في ظلال القرآن، 3/1550.(1/59)
فهاتان الجملتان شرطيتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين، وبصبر مائة لألف، ولذلك دخلها النسخ، إذ لو كان خبراً محضاً لم يكن فيه النسخ، لأنَّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النسخ، وهذا من ذلك، ولذلك نسخ بقوله تعالى (1) .
وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنَّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضاً، ثم لما شق عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقريب أيضاً، وسواء كان فرضاً أم ندباً هو نسخ، وقول من قال: إنَّه تخفي لا نسخ كمكي بن أبي طالب ضعيف (2) .
والمتأمل في الآيتين الكريمتين يحد أنَّه قد أثبت في الشرط الأول قيداً وهو الصبر، وحذفه من الثاني، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونهم من الكفرة، وحذفه من الأول، والتقدير: مائتين من الذين كفروا ومائة صابرة.
فحذف من كل منهما ما أثبت في الآخر، وهو غاية الفصاحة (3) .
فإنْ قيل: حاصل هذه العبارة المطولة: أنَّ الواحد يثبت للعشرة، فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة؟
وقد أُجيب بأنَّ هذا إيماء ورد على وفق الواقع، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا، والغالب أنَّ تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذيْن العدديْن (4) .
وتختتم هذه الوحدة القرآنية بقوله تعالى ، وهو تذييل يتناسب مع الآيات التي تحض على القتال وتعدهم بالنصر على الأعداء، وأنَّ الله معهم بتأييده ومعونته، وهذا يؤكد على الأُمَّة المسلمة الاستمرار الدءوب على تربية أجيالها وعناصرها التربية الجهادية الشجاعة.
__________
(1) البحر المحيط، 4/516.
(2) المصدر نفسه، والقول بالنسخ رأي أكثر العلماء، ويرى بعضهم أنَّه ليس بنسخ وإنَّما هو تخفيف. انظر: الفخر الرازي، 15/196.
(3) الفتوحات الإلهية، 2/256.
(4) المصدر نفسه.(1/60)
ويجب عليها ألا تهن ولا تضعف أمام عدوها، وإنْ كان عدد أفرادها قلة، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ ينصر أولياءه بسبب طاعتهم، ويهزم أعداءه بسبب عصيانهم وتمردهم وكفرهم، وهذه سنته في خلقه لا تتبدل.
وصدق الله إذ يقول [آل عمران: 139].
خاتمة
هذه هي آيات القتال في سورة ـ حديث الساعة ـ قمتُ بدراستها واستنباط الفوائد والعبر والمواعظ منها، وشحذ الهمم من خلال نصوصها، ولا شك أنَّ كتب التفسير كثيرة قد ملئت بها المكتبات على اختلاف مناهجها واتجاهاتها، وحسبي أني استقيت موضوع بحثي من تلك الكتب، وحاولت جاهداً أنْ أجمع أشتاته وأقرب أبعاده، ولا أدعي أني قد ألممت بكل جوانب تلك الآيات، فالقرآن بحر لا ساحل له، وكل يغترف منه بقدر ما يعطيه الله من فهم للنصوص، ووقت للاطلاع، وإمعان النظر في كلام الله، وبقدر ما يفتح الله عليه من فهم للنصوص وتذوق لها، والاستفادة من كلام العلماء في تفسيرها واستنباط المواعظ والعبر والدروس منها.
وإنَّ على الأُمَّة الإسلامية أنْ تهتم بكتاب ربها بصفة عامة ـ حفظاً، وتفسيراً، ونشراً، وتعليماً ـ وموضوع القتال فيه بصفة خاصة، لما يترتب على ذلك من حماية للدين والعقيدة حتى ترفرف راية التوحيد في ربوع المعمورة، وحتى تنكسر شوكة المتغطرسين من أعداء هذا الدين الحنيف.
.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ..(1/61)