ـ[آصرةُ العقيدة هي الأساسُ]ـ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
الطبعة الثانية
مزيدة ومعدلة
1431 هـ 2010 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الناس حاولوا وما زالوا يحاولون في التجمع على أساس الوطن الواحد أو اللغة الواحدة أو الأهداف والمصالح المشتركة، أو على أساس اللون أو العرق أو الجنس ونحو ذلك، وسرعان ما تضمحل وتتلاشى هذه التجمعات الجاهلية، لأنها ليست قائمة على الأساس المتين، الذي لا تنفصم عراه، ألا وهو العقيدة الواحدة.
لقد أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على أساس وحدة العقيدة، التي تنبثق منها جميع التصورات الأخرى، وجعل الولاء والبراء على أساسها فقط، ومن ثم فإن المسلم أخو المسلم أينما كان وأينما حلَّ، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92) سورة الأنبياء.
وقال تعالى منددا بكل التصورات الجاهلية التي تقوم عليها المجتمعات الجاهلية: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِتَوَعُّدِ مَنْ آثَرَ حُبَّ القَرَابَةِ وَالعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ وَالتِّجَارَةِ وَالأَمْوَالِ وَالمَسَاكِنِ. . . . عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، بِأَنْ يَتَرَبَّصُوا أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ، وَيَنْتَظِرُوا عِقَابَهُ وَنَكَالَهُ بِهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى لا يَهْدِي الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ سَوَاءَ السَّبِيلِ. (1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد [ص 1260](1/1)
لذلك فإن جميع الأطروحات التي قدمت لهذه الأمة من أجل وحدتها وإعادة بنائها من جديد، قد باءت بالفشل الذريع؛ لأنها عاجزة عن جمع أسرة واحدة، فكيف بجميع الأسر؟!!
لقد آن للأمة المسلمة أن ترجع إلى وحي ربها تستلهم منه معالم وجودها وطرق سعادتها، بدلا من الترنح يمنة ويسرة، قال تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (101) سورة آل عمران
وقد جمعت عددا من الموضوعات القرآنية التي تشير إلى هذه الحقيقة، ووضعت لها العناوين المناسبة، لعل الله تعالى أن ينفع به من أراد أن يذكَّر أو أراد نشورا.
أسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلفه وجامعه وناشره والدال عليه في الدارين.
قال تعالى مانًّا على الأمة المسلمة: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (26) سورة الأنفال
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 15 شعبان 1431 هـ الموافق ل 26/ 7/2010 م
وعدل بتاريخ 4 ذو القعدة 1431 هـ الموافق ل 11/ 10/2010 م(1/2)
جِنْسِيّة المُسْلِم وَعَقِيدَتُه
جاء الإسلام إلى هذه البشرية بتصور جديد لحقيقة الروابط والوشائج، يوم جاءها بتصور جديد لحقيقة القيم والاعتبارات، ولحقيقة الجهة التي تتلقى منها هذه القيم وهذه الاعتبارات.
جاء الإسلام ليرد الإنسان إلى ربه، وليجعل هذه السلطة هي السلطة الوحيدة التي يتلقى منها موازينه وقيمه، كما تلقى منها وجوده وحياته، والتي يرجع إليها بروابطه ووشائجه، كما أنه من إرادتها صدر وإليها يعود.
جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله فإذا انبتَّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ... [المجادلة:22]
وأن هناك حزباً واحداً لله لا يتعدد، وأحزاباً أخرى كلها للشيطان وللطاغوت: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} ... [النساء:76]
وأن هناك طريقاً واحداً يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدي إليه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ... [الأنعام:153]
وأن هناك نظاماً واحداً هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]
وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو هوى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ... [الجاثية:18]
وأن هناك حقاً واحداً لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .. [يونس:32]
وأن هناك داراً واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضاً، وما عداها فهو دار(1/3)
حرب، علاقة المسلم بها إما القتال، وإما المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ... } [الأنفال:72 - 75]
بهذه النصاعة الكاملة، وبهذا الجزم القاطع جاء الإسلام .. جاء ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، ومن وشائج اللحم والدم - وهي من وشائج الأرض والطين - فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الارتباط في الله، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في " الأمة المسلمة " في " دار الإسلام "،ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله ...
ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجه وعشيرته، ما لم تنعقد الآصرة الأولى في الخالق، فتتصل من ثم بالرحم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ... [النساء:1]
ولا يمنع هذا من مصاحبة الوالدين بالمعروف مع اختلاف العقيدة ما لم يقفا في الصف المعادي للجبهة المسلمة، فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي يعطينا المثل في جلاء:روى ابن جرير بسنده قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُسَمُّونَ الْمُهَاجِرِينَ: الْجَلَابِيبَ؛ وَقَالَ: قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْجَلَابِيبِ أَمْرِي، قَالَ: هَذَا بَيْنَ أَمَجٍ وَعُسْفَانَ عَلَى الْكَدِيدِ تَنَازَعُوا(1/4)
عَلَى الْمَاءِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قَدْ غَلَبُوا عَلَى الْمَاءِ؛ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ أَيْضًا: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ، لَوْ تَرَكْتُمُوهُمْ مَا وَجَدُوا مَا يَأْكُلُونَ، وَيَخْرُجُوا وَيَهْرُبُوا؛ فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أُبَيٍّ؟ قَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ " فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " إِذًا تَرْعَدُ لَهُ آنَفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ ". قَالَ عُمَرُ: فَإِنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ بِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَيَقْتُلَانِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ادْعُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ". فَدَعَاهُ، فَقَالَ: " أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ؟ " قَالَ: وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: " يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ "؛ فَقَالَ: فَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ وَاللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ لَيَعْلَمُونَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَبَرَّ مِنِّي، وَلَئِنْ كَانَ يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لَآتِيَنَّهُمَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا ". فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ لِأَبِيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَتَعْرِفَنَّ الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّهُ، وَلَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَقَالَ: يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: " اذْهَبُوا إِلَيْهِ، فَقُولُوا لَهُ خِلِّهِ وَمَسْكَنَهُ "؛ فَأَتَوْهُ، فَقَالَ: أَمَا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَمْ ". (1) ..
فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .. على سبيل القصر والتوكيد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ... [الأنفال:72]
__________
(1) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (23/ 405) فيه ضعف(1/5)
وهي ولاية تتجاوز الجيل الواحد إلى الأجيال المتعاقبة، وتربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، برباط الحب والمودة والولاء والتعاطف المكين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9 - 10]
ويضرب الله الأمثال للمسلمين بالرهط الكريم من الأنبياء الذين سبقوهم في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ... [هود:45 - 47]
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ... [البقرة:124]
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ... [البقرة:126]
ويعتزل إبراهيم أباه وأهله حين يرى منهم الإصرار على الضلال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} ... [مريم:48]
ويحكي الله عن إبراهيم وقومه ما فيه أسوة وقدوة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. [الممتحنة:4]
والفتية أصحاب الكهف يعتزلون أهلهم وقومهم وأرضهم ليخلصوا لله بدينهم، ويفرُّوا إلى ربهم بعقيدتهم، حين عز عليهم أن يجدوا لها مكاناً في الوطن والأهل والعشيرة.(1/6)
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} .. [الكهف:13 - 16]
وامرأة نوح وامرأة لوط يفرق بينهما وبين زوجيهما حين تفترق العقيدة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. [التحريم:10]
وامرأة فرعون على الضفة الأخرى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ... [التحريم:11]
وهكذا تتعدد الأمثال في جميع الوشائج والروابط .. وشيجة الأبوة في قصة نوح، ووشيجة البنوة والوطن في قصة إبراهيم، ووشيجة الأهل والعشيرة والوطن جميعاً في قصة أصحاب الكهف، ورابطة الزوجية في قصص امرأتي نوح ولوط وامرأة فرعون ..
وهكذا يمضي الموكب الكريم في تصوره لحقيقة الروابط والوشائج .. حتى تجيء الأمة الوسط، فتجد هذا الرصيد من الأمثال والنماذج والتجارب، فتمضي على النهج الرباني للأمة المؤمنة، وتفترق العشيرة الواحدة، ويفترق البيت الواحد، حين تفترق العقيدة، وحيث تنبت الوشيجة الأولى، ويقول الله سبحانه في صفة المؤمنين قوله الكريم: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ... [المجادلة:22]
وحين انبتَّت وشيجة القرابة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي لهب، وابن عمه عمرو بن هشام (أبو جهل) وحين قاتل المهاجرون أهلهم وأقرباءهم وقتلوهم يوم بدر .. حينئذ(1/7)
اتصلت وشيجة العقيدة بين المهاجرين والأنصار، فإذا هم أهل وإخوة، واتصلت الوشيجة بين المسلمين العرب وإخوانهم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي. وتوارت عصبية القبيلة، وعصبية الجنس، وعصبية الأرض. قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا فِى غَزَاةٍ - قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فِى جَيْشٍ - فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ «مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ فَقَالَ فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ. قَالَ سُفْيَانُ فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرًا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ..
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» (2). .. فانتهى أمر هذا النتن .. نتن عصبية النسب. وماتت هذه النعرة .. نعرة الجنس، واختفت تلك اللوثة .. لوثة القوم، واستروح البشر أرج الآفاق العليا، بعيداً عن نتن اللحم والدم، ولوثة الطين والأرض .. منذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، إنما عاد وطنه هو " دار الإسلام " الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها .. وهي " دار الإسلام " لكل من يدين بالإسلام عقيدة ويرتضي شريعته شريعة، وكذلك لكل من يرتضي شريعة الإسلام نظاماً - ولو لم يكن مسلماً - كأصحاب الديانات الكتابية الذين يعيشون في " دار الإسلام " .. والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي " دار الحرب " بالقياس إلى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4905) -كسع: ضرب دبره بيده
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5123) حسن(1/8)
المسلم، وإلى الذمي المعاهد كذلك .. يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده، وفيها قرابته من النسب وصهره، وفيها أمواله ومنافعه.
وكذلك حارب محمد - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي مسقط رأسه، وفيها عشيرته وأهله، وفيها داره ودور صحابته وأموالهم التي تركوها. فلم تصبح دار إسلام له ولأمته إلا حين دانت للإسلام وطبِّقت فيها شريعته.
هذا هو الإسلام .. هذا هو وحده .. فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، ولا ميلاداً في أرض عليها لافتة إسلامية وعنوان إسلامي! ولا وراثة مولد في بيت أبواه مسلمان.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. [النساء:65]
هذا هو وحده الإسلام، وهذه هي وحدها دار الإسلام .. لا الأرض ولا الجنس، ولا النسب وإلا الصهر، ولا القبيلة، ولا العشيرة.لقد أطلق الإسلام البشر من اللصوق بالطين ليتطلعوا إلى السماء، وأطلقهم من قيد الدم .. قيد البهيمة .. ليرتفعوا في عليين.
وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم، وراية المسلم التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم، وانتصار المسلم الذي يهفوا إليه ويشكر الله عليه ليس غلبة جيش. إنما هو كما قال الله عنه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ... [سورة النصر]
إنه النصر تحت راية العقيدة دون سائر الرايات. والجهاد لنصرة دين الله وشريعته لا لأي هدف من الأهداف، والذياد عن " دار الإسلام " بشروطها تلك لا أية دار، والتجرد بعد هذا كله لله، لا لمغنم ولا لسمعة، ولا حمية لأرض أو قوم، أو ذود عن أهل أو ولد، إلا لحمايتهم من الفتنة عن دين الله: فعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ(1/9)
يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» (1). ...
وفي هذا وحده تكون الشهادة لا في أية حرب لأي هدف غير هذا الهدف الواحد .. لله .. وكل أرض تحارب المسلم في عقيدته، وتصدُّه عن دينه، وتعطل عمل شريعته، فهي " دار حرب " ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته .. وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته، فهي " دار إسلام " ولو لم يكن فيها أهل ولا عشيرة، ولا قوم ولا تجارة.الوطن: دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله .. هذا هو معنى الوطن اللائق " بالإنسان ". والجنسية: عقيدة ومنهاج حياة. وهذه هي الآصرة اللائقة بالآدميين. إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة .. عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي، وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " منتنة " بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزز والاشمئزاز.
ولما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار بجنسهم وقومهم ردَّ الله عليهم هذه الدعوى، ورد ميزان القيم إلى الإيمان وحده على توالي الأجيال، وتغاير الأقوام والأجناس والأوطان: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} ... [البقرة:135 - 138]
فأما شعب الله المختار حقاً فهو الأمة المسلمة التي تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان والأوطان: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ... [آل عمران:110]
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5029)(1/10)
الأمة التي يكون من الرعيل الأول فيها أبو بكر العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام. والتي تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع .. الجنسية فيها العقيدة، والوطن فيها هو دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن. هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية وللقرابة هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله، والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختلط به أوشاب التصورات الجاهلية الدخيلة، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية: الشرك بالأرض، والشرك بالجنس، والشرك بالقوم، والشرك بالنسب، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة، تلك التي يجمعها الله سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة، ويضع الإيمان ومقتضياته في كفة أخرى، ويدع للناس الخيار: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ... [التوبة:24]
كذلك لا ينبغي أن تقوم في نفوس أصحاب الدعوة إلى الله تلك الشكوك السطحية في حقيقة الجاهلية وحقيقة الإسلام، وفي صفة دار الحرب ودار الإسلام .. فمن هنا يؤتى الكثير منهم في تصوراته ويقينه .. إنه لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية .. وليس بعد الحق إلا الضلال .. (1)
__________
(1) - معالم في الطريق بتحقيقي [ص 127] فما بعدها(1/11)
الآصرة التي يتجمع عليها الناس آصرة العقيدة في اللّه
يقول السيد رحمه الله:
"لقد عشت أسمع اللّه - سبحانه - يتحدث إليّ بهذا القرآن .. أنا العبد القليل الصغير .. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة .. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال .. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال .. وأعجب .. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود .. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني .. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب .. وأسأل .. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها اللّه، وحركة هذا الكون الذي أبدعه اللّه .. ثم أنظر .. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها اللّه عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟
يا حسرة على العباد!!!(1/12)
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود .. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه .. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها .. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول .. والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق. وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه مقدمة كله. إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .. «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» .. أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد .. إنه إنسان بنفخة من روح اللّه: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» .. وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. ومسخر له كل ما في الأرض: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..
ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل اللّه الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في اللّه .. فعقيدة المؤمن هي وطنه.
وهي قومه، وهي أهله .. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج! ..
والمؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب(1/13)
ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد .. عليهم الصلاة والسلام .. «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» ..
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر اللّه، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد اللّه الصادق الأكيد: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم .. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد " .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 11](1/14)
الحج يجمع المسلمين من خلال العقيدة فقط
قال تعالى: «فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والمشعر الحرام هو المزدلفة. والقرآن هنا يأمر بذكر اللّه عنده بعد الإفاضة من عرفات. ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية اللّه لهم وهو مظهر الشكر على هذه الهداية. ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم: «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها .. لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال .. ضلال في التصور، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة، ونسبة بنوة الملائكة إلى اللّه، ونسبة الصهر إلى اللّه مع الجن .. إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة، التي كانت تنشئ بدورها اضطرابا في العبادات والشعائر والسلوك: من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة. ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها. ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة .. وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية .. تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ».
إلى إزالتها كما سيجيء. وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي. وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية، والعلاقات الزوجية، وعلاقات الأسرة بصفة عامة. وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع .. وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام.
وحين كانوا يسمعون: «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي(1/15)
رفعهم إليه الإسلام، والذي هداهم اللّه إليه بهذا الدين، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل .. من هم بغير الإسلام؟
وما هم بغير هذه العقيدة؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم. ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي .. وإن البشرية كلها لتتيه في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي .. لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال! وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي، على البشرية كلها في جميع تصوراتها، وجميع مناهجها، وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا، ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث، ومن عنت، ومن شقوة، ومن ضآلة، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله! فهذا هو الذي يذكر اللّه به المسلمين، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى: «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فردا عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنسا عن جنس .. إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة. وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها «الحمس» جمع أحمس، ويتخذون(1/16)
لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب. ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يفيضون - أي يرجعون - من حيث يفيض الناس. فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْتِىَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) (1).قفوا معهم حيث وقفوا، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا .. إن الإسلام لا يعرف نسبا، ولا يعرف طبقة.
إن الناس كلهم أمة واحدة. سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت اللّه إخوانا متساوين. فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب .. ودعوا عنكم عصبية الجاهلية، وادخلوا في صبغة الإسلام .. واستغفروا اللّه ..
استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية. واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس، أو نطق بها اللسان. مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال.
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه. أساس المساواة، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعا .. وهكذا يردهم إلى استغفار اللّه من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع .... (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [15/ 8] (4520) وصحيح مسلم- المكنز [8/ 60] (3013)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 199](1/17)
الدخول في السلم الحقيقي
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَإِنْ زَلَلْتُمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم باللّه الذي يدعوهم .. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ..
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم للّه، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع للّه ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية .. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد اللّه بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء. وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره للّه ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته ..(1/18)
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد اللّه القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب ..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان .. فاللّه خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعا.
وهو كريم على اللّه، وهو خليفته في أرضه. واللّه معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى اللّه ربه. وهو مدعو إلى(1/19)
هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات .. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط .. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة .. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان اللّه. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما اللّه يريد ظلما للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد اللّه .. من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج اللّه فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع(1/20)
وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة .. ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدا إلى اللّه في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر اللّه، في طاعة اللّه، لتحقيق إرادة اللّه .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون اللّه ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء .. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء اللّه وأعداءه. فهو إنما يقاتل للّه، وفي سبيل اللّه، ولإعلاء كلمة اللّه ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة اللّه مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى اللّه وهو معها يتجه إلى اللّه.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء .. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى اللّه في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.(1/21)
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..
هذا المجتمع الذي يسمع اللّه يقول له: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات .. والذي يرى صورته في قول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». (1) ..
هذا المجتمع الذي من آدابه: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء .. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان .. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6751)(1/22)
أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور .. وقول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا».وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». (1) ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا .. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع اللّه - سبحانه - يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور .. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور .. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور
.. {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور .. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6706)(1/23)
مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} سورة الأحزاب ..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب .. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة اللّه لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.(1/24)
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين للّه ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم اللّه وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام اللّه رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها للّه فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها للّه في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان .. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد».حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت .. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان باللّه؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس(1/25)
عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار .. والحال كهذا في أمريكا .. والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا اللّه الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق اللّه وإما طريق الشيطان. وإما هدى اللّه وإما غواية الشيطان .. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد .. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة اللّه وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر .. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان .. ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج اللّه أو غواية الشيطان. واللّه يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان. (1).
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات. وخلود. وتكريم من اللّه: «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. «خالِدِينَ فِيها» .. «نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 206](1/26)
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة، وهذا النصيب في كفة، أن ما عند اللّه خير للأبرار. وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان. وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب! إن اللّه - سبحانه - في موضع التربية، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة .. مما يعدهم به في مواضع أخرى، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه.
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا. هو «ما عِنْدَ اللَّهِ».فهذا هو الأصل في هذه الدعوة. وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة: التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة اللّه وقهر أعداء اللّه - حتى هذه الرغبة يريد اللّه أن يتجرد منها المؤمنون، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها! هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء .. فقط. وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء .. ثم انتظار كل شيء هناك! ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء .. ولكن هذا ليس داخلا في البيعة. ليس جزءا من الصفقة.
ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا. وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء .. والابتلاء ..
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة وعلى هذا كان البيع والشراء. ولم يمنح اللّه المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية، إلا حين تجردوا هذا التجرد، ووفوا هذا الوفاء:
عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَتِ الْأَنْصَارُ وَعَدَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ , فَأَتَاهُمْ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ تَكَلَّمُوا وَأَوْجِزُوا فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا " فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِكَ , فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:" أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَلِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ , وَلِأَصْحَابِي الْمُسَاوَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ " ثُمَّ خَطَبَ خُطْبَةً لَمْ(1/27)
يَخْطُبِ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ خُطْبَةً مِثْلَهَا قَالَ: فَمَا لَنَا قَالَ:" الْجَنَّةُ " قَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ بَايِعُكَ. ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فَقَالَ يَعْنِي أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ , إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ , فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَيْهَا إِذَا مَسَّتْكُمْ وَقُتِلَ خِيَارُكُمْ وَمُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ , وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ , فَقَالُوا يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنْهُ يَدَكَ فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا , قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشَرْطِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ." (1)
هكذا .. «الجنة» .. والجنة فقط! لم يقل: النصر والعز والوحدة. والقوة. والتمكين. والقيادة. والمال.
والرخاء - مما منحهم اللّه وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة! وهكذا .. ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل .. لقد أخذوها صفقة بين متبايعين أنهي أمرها، وأمضي عقدها.
ولم تعد هناك مساومة حولها! وهكذا ربى اللّه الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها. فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة (2).
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (4/ 232) (2540) صحيح لغيره
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 550](1/28)
الأمة المسلمة تجمعها آصرة المنهج الإلهي
قال تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» ..
إن اللّه - سبحانه - يتلطف مع عباده فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر. إنه يكرمهم - سبحانه - وهو يرفعهم إلى هذا الأفق. الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم وليقول لهم: إنه يريد: أن يبين لهم ..
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» .. يريد اللّه ليكشف لكم عن حكمته ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة، وأن تتدبروها، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب فهي ليست معميات ولا ألغازا وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية وأنتم أهل لإدراك حكمتها وأهل لبيان هذه الحكمة لكم .. وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.
«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. فهذا المنهج هو منهج اللّه الذي سنه للمؤمنين جميعا. وهو منهج ثابت في أصوله، موجد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه .. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد. ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون.
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى اللّه في كل زمان ومكان ويكشف عن وحدة منهج اللّه في كل زمان ومكان ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق اللاحب الطويل. وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه .. إنه من هذه الأمة المؤمنة باللّه، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والألوان وتربطها سنة اللّه المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل.(1/29)
«وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» .. فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ليرحمكم ... ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل، والتوبة من المعصية. ليمهد لكم الطريق، ويعينكم على السير فيه ..
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ... فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات. ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات. العلم بنفوسكم وأحوالكم. والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم. والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء ... «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» .. وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده اللّه للناس بمنهجه وطريقته، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات، ويحيدون عن منهج اللّه - وكل من يحيد عن منهج اللّه إنما يتبع الشهوات - فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام،وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع، وشهوة تطاع، وانحراف وفسوق وضلال. فماذا يريد اللّه بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم.
يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة.
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها اللّه، ولم يشرعها لعباده؟
إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة: ميدان تنظيم الأسرة وتطهير المجتمع وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة، التي يحب اللّه أن يلتقي عليها الرجال والنساء وتحريم ما عداها من الصور، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون .. في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده اللّه وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟
فأما ما يريده اللّه فقد بينته الآيات السابقة في السورة. وفيها إرادة التنظيم، وإرادة التطهير، وإرادة التيسير، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال.(1/30)
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني، أو أخلاقي، أو اجتماعي .. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، من أي لون كان. السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة. يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة! كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة! وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر اللّه المؤمنين إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات. وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف. وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي، الذي لا عاصم منه، إلا منهج اللّه، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء اللّه .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 630](1/31)
آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة وحدها
قال تعالى: «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» ..
والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود الذين كان المنافقون يأوون إليهم ويتخنسون عندهم، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
واللّه - جل جلاله - يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر اللّه - عز وجل - بالعزة فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه.
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة للّه وحده فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين! ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها .. العبودية للّه .. فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى وأشخاص شتى واعتبار ات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار .. وإنه إما عبودية للّه كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد اللّه كلها استخذاء وذلة وأغلال .. ولمن شاء أن يختار .. وما يستعز المؤمن بغير اللّه وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء اللّه وهو يؤمن باللّه. وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء اللّه في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن .. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين .. وإلا فإن اللّه غني عن العالمين! ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين(1/32)
ماتوا على الكفر واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية ..
عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَشَرَفًا فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ " (1) ..
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة. وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون باللّه منذ فجر التاريخ.
في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.
وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى .. يسمي ذلك تسامحا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي!!!
وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان! إن الحمية للّه، ولدين اللّه، ولآيات اللّه. هي آية الإيمان. وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار. وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا. ثم تهمد. ثم تخمد. ثم تموت!
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله. فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة. وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!
وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين - ذوي النفوذ - وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ. وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة .. حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها، هو أولى مراحل الهزيمة. وأراد أن يجنبهم إياها .. ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقا. فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها
__________
(1) - شعب الإيمان - (7/ 129) (4769) صحيح(1/33)
. وإلا فهو النفاق .. وهو المصير المفزع، مصير المنافقين والكافرين: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ... والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب، هو قوله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية - «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» ..
والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» ..
والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ..
ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات اللّه ويستهزأ بها، وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين، يشي - كما أسلفنا - بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة - إذ ذاك - والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى - كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع .. في عالم الواقع .. مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع!
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين، فيرسم لهم صورة زرية منفرة وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه ويمسكون العصا من وسطها، ويتلوون كالديدان والثعابين: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
وهي صورة منفرة. تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر، وما يتربصون بها من الدوائر. وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من اللّه ونعمة فيقولون: حينئذ: «أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟» .. ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم(1/34)
بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم! «وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟» ..
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم وخذّلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!!
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين. في قلوبهم السم. وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين .. وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه ربه في مسألة المنافقين، هي الإغضاء والإعراض، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين! فإنه يكلهم هنا إلى حكم اللّه في الآخرة حيث يكشف الستار عنهم، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور. ويطمئن الذين آمنوا بوعد من اللّه قاطع أن هذا الكيد الخفي الماكر، وهذا التآمر مع الكافرين، لن يغير ميزان الأمور ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة. حيث يحكم اللّه بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل.
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط اللّه الكافرين على المسلمين تسليط استئصال. وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين.
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب، لأنه ليس فيه تحديد.
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد .. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا. ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من اللّه قاطع. وحكم من اللّه جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة، ونظاما للحكم، وتجردا للّه في كل خاطرة وحركة، وعبادة للّه في الصغيرة والكبيرة .. فلن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ..(1/35)
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها! وأنا أقرر في ثقة بوعد اللّه لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان. إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل اللّه وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون!
ففي «أحد» مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الطمع في الغنيمة. وفي «حنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد اللّه فهو حق في كل حين. نعم. إن المحنة قد تكون للابتلاء .. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه اللّه على المسلمين (1) - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد اللّه عن يقين.
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك .. إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح، وكلال العزيمة. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا. فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق .. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد. ولو طال الطريق!
كذلك حين يقرر النص القرآني: أن اللّه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا .. فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود. وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا وفي حياتها واقعا وعملا. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها ..
__________
(1) - تراجع غزوة أحد في سورة آل عمران في الجزء الرابع من الظلال من ص 457 - ص 533 من هذه الطبعة. «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/36)
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان. ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من اللّه. ووعد اللّه هذا الأكيد، يتفق تماما مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ..
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لا تضعف ولا تفنى .. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها .. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا. غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية. ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها .. ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن «حقيقة» الكفر تغلبه، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها .. لأن حقيقة أي شيء أقوى من «مظهر» أي شيء. ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان!
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق. وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل. مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون .. «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» .. «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 779](1/37)
لا ولاية بين المؤمنين والكافرين
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم. والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم. والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين ..
وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك. حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول «بعض المسلمين» لأن هناك البعض الآخر الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأنباء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم كما علمهم اللّه.
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب اللّه وبطشه ونقمته: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟» ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش اللّه ونقمته .. ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام .. ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين! وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب. غير موجهة إليها مباشرة. ولكن عن طريق التلويح .. طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً».في الدرك الأسفل .. إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب، فلا ينطلقون ولا يرتفعون. ثقلة المطامع والرغائب، والحرص والحذر، والضعف(1/38)
والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين. والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» .. فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين «فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» .. بلا أعوان هنالك ولا أنصار .. وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا، فأنى ينصرهم الكفار؟
ثم يفتح لهم - بعد هذا المشهد المفزع - باب النجاة .. باب التوبة لمن أراد النجاة: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» .. وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» .. فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام باللّه، وإخلاص الدين للّه. ولكنه هنا ينص على الاعتصام باللّه، وإخلاص الدين للّه. لأنه يواجه نفوسا تذبذبت، ونافقت، وتولت غير اللّه. فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح، على التجرد للّه، والاعتصام به وحده وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة .. ليكون في الاعتصام باللّه وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص للّه وحده خلوص وتجرد .. بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار. وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة اللّه وحده. المستعلين بالإيمان. المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان .. وجزاء المؤمنين - ومن معهم - معروف: «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً».وبهذه اللمسات المنوعة، يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم، ويقلل من شأنهم وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق، ويحذرهم مصيره. ويفتح باب التوبة للمنافقين ليحاول من فيه منهم خير، أن يخلص نفسه، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص .... (1)
وقال تعالى: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ. يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 784](1/39)
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة. يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك. فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة:
ومن ثم يقول لهم: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» .. التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها وتضطركم إلى موادة أعداء اللّه وأعدائكم وقاية لها - كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله - وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم.
ذلك أنه «يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» .. لأن العروة التي تربطكم مقطوعة. وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند اللّه.
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .. مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير.
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة: أمة التوحيد. وهذه القافلة الواحدة: قافلة الإيمان. فإذا هي ممتدة في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة .. إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم. أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى. وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها ثم خلص منها هو ومن آمن معه، وتجرد لعقيدته وحدها: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق، وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان. وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك. فيشعر أن له(1/40)
رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه. إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين اللّه، الواقفين تحت راية اللّه، قد مرت بمثل ما يمر به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته. فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين .. ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها، إذا أنبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته. فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال .. الشجرة التي غرسها أول المسلمين .. إبراهيم .. مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون. وفيهم أسوة حسنة: «إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» ..
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم. وهو الكفر بهم والإيمان باللّه. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم باللّه وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان. وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل. وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين.
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين. فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» .. فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك. قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» .. كما جاء في سورة أخرى.
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله للّه، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».(1/41)
وهذا التسليم المطلق للّه، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين. كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم (1).
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا».فلا تسلطهم علينا. فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيرا ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان - لحكمة يعلمها اللّه - في فترة من الفترات. والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو اللّه ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور. وبقية الدعاء: «وَاغْفِرْ لَنا» .. يقولها إبراهيم خليل الرحمن. إدراكا منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوي الذي يكافئ به نعم اللّه وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده.
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء: «رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. العزيز: القادر على الفعل، الحكيم: فيما يمضي من تدبير.
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر. هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوة تتبع، وسابقة تهدي. فمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة .. وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين.
__________
(1) - يراجع فصل: القصة في القرآن في كتاب: التصوير الفني في القرآن «دار الشروق».(1/42)
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج. من يريد أن يحيد عن طريق القافلة. من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق. فما باللّه من حاجة إليه - سبحانه - «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة ووجدوها طريقا معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها.
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك - ولو كان وحده في جيل!
ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4411](1/43)
تحريم الزواج من المشركة وتحريم زواج المسلمة من غير المسلم
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)} [الممتحنة: 10، 11]
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إذا جاءكم النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام، فاختبروهن؛ لتعلموا صدق إيمانهن، الله أعلم بحقيقة إيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات بحسب ما يظهر لكم من العلامات والبينات، فلا تردُّوهن إلى أزواجهن الكافرين، فالنساء المؤمنات لا يحلُّ لهن أن يتزوجن الكفار، ولا يحلُّ للكفار أن يتزوجوا المؤمنات، وأعطوا أزواج اللاتي أسلمن مثل ما أنفقوا عليهن من المهور، ولا إثم عليكم أن تتزوجوهن إذا دفعتم لهنَّ مهورهن. ولا تمسكوا بنكاح أزواجكم الكافرات، واطلبوا من المشركين ما أنفقتم من مهور نسائكم اللاتي ارتددن عن الإسلام ولحقن بهم، وليطلبوا هم ما أنفقوا من مهور نسائهم المسلمات اللاتي أسلمن ولحقن بكم، ذلكم الحكم المذكور في الآية هو حكم الله يحكم به بينكم فلا تخالفوه. والله عليم لا يخفى عليه شيء، حكيم في أقواله وأفعاله.
وإن لحقت بعض زوجاتكم مرتدات إلى الكفار، ولم يعطكم الكفار مهورهن التي دفعتموها لهن، ثم ظَفِرتم بهؤلاء الكفار أو غيرهم وانتصرتم عليهم، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين من الغنائم أو غيرها مثل ما أعطوهن من المهور قبل ذلك، وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون. (1)
__________
(1) - التفسير الميسر [10/ 110](1/44)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِتُسْلِمَ، حَلَّفَهَا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ:" مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَبِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَا خَرَجَتْ رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ، وَبِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَا خَرَجَتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَبِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَا خَرَجَتْ إِلَّا حُبًّا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - " (1).
وعن سفيان، عن أبيه أو عكرِمة (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) قال: يقال: ما جاء بك إلا حبّ الله، ولا جاء بك عشق رجل منا، ولا فرارا من زوجك، فذلك قوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) (2).
وهذا هو الامتحان .. وهو يعتمد على ظاهر حالهن وإقرارهن مع الحلف باللّه. فأما خفايا الصدور فأمرها إلى اللّه، لا سبيل للبشر إليها: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ .. » فإذا ما أقررن هكذا «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ» ..
«لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» .. فقد أنبتت الوشيجة الأولى .. وشيجة العقيدة .. فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة.
__________
(1) - شرح مشكل الآثار [12/ 218] (4762) حسن
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْلَافُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ يَأْتِيهِ مِنَ النِّسَاءِ لِلْهِجْرَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اسْتِحْلَافِهِ إِيَّاهُنَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي بَابٍ مِنَ الْفِقْهِ، قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِمَالِهِ عَلَى عَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ زَكَاتَهُ، فَيَقُولُ: قَدْ أَدَّيْتُهَا إِلَى الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِثْلَهَا، أَوْ قَدْ أَدَّيْتُهَا إِلَى عَاشِرٍ مَرَرْتُ بِهِ قَبْلَكَ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ إِنِ اتَّهَمَهُ عَلَى مَا قَالَهُ لَهُ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَحْلِفُهُ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَكَانَا يَذْهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ، الْمُتَعَبِّدُونَ بِهَا مُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ اسْتِحْلَافُهُمْ بِالظُّنُونِ بِهِمْ فِيهَأ غَيْرِ الْوَاجِبِ كَانَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَيَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الِاسْتِحَلَافَاتِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُدَّعَاةِ إِنَّمَا تَجِبُ لِلْمُدَّعِيِينَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مِنَ الْمَطْلُوبِينَ بِهَا، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَ الظُّنُونِ بِهِمْ غَيْرُ الْوَاجِبِ كَانَ عَلَيْهِمْ فِيهَا غَيْرُ وَاسِعٍ لِمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِالظُّنُونِ لَا بِالْحَقَائِقِ يَمِينٌ، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ فِي قُلُوبِنَا وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى وَقَفْنَا عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ اسْتِحْلَافِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُهَاجِرَاتِ إِلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ يَسْتَحْلِفُهُنَّ عَلَيْهِ مِمَّا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ فِي ذَلِكَ حِيَاطَةً لِلْإِسْلَامٍ، فَمِثْلُ ذَلِكَ الِاسْتِحْلَافِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا ذَكَرْنَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ تَوَلَّى الصَّدَقَاتِ حِيَاطَةً لِلْإِسْلَامِ، وَاسْتِيفَاءً لِحُقُوقِ أَهْلِهِ مِمَّنْ وَجَبَتْ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ
(2) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة [23/ 326] صحيح مرسل(1/45)
والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى. والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه، ولا أن يأنس به، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره. والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن.
وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد. فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات، كما يستقر في واقعهم، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون باللّه.
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر. كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته.
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن .. مع خلاف فقهي: هل لهن عدة، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعهن حملهن؟ وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات ... ثلاثة قروء .. أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة؟
«وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا».
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن. ضمانة الرقابة الإلهية وخشية اللّه وتقواه: «ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال. فحكم اللّه، هو حكم العليم الحكيم. وهو حكم المطلع على ذوات الصدور. وهو حكم القوي القدير. ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه. وهو يوقن أن مرده إلى اللّه.(1/46)
فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن - كما حدث في بعض الحالات - عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين: «وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا» ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» .. وهي لمسة للمؤمنين باللّه عميقة الأثر في القلوب.
وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقا واقعيا للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة، وربطها كلها بمحور الإيمان وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض. وتبقى شارة واحدة تميز الناس .. شارة الحزب الذي ينتمون إليه .. وهما حزبان اثنان: حزب اللّه وحزب الشيطان .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4417](1/47)
الأمة المسلمة بعقيدتها لا بجنسها، ولا بأرضها، ولا بموروثاتها الجاهلية
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب اللّه الأخير للبشر وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة اللّه التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع اللّه وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» ..
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية تقيم العدل في الأرض، غير متأثرة بمودة أو شنآن، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة .. وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب وغير ناظرة إلا إلى اللّه وتقواه:
«وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» ..
«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ».(1/48)
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات وصاحبة الرسالة الأخيرة، والدين الأخير وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير .. ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا. إنما تتولى اللّه ورسوله، ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين باللّه ورسوله. فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها، ولا بأرضها، ولا بموروثاتها الجاهلية. إنما هي «أمة» بهذه العقيدة الجديدة، وبهذا المنهج الرباني، وبهذه الرسالة الأخيرة .. وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة:
«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» ..
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى، وأعداء منهج اللّه الصحيح دائما. وهم لا يريدون رؤية الحق كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد. وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم، من تاريخهم القديم مع رسل اللّه ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 829](1/49)
بين النبي موسى عليه السلام وقومه
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)} [المائدة: 20 - 25]
هنا تبرز قيمة الإيمان باللّه، والخوف منه .. فهذان رجلان من الذين يخافون اللّه، ينشىء لهما الخوف من اللّه استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة وقيمة الخوف من اللّه في مواطن الخوف من الناس. فاللّه سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس .. والذي يخاف اللّه لا يخاف أحدا بعده ولا يخاف شيئا سواه .. «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» ..
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب .. أقدموا واقتحموا. فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم ..
«وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. فعلى اللّه - وحده - يتوكل المؤمن. وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه .. ولكن لمن يقولان هذا الكلام؟ لبني إسرائيل؟! «قالُوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ..(1/50)
وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان. يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن. فيحرج بأنه ناكل عن الواجب، فيسب هذا الواجب ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد! «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ..
هكذا في وقاحة العاجز، الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان! «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ»! ..
فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال! «إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» .. لا نريد ملكا، ولا نريد عزا، ولا نريد أرض الميعاد .. ودونها لقاء الجبارين!
هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام. نهاية الجهد الجهيد. والسفر الطويل. واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل! نعم ها هي ذي نهاية المطاف .. نكوصا عن الأرض المقدسة، وهو معهم على أبوابها. ونكولا عن ميثاق اللّه وهو مرتبط معهم بالميثاق .. فماذا يصنع؟ وبمن يستجير؟
«قالَ: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» ..
دعوة فيها الألم. وفيها الالتجاء. وفيها الاستسلام. وفيها - بعد ذلك - المفاصلة والحسم والتصميم! وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه .. ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول. وفي إيمان النبي الكليم. وفي عزم المؤمن المستقيم، لا يجد متوجها إلا للّه. يشكو له بثه ونجواه، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين. فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق اللّه الوثيق .. ما يربطه بهم نسب. وما يربطه بهم تاريخ. وما يربطه بهم جهد سابق. إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى اللّه، وهذا الميثاق مع اللّه. وقد فصلوه. فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق. وما عاد يربطه بهم رباط .. إنه مستقيم على عهد اللّه وهم فاسقون .. إنه مستمسك بميثاق اللّه وهم ناكصون ..(1/51)
هذا هو أدب النبي. وهذه هي خطة المؤمن. وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون .. لا جنس. لا نسب. لا قوم. لا لغة. لا تاريخ. لا وشيجة من كل وشائج الأرض إذا انقطعت وشيجة العقيدة وإذا اختلف المنهج والطريق .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 869](1/52)
الولاء والبراء لا يكون إلا على أساس العقيدة
قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة ..
هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور ..
ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة. ومسألة الحركة بهذه العقيدة. وليكون الولاء للّه خالصا، والثقة به مطلقة، وليكون الإسلام هو «الدين».وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا، ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة.
ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة. ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة ..
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان، أو مجرد راية وشعار، أو مجرد كلمة تقال باللسان، أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة، أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ راكِعُونَ» ..
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا، تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» .. والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يقم الصلاة فلو أقامها لنهته كما يقول اللّه! ومن صفتهم إيتاء الزكاة .. أي أداء حق المال طاعة للّه وقربى عن رضى نفس ورغبة، فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية، إنما هي كذلك عبادة. أو هي عبادة مالية. وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي. الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة. وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف ..(1/53)
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة (مدنية!) أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة، أو باسم الشعب، أو باسم جهة أرضية ما .. فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا وهو إيصال المال للمحتاجين ..
فأما الزكاة .. فتعني اسمها ومدلولها .. إنها قبل كل شيء طهارة ونماء .. إنها زكاة للضمير بكونها عبادة للّه. وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء، بما أنها عبادة للّه يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة، كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك. ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم إذ يشعرون أنها فضل اللّه عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء (مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال) .. وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب .. جو الزكاة والطهارة والنماء ..
وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة اللّه في شئون الحياة فهي إقرار منهم بسلطان اللّه في أمرهم كله .. وهذا هو الإسلام ..
«وَهُمْ راكِعُونَ» .. ذلك شأنهم، كأنه الحالة الأصلية لهم .. ومن ثم لم يقف عند قوله: «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .. فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل. إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم. فأبرز سمة لهم هي هذه السمة، وبها يعرفون .. وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات! واللّه يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به، والالتجاء إليه، والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية ..
ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض للّه.يعدهم النصر والغلبة:
«وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» .. وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها .. وأنها هي الولاء للّه ورسوله وللمؤمنين وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتبار ه خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى، وارتدادا عن الدين ..(1/54)
وهنا لفتة قرآنية مطردة .. فاللّه - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير! لا لأنه سيغلب، أو سيمكن له في الأرض فهذه ثمرات تأتي في حينها وتأتي لتحقيق قدر اللّه في التمكين لهذا الدين لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين .. والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم. لا شيء لذواتهم وأشخاصهم. وإنما هو قدر اللّه يجريه على أيديهم، ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم! فيكون لهم ثواب الجهد فيه وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين اللّه في الأرض، وصلاح الأرض بهذا التمكين ..
كذلك قد يعد اللّه المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة وتخطي العقبة، والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد اللّه للأمة المسلمة، فيكون لهم ثواب الجهاد، وثواب التمكين لدين اللّه، وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين.
كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال، بحالة الجماعة المسلمة يومذاك، وحاجتها إلى هذه البشريات. بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب اللّه .. مما يرجح ما ذهبنا إليه عن تاريخ نزول هذا القطاع من السورة.
ثم تخلص لنا هذه القاعدة التي لا تتعلق بزمان ولا مكان .. فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن اللّه التي لا تتخلف. وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف. فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب اللّه هم الغالبون .. ووعد اللّه القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق! وأن الولاء للّه ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد اللّه في نهاية الطريق!! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 920](1/55)
تحريم تولي أهل الكتاب
إن اللّه - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم .. وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان باللّه والنبي. في المواضع الأخرى المتعددة .. فهم إذن لم يعودوا على «دين اللّه» ولم يعودوا أهل «دين» يقبله اللّه.
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم اللّه أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا .. ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة. ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها! فإذا نحن اعتبرنا كلمة اللّه في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب .. أهل دين .. يستطيع «المسلم» أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم حتى يعتبرهم المسلم «على شيء» وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره اللّه: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. وكلمة اللّه باقية لا تغيرها الملابسات والظروف! وإذا نحن اعتبرنا كلمة اللّه هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة، في هياجهم علينا، وفي اشتداد حربهم لنا، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله اللّه من الناس ..
إن اللّه - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه. ولا يقبل منا هذا الاعتراف. ولا يغفر لنا هذا التناصر. ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه. لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ونختار في أمرنا غير ما يختار ونعترف بعقائد محرفة أنها «دين» إلهي، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي .. واللّه يقول: إنهم ليسوا على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من(1/56)
ربهم .. وهم لا يفعلون! والذين يقولون: إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء. ليسوا على شيء كذلك. فهذه كلمة اللّه عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء. والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب اللّه في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه. وأن دعواهم أنهم على دين، يردها عليهم رب الدين. فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ودعوتهم إلى «الإسلام» من جديد هي واجب «المسلم» الذي أقام كتاب اللّه في نفسه وفي حياته.
فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما، ولا تحقق إيمانا، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين اللّه، في أي ملة، وفي أي زمان! وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ويقيموا كتاب اللّه في حياتهم يملك «المسلم» أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين، عن «الدين» وعن «المتدينين» .. فأما قبل ذلك فهو عبث وهو تمييع، يقوم به خادع أو مخدوع! إن دين اللّه ليس راية ولا شعارا ولا وراثة!
إن دين اللّه حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء. تتمثل في عقيدة تعمر القلب، وشعائر تقام للتعبد، ونظام يصرف الحياة .. ولا يقوم دين اللّه إلا في هذا الكل المتكامل ولا يكون الناس على دين اللّه إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم .. وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة، وخداع للضمير لا يقدم عليه «مسلم» نظيف الضمير! وعلى «المسلم» أن يجهر بهذه الحقيقة ويفاصل الناس كلهم على أساسها ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة. واللّه هو العاصم. واللّه لا يهدي القوم الكافرين ..
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن اللّه ولا يكون قد أقام الحجة للّه على الناس، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته، بلا مجاملة ولا مداهنة .. فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه .. يدعوهم إلى نقلة بعيدة، ورحلة طويلة، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم(1/57)
. فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه .. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ..
وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم .. حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات، وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم، لأنه لم يعرّفهم حقيقة المطلوب منهم كله، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه اللّه تبليغه! إن التلطف في دعوة الناس إلى اللّه، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها .. إن الحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة. أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة ..
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية. وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض، وهم أصحاب كلمة مسموعة، في الشئون الدولية. وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة.
وينظر فيرى الذين يقولون: إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب اللّه المنزل إليهم .. فيتعاظمه الأمر، ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة، ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء! وأن يبين لهم «الدين» الحق! وليس هذا هو الطريق .. إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين اللّه الحق، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه لا تغيره كثرة الضلّال ولا ضخامة الباطل .. فالباطل ركام .. وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة: أنهم ليسوا على شيء .. كذلك ينبغي أن تستأنف .. وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وناداه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ(1/58)
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 940](1/59)
الفرق بين الإسلام والجاهلية
إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه! .. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة .. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة! ..
إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها - وهذه هي «الرجعية» البائسة المرذولة - وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه «الرجعية» مرة أخرى كذلك والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات. وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضا!
ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .. ويعلم - من طبيعة الواقع - من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار.
ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهادا كبيرا ..
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكتاب، مأمورا من ربه أن ينذر به ويذكر وألا يكون في صدره حرج منه، وهو يواجه الجاهلية، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق ..
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر، والسطوح والأعماق! انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا(1/60)
الدين، المسلمين للّه المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق ..
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالما آخر، يقر فيه سلطان اللّه وحده، ويبطل سلطان الطواغيت.
عالما يعبد فيه اللّه وحده - بمعني «العبادة» الشامل (1) - ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالما يخرج اللّه فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده. عالما يولد فيه «الإنسان» الحر الكريم النظيف .. المتحرر من شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير اللّه.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة: «أشهد أن لا إله إلا اللّه» التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري - كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - وشهادة أن لا إله إلا اللّه ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا للّه في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء. فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته .. وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن للّه شريكا في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلّا للّه وحده.
ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من اللّه، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع اللّه.
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد .. فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسم شيعا كلها جاهلية. شيعة ملحدة تنكر وجود اللّه أصلا وهم الملحدون .. فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان! وشيعة وثنية تعترف بوجود إله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابا كثيرة. كما في الهند، وفي أواسط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.
__________
(1) - يراجع فصل «العبادة» في كتاب: «المصطلحات الأربعة في القرآن» للمسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان. (السيد رحمه الله)(1/61)
وشيعة «أهل كتاب» من اليهود والنصارى. وهؤلاء أشركوا قديما بنسبة الولد إلى اللّه. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع.
وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلا! .. ثم هم اليوم يقصون حاكمية اللّه بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها «الرأسمالية» و «الاشتراكية» .. وما إليها. ويقيمون لأنفسهم أوضاعا للحكم يسمونها «الديمقراطية» و «الديكتاتورية» ... وما إليها. ويخرجون بذلك عن قاعدة دين اللّه كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم.
وشيعة تسمي نفسها «مسلمة»! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه - حذوك النعل بالنعل! - خارجة من دين اللّه إلى دين العباد. فدين اللّه هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه. ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية .. شيعها جميعا لا تتبع دين اللّه أصلا .. وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين اللّه بعد ذلك من ناحية النظام والواقع .. وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المسسلمة لاستهواء الشيطان في التيه! .. وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا اللّه. وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه اللّه وحده، ولا يعبد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد، يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه!
إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه .. إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد ... التي واجهها أول مرة.(1/62)
إن الجاهلية حالة ووضع وليست فترة تاريخية زمنية .. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع .. إنها تقوم ابتداء على قاعدة: «حاكمية العباد للعباد»،ورفض حاكمية اللّه المطلقة للعباد .. تقوم على أساس أن يكون «هوى الإنسان» في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم، ورفض أن تكون «شريعة اللّه» هي القانون المحكم .. ثم تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها وأوصافها، وشيعها ومذاهبها .. غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها ..
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية. وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية. وأن الإسلام اليوم متوقف عن «الوجود» مجرد الوجود! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تماما ويواجهون ما كان يواجهه - صلى الله عليه وسلم - تماما، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول اللّه - سبحانه - له: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ»
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية. وهي من ثم مجتمعات «متخلفة» أو «رجعية»! بمعنى أنها «رجعت» إلى الجاهلية، بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها. والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية، وقيادتها في طريق التقدم و «الحضارة» بقيمها وموازينها الربانية.
إنه حين تكون الحاكمية العليا للّه وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا حقيقيا كاملا من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد.
وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان اللّه - لأن الحضارة التي يريدها اللّه للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد .. لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع(1/63)
لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد .. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين! .. ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف .. أو بالاصطلاح الإسلامي: «مجتمع جاهلي مشرك»! وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادرا من اللّه، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا متحضرا متقدما. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا ربانيا مسلما .. لأن التجمع حينئذ يكون ممثلا لأعلى ما في «الإنسان» من خصائص - خصائص الروح والفكر - فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض ... وما إلى ذلك من الروابط .. فإنه يكون مجتمعا رجعيا متخلفا .. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا جاهليا مشركا ..
ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض ... وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في «الإنسان».
فالإنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنسانا بعد الروح والفكر! ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه اللّه به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبدا أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفا مولده في جنس ولا لون كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض .. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها! وحين تكون «إنسانية الإنسان» هي القيمة العليا في مجتمع وتكون «الخصائص الإنسانية» فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضرا متقدما .. أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانيا مسلما .. فأما حين تكون «المادة» - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا .. سواء في صورة «النظرية» كما في الماركسية، أو في صورة «الإنتاج المادي» كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية -(1/64)
فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا رجعيا متخلفا .. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا جاهليا مشركا ..
إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة لا في صورة «النظرية» باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ولا في صورة «الإنتاج المادي» والاستمتاع به. فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد اللّه وشرطه والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص «الإنسان» ومقوماته! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية .. الملحدة أو المشركة ..
وحين تكون القيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» - كما هي في ميزان اللّه - هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما .. أو بالاصطلاح الإسلامي .. ربانيا مسلما .. والقيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» ليست مسألة غامضة ولا مائعة وليست كذلك قيما وأخلاقا متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنا لك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم .. إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان «خصائص الإنسان» التي ينفرد بها دون الحيوان. وتغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنسانا. وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان .. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها «التطوريون»! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية. ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية. ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها، وحتمية في نشأتها وتقريرها .. إنما تكون هناك فقط «قيم وأخلاق إنسانية» يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر. «وقيم وأخلاق حيوانية» - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف .. أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية وقيم وأخلاق رجعية جاهلية! إن(1/65)
المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي! إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته.
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان. ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية! إن المفهوم «الأخلاقي» ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحيانا في حدود مصلحة الدولة! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية! مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر «الإنسانية». وبمقياس خط التقدم الإنساني .. وهي كذلك غير إسلامية .. لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته، وتنمية خصائصه الإنسانية، وتغلبها على نزعاته الحيوانية ..
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة، وإغراقها في الجاهلية .. من العقيدة إلى الخلق. ومن التصور إلى أوضاع الحياة .. ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة. ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين اللّه .. إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام: عقيدة وخلقا ونظاما .. إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة. وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه وربه - سبحانه - يخاطبه: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ»
وفي الوقت الذي وجه اللّه - سبحانه - هذا التكليف إلى رسوله، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة - وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية - الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب، والنهي عن اتباع الأولياء من دون اللّه. ذلك أن القضية في(1/66)
صميمها هي قضية «الاتباع» .. من يتبع البشر في حياتهم؟ يتبعون أمر اللّه فهم مسلمون. أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟
إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان: «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ».
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية .. إنه إما اتباع لما أنزل اللّه فهو الإسلام للّه، والاعتراف له بالربوبية، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه .. وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك، وهو رفض الاعتراف للّه بالربوبية الخالصة .. وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟! وفي الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - كان الكتاب منزلا إليه بشخصه: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» ..
وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلا إليهم من ربهم: «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» .. فأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره .. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتابا، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر ..
ولأن المحاولة ضخمة .. وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية: تصوراتها وأفكارها، وقيمها وأخلاقها، وعاداتها وتقاليدها، ونظمها، وأوضاعها، واجتماعها واقتصادها، وروابطها باللّه، وبالكون، وبالناس .. (1)
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم .. أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها. كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1255](1/67)
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة، أو روابط الدم والقرابة. أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة، أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة .. إنما تقوم الأمة على العقيدة وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة. ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب .. ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول .. لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم للّه وفي سبيل اللّه. من أجل عقيدتهم، لا من أجل أي هدف آخر ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر .. بهذه النصاعة.
وبهذا الحسم. وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى، أو مصالح أخرى، أو أهداف أخرى .. فإن هم فعلوا. فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم .. في دار الحرب .. وهاجروا إلى دار الإسلام، ليعيشوا بالنظام الإسلامي، المنبثق من العقيدة الإسلامية، القائم على الشريعة الإسلامية .. إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم، مواطنون في الأمة المسلمة. وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ (أي أسرى) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة. إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته. ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام. في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين. فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا!(1/68)
وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته. وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة .. ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال. لا يتسامح مع من يقولون: إنهم يوحدون اللّه ويشهدون أن لا إله إلا اللّه. ثم يعترفون لغير اللّه بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون، لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم .. لا لأنهم عبدوهم. ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون. لأنهم شهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول اللّه. ثم بقوا في دار الكفر، يناصرون أعداء المسلمين!
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا. إنما هو تميع. والإسلام عقيدة التسامح. ولكنه ليس عقيدة «التميع».إنه تصور جاد. ونظام جاد. والجد لا ينافي التسامح. ولكنه ينافي التميع.
وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى، بيان، وبلاغ .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 732](1/69)
آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي
إن آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي هي العقيدة ولكن الولاء في هذا المجتمع لا يكون إلا على أساس العقيدة والتنظيم الحركي معا، فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض. أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الإسلام، فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الإسلام .. أي لا تناصر ولا تكافل .. ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد.
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي، لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فيكونوا أقرب في الولاء - متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي - فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي. (1).
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1538](1/70)
وجوب تقديم الولاء للعقيدة على كل ولاء
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ - إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها .. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا فإما تجرد لها، وإما انسلاخ منها. وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة .. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض. فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ولا عليه أن يستمتع بزينة اللّه والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب، باعتبار ه لونا من ألوان الشكر للّه الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ - إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ -» ..
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في اللّه. فلله الولاية الأولى، وفيها ترتبط البشرية جميعا، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك، والحبل مقطوع والعروة منقوضة.(1/71)
«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. و «الظَّالِمُونَ» هنا تعني المشركين. فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان.
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها) .. وفي الكفة الأخرى: حب اللّه ورسوله وحب الجهاد في سبيله. الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته. الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان، وما يتبعه من ألم وتضحية، وما يتبعه من جراح واستشهاد .. وهو - بعد هذا كله - «الجهاد في سبيل اللّه» مجردا من الصيت والذكر والظهور. مجردا من المباهاة، والفخر والخيلاء. مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه. وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب ..
«قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ .. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ... »
ألا إنها لشاقة. ألا وإنها لكبيرة. ولكنها هي ذاك .. وإلا: «فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ».
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده، إنما تطالب به الجماعة المسلمة، والدولة المسلمة. فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في اللّه ومقتضيات الجهاد في سبيل اللّه.
وما يكلف اللّه الفئة المؤمنة هذا التكليف، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فاللّه لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة اللّه بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها .. لذة الشعور بالاتصال باللّه، ولذة الرجاء في رضوان اللّه، ولذة الاستعلاء على الضعف(1/72)
والهبوط، والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك. (1).
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1615](1/73)
رابطة العقيدة تقوم مقام رابطة الدم والنسب
لقد انخلع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه في مكة من الولاء لأسرته، والولاء لعشيرته، والولاء لقبيلته، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته. في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.
عندئذ آخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء هذا التجمع الوليد .. أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفرادا، إلى «مجتمع» متكافل، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.
ثم لما فتح اللّه للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وحماية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عاد رسول اللّه فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها. بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة .. وكان حكم اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
أولياء في النصرة، وأولياء في الإرث، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا .. لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة اللّه وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك دارا يقيم فيها شريعة اللّه ويحقق فيها وجوده(1/74)
الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبيا، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة. يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه ..
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل اللّه لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي. وفي هؤلاء نزل هذا الحكم: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية .. ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلا عن عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها. على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الرعاية أولا، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي .... وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي ..
والتعقيب على هذا الحكم: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه، ومقدماته ونتائجه، وبواعثه وآثاره.(1/75)
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد، فكذلك المجتمع الجاهلي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما .. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده. ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام وطغيان ألوهية العباد على ألوهية اللّه ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير .. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام اللّه - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1558](1/76)
آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (74) سورة الأنفال ..
أولئك هم المؤمنون حقا .. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان .. هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين .. إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها .. إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي .. أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح (حقا) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية ..
وهؤلاء المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم .. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله .. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم. بل هي أكرم الرزق الكريم. ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» ..
ولقد ظل شرط الهجرة قائما حتى فتح مكة حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريبا لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة اللّه وسلطانه .. فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم اللّه - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها .. الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها(1/77)
المرحلية، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن اللّه - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل كما حدث في الجولة الأولى ..
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة، وتكاليفها الخاصة .. قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم، في كل صوره وأشكاله، وفي كل التزاماته ومقتضياته. بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم .. فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية، اللازمة لعملية البناء الأولى، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية. وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في اطار المجتمع المسلم في دار الإسلام: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» ..
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام .. إن هذا يلبي جانبا فطريا في النفس الإنسانية. ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي .. إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ولكنه يضبطها. يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام. ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية .. وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى .. «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها. فهي من العلم المحيط بكل شيء. علم اللّه تعالى ..
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز «إنسانية الإنسان» وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع(1/78)
الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني. وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه ..
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب «الجهالة العلمية!» مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ومرة بأنه مادة كسائر المواد! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه «الصفات» مع الحيوان ومع المادة له «خصائص» تميزه وتفرده وتجعل منه كائنا فريدا - كما اضطر أصحاب «الجهالة العلمية!» أخيرا أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة! (1)
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز «الإنسان» وتفرده بين الخلائق فيبرزها وينميها ويعليها .. وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة، إنما يمضي على خطته تلك. فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في «الإنسان» من «خصائص» ..
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا الجنس، ولا اللون، ولا المصالح، ولا المصير الأرضي المشترك .. فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان. وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع، وإلى اهتمامات القطيع، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده، ووجود هذا الكون من حوله تفسيرا كليا كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله، ومصيره ومصير الكون من حوله وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق والذي يقرر «إنسانيته» في أعلى مراتبها حيث يخلف وراءه سائر الخلائق.
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية. فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضا، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها .. إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ولا تغيير
__________
(1) - في مقدمة هؤلاء جوليان ها كسلي من أصحاب «الداروينية الحديثة».(1/79)
الجنس الذي تسلسل منه ولا تغيير اللون الذي ولد به. فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد، لم يكن له فيها اختيار، ولا يملك فيها حيلة ..
كذلك مولده في أرض بعينها، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ومجال «الإرادة الحرة» فيها محدود .. ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني .. فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائما للاختيار الإنساني، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره ... وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي ..
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة. على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء(1/80)
المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية». ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية» ..
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة .. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد وتبرز فيها «إنسانيتهم» وحدها بلا عائق .. وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! ..
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد ضمت بالفعل أجناسا متعددة ولغات متعددة، وأرضين متعددة ... ولكن هذا كله لم يقم على آصرة «إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى .. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها: الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية .. وكلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة. إنما أقامته على القاعدة «الطبقية» .. فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير(1/81)
أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني .. وما يزال مفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره اللّه ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق .. وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه «البهائم» من الحظيرة والكلأ! بعد أن رفعه اللّه إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه «الناس»! وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصبا وجمودا ورجعية، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدما ورقيا ونهضة وأن تقلب القيم والاعتبار ات كلها لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة .. خصيصة الإنسان العليا ..
ولكن اللّه غالب على أمره .. وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء .. وسيكون ما يريده اللّه حتما .. وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم اللّه الإنسان بها. والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق. وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1560](1/82)
الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي
إن الذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه .. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين - وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة - كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم».
كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير اللّه، أو تجعل فيه شركاء للّه .. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول اللّه سبحانه: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» .. (الحج:40) والذي يقول عنه سبحانه كذلك: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» .. (البقرة:251)
وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:
إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة لنشر منهج اللّه في الأرض حوله وإبلاغ كلمة اللّه إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة - في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان - حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف. وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة - تمهيدا لما وراءها من أرض اللّه حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.(1/83)
وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهدا بعد عهد بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادرا - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين!
فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلا أن ترى الإسلام ما يزال قائما حيالها مناقضا في أصل وجوده لأصل وجودها مخالفا لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعا إلى عبادة اللّه وحده.
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها اللّه سبحانه في قوله عن المشركين: «وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ... (البقرة:217)
والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» .. (البقرة:109)
ويقول فيها كذلك: «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» .. (البقرة:120)
فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي(1/84)
لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرنا والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين - وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان - في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها: في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا. وفي الهند وكشمير. وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة ..
وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أدق - وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئا من هذا كله لا يصبح مفهوما بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها ..
وقد تجلى ذلك القانون - كما أسلفنا - قبيل نزول سورة التوبة وبعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما. وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين - وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة - أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده ..
ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة - حينذاك - لم يكن معناه وضوحه - بنفس الدرجة - لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم. وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم، فضلا على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم - من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعا - بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا - ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» .. (الأنفال:58) فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفا لما عهدوه(1/85)
وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين .. ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمرا أكبر من المألوف وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك - من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام بعد ما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم. ومن المتوقع أن تفيء رويدا رويدا - في ظل السلم - إلى الإسلام .. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف .. ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضا! - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد اللّه.
وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة! ..
ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها - كما تقدم - وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها. سواء من القرابات والصداقات أم من المنافع والمصالح. كما أنه - سبحانه - كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته.
وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين اللّه أفواجا ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال(1/86)
المشركين كافة ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم، وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال. ولا يجد في نفسه دافعا لاحتمال هذا كله، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر فهي صفقة رابحة بلا عناء كبير .. أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟! ..
وكان اللّه - سبحانه - يريد أن يمحص الصفوف والقلوب، وهو يقول للمسلمين «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط - بعد الفتح - اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس، وهذه الخلخلة في الصفوف، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين .... (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1592](1/87)
التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (116) سورة التوبة
فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة .. كلها بيد اللّه دون سواه. وفي الصلة باللّه وحده كفاية وغناء.
وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة. مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله .. حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه .. ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.
إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية. فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق. وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضا ..
ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أيا كانت الأسباب - أمرا مستنكرا عظيما وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها ... (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1722](1/88)
قيام المجتمع على آصرة العقيدة ينشأ مجتمعا عالميا إنسانيا
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان (1).
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة .. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم .. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش ..
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها .. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات
__________
(1) - من هؤلاء جوليان هاكسلي من علماء الداروينية الحديثة! (السيد رحمه الله)(1/89)
التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها اللّه له متمشية مع تلك الخصائص يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يدله فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشىء مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض ..
«ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة!
ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي(1/90)
خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان. «لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس .. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية»
«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
«كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها .. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية .. كلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون. ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة، إنما أقامته على القاعدة(1/91)
«الطبقية».فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!
«لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني .. وما يزال متفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن السخيف، هم أعداء «الإنسان» حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره اللّه ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق» (1) ..
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته وهم الذين يقول اللّه تعالى فيهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس ..
ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم .. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناما تعبد من دون اللّه، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس».وظهرت هذه الأصنام
__________
(1) - مقتطفات من فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» من كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/92)
على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!! وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ .. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية .. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود! وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي .. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون. حتى يأذن اللّه بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد ..
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة للّه وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم. يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب أن يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات ..
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون اللّه أيا كانت أسماؤها. وأيا كانت مراسمها.(1/93)
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان .. وما إليها .. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى اللّه وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري .. أمة المسلمين من أتباع الرسل - كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون ..
وعند ما أراد اللّه أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» .. ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم .. كما جاء في سورة الأنبياء: (آيات:48 - 91).
هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف اللّه سبحانه .. فمن شاء له طريقا غير طريق اللّه فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين!
أما نحن الذين أسلمنا للّه، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا اللّه. واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين .. (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1888](1/94)
الدينونة والاتباع والحاكمية هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام
إنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها - وهذه السورة نموذج منها - أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية - التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة - هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم. وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق ..
ثم هي بعد - بعد ذلك لا قبله - قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها الأحكام.
وكذلك فإن قضية «العبادة» ليست قضية شعائر وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة .. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين .. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.
والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية:
لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح (1) أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم عليه السلام أبي البشر الأول، ثم على يدي نوح - عليه السلام - أبي البشر الثاني .. ثم بعد ذلك على يدي كل رسول .. وأن الإسلام يعني توحيد الألوهية من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع: أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجيه والتشريع.
ثم بينا كذلك أن الجاهلية - سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع - أو هما معا - كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم بالدينونة لغير اللّه - سبحانه - سواء
__________
(1) - ص 1882 - 1886 من هذا الجزء. (السيد رحمه الله)(1/95)
كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب، أو روح أو أرواح شتى أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر: كاهن أم ساحر أم حاكم .. فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية.
ومن هذا التتابع التاريخي - الذي يقصه اللّه سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه ..
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم - وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ - ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! - وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة المصرية القديمة فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد - ولو على سبيل الاحتمال - وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف - عليه السلام - وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم - حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف -: «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيء، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ... (يوسف:37 - 40)
وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ(1/96)
البدء، لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه. لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس، حتى صارت من أصول المنهج!
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع ..
على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم .. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول اللّه سبحانه في مسألة من المسائل فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج.
ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية .. قاطعة، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة.
وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول اللّه سبحانه وقول علماء الأديان. أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول اللّه في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنيا ولا مفهوما! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير .. إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث اللّه للناس رسولا يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير اللّه سبحانه من الأرباب المتفرقة .. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة للّه وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده.(1/97)
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك ..
إن البشرية اليوم - بجملتها - تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول - محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي جاهلية تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد باللّه سبحانه، وإنكار لوجوده .. فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود اللّه سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم .. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود اللّه سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة. وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه - بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم ودينونتهم لغير اللّه من العبيد! وكلها جاهلية. وكلها كفر باللّه كالأولين. أو شرك باللّه كالآخرين (1) ..
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة.
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية اللّه وحده، وتقديم الشعائر التعبدية للّه وحده
__________
(1) - يراجع فصل: «لا إله إلا اللّه منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق» نشر «دار الشروق» (السيد رحمه الله)(1/98)
والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها للّه وحده .. وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا ..
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى اللّه مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ..
ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوي من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية .. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي - وهي تحسبه مجتمعا مسلما - وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع .. بعيدة جدا ..
ونقف الوقفة الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة:
لقد أرسل كل رسول إلى قومه. وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلاء. يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه اللّه إليه والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه.
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء .. ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام! لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم(1/99)
. عبدوا اللّه وحده كما طلب إليهم، وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه .. وبذلك صاروا مسلمين .. صاروا «أمة مسلمة» ..
ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه. كفروا بما جاءهم به وظلوا في دينونتهم لغير اللّه من خلقه وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام .. ولذلك صاروا «أمة مشركة» ..
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين: أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة. مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة. إلا أن آصرة الجنس والأرومة، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة .. لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة .. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه .. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونة .. وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان، ولا تتعايشان! ذلك أنه بعد بروز هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين فاصل الرسول والأمة المسلمة التي معه قومهم على أساس العقيدة والمنهج والدينونة. فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم .. لقد افترق المنهجان، فاختلفت الجنسيتان. وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان! وعند ما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل اللّه بينهما فأهلك الأمة المشركة، ونجى الأمة المسلمة .. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة ..
والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه: أن اللّه سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك وعالنوهم بأنهم يدينون للّه وحده، ولا يدينون لأربابهم الزائفة ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها اللّه. سواء تعلقت بالاعتقاد، أو بالشعائر، أو بالشرائع.(1/100)
إن يد اللّه سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون .. وما دام، المسلمون لم يفاصلوا قومهم، ولم يتبرأوا منهم، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم، ومنهجهم عن منهجهم، وطريقهم عن طريقهم، لم تتدخل يد اللّه سبحانه للفصل بينهم وبينهم، ولتحقيق وعد اللّه بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين ..
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها وأن ترتب حركتها على أساسها:
إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام والدينونة للّه وحده بلا شريك ونبذ الدينونة لأحد من خلقه - في صورة من صور الدينونة - ثم ينقسم القوم الواحد قسمين، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون للّه وحده صفا - أو أمة - ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق اللّه صفا آخر .. ثم يفاصل المؤمنون المشركين .. ثم يحق وعد اللّه بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين .. كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري.
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية. ولكن المفاصلة العقدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى.
ولقد يبطئ الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر .. ولكن وعد اللّه بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال. فهو لا شك آت. ولن يخلف اللّه وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري.
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة. فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان .. وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية. فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في(1/101)
طريقها، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك. مستيقنة أن سنة اللّه جارية مجراها، وأن العاقبة للتقوى.
وأخيرا، فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين، كما يتمثل في القرآن الكريم .. إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية ..
لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في مكة. والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق ويريهم معالمه في مراحله جميعا ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق وقد بات لا حبا موصولا بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري وبات بهذا الركب الكريم مأنوسا مألوفا لا موحشا ولا مخوفا! .. إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف وليسوا مجموعة شاردة في تية مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ولا يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة ..
وهكذا يمكن اليوم وغدا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم ..
إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه. تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق.
والقرآن - بهذه الصورة - لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة. ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود اللّه فيه.
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه! إن هؤلاء جميعا لن يدركوا(1/102)
من هذا القرآن شيئا يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه.
إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده ..
إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه: ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع .. وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام.
أأقول: جزاء؟! كلا. واللّه. إنه لفضل من اللّه كبير .. «قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. والحمد للّه العظيم رب الفضل العظيم .. (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1943](1/103)
العقيدة وحدها هي الآصرة وليس الرابطة القومية والعصبية
لقد جاء هذا الكتاب لينشىء أمة وينظم مجتمعا، ثم لينشىء عالما ويقيم نظاما. جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية. ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود:
جاء «بِالْعَدْلِ» الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع. وإلى جوار العدل .. «الْإِحْسانِ» .. يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.
والإحسان أوسع مدلولا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعا (1).
ومن الإحسان «إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه، وتوكيدا عليه. وما يبني هذا على عصبية الأسرة، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام. وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل (2).
«وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» .. والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد. ومنه ما خصص به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها. والمنكر كل فعل تنكره
__________
(1) - بعض التفاسير تقول: إن العدل هو الواجب والإحسان هو الندب في العبادات خاصة. استنادا إلى أن هذه الآية مكية، ولم يكن التشريع قد نزل بعد. ولكن عموم اللفظ يطلق مفهوم العدل ومفهوم الإحسان. فضلا على أن العدل والإحسان مبدآن عامان من الناحية الأخلاقية البحتة، وليسا مجرد تشريع قانوني.
(2) - فصل التكافل الاجتماعي في كتاب «دراسات إسلامية». «دار الشروق».(1/104)
الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة. وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها. والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي. ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها، والمنكر بكل مغرراته، والبغي بكل معقباته، ثم يقوم ..
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة، مهما تبلغ قوتها، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها. وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي. فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر، فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة، فهي تنتفض لطردها، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه. وأمر اللّه بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم اللّه. لذلك يجيء التعقيب: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم.
«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» ..
والوفاء بعهد اللّه يشمل بيعة المسلمين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويشمل كل عهد على معروف يأمر به اللّه. والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعمال بين الناس، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع، ولا تقوم إنسانية. والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا اللّه كفيلا عليهم، وأشهدوه عهدهم، وجعلوه كافلا للوفاء بها. ثم يهددهم تهديدا خفيا «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ».
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات:(1/105)
«وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ. وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».
فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود. وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه! وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة. وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى.
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن «مصلحة الدولة» فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقا «لمصلحة الدولة»! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب .. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام.
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» هو ابتلاء من اللّه لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا اللّه عليه: «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» ..(1/106)
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى اللّه في يوم القيامة للفصل فيه: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ولو شاء اللّه لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخا غير مكررة ولا معادة، وجعل نواميس للهدى والضلال، تمضي بها مشيئته في الناس. وكل مسؤول عما يعمل. فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود. فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة اللّه. والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات.
وهذه قمة في نظافة التعامل، والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية. ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية،وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات. وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة، ويلوح بما عند اللّه من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند اللّه الذي لا تنفد خزائنه، ولا ينقطع رزقه: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا. إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
واتخاذ الأيمان غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين. فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه، لا يمكن أن تثبت له عقيدة، ولا أن تثبت له قدم على صراطها. وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل ومن ثم يصدهم عن سبيل اللّه بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين باللّه.(1/107)
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في أيمانهم، ومن نظافتهم في معاملاتهم. فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم.
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين أثرا قويا وطابعا عاما في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز .. عَنْ أَبِي الْفَيْضِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَتَعَجَّلَ شَهْرًا.قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ الرُّومِ عَلَى بِرْذَوْنٍ، يَقُولُ: وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ.فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ:" مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ عُقْدَةً حَتَّى يَنْقَضِي أَمَدُهَا أَوْ يُنْبِذُ إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ " (1).
والروايات عن حفظ العهود - مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها - متواترة مشهورة.
وقد ترك هذا القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي البارز. وهو يرغب ويرهب، وينذر ويحذر ويجعل العهد عهد اللّه، ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيلا هزيلا، وما عند اللّه على الوفاء عظيما جزيلا: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا. إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .. ويذكر بأن ما عند البشر ولو ملكه فرد فإنه زائل، وما عند اللّه باق دائم: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ»،ويقوي العزائم على الوفاء، والصبر لتكاليف الوفاء، ويعد الصابرين أجرا حسنا «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» والتجاوز عما وقع منهم من عمل سيئ، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه.
وبمناسبة العمل والجزاء، يعقب بالقاعدة العامة فيهما: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. فيقرر بذلك القواعد التالية: أن الجنسين: الذكر والأنثى. متساويان في قاعدة العمل والجزاء، وفي صلتهما باللّه، وفي جزائهما عند اللّه. ومع أن لفظ «من» حين يطلق يشمل الذكر والأنثى
__________
(1) - شعب الإيمان [6/ 201] (4049) صحيح
تهيأ للأمر: تأهب له وأعد نفسه لمزاولته =البرذون: يطلق على غير العربي من الخيل والبغال وهو عظيم الخلقة غليظ الأعضاء قوي الأرجل عظيم الحوافر =نبذ: أعلن نقض العهد وألقاه إلى من عاهده = السواء: المساواة في العلم(1/108)
إلا أن النص يفصل: «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» لزيادة تقرير هذه الحقيقة. وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى، وضيق المجتمع بها، واستياء من يبشر بمولدها، وتواريه من القوم حزنا وغما وخجلا وعارا! وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها. قاعدة الإيمان باللّه «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعا، وإلا فهي أنكاث. فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية. فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير. لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل.
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال باللّه والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة .. وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند اللّه. وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.
وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز اللّه لهم عن السيئات. فما أكرمه من جزاء!.!. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2190](1/109)
وجوب الولاء لأصحاب العقيدة الواحدة
قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} (29) سورة الكهف
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوَجَدُوهُ قَاعِدًا مَعَ بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ فِي أُنَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحِي أَنْ تَرَانَا مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، وَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ "،قَالَ:" نَعَمْ "،قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا، فَدَعا بِالصَّحِيفَةِ لِتُكْتَبَ وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ، فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إِلَى قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، اطْرُدْهُمْ، أَرَضِيتَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمَكَ، أَفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا، فَلَعَلَّ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ تَأْتِيَكَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيُّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ " (2).
__________
(1) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ >> كِتَابُ الْفَضَائِلِ >> مَا جَاءَ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ >> (31900) حسن
(2) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ (1802) حسن(1/110)
وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَسْتَبِقُونَ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ بِلَالٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسَلْمَانُ.قَالَ: فَيَجِيءُ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَسَادَتُهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ هَؤُلَاءِ الْمَجْلِسَ، فَيَجْلِسُونَ نَاحِيَةً، فَقَالُوا: صُهَيْبٌ رُومِيٌّ، وَسَلْمَانُ فَارِسِيٌّ، وَبِلَالٌ حَبَشِيٌّ، يَجْلِسُونَ عِنْدَهُ وَنَحْنُ نَجِيءُ فَنَجْلِسُ نَاحِيَةً، حَتَّى ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , إِنَّا سَادَةُ قَوْمِكَ وَأَشْرَافُهُمْ، فَلَوْ أَدْنَيْتَنَا مِنْكَ إِذَا جِئْنَا، قَالَ: فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يَعْنِي: سَلْمَانَ وَأَصْحَابَهُ " (1).
وعَنْ سَعْدٍ، قَالَ لِي:" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: هَؤُلَاءِ السَّفِلَةُ هُمُ الَّذِينَ يَلُونَكَ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَتْ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] " (2).
أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطىء. وبعد ذلك «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» فالإسلام لا يتملق أحدا، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه.
«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» .. لا تمل ولا تستعجل «مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» .. فاللّه غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة.
اصبر نفسك مع هؤلاء. صاحبهم وجالسهم وعلمهم. ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى اللّه خالصة له، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
__________
(1) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ >> سُورَةُ الْأَنْعَامِ >> قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَةَ >> (7365) حسن مرسل
(2) - شعب الإيمان [13/ 95] (10008) وهو في مسلم(1/111)
«وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة. فهذه زينة الحياة «الدُّنْيا» لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» .. لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء. فلو ذكروا اللّه لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال اللّه الذي تتساوى في ظله الرؤوس وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية. ويحكمون مقاييسها في العباد. فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر اللّه.
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام اللّه. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه قيم زائفة، وقيم زائلة. إنما التفاضل بمكانها عند اللّه. ومكانها عند اللّه يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان.
«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» .. أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع للّه. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر اللّه، فيزيده اللّه غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده اللّه لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم: «وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .. بهذه العزة، وبهذه الصراحة، وبهذه الصرامة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه، قويا لا ضعف فيه، صريحا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن لم يعجبه الحق فليذهب، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند اللّه فلا مجاملة على حساب العقيدة ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال اللّه فلا حاجة بالعقيدة إليه.
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها. إنما هي ملك للّه، واللّه غني عن العالمين. والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة، ولا يأخذونها كما هي(1/112)
بلا تحوير. والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين ". (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2268](1/113)
القيمة الأولى في الحياة هي قيمة الإيمان
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: 69 - 77] ..
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: «ما تعبدون؟».
«قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ»! وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبىء بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم! ويأخذ إبراهيم - عليه السّلام - يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير: «قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟» فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه! ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير: «قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» ..(1/114)
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها! وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم - على حلمه وأناته - إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! «قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ..
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم - وهم آباؤه - الأقدمون! وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون. (1).
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم - عليه السّلام - من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه «فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه» وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة .. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في اللّه، ولا تقوم صلة بين
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2602](1/115)
فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة أنبتت سائر الوشائج وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2604](1/116)
رابطة العقيدة مقدمة على رابطة الأبوة
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 13 - 15] ..
وإنها لعظة غير متهمة فما يريد الوالد لولده إلا الخير وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام .. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد - صلى الله عليه وسلم - على قومه، فيجادلونه فيها ويشكون في غرضه من وراء عرضها ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه اللّه الحكمة من الناس يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه .. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى(1/117)
رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها اللّه وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّى الذاهب في أدبار الحياة، بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق .. عن سَعِيدَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عُمَرَ وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ.
ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ (1).
هكذا .. ولا بزفرة .. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر اللّه المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات، فيجيء شكر اللّه أولا ويتلوه شكر الوالدين .. «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد - على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة - إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك باللّه ما يجهل ألوهيته - وكل ما عدا اللّه لا ألوهية له فتعلم! - فهو مأمور بعدم الطاعة من اللّه صاحب الحق الأول في الطاعة.
__________
(1) -الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (11) صحيح(1/118)
ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» من المؤمنين «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» بعد رحلة الأرض المحدودة «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت).وروي أنها نزلت في سعد بن مالك (1).
ورواه الطبراني في كتاب العشرة - بإسناده - عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص (2).وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في اللّه هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق اللّه هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض .. (3)
__________
(1) -قلت: سعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص ...
(2) -صحيح مسلم- المكنز [16/ 38] (6391) وقد مر سابقا
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2789](1/119)
وجوب الهجرة إذا تعرضت العقيدة للخطر
قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (99) سورة الصافات ..
هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففا من كل شي ء، طارحا وراءه كل شي ء، مسلما نفسه لربه لا يستبقي منها شيئا. موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدا لا عقب له وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! (1)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (97) سورة النساء ..
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ويهدف إلى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة .. لذلك يرسم هذا المشهد .. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية ..
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2994](1/120)
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم. وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم .. ظالمي أنفسهم. وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها. إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة.
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت. بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم: فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا: «قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟» ..
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع! ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جوابا كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة.
«قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ» .. كنا مستضعفين. يستضعفنا الأقوياء. كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا. وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة .. فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم. بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة:
«قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟!» ..
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان .. إنما كان هناك شيء آخر .. حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام. ويمسكهم في الضيق وهناك أرض اللّه الواسعة. والهجرة إليها مستطاعة مع احتمال الآلام والتضحيات.
وهنا ينهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة: «فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً» ..
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر والتعرض للفتنة في الدين والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف، والنساء والأطفال فيعلقهم بالرجاء في عفو اللّه ومغفرته ورحمته. بسبب(1/121)
عذرهم البين وعجزهم عن الفرار: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين، وفي بيئة معينة .. يمضي حكما عاما يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها. متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة اللّه، ويستمتع بهذا المستوي الرفيع من الحياة ..
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها وتشفق من التعرض لها. وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا. فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل اللّه وبضمان اللّه للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجرا في سبيله. ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج: «وَمَنْ يُهاجِرْ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ - يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ - فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (1) ..
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"كَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ضَمْرَةُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَكَانَ مَرِيضاً، فَقَالَ لأَهْلِهِ: اخْرِجُونِي مِنْ مَكَّةَ، فَإِنِّي أَجِدُ الْحَرَّ. فَقَالُوا: أَيْنَ نُخْرِجَكَ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ يَعْنِي. فَمَاتَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 327] (5921) صحيح
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ:"هَاجَرَ خَالِدُ بْنُ حِزَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَنَهِشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً " قَالَ الزُّبَيْرُ: وَكُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ وَأَنْتَظِرُ قُدُومَهُ وَأَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَمَا أَحْزَنَنِي شَيْءٌ حُزْنِي وَفَاتُهُ حِينَ بَلَغَنِي، لأَنَّهُ قَلَّ أَحَدٌ مَنْ هَاجَرَ مِنْ قُرَيْشٍ إِلا مَعَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ أَوْ ذِي رَحِمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَلا أَرْجُو غَيْرَهُ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 328] (5922) صحيح
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَتْ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " الآيَةَ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 328] (5923) صحيح
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ بْنِ الْعِيصِ الزَّرْقِيِّ الَّذِي كَانَ مُصَابُ الْبَصَرِ وَكَانَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:" " إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً " فَقُلْتُ: إِنَّنِي لَغَنِيُّ وَإِنِّي لَذُو حِيلَةٍ، قَالَ: فَتَجَهَّزَ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 329] (5924) صحيح مرسل(1/122)
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة وهي تواجه مخاطر الهجرة في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين.
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة اللّه سبحانه وتعالى ..
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها «في سبيل اللّه» .. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل اللّه - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً» ..
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين ثم تتعرض لذلك المصير البائس. مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. واللّه يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل اللّه .. إنه سيجد في أرض اللّه منطلقا وسيجد فيها سعة. وسيجد اللّه في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه ..(1/123)
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل اللّه .. والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة إنما هو حتم محتوم عند ما يحين الأجل المرسوم. وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة ... والمنهج يراعي هذا ويعالجه. فيعطي ضمانة اللّه بوقوع الأجر على اللّه منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى اللّه ورسوله: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ - فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ..
أجره كله. أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام .. فماذا بعد ضمان اللّه من ضمان؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب. وهذا فوق الصفقة الأولى.
«وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً».إنها صفقة رابحة دون شك. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى اللّه ورسوله - والموت هو الموت. في موعده الذي لا يتأخر. والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة.
ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده. ولخسر الصفقة الرابحة. فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة. بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه! وشتان بين صفقة وصفقة! وشتان بين مصير ومصير! ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبار ات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات:
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل اللّه والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد .. اللهم إلا من عذرهم اللّه من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ..
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني .. وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا. لولا ما ورد في(1/124)
حديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،وَإِقَامِ الصَّلاَةِ،وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ،وَالْحَجِّ،وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (1).
ولكن قوة التكليف بالجهاد وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته.
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات. وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس. ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد. وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم.
وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ويقود المجتمع المسلم ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى اللّه. (2)
آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام، متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد، أولئك بعضهم أولياء بعض .. والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة، ولم يدينوا بعد للقيادة ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد .. وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره .. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك .. هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات، كما
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [1/ 19] (8) وأخرجه الحماعة المسند الجامع [10/ 5] (7164)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 744](1/125)
تصورها هذه النصوص الحاسمة: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ .. فِي الدِّينِ .. فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ - إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ .. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر، كانت ولاية توارث وتكافل في الديات وولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة .. حتى إذا وجدت الدولة ومكن اللّه لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة، ورد اللّه الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم، داخل المجتمع المسلم ..
فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطا لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا، استمساكا بمصالح أو قرابات مع المشركين، فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية، كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات، وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة .. وهؤلاء وأولئك أوجب اللّه على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد، لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية! ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبار ات الأساسية في تركيبه العضوي، وقيمه الأساسية. ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ومنهجه الحركي والتزاماته.(1/126)
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام .. وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمرا واحدا: هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق .. ولم يكن الناس - فيما عدا أفرادا معدودة فى فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود اللّه البتة إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق، أو يشركون مع اللّه آلهة أخرى: إما في صورة الاعتقاد والعبادة وإما في صورة الحاكمية والاتباع وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين اللّه، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد، ويرتدون إلى الجاهلية، التي أخرجهم منها، ويعودون إلى الشرك باللّه مرة أخرى .. إما في الاعتقاد والعبادة، وإما فى الاتباع والحاكمية، وإما فيها جميعا ..
هذه طبيعة الدعوة إلى اللّه على مدار التاريخ البشري .. إنها تستهدف «الإسلام» .. إسلام العباد لرب العباد وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم، إلى سلطان اللّه وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة .. وفى هذا جاء الإسلام على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -،كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله .. جاء ليرد الناس إلى حاكمية اللّه كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هى السلطة التي تنظم وجوده فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله. بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم. فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع اللّه في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها وهم لا يملكون تغيير سنة اللّه بهم فى هذا كله كما أنهم لا يملكون تغيير سنة اللّه فى القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه. ومن ثم ينبغى أن يثوبوا إلى الإسلام فى الجانب الإرادي من حياتهم فيجعلوا شريعة اللّه هى(1/127)
الحاكمة فى كل شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقا بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني (1).
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري .. هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام للّه وحده. والتي واجهها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بدعوته .. هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في «نظرية» مجردة. بل ربما أحيانا لم تكن لها «نظرية» على الإطلاق! إنما كانت متمثلة دائما في تجمع حركي. متمثلة في مجتمع، خاضع لقيادة هذا المجتمع، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد.
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في «نظرية» مجردة، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية، ورد الناس إلى اللّه مرة أخرى، لا يجوز - ولا يجدي شيئا - أن تتمثل في «نظرية» مجردة. فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلا والمتمثلة في تجمع حركي عضوي، فضلا على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل، لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته. بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلا.
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة: «شهادة أن لا إله إلا اللّه». أي إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة
__________
(1) - يراجع بتوسع في هذه النقطة كتاب: «مبادئ الإسلام» للسيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان. كما يراجع فصل: «شريعة كونية» في كتاب «معالم في الطريق». «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/128)
والسلطان والحاكمية .. إفراده بها اعتقادا في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة. فشهادة أن لا إله إلا اللّه، لا توجد فعلا ولا تعتبر موجودة شرعا إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجودا جديا حقيقيا يقوم عليه اعتبار قائلها مسلما أو غير مسلم ..
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية .. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى اللّه، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند أنفسهم بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم اللّه فيها ليتبعوه .. وحكم اللّه هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه وهو رسول اللّه .. وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول: «شهادة أن محمدا رسول اللّه».
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجا كاملا للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية، في داخل دار الإسلام وخارجها في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى (1)
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في «نظرية» مجردة ليعتنقها من يعتنقها اعتقادا ويزاولها عبادة ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفرادا ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلا. فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى «وجود فعلي» للإسلام.
لأن الأفراد «المسلمين نظريا» الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتما للإستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية. سيتحركون طوعا أو كرها، بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا .. أي أن الأفراد «المسلمين نظريا» سيظلون يقومون «فعلا» بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون «نظريا» لإزالته وسيظلون
__________
(1) - يراجع فصل: «لا إله إلا اللّه منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/129)
خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى، وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي، لإقامة المجتمع الإسلامي! ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام (أي العقيدة) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى .. لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه. وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية اللّه وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت، سواء كانت في صورة قيادة دينية، من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش، وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة.
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا. لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملا عضويا - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه. ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه، وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي. ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي.
وهكذا وجد الإسلام .. هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع .. ولم يوجد قط في صورة «نظرية» مجردة عن هذا الوجود الفعلي ..(1/130)
وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى .. ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان، بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية.
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي - على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع (1) - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة، في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا وعلاقاته مع الذين آمنوا ولم يهاجروا وعلاقاته مع الذين كفروا ..
إنها كلها تقوم على أساس ذلك الفقه بطبيعة النشأة العضوية الحركية للمجتمع الإسلامي.
ونستطيع الآن أن نواجه هذه النصوص والأحكام الواردة فيها.
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ - إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
لقد انخلع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه في مكة من الولاء لأسرته، والولاء لعشيرته، والولاء لقبيلته، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته. في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.
عندئذ آخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء هذا التجمع الوليد .. أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفرادا، إلى «مجتمع» متكافل، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.
__________
(1) - ص 1431 - 1452 من الجزء التاسع.- دار الشروق (السيد رحمه الله)(1/131)
ثم لما فتح اللّه للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وحماية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عاد رسول اللّه فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها. بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة .. وكان حكم اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
أولياء في النصرة، وأولياء في الإرث، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا .. لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة اللّه وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك دارا يقيم فيها شريعة اللّه ويحقق فيها وجوده الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبيا، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة. يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه ..
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل اللّه لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي. وفي هؤلاء نزل هذا الحكم: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..(1/132)
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية .. ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلا عن عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها. على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الرعاية أولا، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي .... وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي ..
والتعقيب على هذا الحكم: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه، ومقدماته ونتائجه، وبواعثه وآثاره.
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد، فكذلك المجتمع الجاهلي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما .. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده. ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام(1/133)
وطغيان ألوهية العباد على ألوهية اللّه ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير .. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام اللّه - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير.
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .. أولئك هم المؤمنون حقا .. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان .. هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين .. إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها .. إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي .. أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح (حقا) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية ..
وهؤلاء المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم .. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله .. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم. بل هي أكرم الرزق الكريم.
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» ..
ولقد ظل شرط الهجرة قائما حتى فتح مكة حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض(1/134)
ألفا ومائتي عام تقريبا لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة اللّه وسلطانه .. فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم اللّه - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها ... (1)
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، تاركين وراءهم كل شيء، فارين إلى اللّه بدينهم، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى، وذخائر المال، وأسباب الحياة، وذكريات الطفولة والصبا، ومودات الصحبة والرفقة، ناجين بعقيدتهم وحدها، متخلين عن كل ما عداها. وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة، واستيلائها على القلب، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة. وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول اللّه تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» .. كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى. فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت، وظل آخرون فيها على الشرك. فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم. ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية.
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة.
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة، تغطي على كل العواطف والمشاعر، وكل الأوضاع والتقاليد، وكل الصلات والروابط. لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة فتقوم بينها مقام الدم والنسب، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة. لا بنصوص التشريع، ولا بأوامر الدولة ولكن بدافع داخلي ومد
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1554](1/135)
شعوري. يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية. وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع.
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم، وفي أموالهم. وتسابقوا إلى إيوائهم وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة. إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار. وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس، وطيب خاطر، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة! وآخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار. وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد. وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها. وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة. بل بما هو أكثر. وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها.
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها. وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية.
وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما، مستعدة للفيضان. لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي، وللنظام العادي، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة.
ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار، ووجود أسباب معقولة للارتزاق، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا(1/136)
التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم .. عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة. ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية. فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب اللّه القديم وناموسه الطبيعي: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» ..
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم، بل على قرابة النفس!: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .. وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لجميع المؤمنين: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» .. وولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات اللّه وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ (1).
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» (2).
وفي الصحيح عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ».فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «الآنَ يَا عُمَرُ» (3).
__________
(1) -السنة لابن أبي عاصم 287 [1/ 12] (15) حسن لغيره
(2) -صحيح البخارى- المكنز [1/ 31] (14)
(3) -صحيح البخارى- المكنز [22/ 61] (6632)(1/137)
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوّع مشاعره، وراض نفسه، وخفض من غلوائه في حب ذاته، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه، فإن ملكه كمن في مشاعره، وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ولكنه يصعب عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها، أو عيبا لشيء من خصائصها، أو نقدا لسمة من سماتها، أو تنقصا لصفة من صفاتها. وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره!
والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون اللّه ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر (1) كما سماه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ويكفي أن عمر - وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .. (2)
__________
(1) - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمٌ غُزَاةٌ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - " قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ ".وعَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ "الْجِهَادُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (11) صحيح -المجاهدة: الاجتهاد في طاعة الله وزيادة النوافل تقربا إليه سبحانه
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2827](1/138)
يجب تقديم رابطة العقيدة على كل الروابط
هذه السورة (سورة الممتحنة) حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها اللّه تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة تبلغ إليه البشرية أحيانا، وتقصر عنه أحيانا، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوما في هذه الأرض.
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد. مادة مقدرة في علم اللّه، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.
وفي مضطرب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة. أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة لأن اللّه الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وكان يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير(1/139)
المتكرر، والصهر المتوالي .. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر اللّه، وتتوالى الموعظة بها. والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة.
وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه - صلى الله عليه وسلم - حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين اللّه. بتوفيق اللّه. على يدي رسول اللّه.
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم. عالم محوره الإيمان باللّه وحده، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده، بعروة واحدة لا انفصام لها ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى. عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة. ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة. هي عقدة الإيمان باللّه. والوقوف تحت راية اللّه. في حزب اللّه.
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه اللّه وحكمه، ويتجه إلى اللّه بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على اللّه، المتضمن كيانه نفحة من روح اللّه.
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض.
كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية .. وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور! وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج اللّه في الأرض في صورة عملية واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.(1/140)
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات! وكان اللّه يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.
وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث: إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضا.
وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم عمّ عليهم خبرنا» فعَنْ جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بنتُ الْحَارِثِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاتَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، ثُمَّ قَامَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ فِي مُتَوَضَّئِهِ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثَلاثًا، وَنُصِرْتُ وَنُصِرْتُ، ثَلاثًا، قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِي مُتَوَضَّئِكَلَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثَلاثًا، وَنُصِرْتُ نُصِرْتُ، ثَلاثًا، كَأَنَّكَ تُكَلِّمُ إِنْسَانًا فَهَلْ كَانَ مَعَكَ أَحَدٌ؟، قَالَ: هَذَا رَاجِزُ بني كَعْبٍ يَسْتَصْرِخُنُي، وَيَزْعُمُ أَنَّ قُرَيْشًا أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ بني بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُجَهِّزَهُ وَلا تُعْلِمُ أَحَدًا، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُوهَا، فَقَالَ: يَا بنيَّةُ مَا هَذَا(1/141)
الْجِهَازُ؟، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، قَالَ: مَا هَذَا بِزَمَانِ غَزْوِ بني الأَصْفَرِ فَأَيْنَ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟، قَالَتْ: لا عِلْمَ لِي، قَالَتْ: فَأَقَمْنَا ثَلاثًا، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بِالنَّاسِ فَسَمِعْتُ الرَّاجِزَ يَنْشُدُهُ:
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا خِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلُدَا
إِنَّا وَلَدْنَاكَ فَكُنْتَ وَلَدًا ثَمَّةَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ تَنْزَعْ يَدًا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَ وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَزَعَمَتْ أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدًا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَلْبَدَا
وَادْعُ عَبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدًا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا
أَبْيَضُ مِثْلُ الْبَدْرِ يُنَحِّي صُعُدًا لَوْ سِيمَ خَسَفَا وَجْهِهِ تَرَبَّدَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:نُصِرْتُ، ثَلاثًا، أَوْ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثَلاثًا، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ نَظَرَ إِلَى سَحَابٍ مُنْتَصِبٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا السَّحَابَ لَيَنْتَصِبُ بنصْرِ بني كَعْبٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بني نَصْرِ بن عَدِيِّ بن عَمْرٍو أَخُو بني كَعْبِ بن عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنُصِرَ بني عَدِيٍّ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:تَرِبَ خَدُّكَ وَهَلْ عَدِيٌّ إِلا كَعْبٌ وَكَعْبٌ إِلا عَدِيٌّ، فَاسْتُشْهِدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي ذَاكَ السَّفَرِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَيْهِمْ خَبَرَنَا حَتَّى نَأْخُذَهُمْ بَغْتَةً، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى نَزَلَ مَرْوَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بن حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ قَدْ خَرَجُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَشْرَفُوا عَلَى مَرْوِ فَنَظَرَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النِّيرَانِ، فَقَالَ: يَا بُدَيْلُ، لَقَدْ أَمْسَكَتْ بنو كَعْبٍ أَهْلَهُ، فَقَالَ: حَاشَتْهَا إِلَيْكَ الْحَرْبُ، ثُمَّ هَبَطُوا فَأَخَذَتْهُمْ مُزَيْنَةُ وَكَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحِرَاسَةُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِمْ إِلَى الْعَبَّاسِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَذَهَبُوا بِهِمْ فَسَأَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ بِهِمُ الْعَبَّاسُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ، فَقَالَ: أَسْفِرُوا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ، فَابْتَدَرَ الْمُسْلِمُونَ وُضُوءَهُ يَنْضَحُونَهُ فِي وُجُوهِهِمْ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا(1/142)
الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ وَلَكِنَّهَا النُّبُوَّةُ وَفِي ذَلِكَ يَرْغَبُونَ. (1)
وأخبر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب.
فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع اللّه - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.
فعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرْثَدٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ". (2)
وقد روى البخاري ومسلم وعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرْثَدٍ وَالزُّبَيْرَ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ».فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا الْكِتَابُ.فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ.فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا، فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ.فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ».قَالَ حَاطِبٌ وَاللَّهِ مَا بِى أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا».فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ.فَقَالَ «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ».فَقَالَ «لَعَلَّ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني [17/ 248] (19482) حسن لغيره، وقد جاء من حديث: المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 625 من طريق ابن إسحاق وصرح بالتحديث فإسناده حسن ...
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) [1/ 370] (1083) صحيح(1/143)
اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (1).
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَافِعٍ - وَهُوَ كَاتِبُ عَلِىٍّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رضى الله عنه وَهُوَ يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ «ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا».فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ. فَقَالَتْ مَا مَعِى كِتَابٌ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا».قَالَ لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ - قَالَ سُفْيَانُ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِى وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «صَدَقَ».فَقَالَ عُمَرُ دَعْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (2)
والوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن «ظلال القرآن» والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - القائد المربي العظيم
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على سر الحملة .. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها وأن لا عاصم إلا اللّه من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 341] (3983) وصحيح مسلم- المكنز [16/ 236] (6558)
(2) - صحيح مسلم- المكنز [16/ 235] (6557) -العقاص: جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر(1/144)
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعجل حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: «صدق لا تقولوا إلا خيرا» .. ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: «إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين.
فدعني فلأضرب عنقه» .. فعمر - رضي اللّه عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر اللّه وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح .. ذلك حين يقول: «أردت أن تكون لي عند القوم يد .. يدافع اللّه بها عن أهلي ومالي» .. فاللّه هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع اللّه بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدافع .. اللّه .. به عن أهله وماله» فهو اللّه حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع اللّه بها ..
ولعل حس رسول اللّه الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صدق. لا تقولوا إلا خيرا» ..
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير اللّه في الحادث وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر اللّه بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم ... والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات(1/145)
فيه فهو أحد روايات البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن. كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني.
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف اللّه ليعلمهم اللّه ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا. في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.
والسورة كلها في هذا الاتجاه. حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات، ومبايعة من يدخلن في الإسلام، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر .. فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء اللّه، ممن غضب عليهم اللّه، سواء من المشركين أو من اليهود. ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [6/ 3536](1/146)
بين نوح عليه السلام وابنه
قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} [هود: 42 - 43]
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 45 - 47] ..
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة ..
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال اللّه سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» .. «يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ثم بين له لماذا يكون ابنه .. ليس من أهله .. «إنه عمل غير صالح» .. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: «فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة .. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب وآنا هي الأرض والوطن، وآنا هي القوم والعشيرة، وآنا هي اللون واللغة، وآنا هي الجنس(1/147)
والعنصر، وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك .. وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير .. والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق .. وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها ..
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ، إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا .. قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ! وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ... (مريم:41 - 50).
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه اللّه سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه.
ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .. »(1/148)
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ - مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. (البقرة:124 - 126) وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته.
وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ...
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ قالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ... (التحريم:10 - 11) وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...
«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... » .. (الممتحنة:4).
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ - إِلَّا اللَّهَ - فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» ... (الكهف:9 - 16).(1/149)
وبهذه الأمثلة التي ضربها اللّه للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة.
هذه نماذج منها .. «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ - أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ... (المجادلة:22) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» ... (الممتحنة:1) «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... إلخ» .. (الممتحنة:3 - 4) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ... (التوبة:23). «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ... (المائدة:51).
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها اللّه للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه. والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف(1/150)
لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا! وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة اللّه في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة ..
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان (1).
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة .. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم .. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش ..
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها .. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره!
__________
(1) - من هؤلاء جوليان هاكسلي من علماء الداروينية الحديثة! (السيد رحمه الله)(1/151)
فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها اللّه له متمشية مع تلك الخصائص يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يدله فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشىء مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض ..
«ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة!
ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد(1/152)
نسبيا قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان. «لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس .. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقيدية».
«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
«كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا، يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها .. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية .. كلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت(1/153)
الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة، إنما أقامته على القاعدة «الطبقية».فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!
«لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني .. وما يزال متفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن السخيف، هم أعداء «الإنسان» حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره اللّه ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق» .... (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1886] ومقتطفات من فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» من كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق».(1/154)
لا يستحق الإمامة في الدين والدنيا إلا الموحدون الطائعون
قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]
يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - اذكر ما كان من ابتلاء اللّه لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن وفاء وقضاء .. وقد شهد اللّه لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزام اته على النحو الذي يرضى اللّه عنه فيستحق شهادته الجليلة: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» .. وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم. مقام الوفاء والتوفية بشهادة اللّه عز وجل. والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم! عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى. أو تلك الثقة: «قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» .. إماما يتخذونه قدوة، ويقودهم إلى اللّه، ويقدمهم إلى الخير، ويكونون له تبعا، وتكون له فيهم قيادة.
عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر: الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد. ذلك الشعور الفطري العميق، الذي أودعه اللّه فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق .. ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى. وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث، تلبية لتلك الفطرة، وتنشيطا لها لتعمل، ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد. وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة. وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى. وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة. ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق، وفكرة عن تكوينها أدق، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل، أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح: «قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟» ..(1/155)
وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه، يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا .. إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور، وبالصلاح والإيمان، وليست وراثة أصلاب وأنساب. فالقربى ليست وشيجة لحم ودم، إنما هي وشيجة دين وعقيدة. ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية، التي تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح: «قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ..
والظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي .. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة .. وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة.
فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. ومن ظلم - أيّ لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها.
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في تنحية اليهود عن القيادة والإمامة، بما ظلموا، وبما فسقوا، وبما عتوا عن أمر اللّه، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم ..
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم. بما ظلموا، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق اللّه، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم .. ودعواهم الإسلام، وهم ينحون شريعة اللّه ومنهجه عن الحياة، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد اللّه.
إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل. ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا انبتّت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبار ات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل .. وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته، بل يفصل بين الوالد والولد، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة. فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر. ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة. والذين آمنوا من أهل الكتاب(1/156)
شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة .. إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا .. إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة. وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين ..
إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم .. وهذا هو التصور الإيماني، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني، في كتاب اللّه الكريم .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 317](1/157)
لا صلة لأهل الكتاب ولا المشركين بدين إبراهيم عليه السلام
قال تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ».
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَخْبِرْهُمُ اللَّهُ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مَا أُنْزِلَا إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ، وَبَعْدَهُ كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ " (1)
وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن، فظاهر من نصها أنها نزلت ردا على ادعاءات لأهل الكتاب، وحجاج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد اللّه مع إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل في بيته النبوة واحتكار الهداية والفضل كذلك. ثم - وهذا هو الأهم - تكذيب دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه على دين إبراهيم، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة. أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل ..
ومن ثم يندد اللّه بهم هذا التنديد ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل. فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل. فكيف إذن يكون يهوديا؟ أو كيف إذن يكون نصرانيا؟ إنها دعوى مخالفة للعقل، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟».
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (6576) فيه جهالة(1/158)
ثم يمضي في التنديد بهم وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج، وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ؟».
وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم، ثم تولوا وهم معرضون .. وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم، ووجود كتبهم ودياناتهم .. فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سندا شكليا .. فهو الجدل إذن لذات الجدل. وهو المراء الذي لا يسير على منهج، وهو الغرض إذن والهوى ..
ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول. بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول! حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه، ونزع الثقة منهم ومما يقولون، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها اللّه. فهو - سبحانه - الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم. وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا. وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
فيؤكد ما قرره من قبل ضمنا من أن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا. وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده. ويقرر أنه كان مائلا عن كل ملة إلا الإسلام. فقد كان مسلما .. مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه ..
«وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» .. ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير:
يشير أولا إلى أن اليهود والنصارى - الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة - مشركون .. ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. ولكن حنيفا مسلما! ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر. فلا يلتقيان. الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه، وكل مقتضياته. ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلا.(1/159)
ويشير ثالثا إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم، وسدنة بيته في مكة
فهو حنيف مسلم، وهم مشركون. «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»!
وما دام أن إبراهيم - عليه السلام - كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، فليس لأيّ من اليهود أو النصارى - أو المشركين أيضا - أن يدعي وراثته، ولا الولاية على دينه، وهم بعيدون عن عقيدته .. والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام. حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض، إذا أنبتت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان. فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه. بالنفخة التي جعلت منه إنسانا. ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه. ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج! والولاية بين فرد وفرد، وبين مجموعة ومجموعة، وبين جيل من الناس وجيل، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة. يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن.
والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة. والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان، ومن وراء فواصل الدم والنسب، والقوم والجنس ويتجمعون أولياء - بالعقيدة وحدها - واللّه من ورائهم ولي الجميع: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» .. فالذين اتبعوا إبراهيم - في حياته - وساروا على منهجه، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه. ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة اللّه أصدق الشاهدين. ثم الذين آمنوا بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - - فالتقوا مع إبراهيم - عليه السلام - في المنهج والطريق.
«وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» .. فهم حزبه الذين ينتمون إليه، ويستظلون برايته، ويتولونه ولا يتولون أحدا غيره. وهم أسرة واحدة. وأمة واحدة. من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان ومن وراء القوميات والأجناس، ومن وراء الأرومات والبيوت! وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني. وتميزه من القطيع! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود. لأن القيد الواحد فيها اختياري(1/160)
يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية. فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر .. على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه - إن كانت رابطة التجمع هي الجنس - ولا يملك أن يغير قومه - إن كانت رابطة التجمع هي القوم - ولا يملك أن يغير لونه - إن كانت رابطة التجمع هي اللون - ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة - ولا يملك بيسر أن يغير طبقته - إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة - بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلا. ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبدا دون التجمع الإنساني، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور .. الأمر المتروك للاقتناع الفردي، والذي يملك الفرد بذاته، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره، وأن ينضم إلى الصف على أساسه.
وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره، المميزة له من القطيع! والبشرية إما أن تعيش - كما يريدها الإسلام - أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور .. وإما أن تعيش قطعانا خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون .. وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع!!! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 677](1/161)
لا يجوز لمسلم أن يقتل أخاه المسلم بغيرحق
إنَّ العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض، مهما اختلفت الديار فلا قتل ولا قتال .. لا قتل إلا في حد أو قصاص .. فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة. ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبدا. وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة. اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ .. وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام. فأما القتل العمد فلا كفارة له. لأنه وراء الحسبان! ووراء حدود الإسلام!
قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) [النساء]» ..
وهذه الأحكام تتناول أربع حالات: ثلاث منها من حالات القتل الخطأ - وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة - دار الإسلام - أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام - والحالة الرابعة حالة القتل العمد. وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء. فليس من شأنها أن تقع. إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا. وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا. وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا. ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً» ..(1/162)
فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي .. وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع .. فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة. كبيرة جدا. ونعمة عظيمة. عظيمة جدا. ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد .. إن هذا العنصر .. المسلم .. عنصر عزيز في هذه الأرض .. وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله .. فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله .. وهذا أمر يعرفه أصحابه. يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم. وقد علمهم اللّه إياه بهذه العقيدة.
وبهذه الوشيجة. وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثم ترتقي فتجمعهم في اللّه سبحانه الذي ألف بين قلوبهم. ذلك التأليف الرباني العجيب.
فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث، التي يبين السياق أحكامها هنا:
الحالة الأولى: أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام. ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله .. فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة. وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام. وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس، وشراء لخواطر المفجوعين، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول .. ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو - إذا اطمأنت نفوسهم إليه - لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم. «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ - إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» ..
والحالة الثانية: أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب .. وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت، وفقدها الإسلام. ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين، يستعينون بها على قتال المسلمين! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم، فهم محاربون، وهم عدو للمسلمين.
والحالة الثالثة: أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة. مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه. ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - المعاهدين - ولو لم يكن مؤمنا. لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين. ولكن الذي(1/163)
يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن. «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً» ..
ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا. وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال: «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو. ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة. مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه. وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان ..
وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى بعض القتلى من المعاهدين (1):ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم. مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية. وأن هذا ثبت بعمل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لا بهذه الآية. وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن. سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق .. ميثاق هدنة أو ذمة .. وهذا هو الأظهر في السياق.
ذلك القتل الخطأ. فأما القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة وإنما يؤكل جزاؤها إلى عذاب اللّه: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ. وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» ..
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.سنن الترمذى- المكنز [5/ 441] (1465) ضعيف
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». وَبِهَذَا الإِسْنَادِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «دِيَةُ عَقْلِ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ».قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِى هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِى دِيَةِ الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِىِّ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى دِيَةِ الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِىِّ إِلَى مَا رُوِىَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -.وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دِيَةُ الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِىِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَبِهَذَا يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَرُوِىَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ دِيَةُ الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِىِّ أَرْبَعَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَدِيَةُ الْمَجُوسِىِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَبِهَذَا يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِىُّ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ دِيَةُ الْيَهُودِىِّ وَالنَّصْرَانِىِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ. سنن الترمذى- المكنز [5/ 457] (1475 - 1476)(1/164)
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها اللّه بين المسلم والمسلم. إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها.
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها .. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» .. فرجا للقاتل التائب المغفرة .. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم،- قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة. ولكنهم لا يفكرون في قتلهم. لا يفكرون مرة واحدة ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة. بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.
واحتراسا من وقوع القتل ولو كان خطأ وتطهيرا لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا للّه، وفي سبيل اللّه .. يأمر اللّه المسلمين إذا خرجوا غزاة، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان (إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان).
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. فَتَبَيَّنُوا. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» ..
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ غَنَمٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء]،إِلَى آخِرِ الآيَةِ. (1)
__________
(1) - صحيح ابن حبان- ط2 مؤسسة الرسالة [11/ 59] (4752) صحيح(1/165)
وعَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى إِضَمٍ، فَخَرَجْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ مَرَّ بِنَا عَامِرٌ الأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ، لَهُ مَعَهُ مُتَيِّعٌ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِنَا، سَلَّمَ عَلَيْنَا، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ، فَقَتَلَهُ بِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمُتَيِّعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: خَرَجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ فِي سَرِيَّةٍ، فَمَرُّوا بِرَجُلٍ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: وَدَّ لَوْ فَرَّ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: الْغَنِيمَةُ، {فَعَندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} قَالَ: تَكْتُمُونَ إِيمَانَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} فَأَظْهَرَ الإِسْلاَمَ، {فَتَبَيَّنُوا} وَعِيدًا مِنَ اللهِ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. (2)
وعن أبي ظَبْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي فَقَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ قَتَلْتُهُ، بَعْدَمَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَ مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: طَعَنْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (3)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) [7/ 912] ((23881) 24378) حسن
(2) - مصنف ابن أبي شيبة -دار القبلة [14/ 580] (29543) فيه انقطاع
(3) - صحيح ابن حبان- ط2 مؤسسة الرسالة [11/ 57] (4751) صحيح(1/166)
ومن ثم نزلت الآية، تحرج على مثل هذا التصرف وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة أو تسرع في الحكم .. وكلاهما يكرهه الإسلام.
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب إذا خرجوا يجاهدون في سبيل اللّه. إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه .. وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين. وقد يكون دم مسلم عزيز، لا يجوز أن يراق.
واللّه سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة وما كان فيها من طمع في الغنيمة. ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم. ويمن عليهم أن شرع لهم حدودا وجعل لهم نظاما فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر.
كما كانوا في جاهليتهم كذلك .. وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم - على قومهم - من الضعف والخوف، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين. «كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. فَتَبَيَّنُوا. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً».
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة اللّه .. وعلى هذه الحساسية والتقوى، يقيم الشرائع والأحكام بعد بيانها وإيضاحها.
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح، ومثل هذه النظافة. منذ أربعة عشر قرنا .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1089](1/167)
كيف ينحدر الناس من التوحيد للجاهلية
إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة .. ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة - بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته، وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها .. وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك. فيهلك من يهلك، ويحيا من يحيا. والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة. هم الذين علموا أن لهم إلها واحدا، واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد. هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم: «يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره» .. فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين اللّه كله، ويتعاقب بها الرسل جميعا على مدار التاريخ .. فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها، فنسوها وضلوا عنها، وأشركوا مع اللّه آلهة أخرى - على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة - وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل .. وعلى أساسها يأخذ اللّه المكذبين بها وينجي المؤمنين .. والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل - صلوات اللّه عليهم - مع اختلاف لغاتهم .. يوحد حكاية ما قالوه، ويوحد ترجمته في نص واحد: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وذلك لتحقيق معنى وحدة العقيدة السماوية - على مدار التاريخ - حتى في صورتها اللفظية! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة، ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويرا حسيا .. ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة ..
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج «الأديان المقارنة» مع المنهج القرآني .. يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا «تطور» في مفهوم العقيدة الأساسي، الذي جاءت به الرسل كلها من عند اللّه، وأن الذين يتحدثون عن «تطور» المعتقدات وتدرجها ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج «والتطور» يقولون غير ما يقوله اللّه سبحانه! فهذه العقيدة - كما نرى في القرآن الكريم - جاءت دائما بحقيقة واحدة. وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم(1/168)
إليه هو «رب العالمين» .. الذي يحاسب الناس في يوم عظيم .. فلم يكن هنا لك رسول من عند اللّه دعا إلى رب قبيلة، أو رب أمة، أو رب جنس .. كما أنه لم يكن هناك رسول من عند اللّه دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة .. وكذلك لم يكن هناك رسول من عند اللّه دعا إلى عبادة طوطمية، أو نجمية، أو «أرواحية!» أو صنمية! ولم يكن هناك دين من عند اللّه ليس فيه عالم آخر .. كما يزعم من يسمونهم «علماء الأديان» وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة، ثم يزعمون أن معتقداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان، دون غيرها! لقد جاءت الرسل - رسولا بعد رسول - بالتوحيد الخالص، وبربوبية رب العالمين! وبالحساب في يوم الدين .. ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد، مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة، بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها .. هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية .. هي هذه التي يدرسها «علماء الأديان!» ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها! وعلى أية حال فهذا هو قول اللّه - سبحانه - وهو أحق أن يتبع، وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية، أو صدد الدفاع عنها! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، فهم وما هم فيه ..
واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين ..
إن كل رسول من الرسل - صلوات اللّه عليهم جميعا - قد جاء إلى قومه، بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه .. فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين - كما كانت عقيدة آدم وزوجه - ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا - حتى إذا جاء نوح - عليه السلام - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى. ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون. وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين - كما علمهم نوح - وبذراريهم. حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم .. حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم .. ثم تكررت القصة .. وهكذا ..(1/169)
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه. فقال: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وقال كل رسول لقومه: «إني لكم ناصح أمين»،معبرا عن ثقل التبعة وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة ورغبته في هداية قومه، وهو منهم وهم منه .. وفي كل مرة وقف «الملأ» من عليه القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه ورفضوا الاستسلام للّه رب العالمين. وأبوا أن تكون العبودية والدينونة للّه وحده - وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين اللّه كله - وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت .. ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة. وتنبتّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية لتقوم وشيجة العقيدة وحدها. وإذا «القوم» الواحد، أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة! .. وعندئذ يجيء الفتح .. ويفصل اللّه بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المكذبين المستكبرين، وينجي الطائعين المستسلمين .. وما جرت سنة اللّه قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم للّه وحده. وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم. وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم .. وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة اللّه على مدار التاريخ.
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد: هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده - رب العالمين - ذلك أن هذه العبودية للّه الواحد، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلا من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعا. ذلك أن كل تفصيل - بعد قاعدة العقيدة - في الدين، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان اللّه هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان بل في القرآن كله .. ولنذكر - كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام (1) أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه.
__________
(1) - الجزء السابع: ص 1004 - 1015 (السيد رحمه الله)(1/170)
إن لهذا الدين «حقيقة» و «منهجا» لعرض هذه الحقيقة. «والمنهج» في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن «الحقيقة» فيه .. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة .. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية .. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة ..
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا .. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام للّه والطاعة لرسوله ولم يعجبوا أن يختار اللّه واحدا منهم ليبلغهم وينذرهم.
فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم، فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم للّه صاحب الخلق والأمر، وأن يسمعوا لواحد منهم .. كانوا هم «الملأ» من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم .. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين .. إنها عقدة الحاكمية والسلطان .. فالملأ كانوا يحسون دائما ما في قول رسولهم لهم: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ... «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني - أول ما تعني - نزع السلطان المغتصب من أيديهم ورده إلى صاحبه الشرعي .. إلى اللّه رب العالمين .. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك! .. إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لا تتبدل: نسيان لآيات اللّه وانحراف عن طريقه. إنذار من اللّه للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية للّه وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة .. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة اللّه على مدار التاريخ! وأخيرا فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق .. وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل -(1/171)
تاركا مصيرهما لفتح اللّه وقضائه - فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده .. ولقد قال شعيب لقومه: «وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ولا رؤية جماعة تدين للّه وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. وهنا صدع شعيب بالحق رافضا هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: «قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها .. »
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى اللّه أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضا، وأنه لا يجديهم فتيلا أن يتقوها ويتجنبوها. فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم اللّه منها. وقد نجاهم اللّه منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية للّه وحده .. فلا مفر من خوض المعركة، والصبر عليها، وانتظار فتح اللّه بعد المفاصلة فيها وأن يقولوا مع شعيب: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» .. ثم تجري سنة اللّه بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ ..
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني، حتى نستعرض النصوص بالتفصيل:
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل اللّه الكرام، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
وإن الدينونة لهذا الإله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي يحرك الليل ليطلب النهار، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والذي له الخلق والأمر.(1/172)
إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها، كلما قعد لها الشيطان على صراط اللّه فأضلها عنه وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى ولكنها كلها تتسم بإشراك غير اللّه معه في الربوبية.
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون للّه، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه والإسلام للّه الذي أسلم له الكون كله والذي يتحرك مسخرا بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزا وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة فلا يكون هو وحده نشازا في نظام الوجود كله! إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود .. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيدا عن حقيقتها الأصيلة .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1757](1/173)
تحريم الاستغفار للمشركين
المؤمنون الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أمة وحدهم، العقيدة في اللّه بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة. وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة. وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها. والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ - وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».
والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم، في غير صلة باللّه، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه .. ما كان لهم قطعا وليس من شأنهم أصلا .. أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان.
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية. فإذا انبتّت وشيجة العقيدة انبتّت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر. ولا لقاء بعد ذلك في قوم. ولا لقاء بعد ذلك في أرض .. إما إيمان باللّه فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها(1/174)
وتلتقي بها. أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان (1): «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ».
فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه. فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له اللّه لعله يهديه، ذلك إذ قال له: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا» .. فلما أن مات أبوه على الشرك، وتبين إبراهيم أن أباه عدو للّه لا رجاء في هداه، «تبرأ منه» وقطع صلته به.
«إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» .. كثير التضرع للّه، حليم على من آذاه. ولقد آذاه أبوه فكان حليما وتبين أنه عدو للّه فتبرأ منه وعاد للّه ضارعا.
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر اللّه في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب، وتقرر القاعدة الإسلامية: أنه لا عقوبة بغير نص ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
إن اللّه لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه. وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلا .. ذلك أن الإنسان قاصر واللّه هو العليم بكل شيء. ومنه البيان والتعليم. ولقد جعل اللّه هذا الدين يسرا لا عسرا، فبين ما نهى عنه بيانا واضحا، كما بين ما أمر به بيانا واضحا.
وسكت عن أشياء لم يبين فيها بيانا - لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير - ونهى عن السؤال عما سكت عنه، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد. ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئا من المسكوت عنه، ولا أن ينهى عما لم يبينه اللّه. تحقيقا لرحمة اللّه بالعباد ..
__________
(1) - يراجع فصل: «جنسية المسلم عقيدته» في كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/175)
وفي نهاية هذه الآيات، وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب، بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو اللّه وحده. وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة.
«إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».
فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة .. كلها بيد اللّه دون سواه. وفي الصلة باللّه وحده كفاية وغناء.
وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة. مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله .. حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه .. ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.
إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية. فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق. وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضا ..
ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أيا كانت الأسباب - أمرا مستنكرا عظيما وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2332](1/176)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 13 - 15]
وإنها لعظة غير متهمة فما يريد الوالد لولده إلا الخير وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام .. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد - صلى الله عليه وسلم - على قومه، فيجادلونه فيها ويشكون في غرضه من وراء عرضها ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه اللّه الحكمة من الناس يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه .. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى(1/177)
رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها اللّه وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّى الذاهب في أدبار الحياة، بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق .. عن سَعِيدَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عُمَرَ وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ.
ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ (1).
هكذا .. ولا بزفرة .. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر اللّه المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات، فيجيء شكر اللّه أولا ويتلوه شكر الوالدين .. «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد - على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة - إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك باللّه ما يجهل ألوهيته - وكل ما عدا اللّه لا ألوهية له فتعلم! - فهو مأمور بعدم الطاعة من اللّه صاحب الحق الأول في الطاعة.
__________
(1) -الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (11) صحيح(1/178)
ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» من المؤمنين «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» بعد رحلة الأرض المحدودة «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه. ورواه الطبراني في كتاب العشرة - بإسناده - عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص (1).وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في اللّه هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق اللّه هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض. (2)
__________
(1) -صحيح مسلم- المكنز [16/ 38] (6391) وقد مر سابقا
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3532](1/179)
الآصرة التي تجمع بين المسلمين عبر العصور كلها
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (10) سورة الحشر ..
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية. وهي تبرز أهم ملامح التابعين. كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان. هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة، إنما كانوا قد جاءوا في علم اللّه وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان. مع الشعور برأفة اللّه، ورحمته، ودعائه بهذه الرحمة، وتلك الرأفة: «رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود. تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف. وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب وتتفرد وحدها في القلوب، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة، كما يذكر أخاه الحي، أو أشد، في إعزاز وكرامة وحب. ويحسب السلف حساب الخلف. ويمضي الخلف على آثار السلف. صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان، تحت راية اللّه تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم.
إنها صورة باهرة، تمثل حقيقة قائمة كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم. صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس. صورة الحقد الذي(1/180)
ينغل في الصدور، وينخر في الضمير، على الطبقات، وعلى أجيال البشرية السابقة، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم. وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين!
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة، ولا لمسة ولا ظل. صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها. صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى اللّه، بريئة الصدور من الغل، طاهرة القلوب من الحقد، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء. حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة. فالصلاة ليست سوى أحبولة، والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين!
«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. هذه هي قافلة الإيمان. وهذا هو دعاء الإيمان. وإنها لقافلة كريمة. وإنه لدعاء كريم .. (1)
وقال تعالى: «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ..
وكان هود من عاد. فهو أخوهم. واحد منهم، تجمعه - كانت - آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة. وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس افتراق العقيدة. ويبرز بذلك معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة. لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [6/ 3527](1/181)
فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض ... ثم تنتهي بالافتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد .. أمة مسلمة وأمة مشركة ..
وبينهما فرقة ومفاصلة .. وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد اللّه بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين. ولا يجيء وعد اللّه بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة، وتتم المفارقة، وتتميز الصفوف، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة، ويعطوا ولاءهم كله للّه ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى اللّه وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد .. وعندئذ فقط - لا قبله - يتنزل عليهم نصر اللّه ..
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً» .. أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة.
«قال: يا قوم» .. بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه.
«قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا - كما أسلفنا - عن عبادة اللّه الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح! ثم تطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة - في صورة من صور الجاهلية الكثيرة. ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير اللّه وحده ولا يدين بالعبودية إلا اللّه وحده .. الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا اللّه.
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون للّه وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ». «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» ..(1/182)
مفترون فيما تعبدونه من دون اللّه، وفيما تدعونه من شركاء للّه.
ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة، فليس له من ورائها هدف. وما يطلب على النصح والهداية أجرا. إنما أجره على اللّه الذي خلقه فهو به كفيل: «يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ؟».
مما يشعر أن قوله: «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها. وكان التعقيب: «أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولا من عند اللّه يطلب رزقا من البشر، واللّه الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوّت هؤلاء الفقراء! ثم يوجههم إلى الاستغفار والتوبة. ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلاف السنين:
«وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ..
استغفروا ربكم مما أنتم فيه، وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية ..
«يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» .. وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع.
«وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» .. هذه القوة التي عرفتم بها ..
«وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب.
وننظر في هذا الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة اللّه وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع اللّه ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى اللّه(1/183)
والثقة برحمته في كل آن ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة اللّه الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير اللّه على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه .. كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر!
والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة .. أحيانا .. كل ذلك ليدين لها الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد!
وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعبّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون للّه وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها، بدلا من أن ينفقه عبّاد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة!
ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكّمون شريعة اللّه في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين. حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة اللّه، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين.
فأما إرسال المطر. مدرارا. فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني. ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان، ومدمرا في مكان وزمان وأن يكون من قدر اللّه أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وأن ينفذ اللّه تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال. ثم تبقى وراء ذلك مشيئة اللّه الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر اللّه كيفما شاء. حيث شاء. بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب.(1/184)
تلك كانت دعوة هود - ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة. ربما لأن الطوفان كان قريبا منهم، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم، وقد ذكرهم به في سورة أخرى - فأما قومه فظنوا به الظنون ..
«قالُوا. يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ... ».
إلى هذا الحد بلغ الانحراف في نفوسهم، إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء، فأصيب بالهذيان! «يا هود ما جئتنا ببينة» ...
والتوحيد لا يحتاج إلى بينة، إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير، وإلى استجاشة منطق الفطرة، واستنباء الضمير.
«وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» .. أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل!
«وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» .. أي مستجيبين لك ومصدقين .. وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء! وهنا لم يبق لهود إلا التحدي. وإلا التوجه إلى اللّه وحده والاعتماد عليه. وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين. وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب: «قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق اللّه طريقا. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد أنبتت بينهما وشيجة العقيدة.
وهو يشهد اللّه ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم. ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم! وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه. ومع ثقة الإيمان واطمئنانه!(1/185)
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى. يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلا فيهذي ويروا في الدعوة إلى اللّه الواحد هذيانا من أثر المس! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي. لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم.
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد. ولكن الدهشة تزول عند ما يتدبر العوامل والأسباب ..
إنه الإيمان. والثقة. والاطمئنان .. الإيمان باللّه، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره .. الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد اللّه بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة. لأنها ملء يديه، وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب.
«قال: إني أشهد اللّه واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه».اني أشهد اللّه على براءتي مما تشركون من دونه. واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم: أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون اللّه. ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء.
تجمعوا أنتم وهي - جميعا - ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل، فما أباليكم جميعا، ولا أخشاكم شيئا: «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» .. ومهما أنكرتم وكذبتم. فهذه الحقيقة قائمة. حقيقة ربوبية اللّه لي ولكم. فاللّه الواحد هو ربي وربكم، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة ..
«ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» .. وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض، بما فيها الدواب من الناس. والناصية أعلى الجبهة. فهو القهر والغلبة والهيمنة، في صورة حسية تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم .. وإلى(1/186)
جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد: «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. فهي القوة والاستقامة والتصميم.
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي .. إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي اللّه هود - عليه السلام - في نفسه من ربه .. إنه يجد هذه الحقيقة واضحة .. إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر: «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» .. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا. فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه؟ وما بقاء فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه، لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره ولا مجالا للتردد عن المضي في طريقه.
إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا.
وعند هذا الحد من التحدي بقوة اللّه، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة، يأخذ هود في الإنذار والوعيد: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ» ..
فأديت واجبي للّه، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة اللّه سبحانه: «وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ» .. يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم.
«وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً» .. فما لكم به من قوة، وذهابكم لا يترك في كونه فراغا ولا نقصا ..
«إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» .. يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربا!
وكانت هي الكلمة الفاصلة. وانتهى الجدل والكلام. ليحق الوعيد والإنذار: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ».
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد، وإهلاك قوم هود، نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء. وكانت(1/187)
نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين. ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم، يتناسق مع الجو، ومع القوم الغلاظ العتاة.
والآن وقد هلكت عاد. يشار إلى مصرعها إشارة البعد، ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب، وتشيع باللعنة والطرد، في تقرير وتكرار وتوكيد: «وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» ..
«وَتِلْكَ عادٌ» .. بهذا البعد. وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق، وكان مصرعهم معروضا على الأنظار .. ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار ..
«وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ» .. وهم عصوا رسولا واحدا. ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعا. ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها. فهم جحدوا آيات، وهم عصوا رسلا. فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة! «وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
أمر كل متسلط عليهم، معاند لا يسلم بحق، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم. ولا يكونوا ذيولا فيهدروا آدميتهم.
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية اللّه وحده لهم والدينونة للّه وحده من دون العباد ..
كانت هي قضية الحاكمية والاتباع .. كانت هي قضية: من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره؟ يتجلى هذا في قول اللّه تعالى: «وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين! والإسلام هو طاعة أمر الرسل - لأنه أمر اللّه - ومعصية أمر الجبارين. وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان .. في كل رسالة وعلى يد كل رسول.(1/188)
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير اللّه والتمردعلى سلطان الأرباب الطغاة وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة .. لقد خلق اللّه الناس ليكونوا أحرارا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم. فهذا مناط تكريمهم.
فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند اللّه ولا نجاة. وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة، وتدعي الإنسانية، وهي تدين لغير اللّه من عباده. والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين. فهم كثرة والمتجبرون قلة. ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال.
لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد .. هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة: «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال: «أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ» ..
ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد: «أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» ..
بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد. كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا: .. «أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ»!!!
ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة، قبل أن ننتقل منها إلى قصة صالح. ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون .. ليس فقط في ماضيها التاريخي، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان. وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة. وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان .. وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد ودليلها في الحركة في كل حين.(1/189)
ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا. ولكنها مرت في مجال تفسير النصوص القرآنية مرورا عابرا لمتابعة السياق. وهي تحتاج إلى وقفات أمامها أطول في حدود الإجمال:
نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة .. دعوة توحيد العبادة والعبودية للّه، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: «قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
ولقد كنا دائما نفسر «العبادة» للّه وحده بأنها «الدينونة الشاملة» للّه وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي .. فإن «عبد» معناها: دان وخضع وذلل. وطريق معبد طريق مذلل ممهد. وعبّده جعله عبدا أي خاضعا مذللا .. ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عند ما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة للّه وحده في أمره كله وخلع الدينونة لغير اللّه من عنقه في كل أمره .. ولقد فسر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «العبادة» نصا بأنها هي «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية. فعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ «يَا عَدِىُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ». وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» (1). ..
إنما أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبار ها صورة من صور الدينونة للّه في شأن من الشؤون .. صورة لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! فلما بهت مدلول «الدين» ومدلول «العبادة» في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير اللّه التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير اللّه، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلا! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز [11/ 354] (3378) صحيح لغيره(1/190)
فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح «مسلما» لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله ... إلى آخر حقوق المسلم على المسلم! وهذا وهم باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ «العبادة» التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه - وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة للّه في كل شأن ورفض الدينونة لغير اللّه في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة والذي نص عليه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نصا وهو يفسر قول اللّه تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وليس بعد تفسير رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لمصطلح من المصطلحات قول لقائل (1).
هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا اللّه لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي (2) .. فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
إنه لم يكن يعني: يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير اللّه! كما يتصور الذين انحسر مدلول «العبادة» في مفهوماتهم، وانزوى داخل اطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة للّه وحده في منهج الحياة كلها ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها .. والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير اللّه .. فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة اللّه وحده - أي الدينونة له وحده - إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي: جحودهم بآيات
__________
(1) - يراجع البحث القيم الذي كتبه المسلم العظيم الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان بعنوان: «المصطلحات الأربعة في القرآن» .. «الإله. الرب. الدين. العبادة».
(2) - كتاب: «معالم في الطريق» وكتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وكتاب: «هذا الدين» وكتاب: «المستقبل لهذا الدين» وكتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» وكتاب: «العدالة الاجتماعية» وكتاب: «السلام العالمي والإسلام». نشر «دار الشروق».(1/191)
ربهم، وعصيان رسله. واتباع أمر الجبارين من عبيده: «وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ».كما يقول عنهم أصدق القائلين اللّه رب العالمين.
وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل، واتباع الجبارين .. فهو أمر واحد لا أمور متعددة ..
ومتى عصى قوم أوامر اللّه المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير اللّه. ودانوا للطواغيت بدلا من الدينونة للّه فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك - وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض. إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام .. وهكذا إلى يومنا هذا ..
والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد. وردهم إلى الدينونة للّه وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.
إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة ... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان .. لا لأن اللّه سبحانه في حاجة إليه، فاللّه سبحانه غني عن العالمين.(1/192)
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2523](1/193)