آفاق الرواية
(( البُنية والمؤثرات ))
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
((
محمد شاهين
آفاق الرواية
(( البُنية والمؤثرات ))
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
حول أدبيات الرواية
تبدأ آنا كارنينا، تحفة تولستوي الروائية بالقول: إنّ حياة كل عائلة سعيدة تشبه حياة غيرها من العائلات السعيدة، أما تاريخ كل عائلة بائسة فهو تاريخ له خصوصية متميزة ومختلفة. كثيراً ما يقتطف النقاد والقراء هذه البداية، كمثال على البداية الموفقة في العمل الروائي. ولا داعي أن ننثر هذه العبارة المكثفة الموحية بشمولية التقنية. ولكن يكفي أن نقول هنا إن الراوي كما يشير تولستوي يضع القارئ بادئ ذي بدء في الإطار العام لمنظور الرواية، ولا يجعله يحيد عن هذا المنظور حتى آخر جملة في الرواية. وكأن الراوي يخبر القارئ بداية أن استبعاد واقع الحياة السعيدة لما فيه من تسطيح مستهلك يفضي بنا في النهاية إلى الاحتفاظ بذلك الواقع الذي يسير في الاتجاه المغاير، لما فيه من مد وجزر تحتّمه طبيعة الصراع في ذلك الواقع، إذ إنه سيعطي الراوي ومن ثم القارئ فرصة يسبر فيها أغوار النفس البشرية المترامية الأطراف.
إحدى القراءات لهذه البداية هو أن كل رواية مثل حياة كل أسرة بائسة لها تميزها واختلافها، بمعنى أن لكل رواية خصوصية لا تتكرر في رواية أخرى. ولعل ما يجعلنا نقبل بشغف على قراءة الرواية هو ذلك الاختلاف بينها وبين غيرها من الروايات، وهذا أيضاً ما يجعلنا نقبل على عقد المقارنات المبنية على الاختلاف المتميز لا على التشابه البيّن.(1/1)
إن الانفتاح اللانهائي على الواقع هو الذي يجعل الرواية تتمتع بحرية الحركة والتعبير أكثر من أي جنس أدبي ويبعدها عن التأطير ويهيئ فرصة وجود التميز والاختلاف في كل رواية، وربما هذا هو الذي دعا فورستر أن يقول إنه لو اجتمع عدد من الكتاب حول طاولة مستديرة مثل تلك الطاولة المشهورة في مكتبة المتحف البريطاني، وطلب منهم كتابة رواية عن موضوع موحد لخرج الجميع كل برواية مختلفة. وربما هذا أيضاً ما دعا فيرجينيا وولف أن تنادي في عهد الحداثة أن أي موضوع يصلح أن يكون مادة الرواية، ولا داعي أبداً أن تتكون مادة الرواية من تلك المواضيع التي اتخذتها الرواية التقليدية مادة لها مثل الحب، والزواج، والثروة، والملهاة، والمأساة، وغير ذلك من المواضيع المتكررة التي طرقتها رواية العصر الفكتوري. وتهدف فيرجينيا وولف أن تبين أن الرواية لا تمتلك بل لا تستطيع أن تعطي نفسها الحق في القدرة على تقديم صورة كاملة أو حتى شبه كاملة عن الواقع رغم أنها أقرب الأجناس الأدبية إلى الواقع المعيش وأقدرها على التعبير عنه. أصبح الروائي في القرن العشرين ينظر إلى الرواية على أنها شكل مفتوح ولكن دون الادعاء أن لديه القدرة على تقديم صورة نمائية أو متكاملة لواقع اللاحدود. وهذا خلاف الاعتقاد الذي ساد القرن التاسع عشر وهو أن الرواية كانت سبيلاً للسيطرة على الواقع.
ومجمل القول أن الراوي حديثاً ينهج منهجاً مختلفاً عن الواقع ولكن دون أن يأمل مثل زميله قديماً أن يصل إلى نهاية. كل رواية إذن تقدم شيئاً مختلفاً في خضم واقع اللانهاية، ويظل الراوي يروي دون أن يشارف على بداية أو نهاية الغموض الذي يكتنف عالم الرواية الرحب.(1/2)
وفي الختام، أنوه بأن بعض فصول هذا الكتاب نشرت ضمن كتب تكريمية أخرى وفي مناسبات مختلفة، ورأيت أن أضعها هنا لتكون في سياقها الخاص مع مضمون الكتاب، ولا يفوتني أن أقدم الشكر مقروناً بالثناء للأستاذ الدكتور يحيى عبابنة، والسيد سيف الدين الفقراء لما بذلاه من جهد في قراءة مسودة الكتاب وتدقيقها.
وأود أن أؤكد ما هو مبين بوضوح في طيات هذا السِفْر المتواضع، وهو أن فصوله لا يمكن أن تشكل صورة شاملة أو شبه شاملة لدراسة الرواية، وأنها مجرد نظرات تطل على أفق الرواية الواسع لعلها تتيح للناظر أفقاً أبعد.
فالرواية في الأدب العربي فن حديث لا يتجاوز عمره نصف قرن على الأكثر، وهي مثل المسرحية لا تشكل جزءاً من التراث الأدبي عند العرب على الرغم من كل ما لها من قيمة حضارية متميزة بين الفنون الأدبية. وكان من الطبيعي أن تحتل مكان الصدارة منذ أن تفتحت عيون الكتّاب العرب عليها في الخمسينيات من القرن الماضي تقريباً.(1/3)
يمكننا القول إن الرواية الغربية بدأت تفرض حضورها كجنس أدبي متميز السمات في بداية القرن الثامن عشر، فقد ظهرت كشكل فني رئيسي واسع الانتشار، وما زال الأمر كذلك إلى يومنا الحاضر. وللرواية هيمنة خاصة لما فيها من شمولية الحياة وعنفوانها ليس فقط في مجال محليتها، بل أيضاً خارج حدود المحلية، وتستمد هذه الهيمنة من التفاعل الذي ينشأ عادة بين خصوصية المحلية وعمومية الإنسانية (العالمية). ونجد على سبيل المثال، شخصية مميزة لكل من الرواية البريطانية والأمريكية والفرنسية والروسية تميزها محلية تاريخية وجغرافية واجتماعية وما شابه ذلك من أنواع المحلية، وفي الوقت نفسه، نجد أن هذه الرواية كتبت بوعي لشكل عالمي من أشكال الرواية عند أمم أخرى. لا نستطيع مثلاً أن ننكر أن فيلدنغ وسمولت وديكنز ودستوفسكي وقعوا في كتاباتهم تحت تأثير سيرفانتس الإسباني رائد الرواية الغربية في روايته المعروفة دون كيهوته. كذلك تأثير تولستوي في ديكنز وستاندال. أما عملاق الرواية في هذا القرن وهو كونراد، فقد تأثر بالرواية الروسية والفرنسية.
وما زالت الرواية تشق طريقها بجرأة وتحدّ واضحين للتقاليد الأدبية المعروفة بما فيها تقاليد الرواية نفسها التي تتجدد وتتطور على يد الروائيين من مختلف الأمم.
ولما كانت الرواية على هذه الدرجة من الأهمية، فلا بد من طرح بعض الأسئلة التي يمكن أن تقودنا إلى تقييم يحدد مكانتها بين الأجناس الأدبية الأخرى، ومن ثم يدخلنا في دائرة السحر التي تحيط بالرواية. والسؤال الذي يلح علينا هو لماذا نكتب رواية ثم كيف تطور فن الرواية؟ والسؤال الآخر هو: لماذا نقرأ الرواية، وكيف تطورت قراءتها؟(1/4)
يشرع الكاتب في كتابة رواية، عندما يشعر بذلك السر الكوني يلح عليه في التعبير. ذكر أحد المعلقين أن كتابة رواية مثل بناء كاتدرائية، والمقصود هنا أنها بناء خاص له شكله الخاص بين الأشكال الأخرى المحيطة به، وله هيمنة تميزه عن غيره، وفوق كل هذا وذاك يجمع بين التفاصيل المعقدة المتداخلة والمترابطة مما يجعله يتطلب جهداً فائقاً، وعندما نقول إن للرواية شكلاً متميزاً، فإننا نقصد أن الرواية تتميز عن سائر الأجناس الأدبية في أنها مزيج من تقنيات أدبية يستخدمها الكاتب دون قيد أو شرط، أي أنه لا يوجد ما يجبر الكاتب على استخدام الحوار في مكان معين دون الأمكنة الأخرى ولا يوجد ما يقيده بالانتقال من وجهة نظر إلى أخرى. فالكاتب حر في إدخال ما يريد من عناصر متنوعة إلى روايته وبالطريقة التي يراها مناسبة. وتحتوي الرواية عناصر متعددة من الرومانس والملحمة والشعر والكوميديا والتراجيديا والمسرحية بشكل عام. فالحوار مثلاً يشكّل جزءاً هاماً من الرواية، ولكن لا توجد تقنية معينة توجه الكاتب إلى سبل استخدامه وإلى مواقع هذا الاستخدام. علق أحد الروائيين مرة قائلاً: إن مشكلة الراوي تكمن في قدرته أو عدم قدرته على اختيار الزمن الذي يقص فيه قصته والزمن الذي يقول فيه ما يريد وصفاً أو تقريراً.
إذن عندما تستحوذ على الكاتب مشكلة ذات أبعاد عميقة، فإنه لا يجد غير الرواية معيناً للتعبير، لما لها من مرونة تتسع لاستيعاب هذه الأبعاد، فواقعية الحياة لا تجد تعبيراً شاملاً لها أكثر مما تجده في الرواية، والتفاصيل بين الحياة وواقعها في الرواية يظل فاصلاً وهمياً بسيطاً إذا قورن بما هو شبيه له في الأجناس الأدبية الأخرى، ويظل التحول من الحياة إلى الرواية أمراً لا تعترضه تقنيات الأجناس الأدبية الأخرى وتقاليدها التي تحتّم على الكاتب وعلينا مراعاتها سلفاً.(1/5)
بدأت الرواية سيرتها كجنس أدبي ندعوه عادة بالرومانس يتألف في تركيبه من أحداث خارقة تحدث بعيداً عن حياة الإنسان اليومية وواقعها الذي نعيشه، والهدف منها في الدرجة الأولى هو التسلية التي تنشأ عادة من تتبع الحوادث التي تحصل في تسلسل زمني: حدث وراء حدث، وحدث قبل حدث لا يربط بينها جميعاً غير الزمن الذي يسلسلها ويجعلها تنتظم في خط زمني يخرج عن منطق الواقع والمعقول، ويكون الهدف منها، إثارة التصور وإشباع الرغبة في معرفة ما يحدث بعد كل حدث، أصبحت معرفته متوافرة، فتظل الرغبة تلح علينا في معرفة ما هو مخبوء في عالم الغيب العجيب من الحوادث المثيرة التي صنعها الكاتب من خياله جملة وتفصيلاً.
بقي الأمر على هذا الحال إلى أن برزت الطبقة الوسطى في أواسط القرن التاسع عشر نتيجة الثورة الصناعية في أوروبا. فاهتمت الرواية عندئذ بمحاكاة الواقع الذي تعيشه هذه الطبقة التي تميل دائماً إلى أن ترى واقعها ثابتاً صلباً محمياً من هزات التغيير، وهذا ما يسمى بالبرجوازية التي تعنى بالمحافظة على الواقع المعيش. وأصبحت الرواية في العصر الفكتوري أهم الأجناس الأدبية وسيطرت على الأجناس الأدبية الأخرى كما سيطرت الطبقة الوسطى على مؤسسات المجتمع المختلفة، وعندما امتدت رقعة المحاكاة في الرواية من تصوير مباشر لحياة الطبقة الوسطى، لا يتعدى المحلية ببعديها الزماني والمكاني، إلى تحليل دقيق لهذا الواقع يتخطى حدود المحلية ويرقى بها إلى الإنسانية والعالمية. كتّاب الصنف الأول مثل ثاكري وترولوب، وعدد كبير من أمثالهم، أصبحوا تقريباً نسياً منسياً وانقضى تأثيرهم بزوال المحلية التي أسروا فنهم ضمن أبعادها. أما ديكنز وهاردي وجورج إليوت، فقد تجاوزت شهرتهم عصرهم وما زالت رواياتهم أو أغلبها تحيا بديمومة البعد الإنساني الذي يتخطى المحلية.(1/6)
وعلينا ألا ننسى أن الواقعية هيمنت على كتاب الصنفين بدرجات متفاوتة؛ لأنها كانت مطلباً عاماً يرضى به الجميع كبديل للرومانس. قبول الحدث الخارق الذي يرتبط بحياة الناس هو الهدف المنشود وأصبح الكتاب جميعاً يباهون أنهم واقعيون يكتبون من خلال أحداث حدثت في عصرهم، أو عصر آبائهم. وهكذا سادت الواقعية المعروفة التي اهتمت بوصف الواقع وتحليله على الأكثر دون منظور مستقبلي يمكن أن يتضمن اهتماماً فعلياً بتغيير الحاضر.
في القرن العشرين، تغيرت أحوال المجتمع الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، وفقد الكاتب ثقته بمؤسسات مجتمعه التي كانت تفرض هيمنتها على الفرد. ونتيجة لذلك استقل الكاتب عن المجتمع، وأصبحت له هوية مستقلة مكوناتها فنيته لا قيم وعادات وتقاليد ورغبات المجتمع بشكل عام. قال جويس مرة إنه كتب رواية يوليسيز بفنية ستشغل النقاد لمئة عام قادمة، وقد ثبت ذلك؛ لأنها ما زالت مستمرة في إشغالهم.
وظلت قضيته الواقعية قائمة ولكنها اتخذت بعداً مغايراً. فبدلاً أن كانت بعداً خارجياً وهو ما يحدث في الطبيعة، في الكون، في التاريخ إلى آخر ذلك أصبحت بعداً داخلياً. وهكذا تحول السرد من حوادث تتسلسل زمنياً إلى مشاعر تنبثق دون إعداد مسبق من داخل النفس البشرية. وأصبحت الرواية عند فرجينيا وولف وجيمز جويس وغيرهم تتكون في غالبها من تداعيات تنطلق من اللاشعور متجاوزة تقاليد الحبكة والقصة إلى الأحلام والمخاوف والآمال الفردية التي تتموج داخل النفس البشرية. ولم تعد الرواية ثيمات مألوفة عن الحب والملهاة والمأساة والغنى بعد الفقر وما شابه ذلك، بل أصبحت استكشافاً لخبايا النفس التي لم تطرق من قبل، وغوصاً في أعماقها بحثاً عن حقيقة أعمق من الحقيقة الخارجية للحوادث والأشياء والظواهر المألوفة للحس الخارجي. باختصار أصبح جل اهتمام الكاتب بالشخصية بدلاً من الحدث، وهذه هي أهم علامة في تطور الرواية.(1/7)
وبهذا التطور لم تعد الرواية هدفاً للتسلية، أو قضاء الوقت، بل أصبحت عملاً فكرياً وفنياً يتطلب جهداً خاصاً من الكاتب، ومن ثم جهداً متميزاً من القارئ، الذي أصبح لزاماً عليه أن يقرأ وهو يفكر، وأن يتأنى في قراءته، حتى يتمكن من متابعة الصورة التي يرسمها الكاتب للشخصية والتي تتميز بفردية لم يسبق لها نظير، وأصبح لزاماً على القارئ أن يكون ملماً بحضارة العصر التي تشكل جزءاً هاماً من خلفية الرواية. فنحن نعلم مثلاً أن الرواية الحديثة تأثرت بعلم النفس، وفلسفة العصر، ومن أقطاب الحضارة الذين تركوا بصماتهم على الرواية: فرويد ويونغ وبيرجسون وآينشتاين، وجميعهم ساهموا مساهمة جليلة في خلق منظور جديد للزمن الذي لم يعد مجرد زمن الوحدات المعروفة بالدقائق والساعات والأسابيع والأشهر والسنين التي تتسلسل بطبيعتها خارج وعي الإنسان. باختصار أصبح الزمن نسبياً واستثمر الكتاب هذه النسبية في الزمن خير استثمار. فقد بيّن الكتّاب المحدثون أن قيمة الحدث لا تكمن في كونه حدثاً في منظومة الزمن الذي تحدده ساعة الحائط، بل استجابة شعورية داخلية خارجة عن إطار الزمن المألوف، قد تمتد وتتعمق داخل إحساس الفرد لتلغي في النهاية وحدات الزمن المعروفة المتسلسلة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. وذكر بيرجسون أن الزمن أشبه بكرة جليد تتدحرج من قمة جبل ثلجي، فما أن تصل إلى قاع الجبل حتى تكون قد التقطت في طريقها كميات من الثلج جعلتها أكبر مما كانت عليه عند البداية. هذا هو مفهوم الزمن عند بيرجسون: فترة زمنية (duration) تكبر ويتسع مداها، ليس وهي تتحرك من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، بل وهي تتفاعل في نطاق الإحساس الحاضر.(1/8)
ومن هذا المنطلق كتب بروست تحفته الخالدة في العمل الروائي في اثني عشر مجلداً واسمها أشياء من الذاكرة تعتمد على أسر اللحظة المعينة التي تمتد وتتسع لتختزن الإحساس بالحياة الذي ينطلق خارج الزمن، ونحن نعلم أن الأحداث في رواية جويس الشهيرة: يوليسيز تتم في ثمان وأربعين ساعة بدلاً من مئات السنين التي استغرقتها حوادث الأوديسيا، أي أنه من خلال المفهوم الحديث للزمن استطاع أن يختزل الزمن الخارجي مستعيضاً عنه بالشعور الداخلي للشخصية الروائية.
وتأتي نقطة التحول من الماضي إلى الحاضر، ومن التقليدي إلى الجديد من خلال الاهتمام بالوعي الفردي (individual consciousness)، فقد أصبح هذا الوعي نقطة العبور نحو التجديد. أصبح الوعي هذا هو الأصل في الخلق والإبداع، فيه ينمو جنين الصورة الفنية، ومنه تولد هذه الصورة. لم يعد كما كان سابقاً مجرد مرآة ينعكس على سطحها الواقع الخارجي، أي أن الوعي تخطى وظيفة المحاكاة التقليدية التي كانت أبرز نشاطاته. في هذه الحالة اكتسب الوعي بُعداً جديداً جعل منه دوراً فعالاً في أمر العلاقة مع العالم الخارجي وتحديدها. باختصار يتمثل هذا التحول الجذري في أن الذات (subject) أصبحت محور الفكر الحديث ومنطلق الحداثة ومكوناتها الرئيسية. وقد رأى المحدثون في استخدام هذا المصطلح حيادية أكثر من المصطلحات السابقة التقليدية التي استخدمها السلف مثل الطبيعة الإنسانية (human nature)، والروح (soul)، والأثير (spirit)، فقد أصبحت هذه المصطلحات مفرغة من معانيها بعد أن تعرضت للاستعمال مدة طويلة.(1/9)
وقد برز هذا المصطلح من ثلاثة مصادر رئيسية: الأول، تاريخي يتمثل في الماركسية. والثاني، سيكولوجي صاحبه طبعاً فرويد. والثالث، فلسفي تقدم به أموند هسرل. وعلى الرغم من كل ما بين هذه المصادر من اختلافات، فإنها تآلفت في شيء هام ألا وهو أنها ترفض الجمود وتتحدى ما هو ملم به منادية بالتجديد. يعتقد ماركس مثلاً، أننا نجدد حياتنا الاجتماعية ونخلقها من جديد، وذلك من خلال الظروف التاريخية التي نرثها دون أن نتوقف عند طبيعتها لنفهمها، ومن ثم نفيد منها في تكوين حياة جديدة. فالنظم الاقتصادية مثل الرأسمالية وغيرها تهيمن علينا من خلال ما نؤسسه من أوهام وأخيلة زائفة تجعلنا نصدقها ونتصالح معها وكأنها واقع حتمي لا مفر منه. ويعتقد فرويد أن حياتنا الفردية تتكون من رغبات مكبوتة وأنها تتجدد عندما تخرج هذه الرغبات إلى السطح. ويشترك فرويد مع ماركس في الاعتقاد أننا نعيش حياتنا الفردية والاجتماعية وسط أوهام تجعلنا مع الزمن نعمى عن حقيقة ذاتنا، ويعتقد الاثنان أن حياتنا تتكون من سبب ومسبب، أي أن ما نجد حياتنا عليه هو نتيجة تتسبب من قبولنا الظروف التي نعيشها بشكل ما، وهي أن التعايش مع هذه الأوهام هو الذي يوصلنا إلى ما نحن عليه، وأي تجديد في حياتنا يعني رفض هذه الأوهام أو تحليلها والتعرف إليها على أنها أوهام.(1/10)
أما هسرل، فإنه يشترك مع ماركس وفرويد في نظرته إلى الذات على أنها تعيش حياة اضطهاد من الظروف الاجتماعية، ولكنه يختلف عن الاثنين في أن هذا الاضطهاد لا يأتي نتيجة لسبب، وأن الاختلاف (difference) بين الذات والعالم الخارجي ما هو إلا شكل من أشكال الاختلاف، أو هو امتداد للاختلاف نفسه، وليس أساساً للتجربة التي تعيشها الذات في العالم الخارجي، وبعبارة أخرى الاختلاف ليس جوهر التجربة، بمعنى أن الذات تظل محتفظة ببدائيتها حتى مع وجود هذا الاختلاف، ويظل الجوهر قائماً في التجربة الذاتية جنباً إلى جنب مع وجود هذا الاختلاف. ومن هذه الفلسفة التي تبناها فيما بعد هايدجر، وأخذ بزمام ممارستها كل من سارتر وسيمون دي بوفوار نشأت الظاهرة الوجودية، أو الفلسفة الوجودية التي تبنت فكرة وجود الذات التي تقول أن اللعنة حلت عليها لأنها وجدت أصلاً دون أن يكون لها الاختيار، فالذات تعيش مختارة ألا تختار.
وهكذا نجد نوعاً من وحدة الحال بين الماركسية والسيكولوجية والوجودية، إذ إنها جميعاً تنادي بزيف الواقع الذي يحيط بنا، والذي يجعلنا نأخذ هذا الزيف أمراً مسلماً به دون أن ندرك أن الأمر الواقع الذي نعيش فيه إنما يبعدنا عن حقيقة أنفسنا وجوهرها (authenticity).(1/11)
غير أن وحدة الحال هذه لم تزود المصادر الثلاثة بقدرة متساوية على الصمود والاستمرارية حيث انتهت الوجودية إلى الإفلاس بعد أن حققت رواجاً فلسفياً وفكرياً؛ والسبب في ذلك أنها أكثر المصادر تطرفاً في الحد بين الذات والعالم الخارجي. فالسؤال الذي طرح نفسه بالنسبة للوجودية في الستينيات هو أنها غير مؤهلة للتعامل مع العالم الخارجي ومسؤولياته؛ لأنها لا تعتقد بوجود مسؤوليات للذات خارج ذاتها، وهذا تعبير عن فك الارتباط بين الذات والعالم الخارجي، وعلى حد تعبير جورج لوكاش، فإن الفلسفة الوجودية تؤدي في النهاية إلى انكماش الواقع وتقليصه؛ لأن الذات لا تستطيع أن تحقق ديناميكية النمو التي تتطلب بعداً خارج ذاتها، أي بعد العالم الخارجي لتتفاعل معه، وتولد عن هذا التفاعل القدرة على النمو والتجديد ورفض الذات للعالم الخارجي جملة وتفصيلاً يفضي بنا إلى واقع فقير يقطع الأوصال.
وفي الستينيات، قامت البنيوية ربما على أنقاض الوجودية ونادت بأن الذي يتحكم في حياتنا بناء خفي لغوي يفوق استيعاب أي قدرة ذاتية. ويرجع تاريخ البنيوية إلى العالم السويسري ديسوسور الذي نظر إلى اللغة على أنها نظام إشارات. ومن رواد البنيوية العالم الأنثروبولوجي ليفي شتراوس والماركسي الثوسير. وقد ذاع صيت البنيوية على مدى عقدي الستينيات والسبعينيات، وهي في مجملها محاولة لخلق منظور علمي للثقافة والمجتمع، يتخطى حدود الدراسات الإنسانية التقليدية. لكن البنيوية لم تعمر طويلاً لكثرة ما شابها من غموض، ولتطرفها في التركيز على نظام العالم الخارجي على حساب الذات.(1/12)
وعندما دبَّ الضعف في البنيوية ظهرت نظريات مناهضة فندت مكونات البنيوية، وأهمها هي النظريات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة والتفكيكية. وهي جميعاً على عكس البنيوية لا تعيد الاعتبار إلى الذات. هذه النظريات لا تلغي ما قبلها، أي ما قبل البنيوية بل أنها تضعها في منظور جديد يحاول الإبقاء على الذات والعالم الخارجي مع أنها لا تتوقع للذات جواباً موضوعياً في العالم الخارجي، كما تفعل الماركسية وعلم النفس. وأصبحت المسألة ليست مسالة إنقاذ الذات أو تجاهلها، بل الاحتفاظ بها وتحليل ما حولها من علاقات إنسانية لها شأن بها. هذا هو دريدا مثلاً زعيم التفكيكية ينادي بالتأكيد على وجود هوية اعتبارية للذات القومية لأمة ما، ولكن دون التقليل من شأن الذات الأخرى لقومية أمة مختلفة، ويؤكد على أن الاختلاف بين قومية وأخرى يجب ألا يؤدي إلى نظرة فوقية، أو عدوانية، أو استعمارية كما حصل في الماضي عندما كانت القومية سلاحاً في أيدي أصحابها يشهرونه في وجه الآخرين بسبب التمييز الذي يمنحونه لقوميتهم على حساب القوميات المختلفة الأخرى، ويوضح دريدا قوله إنه ليس من الحق أن يقول الانكليز أو الألمان أو الفرنسيون نحن المسؤولون عن حقوق الإنسان في أوروبا أو في العالم، أو أن يقول اليهود نحن شعب الله المختار. ويبيّن دريدا أيضاً أن هنالك فرقاً بين من يقول أنا فرنسي، أتكلم الفرنسية، وعندما أكون في بريطانيا أتكلم الانجليزية، وأحاضر في روسيا بالانجليزية، وبين من يقول أنا فرنسي لا أرضى لغير الفرنسية بديلاً.
(((
السندباد: حكاية العودة:
من الشعر إلى القصة(1/13)
أصبحت حكايات السندباد جزءاً هاماً من التراث القصصي العالمي. فمنذ أن دخلت ألف ليلة وليلة بلاد الغرب في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر على يد أنطوان جالان، والسندباد يتشكل في القصص الغربي بأشكال تباينت بتباين الأمكنة والأزمنة والأشخاص الذين جذبتهم هذه الحكايات من روائيين وفنانين. وللحديث عن هذا الموضوع مجال خارج هذا المجال، إذ إن الأمر هنا مقصور على حكايات السندباد وتأثيرها في الكاتب العربي الحديث وتوظيفها من قِبَل بعض الشعراء والقصاصين الذين وجدوا في السندباد مصدر إلهام ساهم مساهمة جليلة في تكوين وعي فني جديد لديهم، أدى إلى تشكيل صورة جديدة للسندباد تنسحب عليها وتخرج منها هموم الكاتب العربي الحديث ومجتمعه.
أول مبادرة رائدة استطعت أن أعثر عليها في هذا السياق، هي مبادرة ميشيل عفلق. ففي عام 1936، قام ميشيل عفلق بنشر قطعتين نثريتين استقاهما من حكايات السندباد. الأولى قصة بعنوان "السندباد وعشقيته"، وهي قصة مكثفة تصدرتها مقدمة قصيرة تبدو كأنها مكتوبة من قِبَل المحرر، لكنها تنطق بلسان حال الكاتب نفسه، وأغلب الظن أنها وضعت من كاتب القصة نفسها. وفي جميع الأحوال لا تؤثر هوية واضعها في القصة نفسها، إذ إنها تأتي منسجمة مع القصة، بل وتدخل في تكوينها الفني، فهي إعلان صريح من كاتب المقدمة أن القصة خارجة عن المألوف من القصص التي تتكون عادة من تسلسل الحوادث النمطي الذي يهتم برواية الحدث تلو الآخر من البداية إلى النهاية، وتنتهي القصة دون أن تترك أثراً خارج التسلية التي تعتمد على وقوع الأحداث متتالية.(1/14)
يعبر ميشيل عفلق في المقدمة عن حرصه الشديد على تقديم فن جديد في الأدب العربي مناهضاً للتقاليد المعروفة التي يرى فيها عيباً ظاهراً يميز- على حد قوله- الأدب العربي المعاصر بجملته. وتعلن المقدمة عن كاتب القصة أنه أديب جديد يتمتع بخيال يحلق فيما يكتب، كذلك تبين المقدمة قدرة الكاتب على التكثيف وعلى تصوير حالة نفسية عميقة يهدف منها إلى الدخول في نفسية السندباد بدلاً من تتبع حوادثه، وبهذا يكون على وعي بالتجديد وتقديم السندباد إلى عالم الحداثة.
وعلى الرغم من أن المقدمة تبدو وكأنها معتذرة عن قِصَر القصة، فإن هذه الملاحظة ليست جادة في حد ذاتها؛ لأن هذا القِصَر أو التكثيف غير ضار بالقصة القصيرة، وما هذا الاعتذار إلا محاولة من الكاتب لإقناع القارئ بتقبل قصة في هذا الحجم من الكثافة. وما أمر الاعتذار برمته إلا ضرب من التعويد (orientation) على تقبل القصة في هذا الشكل المكثف الجديد الذي يساعد الكاتب على دقة التعبير وتعميق التأثير. يقابل السندباد في هذه القصة عشيقته برؤية تتجلى تدريجياً من خلال شفافية اللغة التشبيهية المكثفة، وفي النهاية نرى أن المغزى الأخلاقي للقصة يندرج في صورته تحت الصورة الفنية (الاستطيقية) التي تبعد القصة عن الخطابة. وهنا نرى كيف ينجح عفلق في المزج بين ما هو شاعري (غنائي) وما هو مسرحي (تمثيلي) ليصل بنا إلى صورة يكون فيها التأثير الكلي أشبه بالفسيفساء المرصعة.
ومنذ الجملة الأولى، نلاحظ كيف تبدأ القصة بصورة الليل كموتيف يكوّن الوحدة العضوية للقصة، فالليل وبغداد- المدينة الخالدة- والعشيقة كذلك، والسندباد والمسافر، جميعها تتحد وتتداخل في نشاطها وتأثيرها من خلال مدينة تسبح في ظلام الليل مثل مسافر أرهقه السفر حتى ضعفت عزيمته على مواصلة الرحلة. هذا هو المنظور الذي يحتوي القصة من أولها إلى آخرها.(1/15)
وإنه لمن الأهمية بمكان، أن يكون الليل هو الموتيف في هذه القصة. فالليل نوع من البدئية ذات الأسطورية القدسية التي تساعد السندباد على استرجاع عزيمته لمواصلة السفر والبحث عن المجهول برؤية وعزيمة تتشكلان في جنح الليل. ومن الجدير هنا أن نلاحظ الإشارة إلى تساوي الليل والنهار في بلاد الشمال، إذ يبين الراوي كيف أن الشمس تلبس الليل من "شحوبها" ستاراً يزيد من أسراره، وذلك من أجل خلق حاجز يعمق أسرار الليل.
وإنه لمن الأهمية بمكان، أن تنتهي القصة عند الفجر، فيتمكن السندباد من الحفاظ على رؤيته واتخاذ قراره أثناء ليل أسطوري يساعده على أن يرى أكثر مما يراه في وضح النهار. وعند المساء يستسلم السندباد تدريجياً للبدئية مخلفاً وراءه واقعاً صريحاً، وحياة رغدة من أجل الوصول إلى وعي أسمى، عندئذ يتمكن السندباد من السيطرة على حلمه باحثاً عن المجهول، حيث يتحرر من العالم المادي المريح الذي يقيده في واقع الحياة داخل المدينة الخالدة.
هذه هي وسيلة السندباد في الشروع نحو تجديد الواقع والحياة داخل مدينته، وهكذا يتحد السندباد مع مدينته. وتكتمل هذه الصورة عندما يرى السندباد عشيقته تسبح نائمة في جُنح الليل مثل المدينة التي ينتمي إليها وتنتمي إليه، بل وتكتسب بُعداً مكملاً آخر عندما ينزع نفسه من بين ذراعيها مثلما ينزع نفسه من أحضان المدينة متأهباً للسفر مخلفاً وراءه عشيقته ومعشوقته بغداد كملاذين لراحة مادية يجد لزاماً عليه الابتعاد عنهما إن كان لا بد من التجديد.(1/16)
ويأتي التعبير عن بيت القصيد في هذه القصة على لسان الشيخ الهندي رفيق السندباد في رحلته الأخيرة الذي كان يحدثه طويلاً ولكن دون أن يعبأ في ذلك الحين؛ لأنه كان بحاجة إلى الراحة بعد أن مل السفر، أما الآن فصوت ذلك الشيخ يرن في أذنيه وهو يقص عليه من الخيال سحراً عندها "تخيل السندباد الأرض والجبال، فإذا هي نسيج من الثلوج، وكأنما ثقل الجبال الجبارة قد ذاب في خفة الثلج فلاحت كأنها جبال أحلام..."(126).
من خلال هذا الصدى ينساب صوت آخر يشد السندباد فعلاً إلى السفر وإلى مواصلة البحث، وهكذا تنتهي القصة بشكل درامي أخّاذ:
-ألا تأخذ أمتعتك؟
أجاب السندباد من فوق جواده:
-سأرمي بثيابي في النهر!" (126-127).
صوت الشيخ الهندي موتيف يتكون من قطبين متلازمين متداخلين يولدان منظور التأثير الكلي، ويمكن الإشارة إلى هذين القطبين من خلال التداخل بين الماضي والحاضر، الحدث والذاكرة، ما يحدث وما يُروى: الآن وبعد:...
وفي الاصطلاح النقدي الحديث يمكن أن نشير إلى صوت الشيخ الهندي على أنه مكون رئيسي في مسوغات القصص، حيث يتلاقى القطبان لإنشاء جسر بين الواقع والخيال. فالسندباد هنا شخص يستمتع بخلق الخيال من الواقع، وهو يتحرك بيسر من عالم إلى آخر، وكأن العالمين متطابقان، فحضور أحدهما يذكر بغياب الآخر، ويحث على استرجاعه من الغربة ليصبح حاضراً. وهنا يتضح تعلق السندباد الغريزي بالبحث عن المجهول من خلال السفر، وهذا ما يجعل حياة السندباد ومدينته الخالدة متجددة.(1/17)
فالسندباد ليس رحالة عادياً وحسب. إنه راوٍ لقصته أيضاً، وعلاوة على ذلك، فهو رحالة ومستمع لأخبار السفر في وقت واحد، كما تشير علاقته مع الشيخ الهندي، وهو أيضاً راوٍ لأخبار السفر لمستمع آخر كما تشير روايته إلى عشيقته. وهكذا يعيش السندباد بغريزتين قويتين إحداهما تتعلق بالسفر والأخرى برواية الخبر، يقول السندباد لعشيقته إن قدميه تحثانه على السفر، وإن ذراعيه "لا تهدآن إلا بمصارعة الأمواج والصخور"، حيث تسيطر ذاكرته هنا عليه من خلال حب السرد المتوهج. ويذكرنا هنا على الفور بما يقوله السندباد البحري للسندباد البري في حكايات ألف ليلة وليلة بأن مصيره أيضاً قصة غريبة سيشرع في روايتها له. إن سندباد عفلق مثل السندباد البحري يجد من يلهمه الرواية، إذ ينساب القصص من هذا الإلهام، ويصبح القصص مصيراً لا مفر منه، حيث الراوي والمستمع، مثلما يحدث مع البحار القديم والضيف الذي كان في طريقه لحضور حفل الزفاف (قصيدة كوليردج الخالدة)، أو راوية مارلو المشهورة التي يقصها على رفاقه المسافرين على ظهر السفينة في رواية كونراد، قلب الظلام.
هذه رحلة السندباد الملهمة في قصة ميشيل عفلق: دافع للسفر، وإلهام بالقصص. حيث نجد الإطارين في حكاية السندباد يتداخلان عبر دهاليز الخيال.
****
عنوان القصة الأدبية الأخرى التي ظهرت في نفس العام هي موت السندباد، وهي أشبه بحوار درامي أسماها "مسرحية ذات فصل واحد"، تعرض حياة السندباد وهو يحاور شيوخاً وشباباً من بغداد يسألونه عن رحلاته وما رآه من أهوال ومخاطر، ولكنهم في النهاية يعجزون عن فهم رسالة السندباد، وتبدو الهوة سحيقة بينه وبينهم، وكلما رد عليهم بحكمة، قابلوه بهزء. ويظل السندباد صامتاً حتى النهاية، وبعد يأس من تواصل الحوار بينه وبين الناس تأتي الخاتمة:
"شاب: تكلم يا سندباد. قل ما هي الكلمة التي تبدد الظنون.
آخر: قل ما هي الحقيقة الوضاءة التي تعمي العيون.(1/18)
آخر: قل ما هي الحقيقة التي كانت منذ الأزل في العيون.
(السندباد يهم بالكلام فيسقط على الأرض بلا حراك، وتخرج من فمه أفعى سوداء).
شاب: لقد قتله السكوت.
شيخ: لقد أحيانا"(131).
ما يقوله الشيخ هنا هو إشارة رمزية إلى صلب المسيح، وهنا تلتقي نهاية هذه القطعة بنهاية سابقتها التي تخلص إلى إشارة للتعميد، وبهذا تمتد رحلة السندباد بين رمزي الحياة والموت الذي فيه عودة الحياة للبشرية. ومن الواضح أن ميشيل عفلق في هذه القصة أكثر تشاؤماً مما هو في سابقتها، إذ إنه يصور الأزمة التي تنشأ عادة بين المجتمع وقائده أو رسوله الذي يحمل معه رسالة تفوق إدراك الجماهير، ويعجز عن تقبل الرسالة الأسمى التي كان يمكن أن يكون فيها الخلاص. وفي هذا الحوار تكثيف فني له دلالات بعيدة في الحياة الاجتماعية التي تصاب بأزمة يفقد المجتمع فيها روحه ويعمى عن سبيل خلاصه، حتى يصبح المخلص في النهاية هو الفداء الذي يفدي حياة مجتمعه.
وهكذا نجد عفلق يقدم لنا بعداً جديداً لحكاية السندباد يشمل رحلة الحياة والموت، تلك الرحلة التي تبدأ برمزي التطهير والصلب، وهي رموز دينية ميثولوجية تدخل في عداد نظرية الزمن الدائري التي دعى إليها العالم الأنثروبولوجي فيشو.(1/19)
ولا بد أن ميشيل عفلق كان يعي الأزمة التي يمر بها المجتمع العربي عام 1936 خصوصا الثورة على المستعمر والإضراب العام الذي دام ستة أشهر، احتجاجاً على معاملة الانجليز للعرب وتحيزهم الواضح ضد المصالح العربية. يمكننا أن نتصور ميشيل عفلق وهو يبحث في الخيال عن سندباد يطهر نفسه من آثام المادية التي تكبل الروح كما في القصة، وعن رسول يغري هذه الأمة بروحه كما في الحوار، وفي جميع الحالات يقدم لنا ميشيل عفلق سندباداً مثقلاً بهموم مجتمعه التي تبدد الفرح، فرح السندباد القديم، أي أن العلاقة التقليدية الحميمة بين السندباد ووطنه لم تعد قائمة بين المجتمع الحاضر وأفراده، ولكن تظل الحاجة ماسة إلى حل السندباد وترحاله الأزليين، كرمزين متجددين للاستمرارية في الحياة حتى لو لم يوصلا حاضراً إلى بر الأمان، كما كان الحال في قديم الزمان.
****
وبعد مضي ما يقرب من عقدين من الزمان على تجربة ميشيل عفلق تجدد الولع بتوظيف حكايات السندباد وخلق موتيف يساعد على التعبير عن واقع الحال. هذا هو خليل حاوي يكتب قصيدة سندبادية لم تأخذ ما تستحق من دراسة نقدية مقارنة مع بقية شعره، ربما بسبب موتيف السندباد الذي ترتكز عليه وهو موتيف غير مألوف يحتاج إلى تمحيص خاص من أجل التعرف إلى شاعرية القصيدة وصوتها الشعري الجديد.
ولو نظرنا إلى نهاية قصيدة حاوي على سبيل المثال، لوجدنا أن منظورها يردد منظور عفلق وكأن صوت القصيدة اللاحق ما هو إلا امتداد لصوت القصة والحوار عند عفلق. يختتم حاوي قصيدة السندباد (وهي في الأصل مجموعة من قصائد السندباد نشرها في مجلة الآداب البيروتية بين عامي 1956-1958، ثم أعيد النظر في بعضها عام 1960) كما يلي:
عدت إليكم شاعراً في فمه البشاره
يقول ما يقول
بفطرة تحس ما في رَحِمِ الفَصْلِ
تراه قبل أن يولد في الفصول110).(1/20)
من الواضح هنا أن القصيدة تنقل إلينا ما يشبه رسالة الرسل من أجل إنقاذ الواقع والصلاح مثل قصة عفلق وحواره. وقد كتبت هذه القصيدة السندبادية في فترة كان العالم العربي ينتظر وليداً مسعوداً في دور المخاض ويحلم بالآمال العراض. وقصيدة حاوي تعبر شعراً عما جاء به عفلق نثراً، ولكن بتفاصيل تفوق الصورة المكثفة عند عفلق.
يقدم حاوي قصيدته السندباد في رحلته الثامنة بمقدمة تشبه تقديم قصة عفلق عشيقة السندباد اعتذارية في ظاهرها، فنية في مضمونها، كلا المقدمتين ينبه القارئ إلى الأخذ بأسباب الصورة الجديدة للسندباد التي تنأى عن المادية وتتمسك بالروحية، أو ما أسماها عفلق بالنفسية، وكأن حاوي كان على علم بقصة عفلق حتى في تقديمه عندما صور سندباده وهو يلقي بثيابه جانباً مثل سندباد عفلق. يقول حاوي في هذه المقدمة مشيراً إلى السندباد:
"كان في نيته ألا ينزعج عن مجلسه في بغداد بعد رحلته السابعة، غير أنه سمع ذات يوم عن بحارة غامروا في دنيا لم يعرفها من قبل، فكان أن عصف به الحنين إلى الإبحار مرة ثامنة. ومما يحكى عن السندباد في رحلته هذه أنه راح يبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعاً في البحر ولم يأسف على خسارة، تعرى حتى بلغ بالعري إلى جوهر فطرته، ثم عاد يحمل إلينا كنزاً لا شبيه له بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة.
والقصيدة رصيد لما عاناه عبر الزمن في نهوضه من دهاليز ذاته إلى أن عاين إشراقة الانبعاث وتم له اليقين"(72).
وهكذا يقوم الشاعر السندباد برحلة روحية لا مادية ينقلها إلينا بواسطة رموز دينية، وميثولوجية يرى من خلالها أعماق ذاته وقد اتحدت بأبعاد وطنه الذي رافقه في الغربة.(1/21)
تبدأ القصيدة بمشهد السندباد وهو يحمل معه وطنه وماضيه الذي لا يفارقه (ومن المعروف أن الحنين إلى الوطن عند السندباد القديم كان لا يفارقه في ترحاله، ولم تكن العجائب التي كان يراها في بلاد الله الواسعة تشغله عن وطنه بل كانت تزيده ولعاً به):
داري التي أبْحَرْت، غرّبتِ
معي، وكنت خير دارْ
في دوخة البحار
في غربتي
وغرفتي
ينمو على عتبتها الغبارْ،
في مدنٍ تحجّر الليل بأعصابي
فأمضي، أرتمي والليل في القطارْ(73-74).
والالتحام أيضاً لا يكون فقط بين الشاعر السندباد ووطنه، بل أيضاً بين الشخص والراوي في الشاعر السندباد:
رَوَيتُ ما يروون عني عادةً
كتمت ما تعيا له العبارة
ويذكّرنا هذا الكتمان بصمت السندباد المطبق عند عفلق بالرغم من جميع الأسئلة المثيرة التي كانت تنهال عليه من أفراد الجمهور. غير أن سندباد حاوي هنا يحرر نفسه من غوغائية الجمهور ومادية جسده آملاً في الوصول إلى الرؤية المنشودة، إلى البشارة:
طهرت داري من صدى أشبامهم
في الليل والنهار
من غل نفسي، خنجري،
ليني، ولين الحية الرشيقة،
عشت على انتظار
لعله إن مر أغويه،
فما مر
وما أرسل صوبي رعده، بروقهْ
طلبت صحو الصبح والأمطار، ربي، ...(82-83).
وهكذا تتحول رحلات السندباد السبع إلى رحلات العذاب الأسطورية، ينهض السندباد ووطنه من الأنقاض ليشد عروقه بعروق الأرض ويعشب قلبه:
طفل يغني في عروقي الجهلُ،
عريانٌ وما يخجلني الصباحْ،
النبضة الأولى،
ورؤيا ما اهتدت للفظ(89).
وهنا يقف الراوي ليقيّم رحلاته السبع ويعلن تحوله عنها إلى رحلة ثامنة، وكأنه يقول لنا إن السندباد الجديد هو سندباد الرحلة الثامنة الذي خلّف وراءه الرحلات السبع، فهي ماضية مثلما أن الثامنة هي حاضرة. سندباد الرحلات السبع ضيّع رأس المال والتجارة، ولكنه في الرحلة الثامنة كسب البشارة:
رحلات السبع روايات عن
الغول، عن الشيطان والمغارة
عن حيل تعيا لها المهارة،
أعيد ما تحكي وماذا، عبثاً،(1/22)
هيهات أستعيد،
ضيّعت رأس المال والتجارة(109).
ولكنه عاد شاعراً في فمه البشارة. ولو أردنا أن نعيد صياغة عنوان جويس لروايته صورة الفنان في شبابه لنصوغه عنواناً لقصيدة حاوي لكان على سبيل المثال "صورة الشاعر كسندباد"، وهي صورة تنسحب على عدد من القصائد والقصص القصيرة ظهرت في الخمسينات والستينات بل وامتدت إلى ما بعد ذلك خلال النصف الثاني من هذا القرن.
****
ومن المحاولات الجادة لخلق موتيف جديد من حكايات السندباد، محاولة نجيب سرور في قصيدته السندباد البري، حيث يغير المنظور المألوف من أن يبقي على جمال العلاقة الرومانسية التي تنشأ بين السندبادين، جراء شعر يقوله البري على مسمع البحري، فتنساب منها حكايات السندباد البحري. نرى في قصيدة سرور إعراض السندباد البري عن ركوب السفينة المعدة لسفر السندباد البحري إلى جزر الواقواق، إذ يفضل السندباد البري أن يبقى مع الناس يعيش آلامهم وأحلامهم، بدلاً من أن يرحل عنهم بعيداً إلى رومانسية العالم المجهول.
ونجد سرور هنا يلتقي مع كل من عفلق وحاوي في تطوير منظور السندباد القديم وربطه بواقع يسمو على الرومانسية التقليدية التي رأى فيها هؤلاء الكتاب بُعداً لا ينساب مع واقع الحياة وهموم الكاتب العربي.
وقصيدة سرور أشبه بسمفونية مقسمة إلى أربعة مقاطع:
في المقطع الأول من القصيدة تذكر شهرزاد الملك السعيد بالحياة:
الدنيا الفانية، إذ تقول:
وتشرب العيون من تراب
وفي الدجى يقام عرس دودْ
وتنتهي حكاية الحياة
كغنوة رطيبة تموت في الأفق(25)
وربما هذا ما يجعل سرور يطلق على هذا الجزء "اللحن الأخير".
أما المقطع الثاني فعنوانه "مدينة العذاب" وهو الواقع الذي ينطلق منه سرور، ذلك الواقع الذي يحمله حاوي معه في الغربة وفي رحلة البحث الشاقة عن أشرار الكون. وحقيقة الأمر يسائل السندباد الكائنات من حوله محتاراً:
فحار سندباد ما تخبئ البحار!!
وأين ينتهي الرحال بالطيور!!
وأين يبدأ الأفق!؟(1/23)
وساءل الرمال عن حكاية الحياة
وساءل المياه
وحيرته ساعة رؤى الوجود(25)
ويتبع هذا التساؤل تقرير استنكاري كان الراوي يريد أن يبين ما في هذا الكون من تناقضات وخصوصاً تلك التي تؤدي إلى العوز. وهذا التساؤل هو بيت القصيد في القصيدة:
"ففي الوجود من طعام
وفي البحار والهضاب من نضار
كفاية البشر
لما لنا جياع!؟(25)
ويصور هذا المقطع ما يحل بالألوف في مدينة العذاب من وأد وقتل وتنكيل بأصحابها، وهي باختصار جحيم:
وعند بابها الكبير تربض الأسود
لتحرس الجحيم
وداخل الجحيم لا يعود!!
وكان سندباد هارباً من الجحيم
وخلفه عيال(25)
ويدل عنوان المقطع الثالث "حيرة السندباد" على الأزمة التي يمر بها السندباد، وأحد الخيارين أن يرحل إلى بلاد "وادٍ واقْ":
مدائن كأنها الجنان
تفيض بالكنوز والثمار والحبوب
تفيض بالطيوب
وما بها خليفة لرب
ولا بها سلاسل تقيد البشر
وما هناك تقطع الأكف
فليس فيهمو جياع!!(26)
وتبع هذا تقرير استنكاري كأن منادياً يذكره بفرصة الخلاص الوحيدة، فيقول:
فنوح لا يلوح مرتين
وإنما الخلاص للذين يركبون!!(26)
ولكن السندباد يفيق على صوت الألوف التي تزدحم صورها في مخيلته وكأنها نيوب أنشبت في رأسه كالذئاب. وفي الوقت نفسه تلوح له رؤية الخلاص (تماماً مثل البشارة عند حاوي) في عودة الطيور، فينشد في نفسه:
أيترك الألوف في مدينة العذاب
وبينها عياله الضعاف..
وزوجة تسوغ عند غول!؟
أينشد الحياة في بلاد "واقِ واقْ"
"وها هنا الكنوز والثمار والحبوب
وها هنا الطيوب
حبيسة القصور"!؟
يشير للخلاص.. للطريق
جماعة الطيور بعد رحلة الشتاء
تعود للوطن
فما لها تعود!؟
وعاد سندباد...(26)(1/24)
ومن الطبيعي أن يكون المقطع الأخير هو "الخلاص" وفيه يكتمل المغزى باكتمال الرمز، وتنتهي القصيدة بهذه النهاية السعيدة التي ربما تبدو تقليدية بما فيها من تشابه في النهايات السعيدة لحكايات ألف ليلة وليلة، ولكنها بمغزاها الجديد تشكل حلقة وصل بين عفلق وحاوي، ليس فقط زمنياً، بل فنياً، فهي تنشد منظور عفلق النثري المكثف، وتغني رؤية حاوي المبطنة. هل كان حاوي على وعي بقصيدة سرور؟ لا يفارق سندباد حاوي في رحلته من أولها إلى آخرها، وربما انطلق منه حاوي طرباً، كما انطلق السندباد البحري في حكاياته في إنشاد السندباد البري في ألف ليلة وليلة: هذا طائر حكيم من بين الطيور العائدة يشير إلى قتل الغراب، وتدمير عشه الوثير خلاصاً من العذاب والدمار:
وكالشتاء أمطروه بالجمار
وعلقوه قصة تقال للفراخ.."
وأصبح الجميع سندباد!
فدمروا مدينة العذاب
وعلقوا الغراب!
وشيدوا مدينة "التبات والنبات"
وواصلوا الليالي الملاح
وداوموا على الغناء للصباح(26)
****
المحاولات الثلاث هذه التي تمتد من أواخر الثلاثينات إلى أواخر الخمسينات تشترك فيما بينها بإبداع صورة جديدة للسندباد، جميعها تحول صراع السندباد مع أهوال الطبيعة وما وراء الطبيعة إلى صراع مع واقع المجتمع العربي، الذي يصوره كل كاتب بطريقته الخاصة. وفي النهاية يتغلب السندباد الجديد على واقع المجتمع القسري، مثلما كان السندباد في حكاياته يقهر الأهوال وينجو من الأخطار.
ومن الجدير بمكان، أن نتذكر أن هذه الصورة التي امتدت بين نثر عفلق، وشعر حاوي، هي وليدة واقع عربي كان ينتظر وليداً مسعوداً يخرج من رحم هذا الواقع. وظل الحلم يراوده في هذا الأمر إلى أن حصلت عملية الإجهاض في أوائل الستينيات وأصيب الواقع العربي بأكثر من نكسة(1/25)
كان من الطبيعي أن تنعكس نكسات الستينيات على وعي الكاتب العربي مسجلة هذه الإرهاصات في الذاكرة الفنية. صورة السندباد الجديدة تستبدل بُعداً جديداً بآخر. باختصار تفقد المنظور المشار إليه أعلاه وتتراجع عن شموليتها، حيث تقف عند الصراع مع الأهوال. فالغول لا يصرع، كما في سندباد حاوي. والغراب، لا يقتل، كما في سندباد سرور. والصلب، والتطهير من أجل حياة جديدة، كما في سندباد عفلق يغيبان عن الواقع.
وخير مثال على هذا التراجع هو قصيدة بدر شاكر السياب: "مدينة السندباد"، التي تعد بحق أصدق تعبير فني عن واقع أليم تحولت فيه مدينة السندباد التي كانت في حكايات السندباد تمثل الأمن والاستقرار لسندبادها وأهله ومجتمعه والتي كانت في رحلاته خارجها شوقاً يمارس سلطانه عليه طيلة رحيله عنها ملحاً عليه بالعودة واللقاء بها وبأهلها. هذه المدينة تحولت بين عشية وضحاها إلى ما أسماه سرور في المقطع الثالث "مدينة العذاب"، فقد أصبحت مدينة يعبث في حياتها الغول، وتنهش من أجساد أهلها الغربان. والظروف التي ولدت منها هذه القصيدة معروفة في تاريخها الحديث. فقد روى لي جبرا أن السياب، صديقه الحميم في بغداد قد حضر إلى بيته ذات مساء، مباشرة بعد الإفراج عنه من السجن، وتحدث معه عن إمكانية الرحيل هرباً من مدينة السندباد إلى الكويت أو بيروت، إذ إنه لم يعد يحتمل مزيداً من التعذيب والإذلال، سيما وأن صحته العامة كانت لا تساعد على صد الأذى.(1/26)
تقدم لنا هذه القصيدة صورة للسندباد الجديد دون أن تحمل أي إشارة ظاهرة إلى السندباد القديم، وباستثناء العنوان لا يرد اسم السندباد في القصيدة، ولكنه بالإمكان دائماً أن نتصور الشاعر وهو يحاول التخفي من الخطر مثل السندباد القديم وهو يختفي خلف بيضة الرخ (الطائر العملاق) الذي يختفي وراءه السندباد طيلة ساعات الليل من أجل أن يهرب من الجزيرة التي وجد نفسه أسيراً بها. وفي جميع الأحوال يخلق الشاعر هذه الصورة الجديدة من خلال التأثير الذي يشيعه في القارئ موتيف السندباد، ذلك الموتيف الذي يسمى في النقد الحديث غياب الآخر، فكل ما يرد في القصيدة من تفاصيل تتجمع لتوحي لنا دون إفصاح أن مدينة السندباد هذه لم تعد مدينة هارون الرشيد العظيمة التي كان السندباد يعيش فيها بعزة وكرامة، يغيب عنها وهو يحمل شوقها بين الضلوع.
ومن الواضح أن الشاعر كان على وعي بأن الإفصاح لا لزوم له في مثل هذه الحالة؛ لأن حكايات السندباد نفسها معروفة لدى القراء شرقاً وغرباً، وفي هذه الحالة تبقى حكايات السندباد مصدراً لهذه القصيدة، فجوة يملؤها القارئ نيابة عن الشاعر الذي ترك هذه المهمة له مساهمة منه في قراءة القصيدة، وهنا تدخل القصيدة فنياً في نظرية الاستجابة من القارئ والتي أصبحت من أهم النظريات النقدية المعاصرة. علق ريموند وليامز على رواية قلب الظلام المعروفة، بأن كونراد قدم لنا صورة رائعة لطغيان الاستعمار، ولكن دون أن يذكر الاستعمار بالاسم مرة واحدة، وهكذا، فإن القارئ لمدينة السندباد على وعي أن بغداد التي هي عنوان القصيدة لم تعد مدينة الرحالة السعيد. ومن أجل أن يبرز التناقض بين المدينتين قديماً وحديثاً يسأل الشاعر سؤاله الاستنكاري:
أهذه مدينتي؟ أهذه الطلول
خط عليها "عاشت الحياة"
من دم قتلاها، فلا إله
فيها، ولا ماء، ولا حقول؟
أهذه مدينتي؟ خناجر التتر
تغمد فوق بابها، وتلهث الفلاة
حول دروبها، ولا يزورها القمر؟(1/27)
أهذه مدينتي أهذه الحفر
وهذه العظام؟(31)
ويمكن لهذه القصيدة أن تأخذ عنواناً من هذا التساؤل: ماذا حدث لمدينتي! لكن العنوان الحالي يبقى أسلم لحياة الشاعر؛ لأنه أقل وضوحاً في إشارته إلى الواقع، فمجرد ذكر اسم السندباد كعنوان ينقل القارئ للقصيدة، إلى الزمن البعيد ويبعده زمنياً بطريقة وهمية عن الواقع الحقيقي للقصيدة، وهو الحاضر، وبهذا يوفر السندباد غطاء للشاعر مثلما وفر طائر الرخ غطاء للسندباد.
وعودة إلى صورة الآخر الغائب كمرتكز فني تقوم عليه القصيدة. هذا الغائب، هو قناع الحياة الاجتماعي الذي يشمل حياة الأفراد والجماعات في حكايات السندباد. الواقع الذي يشير إليه ريمون دوليامز بعبارته الشهيرة "نمط الحياة الشامل لنواحيها المختلفة"، هذا النمط الذي يعد الآخر الغائب أصبح في الحاضر حالة يرثى لها.
ويمكننا أيضاً أن نفسر الآخر الغائب بعبارة اليوت المعروفة، وهي المعادل الموضوعي، إذ إن الإثارة التي تولدها الصور المختلفة لموتيف السندباد تعادل في تأثرها مشاعر الشاعر. أي أن مغزى القصيدة يتمثل في الشرخ الذي يصيب إيقاع الجماعة التي كان ينعم بها السندباد قديماً.
هذا الشرخ هو الذي أصبح علامة فاصلة بين المحاولات الثلاثة التي سبق ذكرها، والمحاولات التي بدأت بمحاولة السياب.
فسندباد عفلق مثلاً، يترك هذا العالم كمسيح مصلوب من أجل سعادة البشرية فيما بعد، ومدينة العذاب عند سرور تهدم في النهاية، وتنشأ مكانها مدينة صامدة تتزواج فيها الأجيال الشابة وتغني حتى مطلع الفجر. أما سندباد حاوي، فيعود وفي فمه بشارة الحياة حاملة نبوءة موسم الخصب والحياة، وعلى عكس من كل ذلك، تبدأ مدينة السندباد عند السياب مصلوبة وتظل كذلك تعوم في العويل:
ويهلك المسيح قبل العازر،
دعوه يرقد،
دعوه فالمسيح ما دعاه!
ما تبتغون! لحمه المقدد
يباع في مدينة الخطاه،
مدينة الحبال والدماء والخمور،
مدينة الرصاص والصخور!(29)(1/28)
وأكثر ما يميز صوت السياب الشعري مقارنة مع الأصوات السابقة له النبوءة التي أثبتت الظروف على مر العصور المتتالية أنها أقرب إلى الواقع الذي ما زلنا نعيشه من البشارة الجميلة التي تمثلت في صوت عفلق، وصوت حاوي، تلك البشارة التي كانت لسوء الحظ من الناحية الواقعية موسمية، أما نبوءة السياب، فهي لسوء الحظ مختلفة، نبوءة المواسم جميعها. هذه النبوءة جاءت في أكثر من قصيدة للسياب، نذكر على سبيل المثال "المومس العمياء"، وقصيدة "أنشودة المطر"، التي يمكن أن نسميها بحق مدينة السندباد من البصرة إلى بغداد، والتي تذكرنا بدايتها المشهورة بنهاية "مدينة السندباد"، إذ يظل عويل النخيل في شط مدينة السندباد الأخرى يتردد في أسماعنا إلى ما لا نهاية. وإنه لمن المحزن أن نتذكر أن حالة الصلب التي صورها السياب في مدينتي السندباد لم تفارقهما. وهكذا يظل السندباد مصلوباً فوق الأهوال دون أن يفك الخلاص صلبه.
****
وإنه لمن سوء الطالع أيضاً أن يستمر واقع الحال متدهوراً فتظل صورة السندباد مظلمة سواء في الشعر أم في النثر. وهذه نماذج نسوقها على سبيل المثال لا الحصر. يكتب خليل خوري قصيدة عنوانها "سندباد بلا انتصار"، إذ يقول:
صديقتي يأكل أيامي الضجر
ترى يهل فوق وحشتي المطر
يغسلها، يغسلني المطر
ويقول مؤيد العبد:
من آن لي شراع سندباد حتى أعبر المياه
خلجانه الكئيبة
أما أحمد الماخذي فعنوان قصيدته "متى يعود السندباد"، وتبدأ:
في أي أرض يستقر السندباد
متى يعود(1/29)
أما نماذج الصورة القاتمة من القصة القصيرة فتفوق في حجمها النماذج الشعرية، إذ إن القصة القصيرة نشطت في الستينيات والسبعينيات، وظهر عدد من كتاب القصة القصيرة اتجهوا إلى توظيف حكايات السندباد وخلق موتيف قصصي أصبح مرتكزاً لمحاولات قصصية جادة، من هذه النماذج "رحلات السندباد السبع: وما جرى له فيها من الحوادث العجيبة والمصادفات الغريبة" لعبد الرحمن فهمي، وهي قصة قصيرة تحول المغامرات الجميلة لحكايات السندباد إلى رعب ينسحب على واقع الحال اشبه الكابوس. والقصة مليئة بألوان البطش والتعذيب التي تنقلها إليها رموز جديدة مليئة بأشكال الرعب المختلفة، وجميعها تقف صورة مغايرة لسعادة السندباد في حله وترحاله. يقول الراوي:
"أنا التراب، سأحكي لكم لهاثي على الدرب، سأقطر امامكم عرقي قطرة فقطرة، سأسمعكم سعالي الأجش خلف الجدار الرطب، ولن يخدش هذا آذانكم، فكلكم مثلي تلهثون على درب قصي، بعضكم يلهث خلف لؤلؤة وضيئة وبعضكم يلهث خلف درهم صدئ، منكم من يلهث نحو نهر من عسل ولبن، ومنكم من يلهث نحو بركة آسنة. ولكننا- كلنا- نلهث، وكلنا نغرق، وكلنا نسعل، وكلنا- في أقصى الدرب- نموت وإلى التراب نعود"(11).(1/30)
وفي الحكاية الخامسة من قصة محمد المنسي قنديل، وهي "الأحزان القديمة: خمس حكايات من ألف ليلة وليلة"، يصور لنا الراوي السندباد وهو يعود من رحلته الساعة وأجراس البصرة تدق كأنها تكريم له، لكن الذي يدقها هو أشهر مزايدي السلطنة وصوته الأجش معروف لدى كل التجار، إذ يقوم بعرض سفينة السندباد وما فيها من الممتلكات العزيزة التي جمعها عبر السنوات الطويلة في رحلاته السبع، والسندباد يحاول جاهداً إيقاف البيع ومقاطعة المزايد، ولكنه في النهاية يستسلم صاغراً ذليلاً وهو يرى أعز ما يملك في هذه الحياة، يبدد أمامه في مزايدة رخيصة، وهكذا يختمم الراوي الموقف: "والسندباد يصرخ ثم يجهش في بكاء طويل متصل... ورغم ذلك لم تفِ المزايدات إلا بنصف المتأخر من المرتبات"(178).
ويذكرنا هذا المشهد الدرامي في البداية بموت السندباد لميشيل عفلق، ولكن نهايته المرعبة تختلف عن نهاية سندباد عفلق الذي يحيينا موته، وإن وجد تشابه ظاهري في موتيف الحالتين، فإن منظوريهما مختلفان تماماً.
أما قصة مصطفى المنساوي وعنوانها عبد الله سامسا في جزيرة الواقواق، فتصور حالة من الرعب صاغها المسناوي مضموناً من حالة متهم يقبع في غياهب السجن، يصور لنا الراوي موقفه وهو في الزنزانة يمثل أمام التحقيق. أما الشكل الفني، فقد صاغه المسناوي بأسلوب كافكاوي يذكرنا في الحال بعد قراءة القصيدة بقصة كافكا المعروفة التحولات، عندما ينهض جورج ساما ذات صباح من كوابيسه ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة. وبالرغم من كل أنواع التعذيب والتنكيل التي يلاقيها عبد الله سامسا من أجل الاعتراف، فإنه يظل صامتاً مثل جورج ساما الذي هو أنموذجه أصلاً.
السندباد الصامت، أو السندباد المغلوب على أمره أصبح إذن موتيفاً يعبر عن واقع القمع الذي يواجهه المواطن في وطنه بعد أن كان في بداية الأمر موتيفاً للخلاص والبعث من جديد.
****(1/31)
وأي حديث عن موتيف السندباد كتعبير عن الواقع الهالك لا بد أن يتضمن إنجاز نجيب محفوظ، الذي أشاد معماراً فنياً مميزاً أسماه ليالي ألف ليلة خاتمته السندباد الذي جاءت صورته تتويجاً له كعقد يجمعه من أوله إلى آخره.
وإنه لمن اللافت للنظر، أن تظل هذه الرواية بعيدة نسبياً عن أنظار الدارسين والباحثين في أدب الرواية العربية وأدب نجيب محفوظ بشكل خاص. ومرجع ذلك في اعتقادي إلى سببين: أولهما التركيب المعقد للقناع الذي يتكون من موتيفات متشابكة وتقاطعات متداخلة تقف عائقاً في وجه القارئ الذي يحاول اختراق القناع للوصول إلى الوجه. وثانيهما أن الظرف السياسي المعين الذي يشكل مصدراً لهذا التركيب هو في كثير من الأحيان تاريخ مربك أقل ما يقال عن فاعله إنه خارج عن التاريخ، على وفق رأي إدوارد سعيد. وإنه لمن المؤسف أن يظل الأمر في هذا التحول أو الانحدار التاريخي أمراً جدلياً. ومن يقرأ ليالي ألف ليلة يعجب ما إذا كان نجيب محفوظ نفسه ما زال غير متأكد من موقف معين اتجاه ما حدث. ونحن لا نلوم نجيب محفوظ إن بدت لنا الرؤية غير واضحة، لأن الحدث نفسه لا يدع فرصة للوقوف والتأمل والخروج بنتيجة، وسيظل الحدث يدهشنا بحدته وشدته لما له من تأثير سلبي في تاريخ أمة بأكملها إلى ما لا نهاية، خصوصاً وأنه كان تلك البداية المرعبة.
ويعبر محفوظ نفسه عن هذه الحالة المحيرة المربكة في مقابلة أجراها معه حسين حمودة ونشرتها مجلة فصول. ويقول في سؤال له عن تصوره هذا: لإسهامات حكايات ألف ليلة في صياغة روايته ليالي الف ليلة:(1/32)
"لقد جاءتني فكرة أن حكايات (ألف ليلة وليلة) يمكن أن تكون مادة صالحة تماماً لأن أصوغ منها عملاً روائياً، متداخلاً ومتكاملاً بقدر الإمكان؛ أي قدر التداخل والتكامل نفسيهما اللذين تجدهما في حكايات (ألف ليلة وليلة). لذلك، أعدت قراءة (ألف ليلة) مرة أخرى، واستخرجت منها مجموعة من "الثيمات" المختلفة، ووجدتها- عندئذ- تدعوني للكتابة عنها. طبعاً ليس كل عمل، ولا كل تجربة، يغريك أو تغريك للكتابة عنه أو عنها. لكني، على أية حال، وجدت في (ألف ليلة) أشياء ودوافع تدعوني للكتابة عنها؛ ومن ثم كانت روايتي (ليالي ألف ليلة).
أعتقد أنني، في هذه الرواية، قد عبرت عن اهتماماتي الكبرى الأساسية، وأنني قمت بذلك في مزيج بين ما يمكن أن تسميه "الواقعية السياسية"، و"التأملات الميتافيزيقية"، ولك- إن شئت- أن تقول "التأملات الصوفية". لقد وجدت في (ألف ليلة) مساحة كبيرة تمكنني من التعبير عن هذا المزيج متباعد الأطراف" (379-380).
ولسنا هنا بصدد البحث في هذه الرواية التي تستحق دراسة مفصلة تفرد لها، بل ستقتصر الإشارة على السندباد الذي يقع في خاتمة الرواية كموتيف رئيسي فيها يلملم أجزاء الصورة الكلية المعقدة وحكاياته التي تغير في شهريار الذي يفضل سماعها منه لا من شهرزاد كما رآها نجيب محفوظ الذي أعطى للسندباد دوراً رئيسياً في السيطرة على السرد وفي خلق تأثير مباشر من هذا السرد على شهريار.(1/33)
من يقرأ الرواية بتمعن يدرك أن ثيماتها وموتيفاتها كانت تعتمر في نفس نجيب محفوظ منذ أمد طويل ولو أردنا حصر خلفيتها السياسية التي أشار إليها محفوظ في المقابلة لقلنا إنها تمتد بين حدثين كبيرين في تاريخ الأمة العربية، حدث 1967، وحدث 1979. ويبدو أن نجيب محفوظ كان على وعي أن الحدثين لن يكون الشفاء منهما سهلاً، وليس لهما شبيه في التاريخ. لهذا كان لا بد من البحث عن شكل خيالي يناسب التعبير عن الواقع الذي أصبح ضرباً من الخيال. وفي الستينيات والسبعينيات شاعت تقنية تدعى بالواقعية والخيال وتغني الكاتب عن الوساطة الفنية التي تنقلنا من جهة إلى أخرى. وفي لقطة فنية سريعة فيها بداهة الواقعية السحرية يدخلنا نجيب محفوظ إلى الواقع السياسي مدخل صدق، عندما يدع السندباد يطلب من أهل الحي أن يرووا له أولاً ما حدث لهم أثناء غيابه بدلاً من أن يبدأ رواية حكاياته في رحلاته السبع، إذ يؤثر أن يسمع أخبارهم قبل أن يسمعوا أخباره التي يؤجل روايتها عليهم إلى الوقت المناسب:
"لدي ما يسر ويفيد وكل شيء بأوانه.. صبركم حتى أستقر..
فقال عجر:
نحدثك نحن عما وقع لنا!
ماذا فعل الله بكم؟
فأجابه حسن العطار:
مات كثيرون فشبعوا موتاً، وولد كثيرون لا يشبعون من الحياة. هبط من الأعالي قوم وارتفع من القعر قوم، أثرى أناس بعد جوع وتسول آخرون بعد عز، وفد على مدينتنا عدد من أخيار الجن وأشرارهم، وآخر أخبارنا أو ولى حكم حينا معروف الإسكافي.
فهتف السندباد:
حسبت الأعاجيب قاصرة على رحلاتي، الآن يحق لي العجب.."(248).(1/34)
ما يقوله السندباد هنا، هو أبلغ وصف كموتيف السندباد الذي شاع شعراً ونثراً عند الكتاب العرب قبل نجيب محفوظ، ويشكل هذا الوصف المقتضب نافذة على حكايات السندباد، وهو البعد الجديد الذي دخل في صورة السندباد. ومن هذا الموتيف تنبع جدلية الواقعية السحرية التي تقوم على تداخل الواقع والخيال، بل وتلاحمهما، ومن هذا التلاحم تولد صورة السندباد المأساوية للواقع الحاضر من رحم الملهاة لحكايات السندباد القديمة. وهكذا نجد أن حكم السندباد التي يستقيها من تجاربه (وليس المقصود هنا عدد هذه التجارب وسنواتها الطويلة التي يمكن أن تؤهل المرء لأن يصبح حكيماً) هي التي تؤثر في شهريار وتساعده على التحرر من الماضي وأوهامه. فشهريار على وعي أن حكايات شهرزاد وحكايات السندباد (وباعتراف شهرزاد نفسها) تنبع من مصدر واحد. ولكن الفرق كبير عندما يدرك شهريار إن حكايات شهرزاد من الماضي جعلته نفسه وبطريقة غير مباشرة يرضى عن ماضيه نفسه أو يسكت عنه على الأقل. أما حكايات السندباد، هي أكثر من مجرد حكايات خلص منها إلى حكم وعبر أيقظت شهريار، وجعلته يثور على ماضيه، وينقلب على شهرزاد التي كانت السبب في توقفه عند الماضي طيلة سردها للماضي وممارسة سلطان السرد القصصي عليه.
وأرجو ألا يفهم هنا أن محفوظ يقف موقفاً نقدياً من الماضي، وإيجابياً من التحرر منه، بل إنه يصور الحيرة والضياع والخسارة في جميع الأحوال ولا يستشفي منظوراً بعينه، فصحوة شهريار لا تؤدي إلى نتيجة، بل إنها صحوة تأتي بعد نكسة تتلوها نكسة أخرى. وفي اعتقادي أن "السندباد" وهو الجزء الرئيسي من الخاتمة يتبعها "البكاءون" المكمّلة للسندباد والتي هي أشبه بتعقيب عليه يمثّل صورة صادقة جادّة معقّدة لذلك الواقع السياسي الممتدّ بين عام 1967 و 1979. ومهما اختلطت الألوان في هذه الصورة يظلّ اللون الذي يوحّد بين الخيال والحقيقة هو السائد على بقية الألوان.(1/35)
وأي قراءة متأنية لجزئي الخاتمة الأول والثاني، تشدّنا على الفور إلى الواقع السياسي، إلى الحادثين المشؤومين، هزيمة حزيران، والمعاهدة المذكورة، وكلاهما يشكّل رجع الصدى لذلك الواقع. فعند قراءة الجزء الأول نتذكّر على الفور جموع الأمّة العربية وهي تتلقى النبأ الفاجع بتنحّي الحاكم الذي كان أمل الأمّة العربية على مدى خمسة عشر عاماً ونيف، ويتذكّر جيل الستينيات الملايين من هذه الأمة وهي تستقبل النبأ بالبكاء والحزن البالغين.
والصورة الفنيّة الموازية التي تعبّر عن وضع الحاكم المقهور وشعبه الحزين، هي صورة شهريار الذي تنتهي به المقادير إلى الهزيمة والقهر ويجد نفسه مثل سندباد سرور، أمام اختيارين لا ثالث لهما:
"عزل نفسه مقهوراً أمام ثورة قلبه في وقت تناسى فيه شعبه آثامه القديمة الماضية.. اقتضت تربيته زمناً غير قصير.. لم يقدم على الخطوة الحاسمة حتى استفحل في باطنه الخوف، وهيمنت رغبته في الخلاص.. غادر قصره بالليل، عليه عباءة، وبيده عصاً مستسلماً للمقادير.. أمامه سبيل للسياحة، كما فعل السندباد، وسبيل إلى دار البلخي، وثمّة مهلة للتدبّر.. قادته قدماه إلى الخلاء قريباً من اللسان الأخضر، فترامى إلى أذنيه صوت غريب.. أنصت تحت هلال في السماء الصافية، فأيقن من أنه يسمع نحيباً جماعياً!.. قوم يبكون في هذا الخلاء؟ مضى نحو مصدر الصوت في حذر حتى استقرّ وراء نخلة.."(263).
أما واقع الجموع الباكية، فتعبّر عنه صورة الجموع التي تصوّر نفس الحالة تقريباً عندما يشير عليها أحد أفرادها بالعودة إلى دار العذاب، مثل عودة سندباد سرور إلى الجحيم، إلى مدينة العذاب، وهو يعرض عن اختيار السياحة السندبادية رافضاً الهروب من الواقع، ويختار الصمود في وجه الواقع:
"... وقبيل الفجر قام أحدهم وقال:
آن لنا أن نرجع إلى دار العذاب!
فكفّوا عن البكاء وقاموا وهم يتواعدون على اللقاء غداً ثم مضوا نحو المدينة كالأشباح..."(263).(1/36)
أمّا الطرف الآخر من الواقع المقيت الذي يحدث بعد حوالي اثني عشر عاماً، فيصوره الجزء الثاني من الخاتمة. وإذا استقلّ الجزء الأول بصورة الحاكم المقهور، الحاكم الضحية، فإنّ هذا الجزء يصوّر الحاكم المغرور الذي غرّه، أو غرّر به ما بدا من أنّه انتصار حقيقي في حرب أكتوبر عام 1973. يصوّر الحاكم المغامر الذي استقل الطائرة التي حطّت به بعد حوالي الساعة في المدينة المقدّسة، صلّى في شرق المدينة، وخطب في غربها، وكان ما كان من الخروج من التاريخ. وعندما نقرأ ما بين السطور تبرز لناصورة فنيّة لغتها مكثّفة، حوارها هادئ، أثرها عميق، لا يمكن أن يقدر على هذه الصياغة غير كاتب قدير على وعي جادّ بحقيقة التاريخ وأبعاده التي ما زالت متفوّقة على الحدث نفسه في اتّساع تأثيرها:(1/37)
"اقترب من الصخرة.. دار حولها دورة كاملة.. ماهي إلا صخرة في صورة قبّة غير مستوية، يمرّ بها العابر فلا تثير اهتمامه.. دنا منها، فتحسّس سطحها، فوجده خشناً.. هوى عليه بقبضته مرّات، ثم همّ بالتحوّل عنها عندما صدر منها إليه صوت قويّ متحرّك.. تكشف أسفلها من مدخل مقوّس الهامة، فتراجع مرتعداً من الخوف؛ لأنّه رأى نوراً هادئاً عذباً ونسمت رائحة زكية مخدّرة.. زايله الخوف إن هذا الباب هو ما تاق الرجال إلى فتحه وما أحرقوا الدموع من أجله.. اقترب منه، أدخل رأسه متطلّعاً، فجذبته فتنة طاغية.. ما كا ن يدخل حتّى أغلق الباب وراءه، ولكن فتنة المكان استحوذت عليه كلّه.. منير بلا ضوء.. عذب المناخ بلا نافذة، متضوّع بشذا طيّب لا حديقة.. أرضه بيضاء ناصعة قدّت من معدن مجهول، جدرانه زمرديّة، سقفه مزركش بمهرجان من الألوان المتناغمة، في نهاية بوابة متلألئة كأنّما طعّمت بالمّاس، مضى بلا تردّد متناسياً ما وراءه، ظنّ أنّه سيبلغ البوابة في دقيقة أو دقيقتين، ولكنه مشى طويلاً والممرّ باق على حاله لا يقصر، والفتنة من الجوانب تتدفّق.. أشفق من أن يكون طريقاً بلا نهاية، لكنّه لم يفكّر في الرجوع ولا في التوقّف، وطاب له المشي العقيم إلى الأبد.. ولمّا أوشك أن ينسى أن لمشيه غاية، وجد نفسه يقترب من بركة صافية تقوم فيما وراءها مرآة مصقولة، وسمع صوتاً يقول:
-افعل ما بدا لك..
سرعان ما لبّى رغائبه الطارئة، فخلع ملابسه وغاص في الماء.. دلّكته نبضات الماء بأنامل ملائكية وتسللت إلى باطنه أيضاً.. خرج من الماء، فوقف أمام المرآة، فرأى نفسه جديداً في إهاب فتى أمرد، قويّ الجسم تناسقة، بوجه مليح ينضح فتوّة وشباباً، وشعر أسود مفروق وقد طرّ بالكاد شاربه.. همس:
-سبحان القادر على كل شيء..
والتفت إلى ملابسه، فوجد بديلها سروالاً من الحرير الدمشقي، وعباءة بغدادية، وعمامة خراسانية، ونعلاً مصرياً، فارتداها، فصار آية تسرّ الناظرين.(1/38)
وواصل السير، فوجد نفسه أمام البوابة، ووجد أمامها صبية ملائكية لم يرها من قبل، سألته باسمه:
من أنت؟
فأجاب بحيرة:
-شهريار
-ما صناعتك؟
-هارب من ماضيه..
-متى تركت بلدتك؟
-منذ ساعة على الأكثر..
فما تمالكت أن ضحكت قائلة:
-ما أضعفك في الحساب!
وتبادلا نظرة طويلة، ثم قالت الصبية:
-انتظرناك طويلاً، المدينة كلّها تنتظرك..
فتساءل في دهشة:
-أنا؟!
-تنتظر العريس الموعود لملكتها المعظمة..
وأشارت بيدها ففتحت البوابة مرسلة صوتاً كأنين الرباب..
(266-265).
يتكون موتيف السندباد في هذه الصورة الجديدة إذن من السندباد الراوي بدلاً من السندباد المروى عنه، ومن السندباد الحكيم الذي تنتقل حكمته إلى الحاكم دون وساطة مما يؤدّي إلى أن يقاضي الحاكم نفسه أمام نفسه كمل يفعل السندباد، وهو يحاسب نفسه في ضوء ما مضى من تجاربه ويرضى أيضاً بحساب الآخرين.
وترفد هذه الصورة موتيفات عدّة، أبرزها موتيف طير الرّخ، وبريق الماس. وهنا يصبح التماهي بين السندباد والحاكم بدلاً منه بين شهريار والحاكم كما سبق أعلاه. يعبّر الراوي عن هذا الموتيف في حوار بين المهيني والسندباد، وهو يهمّ برحلة لاحقة بعد رحلاته السابقة، حيث يحضر السندباد إلى الشيخ عبد الله البلخي، معلّم صباه لوداعه، ويطلب المهيني من الشيخ أن يودع السندباد بكلمة طيّبة، فيقول الشيخ برقّة للسندباد:
-إذا سلمت منك نفسه فقد أديّت حقّها، وإذا سلم منك الخلق، فقد أديت حقوقهم.
فهوى السندباد على يده فقبّلها، ثم نظر إلى الطبيب ممتناً، وهمّ بالقيام، غير أنّ الطبيب وضع يده على منكبه وقال:
-اذهب مصحوباً بالسلامة، ثم عد محملاً بالماس والحكم، ولكن لا تكرّر الخطأ.
فتجلّت في عيني السندباد نظرة حيرى، فقال المهيني:
-لم يطر الرّخ بإنسان قبلك فماذا فعلت؟، تركته عند أول فرصة منجذباً ببريق الماس.
-بل لم أكد أصدّق بالنجاة..
فقال المهيني بحماس:(1/39)
-الرّخ يطير من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمّة الواق إلى قمّة قاف فلا تقنع بشيء فهي مشيئة ذي الجلال!
وكأنّ السندباد قد شرب عشرة أرطال من الخمر..(262).
عبارة المهيني "لم يطر الرّخ بإنسان من قبلك" التي يتبعها باستفهام استنكاري "فماذا فعلت" تشخص المغامرة التي قام بها الحاكم الذي طار به الرّخ في رحلة خارج المكان والزمن ليتوهّم أنّ كل شيء سيكون على ما يرام بعد خطاب المصالحة. والعملية برمّتها أشبه ببريق الماس. أو عبارة المهيني التي قالها بحماس، فهي تصوير يعبّر أبلغ تعبير عن واقع الطرف الآخر وتعامله معنا منذ تلك الرحلة، فهو ما زال ذلك "الرّخ يطير [بنا] من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمّة الواق إلى قمة قاف..." ويدخلنا في متاهات مازلنا ضائعين فيها، عكس مغامرات السندباد في حكاياته عندما كان ينجو من الضياع مهما اشتدّت الأهوال واحتدّت الأزمات وصعبت المغامرات.
وقبل ملاحظة المهيني على طائر الرّخ يعلّق شهريار عندما كان السندباد في حضرته يروي مغامراته عليه مستخلصاً منها العبر والحكم التي كان شهريار يستمع إليها باستحسان، إذ يقول شهريار بهدوء:
-إنّه الرّخ الذي نسمع عنه ولا نراه، إنّك أول إنسان يسخره لأغراضه يا سندباد، فاعلم ذلك أيضاً(252).
لابدّ أنّ شهريار هنا كان يغبط السندباد على تجربته مع الرّخ، هذه التجربة التي ظلّت حيّة في نفسه إلى أن وقع شهريار الحاكم في الشرك: شرك الرّخ، وشرك الماس، شرك الرحلة غير الميمونة.
وهكذا يكتمل التّماهي بين السندباد وشهريار والحاكم- هذا التماهي الذي يشكل موتيف الصورة الجديد.
ومن أبلغ التعليقات على واقع الحال ما يرد في الجزء الأول من "السندباد"، وكأنّه لوحة مرسومة بالكلمات:(1/40)
"رفع معروف حاكم الحي –بكل خشوع- اقتراحاً للسلطان بنقل سامي شكري كاتم السرّ، وخليل فارس كبير الشرطة إلى حي آخر، على أن يتفضّل السلطان بتعيين نور الدين كاتماً للسر، والمجنون كبيراً للشرطة باسم جديد، هو "عبد الله العاقل".. ومن عجب أنّ السلطان استجاب له، ولو أنّه سأله:
-أتطمئن حقاً إلى المجنون كبيراً لشرطتك؟
فقال معروف بثقة:
-كل الاطمئنان يا مولاي..
فدعا له بالتوفيق، ثم سأله:
-ماذا عن سياستك يا معروف؟
فقال الرجل بتواضع:
-عشت عمري يا مولاي أصلح النعال حتى استقر الإصلاح في دمي..
وقد قلق الوزير دندان، فقال للسلطان عقب انصراف معروف:
-ألا ترى يا مولاي أن حكم الحيّ أصبح بيد نفر لا خبرة لهم؟
فقال السلطان بهدوء:
-دعنا نقدم على تجربة جديدة..."(246).
هذه "التجربة الجديدة" هي الواقع الذي أثار حفيظة الكتّاب العرب، على رأسهم نجيب محفوظ، ودفعهم إلى البحث عن شكل جديد، ألهمتهم به حكايات السندباد، هذه التجربة هي التي خرج السلطان عبرها من التاريخ مخلّفاً وراءه أجيالاً ثمن تدفع التجربة باهظاً جرّاء المغامرة في هذه التجربة التي توهم أن جدتها تشفع له ولها.
(
( المصادر:
1-حاوي، خليل، الناي والريح، بيروت، 1962.
2-حمودة، حسن، "حوار بعنوان ألف ليلة أحاطت بالحضارة الشرقية"، فصول، المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، صيف 1994.
3-الخوري، خليل، "سندباد بلا انتصار"، الآداب، العدد الرابع، 1961.
4-سرور، نجيب، "السندباد البرّي"، العدد الثامن، 1955.
5-السيّاب، بدر شاكر، قصائد، بيروت، 1987.
6-شاهين، محمد، القصة العربية القصيرة، ماكميلان، 1989 (بالإنجليزية)، وربما تكون هذه الدراسة أول دراسة تولي كتابات ميشيل عفلق المذكورة الاهتمام الذي تستحقه.
7-فهمي، عبد الرحمن، "رحلات السندباد السبع وما جرى له فيها من الحوادث العجيبة والمصادفات الغريبة"، الآداب، العدد الثامن، 1964.(1/41)
8-فرقوط، ذوقان، ميشيل عفلق الكتابات الأولى مع دراسة جديدة لسيرة حياته، بيروت، 1993.
9-الماخذي، أحمد، "متى يعود السندباد"، الآداب، العدد العاشر، 1969.
10-محفوظ، نجيب، ليالي ألف ليلة، القاهرة، 1988، (تمّت كتابتها في 27/11/1979).
11-الواحد، مؤيّد العبد، "مرفأ السندباد"، حوار، العدد الأول، المجلد الثاني، تشرين ثاني –كانون أول 1963.
(((
ألف ليلة وليلة:
إشكالية المتلقي الخصم
ذكر نجيب محفوظ في مقابلة له عام 1968 أنّه يكتب ولا يفسّر "وبكل أمانة وصدق لم أكن أدرك أنّ شيئاً ما قد تغيّر بالنسبة إلى أعمالي الأخيرة. ربّما يكون هناك رابط بين هذه الأعمال، وعلى النقّاد والقرّاء لا عليّ، اكتشافه."(1).
ويعلّق سمر روحي الفيصل على رواية شكيب الجابري قائلاً: "أمّا الصوغ الجديد لرواية قدر يلهو فيضم محاولة جادّة للتخلّي عن كثير من الأمور السالفة. فقد خفّت حدّة السرد الإنشائي، وارتفعت نسبة الحوار، بل إنّ بعض المقاطع الحوارية تَنِمُّ عن فهم للغة الحوار ولمقدرة هذه اللغة على تطوير الحدث وجعل الشخصية تعيش أمام القارئ."(2).
أمّا برخت فيقول: "أنت لا تستطيع أن تُسجّل الحقيقة، بل عليك أن تدوّنها من أجل شخص ما وله أيضاً، ذاك الشخص هو الذي يستطيع أن يفعل بتلك الحقيقة شيئاً ما."(3).
أمّا الكاتب الأمريكي رونالد سوكنك، فيلاحظ في معرض حديثه عن الفوضى التي تعمّ التنظير والممارسة في الميدان الأدبي قائلاً "إنّ الكاتب المعاصر مجبور على أن يبدأ من الصفر، إذ لا وجود للواقع، ولا للزمن، ولا للشخصية الذاتية، ففي ضوء هذه العدمية لن يكون مفاجئاً أن يكون الأدب نفسه عدماً. وفي هذه الحالة لا يبقى إلاّ القراءة والكتابة."(4).(1/42)
هذه شهادات على سبيل المثال لا الحصر، وهي غيض من فيض يدلّل بكل بساطة على أنّ التلقّي في العملية الروائية، أو السردية، أو التقنية بشكل عام، أصبح بيت القصيد، أو نقطة الانطلاق، أو خاتمة المطاف في الكتابة والسرد والقراءة، وأنّه لابدّ من الالتفات إليه والالتفات حوله إذا ما أردنا تقييماً شاملاً عادلاً لما يكتب لنا وما يُروى علينا. ومن هنا أولاه المحدثون من النقّاد عناية خاصة وصاغوا له، أو منه ما أصبح يعرف بنظرية التلقّي واستجابة القارئ. من نقّاد هذه النظرية هانس روبرت ياوس، وولف جانج إيزر، ديفد بلايش، ستانلي فشر. وارننغ، ت. تودوروف، ور.سي. هولب، س. جي اشميدت، وجي. جنيت، وهـ. جي بلتْ، ووّ. ستيرل، ويو. إكو، وغيرهم،. وهؤلاء جميعاً شغلوا أنفسهم بتشعّبات التلقّي والعلاقة العضوية بين المتلقّي ( أو القارئ) والنص، تلك العلاقة التي تتضمّن أسرار الراوي والرواية المودعة في النص.
وعند الحديث عن التلقّي كإشكالية حديثة تشكّل وجهاً من وجوه الحداثة وما بعد الحداثة، فإنّه يجدر بنا النظر إلى مسألة التلقّي في مثل خلّد نفسه على مرّ الزمن شرقاً وغرباً وهو ألف ليلة وليلة، أي في العلاقة بين المتلقّي شهريار، والراوي شهرزاد وحكاياتها النص الذي تبثّه عبر الزمن على مسمع من شهريار.(1/43)
كيف استطاعت شهرزاد سيدة القصص الأولى (والليدي مونوليزا الشرقية بكل جدارة) أن تسيطر على الموقف وتبدع نصّاً له إشكالية حديثة؟ إنّ التماس بين شهريار ونص الحكايات أدّى إلى تطويع الزمن الفيزيائي، أي أنّ الزمن لديها لم يعد وحدات منفصلة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ساعات وأيام وأشهر وسنوات، وما إلى ذلك من التقسيم الذي نعيش فيه ظاهراً والذي يهيمن على حياتنا فيجعلنا نرضخ لوقعه وإيقاعه وقدره المحتوم. فكما نعلم عاش شهريار ردحاً من الزمن وهو ينتظر انقضاء الليلة حتى يختمها بضحية، وظلّ الأمر على هذه الحال إلى أن جاءت شهرزاد واستطاعت أن توقف عقارب الساعة وتدخل مع شهريار في حسبة مختلفة للزمن لا يمكن ضبطها بالطريقة المعهودة لحساب الزمن، وأول تصدّع في بناء الزمن التقليدي نجده في العنوان الذي يخلو من التطابق بين عدد الحكايات وعدد الليالي، أي أنّ الحكاية الواحدة لا تبدأ مع بداية الليلة وتنتهي مع نهايتها.. استطاعت شهرزاد أن تجعل الزمن عند شهريار وعياً داخلياً لا قوة خارجية منفصلة يحين موعدها عند الغروب مثلاً، أو في منتصف الليل، أو قبل الشروق، أو ما شابه ذلك.(1/44)
استطاعت شهرزاد أن تخلق من شهريار متلقياً مشاركاً في نصّ الحكايات، وكأنّه أصبح لزاماً عليه أن يساهم في إبداعها وإعادة خلقها من جديد، كل ذلك من خلال تكوّن شعوري داخلي بالزمن لا مطابقة له مع الزمن الخارجي الذي كان يفرض نفسه عليه قبل سماع الحكايات. حالة شهريار الجمالية أصبحت أشبه بحالة الفنّان الذي يستمر في خلق الصورة الفنيّة دون أن يعرف سلفاً الصورة كاملة قبل أن تنتهي؛ لأنّه لو عرفها سلفاً لما وجد نفسه بحاجة إلى الاستمرار في خلقها، فهو من ناحية لا يمكنه أن يعرف الصورة التي يعمل على تكوينها قبل أن تكتمل، وهو من ناحية أخرى، لا يعرف زمناً محدّداً، أو معيناً يمكن التنبؤ به قبل أن تكتمل الصورة فعلاً، أي أنّ الفنّان يظلّ معلّقاً بزمن شعوري إلى حين اكتمال الصورة وما عليه إلا أن يستمر في الإبداع دون قيد زمني. هذا هو تصوّر الزمن عند بيرجسون: استمرارية شعورية متدفّقة يتحكّم بها وعينا بحالتنا الداخلية التي لا يمكن قياسها بساعة الحائط، ويضيف بيرجسون قائلاً إنّ ما نقوم به من عمل، يعتمد على ما نحن عليه من حالة شعورية.(1/45)
لابُدَّ أن شهريار أدرك وهو يستمع إلى الحكايات، أنّ الحقيقة ليست ثابتة ثبوت موعد اقتراب الليلة التي تنقضي بضحية، بل إنها متغيّرة تغيّر حالاتنا الشعورية من حكاية إلى حكاية، أي أنّ الوعي بالحقيقة ليس شيئاً جامداً، بل إنّه في حالة تغيّر مستمر حتى في داخل الشخص الواحد. ويقول بيرجسون إنّ الوجود عند الكيان الواعي هو التغيير، وأنّ التغيير يعني النضج، وأنّ النضج يعني الاستمرار في خلق الذات إلى مالا نهاية. وهكذا يدخل شهريار في ديمومة التغيّر التي تحيد به عن روتين البطش الجامد الذي كان ناقوسه يدقّ بعد انقضاء كل ليلة. أي أنّ حياته التي كانت موزّعة على وحدات من الليالي، أصبحت ليالي متداخلة أشبه بالفترة الزمنية (duration) التي شبّهها بيرجسون بكرة الثلج التي تتدحرج من عل، فما أن تهبط إلى الوادي حتى تكبر في حجمها بعد أن استمرت في التقاط الثلج عبر تدحرجها. والتشبيه هنا كناية عن تداخل الماضي بالحاضر، وعدم النظر إليهما كوحدتين زمنيتين منفصلتين، إذ يصبح الزمن في هذه الحالة وعياً حاضراً تذوب فيه حدود الزمن التقليدي.(1/46)
أهم حدث غيّر مجرى الحياة عند شهريار، هو تفعيل الذاكرة نتيجة التماس بينه وبين نصّ الحكايات. اعتاد شهريار قبل أن تدخل شهرزاد حياته أن يعيش فترات زمنية متطابقة بوعي واحد، ليلة بعد ليلة، ضحية بعد ضحية. يقول بيرجسون: إنّه لا للمرء أن يعيش فترتين زمنيتين متطابقتين بوعي واحد، أي أنّ الحدث، أو التجربة في فترة زمنية واحدة، لا تتكرّر نفسها ولا تعيد نفسها، ولو صحّت الفرضيّة: حدثان أو زمنان تطابقا في وقعهما على الوعي، لكان الوعي بهما واحداً، وفي هذه الحالة لا يكون للذاكرة مكانٌ في الوعي، أي أنّ الحياة تصبح وعياً دون ذاكرة. ومن الواضح إذن أنّ حكايات شهرزاد أيقظت الذاكرة عند شهريار، بل فعّلتها بطريقة جعلت حياته حدثاً أو إحساساً بحدث يتبعه ذاكرة، وأكثر من ذلك، أثرت حياته بأزمان مختلفة وأحداث متنوعة وإحساسات كثيرة وذكريات لا حصر لها –وكلها خرجت به من ظلمات الحدث أو الزمن الواحد الذي كان يكبّله في الماضي إلى نور الحياة الذي طلع عليه من تداخل الزمن الذي أصبح يتشكّل في وعيه واستمرارية هذا الزمن. ومثل هذا الوعي يصفه بيرجسون على أنّه متنوع الصفات، مستمر في تقدّمه إلى الأمام، متوحّد في الاتجاه.(5)(1/47)
ويقول بروست في معرض حديثه عن استرجاع الزمن أنّ هنالك فارقاً بين حالة وعينا في الحاضر، والذاكرة التي تسلّل من الخفاء إلى هذا الوعي، كالفارق بين ذاكرتين نسترجعهما لسنوات، أو أمكنة، أو ساعات مختلفة، إذ تصبح المقارنة بينهما مستحيلة حتى لو أردنا غير ذلك. ويمكن أن نقرأ تغيّر شهريار من هذا المنظور، فبعد أن فعّلت ذاكرتهن أصبح يرى الفارق واضحاً بين ذاكرة البطش في الماضي، وحالة وعيه الحاضر بذكريات السندباد الجميلة المتنوّعة مثلاً، وغيرها من الذكريات الأخرى الأخّاذة. باختصار، يتغيّر شهريار عندما يتحرّر من عبودية الحدث الواحد المتكرر كل ليلة. أصبح وعيه مسكوناً حاضراً بليالٍ وملامح متنوعة الأزمان والمشاعر ومستمرة في تعاقب تداخل حدوثها وذكرياتها.(1/48)
إنّ المشكلة الرئيسية التي كان شهريار يواجهها قبل تعرّضه لتأثير الحكايات، هي أنّ خياله كان يبدو معطّلاً، اللهمّ إلاّ من ذكرى الخيانة الزوجية التي لا تدخل طبعاً في سياق الخيال الإيجابي الذي يمكن أن يجلب البهجة والسرور إلى حياة الإنسان، إذ إنّ خياله بدأ عاجزاً عن استرجاع ذكرى جميلة في حياته الزوجية، أو أي ذكرى في حياته الماضية. ومن الطبيعي في هذه الحالة، أن يتعطّل وعيه بالحاضر الذي يمكن أن يعوّضه عن حدث الخيانة الزوجية، أو يصدّ استرجاعها مثلاً. يقول بروست في هذا الصدد: إنّه في كثير من الأحيان كان يصاب بخيبة الأمل في واقع الحياة التي يعيشها ويراقبها، خصوصاً وهو يرى أن خياله، وهو الأداة الوحيدة التي من خلالها كان بإمكانه أن يستمتع بالحياة ليس طوع إرادته؛ لأنّه بطبيعة الحال لا يأتيه إلاّ بما هو مفقود في واقعه، أي أنّه ليس من السهل علينا أن نطوّع خيالنا كأن يحضر إلى حاضرنا ماهو في ماضينا وقتما نشاء، وهذا ما يشكّل إحباطاً لابُدَّ أنّ الرومنتيكيين عانوا منه أكثر من غيرهم. لكن بروست يلاحظ أنّ الحاضر والوعي به يسدّ هذا الفراغ، إذ يلاحظ أنّ عدداً هائلاً من المشاعر والذكريات تتولّد من مجرّد الإحساس بالواقع، وأنّ الخيال يمكن أن يولد من الحاضر وفيه، وأنّه ليس قصراً على الماضي الذي يفصله الحاضر عنّا، والذي نرغب أحيانا في أن نعبره عن طريق الخيال الذي عاش الرومنتيكيون في ظلّه وتحت رحمته. يعتقد بروست أنّ خيالنا قادر على أن يفعّل أشياء كثيرة في وجودنا الحاضر من خلال الوصول إلى كنهها بواسطة الحواس. ويلاحظ بروست أنّ الحواس بمفردها غير قادرة على إيصالنا لجوهر الأشياء، وأنّ العقل بمفرده يعجز عن دراسة ماضي الأِشياء في جوهرها، وأنّه لا يستطيع أن يكوّن مستقبلاً متماسكاً يتعدّى شذرات من الماضي والحاضر تظلّ معزولة عن الواقع، ولا تناسب غير المنتفع الذي يرى فيها خطة مناسبة فقط لقصد إنساني محدود الأفق.(1/49)
وهكذا يمكن أن نصف حياة شهريار قبل شهرزاد بأنها محاصرة بثالوث زمني عقيم، وما خطّة الانتقام التي رسمها إلاّ شذرة تشكّلت من منطق عقيم جعلها تتحرّك عبر وحدات زمنية مغلقة، نفعية وهمية.
يرى بروست أنّه لابدّ من خلاص من مثل هذا الزمن المتردّي المقطّع الأوصال، عندما لا يسعف الخيال صاحبه دائما في نقل الماضي المبهج إلى الحاضر، وعندما لا يفي العقل إلاّ بنقل شرذمة من الماضي إلى الحاضر يوهم صاحبها أنّ فيها الخلاص، وعندما لا تقدر الحواس على غير ظاهر الأشياء تصويراً. الخلاص، كما يراه بروست هو في تفعيل الحالة الراهنة من الوعي بواسطة التفاعل بين الخيال والحواس، إذ تنطلق لحظة (duration) من عقال الزمن فتخرج من تسلسلها الفيزيائي بطريقة تلقائية، فتصبح محمّلة بالمشاعر المكثّفة، لا تعرف ماضياً، ولا حاضراً، كما أنها لا تعرف مستقبلاً بالتأكيد. يضرب بروست مثلاً على صوت ملعقة يتراءى إلى مسامعنا أثر رنينه فوق طبق، أو عبق نألفه يتسرّب إلى حاسّة الشمّ عندنا. هنا تتكوّن في وعينا تلقائياً حالة شعورية تمتدّ بين الماضي والحاضر، لكنها غير محصورة في زمن اللحظة الحاضرة على الرغم من أنّها تكوّنت في الزمن الحاضر، وهي بطبيعة تكوينها الجديد حاضر وليس ماضياً، والذي يحرّرها من بُعْدي الزمن التقليديين، هو الفجائية التي تجعلها تنفذ إلى جوهر البقاء الذي يبدو عادة مخفياً عنّا. ومع هذه اللحظة تنطلق ذاتنا الحقيقية التي كانت ولحين هذه اللحظة، تبدو ميتة من ناحية، إلى أن دبّت فيها الحياة من جديد، وكأنّها تلقّت الزّاد السماوي الذي أحضر لها من خارج الزمن.(6) ويمكننا القول هنا مقارنة مع نظرة بروست إلى الزمن أنّ شهريار يتغيّر في موقفه من البطش عندما يحيا في وعيه ما كان يبدو له ميتاً، وذلك من خلال تأثير الحكايات الذي يسمو به فوق أبعاد الزمن ويحمله على أجنحة اللحظة التي لا تعرف القيود.(1/50)
ويمكننا القول إنّ شهريار وقع في أسر شهرزاد عن طريق ما يسمّيه بروست "لعبة الزمن العظيمة"، أو ما يسمّى أحياناً بـ "صندوق اللعب الصينية السحري"، إذ تتداخل أزمنة الحكايات بعضها ببعض، مثل تداخل اللعب في الصندوق الصيني السحري. إنّ بداية شهرزاد للسرد يمثّل فجائية الزمن الذي لا يعرف زمناً، فعبارة "بلغني يا ملك الزمان" عبارة تُخرج شهريار من قمقم الزمن الذي يذكر محنته في يوم من الأيام. هذه العبارة التي تستخدمها شهرزاد نفسها، أو نيابة عن غيرها، تختلف في قيمتها عن تلك العبارات المشابهة في الحكاية الإطار، إذ إنّ يوماً من الأيام هنا، في الحكاية الإطار، هو بالنسبة لشهريار يوم مشؤوم تسبّب ما حدث له فيه بليال. فالزمن الذي يمتد بين ذلك اليوم والليالي التي أعقبته وكادت تستمر في تواليها، زمن يعرفه شهريار ويعرف كيف كان، وكيف سيكون، والفاصل بين الزمنين، وهو الزواج من عذراء كل ليلة لا قيمة له؛ لأنّه نتيجة لمقدّمة اليوم المشؤوم ومتبوع بليلة مشؤومة، وهو أشبه بما يسمّى في المأساة comic reflief لا يقدّم ولا يؤخّر فيما حصل ويحصل لشهريار.
هذه الحكاية الإطار التمهيدية، تبيّن لنا التصاق شهريار بزمن الخطيئة النكراء: (حكي) والله أعلم أنّه كان فيما مضى من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم له ولدان أحدهما كبير والآخر صغير وكانا بطلين وكان الكبير أفرس من الصغير وقد ملك البلاد وحكم بالعدل بين العباد وأحبّه أهل بلاده ومملكته وكان اسمه الملك شهريار وكان أخوه الصغير اسمه الملك شاه زمان وكان ملك سمرقند العجم، ولم يزل الأمر مستقيماً في بلادهما وكل واحد منهما في مملكته حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة وهم في غاية البسط والانشراح....(1/51)
تشرع شهرزاد في سرد حكاياتها، وتظلّ تسرد إلى الأبد، وشهريار يتلقّى الحكايات، وهي تنساب في اللازمن. وأول مظهر لتأثير الحكايات فيه هي أنها بانسيابها اللازمني تنسيه الزمن كما خبره وقاساه وحدّدته له حادثة الخيانة الزوجية. وفي اعتقادي أنّ الليلة التي تُضاف إلى الألف ماهي إلاّ إشارة إلى فتح بوابة الزمن على مصراعيها لتفضي بنا إلى اللامحدود. ولولا أنّ "كان ياما كان" تدخلنا في لا حدود زمني، لما ظلّت أداة فعّالة عبر تاريخ السرد من قديم السرد إلى رواية جويس صورة الفنّان في شبابه التي تبدأ بعبارة "كان ياما كان"، أو "يحكى في قديم الزمان". كذلك لابدّ لنا من وقفة عند ملك الزمان التي تفتتح شهرزاد بها السرد، إذ إنّ من الأهمية بمكان أن يتوهّم أو يقتنع شهريار بأنّه مسيطر على الزمن، وذلك من أجل أن يبطل مفعول توهمه أنّ الزمن هو الذي غدر به، وأنّه بعد الحادث أصبح يعتقد بأنّه مملوك للزمن، بعبارة موجزة يصبح شهريار آسراً ومأسوراً للزمن برضاه وقناعته.(1/52)
يقع شهريار إذن أسيراً في زمن يتوالد في حكايات متوالدة، وينسيه هذا التوالد زمنه القاتل وذاته المقتولة ويحيي فيه ذاتاً تبرز من فكّ الارتباط بين شهريار الحقيقي وشهريار الضمني الذي يصبح من أول ليلة شهريار المتضمن في الحكايات، وهكذا ينشأ التوازي بين شهريار الضمني، وشهرزاد الضمنية مثل التوازي بين شهريار الحقيقي وشهرزاد الحقيقية. هذا هو مثلاً شهريار صاحب الأزمنة التي يمثّل حاضراً متأزّماً مضى عليه ألف يوم ويوم: "وصار الملك شهريار كلّما يأخذ بنتاً يقتلها من ليلتها، ولم يزل على ذلك الحال مدّة ثلاث سنوات فضجّت الناس، وهربت ببناتها، ولم يبقَ في تلك المدينة بنت تقبل الزواج." أمّا شهرزاد الحقيقية، فهي التي تستحلف أبيها أن يزوّجها من الملك دون أن تكون متأكدة من أنها ستعيش، أو تكون فداء لبنات المسلمين، وسبباً لخلاصهنّ من طغيانه، وهي شهرزاد التي بكت عندما خلا بها الملك، وهي التي طلبت من الملك أن يأذن لها بإحضار أختها لتودعها، وهي التي اتّفقت مع أختها سلفاً على أن تطلب منها وهي في حضرة الملك أن تحدّثها حديثاً تقطع به سهر الليلة، وهي شهرزداد التي استأذنت الملك المهذّب –كما وصفته- بالحديث.(1/53)
من هذا يتبيّن لنا أنّ شهرزاد الحقيقية هي صاحبة الخطّة التي تهدف بادئ ذي بدء إلى إفشال خطة البطش عند شهريار، وهي شهرزاد التي تتطوّع لإنقاذ بنات جنسها، وهي شهرزاد التي ترث جوّ السرد، متوسّلة استدعاء أختها كمتلقية كي يصدّق الملك أنّ أختها هي المتلقية الحقيقية، وأنها –أختها، هي المستهدفة (traget) في تلقّي الحكايات وعملية سردها التي تقوم بها شهرزاد. إنّ شهرزاد الحقيقة، هي شهرزاد ما قبل البدء في عملية السرد. وفي دراسة بعنوان الرواية اليوم The Novel Today يعنون الناقد دراسته "عندما تستنفذ شهرزاد خططها، أو حبكاتها (وكلّها ترجمة كلمة plot التي تعني حبكة ومؤامرة في آن واحد) تبدأ بالسرد، فيحتار الملك ويصغي". ونقرأ هذا الفصل من الكتاب دون أن نجد ذكراً لشهرزاد، أو لشهريار، أو لألف ليلة وليلة. ومن الواضح أنّ الناقد يستخدم العنوان مجازاً يبيّن الفرق بين شهرزاد الحقيقية، ابنة الوزير، أخت دُنيازاد التي تتدبّر أمْرَ الأزمة، وبين شهرزاد الراوية، أو الضمنية التي تبدأ حياتها وحياة بنات جنسها عندما تلبّي طلب أختها في الحكي بناءً على موافقة الملك المهذّب، إذ تقول شهرزاد لأختها: "إنْ أذنَ لي هذا الملك المهذّب. فلّما سمع ذلك الكلام، وكان قلقاً فرحاً بسماع الحديث"، هذه هي الشرارة التي تشعل نار السرد بأكمله.(1/54)
ومن الأهمية بمكان، أن نتذكّر هنا أنّ يغيّر شهريار ليس خطّتها التي تمهّد بها السرد، بقدر ما هو السرد بذاته، إذ لا تنوي شهرزاد أن تحتال على الملك بقدر ما تريده أن يحتال على نفسه. تهدف شهرزاد أكثر ما تهدف، إلى أن يغيّر الملك ما بنفسه أولاً، حتى يتغيّر سلوكه الخارجي ويتوقّف عن البطش، وأول بادرة في نجاحها، أنها خلقت منه مصغياً حسناً اعتراه القلق والفرح معاً على أثر سماع القصص، أي أنّ شهريار أصبح على استعداد لأن يسمع غيره ومن غيره، وأن يكون متلقياً نجيباً ومشاركاً "مهذباً"، ولا بُدّ أن شهرزاد استعملت الكلمة في البداية بسخرية رائعة. وهنا تجدر الإشارة إلى صورتين شائعتين، لكنهما غير منصفتين لشهرزاد. الأولى صورة شهرزاد المحتالة التي تظهر بين الحين والآخر شعراً، أو نثراً كموتيف للغواية، أي أنّ شهرزاد قدرة هائلة من الغواية التي تشبه الخداع أحياناً. ويجتهد بعد المحدثين من الشعراء القصّاصين بالتركيز على هذه الصورة لشهرزاد، وخلق مناهض يفلت من الغواية ويقاومها، ونرى في هذه الحالة أنّ التشويه يلحق بشهريار نفسه. أمّا الصورة الثانية، فهي أقل سلبية وأكثر إيجابية، وهي الأكثر شيوعاً، إذ إنّها ترى في شهرزاد امرأة حكيمة استطاعت بحكمتها وعقلانيتها الأخلاقية أن تغيّر مليكها وكأنّ الحكايات في هذه الحالة أشبه بدرس وعظي أذعن له الملك، وفي دراسة مستنيرة يقدّمها سليمان العطّار يقول: إنّ شهرزاد مثل المرأة التي تصوّرها الحكايات تكون "قيمة العقل عندها راجحة والحكمة عميقة."(7).(1/55)
من الواضح أنّ حكايات ألف ليلة وليلة تتضمّن صورة الغواية الرائعة، وصورة الحكيمة الفذّة، ولكن الصورتين أقل قيمة من الصورة الشاملة، وأهم ما في الأمر، صورة شهرزاد الراوية التي يخلق صوتها الروائي عالماً يتوالد فيه الزمن والحدث ليصبح عالم شهريار الجديد. فالحكايات هي ضمنياً حكايات شهريار، يرى فيها نفسه، وغيره يقلق ويفرح معاً، وفي جميع الحالات يشارك رغبة تلقائية، هي رغبة الراوي إذا روى، ورغبة المتلقّي إذا تلقّى، ومن هنا تنشأ الوحدة العضوية بين المتلقّي الضمني، والنصّ والتي شغلت وما زالت تشغل المهتمّين بفنّ الرواية. هذا هو أكبر إنجاز حقّقته شهرزاد. ونظراً لقيمته الفنية، فهو ما زال مدار بحث ونقاش يكتشف فيه أصحاب النقد والنظرية أبعاداً في الحداثة وما بعد الحداثة (كثيراً ما يغطّي عليها الولع التقليدي بالسرد دون تخطّي البنية السطحية للسرد).
إنّ المشكلة الرئيسية التي تواجهها شهرزاد، وهي تغامر في البحث عن الخلاص، ليست البحث عن حكايات شائقة تخرج الملك من سأمه وتحوّله عن هدفه فقط، وهي أيضاً ليست القدرة على السرد، وهي كذلك ليست البحث عن الحكمة والموعظة الحسنة تقدّمها "المرأة المعلّمة والمحاربة معاً، شهرزاد"، كما يلاحظ سليمان العطّار بل إنّ المشكلة الرئيسية، هي خلق شهريار ضمني في هذه الحكايات يصبح معها هذا الشهريار وكأنّه راويها.(8) هذا هو التكافؤ الذي تسعى إليه شهرزاد، هو تكافؤ الأدوار بين المتلقّي الضمني والراوي الضمني، وهو تكافؤ يفوق مثلاً مجرّد المساواة بين الرجل والمرأة، كما في حالة تنكّر الأميرة بُدور بزي زوجها قمر الزمان.
تواجه شهرزاد الراوية إشكالية مركّبة. فالعلاقة أصلاً بين الراوي الضمني، والمتلقّي الضمني لا تكون بريئة بطبيعة الحال. وهذه إشكالية عامّة يتميّز بها السرد عادة. وخير تقييم لهذه العلاقة تعليق بيتر بروكس في دراسة متميّزة بعنوان "الحكاية في اتجاه معاكس للرواية".(1/56)
إنّ قوة السرد من النوع الذي يثير نقاشاً تأويلياً لدى متلقيه، أو تحوّلاً جذرياً في حياة بأسرها. ولا يكون السرد عملية بريئة بأي حالة من الأحوال، والحكاية التي تكون إطاراً لغيرها تسمح للراوي الحقيقي أن يمسرح نتائج السرد. وهذا بلا شكّ يعطي المتلقّي إشارة تفيد بأنّ الحكاية المسموعة يمكنها، بل وينبغي عليها أن تخلق ردّة فعل عنده، أي أنّ الأدب لا يكون إلاّ تتابعياً."(9)
ويوضّح بروكس هذا الأمر بالرجوع إلى حكايات الكاميرون المشهورة، وإلى موروث أدبي كامل يلحّ علينا بأنّ الحكي يتضمّن سرداً يمسرح الموقف، إذ تلتقي مجموعة من الناس لا تجد بدّاً من تبادل الحكايات. وهذا ما يحدث أيضاً بالنسبة لموروث البيكارو، إذ يحتّم السفرُ على الطرق النائية لقاءَ أناس جدد يكتسبون صفة الشخصيات الروائية بمجرّد أنّه يتحتّم عليه تبادل حكايات يروونها فيما بينهم.
وفي معرض التوضيح هذا، يعلّق بروكس على ألف ليلة وليلة وكأنّه يرى فيها إشكالية خاصة تفوق الإشكالية العامة، فيقول:
"وفي الختام، فإننا نكاد نضلّ الطريق في متابعة حكايات ألف ليلة وليلة ونحن نتابع مستويات السرد في حكايات تتوالد، ثم تتداخل وتتوالد ثم تتداخل وهكذا.. لتعطينا انطباعاً أنّ هنالك إمكانية لتراجع لا نهاية له، يكون السرد فيه ليس شافياً فقط [كما هي العادة في جماليات السرد عامة], بل يكون شافياً لسلطان عصابي قاتل تثيره خيانة زوجته، إذ ينتهي السرد بزواج سعيد بين السلطان وشهرزاد، وهكذا تنجو البلد برمّتها من خلل خطير أصابها. إنّ شهرزاد، تعلم جيداً أنّ السرد لا يكون بريئاً، وأنّ سرد حكاية يكون قادراً على تغيير حياة بأسرها."(10)(1/57)
ويرى بروكس، أنّ ما يحتاج إلى توضيح، أو إلى استكشاف، هو ما تبقى من موروث شفهي من الثقافة الأدبية في القرن التاسع عشر في نصوص خارج نطاق الفانتاسيا وقصص الأطفال التي عرفت في دائرة الرواة. ويتساءل بروكس عمّا إذا كنّا نواجه ببقايا اندثرت في مهدها من الرواية الشفهية، أم إننا نجد تعويضاً فيما يؤكده باحثون من تصوّر للخطاب القصصي على أنّه مكان تلتقي فيه الأصوات السردية المتباينة. ويختم تعليقه على هذا الموضوع بالقول: إنّ الخيار المتبقّي هو الحديث عن نوع من الحنين إلى موقف توصيلي لا يمكن لكاتب الرواية في عصرنا أن يخبره. ويريد بروكس أن يخلص إلى القول إنّ الحميمية التي كانت تميّز السرد الشفهي لم تعد متوافرة في العصر الحاضر، تلك الحميمية التي كانت تخلق موقفاً حياً من التواصل والتبادل بين الراوي والمروي له، بين المبدع والمجهول.(11)
قضية الحميمية هذه، هي حجر الزاوية في الإشكالية الخاصة التي تميّز التلقّي في ألف ليلة وليلة عن بقية الأمثلة المشابهة، أو المتشابهة في أدب السرد الشفهي. فالعلاقة الحميمة بين الراوي والمروي عليه تنشأ من مجرّد التماس بين الراوي وجمهوره، وهي في أحيان كثيرة حميمية تبعث على الدهشة خصوصاً كحكاية الحكواتي الذي رجع إلى بيته بعد أن فرغ من حكايته، وإذا باثنين من بين الجمهور الذي سمع الحكاية يطرق باب الحكواتي ومعهما مبلغ من المال جمعه الجمهور فدية للبطل الذي أودعه الحكواتي السجن!(1/58)
يكوّن التلقّي إشكالية خاصة في ألف ليلة وليلة؛ لأنّه لا يبدأ بالحميمية التي يبدأ السرد الشفهي بها سواء كان الراوي على معرفة بالجمهور المتلقّي أم كان غريباً عنه، المهم أنّ قرب الجمهور المتلقّي مكاناً وزماناً (هنا زمن السرد) هو الذي يؤسّس الحميمية بتلقائية طبيعية. ومن الواضح أنّ مهمة شهرزاد في السرد لها إشكاليتها الخاصة منذ البداية؛ لأنّ السرد بادئ ذي بدء موجّه إلى خصم يحتاج إلى مداراة ومسايسة وتمهيد، كي ينكسر حاجز الشكّ أولاً قبل بناء الثقة. وفي العادة يكون متلهفاً لسماع السرد من الراوي، ويقبل عليه بنيّة حسنة، وهو يتوقّع سلفاً أنّ في السرد الذي يتلهّف لسماعه شيئاً ما يمتّعه، أو يطربه، أو يغيّره، وما على الراوي إلاّ أن يروي ليتلقّف المستمع روايته. أمّا أن يبدأ في جوّ مشحون بالحقد والكراهية والظلم والرعب الذي حلّ بأهل البلد على يد شهريار، فهذا أمر لا يقدر عليه إلاّ من أوتي موهبة البداية مثل شهرزاد. تبدأ الليلة الأولى بقول شهرزاد: "زعموا أيها الملك السعيد وصاحب الرأي الرشيد.."، أمّا الليلة الثانية، فتبدؤها شهرزاد بالقول: "زعموا أيها الملك السعيد صاحب الرأي السديد..."، وتبدأ الليلة الخامسة "بلغني أيها الملك العزيز..."، وتتوالى البدايات هكذا زيادة طفيفة، أو نقصاناً لا يزيد ولا يُنقص من البداية كالذي نلحظه مؤطراً في عدد من الليالي التي تستهلها شهرزاد بقولها: "بلغني أيها الملك السعيد، الموقف الرشيد، صاحب الرأي السديد والفعل الجميل الحميد".(1/59)
الكلمة الأولى في البداية هي بيت القصيد، إذ إنها تؤسس المسافة بين الراوي والمروي عليه، وتبعد شهرزاد الحقيقة عن شهريار الحقيقي، ممّا يؤهّلها لأن تقدّم هوية شهرزاد الراوي الضمني لتخلق بدورها شهريار المتلقّي الضمني، وهذا ما يفكّ الارتباط بين شهريار القاتل، وشهريار المتلقّي الضمني. وأول مهمّات السرد هنا بل وأصعبها هو فكّ مثل هذا الارتباط، إذ لا يمكن أن يكون للسرد تأثير في قاتل دون أن يتحول عن موقف القتل هذا. فشهريار ليس كبقية الخلق من جمهور المتلقّين الذي يستقبلون الحكي بقلب مفتوح وحميمية بريئة يَفْقِدُ المتلقّي براءته عادة تدريجياً مع سماع السرد. فشهريار القاتل لا يتمتّع بأدنى درجات البراءة. وهنا تكمن الإشكالية، فشهرزاد تروي للقاتل المقتول.(1/60)
وأبرز المفارقات في أمر التواصل بين الراوي والمروي عليه في ألف ليلة وليلة هي أنّ الميّزة التي يتمتّع بها السرد في الحكاية المحكيّة نتيجة القرب المكاني والزماني، والتي من شأنها عادةً توثيق الأولى إلغاء الوضع الذي وجدت شهريار عليه، نظراً للحاجة الماسّة إلى تبديله. من هنا تبرز أهمية الكلمة الأولى في افتتاحية شهرزاد التي تدعوه بأدب جمّ أن يخرج من الزمن والحدث اللذين كبّلاه طيلة المدة، وأن يدخل مدخل صدق في زمن وحدث جديدين هما في واقع الأمر أزمنة وأحداث متنوّعة غير محدودة تتوالى في الحكايات المختلفة، تتعدّى في آفاقها أفق الزمن والحدث القاتلين حدّيهما ومحدوديتهما. وحياديّة هذه الأزمنة والأحداث يكوّن مصدر جذب أساسي يُدخل شهريار في دائرة السحر. وهكذا يؤتي الحكي ثماره، ويصبح شهريار قادراً على التمتّع بأهم ميّزة السرد وهي التأمل، وأكثر من ذلك، فإنّ حكايات شهرزاد ليست من النوع الذي هو للاستهلاك، إذ إنها تعلّق انتباه شهريار إلى ما لا نهاية، وهي تنساب في زمن اللانهاية، وتقدّم له النصّ ليكتشفه هو بنفسه، وتَمْثُل أمامه شخصيات الحكايات، وهي تنبض بالحياة ليحاكيها ويتأمّلها بوعي جديد يستبدل شبح الموت بصورة الحياة.(1/61)
إشكاليّة التلقّي في ألف ليلة وليلة إذن هي أنّ السرد لا يبدأ من الصفر، ولا ببراءة المتلقّي المعهودة، بل بفكّ الارتباط بين شهريار وذاته وزمانه أولاً، يتلوه ارتباط، أو ما يعرّفه رولان بارت في حديثه عن فن الرواية الحديثة بالتعاقد بين الراوي والمروي عليه، بين الكاتب والقارئ. ويقترح وولتر بنجامين (الناقد الذي يتمنّى على تقنية الرواية الحديثة أن تعود في حميميتها إلى ما كانت تقدّمه الحكاية قديماً" وصفاً لهذا التعاقد، يتبنّاه بحماس بيتر بروكس، فيقول: "إنّ فكرة الحكي هي موهبة، وهي فعل يدلّ على السخاء ينبغي على المتلقّي أن يستجيب له بسخاء مماثل، فإمّا أن يروي قصّة أخرى (كما هي الحال في حكايات ديكاميرون وموروثها)، وإمّا أن يعلّق على القصّة المحكيّة. وفي جميع الأحوال، يكون الحكي برهاناً على أنّ هذه الموهبة قد استقبلت [بحفاوة من قِبَل المتلقّي]، وأنّ الحكي قد أحدث تغييراً."(12)
ونظراً لأنّ الارتباط بين الراوي والمروي عليه في ألف ليلة وليلة ذا إشكالية خاصّة، فإنّه من الطبيعي أن يكتفي شهريار بالاعتراف بموهبة، شهرزاد، وأن يظلّ أغلب الوقت صاغياً حتى النهاية كدليل صامت على تحوّله وتغيّره، بل واستجابة لهذه الموهبة.(1/62)
هذه الإشكالية الخاصة، هي التي أمدّت في عمر ألف ليلة وليلة وجعلتها تتميّز عن سائر الحكايات الأخرى في نطاق موروث الحكاية العالمي الذي أصبح سجلاً في تاريخ الحكاية أكثر منه أنموذجاً في تقنيتها، إذ إنّ ألف ليلة وليلة تتضمّن ميّزات الحكاية التي استُثْمرت في تقنيات الرواية، وأهمّها كما أشرنا أعلاه الراوي الضمني، والمتلقّي الضمني، أو ما يشير إليه حازم شحاته في حكايات الطيور قناع الراوي ومرآة المروي عليه. وهنا يبلغ نجاح شهرزاد أقصاه عندما طلب شهريار منها أن تحدّثه حتى يسمع حكاياتها. فتروي شهرزاد وتروي وتظل تروي ونصغي ونصغي، ونظل نصغي، وفي الختام تعيش شهرزاد وتسقط الجناية، وفي الختام يحيا الراوي على مرّ الزمن ويسقط الجاني في هوّة الزمن.
((
( الهوامش:
(1)نجيب محفوظ، "الأدب، الحرية، الثورة"، مقابلة أجراها سمير الصائغ، مواقف، العدد الأول (1968)، ص77.
(2)سمر روحي الفيصل، تجربة الرواية السورية: دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1985، ص19.
(3)Tonny Bennett, “Text and History in Re-Reading English, ed., London 1982, p.223.
(4)Ibid.
(5)Hinri Bergson, “Duration” in The Modern Tradition: Backgrounds of Modern Literature, Richard Ell-man, Fieldman, eds., New York, 1965, p.728.
(6)المرجع نفسه، ص278.
(7) سليمان العطار "شهرزاد امرأة الليالي العربية فصول، شتاء 1994، ص170.
(8) يقول حازم شحاته في دراسته القيّمة عن ألف ليلة وليلة "لا تنجح الحكاية –العبرة إلاّ إذا أصبحت مرآة، أجاد الراوي صنعها لتعكس ذاته وليرى فيها المروي عليه نفسه فتصبح جسراً يلتقيان عبره، فصول، ربيع 1994، ص68. وبما نجد لزاماً علينا أن نضيف كلمة الفنية بعد ذاته لتصبح ذاته الفنية أو القارئ الضمني ويقصد بها جميعاً الراوي الضمني.
(9)Peter Brooks, “The Tale Versus The Novel” Novel, P.21, (Winter/Spring 1988) pp.290-91.
((1/63)
10)المرجع نفسه، ص288.
(11) المرجع نفسه، ص290-291.
(12) المرجع نفسه، ص291.
(((
عودة الروح... آمال عظام
هذه الرواية مزيجٌ من عناصر مختلفة استطاع توفيق الحكيم بموهبته الفنيّة أن يجانس بينها قدر المستطاع.
العنصر الأول طموحه الفني الذي وضع نصب عينيه تقديم هذا الجنس الأدبي في الأدب العربي، فقد كتب توفق الحكيم عودة الروح وهو يقول لنفسه لماذا لا يكون لنا رواية في أدبنا وتراثنا وحضارتنا ليكون لأدبنا مكانة بين الآداب العالمية، وربمّا يكون هذا الدافع هو الذي قامت عليه عودة الروح، بادئ ذي بدء.
العنصر الثاني تعلّق توفيق الحكيم بالمسرحية، وهي حبّه الأول وباكورة نشاطه الأدبي وقصته مع فرقة عكاشة في محاولاته الأولى، واستمر هذا الحب ينمو، إلى أن ازدهر، وظلَّ يشغله طيلة حياته. وكان لابُدَّ من هذا الانشغال بالمسرحية أن يؤثر تأثيراً مباشراً في مشروع كتابة الرواية. وهكذا خضعت عودة الروح إلى ذهنية المسرحية التي سيطرت عليه في جميع كتاباته وحدَّت من انطلاقها في عالم الرواية الرحب.
أمّا العنصر الثالث، فيتعلّق باطلاع توفيق الحكيم الواسع على الأدب الغربي من فرنسي وإنجليزي، خصوصاً في حقلي الرواية والمسرحية، ومن الصعب حصر الذين أثروا فيه من الأدباء الغربيين، ولكنّي أعتقد أن تأثير ديكنز عليه كان أكثر من غيره أمثال جويس وبالزاك.(1/64)
كيف نقرأ عودة الروح في خضمّ هذه التأثيرات؟ لعلَّ أهم ما يدفعنا لقراءة هذه الرواية، حتى بعد أن حقّقت كلَّ هذه الشهرة في الأدب العالمي، هي قيمتها الريادية. فالعمل الريادي يظلّ محتفظاً بقيمته على مرّ الزمن؛ لأنّه يحتفظ بحقّه في الظهور في فترة زمنية معينة لا تشهد منافسات، تجعله يقارن معها ليقف دونها أو حتى على صعيد مماثل لها. فمَنْ منّا لا يعجب بالحكيم عندما يتذكّر أنّه كتب رواية في زمن شحّت فيه المحاولات المماثلة في العربية لتأخذ بيده أو لتشجّعه على الأقل على كتابة هذا الجنس الأدبي؟ ومَنْ مِنَّا يستطيع أن ينكر على الحكيم مبادرته هذه عندما يعلم مقدار ما يمكن أن يكون للأنموذج من تأثير على الخَلَف، خصوصاً عندما لا يتوافَر لدى الخلف إلاّ القليل في جعبة السلف في هذا الميدان! نقرأ عودة الروح إذن ليس على أنّها في مصاف الروايات العالميّة مثل روايات ديكنز أو دوستوفسكي الذي يذكره محسن في سياق الرواية، بل لأنّها عملٌ ريادي كان لابُدَّ من كاتب شجاع مثل توفيق الحكيم أن يقوم به ليؤسّس منه أنموذجاً في هذا الجنس الأدبي الذي لابُدَّ أن يلحق الكتّاب العرب به بعد أن قطع شوطاً طويلاً في الغرب من خلال إنجازات ما زالت حيّة في الأذهان.
ما الذي جعل الحكيم يقدم على هذه التجربة، بل وكيف أقدم عليها؟ الإجابة عن هذا السؤال في رأيي تنوّرنا بوضع الرواية عند قراءتها بل ويجعلنا نضع هذه الرواية في منظور لا يتقيّد نقدياً –على الأقل- بمنظور التقنية الفنية التي يجب توافرها في الرواية من أجل أن ينسحب عليها تعريف الرواية الذي يتطلّب إدخالها عادة بطريقة أو بأخرى في منظومة الرواية العالمية.(1/65)
عندما أُتيحت الفرصة للحكيم لتشرّب حضارة الغرب، أيقن أنّه لابُدَّ من أن يدخل هذا الجنس الأدبي الذي يعرف بالرواية إلى أدبنا العربي لما له من أهمية كبرى في الأدب عامة. ومن الواضح أنّ اطلاع الحكيم على الرواية الغربية، أيقظ فيه نوعاً من الغيرة الثقافية، إنْ صحّ التعبير، وجعله يؤمن أنّه لابُدَّ من أن يكون في العربية رواية بالمعنى العالمي للرواية، إذ لا يمكن للدراسات الفقهية التي تسود العربية مهما بلغت في التفوّق أن تعوّض عن هذا الجنس الأدبي المميّز، وحتى التفوّق في الإنتاج الشعري لا يغني عن الرواية التي أصبحت منذ ازدهارها في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر جنساً مميّزاً يعبر عن حضارة أمّة وثقافتها.
كتب توفيق الحكيم هذه الرواية وفي ذهنه العديد من الروايات العالمية التي واظب على قراءتها عندما كان طالباً في فرنسا. ومن المعروف أنّ عقد العشرينيات من هذا القرن كان من أخصب العقود في الأدب الأوروبي، إذ كانت فترة تلت حرباً عالمية انقضت وتمنّى الكتّاب والفنّانون بعدها ألاّ تتكرّر المأساة، وما عليهم إلاّ الانصراف إلى داخل أسوار الفرد واستقصاء أسراره الداخلية والكشف عن مكنون النفس البشرية بعيداً عن ظروف الحرب الخارجية وويلاتها التي ألحقت الضرر بالملايين. وكانت فترة العشرينيات مقارنة بما قبلها وما بعدها فترة استرخاء وتنفّس الصعداء، ولسبب أ و لآخر، ازدهر الأدب في هذه الفترة بشكل لا مثيل له في تاريخ الأدب الغربي. فهذا هو بروست مثلاً الذي قرأه توفيق الحكيم من جملة ما قرأ يكتب تحفته الروائية أشياء للذاكرة (Things to Remember) التي تتكوّن من أحد عشر مجلّداً، وهذا جويس أيضاً يقدّم لنا ملحمة القرن العشرين الروائية. وقد كتبت فرجينيا وولف أهم أعمالها الروائية في العشرينات. وهكذا كانت حقبة العشرينيات زمناً أبدع فيه الكثير من الروائيين الأوروبيين.(1/66)
كان توفيق الحكيم عندما شرع في كتابة عودة الروح عام 1927 محظوظاً بالاطلاع على ازدهار فن الرواية في باريس التي كانت تتبوأ مكان الصدارة في الثقافة بين العواصم الأوروبية. ولكن السؤال الذي يبرز هنا، هو إلى أي مدى يمكن للاتصال الحضاري هذا أن يترك بصماته على الكاتب؟ هل تستطيع الموهبة الفردية التي تمتّع بها توفيق الحكيم أن توتي ثمارها من خلال هذا الاتصال بالفن الروائي الغربي الذي كان يقطع الشوط الأكبر في هذا الميدان بعد أنجز الكثير فيه سابقاً وبخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟
وليس من قبيل التعميم أن نقول إنّ الموهبة الفنية أكثر ما تحتاج عندما تنطلق في مجال الإبداع الروائي إلى خلفية محليّة. وتظلّ الخلفية الحضارية العالمية رافداً ومعيناً لموهبة الروائي الفردية ومحليتها. فعلى سبيل المثال عندما كتب ديكنز الرواية، كان تأثير دوستوفسكي فيه، وكذلك عدد آخر من الروائيين الروس واضحاً، لكنه صاغ فنّه الروائي من محلية إنجليزية سواء ما اتّصل بها من واقع، أو فن سابق في الرواية الإنجليزية. وينسحب هذا على العديد من مشاهير الروائيين. وفي حالة توفيق الحكيم، فقد كان لسيطرة الفقه والبلاغة والمقالة ولغتها على المشهد الأدبي تأثيراً سلبيّاً، إذ إنّه لا يمكن أن يساعد الحكيم في شيء نحو الانطلاق بالرواية. إنّ الرواية أي رواية تحتاج بادئ ذي بدء إلى لغة روائية لها مميّزات تختلف عن لغة النثر الفني أو العادي سواء ما اتّصل منها بالوصف أو الحوار(1). فاللغة الروائية هي العمود الفقري الذي تقوم عليه الشخصية وتنهض من سياقها على يد الراوي. يقول فتجنشتاين أن حدود عالمه هي حدود لغته.(1/67)
كتب توفيق الحكيم عودة الروح وهو لا يجد مرتكزاً محلياً يرتكز عليه، وقبل البحث في التفاصيل، أودُّ أن أقول إنّ توفيق الحكيم لم يجد بُداً من الارتكاز على مصرية مصر في الفرعونية واللغة العامية كبقايا خلفية محلية لا مناص من البحث عنها والتشبث بأهدابها. فعندما كتب ديكنز الآمال العظام وقبلها ديفد كوبرفيللد كانت اللغة الروائية جاهزة بالنسبة له، وأكثر من ذلك، فقد كانت الرواية كجنس أدبي معترف بها، وعلى الرغم من أنّ روّاد القرن الثامن عشر أمثال فيلدنجز وريتشاردز لم يكتبا رواية بالمعنى المتعارف عليه للرواية، إلاّ أنّ أعمالهما الروائية أشاعت الثقة في روائيي القرن التاسع عشر أمثال ديكنز. أليست هذه العجالة تبريراً لصعوبة الموقف الذي كان يواجه توفيق الحكيم؟
إنّ الركيزة الأساسية التي اتخذها توفيق الحكيم منطلقاً له في عودة الروح هي المسرحية وتقنيتها، إذ إنّه كتب الرواية وفي ذهنه المسرحية وليس العكس، وأعتقد أنّ تفوّق الحكيم في المسرحية كان عاملاً مشجعاً على كتابة الرواية. وكان يدرك مدى أهمية الرواية كجنس أدبي وضرورة تقديمها في الأدب العربي، وفي الوقت ذاته كان مسلّحاً بتقنية المسرحية. ولا ريب في ذلك، فالرواية جنس أدبي منفتح على مختلف التقنيات في الأجناس الأدبية الأخرى. ونحن نعلم مثلاً أنّ الروائي الإنجليزي هنري فيلدنجز الذي يُعَدُّ الرائد الأول في الرواية الإنجليزية، كتب روايته تحت عنوان ملهاة بصورة ملحمة تكتب بالنثر، أي أنّه استعار الملحمة كجنس أدبي يكتب من خلاله رواية، وذلك بسبب غياب الرواية كجنس أدبي عن الأدب الإنجليزي آنذاك، وفي توفّر الملحمة كجنس أدبي رأى فيلدنجز الاستعانة به كأقرب تقنية يمكن التشبث بها لإخراج الروائية إلى حيّز الوجود، وهكذا فعل توفيق الحكيم الذي لم يجد أمامه من سبيل إلاّ أن يخرج عودة الروح في تقنية مسرحية ما تستطيع أن تناله.(1/68)
أقصر طريق روائي عثر عليها توفق الحكيم لهذا الغرض هي تقنية المسرحية الكلاسيكية الحديثة وهو ما يعرف بين كتّاب فرنسا وإنجلترا Neo-classicism والذي يرتكز على الثالوث المكوّن من وحدة الحدث ووحدة الزمان ووحدة المكان وأنموذجه بالإنجليزية مسرحية درايدن في القرن الثامن عشر وعنوانها كل شيء في سبيل الحب All for love تلك المسرحية التي أعادت إلى الأذهان مسرحية شكسبير أنطونيو وكليوبترا، فبدلاً من التشعبات والتفاصيل التي استخدمها شكسبير في إخراج المسرحية، قدّم لنا درايدن عملاق المسرحية الكلاسيكية الجديدة في القرن الثامن عشر مسرحية شكسبير بوحدة ثالوثية تتكوّن من وحدة الحدث وهو الحب بين أنطونيو وكليوبترا بدلاً من الحوادث الأخرى الكثيرة، ووحدة المكان الإسكندرية بدلاً من روما والإسكندرية، ووحدة الزمان وهو الوقت الذي وصل الغرام فيه بين كليوبترا وأنطونيو قمته، في آخر أيّامه.
هذا ما فعله توفيق الحكيم الذي آثر أن يختار لروايته وحدة للحدث، وهي التنافسس على حب سنيه بين محسن ومصطفى مثل التنافس على حب كليوبترا بين أنطونيو وقيصر، واختيار مقهى العم شحاته وبيت الدكتور حلمي كوحدة للمكان في الرواية مثل اختيار الإسكندرية، ووحدة للزمن وهي ثورة 1919 على الرغم من أنّ هذه الوحدة الزمنية لم تبرز إلاّ في الفصل الأخير من الرواية والتي هي أشبه في المسرحية الإغريقية بما يعرف باللاتينية deus ex machina، أو بالفرنسية tour de force.(1/69)
وزيادة على ثلاثية الوحدة هذه، فقد كتبت الرواية بتقنية المسرحية الكلاسيكية المعروفة، وكأنّ الرواية أعدّت لتمثّل على المسرح. فعندما يظهر محسن على مسرح الحدث يختفي الجميع تقريباً ليأخذ دوره الرئيس في الرواية، وعندما يغيب محسن عن خشبة المسرح ويسافر إلى دمنهور لمدة أسبوع في زيارة إلى والديه، يظهر مصطفى على المسرح، ممّا يؤدّي إلى ضرورة ظهور زنوبة التي تعقد الحدث بالطريقة الكلاسيكية، وهي سوء الفهم، ويحدث ما يحدث من تعقيد للحدث في غياب محسن. وعندما يرجع محسن وقد تعقّدت الأمور في غيابه، ينشط دور مصطفى الذي يظهر على مسرح الأحداث على حساب دور محسن الذي يتقزّم نتيجة لذلك، وينشط دور زنوبة أيضاً ليزيد الحدث تعقيداً ودور محسن تقزيماً خصوصاً عندما يلحق مصطفى سنيه إلى عيادة الأسنان ويسلّمها رسالة يعرض فيها رغبته في الزواج منها.
باختصار كل ما يحدث في الرواية من حدث هو مسرحي في ظاهره وباطنه، ولا تحتاج الرواية إلى جهد كبير لتحويلها إلى مسرحية، بل. لو تحوّلت إلى مسرحية فربما تكون عملاً مسرحيّاً ناجحاً.
ومهما يقال حول الخلفية المسرحية لعودة الروح، وأنّها تستعير في بنائها من المسرحية أكثر مما تستعيره من أي جنس أدبي، ومسرحة الحدث فيها، فإنّ هذا لن يدعنا ننسى أنّ توفيق الحكيم كتب هذا العمل وفي حسابه أن يكون عملاً روائياً، ولابُدّ عند النظر إليه أن نتفحّص خصائصه الروائية مهما اختلطت بالعناصر المسرحية التي لا بد أنها كانت في العقل الباطني للكاتب آنذاك.
* * * *
من الإشارات التي تنير الطريق إلى عودة الروح عند قراءتها رسالة كتبها الدكتور علي مصطفى مشرفة إلى توفيق الحكيم في 19 فبراير عام 1934 وهذا نصّها:
"عزيزي الأستاذ توفيق الحكيم(1/70)
أذكر أنني عقب عودتي من إنجلترا أول مرّة –بعد غيبة نحو ست سنين عن مصر- كنت أتحدث إلى سيدة إنجليزية فدار الحديث حول تشارلس دكنز وما لهذا المؤلف العظيم من المقدرة على تخليد شخصيات الطبقات المتوسطة في عصره، قالت ألا يوجد بينكم كاتب يصوّر الحياة المصرية ويبرز ما فيها من الشخصيات التي تمثّل الشعب المصري في عصرنا الحالي على نحو ما فعله دكنز في عصر الملكة فكتوريا؟ قلت أخشى يا سيدتي إننا فقراء من هذه الناحية، ولكن لعلّ المؤلف الذي تطلبينه قد ولد أو لعلّه يوشك أن يولد. قالت إنّ على مؤلفك المنتظر أن يسارع وإلاّ انقرض أشخاص رواياته كلهم أو جلّهم قبل أن يدركهم بقلمه. قلت لندع السماء معاً أن تظهره بأعجوبة. وبالأمس وأنا أقرأ كتاب "عودة الروح" عاودتني ذكرى هذا الحديث –وقد مضى عليه ما يقرب من عشر سنين- فساءلت نفسي جديّاً هل استجيب الدعاء؟ هل صار سليم وصارت زنوبة وصار مبروك شخصيات قومية خالدة مثل مكوبر ومسز أرس، سام فلر؟ شيء واحد يستطيع أن يجيب على هذا السؤال بصفة قاطعة: هو الزمن، أمّا أنا فأكتفي بأن أثير السؤال.."(2).
والسؤال الذي يبرز عند قراءة الرسالة أو عند قراءة الرواية والرسالة معاً، هو ما إذا كان ديكنز في ذهن توفيق الحكيم عندما كانت عودة الروح في طور التكوين.(1/71)
يبدو أن توفيق الحكيم كان على وعي بديكنز وأنموذج الترجمة (السيرة) الذاتية التي كتب بها دينكز. وفي معرض الحديث عن هذا الموضوع، وجه فؤاد دواره سؤالاً إلى توفيق الحكيم حول إمكانية اعتباره عودة الروح وعصفور من الشرق وبعض كتاباته الأخرى تراجم ذاتية. أجاب توفيق الحكيم: "الواقع أنّ سؤالك هذا مشكلة أدبية قديمة، فحيثما يوجد أدب تصويري للعواطف والمشاعر، يصبح من الصعب أن تفصل ما هو ترجمة ذاتية عمّا هو عمل فني موضوعي خارج عن ذات الفنان. فمثلاً إلى أي مدى يمكن أن تسمى بعض روايات دستويفسكي تراجم ذاتية، مثل "المقامر" و"رسائل من بيت الموتى" وغيرهما ممّا نعرف تماماً مطابقة بعض وقائعها لوقائع حياة المؤلف؟.. وهناك أمثلة كثيرة لذلك.. (ديكنز) مثلاً وما نعرفه عن طفولته ثمّ ما ظهر في رواياته متّصلاً بهذه الوقائع..
الواقع أنّ القصاص أو صاحب العمل الفني الذي يصوّر فيه جانباً من حياة الناس والأشخاص، لا يعطينا ترجمة ذاتية حقيقية حتى وإن تطابقت الوقائع والشخصيات والطباع مع ما نعرفه عنه وعمّن حوله، وهو في نفس الوقت لا يعطينا عملاً منفصلاً عن ذاته تماماً، بل يقدّم عجينة أو طبخة تمتزج فيها وقائع حقيقية مع وقائع متخيّلة مع مشاعر صادقة ومفترضة، وكل هذا يقلب تقليباً جيداً يمزج مزجاً بارعاً ليصبّ في قالب نسميه القصة أو الرواية أو غير ذلك من الأنواع الأدبية.(1/72)
ولذلك لا أستطيع أن أسمّي أي عمل فني ترجمة ذاتية إلاّ إذا كان مكتوباً بهذه النيّة ولهذا الغرض بالضبط، أي أن يقول لنا المؤلف هذه هي مذكراتي، أو هذه هي حياتي، ويكتبها بأسلوب السرد المباشر لحياته. أمّا إذا صبّ هذه الحياة في قالب روائي أو فني أيّاً كان فإنّه في الحال يصبح عملاً فنياً لا ينبغي لنا بأية حال من الأحوال أن نسميه ترجمة ذاتية، وإن كان للناقد أحياناً أن يستشف من هذا العمل الفني بعض القرائن التي تعينه على رسم صورة ذاتية للمؤلف أو عصره، ولكن على أن يكون مجرّد قرائن من اجتهاد الناقد أو الدارس وتحت مسؤوليته الشخصية، وليس له بأي حال من الأحوال أن يستند إلى هذا العمل الفني باعتباره ترجمة ذاتية للمؤلف، لأنّه متى دخلت يد الفن والصياغة الفنية في عمل من الأعمال لم يعد بوسعنا أن نفرز أو نميّز بين ماهو حقيقي وماهو متخيّل، فالفن هو الفن والترجمة الذاتية هي الترجمة الذاتية"(3).
وعلى الرغم من كل ما بين ديكنز وتوفيق الحكيم من اختلاف بيّن في مدى الرؤية الروائية، فإنّ المتوازيات بين عودة الروح ورواية مثل الآمال العظام لديكنز تدعو إلى عقد نوع من المقارنة تجعلنا نرى شيئاً ممّا لتوفيق الحكيم وما عليه في ميدان الرواية من خلال مقارنة بينة، وبين أحد عمالقة الرواية مثل ديكنز.(1/73)
أولاً صورة الفلاح، أو ابن الريف، وهي الصورة المحورية في الروايتين. بطل الآمال العظام مثل محسن ابن الريف، وأصله هذا هو الذي يشكّل الصراع في الرواية من أولها إلى آخرها. كادت الأقدار تحتّم على بب أن يعيش حياته كلّها في الريف بجانب جو صاحب المحددة وزوج أخته، وهو الريفي الصادق الذي لا تتغيّر صورته المشرقة والتي تتّسم بالطيبة والصدق، وكأنّه أنموذج رائع أبدعه ديكنز ليكون الصورة المثالية للريفي. كان من المفروض أن يبدأ حياته متدريّاً على الحدادة على يدي جو وهو ما يسمّى بالإنجليزية apprentice ليصبح بعد ذلك معلماً في أمور الحدادة. لكن خيال بب يرفض الحياة المملّة والرتيبة التي يتميّز بها سير الحياة في الريف، ويجد هوى في نفسه على التمرّد منذ الفرصة الأولى عندما يلتقي باستيلا الفتاة التي كانت تكبره بقليل. يقع محسن في غرام سنيه مثل ما يقع بب في غرام استيلا وهي أيضاً تكبره بقليل. يذهب محسن إلى بيت سنيه على سبيل اللهو والتسلية، مثل ما يذهب بب إلى بيت استيلا، تباعد الظروف بين العشيقين في رواية ديكنز مثل ما تباعد الظروف بين محسن وسنيه، وذلك ليلتهب شعور العاشق ويصبح درساً في العشق من جانب واحد. وفي النهاية يحظى درمل باستيلا مثل ما يحظى مصطفى بسنيه لا لسبب إلاّ لأنّ العشيقة في الروايتين تريد ذلك. يعود مصطفى إلى رشده (وهنا تبادل في الدور بين محسن ومصطفى)، ويذهب إلى المحلة الكبرى ليعمل في مصنع والده وينقذه من الضياع إلى الأبد) مثل ما يذهب بب إلى مصر ليبدأ العمل الجاد ويكسب عيشه بعرق الجبين ويرجع بعد عدّة أعوام وقد أصبح جنتلماناً حقيقياً من خلال كسب العيش الكريم بدلاً من اعتماده على أموال غيره مدّة من الزمن أثناء إقامته في لندن بعد أن هجر الريف وآثر عيش المدينة أملاً في الظهور أمام استيلا بمظهر ابن المدينة.(1/74)
في النهاية يعود محسن إلى رشده مثل ما يحصل مع بب وتعود الروح التي تخليا عنها ردحاً من الزمن إلى صاحبها ليشق طريقه من جديد بروح استعادها من جديد(4).
لكن عودة الروح تحتفظ بمحلية تطغى على كل أثر آخر، فمهما تقاربت المتوازيات تظل رواية توفيق الحكيم مصرية في صميمها، وإن كان توفيق الحكيم قد اختار هذا الجنس الأدبي من السيرة الذاتية الأدبية لروايته؛ فلأنه جنس أدبي أغرى العديد من كتّاب الرواية من قبله. ومن الواضح أنّ المحلية المصرية في النهاية هي التي تتحكّم في روح الرواية.
وهنالك ما يبرر الاختلاف بين الروايتين لأنهما نتاج حضارتين مختلفتين، لابدّ أنّ توفيق الحكيم كان على وعي بعمق هذا الاختلاف وكان حكيماً في اختيار الواقع المحلي كمنطلق رئيسي لمبادرته هذه. فالهوة السحيقة التي تفصل الريف عن المدينة في الآمال العظام أعقد بكثير منها في عودة الروح، تلك الهوة التي أوجدتها الثورة الصناعية والتي أوجدت معها فقرأ مدقعاً وغنى فاحشاً لا يمكن التسوية بينهما. ومن الانطباعات الرئيسية التي تخلّفها الآمال العظام عند القارئ هي أنّ الفقير لا يمكن أن يحلق بالغني إلاّ في الخيال، ومن ثمّ نشط خيال بب وأصبح السبيل الوحيد الذي يمكن أن يوصله إلى بوابة أهل اليسر، ويحرّره من ملل الحياة الريفية التي لا يمكن لصاحب خيال مثله تحمّلها كقدر محتوم. ولكن سرعان ما جرّه خياله إلى التورّط في غرام استيلا، ومن هنا ينشأ التعقيد والتحوّل من عاطفة إلى أخرى، وهو ما لا نجد له مثيلاً في عودة الروح.(1/75)
إنّ غياب الصراع بين الفرد والمجتمع الذي يؤدّي إلى وقوع الفرد ضحية للمجتمع كما هي الحال في الآمال العظام هو الذي يحرم عودة الروح من صراع مماثل يذهب بالروح مذاهب شتّى في خضمّ هذا الصراع. من الواضح أنّ عودة الروح تفتقد إلى الصراع الذي يخرج بالمحلية من واقعها المسطح إلى آفاق إنسانية أبعد مدى. لهذا السبب يظل محسن فتىً بسيطاً لا يتعرّض لصراع مع نفسه ولا مع خصمه المجتمع، ولا يمرّ بتجربة بب التي تجعله يتألّم بسبب إعراضه عن أصله الريفي وهويته الأصلية في سبيل الحصول على هوية جديدة، هوية الجنتلمان التي يمكن أن ترضي استيلا، أمله الوحيد الذي يطمح إليه في الحياة. وهو لا يفيق إلى رشده مثل بب بعد عذاب أليم يترك آثاراً في نفسه إلى الأبد نتيجة وهم أوقعه المجتمع فيه؛ لأنّه نفسه كان على استعداد أن يقع فيه. إذ أنّ ديكنز لا يبرئ الشخصية من مساهمتها في مصيرها ولم يحصر الفعل في خارج الشخصية، وربما كان هذا سبب في بقاء شخصية بب خالدة في الأذهان إلى يومنا هذا؛ لأنّ ديكنز تطوّر بالرواية في الآمال العظام من التركيز على الحدث إلى الاهتمام بالشخصية وحياتها الداخلية.
جميع شخصيات عودة الروح بسيطة مسطّحة لا صراع داخلها ولا خارجها، حتى زنوبة التي تثير الشغب في الرواية لا تتصارع في واقع الأمر مع أحد ولا مع طرف، وكل ما في الأمر أنّ مظهرها القبيح يشكّل عائقاً في تكوين علاقة مع الجنس الآخر يمكن أن تؤدّي في النهاية إلى ارتباط عائلي هي نفسها تصبو إليه. لهذا نجدها تلجأ إلى وسائل الشعوذة كلّما أدركت أنّ فرصة تلوح في الأفق أو على وشك أن تكون كذلك. فمصطفى مثلاً الذي أقامت الدنيا على رأسه لا يعرف حتى عن رغبتها فيه، وسنيه التي اتّهمتها باختطاف مصطفى منها في المرة الأولى لم تكن تعلم شيئاً عن الموضوع، وهكذا تجري حوادث الرواية والكل في غفلة أشبه بغفلة الدراما الكلاسيكية.(1/76)
وغياب الصراع يؤدّي بالضرورة إلى غياب الحوار أو تقليص دوره على الأقل، وهذا ما يحدث في عودة الروح، إذ إنّ كل ما يبدو فيها من حوار لا يزيد عن مداعبات لا تعمّق خلافاً ولا تسبر غوراً سواءً ما كان بين أفراد الشعب أنفسهم بما فيهم زنّوبة أم ما بين محسن وبقية أفراد الشعب، من جهة، أو ما بين محسن ووالدته التركية الأصل، إذ ليس من المعقول أن ينقلب صبي ضد والدته لأنّها من أصل تركي، أو من أي أصل غير مصري، ولا يخفى على القارئ أنّ سلوك الهانم والدة محسن يأتي بدافع من الغيرة على مكانة زوجها الاجتماعية والاهتمام الزائد بها، وتصرّفها مع الفلاحين بطريقة تبدو مهينة في نظر محسن هو تصرّف مألوف، ومنبعه النظرة الدونيّة التي يحملها ابن المدينة إلى ابن الريف والتي تشيعها التركيبة الاجتماعية الشاملة. من المشاهد التي يذكرها القارئ بشغف في الآمال العظام مشهد بب وهو يشعر بخجل وإحراج من زيارة جولد في لندن عندما عَدّ نفسه متوهّماً من أصحاب المدينة بعد أن هجر الريف وتوهّم أنّه يودّعه إلى الأبد، وقد وصل الإحراج عند بب أنّه صمّم على أن يعلّم جو ا لقراءة والكتابة ليستطيع التحدث مع أهل المدينة من أصحابه مثل هيربرت ابن لندن. أمّا المشهد المماثل الآخر في الآمال العظام فهو إحجام بب عن استقبال ماجوتش بسبب شكله وملابسه الرثّة التي ترتبط بابن الريف، والمفارقة هنا أنّ بب لم يكن على علم أنّ هذا الشخص الذي يخجل من مقابلته في لندن الآن هو الشخص نفسه الذي عطف عليه وأحبّه حبّاً صادقاً عندما كان طفلاً وسرق له الطعام ليسدّ رمقه، وأهم من ذلك أنّ ماجوتش هو نفسه الشخص الذي بعث إليه بالمال الذي جمعه من عرق جبينه، وهو مشرّد في أستراليا، وتسلّمه بب من خلال المحامي جاجرز لكي يتعلّم ويتنعّم في لندن، وهو الآن يرفض الإحسان بل يرفض المحسن إليه بسبب تعالٍ مزعوم اكتسبه بب من خلال تحوّل حاله من ابن ريف إلى ابن مدينة.(1/77)
وعندما يعود بب إلى رشده يتذكّر موقفه هذا من أبناء ريفه بألم وحسرة لا يشفى منها بأقل من توبة نصوح يرجع بها إليهم ودوداً نادماً على تخليه عنهم بسبب الغرور الذي لحق به وهو يلهث وراء وهم خادع سيطر عليه في المدينة. هذا هو بيت القصيد في الآمال العظام: عودة الروح إلى بب بعد أن فارقته ردحاً من الزمن عندما توهّم أنّه يستطيع أن يعيش حياة أفضل دونها بلا روح. وكم كانت عودة الروح ستكون رواية عظيمة لو تضمّنت رحلة تمثّل العودة إلى الروح بعد صراع وألم ينشآن بسبب المعاناة التي تنتج عن ذلك عند الوقوع في دائرة الوهم وخوض التجربة، تجربة فك الارتباط الاختياري بين الشخص وأصله والعودة إلى الارتباط بعد التعرّف إلى ما يسبّب الوهم والإغراء في حياة الإنسان. ما من شكّ أنّ العنوان الذي أعطاه توفيق الحكيم إلى روايته وهو عودة الروح يناسب رواية ديكنز ويكسبها جمالاً وجمالية لو أمكنت إضافته إلى العنوان الحالي ليصبح الآمال العظام وعودة الروح.
وعودة إلى والدة محسن التركية التي يتكئ توفيق الحكيم على أصلها محاولة منه في إبراز دور محسن في خلافه مع الأجنبي. ألا يمكننا القول إنّ سيدة مصرية ليست من أصول ريفية يمكن أن تكون أشدّ مناكفة للفلاحين وللأصول الريفية من أم محسن؟ ألا تسجّل هذه الظاهرة باستمرار في الأفلام والمسلسلات المصرية؟
إِنَّ ما ينقص عودة الروح فنيّاً لتكون في مصاف الروايات العالمية هو وجود خصم أو طرف مناقض تتحاور أو تتصارع معه الشخصيات أو الشخصية الرئيسية على الأقل، وأن يكون هذا الخصم أكثر من مناكف يبعث على اللهو والتسلية، أو من خصم يأتي ذكره عرضاً في الفصل الأخير من الرواية، وكأنَّه مجرد ضيف "ثقيل الظل" يحل على الرواية ويخرج منها مثلما يخرج القارئ دون سؤال أو جواب أو حوار أو نزاع أو منازلة.(1/78)
ومن المعروف أنَّ بطل التجربة الذاتية يتعرّض لأهوال ومخاطر وتجارب كثيرة ينجو منها بصعوبة وقد تعلّم درس الحياة. هذا هو بطل "جوته" فيلّم ما يستر في الرواية التي أسست هذا الجنس الأدبي يجوب ألمانيا في سبيل إصلاح المسرح الذي كانت أحواله متردّية آنذاك ويتعرّض لأنواع من المخاطر والمغامرات لا حصر لها، والمقصود منها طبعاً أن يخرج البطل، وقد امتحنت شخصيته وخرجت من الامتحان قادرة على الاستمرار بحساسية جديدة تولّدت أثر الكشف عن مقوّمات الصمود بداخل الشخصية وتصارعها مع الظروف الخارجية التي ألمت بالشخصية أثر انطلاقها حرّة في الحياة.
هل خضع محسن لتجارب كافية لصقل شخصيته؟.. هل وضعت شخصية محسن على المحكّ لتثبت جدارة مقوّماتها الداخلية؟ إنَّ ما نعلّم عنه من انخراط محسن في النضال ما هو إلاَّ استجابة تلقائية لا تعتمد على سجلّ مسبق نتيجة تجربة أو تجارب معينة مرّ بها وسلم من شرّها وتأثّر بها وتعلّم منها. لقد كان بإمكان توفيق الحكيم أن يستغلّ تجربته الماضية في المسرح وما فيها من معاناة مع فرقة عكاشة وأن يستغلّ شعفه بالمسرح والمسرحية، وأن يوظف كل هذه الأشياء ويجعلها في متناول اليد عند محسن، وأن يجعله ينطلق بحماسه للمسرحية يجوب القاهرة والأرياف بعمقهما معلناً مثلاً عن ميلاد مسرح جديد يبعث الحياة والأمل في قلوب المواطنين يمسرح الحدث الذي يريد من الناس أن يعوه جيداً ويتمثلوه بقوة. عندها يتجسّم الماضي الحضاري المصري لما فيه من قوة كامنة منيعة ليصبح رصيد المقاومة في الحاضر ومرتكزاً للنضال يتسلّح به محسن، لينهض بأعباء العمل الثوري. لقد كان بإمكان توفيق الحكيم أن يوسع دائرة الحدث التي يتحرّك فيها محسن ليجعلها تتناسب مع الهدف الأسمى في الرواية. وتوفيق الحكيم قادر على ذلك. أليس مشهد مصطفى وهو يتابع سنيه إلى عيادة الأسنان بدليل على أنَّ توفيق الحكيم يمتلك القدرة حتى على كتابة رواية المغامرات لو أراد؟..(1/79)
وبالرغم من أنَّ بطل رواية التجربة الذاتية إنسان عاديّ لا يتميز بالبطولات الخارقة، فإنَّه يختلف عمّن حوله بحسٍّ وخيالٍ متميّزين ينمو ويتطوّر من خلالهما وهو يشقّ طريقه في الحياة و التجربة بمساعدتهما. بب مثلاً ريفي الأصل ولكن خياله الخصب يأبى أن يظلّ صاحبه قابعاً في حياة الريف الرتيبة التي يحتملها الريفيون بملل، بعبارة ديكنز المشهورة "dull ednurance" ولكنّه يكتشف بعد التجربة المريرة أنَّ الحياة الأخرى التي يزينها خياله ليست بالحياة البديلة الهنية ذاتها، إذ هي التي تخلق منه إنساناً يمتلك حكمة يصاحبها الحزن، عبارة كوليردج في "الملاح القديم" التي رأى فيها ديكنز تكليلاً لخبرة في نهاية المطاف. يدركَ في رشده أنّ حياة الريف والريفيين هي الحياة الصادقة وأنَّ جو وبدي التي أعرض عن الزواج منها والتي أصبحت في النهاية زوجة جو ـ يدرك بب أنهما أصدق مثال لبني البشر. وقد أدرك هذا الأمر من قبل، ولكنّه أدركه بقلبه، واليوم يدركه حاضراً بعقله، ولو أنَّ إدراك القلب عندما كان بب صبيّاً استطاع أن ينوب عن إدراك العقل لما تورط في التجربة أصلاً ولما عانى واكتسب نضجاً وحكمةً.(1/80)
والسؤال الأزلي، هل يستطيع بطل رواية التجربة الذاتية أن يسترجع سعادة كانت تملأ قلبه في يوم من الأيام؟ صحيح أنَّ جو و بدي اكتسبا في نظر بب عمقاً من المحبة واعترافاً ثابتاً منه أنهما أبناء الريف البررة اللذان لم يتحوّلا مثله في يوم من الأيام عن اعتزازهما بحياة الريف. هل يستطيع بب أن يكون سعيداً مثلهما مادام يعترف بسعادتهما بل ويؤمن بها؟ لو كانت الإجابة عن هذا السؤال من السهولة بمكان، لما احتار ديكنز في شكل النهاية لروايته والتي خضعت للتغيير بسبب الإشكالية التي تخضع لها نهاية البطل. بادئ الأمر وضع ديكنز نهاية محزنة لروايته اعتماداً على منطق الأحداث في واقع الحياة، وهو أنَّ التجربة المؤلمة التي مرّ بها نتيجة خياله الطموح تترك آثاراً يصعب إزالتها من الذاكرة والرجوع إلى مرحلة البراءة التي رأى ديكنز أنَّ التجربة تطيح بها لا محالة. وبناءً على اقتراح من صديق له وضع نهاية توفيقية تحتفظ بحزن التجربة وبأمل استعادة الصفاء أيّام البراءة الأولى عندما كان بب صبياً يجلس بجانب جو يغمره دفء نار المحددة المتوهّج فيشعر بالسعادة والاطمئنان. مع هذا لم تكن هذه النهاية مرضية عند العديد من النقِّاد وما زال القراء يفضّلون النهاية الأولى على الأخرى. وفي أحيان كثيرة تظهر النهايتان في نفس الطبعة.(1/81)
من المعروف أنَّ ديكنز ختم روايته في المرّة الأولى بخاتمة محزنة تمشيّاً مع واقع الحياة التي تمتدّ عبر الزمن وتكون النتيجة ألاَّ يبقى فيها الإنسان على حال البراءة عندما كان يبرز في الإنسان الأمل المنشود في استعادة البراءة، ولكنّه أمل يهيمن عليه الحزن؛ لأنَّ الماضي لا يمكن أن يصبح حاضراً. ولعلّ السبب الرئيسي الذي دفع ديكنز إلى اختيار هذا السبيل هو رغبته في تقديم اتجاه مخالف تماماً للخاتمة السّارّة التي شاعت في عهده، تلك الخاتمة التي أصبحت معروفة بخاتمة الأجراس التي تدق في الكنيسة إعلاناً عن موعد الزفاف. كيف يختم الراوي روايته بخاتمة سعيدة. هذا ما كان يسيطر على الغالبية العظمى من كتّاب الرواية في القرن التاسع عشر إلى أنّ جاء القرن العشرون وأفتن الروائيون بالخاتمة المفتوحة.
تذكّرنا نهاية عودة الروح على الفور بتلك النهايات السعيدة، بل إنَّ نهايتها واضحة الاتجاه، فهي تحضر لدق طبول الفرح بزفاف مصطفى وسنيه، وفرح الشعب بزعيمه.
****
لا يعني هذا أنَّ توفيق الحكيم غير قادر على خاتمة تشبه خاتمة ديكنز الأخرى، فلو ختم تفويق الحكيم مثلاً روايته بالفصل الحادي عشر من الجزء الثاني لحقّق المراد الذي ربّما يفوق في فنيته ما استقرّ عليه في النهاية. هذا المشهد في هذا الفصل قطعة فنيّة رائعة تصلح في اعتقادي أن تكون خاتمة الرواية. ففيها شاعرية تعبّر أصدق تعبير عن إحساس محسن المرهف، وفي الوقت ذاته فيها واقعية المكان التي تعادل رومانسية محسن، ومن تداخل رومانسية الشخصية وواقعية المكان تبرز الروح وهي تعود إلى صاحبها في المكان و الزمان المناسبين، هذا هو المشهد: "لم يكن في رأس محسن غير شيء واحد: هو الحياة التي أصبحت فارغة تماماً... كيف يملؤها؟... والمستقبل الفسيح والأيام الطويلة الآتية بأي صبر يستطيع اجتيازها؟.... وسمع في نفسه هازئاً يجيبه في سخرية:
ـ وقبل أن تحب ماذا كنت تصنع؟.. عد كما كنت قبلاً...(1/82)
فابتسم الفتى ابتسامة مرّة ونظر إلى السماء نظرة الساخط الثائر وكأنّه يقول صائحاً في أعماقه: ارجع إلى ماكنت قبلاً؟.... نعم إني عشت من غير حب وعشت سعيداً، ولكنها سعادة الأعمى الذي لم يرَ الجمال، ولم يرَ النور، ولم يرَ الحياة!... ولكنّك فتحت أعين الأعمى، وجعلته يبصر وينبهر... فهل تحسبه إذا أرجعته بعد ذلك إلى ظلامه الأول مستطيعاً أن يجد سعادته الأولى؟!...
ورأى محسن نفسه فجأة في ميدان السيدة فارتعد إذ ذكر أنَّه مضطر للعودة إلى المنزل، حيث يجلس إلى أعمامه الرفاق، وعمّته!....
وسيدركون، ولا شكّ من وجهه ما به، فوقف متردّداً لا يدري ما يصنع. وإذا بنظره يقع بغتة على دكان حلاق السيدة زينب، وفجأة اصفرَّ كالأموات، ومكث لا حراك، ذلك أنَّه لمح مصطفى بك، خارجاً منه و"البودرة" البيضاء لا تزال تزين ذقنه... وشاربه الأشقر الذهبي الصغير مقصوصاً على الطراز الأخير... وهو يختال في بذلة جميلة، وبيده منديل حريري في لون البذلة يضعه في رشاقة في جيب الصدر الأيسر مظهراً طرفه، وعلى وجهه البسطة والانشراح طافحان..
واسودّ الميدان في نظر محسن، فلم يشعر إلاَّ أنّه اتجه السيدة فارتعد إذ ذكر أنَّه مضطر للعودة إلى المنزل، حيث يجلس إلى أعمامه الرفاق، وعمّته!....
وسيدركون، ولا شكّ من وجهه ما به، فوقف متردّداً لا يدري ما يصنع. وإذا بنظره يقع بغتة على دكان حلاق السيدة زينب، وفجأة اصفرَّ كالأموات، ومكث لا حراك، ذلك أنَّه لمح مصطفى بك، خارجاً منه و"البودرة" البيضاء لا تزال تزين ذقنه... وشاربه الأشقر الذهبي الصغير مقصوصاً على الطراز الأخير... وهو يختال في بذلة جميلة، وبيده منديل حريري في لون البذلة يضعه في رشاقة في جيب الصدر الأيسر مظهراً طرفه، وعلى وجهه البسطة والانشراح طافحان..(1/83)
واسودّ الميدان في نظر محسن، فلم يشعر إلاَّ أنّه اتجه إلى المسجد، وفي قلبه شبه هلع أن يكون هذا الرجل قد رآه، وخلع نعليه بسرعة وارتجاف، وسار على بساط الجامع حتى بلغ المقام، فانزوى في ركن من أركان الضريح المظلمة، التي لايأتيها النور إلاَّ من "نجف" كبير يتدلّى من أعلى تلك القبّة الفخمة الشاهقة... وتناول محسن بيده قضبان الحاجز النحاسية، وجعل يهمس ملهوفاً من صميم قلبه، بصوت عصبي متقطّع:
ـ يا سيدة زينب!.... يا سيدة زينب!.... يا سيدة زينب!....
وانفجر باكياً، وتساقطت دموعه على بساط المقام، وهو يكتم شهقاته في صدره، حتى لا يسمعها الزوّار حوله!...."(5).(1/84)
وهذا المشهد أكثر ما يذكّرنا بذلك المشهد المماثل في رواية فورستر المعروفة رحلة إلى الهند... ففي البدايات الأولى للرواية نجد فورستر يجمع بين شخصيات إنجليزية وأخرى هنديّة في حفل صغير على أمل أن يخلق جواً من الوئام بين الفريقين، ولكن المحاولة تبوء بالفشل عندما يعرض عزيز بطل الرواية (وهو من الجانب الهندي طبعاً)، على السيدتين الإنجليزيتين أن يوصلهما إلى بيتهما بحافلته. فرفضتا المساعدة، بل استقلتا حافلته دون إذنه. غادر عزيز المكان وهام على وجهه حزيناً إلى أن التجأ إلى جامع مجاور وانفرجت أساريره وشعر براحة بعد خيبة الأمل الشديدة، وشعر بالأمل يتجدّد في نفسه والروح تعود إليه وأسماء الله الحسنى المنقوشة على جدران الجامع تشعُّ نوراً يسبح في ضيائه. كل هذا جعله يفكّر تلقائياً في مشروع إنشاء جامع صغير في المستقبل يفرّج الكروب عن القلوب كما فرّج هذا الجامع عن قلبه شخصيّاً. وبينما هو سابح في هذا التأمُّل، إذ يلحظ سيدة إنجليزية تدخل الجامع فيصيح بها قائلاً أنَّه لا يجوز دخول المكان المقدّس دون خلع الحذاء! وتجيبه على الفور إنها فعلت ذلك فتنشأ بينهما على التوِّ ألفة يؤلِّفها ذلك الفهم الخفي في أعماق القلب secret understanding of the herart وهي عبارة تحتلّ مكان الصدارة في الرواية وتأخذ بُعداً دراميَّاً فيها، تتحرّك الشخصيتان الرئيسيتان عزيز والسيدة الإنجليزية الفاضلة مسز مور في ظلالها من أول الرواية إلى آخرها. وهي عبارة تذكّرنا في عودة الروح بوصف الرواي لمحسن "يهمس ملهوفاً من صميم قلبه"، يا سيدة زينب...(1/85)
لو انتهت الرواية بهذا لكانت أقرب إلى النّهاية المفتوحة منها إلى النهاية المغلقة التقليدية. مثل هذه النّهاية تتيح الفرصة للقارئ أن يتخيّل أكثر من منظور لمصطفى بك ولمحسن، مصطفى ينصرف من عند الحلاق مسروراً ولا ندري بالضبط إلى أين سيؤدّي به هذا السرور. هل سيتم زواجه من سنيّة مثلاً؟.. أم هل ستكتشف سنيّة عيوباً فيه وتحجم عن الزواج منه؟ أم أنَّ حادثاً مميتاً سيضع حدَّاً لحياته وهو في طريقه إلى سنيّة؛ كلعنة تأتيه من غامض علمه استجابة لدعوة ضمنية يمكن أن يدعوها محسن عليه. لابُدَّ أن يكون هنالك فرق عند رب العالمين بين من يقصد ضريح السيدة، وبين من يقصد الحلاق بجوارها: أحدهما يتّجه إلى الروح للخلاص، والآخر يتّجه إلى العالم المادي جرياً وراء الحياة الدنيا، التي تمتد من عالم الحلاقة في ميدان السيدة زينب إلى عالم التجارة في المحلّة الكبرى. صحيح أنّ مصطفى يطرح جانباً عادات الكسل ويتّجه إلى تدبير أمور التجارة التي ورثّها عن أبيه، ولكنّه لا يسمو كثيراً من خلال هذا المنحى الذي يظلّ معبِّراً عن المادِّية في جميع الأحوال. شتّان بين مصطفى الذي يرجع إلى الريف لاستعادة ثروة أبيه وبين بب الذي يعود إلى الريف ليستعيد روحه. ومشهد محسن وهو يتناول قضبان الحاجز النحاسيّة يهمس بلهفة من صميم قلبه باسم السيدة زينب لهو، في اعتقادي، خاتمة تفوق من الناحية الفنيّة أي خاتمة أخرى، وربّما يكون هذا المشهد تعبيراً صادقاً عن أهم مرحلة من مراحل نمو شخصية البطل في رواية التجربة الذاتية.(1/86)
وكثيراً ما يكون التطهير تكليلاً لنمو روحه وتطوّرها وتساميها. وهذا المشهد هو أيضاً جزء من النهاية المفتوحة. لا نعرف بالضبط إلى أين سيتّجه في حياته. هل سيفكر في بناء جامع فعلاً مثلما خطر ببال عزيز؟.. هل سيفكر بالالتحاق بالثورة ليعطي مشاعره فرصة أخرى تسمو من خلالها على مشاعره الشخصية نحو سنيّة؛ فالصدق في الناحية الشخصيّة؛ كما يقول ريموند وليمز، ينسحب في أغلب الأحيان على الصدق في الناحية العامة الأخرى.
المهمّ أنَّ مسألة التطهير في حياة بطل رواية التجربة محطة ختاميّة مناسبة بسبب منظورها المتجدّد الذي يمكن أن يولِّد مختلف التوقِّعات بعد قراءة آخر كلمة في المنظور.
وعند التمعّن في هذا المشهد، فإنَّنا نلحظ به ثنائية تناسب الخاتمة المفتوحة، ألا وهي ثنائية الشخصية مصطفى ومحسن، وثنائية ثيمة الروح والمادة التي تتداخل لتصبح في النهاية ثنائية واحدة. كان بإمكان توفيق الحكيم أن يطوِّرها ويتابعها من خلال صراع ينشأ بين العالم الماديّ ممثلاً في إسماعيل وتزينه الذي يتّفق مع بقية سلوكه في المقهى، والعالم الروحي متمثلاً طبعاً في محسن الذي لا يدع فرصة يسمو بها إلاَّ وانتهزها، فموقفه وهو يمسك بالقضبان النحاسية ينسجم مع شخصيته تماماً، لو نشأ صراع من هذا القبيل لحقّق عنصراً هاماً يجسّد ما يرد في نشيد الموتى وهو الخلود، ولبقيت الخاتمة مفتوحة أبداً على العالمين بهذه الثنائية.(1/87)
وربّما مرجعية الثنائية أو الخاتمة المفتوحة هي ما يسمّيه توفيق الحكيم التعادليّة، وهي الاصطلاح الذي نحته توفيق الحكيم، وحاز على نقاش مستفيض وكأنَّه في بعض الأحيان يتحوّل على يد الدارسين إلى فلسفة خاصة بالحكيم نفسه، مع أنَّ الأمر لا يعدو اصطلاحاً يبيّن اهتمام الحكيم بثنائية الصورة بما فيها من صراع أو حوار أو ثيمة، وكذلك من أجل أن يبتعد عن الأحاديّة التي يعتقد أنَّها تحدّ من تطوّر الشخصية أو القضية أو الفكرة التي يتناولها الروائي. وفي اعتقادي أنَّه اصطلاح تشكّل عند الحكيم من تأثّره بآراء أولئك الروائيين الذين برزوا في عقد العشرينات أمثال لورانس وفورستر وغيرهم. وعبارة لورانس المشهورة في هذا السياق هي التوازن الدقيق delicate balance التي توصي باستمرار التذبذب بين كفّتي الميزان كي لا ترجح كفّة على أخرى. يقول لورانس: لو حاولت أن تثبت أي شيء في الرواية بمسمار، فإنَّ هذا إمَّا أن يقتل الرواية، وإمَّا أن يدعها ترحل بعيداً حاملة معها المسمار. وفي موقع آخر يقول: إنَّ الرواية بطبيعة تذبذبها تجعل حياتنا بكاملها تتأرجح أكثر ممّا يجعلها الشعر أو الفلسفة أو بقية العلوم الأخرى. أمَّا فورستر، فيقول إنَّ الشخصية تصل الروائي وهي في حالة عصيان، فإنْ وضعها الروائي تحت سيطرته فإنَّه يخنقها، وإنْ أخلى سبيلها فإنَّها تفرّ هاربة منه.
****
مشهد السيدة زينب هذا يضمّ بين سطوره واقعية صادقة تتعدّى مافي الفصل الأخير من واقعية محبوكة لتؤدّي هدفاً معيناً جاهزاً ليكون خاتمة. في هذا المشهد تعود الروح ممتطية نوراً يمتدّ من "نجف" التاريخ إلى قضبان الحاجز النحاسية في السيدة. وفي هذا المشهد يتجسّم الفرق أو التناقض بين سوقية مصطفى وروحانية محسن.(1/88)
وعند التدقيق في هذا المشهد وقراءة مابين السطور، نتساءل عمّا يبرّر العلاقة الحميمة بين مصطفى وسنيه على حساب محسن إلاَّ رغبة توفيق الحكيم في تطبيق أنشودة الموتى "الكل في واحد".
ومقارنة بالحالة الشبيهة في الآمال العظام فإنَّ هنالك مثلاً جميع المبرّرات التي تؤدي إلى زواج استيلا، معبودة بب، من درمل، وهي مبرّرات الظروف التي أحاطت استيلا منذ طفولتها ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون مقنعة عند بب، مهما بدت منطقية لغيره. وفي مشهد من أعنف المشاهد في الرواية يتوسّل إليها بكل ما أوتي من قدرة البيان أن تتخلّى عن درمل لأنها في نظر بب تستحق شريكاً أفضل (ويبيّن لها أنَّه يقصد نفسه في هذه الحالة). وأهم ما في الأمر أنَّ الرواية لا توفّر أي فرصة للقاء أو المصالحة بين بب ودرمل(6).
ويعرض المشهد المذكور أعلاه تأمّل تفاصيله أهم صفة أو أقوى ركيزة تقوم عليها صورة البطل في رواية السيرة الذاتية، ألا وهي ملكة الخيال، فهي الموهبة التي يتمتع بها بب وستيفان (بطل صورة الفنان في شبابه)، وهي الصفة التي يراها مبدعو هؤلاء الأبطال في أبطالهم، وهي القاسم المشترك الأعظم بين الفنان وصورته وخصوصاً في شبابه، التي تتّخذ من المرآة تشبيهاً يعكس حالة الفنّان في مراحل حياته المختلفة(7).(1/89)
يعلّق بعض النقّاد على شخصية ديفيد في الرواية المعروفة باسمه ديفيد كوبرفيلد بالقول إن ديكنز استطاع أن يكتب رواية وكأنَّها كتبت من قِبَل طفل. وهذا يدلّل على أنَّ ديكنز حافظ على خيال الطفل في الرواية وأبقى عليه صورة يمتنع تصويرها بكل هذا الصدق لو لم يحافظ ديكنز على المسافة الضرورية بين صورة الطفل المصورة وصوت الراوي الراشد الذي يقوم بتصويرها. وعندما أدرك ديكنز أنَّ الرواية توقَّفت عند تصوير الطفل أو الصبي لحياته دون أن تمتد إلى مرحلة الشباب شرع في التفكير بكتابة رواية يمتد تصوير الراوي فيها إلى مرحلة الشباب، ليتّسع مدى الصورة إلى النمو والتطوّر والتحوّل عبر التجربة، ومن ثمّ ليتّسع هذا المدى إلى عودة الروح.
وهكذا تحقّقت رغبة ديكنز في الآمال العظام. وبالمثل كتب جويس صورة الفنان في شبابه، ولكنَّ الفنان لم يرسم صورته، أي أنَّه لم يفّعل خياله ليكتب رواية، إذ تنتهي الرواية بعرض لصورة خياله في أيام الصبا. ولم يتحقّق ما أراده الفنان لخياله أن يفعل إلاَّ بعد الرواية المشهورة (يوليسيز) التي تتوّخ خيال ستيفن في أقصى طاقاته الإبداعية.
ومهما يكن الأمر، فلم يكن توفيق الحكيم في وضع نهاية عودة الروح مقتفياً آثار ديكنز ولا غيره من كتّاب روايات النهاية السعيدة، بل كان متأثّراً أو مستأثراً بفكرة اعترف بسيطرتها عليه وصرّح بها في رسالة إلى زميله القاضي طاهر رشيد. هذا ما كتبه لزميله في 19 نوفمبر 1932 حول الرواية:
"الصعوبة في الأمر أني أريد اسماً يلخّص كل فكرتي المتمشية في القصة، والتي سوف تتمشّى في قصص أخرى مستقبلية: هذه الفكرة الإنسانية التي أريد أن أدعو لها مدى حياتي:
"الكل في واحد"
عندما يصير الوقت خلوداً
سوف نراك من جديد
لأنّك صائر إلى هناك
حيث الكل في واحد!...
"نشيد الموتى"..(1/90)
ولقد كانت هذه قوة مصر في الزمن الغابر كما قال الأثري الفرنسي مخاطباً مفتش الري الإنجليزي. وقد كان هذا الشعور هو ما يسيطر على الأسرة القاطنة بشارع سلامة 35. وقد كان هذا شعور المصريين في 1919 إزاء رجل واحد!! وإحساس المصريين نحو الحيوانات أو الجماد. الإحساس بالاتحاد الكوني العام أي الإحساس باللّه"(8).
في اعتقادي أنَّ الإيمان الراسخ بهذه الفكرة أدّى إلى نوع من التقاطيع غير المحمود في الرواية بين مصر الفرعونية ومصر الإسلامية. هل الفلاح المصري الذي يشفق محسن عليه أحياناً ويعجب به أحياناً أخرى هو امتداد للفلاح المصري زمن الفراعنة؟... إنْ كان الأمر كذلك، فإنَّه لا يوجد في الرواية ما يثبت ذلك وكل مظاهر البؤس والتوحّد التلقائي مع الأشياء التي تصفها الرواية ما هي إلاَّ نتاج البيئة التي يعيشها الفلاح في كل مكان وزمان. وقد علّل زولا في روايته الأرض مظاهر البؤس والشقاء التي تبدو على الفلاح أنها امتداد طبيعي لمناخ البيئة التي تحيط بالفلاح الذي يصبح على مدى الزمن نتاج ظروف طبيعية تحيط به وتصبح حياته أشبه بصفقة تعقدها الطبيعة معه.(1/91)
ويمكن أن نذكر في هذا السياق أنَّ توجَّه الحكيم إلى إحياء تراث مصر القديمة يتخطى في حدوده الرغبة العامة في استثمار الفرعونية وأمجادها، تلك الرغبة التي كانت مهيمنة على بعض المفكّرين المصريين المعاصرين لتوفيق الحكيم. إذ لابُدَّ أنَّ توفيق الحكيم كان على وعي بتوظيف الميثولوجيا في الرواية وإبراز أهميتها الفكرية والفنية عند علماء الأنثروبولوجيا. وأبرز مثل على ذلك يوليسيز التي يشار إليها على أنَّها ملحمة القرن العشرين. استطاع جويس بقدرة فنية هائلة أن يخلق من واقع الحياة العادي في دبلن متوازيات لها في ملحمة هومر ومن التفاعل والتداخل بين مرجعية حوادث وشخصيات وقصص ملحمة هومر من جهة، وحوادث أهل دبلن اليومية وشخصياتها العادية وقصصها المألوفة من جهة أخرى تنتج المفارقة الغنية التي تعمق الشعور بالعبث وخيبة الأمل في أعماق الشخصيات الرئيسة وهي (مع متوازياتها) بلوم (أوديسيوس باليوناينة ومقابلة يوليسيز باللاتينية)، مولى (بنيلوب)، وابنهما ستيفن الشاعر (تليماكوس). وتتجلّى عبقرية جويس في اختزال الزمن الذي استغرقته حوادث الأوديسي عبر سنوات طويلة إلى يوم قمري (48 ساعة).
لابُدَّ أنَّ توفيق الحكيم إذن كان على وعي بمخزون الميثولوجيا الفنّي الذي استغلّه كبار الروائيين الأوروبيين خصوصاً في سنوات العشرينات التي سبقت كتابة عودة الروح ولابُدَّ وأنَّه شعر أنَّ الميثولوجيا المصرية مثل غيرها، قادرة على العطاء ورفد الرواية بروافد جديدة، هذا ما يقوله توفيق الحكيم في مقابلة له مع عبد الفتاح الديري:
"لم نزل في عهد لم يظهر فيه بعد ـ إلاَّ نادراً ـ تلك الطبقة من كبار النقّاد الذين يعكفون على أدب بلادهم، كما يفعل النقّاد في أدب الأوروبيين، ليخرجوا منه الاتجاهات ويخلقوا النظريات، ويصلوا الأدب العربي الحديث بأرضه وماضيه وما يحيط به من مؤثرات وحضارات حتى يصبح أدباً مدروساً مبحوثاً كالآداب الكبرى.(1/92)
هذا هو السر في أنَّ معظمنا يسأل قبل أن يبحث!... إنّك تسألني عن رأيي في قصصي القائم على الأساطير؟... الجواب الصريح تجده في كتابي "تحت شمس الفكر"... ولأجنّبك المشقّة، أقول لك الآن بسرعة: إني أؤمن بوجود رواسب الآلاف من السنين باقية في أعماقنا دائماً، وما عملي في ناحية الأساطير سوى مجرّد محاولة لمدّ حبل يربط حياتنا الروحية و الفكرية في أطوارها المختلفة، كما يربط الإنسان طفولته بصباه، بشبابه، بكهولته في كائن واحد وروح واحد، إنَّ روحنا الكامن لا يتغيّر بتغيّر الأزمان، ولا يختلف كثيراً باختلاف العصور والأديان".(9).
هذه شهادة تدلّل على استيعاب توفيق الحكيم للعلاقة الوثيقة بين الأسطورة والرواية، ولكنّها مثل بقيّة الشهادات الصائبة في مجال التقنية لا تحظى بتطبيق عملي كافٍ.
****
لو قدَّر لتوفيق الحكيم أن يستثمر رؤيته الروائية فيما يتعلّق بمعرفته النقدية بتقنية الجنس الأدبي لرواية التجربة الذاتية، وإلمامه بالتقنيات المماثلة في الأدب الغربي، ودرايته بأهمية الأسطورة في الرواية، وإيمانه بالعلاقة الوطيدة بين التاريخ والرواية ـ لو استطاع توفيق الحكيم أن يفعِّل هذه ويفك الشخصية من عقالها في هذه المحطات بدلاً من أن تظلَّ رهينة فيها حبيسة إسقطات لا تعود على الشخصية بخير، لأنها تقزّمها ـ أقول لو كان بالإمكان تحويل الرؤية الثاقبة للرواية عند توفيق الحكيم إلى تطبيق عملي، لربّما كانت عودة الروح آمالاً عظاماً أخرى.(1/93)
لكن عودة الروح ستظلّ رواية تحتفظ بما سمّاه ي.م. فورستر في معرض الحديث عن عناصر الرواية بالعمود الفقري للرواية منبِّهاً إلى أنَّ السرد أمر ضروري بالرغم من المبرِّرات التي يجب أن تدعونا لتقديم الشخصية على عبقرية السرد والحديث. ولمّا كان توفيق الحكيم يمتلك زمام السرد استطاع أن يقدّم لنا قصة شيّقة تجذب القارئ إليها بيسر، وتجعله يتعلّق بها من أولها إلى آخرها لمجرّد السرد الناجح الذي هو العنصر الأساسي في بناء الرواية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ توفيق الحكيم كان على وعي صادق بأنَّ الرواية تختلف عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى في أنَّها أقل منها حاجة إلى السيطرة الفنيّة اللازمة لإبداع الشكل، تلك السيطرة الذهنية التي تتحكم في الخطاب الفني. أيقن توفيق الحكيم أنَّ الرواية بادئ ذي بدء تحوّل مباشرة من واقع الحياة إلى السرد أو الدراما مثلاً. ولو اخترنا تعريفاً بسيطاً للرواية لربما قلنا إنَّها انتقال مباشر أو مفاجئ من الحياة التي نعيشها، إلى أن الرواية التي نقرؤها أو نسمعها تروى علينا. هذا الانتقال الميّسر هو الذي جعل العديد من النقّاد ينعتون عودة الروح بالواقعية. نشعر مثلاً ونحن نقرأ ما يروى علينا من زيارة محسن لدمنهور أنَّ الراوي يعرف الشيء الكثير عن الفلاحين وأحوال معيشتهم وقصصهم التي لابُدَّ أنّه سمعها أكثر من مرّة قبل هذه الزيارة، لكنّه رأى هذه المرّة أن يراهم من على بعد وكأنَّه زائر غريب لا يراهم ويسمعهم فقط، بل يروي حياتهم وينقلهم قصة. يعلّق جون فورستر (أول مؤرّخ لحياة ديكنز)، على مقالات ديكنز التي جمعها في مؤلّف تحت عنوان لمحات تصويرية لكاتبها بوز (وهو اسم مستعار استخدمه ديكنز في عديد من كتاباته) Sketches by Boz أنَّ ديكنز يرسم الأشياء حرفيّاً كما هي.... وهي صورة للحياة اليومية في لندن بحسنها وقبحها، بمرَّها وحلوها، بفكاهتها ومتعتها...(1/94)
كلّها يرسمها ديكنز إلينا بواقع مطلق لهذه الأشياء"(10).
هذا ما فعله توفيق الحكيم في تصويره، إذ نقل واقع الصورة الحرفية وحوّلها إلى واقع مطلق، وبقي الواقعان جنباً إلى جنب شاهدين على أنَّ الخيال واللغة هما اللذان يساعدان على خلق واقع جديد مطلق، لا يمحو الواقع الحرفي. لهذا نجد الرواية توصف أحياناً أنها واقعية وأحياناً أخرى أنها رومنتيكية، ويقارب هذا الأمر من الوصف الوظيفي لاستعمال اللغة في تركيبها السطحي والعميق.
يقدّم لنا توفيق الحكيم واقعاً أشبه بدليل حاضر يدلّ على شيء غائب تصوّره الفلاح المصري الكادح الذي يعرفه هو امتداد لصورة للفلاح المصري منذ أقدم العصور، ولكن دون تجسيم لهذا التجريد. وتنسحب هذه الممارسة على الأسطورة أيضاً. وأبرز مثلين على غياب هذا التجسير بين الحاضر والماضي صورة سنيّة وايزيس: "وعادت فالتفتت إلى "البيانو" تمر بأناملها على مفاتيحه، ووقف "محسن" خلفها. وقد هدأ اضطرابه قليلاً واطمأنَّ، إذ هي الآن لا تستطيع رؤيته في موقفه هذا، وعندئذٍ أخذ يختلس النظر إليها اختلاساً، ولأول مرّة فطن إلى أن شعرها مقصوص على أحدث طراز، وذهبت عيناه تتأمل نحراً عاجياً غاية في البياض، يعلوه رأس جميل مستدير الشعر غاية في السواد يلمع لمعاناً أخاذاً، كأنَّه قمر من الأبنوس، وخطرت "لمحسن" صورة يراها دائماً في الكتاب المقرّر هذا العام للتاريخ المصري القديم، صورة يحبها كثيراً، وطالما قضى شطراً من حصص التاريخ يطيل إليها النظر وهو سابح في عالم الأحلام، ولا ينزله منه إلى الأرض إلاَّ صوت المدرِّس وقد بدأ شرح الدرس، تلك صورة امرأة، شعرها مقصوص أيضاً.... وأسود لامع كذلك... ومستدير كالقمر الأبنوس: "إيزيس"!..."(ص122-123).(1/95)
والمثل الآخر بيت الفرح الذي يستحضر طريق الكباش الموصل إلى معبد الكرنك "كان الوقت مساءً عندما وقفت العربة "الحنطور التي تقلّ العوالم أمام بيت الفرح، وقد نصب بالواجهة سرادق فخم كبير مزّين بأنواع التعاليق والنجف، والرايات الصغيرة المربّعة والمثلثة على مختلف الألوان: من أحمر وأصفر وأخضر، واصطفّت عند مصابيح الغاز على جانبي الطريق الموصل إلى المنزل، كأنَّه طريق الكباش الموصل إلى "معبد الكرنك"!!!..."
(ص135.).
مثل هذه الإشارات الأسطورية تبيّن أن توفيق الحكيم كان على وعي بما في الأسطورة من قوة كامنة يمكن أن تبعثها في الحاضر الذي يشكّل بُعداً يمكن أن يصبح منطلقاً جديداً للأسطورة يحييها من جهة ويغني روايته بها من جهة أخرى، ويصبح "الكل واحداً"، كما جاء في نشيد الموتى المحبّب لتوفيق الحكيم.
لكن توفيق الحكيم لم يطوِّر الأسطورة في عودة الروح بل تركها إشارات مبعثرة لا تسري في عصب الشخصية ولا تؤازرها. مثل ما فعل في مشهد السيدة زينب. هذا ما يجعلنا نقول إنَّ الأسطورة في عودة الروح ظلَّت هامشيّة توقّفت هيمنتها عند مجرّد الإشارة إليها.
ومهما يكن من أمر واقعية توفيق الحكيم أو تقنيته، فإن عودة الروح تظل رواية تشدّ القارئ إليها بقصتها التي تتّسم بالبساطة الكلاسيكية المعروفة الشائعة في الأدب الغربي. وليس من قبيل الصدفة، أن تجد هذه الروح الكلاسيكية هوى في نفس توفيق الحكيم، إذ إنَّها منسجمة مع بساطة المحلية المصرية. فالرواية بكل بساطة تصوّر واقع الفلاح وريفه والشخصيات شخصيات ريفية تعيش في المدينة ولكن ارتباطها وعمقها يظل راسخاً في الريف. وفي غياب ثورة صناعية كما هي الحال في المجتمع الأوروبي ظلّ الريف بعيداً عن تعقيدات المدينة؛ فمحسن وأعمامه وعمّته الذين يسمّيهم توفيق الحكيم الشعب، متفكهاً طبعاً، هم صورة مصغّرة لصورة الشعب الكبرى المعروفة التي ستظل تشكّل السواد الأعظم.(1/96)
وفي جميع الأحوال ما قرأت عودة الروح إلاَّ وتذكرت خطاب بالزاك إلى القارئ حول واقع الحقيقة في الرواية وهو خطاب تكثر الإشارة إليه لأهميته على الرغم من قصره يقع هذا الخطاب في سياق السرد في رواية بالزاك الشهيرة الملهاة الإنسانية (The Human Comedy) ، يقول بالزاك، وقوله هذا أشبه بلفت نظر موجّه إلى القارئ، وهو ممارسة مألوفة في الرواية الكلاسيكية من جين أوستن إلى جورج إليوت، وهو أيضاً قول يتّسم بالتكثيف و الدقة:
"أنت يا من تمسك بيديك البيضاوين هذا الكتاب إذ تجلس مستكيناً إلى راحة كرسيك الوثير، ستبدي نفس تبلّد الإحساس وتقول لنفسك هذا الكتاب قد يسلّيني. وبعد أن تقرأ عن الأحزان الدفينة التي يعاني منها جوليو العجوز ستكون مفتوح الشهية عند العشاء وستعزو عدم اهتمامك إلى المؤلِّف وتتهمه بالمبالغة واللجوء إلى الرخصة الشعرية. ولكن انتبه إلى ما سأقوله: هذه الدراما ليست من سرحات الخيال أو من تأثير الرومانس. كل مافيها صحيح. صحيح إلى درجة أنَّ كل واحد منهم معشر القرّاء يستطيع أن يتعرّف إلى عناصرها في بيته أو بيتها، وحتى في قلبه أو قلبها"(11).
قد لا تضاهي عودة الروح الآمال العظام في مكانتها الفنية الرفيعة التي تسمو برواية سيرة التجربة (أو الترجمة) الذاتية التعليمية، وقد يكون توفيق الحكيم قد أخفق في أن يجعل محسن يتعلّم درسه من الحياة العملية بكل مافيها من ضراوة كما هي الحال عند بب، وغيره من أبطال رواية سيرة التجربة الذاتية. ولكن الحقيقة التي تبقى على مرّ الزمن هي أنَّ توفيق الحكيم استطاع أن يجعل كل مافي عودة الروح صحيح إلى درجة أنَّ كل مصري يستطيع أن يتعرّف إلى عناصرها في بيته وحتى في قلبه، إذ نجح توفيق الحكيم في تقديم رواية تعلّم منها هو الكثير فيما بعد وعلم غيره منها الأكثر، إذ شقّت الطريق أمام روائيين عرب تحقّقت آمالهم على يد آمال الحكيم العظام.
(
( الهوامش:
((1/97)
1)ـ كتب توفيق الحكيم في إيضاح لرسالة كتبت له في 18أكتوبر 1928 مايلي:
... "كنت قد شرعت أكتب في باريس في آذار 1927 الرواية التي سميتها بعد ذلك "عودة الروح" كتبتها أول الأمر بالفرنسية، لأنَّ شعوري وقتئذٍ هو أنَّ الفن القصصي كالفن التمثيلي لم يزل في مصر محتاجاً إلى الاحترام الذي يظفر به فن المقالة الأدبية. ولابد للأديب في مصر وقتئذٍ من أن يكون قبل كل شيء صاحب مقام راسخ في ميدان المقال الأدبي. أمَّا المتخصص في الكتابة القصصية أو المسرحية وحدها دون أن يكون إلى جانب ذلك كاتب مقال فإنَّ عالم الأدب عندنا لا يعترف بجدية عمله. ولذلك كان أحد زملاء طه حسين في السوربون وهو أحمد ضيف عندما أراد أن يكتب رواية "منصور" كتبها بالفرنسية واشترك معه في كتابتها كاتب فرنسي اسمه "فرانسوا بونجان"، ولكن هذا الكاتب الفرنسي زعم بعد ذلك أنَّه هو المؤلف الاصلي وأنَّ أحمد ضيف ليس أكثر من معاون ثانوي أمدّه بالمعلومات والمواد التي صاغها هو بقلمه الفرنسي وفنّه الروائي. وهذا ماكاد يحدث لي. وما جعلني أرفض مشاركة أي شريك فرنسي كما جاء في هذه الرسالة. ولقد طرحت عندئذٍ هذه النسخة الخطية الفرنسية جانباً".
... صفحات من التاريخ الأدبي لتوفيق الحكيم من واقع رسائل ووثائق دار المعارف، القاهرة، 1975، ص 18-19.
(2)ـ المصدر نفسه، ص 42.
(3)ـ أحاديث مع توفيق الحكيم من سنة 1951-1971، الشركة الشرقية للنشر والتوزيع، بيروت، 1971، ص 138 –139.
(4)ـ عندما يعود بب من مصر بعد غياب طويل وقد تنقّت روحه من الوهم والخداع، خداع النفس والمجتمع الذي عاشه في لندن يتساءل القارئ، ومشهد محسن يهزّ شباك السيّدة زينب؛ إذا كانَ قد عرج على الضريح قاصداً البركة في ذلك المقام سيّما وأنَّه عاد إلى مصر وقد استعاد روحه التي فقدها في يوم من الأيام في دهاليز لندن.
(5)ـ توفيق الحكيم ، عودة الروح، الجزء الثاني، مكتبة مصر، القاهرة، 1988، ص ص 90-91.
((1/98)
6) – Charles Dickens. Great Expectations. Oxford University Presss, London(1861: repr.in World’s Classics 1971). P331.
(7)ـ هنالك تقاطعات هامة وبارزة بين عودة الروح وصورة الفنان في شبابه، أهمّها المشهد الذي يصحو فيه محسن من النوم وقد غطّت شخلع وجهه بالقبلات "وما أن رآها وتبينها حتى ذهب عنه النوم فجأة، وارتجفت أهدابه، واحمرّت وجنتاه، واضطرب قليلاً، لا يدري لماذا؟... ثم تخلّص من أحضانها وجرى...."(ج1، ص148).
... لا يمكن أن يكون هذا المشهد قد وضع عنوة أو صدفة بل إنّه (ومثله إحجام مصطفى عن تجربة بنات الهوى في المقاهي الليلية في سبيل التسامي بعلاقته مع سنيّة) توضيح عملي لخروج بطل سيرة التجربة الذاتية من نوع من تجربته مع الجنس الآخر لتصبح لديه القدرة على اختيار إحدى العلاقتين الجنسيتين المختلفتين بعد التجربة. ومن المشاهد التي لا تنسَى في صورة الفنان في شبابه مشهد الغانية التي وجدها ستيفن تقف وحيدة على أعتاب النزل الذي كان يقيم فيه وتجربة الإغواء التي مرّ بها آنذاك، كتجربة رئيسية في نمو شخصيته.
(8)ـ صفحات من التاريخ الأدبي، ص 21.
(9)ـ أحاديث مع توفيق الحكيم ، ص 6-7.
(10)- Jonn Forster., The Life of Charles Dickens, London, 1976, Book . I. Section V.
(11)- Le Pere Goriot in la Comedie Humaine (The Human Comedy), ed, Marcel , Bouteron (Paris: Gallimard, 1956). Vol . II. P. 848.
... من الجدير بالذكر أنَّ بالزاك الفرنسي يستخدم الجملة الإنجليزية All is true وسط الكتابة الفرنسية ليؤكّد على حقيقة الحقيقة.
(((
"موسم الهجرة إلى الشمال"
دائرة السر الاسطوري وما بعدها(1/99)
هل كان يمكن أن يكون فاوست من إبداع كاتب غير ألماني؟... هذا استفهام استنكاري يطرحه يونغ في معرض حديثه عن الأسطورة والأدب. ومن الواضح أنَّ يونغ يعبّر عن اعتقاده بأنَّ فاوست يميّز الروح الألمانية وهي تتوق إلى شخصية الرجل الحكيم، المعلّم، الطبيب الهادئ، إلى آخر ذلك من أوصاف مماثلة تصف رسالة الشخصية المنتظرة التي كانت أبعادها تعيش في أعماق اللاوعي الجماعي للشخصية الألمانية.
وأكثر من ذلك، فقد تطوّرت صورة فاوست، كما تتطور الأسطورة عادّة، وأصبحت تشمل صورة الرجل الغربي، وتشكّل إشارة رئيسية في التراث الغربي، ترمز إلى جبروت الفرد وحكمته وقدرته العقلية الخارقة. وهكذا أصبح فاوست رمزاً بروحه لعدد هائل من الأعمال الأدبية والفنية الأوروبية، بل ذهب الاعتقاد إلى أنّ تأثيره امتدَّ إلى مجالات أخرى في العلوم والمعرفة، وأنَّه كان الدافع إلى أنماط كثيرة من السلوك الفردي المتميّز عبر التاريخ الأوروبي.(1/100)
غير أنَّ هذه الصورة المثالية لفاوست بدأت تهتزّ إثر ويلات الحرب العالمية وما خلّفته من دمار، دعا كبار المفكّرين الأوروبيين والأمريكيين إلى مراجعة الحساب وتقييم العلاقة بين الفكر المثالي والسلطة، والبحث عن منظور جديد يدين تلك المثالية، خصوصاً في تأثيرها في تكوين السلطة الذاتية، وهيمنتها في ميادين الحياة المختلفة. هاهو جورج شتاينر يبيّن أنَّ النازية وريثة ما يسمّى بالثقافة الأوروبية الرفيعة (High culture)، التي تسري في عصبها فردية فاوست، وهاهي سوزان سونتاج تتحدّث عن العطب الذي أحدثه الرجل الغربي الفاوستي (نسبة إلى فاوست طبعاً)، بكل ما لديه من مثالية وفن رفيع ومغامرة فكرية وطاقة لابتلاع العالم وغزوه (والإشارة هنا إلى الاستعمار الغربي). وآخرون كثيرون تبنّوا مثل ردّة الفعل هذه أمثال ريتشارد جلمان، وثيودور روزاك، وهيربرت ماركيوز، وفيدلر، وبواربي وغيرهم. وهؤلاء جميعاً أصبحوا يرون في التراث الأوروبي، الذي تأسّس على أسطورة الذات الفردية، قوة مدمّرة يجب التحوّل عنها.
ولو نظرنا إلى مصطفى سعيد في مثل هذا السياق، لأمكننا القول أولاً إنَّ مصطفى سعيد لا يمكن أن يكون من نتاج كاتب غير عربي، أي إنّه لا وعي جمعيّ عربي يواجه وعياً جماعياً أوروبياً عبر التاريخ ابتداء من حضارة قرطاجنة والأندلس، مروراً بالمواجهات المختلفة مع الغرب التي ترد في سياقها قصّة عطيل، إلى أنْ تصل إلى دخول الجنرال اللنبي فلسطين وإنشاء الجسر الذي سمي باسمه، إذ أصبح جسر المواجهة الأبدية الذي تلتقي فوقه أطراف هذه المواجهة.(1/101)
وتصل إلينا هذه المواجهة من خلال صورة اللاوعي الجمعيّ، التي تؤثر روحها بطريقة غير مباشرة في شخصية مصطفى سعيد. ويعني هذا أنَّ مصطفى سعيد نفسه هو نتاج هذه المواجهة التي سبقته ولاحقته وظلّت تلاحقه، وأنها ليست من نتاجه كفرد. وعلينا هنا أن نميّز بين التاريخ والأسطورة ، فمصطفى سعيد ليس شخصية تاريخية أو شخصية روائية في سياق تاريخي يروي علينا التاريخ فحسب.ومهما تميز سلوك مصطفى سعيد بالفردية أو الذاتيّة، إلاَّ أنََّه في أصله سلوك لا وعي جماعي، فعلاقته مع النساء (وكل واحدة تمثّل حالة خاصة تختلف عن سواها) لا تمثّل حبَّاً ولا رغبة جنسية ولا طمعاً في الزواج، بل إنها مجتمعة توصل، في اصطلاح شتراوس، رسالة (message)، وهي في مجموعها تشكّل ما يعرف بالإشارة "بالمدونة" (code)، ويمكن النظر إليها من خلال اصطلاح نحته إيجلتون وهو (Mythemes).
وبالرغم من أنَّ مصطفى سعيد شخصية قوية ترسخ معالمها في الأذهان من أول لقاء له مع الراوي في القرية، فإنّه ليس كباقي الشخصيات في الروايات العربية التي يمكن أن تطابق واقعاً تاريخياً معيناً، أو تحاكي مشكلة مأمونة تجعلنا نقول إنها أقرب إلى الحقيقة من الخيال.إنَّ ما يسهَّل علينا أمر التعامل مع مصطفى سعيد، هو منظور الشخصية الأسطوري الذي ينظر إلى الأسطورة على أنها قيمة (value) لا حقيقة، ويمكن أن نقول إنَّه يشبه "الشاهد الغائب"، وهو المنظور الحديث للأسطورة عند بارت. وغياب الشاهد في "موسم الهجرة إلى الشمال"، هو ربما يحافظ على وجود التناقض في العلاقات المختلفة في حياة مصطفى سعيد، تلك العلاقات التي تلحّ بسبب تناقضها على توفير التأويل وتظلّ مستمرة في إلحاحها دون جدوى.(1/102)
وفي ضوء ردّة الفعل ضد الرجل الغربي الفاوستي المذكورة آنفاً، يمكننا تصوّر مصطفى سعيد نوعاً من الذات الأخرى أو المغايرة (alter ego) لفاوست، فإذا كان فاوست ممثلاً لجبروت السلطة الفردية، إنَّ مصطفى سعيد أشبه بجبروت المقاومة لتلك السلطة؛ وإذاكان فاوست هو الفعل، فمصطفى سعيد هو ردّة الفعل، وهكذا تنشأ المجابهة بين سلطة الوعي ومقاومة اللاوعي، وهي مجابهة أسطورية بسبب الروح الجماعية التي تسري في كلا الطرفين.
يهاجر مصطفى سعيد إلى الشمال وقد ترسّبت في لا وعيه قصّة الاستعمار الطويل، وتجد متنفّساً لها في الشمال من خلال سلوك معقّد يجسدّ نفسه في صورة تتجاوز التأويل، وعند العودة إلى الجنوب تترسّب هذه الصورة في لا وعيه، وتظل مكبوتة إلى أن تفور في أعماق النهر الخالد لتظلّ سرَّاً يتحدّى الهجرة والعودة العاديتين، ويفوق الدهشة الرومنسية أو الأسطورية التقليدية، تلك الدهشة التي ينتهي مفعولها بالتعرّف إلى الحدث نفسه من حيث مصدره أو سببه ومسبّباته.(1/103)
واللاوعي عند مصطفى سعيد ليس من النوع الذي يخضع للاشتقاق، بمعنى أن يكون السلوك الظاهري مرتبطاً أو معبّراً عن اللاوعي المكبوت كشعور القهر الداخلي، أو أنَّه ليس من اللاوعي السيكولوجي الاشتقاقي؛ وهو أقرب إلى يونغ منه إلى فرويد بسبب قيمته التصويرية (visionary) التي تسمو على الاشتقاقية (derivative) وربّما يكون أقرب إلى القيمة التركيبية (structural)، التي تتطلّب النظر إلى قيمة العلاقات بين الأجزاء (relational) من أجل الوصول إلى منظورها الكلي، ومن هنا يمكن قراءة موسم الهجرة إلى الشمال من خلال منظور متقدّم للغة يرى الرواية أمراً بنيوياً لا يشتقّ من أصل معيّن، ولا يستهلك بعد الفراغ من سرد حوادثه. فالسرّ في حياة مصطفى سعيد يظلّ سراً في جميع القراءات، وبقدر ما تقربنا الرواية من سرّ الهجرة نفسها وسرّ العودة بعينها، والذكاء ذاته، والرعب الرعب (كلمات كونراد، The terror the terror) فإنها تبعدنا عن شخص مصطفى سعيد، إذ نعرف أنفسنا به دون أن نعرّفه بنا، وهو قريب جداً إلينا بلا وعيه وبعيد عنّا بشخصيته، وعلى كل حال، فلابدَّ من بعض التفاصيل لهذه العجالة.
سرّ كل هذا الإقبال على موسم الهجرة إلى الشمال، ربّما يعود إلى المزاوجة بين سحر الفنّ القصصي التقليدي وسرّ الشخصية القصصية في فن الرواية الحديث. يجمع الطيب صالح بين سحر الماضي وسرّ الحاضر، بطريقة تلتقي فيها عفوية الواقع ـواقع الحياة التي نعيشها ـ مع عفوية الخيال، لا عفوية الفن الذي يقودنا عادة إلى أبعد مما نرى ونسمع ونعلم ونألّف، وهكذا يتداخل الواقع والخيال، ليدعم أحدهما الآخر ويسمو به إلى ماهو أبعد وأسمى.(1/104)
السحر الذي يواجهنا به الراوي منذ البداية، هو في أبسط صوره سحر القصص التقليدي الذي يقصّ علينا، ما حدث في تتابع زمني يبدو لنا من أول وهلة وكأنَّه لا يخرج عن المألوف، ويقدّم الراوي نفسه لنا إثر عودته من الغرب بعد غياب سبع سنوات، وكأنَّها رحلات السندباد السبع في بلاد الغربة. ونتهيأً لسماع قصّة الراوي العائد إلى الوطن بشوق وتلهّف، وكأنَّه يقول لنا في كل كلمة إنَّه "راضٍ من الغنيمة بالإياب"، بعد طول الغياب. ومايكاد يتشكّل لدينا هذا التوقّع حتى يلتقي الراوي بمصطفى سعيد، عائد آخر سبقه في العودة، واستقرّ به المقام في القرية، وبهذا نتهيأ من جديد لسماع قصّة جديدة، ليست بالضرورة قصّة الراوي نفسه. وهكذا ينطوي استعدادها الأول الذي أدخلنا الراوي إليه بادئ ذي بدء على استعداد آخر، يخلقه الراوي على التوّ، بعفوية لا تجعلنا نشعر أو نهتم بهذا الانتقال الذي يحوّلنا طوعاً إلى رواية جديدة تكاد تنسينا ما كنّا نتوق لسماعه من رواية الراوي لقصته نفسه، وما حصل معه في الغرب.(1/105)
ومن خلال هذا السحر، وهو ليس بجديد على الفن القصصي الذي تتزعّمه شهرزاد، ينفذ الطيب إلى أعماق الشخصية، ليودع فيها السرّ الأزلي، طاقة كامنة تصبح على مدى الزمن مصدر جاذبية وإلهام للقارئ. والسرّ هو ما لا يستطيع القارئ الوصول إليه بالرغم من كل ما يروى عنه، وبالرغم من كل مافي السر القصصي من سحر يشدّ القارئ إلى الحدث والراوي والشخصية. وهذا النوع من السرّ يختلف عن السرّ الذي يتعلق بالخيال العلمي أو بالحوادث الخارقة للطبيعة، فنحن مثلاً لا نقف متسائلين كثيراً أمام ما يحصل للسندباد من عجائب، وربّما يصيبنا الفزع، ولكنَّنا لا نحتار في سبب ما يحدث، ونكتفي بأنَّ الحوادث مفزعة، إذ أنَّه لا يدخل في حسابنا أمر فزعها، ولا وجود علّة لحدوثها، وكأنَّ تعاقد القارئ مع الحكايات الخارقة للطبيعة يتميّز بنوع من تصفية الحساب، يخفّف من إشكالية التماس بين القارئ والحدث. وهكذا، فإنَّ السرّ لا يكون مشكلة عندما يكون السرد القصصي حدث وحسب، ويكون الحدث مفرّغاً من الشخصية ومقوّماتها البشرية، فالسندباد حدث نتخيّله لا شخصية نتصوّرها، لهذا نطلق له العنان ليفعل ما يشاء، دون حساب أو تساؤل، لأنَّنا لا نَعْرف أنفسنا، ولا نعرّفها من خلال شخصيته وسلوكه، وهو لا يقرّبنا من عالمه واقعياً، بل إنَّه يظلّ بعيداً عنّا بعد الحدث الذي يقوم به ويعبّر عنه. وعندما حاول جويس أن يسمّي السندباد بأسماء عدّة، من خلال تغيير الحروف الأولى في يوليسيز، روايته المشهورة، كان من بين ما هدف إليه التذكير بأنَّ السندباد ليس إلاَّ مجرّد اسم أو لفظ لا يؤثّر استبداله باسم آخر يتشكّل من حروف مختلفة. وينسحب هذا الأمر على القصص والحكايات التي يكون الحدث فيها هو الذي يتحكّم في العملية القصصية، إذ تتقزّم الشخصية، وتصبح مجرّد حدث يحدث فقط.(1/106)
والتطوّر الهائل الذي حدث في الرواية الحديثة، يمكن تلخيصه في التوجّه الجاد نحو الشخصية، وصرف النظر عن الحدث كمركز للثقل في الرواية. وقد أصبح من الواضح أنَّ هذا التوجَّه يشكّل تحدياً هاماً في العلاقة بين القارئ والرواية، عندما أصبحت الشخصية لا الحدث هي حلقة الوصل، وبذا صارت المسافة قريبة وبعيدة في الوقت نفسه، معروفة وغير معروفة، ظاهرة وباطنة في آن واحد، وأصبح السرّ يُروى ولا يُقال ولا يُعرف، يُعرف ولا يوضَّح... إلى آخر ذلك.
والذي يشدّنا إلى موسم الهجرة هو السرّ الذي يطوّق الرواية منذ أن يقابلنا الراوي بعودته من بلاد الصقيع إلى أن يودّعنا بمنظره وهو يطفو في مياه نهر النيل مقهقهاً، وكأنَّه يجذّف في قارب النجاة، وكأنَّه يقول لنا أيضاً إنَّه أفلت من لعبة القدر الذي انتهى بمصطفى سعيد مختفياً في مياه النيل في موسم الفيضانات، إنَّه أخيراً اختطَّ مصيراً لنفسه مغايراً لمصير مصطفى سعيد الذي اختفى إلى الأبد، ليخلّف وراءه مصيراً غامضاً يظلّ مصدر سؤال وتساؤل إلى ما لا نهاية.(1/107)
وكأنَّ الراوي هنا يريدنا أن نكفّ عن السؤال والتساؤل، وكأنَّه يقول لنا: انظروا كيف اختفى مصطفى سعيد، وكيف بقيتُ أنا على قيد الحياة، مجدِّفاً في مياه نفس النهر!... وعندما نتأمّل الوضع نراه غير ذلك تماماً. فالسّر ما زال يحيط بالاثنين، بالراوي والشخصية: مصطفى سعيد. وأول ما يخطر على بالنا هو سرّ الراوي نفسه: ما الذي حدث له خلال السنوات السبع التي قضاها في بلاد الصقيع؟... لا نعلم عن ذلك شيئاً، فبدلاً من أن يخبرنا الراوي بتاريخ حياته خلال تلك المدة، يقصّ علينا حياة شخص آخر، وكأنَّ حياة مصطفى سعيد أصبحت مبرّراً كافياً لإخفاء حياة الراوي. ويظلّ السؤال يطرح نفسه: هل حياة مصطفى سعيد موازية لحياة الراوي الذي عاش مدّة سبع سنوات في المكان نفسه؟... أليس التعاطف بينهما هو سرّ هذا الاعتقاد الذي يغرينا بإقامة موازاة بين الطرفين؟... لماذا لم يجد مصطفى سعيد غير الراوي شخصاً مناسباً في القرية يبوح له بقصته كاملة؟ هل ابتدع الراوي قصة بطلها مصطفى سعيد ليقصّها على نفسه من أجل أن يستوعب ما حصل له فعلاً، وهنا تضيق المسافة بين الشخص والشخصية من أجل تنفيذ المتطلبات الفنية للعمل الروائي؟... لماذا انتظر مصطفى سعيد كل هذه المدّة، حتى يرجع الراوي من الغربة ليقصّ عليه قصّته؟ وبعبارة أخرى ألم يجد مصطفى سعيد في القرية من يستطيع أن يأتمنه، طوال هذه المدة التي عاشها في القرية، ليكون متنفساً لما يعتمل في داخل نفسه، وهو يشارك أهل القرية أعمالهم وأفراحهم وأتراحهم؟ هل يمكن أن نفسّر اللقاء التلقائي بين مصطفى سعيد وبين الراوي بالقول الشائع: "وكل غريب للقاء نسيب؟.. ما سرّ كل هذه المشاركة الوجدانية بين الاثنين؟...(1/108)
هذا سرّ يظلّ موضع استفهام واستفسار لا يستطيع الإجابة عنه حتى الطيب صالح نفسه، لأنَّه وضع الأمر في صورة تُصوّر تروى، ولكنها لا تنطق ولا تبوح بصريح العبارة، وهذا ما يجعلنا نظلّ مشدودين للصورة دون معرفة صريحة لكليهما. هذا يعني أنَّ الطيب صالح قدّم لنا صورة للتأمل لا بياناً للإيضاح!...
ولكن السرّ لا ينتهي عند هذا الحدّ، بل إنَّه يلاحقنا في أجزاء أخرى من السرد القصصي. وعلى سبيل المثال نحن لا نعلم شيئاً عن أسفار مصطفى سعيد في الأمصار النائية، بعد خروجه من السجن، ولا نعلم سرّ عودته إلى السودان، ولا سرّ ارتباطه بحسنة، وهل أحبّها وأحبته قبل الزواج، ما الذي دفع مصطفى سعيد إلى أن يبني البيت العظيم ذا القرميد الأخضر؟.. وهل يرمز ذلك اللون إلى المزار الذي يلجأ إليه الصوفي عندما يقف مذعوراً أمام أسرار الكون؟... بين الأسئلة التي تستحوذ علينا بعد اختفاء مصطفى سعيد، ما يتعلّق بعدم زواج الراوي من أرملة مصطفى سعيد، حيث المبررات الكافية لذلك الزواج الذي لو تم لكان فيه إنقاذ للجميع، أو لمنع مأساة عاشتها القرية بأكملها. والسر الأكبر طبعاً يتعلق باختفاء مصطفى سعيد.(1/109)
ومنذ البداية تُدْخِلنا الرواية في دائرة السرّ السحري، أو السحر السرّي، إذ يلج الراوي إلى هذه الدائرة من خلال قصة العودة ذات السرّ الأزلي، والتي تشكّل رصيداً هائلاً في فن القصص لما توحيه من سرّ يهيمن على الحياة الدنيا والآخرة، ونظلّ نلهث وراء تحسّبه وتحسّسه. والقصص والروايات والأساطير التي نبعت من فكرة العودة كثيرة، ولا تحدّ بزمان ولا بمكان، يخطر منها على البال قصة "الملاح القديم"، للشاعر كوليردج، وهي قصة يمكن أن نقرأها على مستويات متفاوتة، لكثرة ما في أسرارها من إيحاءات متنوّعة. يصل الملاح القديم إلى عالمنا من مكان وزمان موغلين في القِدَم ليقصّ علينا قصّته. يستوقف رجلاً كان مدعواً لحضور حفلة زفاف ويبدأ الملاح القديم يقصّ قصّته، وما كان على الرجل إلاَّ أن يستمع حتى النهاية، وقد قرّر في آخر الأمر أن يعدل عن السير قُدُماً نحو الاحتفال، وكأنَّه أصبح، بعد أن استمع إلى القصة، شخصاً آخر، حكيماً وحزيناً في آن واحد، وهكذا تُحدث قصة الملاح القديم تحوَّلاً في حياة الرجل، عندما تقرّب إليه البعيد مكانياً وزمانياً، وتجعله يألف ماكان مستهجناً، بل يستهجن ماكان مألوفاً (الدعوة لحضور حفلة الزفاف).
ونجد الراوي في موسم الهجرة يحاول أن يقرّب إلينا، إثر عودته، أجواء المهجر الذي قضى فيه سبع سنوات، وكان يسعى إلى تضييق الشقّة بين المحيط المتجمد الشمالي وخط الاستواء، بين مناخين متباينين وعالمين متباعدين. وإنَّه لمن المؤسف، بهذه المناسبة، أن يفوّت المترجم دينس جونسون ديفس على نفسه الانتباه إلى إيحاءات العودة التي يبدأ الراوي بها من أول كلمة؛ ولو أنَّه على سبيل المثال التزم الترجمة الحرفية، فإنَّه ربّما يبدأ الترجمة باستعمال المضارع التام (I have just returned) وفي هذه الحالة، فإنَّه سيكون قد أوفى الترجمة حقّها، ولربما جعل القارئ الواعي يتذكّر بداية "مرتفعات وذرنج"، التي تبدأ بالكلمات نفسها.(1/110)
ومن الواضح أنَّ الراوي، عندما يكون عائداً من غربة، يكون محمّلاً بالأسرار التي نتوق إلى سماعها أو قراءتها. ولكن السرّ يكمن في أنَّ سماع هذه الأسرار وقراءتها رواية لا يعني فهمها، والتعرّف إليها، والوصول إلى دلالتها، وربّما تكون رواية هذه الأسرار إنارة كامنة بعيدة المنال فقط، ومن هنا تجدر الإشارة إلى العملية القصصية التي لا تعني بالضرورة التعرّف إلى مادّة القصص. ولو أردنا أن نقدّم موجزاً مقتضباً لتطوّر الرواية في مراحلها الثلاث: الرومانس، والواقعية التقليدية، والواقعية الجديدة (الحداثة)، لقلنا إنَّ الأولى تتميز بحدثها البعيد عنّا مكاناً وزماناً، وذلك الحدث الذي لا نعبأ أن نعرف أنفسنا به أو نعرّفه بأنفسنا، إذ إنَّ بُعْده أمر مسلّم به.(1/111)
وبالرغم من أنَّه يشغل خيالنا، فإنَّه لا يشغل حياتنا وواقعنا الذي نعيشه. أمَّا الواقعية التقليدية، فالحدث فيها من حياتنا وفيها، والعملية القصصية لا تزيد على تكرار لواقع نألفه ونعرفه ونتوقعه، وهي صياغة الواقع بشكل قصصي، أمَّا المرحلة الثالثة، فهي مختلفة تماماً، وتكاد تكون مزيداً من المرحلتين الماضيتين وتجاوزاً لهما، إذ هي تركيب جديد لواقع نعيشه أو نتخيّله، فالراوي في المرحلة الأولى شخص بعيد عنّا كل البُعد، وماهو إلاَّ شبح يروي أشياء بعيدة عنّا مثل بُعده هو نفسه عنّا. أمّا في المرحلة الثانية، فالراوي شخص يمكننا أن نتصوّره ماثلاً أمامنا، له صوت مستقل عنهّا وليس عن واقعنا، وهو، على النقيض من الراوي في المرحلة الأولى، شخص قريب جداً منّا. ولكن الراوي في المرحلة الثالثة يختلف تماماً عنه في المرحلتين السابقتين، وربّما يكون مزيجاً مركّباً من الاثنين معاً، فإذا كانت مادة الرواية بعيدة عنّا مكاناً أو زماناً أو كليهما معاً، فإنَّ الراوي يحاول أن يجعلها قريبة منّا، ولكن دون أن يلغي بُعدها أو يمحوه من الوجود، وإذا كانت قريبة منّا، فإنَّه يحاول أن يميط اللثام عن المألوف، ليجعلنا نرى أبعد مما تراه العين المجرّدة، وبذا يتكشّف لنا المألوف في أبعاد جديدة تفوق المألوف، ولكن دون إلغاء المألوف أيضاً، وبهذه الممارسة التي تحاول الحفاظ على المصدر حتى بعد (أو أثناء)، التحوّل عنه، يضمن الراوي ديمومة تتمثّل أكثر ما تتمثّل في التقريب بين عالمين أو بُعدين مختلفين.(1/112)
باختصار، لقد تحوّل الراوي في المرحلة الثالثة إلى صوت شخصي لنا، عندما نسمعه أو نقرأه، لأنَّه يدخلنا في التجربة التي يخوضها هو، ويجعلنا منذ البداية نعيد معه تركيب التجربة، وهكذا يتحوّل الحدث والشخصية وأسرارها إلى تجربة تسري في السامع أو القارئ مسرى الروح في الجسد، وكأنَّ حقّنا في السؤال عن السرّ الذي يكمن في الحدث أو الشخصية يصبح أمراً لا مبرّر له بعد أن نصبح شركاء في العملية الروائية. وإنْ كان لابُدَّ من سؤال عن سر العمل القصصي (الذي لا يلغيه الغياب المبرّر في السؤال)، فلا بُدَّ من أن نوجّهه إلى أنفسنا، و كأنّ الكرة تصبح في ملعبنا، حيث يلغي دورنا باعتبارنا متفرّجين، أو مراقبين.
ولعلّ أبرز ما يميّز موسم الهجرة، هو أنّ الراوي ينجح في إشراكنا في العملية القصصية منذ البداية، ويصبح سرّه سرّنا نسمعه ونقرأه، وكأنّنا نرويه، ويصبح مصطفى سعيد قريباً منّا وبعيداً عنّا مثل قُربه وبُعده عن الراوي، ويتحوّل السرّ في الرواية بأكملها إلى عملية مشاركة، وهي أكثر من تعاطف، وهذا بطبيعة الحال غاية ما يطمح إليه الراوي من إنجاز فني.(1/113)
ولو قارّنا بين الراوي في عصفور من الشرق، والراوي في موسم الهجرة، لتبيّن لنا أنَّ الراوي والشخصية في عصفور من الشرق، كيانان منفصلان عنّا، وأنَّ الراوي يقف بيننا وبين الشخصية وسيطاً يقرّب لنا ما بَعُد، فهو الذي يكشف لنا ما يخفيه أو يحاول أن يخفيه محسن، وهكذا تصبح الراوية حدثاً رومانسياً يخفى حتى على محسن نفسه، فيقوم الراوي بتعريته وكأنَّه قناع ارتداه محسن وكشفه الراوي، وفي هذه الحالة تصبح وظيفة الراوي نقل المعرفة بسرّ الحدث إلينا، وما أن يتمّ ذلك حتى ينتهي حضور الراوي عندنا، بل ينتهي حضور الرواية برمّتها. وربّما كان هذا ما يجعلنا نسمّي الرومانس عملاً مستهلكاً بعد الفراغ من سماعه أو قراءته. ومن الواضح أنَّ الراوي في عصفور من الشرق، أو في قنديل أم هاشم ، أو حتّى في الحي اللاتيني، ينجح نجاحاً باهراً في تصوير الشخصية ماثلة في أماكن مختلفة، وفي ظروف متعدّدة، ولكن صورة الراوي للشخصية هذه، تظلّ صورة ماثلة في تلك الأمكنة والظروف والأزمنة، منفصلة عن تصويرنا أو تصوّرنا لها، وتظل صورة في العالم الخارجي وليس صوتاً متردّداً (أو نردّد) صداه في نفوسنا كما هو الحال في موسم الهجرة، إذ لا فرق بين أن نكون مستمعين (أو قارئين) للرواية وبين أن نكون راوين لها.(1/114)
ويظلّ السّر الأكبر الذي يلاحقنا ونلاحقه عند قراءة (موسم الهجرة)، وبعد الفراغ من قراءتها، في شخصية مصطفى سعيد وليس في قصة الاستعمار الأزلية نفسها. ويكفي الرواية نجاحاً أنّها تظلّ تثير في نفوسنا السؤال الذي لا جواب له: من هو مصطفى سعيد؟.. من هو هذا الذي أصبحت قصّته قصّتنا، ليس لأنَّ قصّته هي قصّة الاستعمار المشتركة بيننا وبينه فقط، بل لأنَّ الراوي جعلنا نقصّ على أنفسنا قصّته، وأدخلنا في دائرة السرّ الروائي شخصية لا حدثاً، إنْ صحَّ التعبير؟ لو كان مصطفى سعيد مثلاً رجل دين لقلنا إنَّهُ ربّما كان مدفوعاً برغبة في الردّ على نشاط المبشّرين الغربيين من رجال الدين الذين ساهموا إسهاماً كبيراً في نشر الاستعمار في منطقتنا وفي مناطق أخرى من العالم، ولو كان مصطفى سعيد رجل أعمال وخسر أمواله بسبب منافسة الشركات الأجنبية مثلاً، لقلنا إنَّ الدافع وراء حملته كان اقتصادياً، ولو كان مصطفى سعيد عربياً عابر طريق في الغرب غرق في قيمه المادية بسبب رومانسية الشرق التي حملها معه، لعرفنا أصل الفعل وردّه. ولو كان مصطفى سعيد هذا أو ذاك لعرفنا السبب ولانتهت القصّة ببطلان العجب.(1/115)
إنَّ مصطفى سعيد يظلّ مثيراً للدهشة لعدم وجود تفسير ظاهر أو دافع محدّد وراء سلوكه يجعلنا نقرأ روايته بتسلسل يتّبع الربط المألوف بين السبب والنتيجة، وما يمكن أن ينتج عن هذا الربط من تصالح مريح. وفي اعتقادي أنَّ مصطفى سعيد لم يتبنَّ قصّة الاستعمار ومناهضته بدافع من حبّ التضحية، وأودّ أن أقترح هنا أنَّ مصطفى سعيد وقف من الاستعمار هذا الموقف بموهبته الفذّة، وأرجو ألاَّ يظنّ من هذا الاقتراح أنَّ الموهبة تشكّل دافعاً لسلوك مصطفى سعيد، فالموهبة مثل الطاقة (التي أشار إليها الطيب مرّة كوصف يميّز شخصية مصطفى سعيد)، لا تتحدّد بأي دافع أخلاقي، بل هي تعلن عن وجودها دون ارتباط بمسبّبات وارتباطات ودوافع، وهي أشبه بما يسمّيه إليوت المعادل الموضوعي، وهنا يمكننا أن نسأل: هل يمكننا أن نقول، بعبارة بسيطة، إنَّ قصة الاستعمار لا يستوعبها غير عقل شخص موهوب مثل مصطفى سعيد، وإن رد الفعل الطبيعي للاستعمار عند العقل الموهوب يكون غالباً رفضاً لا تقبل الموهبة مساومة عليه؟..(1/116)
هل تأثر الطيب بكونراد في جعل مصطفى سعيد شخصية موهوبة؟.. نحن نعلم أنَّ كونراد اختار شخصيات على درجة عالية من الموهبة والعبقرية للقيام بمهمات الاستعمار. من هذه الشخصيات كورتز في قلب الظلام، العبقري الموهوب الذي قبل على نفسه أن يعمل مع شركة بلجيكية استعمارية تستغلّ العاج في الكونغو، ولكنه لم يواصل المسيرة مع هذه الشركة، فقد استقلّ عنها واستمرّ يمارس الاستغلال بنفسه ولنفسه في الكونغو. هذا نمط من أنماط شخصيات كونراد الموهوبة التي تقبل على نفسها أن تكون أداة تنفيذية للاستعمار. أمّا النمط الآخر فهو الذي يقبل على نفسه أن يظل أداة تنفيذ لخطط الاستعمار، دون أن يخطر على باله الانفصال عنه في أي مرحلة من مراحل نشاطه. وأكبر مَثَل على ذلك جولد في نوسترومو العبقري الذي سخّر موهبته لاستغلال منجم الفضّة في سولاكو (التي ربّما تكون في أمريكا اللاتينية)، وذلك بدعم من الأمريكي هولرويد الذي كان يعتقد أنَّ رأس المال الأمريكي لا بُدَّ أن يسيطر على العالم حاضراً أو مستقبلاً، سواء قَبِلَ العالم أو لم يَقْبَل، وأنَّ هذه السيطرة أشبه بقدر، وهي خارجة حتى عن إرادة المسيطر.
هل تأثّر الطيب بهذا النمط من الموهبة الشخصية، واستخدامه معكوساً ليناسب رحلة مصطفى سعيد، التي تسير من الجنوب إلى الشمال، أي في الاتجاه المعاكس لرحلة الاستعمار التي تسير من الشمال إلى الجنوب؟
هل كان كونراد يعتقد أنَّ الاستعمار بحاجة إلى موهبة فردية تبرّر شرهه وخبثه؟ ألم يستخدم الاستعمار في تاريخه الطويل رجالات على درجة عالية من الذكاء والموهبة؟ ألم يجنّد الاستعمار البريطاني رجالاته من خيرة المدارس المتفوّقة التي كانت تُدعى بـ"المدارس العامة" (public schools).(1/117)
وقد صوّر كونراد وفورستر الاستعمار على أنَّه فكرة شرّيرة وخبيثة لا يمكن أن يُقْبِل عليها إلاَّ من كان على درجة عالية من الذكاء، أو الغباء وعدم الإحساس. وقد أوضح فورستر في رحلة إلى الهند، أنَّ النساء الإنجليزيات في الرواية على درجة عالية من السوء، وهنّ طبعاً ينتمين إلى النوع الثاني الذي كان يرضى على نفسه أن يعيش امتداداً للاستعمار دون أي إحساس بأبعاده. أمّا كونراد، فقد كان على وعي بأنّ تنفيذ الشرّ كان بحاجة إلى موهبة خارقة لتبرّر وجوده أولاً، باعتباره فكرة، ولتضعه موضع التنفيذ ثانياً. وكأنّ كونراد كان يعتقد أنّ الاستعمار كان بحاجة إلى فكر ذكي موجَّه. ويبدو أنَّه انطلق من الاعتقاد بأنَّ الذكاء لا يحمي صاحبه من ممارسة الشرّ. أليس الأذكياء مستهدفين أكثر من غيرهم للقيام بمهمات استعمارية في كل مكان وزمان؟(1/118)
ويمكن للذكاء أن يسير في اتجاه معاكس تماماً للاتجاه المذكور عند كونراد، فبدلاً من أن يكون قبولاً يكون رفضاً للاستعمار، فإذا كان الاستعمار ينشأ أصلاً بعون الذكاء والفطنة، فلابدّ للذكاء والفطنة أن يكون المعول المناسب لهدمه، بمعنى أنَّ الذكاء سلاح ذو حدّين، وإذا كان الذكاء قادراً على تبرير فكرة الاستعمار، فإنَّه من الأوْلى أن يكون قادراً على رفضها بل وحازماً وجازماً في ذلك، كما أنَّ الذكاء في حالة أبطال كونراد، يتحدّى كل المسوّغات التي تفنّد الاستعمار. إنَّ الذكاء في حالة مصطفى سعيد يتحدّى كل الإغراءات، التي يمكن أن تخمد صوته، والذكاء هنا أشبه بشعلة لا تطفئها كل رياح الشمال. نحن نعلم أن مصطفى سعيد لا يذعن لإغراء المال ولا الجاه ولا الجنس، فهو الشاب الوسيم الذكي العبقري صاحب المركز الأكاديمي المرموق، يملك القدرة ليس فقط على التحرّك في المجتمع الغريب، بل على اختراقه بكل يسر، كل ما يحصل عليه من مكاسب من المجتمع الذي يلفظه بكل إباء وشمم تعبيراً عن وعيه برفض المجتمع الغربي له أصلاً، حتى لو أبدى قبوله له في ظاهر الأمر، وهو ـ كما يعتقد مصطفى سعيد ـ قبول مؤقت وزائف.
إنَّ أيَّ تأمَّل لخلفيّة الراوي، يبيّن لنا أنَّ الاستعمار سلوك ذكي انحرف بمسيرة الذكاء إلى ناحية الشرّ، واكتسب في هذه الأثناء عزيمة منحته قوة، بل تحوّلت هذه القوّة إلى فعل فتّاك.(1/119)
من الأسئلة الجادة التي تثور حول شخصية مصطفى سعيد أسئلة تتعلّق بقدرته على استيعاب قصّة الغرب واستعماره. استوعب مصطفى سعيد (المعنى هنا اصطلاحي وليس قاموسياً) الغرب من خلال الدخول معه في مواجهة (لا مجادلة)، عاشر نساءه من مختلف الفئات، جادل أساتذته في أكسفورد، ردّ على القاضي والمحلّفين في المحكمة، خبر من خلال تجربة المواجهة المباشرة الروح المعادية المبطّنة (المؤدّبة في ظاهرها أحياناً)، التي تشكّل للعربي الإفريقي هوية هزيلة وكأنها صدقة من بني بشر الغرب لغير البشر من غير الغرب. عندما صاح مصطفى سعيد في المحكمة أن اقتلوا هذه الأكذبوة هذا المصطفى سعيد الذي تعرفون، كان يعرف أنَّ الشخص الماثل أمامهم ماهو إلاَّ صورة زائفة (effigy) تخفي وراءها شخصاً آخر يجهلونه، وبقي هذا الموقف في الرواية سرّاً، لأنَّ الطيب أبقاه ممسرحاً ولم يحطه بأي خطابة كان من شأنها (لو فعل ذلك)، أن توضّح الأمر وتفسده في الوقت نفسه. ويؤرّخ هذا الموقف نمطاً معيّناً من سلوك الاستعمار الذي كان يتوهّم أنَّ الجناية هي في الجاني الماثل أمامه في محكمته، حيث هوية الجاني وجنايته والمحكمة ـ كلّها ـ من صنع الحاكم الذي تكمن الجناية أصلاً في عدوانيته، وكأنَّ صيحة مصطفى سعيد تقول لنا، إنَّ الاستعمار قضى تاريخه الطويل وهو يبحث عن الجاني دون أن يصل إلى نتيجة، لأنَّه كان يرفض دائماً أنَّه الخصم والحكم، بل الجاني المنشود، وكأنَّه لا يعترف بمنظوره المقلوب الذي يحكم فيه على الأمور.(1/120)
ولمشهد المحكمة بُعد خاص ربّما يضيع مغزاه وسط المشاعر المتأجّجة التي تبرز أثناء المحاكمة، فتبدو العملية وكأنَّها إثارة وحسب. إنَّ صيحة مصطفى سعيد توحي لنا أنَّ المحكمة ماهي إلاَّ قناع حضاري يخفي الغرب المستعمر وجهه الحقيقي خلفه، وكأنَّ مصطفى سعيد يقول للمحكمة إنَّ الذي ترون أمامكم ليس فرداً اسمه مصطفى سعيد بل هو التاريخ. ومن يحاكم التاريخ؟ لذلك قال مصطفى سعيد إنَّ عطيلاً أكذوبة، أي أنَّ العلاقة بين الغرب والشرق ليست علاقة غرامية فردية رومانسية كالتي بين عطيل الأسود وديدمونة البيضاء، ولا هي أيضاً علاقة عدوانية كالتي بين مصطفى سعيد والنساء الأوروبيات. إنها علاقة شائكة، وإنْ احتاجت إلى محكمة، فيجب ألاَّ تكون محكمة الرجل الأبيض التي يعدّها للرجل الملوّن لتضفي شرعيّة على سلوكه. من يحاكم من؟ صيحة مصطفى سعيد تقول: ألم ينته الرجل الأوروبي المستعمر إلى شريعة الغاب، على الرغم من كل محاكمه وقوانينه الحضارية؟ ألم يقم السفّاح ستانلي مثلاً بإبادة قرى كاملة في الكونغو في أواخر القرن الماضي، وكاد يدفن في مقبرة وستمنستر، مقبرة العظماء الأجلاء، لولا احتجاج من كاهن المقبرة بسبب جرائمه المعروفة؟(1/121)
وفي إحدى المناسبات عبّرت للطيب عن إعجابي بمشهد المحكمة، ودقّة صنعه، فذكر لي كيف أنَّه قضى أشهراً وهو ينقِّب في سجلات المحكمة القديمة بلندن (Old Bailey) ومكتبة المتحف البريطاني، ولكنه قرّر في النهاية أن يكتب المشهد دون الرجوع إلى السجلات المكتوبة. وربمّا كان هذا هو ما جعل المشهد يحتفظ بكل هذه البساطة التي تخفي وراءها سرَّاً يجدر بالقارئ ألاَّ يضيّع الفرصة على نفسه في تحسّسه، وألاّ يدع المشهد الحيّ المثير يطغى على ما يخفيه الظاهر من القول. كلمات مصطفى سعيد تقول لنا دون صريح العبارة: إنّني أنا مصطفى سعيد الذي أمثل أمامكم في المحكمة أعرفكم، وإنكم أنتم تتجاهلونني، ولكنّي سأحرمكم من امتياز الصراحة، ولن أقول لكم إنّني أعرفكم وإنكم تتجاهلون معرفتي كتاريخ هو من صنعكم وصنيعكم. إذا كنتم تطلعون عليّ بملودراما تخفي زيفكم وتجاهلكم للتاريخ، فأنا أردّ عليكم بالمثل.
وهنا نتذكّر ما قاله الطيب من أنَّ مشكلتنا مع الغرب هي مشكلة تواصل
(communication)، أي أنَّه لا يريد أن يفهمنا. لذلك يجد مصطفى سعيد نفسه مرغماً على أن يكيل لهم صاعاً بصاع على الأقل، وأن يقابل سوء الفهم الحقيقي عندهم بسوء فهم مصطنع عنده، وهذا في نظر مصطفى سعيد، مجابهة عادلة. وكأنَّ مصطفى سعيد يرفض أن تضعه المحكمة موضع لاعب الشطرنج المهزوم الذي يجد نفسه محاصراً بالهزيمة في النهاية مهما كان اتجاه اللعبة بعد ذلك. تقول كلمات سعيد كل هذا. بل وأكثر: القصة أكبر من مصطفى سعيد، وهي أيضاً خارج المحكمة ولكنها ليست خارج التاريخ.(1/122)
ويبقى السؤال حول استيعاب مصطفى سعيد للغرب واستعماره ومجابهته قائماً. إذا كان المفهوم بالاستيعاب فلسفة الأمر وعدم تبريره والوصول إلى كنهه بطريقة مجرّدة تخضع لمقدمات ونهايات، فهذا لا يدخل في حساب الاستيعاب لدى مصطفى سعيد. استوعب مصطفى سعيد الأمر مع الغرب، من خلال تمثّله وتمثيله وروايته لقصة المجابهة، وهذا لا يعني أ نَّه استطاع أن يصل إلى كنه القصة، ولم يكن هذا في حسابه أصلاً. ولو كان الأمر كذلك لتحوّلت الرواية في أغلبها إلى مناقشات كالتي بين محسن في عصفور من الشرق وصديقه، إذ انتهت ببيانات تبادلها الطرفان حول الموضوع. لاحظ مصطفى سعيد مثلاً أنَّ المحكمة أشبه بملودراما، لذلك لم يجد مجابهة لهذا الموقف إلاَّ بمثله.
قصة الاستعمار، كما استوعبها مصطفى سعيد، قصة رعب. وأبلغ تعبير عنها ما جاء على لسان كورتز في قلب الظلام عندما خلص إلى أنَّ القصة من أولها إلى آخرها تتلخّص في كلمة أعادها على نفسه، وأصبحت نبراساً يتمثّله مارلو عندما قال كورتز عبارته المأثورة: "ياللرعب ياللرعب"، والتقطها إليوت نفسه، واستخدمها في الأرض اليباب. رأى كورتز (وهنا يشهد شاهد من أهله) أنَّ اعتداء الرجل الأبيض على الرجل الملوّن وسلب مصادر رزقه وتنصيب نفسه وصياً عليه، يمثّل رعباً لا مثيل له، يجرّد الرجل الأبيض من إنسانيته، ولم يجد كورتز في القاموس غير كلمة واحدة يصف بها الموقف وهي الرعب. وقد أعجب مارلو بكورتز لقدرته الفائقة على تلخيص موقف معقّد كهذا بكلمة واحدة وعَدَّه إعجازاً لغوياً.(1/123)
وفي اعتقادي أنَّ أقرب مدخل لشخصية مصطفى سعيد ومحاولة التعرّف إلى أسرارها، ربّما يأتي من خلال النظر إليها على أنها شخصية تمثّلت رعب القصّة بكاملها، وأصبح هذا التمثّل أشبه بجرثومة المصل المضاد، أي أنَّ هذا التمثّل نزع من قلبه كل خوف، وغرس فيه رغبة المجابهة والتحدّي، وتصوّر نفسه غازياً بعد أن شعر أنَّه نجا من الرعب الذي مارسه عليه الاستعمار، وأصبح يعرف الرعب منفصلاً عن مصدره، أي أنَّه أصبح مستوعباً للرعب دون أن يخشى فاعله، والرعب هنا أشبه بدهشة كبرى يضيع الخوف في مداها. ومنذ أول لقاء مع مصطفى سعيد نشعر أنَّه يعيش في دهشة لا يستطيع أن ينقلها إلاَّ لمن توسّم فيه القدرة على حمل الأمانة، ومن هنا نجد مصطفى سعيد يعيش مع أهل القرية وبينهم وكأنّه يمارس طقوساً أسطورية، مخفياً هذه الدهشة خلف قناع الحياة العادية، وبل ويمتنع عن الشرب في مجالس أهل القرية كي لا تطفو هذه الدهشة على السطح وتكشف عمّا يعتمر في داخله، ويبني مصطفى سعيد لنفسه بيتاً خاصاً في القرية أشبه بمزار يعيش فيه مع هذه الدهشة، ويظلّ محتفظاً بها إلى أن يقابل الراوي. وحياة مصطفى سعيد هذه من جهة نظر أدموند ليش في الأسطورة هي طقوس من شأنها المصالحة مع الواقع وإزالة التناقضات التي يمكن أن تنشأ مع المجتمع لو أماط اللثام عن وجهه.
يعيش مصطفى سعيد كل حياته في الشمال في هذه الدهشة التي تشكّل حاجزاً بينه وبين كل ارتباط له مع المجتمع، دون أن يكون هنالك مجال لأي علاقة تقلّل من حجم هذه الدهشة أو حدّتها، فهي آخر ما تبقّى من شكل لتاريخ المجابهة بين الجنوب والشمال.(1/124)
والدهشة لا يستوعبها في أبعادها العميقة، إلاَّ من أوتي الذكاء والفطنة، وهي إحساس يتميّز بالحيادية التي تبتعد بدورها عن التوجيه الأخلاقي. هي ردّة فعل أكثر من فعل مباشر، وهي استيعاب شعوري لا عقلاني لواقع معين يجعل صاحبه في منزلة تطلّ على الواقع من خلف حجاب، يرى الواقع بإحساس يختلف عن رؤية العين المجرّدة المألوفة. يرى الواقع بهذا الإحساس في الوقت الذي يراه الواقع بالعين المجرّدة، وهنا يمكن أن نقترب من وصف الطيب صالح لشخصية مصطفى سعيد بأنها طاقة.
وخير سبيل للحفاظ على هذه الدهشة هو تحويلها إلى قصّة، تمّ تفصيلها من خلال روايتها والاستماع إليها، وإدخالها حيّز النقل، من راوٍ إلى مستمعٍ إلى راوٍ وهكذا. وموسم الهجرة رواية محكمة لا يتم معرفة سرّها من خلال روايتها، فالراوي فيها ينقل دهشة، ولا يبوح بحدث أو بسرّ كان مخفياً وأصبح معروفاً، من أجل ألاَّ ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، وكي لا يصبح النصّ الروائي مستهلكاً بعد معرفة ما جاء فيه.
ليس بالضرورة إذن أن يستطيع الراوي التعرّف إلى روايته من خلال العملية الروائية، خصوصاً عندما لا تكون استراتيجية العمل الروائي حكاية عن الماضي وحكاياته، وزمنه القديم "يحكي في قديم الزمان...."، تحكي وتعرّف في الوقت نفسه. ربمّا يحاول الراوي فعلاً أن يتعرّف على مادة روائية من خلال العملية الروائية نفسها، كما يفعل مارلو في قلب الظلام، ولكن الظلام يظلّ دامساً، ولا يمكن التعرّف إلى الظلام من خلال التوغّل في أعماقه ـ ذلك التوغّل الذي يزيد الظلام ظلاماً! ولكن مارلو ينتهي بدهشة ربما كانت أعمق من الدهشة التي بدأ فيها رحلته إلى قلب الظلام. وهذه هي المفارقة الكبرى في الحياة وفي الفنّ وهي أشبه بالعلاقة التي تنشأ من النشاط المتجدّد في اللغة
(Parole) والنظام المحكم فيها (Langue).(1/125)
لو كان هنالك موازٍ لزمن المضارع التام (Present Perfect) في العربية لاستطاعت موسم الهجرة أن توضّح أمر الاستمرارية في العملية الروائية، ولاستطعنا أن نتبيّن بوضوح أنَّ الرواية تروي الآن (عن الماضي القريب أو البعيد) وفيما بعد، لو كان الأمر كذلك لربما استطاع الطيب أن يوضّح الاستمرارية الأزلية في العملية الروائية التي تبدأ من الآن ولا تنتهي، أي أنها تدخل المستقبل في المضارع (الحاضر) التام مستمرة بديمومة الأزل. وكأنَّ الطيب يقول ـ على لسان الراوي طبعاً ـ عدت يا سادتي على التوّ، وقد عاد من قبلي يا سادتي (مصطفى سعيد)، وسيظلّ الناس يعودون ويقولون: "إلى أن يعودوا، وبعدها أيضاً لا يضيرهم أن يقولوا "عدنا والعود أحمد".
موسم الهجرة وعودة الراوي وعودة مصطفى سعيد، ربما تذكّرنا على الفور بعودة إدوارد سعيد إلى الوطن الأم في حزيران عام 1992، ولحسن الحظ أنَّه سجَّل هذه العودة في مقالة قصصية
عنوانها: (palestine, Then and Now). ولو أردنا ترجمة أمينة بقدر المستطاع لقلنا "فلسطين ماضياً وحاضراً"، وتتضمّن هذه الترجمة أيضاً روح الاستمرارية. ومن يقرأ المقالة يُضِفْ إلى العنوان "مستقبلاً"، بمعنى أنّ الكاتب يقول "وبعد، فها أنا أعود يا سادتي، وسأظل أروي أنني أعود إلى أن أعود فعلاً، وبعدها سأروي لكم أنّني عدت فعلاً يا سادتي".
متى سيقول المشرّدون المنفيّون مثل ما قال الراوي في موسم الهجرة، عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، هذا هو السرّ الذي يكمن في كل عودة: ذكرى تظلّ حسرة، دهشة، سرّاً لا يتحقّق إلاَّ بتفعيل الدهشة!
(
( المصادر
Barthes, Roland, lmage-Music- Text, trans. Stephen Heath, New York, 1977.
Mythologies, trans. A Lavers, New York, 1979.
Hymes, Dell, “Myth Making” Paideuma 23 (1944) 113-37.
Jung, Carl, The Collected Works of Carl Jung, (eds) G.(1/126)
Alder, M. Fordham, and H. Read trans. R. F. C. Hull
Princeton, Bollingen Series, XXX, 1959, 1969.
Rosenberg, Dona Myths of Africa, London, 1986.
... صالح، الطيب، موسم الهجرة إلى الشمال، تونس، 1979.
(((
سراب عفان:
حصاد المرايا المهشمّة
صحيح أنّ نائل عمران مستشار قانوني، أو أستاذ حقوق جامعي، وأنّه علاوة على ذلك، يمارس نشاطاً أدبياً مرموقاً خارج مهنته، ولكنّه جبرا إبراهيم جبرا، الفلسطيني الذي اقتلع من جذوره ووجد نفسه في العاصمة العربية المعروفة، يعيش فيها جسداً، ولكنّه يحيا روحاً في مهد روحه وطفولته وصباه الأول، الذي شهد المحنة. في اليقظة يرى موطنه واقعاً صلباً صلابة الصخر الذي دعم طفولته وصباه، يتمثّله في حواسه، من زعتره المترع بعبق الجبال والصخور كما يذكر هو نفسه، إلى زيتونه الأخضر الذي يحسّ بتميّزه عن كل زيتون. لا أعرف روائياً فلسطينياً في جيل جبرا عاش المحنة فرأى حياته تتشكّل طوعاً من خلال إيقاع هذه المحنة أكثر من جبرا نفسه، ونحن نعلم أنّ جبرا فنّان مرموق، فهو في طليعة الرسّامين والشعراء والروائيين العرب. والذي نلاحظه بشكل عام، أنّه مهما غلبت الجماليّات على أعماله الفنية، فإنّها في النهاية تتشكّل كالدوامة لتعبّر في حركتها المتقاطبة عن آلام المحنة، لتخرجها من الأعماق وتنشرها (أو تنثرها) على السطح بعنف مع عمق المعاناة.
ولو طلب منّي جبرا أن أقترح عليه عنواناً آخر لروايته لاقترحت "صورة الفنّان في عنفوان كهولته" مستميحاً جويس عذراً في التسمية، والتعديل عليها. والفنّان هنا، نائل عمران، على عكس ستيفن الذي ما زال في بداية الطريق يتلمّس سبيله إلى الفنّ من خلال التعبير عن فرديته وخياله ورفض التقاليد الكاثوليكية، وكتابة الشعر أحياناً. فنائل عمران كهلاً، نضجت فنّيته وكتب روايات آخرها الدخول في المرايا.(1/127)
غير أنّ جبرا ليس بهذه السهولة، أي إن محاولته تتعدّى مجرّد استخدام صورة الكهل بدلاً من الشاب، وأودّ هنا أن أنوّه إلى أنّ إطّلاع جبرا الواسع على الأدب الغربي ليس على حساب أصالته، فهو الفنّان القدير على استثمار المؤثرات الأجنبية وتطويعها، لتصبح مناسبة لموهبته الفردية وأصالته الفنيّة. أي أنّ جبرا لم يتوقّف عند تقديم صورة الكهل، بدلاً من الشاب، بل أنّه رأى صورة الفنّان تتّسع للشباب والكهولة معاً، وأنّها خارج الزمن المألوف ومواسمه المعينة، فالرواية أيضاً، لو أردنا لها عنواناً آخر، لقلنا إنها "صورة الفنانة في شبابها"، وصورة اليوميات في الرواية، هي صورة مشتركة بين الشباب والكهولة، والمذكرات هي مذكرات الطرفين المتكافلين المتضامنين في المحنة، وصورة سراب عفان شابة كصورة ستيفن في شبابه، تكشف عن خيال جامح يؤهّل صاحبه لأن يكون كاتباً، فكما أنّ ستيفن استجاب استجابة غريزية إلى القصة التي رواها عليه والده منذ أول كلمة في الرواية، فكذلك سراب عفان تداوم على قراءة الروايات، وكانت استجابتها متميّزة للغاية لرواية نائل عمران الجديدة الدخول في المرايا، والتقطتها من بائع الكتب بلهفة شديدة، وذهبت بسرعة إلى البيت، لا تريد أن تؤجل قراءتها، وبدأت على الفور تلتهم الصفحات الأولى مع طعام غدائها، كذلك فإننا نقابلها وهي منكبّة على كتابة مذكّراتها التي هي في واقع الأمر جزءٌ لا يتجزأ من الرواية الكلية. وهي مثل ستيفن أيضاً، تمتلك عواطف متأججة ثائرة على الحصار الذي يحيط بها. وهي في كل لحظة تنتظر لحظة الانعتاق والانطلاق إلى فضاء رحب يتّسع إلى أحلامها وآمالها العريضة. ومنذ الأسطر الأولى للرواية، نقابل فتاة تمتلك القدرة الفائقة على التعبير عن المحنة التي تعيش فيها. وفي مشهد جميل نتعرّف على مصدر هذه الأزمة التي تشكّل التعبير، ولو أعاد جبرا النظر في هذا المشهد لربّما استطاع أن يخلّده في صورة زيتيّة.(1/128)
هكذا يتبدّى المشهد لسراب:
"وتراءى لي مشهد فسيح من مشاهد يومياتي الجبلية: منحدرات خضراء كالشرفات تتوالى نزولاً حتى تغيب في أعماق ضبابية، والأشجار تبدو في السكون الغارق في الشمس كأنّها وجدت هناك بخطأ من الطبيعة الوحشة طاغية، حتى العصافير هجرت الحقول المهملة، والصخور كحيوانات خرافيّة جمدت مكانها كما يموت باغتها في عزّ الظهيرة. ورندة هناك. وجدها هي هناك، لا تعرف لماذا هي هناك. كيف وصلت إلى المكان، ومن أين جاءت إليه؟"(ص9).
هذا وصف صادق لا يقدر عليه إلاّ خيال ينطلق من شعور صادق، يؤمن صاحبه بما يرى أمامه ويقدر على تحويله إلى أكثر من رؤية العين المجرّدة، وحدود هذا المشهد تتعدّى تلك المنحدرات التي تحيط ببيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، منشأ الراوي.
وبقدرة فنيّة فائقة يستطيع الراوي أن يختزل الزمن تدريجياً إلى أن يصل إلى حدّ إلغائه، وينقذ المشهد الذي نعرفه من براثن الزمان والمكان، فيجعل القارئ يحسّ فعلاً كأنّه وصل إلى ذلك المكان، أو سرى إليه في وضح النهار مع سراب عفان. وفي تقديري أنّ جبرا فنّان يمتلك قدرة واعية تستطيع دائماً أن تخلق في القارئ حلم يقظة، هو حلقة وصل قوية تصله بالفردوس الغائب، مبدّداً أي غربة أو جفوة يمكن أن تنشأ بسبب الظرف الطارئ الذي يحول بين العاشق وفردوس عشقه.
والخيال الجامح هو أهم مقوّمات صورة الفنّان في شبابه. ونرى سراب عفان تصلي نوعاً من صلاة الاستسقاء لبعث الخيال قوياً متجدّداً في حياتها وكأنّها شيطان شعر:(1/129)
"إذن يا ربّة الخيالات، اسعفيني. عذّبيني كيفما شئت، ولكن حقّقي لي ما أنت بصدده معي، نسياناً، أو إنقاذاً إلى لهيب التجربة المدّمرة البانية التي ما انفكّت حتى الآن تراوغني. سراب عفان، منذ هذا اليوم، بل هذه اللحظة، عاشقة، مجنونة بعشقها، ولسوف تكون أيضاً مقاتلة، شجاعة من أجل الوطن، وفي سبيل الحرية، ولسوف تحبّ البشرية، وتضمدّ جراح الإنسان في كل مكان. ولكن سراب الصريحة، البريئة، المشاكسة، الصارخة في المطالبة بحصّتها من تجربة الحياة الآن وهنا، عاشقة، مولهة. وهي، بينها وبين نفسها تعلن أنّ العشق إذا تمكّن من المرأة اخترق الحواجز، وهدم السدود، ورفض الاعتراف بأي وازع أو رادع... ولن تحب سراب على مستوى دون ذلك، فإمّا كل شيء. أو لا شيء".(ص15).
***
وهكذا يكون اللقاء بين جزأي الصورة الشاملة: الفنّانة في شبابها والفنّان في عنفوان كهولته تلقائياً، ينبع من أرضيّة مشتركة يولد لها الواقع من جديد على يد الخيال الجامح. ونشعر ونحن نقرأ الجزء الأول من يوميات سراب عفان أنّه لو لم يوجد نائل عمران والدخول في المرايا، لاخترعت سراب عفان روائياً مماثلاً ورواية مشابهة تجسّم عواطفها الثائرة وتتمثّل طاقتها العاصفة. ونشعر فعلاً أنها تكتب رواية بطلها نائل عمران، وأنّها ليست راوية تروي الحوادث وحسب، كما وصلت إليها أو كما شهدتها، بل هي راوية وشخصية في الرواية التي تكتبها، وفي النتيجة تتداخل العناصر الفنية الروائية، وتشكّل نسقاً يزاوج بين الخيال والواقع، ويجعل الواحد مرآة للآخر بتلقائية مريحة ومؤثّرة، توصل القارئ إلى مرحلة لا يهمّه فيها الفصل بين الاثنين، أو التعرّف على كل واحد على حده.
ويذكّرنا الحديث عن مصادر التأثير الخارجية في الرواية، بمصدر هو أوسع مدى وأعمق أثراً من جويس ألا وهو ستندال. الذي هو في اعتقادي مصدر رئيسي في الرواية. يشير الراوي في الأحمر والأسود إلى الحبّ الذي ينشأ من خلال قراءة الروايات:(1/130)
"لو كانت السيدة رينال في باريس لأصبح موقفها صريحاً اتجاه جوليان، فالحبّ في باريس وليد ينشأ في رحم الروايات. فلو قرأ المعلّم وعشيقته ثلاث روايات أو أربعاً لاتّضحت علاقاتهم بعضها ببعض، فلا بدّ لهذه الروايات أن تبرز لهما دوراً يؤدّيانه وأنموذجاً يتّبعانه. وبهذا يجد جوليان نفسه عاجلاً أم آجلاً قد تغلّب على غروره، وأجبر على أن يقتفي أثر هذا الأنموذج الذي وجد نفسه يحاكيه وجهاً لوجه"(56).
مثل هذا الوصف الذي تكثر الإشارة إليه عند قراءة ستندال، يلخّص العلاقة الحميمة بين الواقع والخيال، ويبيّن كيف أنّ الرواية أشبه باقتفاء أثر في درب ينحدر من درب آخر. ولو أردنا توضيحاً للعلاقة بين سراب عفان والدخول إلى المرايا، لكان وصف ستندال أبلغ توضيحاً لهذه العلاقة. هذا الوصف الذي يبيّن أنّ فن الرواية يختلف عن غيره من الفنون الأدبية الأخرى؛ لأنّ الفاصل بين الواقع والخيال فيه أبسط في تركيبه بكثير من الفاصل في سائر الأجناس الأدبية الأخرى، فالواقع والخيال في الرواية خطّان متوازيان ومتقاربان يسهل العبور فيهما من خط إلى آخر، دون الحاجة إلى أدوات معينة.
أمّا الإشارة الأخرى التي تعرف بها كثيراً رواية ستندال الأحمر والأسود، فهي الإشارة إلى المرايا التي تكون مرتكزاً رئيسياً في رواية جبرا، ويمكن أن تسمّى رواية ستندال الدخول إلى المرايا. يقول راوي ستندال "إنّ الرواية مرآة تصطحبك في رحلتك عبر الطريق السريع، ففي بعض الأحيان تعكس لك منظر السماء الأزرق الصافي، وفي أحيان أخرى، تعكس الوحل المتراكم في المستنقع على جانبي الطريق. ونتّهم المرء الذي يحمل المرآة بأنّه مجرّد من الأخلاق لأنّ مرآته تعكس لنا الوحل، لماذا نوجّه اللوم إلى المرآة بدلاً من أن نوجّهها إلى الطريق، حيث يوجد الوحل، بل وأكثر من ذلك، فلماذا لا نوجّهها إلى مفتش الطرقات السريعة والمنحدرات الذي يسمح بتجميع المياه ومن ثمّ تكوّن الوحل..." (135-136).(1/131)
وعندما أقحم ستندال هذه الملاحظة (وقد وضعها بين قوسين ليبيّن أنها خارجة عن حساب القصص الروائي) كان يهدف إلى أن يرقى بالواقعية، التي كان يَعدُّ هو رائدها، عن مجرّد المحاكاة التي توصف بأنها شبه صورة فوتوغرافية للواقع، فهو يريد أن يحتفظ بهوية الواقعية كصورة تعكسها المرآة، ولكنّه أراد أن يبيّن أنّ المرآة نفسها تعكس صوراً مختلفة. والأمر الآخر الذي أراد أن يوضّحه هو أنّ الصورة المعكوسة، لا تأتي من فراغ، فبدلاً من أن نشغل بالصورة المعكوسة لماذا لا نشغل بمسبّب أو مسبّبات هذه الصورة؟
وبذلك اكتسبت الواقعية على يد ستندال معادلة السبب والمسبّب (cause and effect) ويهدف ستندال من كل هذا وذاك أن يبرّر سلوك متيلدا الثوري الخارج عن المألوف، وما تمثّل من صورة الملل (boredom) الذي كان سائداً في حياة الناس في القرن التاسع عشر.
ولكن يبدو أنّ جبرا اختصر الطريق، فالمرآة الواحدة عند ستندال هي في واقع الأمر مرايا، والسفر في الطريق السريع الذي استخدمه ستندال ليدلّل على دينامية الواقعية، عبّر عنه جبرا بالكلمة الأولى لعنوان الرواية التي وقعت سراب عفان في أسرها، فجاء العنوان ملخّصاً لفكرة ستندال وجبرا دون الحاجة إلى معرفة محتويات الرواية: الدخول في المرايا.(1/132)
أمّا خلفيّة الصورة المعكوسة كمبرّر لنوعيتها فهي أمر اهتمّ به جبرا كثيراً، حين جعلنا نحسّ بأنّ شعوراً قوياً مكبوتاً في النفس كالحسرة التي لا شفاء منها، ولا دواء لها، هو المنطق الصامت الذي تنطلق منه سراب عفان ونائل عمران وغيرهما من الشخصيات الرئيسية في روايات جبرا الأخرى، وهو منطلق يهيمن على الشخصية دون إفصاح كثير عنه، هذا الإحساس هو الإيقاع الداخلي في يوميات سراب عفان، وهو أيضاً في حياة جبرا: منذ أن وجد نفسه مقتلعاً من جذوره التي كانت ضاربة في التراب والصخر. من يعرف جبرا عن قُرب يشعر أنّ غصّة الاقتلاع لم ولا تفارقه أينما حلّ، ومن استمع إلى جبرا وهو يتحدّث عن هذه الغصّة بانسياب تلقائي يخلو من الخطابة، يتذكّر النفس الروائي في ميثولوجيا اليونان والإغريق الذي يصوّر مأساة الغربة والاغتراب عندما لا يجد المغترب ما يعوّض تراب المهد وصخوره. (ولربّما هذا هو الذي جعل جبرا شغوفاً بالتراث الإغريقي بشكل خاص).
يقول د. هـ. لورانس إنّ أعمق مغزى للحياة يمكن التعبير عنه من خلال العلاقة بين الرجل والمرأة. هل يودّ جبرا أن يضيف: وخصوصاً إذا ولدت هذه العلاقة في رحم تراب الوطن الغائب.
ليست عاطفة سراب عفان وليدة حرمان شخصي، ولا هي وليدة فراغ عاطفي، بل هي وليدة إحساس بمحنة تاريخية يشير إليها الراوي بالحصار، وهو نفسه الحصار الذي يعاني منه نائل عمران. واللقاء بين سراب عفان ونائل عمران أكثر من مجرّد اللقاء بين امرأة ورجل، فهذا أول متنفّس خارج الحصار، وأول فرصة على طريق العودة إلى أصل المحنة.
ولو حاولنا أن نجد بعضاً من صورة سراب عفان في ستندال، لوجدناه في عاطفتها القوية وتحوّلاتها، التي هي مزيج من جوليان ومتيلدا. هذه صورة يقدّمها لنا ستندال عن جوليان ويمكن اعتبارها مدخلاً لشخصية سراب عفان:(1/133)
"لاحظ جوليان ودون وعي منه أن آخر أشعّة الشفق كانت تختفي الواحد تلو الآخر. وعندما لفّه الظلام غرق في تأمّل كان يحلم به وهو أنّه يعيش في باريس في يوم من الأيام. أولاً وقبل كل شيء، ستكون محبوبته امرأة أجمل بكثير من أي امرأة عرفها في الرّيف.
وسيهيم في حبّها وتهيم هي بالمقابل في حبّه. ولو صدف أن رحل عنها لحظة فسيكون السبب بحثاً عن مجد يملأ حياته وفي هذه الحالة سيكون له الحقّ حتى في البحث عن عاطفة أكبر شأناً"(90).
ألم ترحل سراب عفان إلى باريس فجأة سعياً وراء مجد عاطفة أقوى؟ ألا يذكّرنا رحيل سراب عفان الغامض من الحصار إلى باريس برحيل جوليان من حصار الريف إلى باريس؟
كذلك ألا تذكّرنا مناجاة سراب عفان لربّة الخيالات، باستحواذ الخيال على جوليان وهو في حفلة الباليه مصطحباً متيلدا:
"كانت سعادة جوليان قد وصلت أوجها، وكان الجميع قد حلّقوا دون وعي في عالم الموسيقى والأزهار والحسناوات والرشاقة التي كانت تضفي جواً عاماً على كل شيء، وعلاوة على كل هذا وذاك، فقد حلّق جوليان عالياً بخياله الذي جعله يغرق في أحلام المجد لنفسه ومجد الحريّة للبشريّة".(306)(1/134)
ولعلّ كلام سراب عفان عن الحب يذكّرنا بكلام متيلدا عن توقها لحبّ جارف، حتى قبل أن تقابل الحبيب. وبعد أن تقع في غرام جوليان وتمرّ بتجربة الحبّ لمدّة بضعة أيّام تنسحب من الموقف بكل برود، وكأنّها تريد أن تعاقب نفسها، ظانّة أنّ عاطفة طائشة قد عصفت بها، وأنها استردّت سيطرتها على نفسها دون أن تعبأ بالعشيق الذي بات يتحرّق بحبّها والذي وجد نفسه عاجزاً عن اتّخاذ موقف مشابه، فراح يقول أنّه سيحبّها إلى الأبد على الرغم من أنها لم تحبّه إلاّ أياماً معدودات، وهكذا تدخل متيلدا نفسها في مرايا مختلفة دون أن يفصل بين هذه المرايا فواصل زمنية. فهي العاشقة المتخلية عن عشقها، المتواضعة مع جوليان والمتعالية (دون شعور منها بذلك) عليه في نفس الوقت، المحبّة الكارهة لنفسها ولجوليان، إلى آخر ذلك. وبإصرار العاشق الطموح يوقعها جوليان في الشرك ويرجعها إلى حظيرة العشق، وتثبت على عشقها في النهاية، وتقدّم أقصى درجات التضحية لجوليان في محنته السوداء، وربّما كان بإمكاننا أن نقول إنّ تضميد جراح الحبّ في باريس من قِبَل جوليان يذكّرنا على الفور بالمثيل عند نائل عمران في نفس المكان.(1/135)
وجبرا مثل ستندال، كأنّه جاء يرصد شخصيته من الخارج، وكأنّه يحدق في المرآة ليستدلّ على ما خلف الصورة التي تبدو ظاهرة للعيان، وربّما يكون جبرا أقل رغبة في محاولة كشف أسرار الشخصية والغوص في أعماقها للتعرّف على دوافع سلوكها، وكأنّه يؤمن بأنّه من حقّ الشخصية أن تخفي عنّا بل عن نفسها كوامن حياتها الداخلية. وهذا يؤكّد على فنيّة جبرا وحداثته في التمسّك بالمشهد الذي يروي الشخصية صورة بدلاً من أن يرويها قولاً صريحاً، لا يبقى لنا مساهمة في تصوّرها وتخيّلها. وبهذا أيضاً يبقي جبرا على الواقعية، ولكنّها الواقعية الجديدة المتجدّدة، فالصورة الخارجية ليست لذاتها ولا تنتهي المهمّة عند حدودها الخارجية بل هي مدخل لما لا نراه في المرآة، وهكذا تصبح المرأة وصورتها دليلين اثنين لما لا تراه العين.
يرصد جبرا الشخصية إذن من خلال التعبير عن إحساسها بالمشكلة، بالغصّة، بالمحنة، بالشعور العام للأسى والحزن. ولا يهتم جبرا بالتعبير عن كنهه مجرّداً. ونجده أبعد الناس عن التحقيق مع الشخصية لمعرفة المشكلة قولاً وتجريداً، ولا يضع في حسابه أن تبوح لنا الشخصية بما هو وراء أحاسيسها، وبمسبّباتها. فعلى الرغم من كل الصراحة التي تلتقي بها سراب عفان مع نائل عمران، فإنّ المخفي عنهما وعنّا أعظم، وهو السرّ الذي يجعلنا جميعاً نلهث وراءه.
ويمكن توضيح هذه الأمور جميعها، من خلال المصارحة التي تسجّلها سراب لنفسها، والتي تعبّر بأحاسيسها عن المحنة، في لقطات سريعة تختزل الأبعاد المختلفة للزمان والمكان، وتصوّر المحنة في أعماق أبعادها:
"لم يصدّق أبي أنّني ولدت حيّة يوم ولدت، لكثرة ما طرحت أمي قبل ذلك، وقال: "سمّوها سراب"، لأنّني أعلم أنني ما إن أصل إلى مستشفى الولادة حتى أجد أنني خدعت مرّة أخرى.(1/136)
ولم يخدع يومئذ، ولكنّه بقي يخشى أنّ ما يراه لن يكون في يوماً ما إلاّ خديعة. وقال لي يوم بلغت العشرين. وقد رزق بعدي بأربع سنوات بشذى: "لماذا لم أطلق عليك اسماً أنت أحقّ به؟ ميّ، مثلاً، أو ريّاً، لأنني أرتوي بك كل يوم، يا حبيبتي، وأنت سراب!"
وقلت له: "أليست هذه هي المعجزة التي كنت تحلم بها؟" فهزّ رأسه ضاحكاً: "نعم، على عكس ما يحلم الناس!" ولم أدرك ما الذي قصد إليه ساعتئذ. أو لعلّه لم يكن يقصد أمراً محدّداً. ولكنّني أدركت فيما بعد الكثير ممّا لم يقله، أو لم يكن بوسعه التعبير عنه.
لماذا كان عليّ أن أولد لأروي ظمأ شخص آخر، حتى ولو كان أبي؟ وهل ارتوى بي فعلاً، كما يزعم؟ من الواضح أنّ أبي، رغم كل عمله الجراحي، في واد، وأنا في واد. وفي السنوات الأخيرة أخذ الجبل بين الواديين يرتفع بشكل ملحوظ. لا، ما عاد يهمّه ما كان يهمّه قبل ربع قرن من زمن رديء. قذف بي سراباً إلى العالم، وبقيت سراباً، رؤيا توحي بما ليس فيها. رؤيا مغرية، ربّما. ولكن لمن؟ ولي أنا، ألم أبقَ سراباً، أركض في اتجاهه، ويبتعد بي، أركض مزيداً، ولا أجد إلاّ أنني زدت توغّلاً في البلقع الذي لن يعرف الماء؟ أي مرايا دخلت، لا تؤدي إلاّ إلى المزيد من المرايا؟ ويتضاعف الخداع. يتضاعف الكذب. سأكون أكبر عاشقة في الدنيا حالما تتاح لي الفرصة: ولكن أين الطوفان الذي سألقي نفسي في خضمّه، في صحرائي اليومية العنيدة؟"
(ص 26-27)
هذه مكاشفة رائعة تبدو وكأنّها مكاشفة شخصية أو فردية، ولكنّها عامّة، وتلاحم العام والخاص عند جبرا، ظاهرة فنيّة تميّز كتاباته، وتبرز الصوت الروائي عنده منساباً بعفوية تنسي القارئ وجود مسافة بين العام والخاص.(1/137)
وسراب عفان هنا في هذه المكاشفة أشبه بالطائر الفينيقي الذي يخرج من الرماد أو بفينوس التي تخرج من القوقعة في البحر مجدّدة الحياة ومذكّرة بديمومتها. وتبدأ المكاشفة بعرض للاجهاضات المتتالية التي مرّت بها المسيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبعد هذه الإجهاضات ولدت سراب عفان حيّة متحدّية قوى الإجهاض، بل ومسلّحة بمناعة تقاوم الاستمرارية الباهتة في حياة الأمّة بأكملها.
وبلقطة سريعة، استطاعت سراب عفان أن تلخّص هذه الاستمرارية عندما أشارت إلى والدها، عندما لمست أنّ الحياة اليومية وديمومتها، قد حوّلت أنظاره عن المحنة الرئيسية في ربع القرن الماضي، فراح يعيش مثل بقية الناس مشغولاً بمتطلبات الحياة المعيشية: "ما عاد يهمّه ما كان يهمّه قبل ربع قرن من زمن رديء".(1/138)
سراب عفان إذن ربيع يولد في الرماد، ومن الطبيعي أن تكون بحاجة إلى من يثري حياتها بل ويبعث في روحها الاخصاب، إذا كان لا بُدَّ لها أن تكون أكثر من سراب. فهي على وعي أنها بالنسبة لأقرب الناس إليها ما زالت سراباً على الرغم من أنّ والدها يصرّح أنها لم تعد كذلك، وترفض الدور التقليدي للمرأة كمجرّد ابنة أو زوجة يرتوي به الوالد أو الزوج وهو السبب نفسه الذي من أجله ترفض واقع الحياة الذي أصبح يتعايش معه والدها، وكأنّ الحياة أصبحت فقط واقعاً يقي من الظمأ. تلاحظ سراب عفان أنّ الارتواء من ضروريات الحياة ينسي المحنة، ومن هذا المنطلق ترفض سراب الواقع بأكمله بل وترفض أن تكون مكمّلة لهذا الواقع، وتجد ضالّتها في الدخول في المرايا؛ لأنّها تسمو بها عن الواقع، الذي يقبله الناس من حولها. وعلى الرغم من أننا لا نعلم الكثير عن الرواية نفسها، فإننا نعلم ما يكفي عن تأثيرها على سراب عفان. فمغزى الرواية يكمن في مسرحتها من قِبَل سراب عفان وليس في نصّها المستقلّ (وهو أسلوب اتّبعه عدد من كبار الروائيين أمثال كونراد)، أي أنّه لا يهمّ سراب عفان أن تحاكي الصور التي تعكسها مرايا الرواية، بل يهمّها بشكل خاص الدخول في هذه الصور إلى رؤية أبعد، والانتقال من الواقع الجامد إلى الخيال المتحرّك:
"بعض الناس يطلقون فيّ رندة، وبعضهم يطلق سراب. ويبدو أنّ نائل عمران يطلق الاثنين معاً –للدخول في المرايا. مع نائل أجني رندة وسراب بتعاقب سريع، وتداخل سريع، وتباعد سريع"(71)
هذا هو الفنّان مع فنّه، والراوي مع روايته: تعاقب الواقع والخيال وتداخلهما وتباعدهما بسرعة في محاولة لإلغاء البُعدين المكاني والزماني، وتأسيس البُعد الجمالي الذي من خلاله تخترق الواقع وتحوّله إلى خيال يتمشّى مع خيالها.(1/139)
وتحمل رواية يوميات سراب عفان شبهاً مميّزاً لكتابات ستندال، ألا وهو الشبه بين سراب عفان العاشقة الثائرة، ومتيلدا التي ترى في جوليان شخصية الثائر دانتون الذي سجّل بطولة تاريخية في سجّل البطولات الفرنسية في القرن الثامن عشر، ودانتون هنا مثل الدخول في المرايا، أشبه بفتيل يشعل العشق والثورة، ويبدو أنّ كتاب ستندال عن الحب De, lAmour الذي ظهر عام 1821 كان له أيضاً وقع خاص عند جبرا. ومنذ أن علمت من جبرا نفسه عن يوميات سراب عفان عندما كانت ما تزال في طور التكوين، وأنا ألمس صدى ستندال القوي في الرواية. وفي إحدى الأمسيات التي جمعت جبرا مع عدد من أصدقائه بُعَيْدَ ظهور الرواية، سألته عن الموضوع بعد أن تحدّث عن الرواية، فما كان منه إلاّ أن أكّد الملاحظة بغبطة وسرور، وانتقل هو بنفسه إلى الحديث عن ستندال بشوق بالغ.
وجبرا بالطبع لا يخفي هذا التأثّر، ففي الرواية إشارات كثيرة ومقتطفات ممسرحة ومشاهدة متنوّعة عن العشق والثورة لا تذكّرنا بغير ستندال مثلاً أو موحياً للقصة بأكملها.
لكن صورة ستندال في شبابه وكهولته كفنّان، لا يمكن إلاّ أن تقف عند حدّ في متوازياتها لصورة جبرا، وهذا ما يؤدي إلى تغيير في المنظور عند الوصول إلى ذلك الحدّ، لننتهي إلى منظور كلّي مختلف.(1/140)
لعلّ الذي نبحث عنه في يوميات سراب عفان (وهذا ليس نقصاً في جبرا ولا في روايته بل في الواقع الذي ترتكز عليه الرواية) هو البُعد العملي الذي كان يمكن لسراب عفان من خلاله أن تضع مشاعرها تحت التجربة، لترى ما إذا كان بإمكانها أن تخرجها من طور الأحاسيس إلى طور الفعل. وربّما هذا هو الذي جعل الروائي يتصوّر سراب عفان تعيش في حصار وأنّها لم تجد أمامها إلاّ الرحيل إلى باريس، وهو بُعد غير كافٍ لتجريب هذه الطاقة الهائلة من المشاعر والأحاسيس. هل أحسّ مثلاً جبرا أنّ الرقعة أو البعد المكاني الذي كان يمكن أن تتحرّك فيه سراب عفان قد أصبح محصوراً أو محاصراً بعد عام 1967 وبعد دمار بيروت وبعد كل ما حصل من تفكّك في الجبهة العربية؟ هل أحسّ جبرا مثلاً أنّ الواقع القريب أسوأ من الواقع البعيد الذي كان يمكّن شخصيات وليد مسعود من الحركة من بيروت إلى رام الله إلى بغداد؟ هل هذا هو الذي جعل الرواية تصل إلينا في حجم أصغر من حجم أختها البحث عن وليد مسعود"؟
عندما نتذكّر بالمقارنة متيلدا وجوليان نجد كيف أنّ ستندال كان بإمكانه أن يقدّم شخصياته في البُعد الذي يضع مشاعر تلك الشخصيات وأحاسيسها تحت التجربة، وذلك من خلال مواجهة الخصم في المحنة، فهذا جوليان يجد نفسه وجهاً لوجه مع خصومه في المحكمة، ويواجه المحكّمين الطبقيين، وهنا يكون الاختبار الأكبر لشخصيته، وعلى الرغم من أنّه لا ينتصر عليهم كما ينتصر الجيش في المعركة، فإنّه يسمو عليهم بشجاعته المنقطعة النظير، وبروحه التي لا تقهر وبتقديره لهويته التي بدأ الكفاح من أجلها حتى الموت. كذلك تسمو متيلدا في دعمها لجوليان وهو في أمسّ الحاجة للدعم، وفي تخطّيها بشجاعة كل الحدود الطبقية التي تربّت عليها لإنقاذ حياة جوليان.(1/141)
من المتطلّبات الرئيسية للشخصية في الرواية أن توضع مشاعرها وأحاسيسها على المحكّ لنتبيّن قيمة عنوانها الفعلي من خلال قدرتها أو عدم قدرتها على تحويل القوة الكامنة إلى فعل، كي نتبيّن قوتها من ضعفها، وقوتها من زيفها، ولكي لا يظلّ العنف الثوري تجريداً في الذهن، أشبه بتأمّل عابر.
ولكن جبرا روائي يمتلك زمان التقنية الفنية، ويمكنه أن يعرض عن الواقع الكئيب الذي يؤثّر عادة في الصورة الفنيّة، هنالك لقطات مكثّفة في الرواية ربّما سدّت النقص الذي أشرت إليه بالبُعد الفعلي، وأهمية هذه اللقطات تأتي لما فيها من حرارة وصدق تجعلنا نقول إنّ الظرف الكئيب البائس وحده، هو الذي يحول دون تحوّلها إلى فعل. هذه لقطة مثلاً من صورة الفنانة سراب في بداية شبابها:
تصمّم سراب وهي في العاشرة من عمرها على الخروج من الحصار والانتماء إلى البطولات التي تتحدّى قوى الظلم والظلام الوافدة من الخارج وتأكيداً في الوقت نفسه على إنسانيتي في هذا الانتماء:
"صخرة أخرى من صخور القدس، زيتونة أخرى من جبل الزيتون، كما كانت تقول جدّتي خديجة". (ص206)
وفي موقع آخر نعلم أنّ جدّتها خديجة هذه، فلسطينية من القدس، من عائلة الجابري وقد تعهدت تربيتها حتى سن المراهقة.
أمّا جدّتها لأمّها أم ياسين، فهي مسيحية من الشمال كان اسمها مرثا ميخائيل تزوّجها جدّها لأمّها الشيخ أحمد دلير في أواخر العشرينات، وتميّزت هذه الجدّة بحسن وجهها وجمال قوامها، وتعتقد سراب أنها ورثت عنها كثيراً من جمال قوامها وشعرها المذهل بسواده وطول ضفائره.
وبعبارة موجزة، يمتلك جبرا قدرة فنيّة تستطيع أن ترى الشخصية وهي تنمو نمواً طبيعياً وحقيقياً، من تراب أرضها، ويراها وهي تمتدّ بجذورها من الناصرة إلى القدس، ويراها متعلّقة من جذورها تسير في شارع جنين في بغداد وفي شوارع صنعاء وعُمان ومراكش وباريس وهي تولي قلبها شطر المهد الذي تباركه الناصرة والقدس أينما حطّت بها سفن الرحيل.(1/142)
يقول جوته إنّ الحياة سراب (illusion) وأغلب الظنّ أنّه يقصد من بين ما يقصد المفارقة التي تنشأ بين الحياة واقعاً محسوساً والحياة كخيال. أيهما أصدق، أو أيهما نصدّق؟ لقد أفلح جبرا في تحويل الصورة الذهنية إلى صورة حيّة من خلال مسرحة هذه الصورة وجعلنا نقبل سراب عفان على أنها رندة الجوزي، وعلى أنها ليست رندة الجوزي في آن واحد. لقد نجح جبرا في جعلنا نستقبل الواحدة على أنها الأخرى وأنها ليست الأخرى أيضاً. وقرّب إلينا فكرة المرايا بشكل محسوس. وتهيء لنا اللعبة الفنية المتقنة التي من خلالها نقبل على سراب عفان بارتياح السؤال الأكبر وهو كيف يمكن أن نصدّق أو نحتمل الواقع المحسوس؟ وهل يستطيع الخيال أن يستوعبه أو يشكّله من جديد ليجعله مفهوماً لنا؟
إنّ تصوير الفنّان في كهولته لا بُدَّ أن يكون أصعب من تصويره في شبابه؛ لأنّ الراوي يكون في العادة كهلاً، ومن الصعوبة بمكان أن يفصل الراوي الكهل نفسه عن مرحلة الكهولة التي هو بدوره راويها، ولذلك نجد الرؤية تتأثّر لعدم وجود مسافة زمنية كافية تساعد الراوي على السيطرة على رواية هذه المرحلة الزمنية التي هو جزء منها فعلاً. أمّا عندما يكون الراوي الكهل يروي عن شبابه فإنّ الأمر أيسر، لوجود مسافة زمنية بين الراوي وموضوع روايته.(1/143)
ولكن جبرا يرى شخصياته تنبت أو تنبع من المكان، ووعيها الكامل بتراب جذورها المقتلعة أينما حلّت، يلغي الزمان من حياتها ويجعلها تحيا في المكان. فرغم أنّ رواية جبرا هذه وغيرها من رواياته تقترب كثيراً ممّا يعرف برواية التجربة الذاتية (Bildungsroman) ، إلاّ أنها تلتزم بمواسم الزمن الحقيقي: من طفولة ومراهقة وشباب وكهولة، التي تكّون العمود الفقري لهذا النوع من رواية التجربة الذاتية. وكأنّ المحنة القوميّة عند جبرا وشخصياته تلغي الزمن كموسم وخصوصاً موسم الشباب. هذه سراب عفان تنذر نفسها لمقاومة الظلم وهي في العاشرة. ولا بُدَّ أنّ جبرا لاحظ ارتباطاً منطقياً بين بُعدي الزمان والمكان، فإذا اختلّ أحدهما كان سبباً لاختلال الآخر. فأقلّ ما يعنيه غياب الوطن هو إلغاء الزمن، أو غياب الشمس عن الوطن. ألا يفسّر هذا التصوّر منطق الارتباط الحميم بين الشّابة سراب عفان ونائل عمران الذي تصوّر عمره يمتدّ عبر السنين!
يتساءل ريموند وليمز الناقد البريطاني المعروف في نهاية مناقشته للواقعية عمّا إذا كان لِزاماً على الكاتب الروائي أن ينتظر تغييراً في واقع المجتمع الكئيب كي يتمكّن من خلق واقعية جديدة. أي هل يستطيع الكاتب أن يخلق واقعية إيجابية من واقع سلبي للغاية؟ يعتقد وليمز أنّه في حالة وجود واقع كئيب لا بُدَّ من اختزال الزمن واختراق الكآبة والقفز فوقها بواقعية جديدة تجعل الواقع يندثر في الواقعية بدلاً من العكس. وإلاّ لماذا الخيال الجامح، فهو ليس مجرّد مرآة تعكس ما هو أمامها!
(
( المصادر
جبرا، إبراهيم جبرا، يوميات سراب عفان، دار الآداب، بيروت، 1992.
Haig, Sterling, Stendhal, the Red and the Black (1989) Campbridge University Press, Cambridge.
Stendhal (Henri Beyle), Scarlet and Black (1830) repr.
Penguin Edition 1984), Penguin Books, Harmondsworth.(1/144)
Williams, Raymond, The English Novel From Dickens to Lawrence, 1974, Paladin Frogmori: London.
(((
إميل حبيبي
ذات جماعيّة باقية
عبَّر محمود درويش عن قضية الذات أبلغ تعبير في رثائه لإميل حبيبي عندما قال في عبارة موجزة بليغة:
"فها أنذا أراك تغمر المشهد بنظرتك الشقيّة لا لشيء، إلاّ لأنّك تعرف نفسك وتعرفنا واحداً واحداً منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين، وتعرف أنّ الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللحد بحثاً عن ذاته التي لا تجد ذاتها إلاّ إذا امتلأت بخارجها". (مشارف، 32).
يوجز محمود درويش فلسفة المنظّرين الذين خلفوا البنيوية، ويرى هذه الفلسفة وقد تجسّدت في أعمال إميل حبيبي. ولا بُدّ إذن من وقفة عند هذا الإيجاز تتطلّبها لغة محمود درويش الجزلة المكثّفة ونظرة إميل حبيبي الثاقبة. لتبيان مدى قدرة الشاعر الناقد على تقييم الراوي المبدع الذي انتشل الذات من الرماد وكأنّها الفينيق يحيا من جديد.(1/145)
هذا هو منظور إميل حبيبي: الذات لا الموضوع، على حسب تعبير محمود درويش الذي أوجز فأوفى. اتّخذ المحدثون من روائيي هذا القرن الذات محوراً للتجديد في أعمالهم الروائية. هذه فرجينيا وولف مثلاً توجّه انتقاداً لاذعاً للروائيين التقليديين أمثال أرنولد بينيت، وجون جولز ويرثي، و هـ. ج. ولز؛ لأنهم استمرّوا في التعامل مع الموضوع والتركيز عليه وإبراز مادّيته وكأنّ ما يعنيهم من أمر الرواية هو ما يحدث خارج الذات، وقالت وولف عبارتها المشهورة وهي أنّ كل شيء يصلح أن يكون موضوعاً للرواية؛ بمعنى أنّ الموضوع الروائي ذاتٌ متجدّدة لا موضوعات مألوفة ومطروحة أكل الدهر عليها وشرب، يطرقها الكتّاب فقط لأنّها مألوفة عند القرّاء الذين يسرّهم قراءة ما ألفته أذواقهم. وعندما نقرأ رواية جويس صورة الفنان في شبابه، نحسّ أنها من أوّلها إلى آخرها ذاتٌ امتلأت بخارجها. وأنّ عبارة محمود درويش تسعف القارئ وتعينه على تقنية جويس المعقّدة، وينسحب هذا على روايتيه الأخريين يوليسيز وصحوة فينجيان. أمّا لورانس، فقد انتقد الرواية التقليدية لأنها تعنى بموضوع الذات القديمة الجامدة (Old stable ego) وكتب الرواية بمنظور يصوّر الذات التي ينبض الدم في عروقها وأسماها (life of the blood) وعندما كتب فورستر كتابه النقدي أركان الرواية (1927) نادى بصريح العبارة بأهمية الذات، الشخصية في الرواية، وانتقد التركيز التقليدي على السرد والحبكة والأحداث الخارجية، ووضع حدّاً مميّزاً بين المؤرّخ الذي يسجّل حوادث حدثت في الماضي والروائي الذي يخلق ذاتاً تتحدّى الزمن وموضوع الحدث الخارجي.(1/146)
هذا ما فعله إميل حبيبي، خلق ذاتاً متحدية لموضوع الزمن الأغبر الذي تعيشه هذه الذات، متخطّية الحدود التقليدية للرواية. فالقضية عند إميل حبيبي ليست موضوعاً يعرفه الناس والعالم أجمع؛ كموضوع اللاجئين، وموضوع أصحاب هذه الأرض التي عاشوا فيها آلاف السنين جيلاً بعد جيل، وليست موضوع الأرض مقابل السلام، ولا موضوع سجلات الأمم المتحدة التي تدين المعتدي وتنادي بعودة الحق إلى أصحابه، وجودها ليس مرهوناً بحقيقة يثبتها التاريخ، ولا بوثيقة ملكية تثبّت الملك، ولا بقرار دولي يؤكد شرعية هذا الملك، بل بنبض مستمر تحيا به الذات، فتدرك حق وجودها ليصبح إرادة خارج إرادة الآخرين الذين ينكرون هذا الوجود.
الذات في أدب إميل حبيبي أشبه بأسطورة الخلق تنسلّ من وسط الركام منادية ليس فقط بالوجود بل بديمومة تتحدّى الآنية والمحلية.
نحسّ عندما نقرأ لإميل حبيبي أنّ كتابته تتحرّك بين قطبين في دائرة: الأول هو البحث، والثاني هو العبث، وتتخلّل هذه الحركة سخرية وعبثية ليست مألوفة. كل هذا يجري دون أن يكون أحد القطبين سبباً، والآخر نتيجة، بل إنّ كليهما سبب وكليهما نتيجة في آن واحد. وتذكّرنا كتابات إميل حبيبي أيضاً بمقولة فيرجينيا وولف:
إنّ أي موضوع يصلح مادة لكتابة الرواية وإنّه ليس ضرورياً أن يكون شاملاً عاماً حائزاً على اهتمام السلف وانتباه الخلف.
ينطلق إميل حبيبي من واقع لا منطق له ولا مثيل له. أين يمكن أن تجد الذات نفسها في مثل هذا التناقض، لا علاقة لداخلها بخارجها في هذا الواقع. فالمرء إمّا أن يكون له بيته ووطنه وأرضه، وإمّا أن يكون غريباً على الديار والأوطان مهاجراً، مسافراً، زائراً، ضيفاً، إلى آخر ذلك. أمّا أن يكون الاثنين معاً فهذا أمر لا يقبله عقل.(1/147)
تدخل بلدة في الجليل مثلاً تتحدّث مع أهلها وتجلس على المائدة معهم، وتدخل الحوانيت بأبجدية وجودك، كما قال محمود درويش أنّك عربي في بيت عربي في وطن عربي، وفجأة بعد أمتار من حدود البلدة، أو حتى في داخلها تنقلب الأمور عندما تداهمك سيارة جيش أو شرطة الآخر أو ما شابه ذلك، فتنقلب الأمور رأساً على عقب وتدخل في دائرة التناقض العجيبة، فتتبدّد البديهيات وتنقلب المسلّمات إلى أوهام. والأسوأ من ذلك أنّ التناقض ليس كباقي التناقضات، وأنّ الأوهام ليست كباقي الأوهام تمتلك تعريفاً شبه متّفق عليه. فحتى الجنّة والجحيم في الآخرة بينهما فاصل، إلاّ في هذه البقعة من العالم تختفي التعريفات لكثرة ما تتشابك حدودها دون فاصل زماني أو مكاني. هذا ما يعنيه محمود درويش في عبارته "الذات لا الموضوع..."، لأنّه يدرك مثل إميل حبيبي أنّ الموضوع قد فُرِّغ ليس فقط من المعاني بل من منطق الكائنات وأصبح أشلاء تقتات عليه التعريفات.
لو نظرنا على سبيل المثال لا الحصر إلى حكاية مسرحية "لكَعْ بن لكَعْ: ثلاث جلسات أمام صندوق العجب" لوجدنا أنّ الكاتب قد تمثّل الواقع بكل ما فيه من متناقضات عجيبة. ولأول وهلة نجد إميل حبيبي قد جمع أجناساً أدبية شتّى: حكاية مسرحية فيها السرد القصصي والمسرحية، بجانب أسطورة لكَعْ بن لكَعْ، وذلك من خلال الحكاية الشعبية في صندوق العجب. هذا هو العنوان تختلط فيه الأجناس الأدبية مثل ما هي أوراق الواقع مختلطة.
تبيّن لنا حكاية مسرحية القدرة الفنية على خلق تناغم استطاع إميل حبيبي من خلاله أن يعبّر عن الواقع الغريب الذي لم يجد له معادلاً موضوعياً غير صندوق العجب. لا بدَّ أن إميل حبيبي قد أدرك عندما اختار صندوق العجب أنّ الحكاية الشعبية خير وأبقى؛ لأنها غير قابلة للاحتلال والتجريد، وهي تعيش مع الأجيال حكاءً شفاهاً من جيل إلى جيل كجزء من الذات التي لا يمكن أن تحاصرها الإقامة الجبرية.(1/148)
وللأغنية الشعبية، أو الأهزوجة تأثير أسطوري معروف. وفي دراسة سابقة عقدت مقارنة بين الغناء في أسطورة وجدو الإفريقية في جبينة والخرزة الزرقاء، ويمكن لهذه المقارنة أن تنسحب على كل الغناء في كتابات إميل حبيبي.
واستثمار إميل حبيبي للحكاية الشعبية هنا تميّز فني يذكرنا بما قام به تشوسر في حكايات كانتربري عندما استثمر ما كان حياً من اللغة الإنجليزية في الجبال والمراعي، حيث يقوم المواطنون الإنجليز برعي المواشي لتقديم لحومها بعد تربيتها لأسيادهم الفرنسيين أصحاب الهيمنة اللغوية وغيرها من أنواع الهيمنة. كتب تشوسر حكاياته بالإنجليزية ترفدها الفرنسية لتقوم بدور الوسيط؛ لأنّ الإنجليزية لم تكن لغة كتابة وكانت غير معترف بها، وكان تشوسر يأمل مع الزمن أن تختفي اللغة الوافدة بعد أن يكون الناس قد اعتادوا على لغتهم الإنجليزية، التي كان الفتح النورمندي قد حرمهم منها، وهكذا استطاع تشوسر أن يثبّت أقدام اللغة القومية ويجعلها تنطلق من هذه البداية البسيطة. وبالمقارنة استطاع إميل حبيبي في الجزء الأول من صندوق العجب أن ينتقل بيسر وسهولة من نشيد المهرج وهو ينادي: قم تفرّج يا سلام على عجائب الزمان... إلى قصيدة توفيق زياد "أناديكم. أناديكم/ أشد على أياديكم...." هذه القصيدة التي يغنيها إمام عيسى المغنّي الشعبي شدّت إليها مئات الألوف من أبناء هذه الأمة وأصبحت شبه نشيد وطني في غياب أي نشيد وطني.
وعلى الرغم ممّا لهذا النشيد من قيمة فعلية في إيقاظ الشعور بالوضع، إلاّ أنّ الكاتب لا يجعله نهاية للجلسة أو لأي جزء منها، حيث لا تجيء نهاية هذا الجزء أحادية البُعد كبقية النهايات بل مركبة الأبعاد:
"وما أن يتلاشى هذا الصوت المتفجّر حتى تعود الحياة إلى تمثال المهرج. فنسمعه يعود إلى نداءاته: أناديكم. أناديكم! تعال يا بدر.
تعالي يا بدور! كأننا يا بدر، لا رحنا ولا جينا". (ص14).(1/149)
نلاحظ هنا أنّ المهرج يستخدم ودون وعي منه، كلمات النداء في نشيد توفيق زياد. ولكن واقع الأمر، كما يراه إميل حبيبي، لا بد وأن يظل محتفظاً بحدوده المعقولة، فصندوق العجب لا يحقّق المعجزات: هو إثارة تبعث بها حكاية شعبية فيستثمرها إميل حبيبي ويحوّلها إلى إثارة فنية تؤدي إلى ميلاد نداء جادّ يخرج تلقائياً من الفرجة المسلية. ويكفي أنّ المهرج أصبح يعرف النداء، وبدلاً من أن يشدّ الناس إليه بالصور الحسيّة أصبح يشدّ على أيديهم. ويحسن هنا أن نتذكّر عبارة محمود درويش التي نادى بها إميل حبيبي عندما قال: "وتعرف أنّ الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللحد بحثاً عن ذاته التي لا تجد ذاتها إلا إذا امتلأت بخارجها". إن ذات المهرج وذات المستمع على السواء تمتلئ بخارجها وهو نداء توفيق زياد، لا خارج للذات تملأ نفسها به غير هذا النشيد، فصندوق العجب لا يوجد فيه شيء يمكن أن يملأ الذات. وأكّد إميل حبيبي على ذلك بما قاله في الخاتمة "تعال يا بدر، تعالي يا بدور..." وما هذه الكلمات الأخيرة بكل ما يمكن أن تشيع من سلبية، إلاّ تأكيد غير مباشر على إيجابية النداء الذي سبق.
وهذه الخاتمة مثل بقية الخاتمات في صندوق العجب، وفي غير صندوق العجب، من حكايات إميل حبيبي وقصصه. فصندوق العجب لا موضوع فيه ولا موضوع له، بل هو رمز شعبي تملأ الذات نفسها بما يثيره الصندوق وعندما تنتهي هذه الوظيفة يرجع الصندوق كما كان، وكأنّه أشبه بعنصر مساعد (catalyst)، وتبقى الذات بعد ذلك تنادي بنبض الحياة ممتلئة بما خلّفه الصندوق من وصل بها. هذه هي خاتمة القسم الثاني من الجلسة الأولى تنادي فيها بدور مَنْ حولها فتملأ ذاتها بهم، فيشتدّ النداء بأساً وتصبح الذات وصلاً بغيرها ولغيرها:(1/150)
"وفيما تكون ماضية تشقّ طريقها في وسط جمعنا. ونحن نشيّعها بنظرات الإعجاب، وبصفق الأيدي، إذا بها تلتفت نحو أولاد افترشوا الأرض بالقرب من مقاعدنا، الواحد أمام الآخر على طول الممرّ الذي يتوسط القاعة فتهتف بهم: "قوموا تفرّجوا على صندوق العجب... قوموا! لا تجعلوه يبقى عنكم كما بقي عنّي. قوموا! قوموا!"(23).
وهكذا بإشارة مسرحية تبدو وكأنّها عابرة جداً، ولكنها غير ذلك أبداً، تتركنا بدور بمنظور جديد لجيل جديد تدعوه أن يتيقظ لما فاتها هي فإذا هي وصل بين "ما كان وما كان سوف يكون" على حدّ تعبيرها في النداء. وهي إشارة تشبه الإشارة التي تقع في خاتمة "لكع بن لكع": "صندوق العجائب، الحاضر يعلم الغايب. الحاضر يعلم الغايب"(46).
وكذلك تشبه نهاية "جبينه والخرزة الزرقاء" إذ ينهي الراوي قصّته بقوله: "وحين ودّعت ضيفتنا، وقد عادت إلى والدتها، قالت لي في استحياء:
-أمّا جبينه الجديدة، فلم تكن هي التي احتفظت بالخرزة الزرقاء، فقلت لها:
-طريقي على عين الماء في الطرف الآخر من القرية. سأمرّ عليها، لعلّها الآن فاضت بالماء.
وعبرت على عين الماء ورفعت يدي محيياً، ما كان أحد يراني، فلم لا أحيي عين الماء؟ أمّا الوقوف على عين الماء حتى أرى هل عادت الحياة تدبّ فيه، فأجّلته إلى يوم آخر"(40).
***
هنالك عبارة أخرى لمحمود درويش بجانب العبارة المقتضبة الآنفة الذكر يمكن أن تقدّم قراءة متمكّنة لمنعطفات إميل حبيبي الفنية، وتقع هذه العبارة في نفس الموقع من التأبين. يقول فيها محمود درويش:
"هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة يجري الحوار بين الواقعي والخرافي، بين الزمني والروحي، بين النسبي والمطلق، بين الزائل والدائم، بين الحق والباطل، بين الحرب والسلام، وهنا.. هنا البداية والنهاية"(32).(1/151)
هذه العبارة تصلح أن تكون مقدّمة لأعمال إميل حبيبي تصل البداية فيها بالنهاية والبحث بالبعث على إيقاع العودة الذي لا ينفكّ يتردّد نغماً تملأ الذات حياتها به. وهي مكملة للعبارة التي سبق ذكرها "الذات لا الموضوع..."؛ لأنّها تؤكّد على وجود قطبي المعادلة وضرورة هذا الوجود من أجل توفير فرصة للانطلاق نحو منظور شمولي يتكوّن جرّاء التمحور حول الذات. عندما يخاطب محمود درويش إميل حبيبي قائلاً "وتعرف أنّ الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللحد بحثاً عن ذاته التي لا تجد ذاتها إلاّ إذا امتلأت بخارجها"، فإنّما ينوّه إلى أنّ إميل حبيبي كاتب ملتزم، لأنّه: أولاً ليس كالكتّاب التقليديين يهتم بالموضوع أو كالسياسيين ينطلق بمنصّة سياسية يعرف بها وتعرف به، وثانياً أنّ ليس كاتباً رومانسياً يهرب بذاته مخلّفاً وراءه العالم الخارجي إلى غير عودة، وثالثاً أنّه ليس كاتباً وجودياً تنطوي الذات في كتاباته على ذاتها متخلية عن وجودها الخارجي تجنّباً لشرهه وقمعه. الذات عند إميل حبيبي هي الأساس، فيها البداية وفيها النهاية. عندما تمتلئ بالواقع الخارجي تحسّ بوطأة الألم، وهذا الإحساس هو بداية الأزمة، وتتفاعل هذه الذات مع هذا الواقع بما فيه من ألم وحسرة وغبن وإنكار للذات وكل ما في الكلمة من معنى فتتفجّر الذات من داخلها، حيث يخرج الخرافي من الواقعي والروحي من الزمني والمطلق من النسبي والدائم من الزائل والحق من الباطل، ومن رحم هذه الذات تولد ذات جديدة تقف مشدودة بين الحرب والسلام (مع الاعتذار لمحمود درويش على هذه الصيغة المستوحاة من عبارته). باختصار تكتسب الذات بُعداً جديداً يوصلها إلى وعي حواري أشبه بما يسميّه باختين ديالوجي يمتد فيه الخطاب إلى أبعد من القول أو الكلام الذي تستعين به الذات على التعبير.(1/152)
وهذا هو الجزء التاسع من الكتاب الأول للمتشائل بعنوان "الإشارة الأولى من الفضاء السحيق" من بين الأمثلة التي توضح الخطاب وهو يمتدّ زمنياً مشكّلاً وعي الذات وهي تمتلئ بأكثر من ماضٍ تعرفه ومستقبلٍ تجهله.
يبدأ هذا الجزء بقول الراوي:
"فلّما انفضّ السامر، وبقيت وحدي مع معلّمي، الذي أنقذني من غضب الأشباح. شعرت بالامتنان، وبرغبتي في التعبير عنه، كان معلّمي هذا، كما تذكر يا محترم، هو السبب في انقطاع صلتي بيعاد، ذات العينين الخضراوين. ولكن قلبي كسير. فقلت له إنني مسرور بأن أبيت في كنفه ليلتي الأولى في هذه الدولة الجديدة. فهو يعد الأدون سفسارشك، وصية أبي. فماذا تفعل هنا يا معلمي؟
قال: اجمع الشمل.
ثم قال: والحقيقة، يا ولدي إنهم ليسوا أسوأ من غيرهم في التاريخ.
فهززت رأسي استحساناً.
فقال: حقاً إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم. وشرّدوا أهلها، ولكن، يا ولدي، إنّ في قلوبهم لرأفة لم يحظَ بها أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم"(75).(1/153)
ليس ما يجري هنا هو صوت الراوي بل هو تجربة يعرضها الراوي بصدق الساذج الذي لا يستطيع أن يميّز ما يقول أو ما يحدث له أو أمامه إلاّ بعد حين. وسذاجته مهما كانت صادقة، فإنّها تحول بينه وبين ما هو حقّ. فيظلّ يروي دون أن يعي كنه الأمر. ويصدّق سعيد أبو النحس معلّمه (وهو في الواقع يصدق نفسه) عندما يصيح الآمر الذي يحشر البشر من بني الوطن في الجامع فيقول: "سعيد أبو النحس يبقى وحده مع المعلّم، وجميع الآخرين ليخرجوا!". وهنا يقول سعيد "فتحقّقت كلام معلّمي إنهم ليسوا أسوأ من الملك ليون هارت"(77) ولكن وعي سعيد أبو النحس الساذج لا يبقى على حاله عندما رأى الناس يتشرّدون أمامه، فمنهم من ضاع في أزقة عكّا القديمة؛ لأنّه لا يوجد عندهم سفسارشك "والذي هدم قُرانا لا يعيدنا إليها"، ومنهم من حُمّل في سيارات ضخمة ألقتهم على الحدود الشمالية. وهنا يقول الراوي: "فعاد معلّمي واتكأ حيث كنت متكئاً على المزولة وقد زاولني القلق.
وقال: قم الآن ونم. لقد فرّغت الليلة جعبتي.
ولكن لم أنم.
ففي تلك الليلة، في ساعة الفجر الكاذب. شاهدت الإشارة الأولى من الفضاء السحيق"(78).(1/154)
والجزء الذي يصلنا في الرواية دون أن يُروى قولاً هم أهمّ بكثير مما يظهر لنا من رواية سعيد أبي النحس ومعلّمه. هذا الجزء هو خطاب الرواية الذي يقول لنا كما يقول لأبي سعيد النحس في السرّ دون أن يسعفه القول على التعير إنّ المقارنة بين غزاة الأمس وخصوم الحاضر لهو تبرير للوضع القائم مبني على رضى ساذج (complacency) ما هو إلاّ وهم باطل. وهو نفس النمط الوهي الذي يحاول تصديقه الاثنان عندما يحاولان تأسيس تمييز بين أولئك الغزاة الذين استباحوا حرمة المساجد قبل مئات السنين وبين أمثالهم الذين لا تصل استباحتهم حرمة المساجد بل تنحصر فيما هو خارج بيوت العبادة. هذه المقارنة لا تعني بالنسبة للقارئ أكثر من مفارقة لا تعيها الشخصية طبعاً، وهذه المفارقة هي البُعد الآخر في الخطاب الذي يوحي لنا بقوة في أن لا فرق بين اجتياح واحتلال حتى لو كانت مئات السنين تفصل بينهما. وأطرف أنواع المفارقة التي يبدعها إميل حبيبي هي أنّ التغيير الذي يحصل في وعي سعيد أبي النحس يأتي بطريقة غير مباشرة من أفعال الطرف الآخر الذي يثق به سعيد أبو النحس ويعتقد صادقاً أنّ العيش معه ممكن المهادنة وحسن النيّة والتماس العذر حتى في وجوده واحتلاله والتشبّث بأي بارقة أمل وكأنّها الأمل كلّه كالعلاقة مع الأدون سفسارشك.
والتأثير الذي يصعدّه الخطاب في نهاية الأمر دون الحاجة إلى كلام مباح في الرواية هو التعرّف إلى الطرف الآخر الذي يعيش سعيد أبو النحس في كنفه، حيث يخلص بنا الخطاب إلى النتيجة التالية: إذا كان الطرف الآخر لا يوفِّر مكاناً للعيش في دولته لأمثال سعيد أبي النحس على كل ما يقدمّه مخلصاً وصادقاً للدولة من صدق وتسامح وولاء (اسم أبيه) فإنّه (الطرف الآخر) ليس على استعداد أن يتسامح وأن يتعايش مع أحد في دولته من غير جنسه حتى لو أثبت فعلاً مثل سعيد أبي النحس أنّه قدّم نفسه في سبيل العيش بسلام، وهذا طبعاً يفوق عرض الأرض مقابل السلام.(1/155)
أمّا الصعيد الآخر الذي يصل بنا الخطاب إليه، فهو ذات سعيد أبي النحس الجديدة عندما تجد نفسها وذاتها الجماعية مرفوضة جملة وتفصيلاً في الدولة الجديدة، فتصبح وكأنّها أسطورة من الأساطير الشائعة عند ليفي شتراوس تولد من الأرض وتظل محتفظة بصفتها الكونية في الاستمرار والبقاء رغم أنها تولد عاجزة عن المشي أو فاقدة لتوازنها أثناء المشي.
لا يتم هذا التحوّل عن طريق المبادرة التي يفتقدها سعيد أبو النحس ولا عن طريق الشجاعة التي لا يعرفها سعيد أبو النحس، بل يتم بطريقة أسطورية ينجلي فيها التناقض بين الأسطورة والواقع (أو على حدّ تعبير محمود درويش بين الخرافي والواقعي) بين الظاهر والجوهر، بين ما يقال، وما لا يقال إلى آخر ذلك من أوجه المفارقات المتعدّدة التي تتمحور حول الذات وهي تقف حائرة مدهوشة متوترة، وكأنّ إميل حبيبي يعكس التصوّر الشائع لأسطورة الخلق. فبدلاً من أن تولد حواء من آدم يولد سعيد أبو النحس من يعاد، ويبدأ من لَمِّ شتاته وجمع شمله عبر نهر الزرقاء إلى الطنطورة وعبر بوابة مندلبوم ونهر الأردن والإذاعة حتى يصبح برنامج المستمعين إلى ذويهم صندوق عجب من نوع آخر. إذ تتوهّم الذات أنها تجد ذاتها أو يلتمّ شملها من خلال هذا البرنامج، وتجد الذات لزاماً عليها أن تتشبّث بشيء ما من أجل البقاء حتى لو كان وهماً إلى أن يقضي الله أمراً كان مقضياً. فالمتشائل غير راضٍ عن وضعه لكنه يجب أن يعيش ويجد لزاماً على نفسه أن يواصل البحث عن ذاته التي تشتت في هذا الوضع الشّاذ، حتى يصبح المتسائل مزيجاً من التفاؤل والتشاؤم في وضع شّاذ ويمكن تسميته "المتشائذ".(1/156)
وكان إميل حبيبي أيضاً عكس مفهوم البطل التراجيدي عند اليونان، وبقدرة فنيّة أصبغ ما يثيره ذلك البطل من مشاعر الشفقة والرعب على المتشائل. فالمأساة عند الإغريق تجعلنا نقف مدهوشين قائلين إذا كانت المأساة تحصل لرجل عظيم الشأن (ملكاً كان أم قائداً)، فإنها من الأولى أن تحصل لنا. وبنوع من الموازاة المعكوسة يمكن أن نقول إنّه إذا كانت الدولة الجديدة ترفض شخصاً مثل سعيد أبي النحس، فإنها يمكن أن ترفض أي شخص آخر من غير جنس الدولة، ليس مستهجناً أن تجد نفسك تخدم دولة تعيش في كنفها، ولكن المستهجن أن تجد نفسك منبوذاً ومقهوراً ومقموعاً ومشرّداً ومحروماً ومضطهداً من نفس الدولة دون ذنب سوى أنّك لا تنتمي أصلاً إلى الشعب المختار. يجد المتشائل نفسه يعيش في دولة ليست من صنعه، وفي تاريخ ليس له يدٌ في تشكيله. نقطة التحوّل عند المتشائل تجيء من وعيه بزيف الواقع الذي يعيشه. وسرّ التحوّل يجيء من الواقع الذي أملى عليه قسراً أن يتحوّل. لو أعطي المتشائل أدنى فرصة من فرص العيش الكريم لما تحوّل. ولكن الواقع استنفد كل استعداد عنده لخدمة الدولة ومواصلة العيش فيها بسلام ولم يترك له مجالاً لأن يستثمر نفسه أو تستثمره الدولة في خدمتها. هو مرفوض أصلاً جملة وتفصيلاً، وبالإنجليزية مرفوض (categorically) ، ويلاحظ إميل حبيبي أنّ الواقع المرّ هو الذي يخلق الخرافي ملتصقاً بالواقع في حوار تسري فيه الحياة.
هل كان أبو سلام يجرّب فكرة السلاح في الشيوعية أو الماركسية عندما بدأ يكتب ليرى قدرتها على الخروج من المجرّد إلى حيّز الواقع، وهل انحاز عن السياسة إلى الكتابة عندما تيقّن أنّ منظور السلام في الكتابة لهو خير وأبقى من منظور السياسي؟ وهل فعل ذلك كلّه عندما أدرك بعد نضال سياسي مرير أنّ السلام لا يتحقّق بحسن نيّة من طرف واحد، وأنّه مثل الشجار كما يقول المثال الإنجليزي، لا يحدث إلاّ باشتراك فعلي من قِبَل اثنين!(1/157)
وبعبارة موجزة، اهتدى إميل حبيبي وهو يغلّب الأدب على السياسة أنّ هنالك ذاتاً جماعية باقية فوق كل سياسة وفوق كل ظرف يعوق البحث عنها واكتشف في نفسه القدرة على إخراج هذه الذات من الظلمات إلى النور، هي ذات خالدة، كل ما حولها من مواضيع طارئة زائلة متغيّرة تبدّلها الأحداث وأزمان التاريخ، هي ذات تواصل البحث عن ذاتها ولا تجدها إلاّ إذا امتلأت بخارجها، وهذه الكلمة الأخيرة فيها من الشفافية ما يجعلنا نكبر العناء الفني عند محمود درويش وهو يهدينا إليها ويدعونا إلى التأمل بظلالها.
وكأنّ عملية الاتحاد بين الذات وخارجها أشبه بأعضاء الجسم في الإنسان؛ كالقصبة الهوائية التي تكنس ما هو ملوث ومضرّ، وتسمح لما هو نفي أن يدخل الجسم ليتّحد بداخله وثمّ يولدُ الاحتراق والطاقة.(1/158)
وإذا كانت الذات لا تجد في السياسة إلاّ زفيراً، فإنّها واجدة في الأكسجين شهيقاً. أمّا شهيق الذات عند إميل حبيبي فمكوناته كثيرة، منها الحكايات الشعبية التي تعيش في صدور الأجيال وكأنها نبات بريّ ينمو دون عناية أو عناء، وهي أكثر من حكايات تحكى للتسلية، هي بلسم كذلك الذي نجده دواء في الأعشاب البرية، فيه استمرارية الحياة الطبيعية وصيانتها والحفاظ عليها، وهي –الحكايات- كثيراً ما تّتحد مع العشب والشجر وينابيع المياه، بل ومياه البحر ومخلوقاتها وكهوفها لتكون وحدة عضوية. ومكوّن آخر لهذا الشهيق هو التاريخ العربي الذي يستلّ إميل حبيبي منه مِزقاً تبدو لأوّل وهلة أشلاء مبعثرة، ولكن سرعان ما تطل علينا بعد تأمّل في بنيتها الفنية بشكل موزيكيا تتقطّر منه الحياة وكأنّه أصبح إكسير الذات التي تجذّرت منه منذ أقدم العصور، منذ الكنعانيين، مروراً بالصليبيين وصلاح الدين، إلى أن يصل إلى حاضر الغزاة المستوطنين الذين يحاولون اجتثاث هذه الذات من أرضها والتي عاشت فيها آلاف السنين. ومكوّن ثالث لهذا الشهيق، هو الجغرافيا: تتداعى أسماء المدن والقرى والخرب والشوارع والأزقة والجوامع إلى الذاكرة الروائية لتشهد صورتها على بقائها ولتؤكد لنا أنها باقية بالرغم من طمس معالم بعضها، من هدمها وردمها، إلى تغيير أسمائها، تطلّ على الكاتب الراوي البطل حيّة تشهِدهُ على وجودها وكأنّها تهمس في أذنه قائلة كم كنّا في التاريخ مقبرة للغزاة!
وأبرز مكوّن لشهيق الذات المذكور هو الذات الإنسانية لبني الوطن، حيث تتّحد مع ذاتها فوق أرض الوطن، ونلاحظ أنّ هذا الاتحاد لا يتم إلاّ بظهور سعيد جديد غير سعيد أبي النحس، ويأتي ظهوره نتيجة طبيعية لواقع استنفدت مقوّماته المعيشية حياة سعيد أبي النحس. هذا مشهد "سعيد ينشد السعادة" في المتشائل، يقع في الرواية موقع القمّة من الجبل، وهو فعلاً قمّة روائية بالغة التأثير.(1/159)
من يقرأ المشهد يتصوّر في الحال لوحة زيتية تمتدّ معالمها من الطنطورة إلى خان يونس، ومن البحر إلى النهر. ولا يمكن لمن يمرّ بهذين الاتجاهين إلاّ أن يتصوّر سعيد ويعاد يلتقيان داخل هذه الحدود.
حدث عادي يقع أمام أعيننا باستمرار، سيارة تكسي تقلّ ركاباً تنقلهم يومياً بين أرجاء الوطن الممزّق، استطاع إميل حبيبي أن ينفذ ببصيرة فنية رائعة إلى كنه الحدث ويستخرج منه هذا المشهد الذي يجسّم ملاحظة محمود درويش في الذات التي تملأ ذاتها بخارجها في رحلة البحث الأزلي. استطاع إميل حبيبي أن يسمو فوق المألوف بخلق ذات جماعية تتخطّى حدود الزمن والتاريخ والجغرافيا والمألوف. هذا هو المشهد بشيء من التفصيل:
"وفيما أنا خارج من الساحة الداخلية إلى الساحة الخارجية مطلق السراح، وقفت على طرف الطريق من بيسان إلى العفّولة، استوقف سيارة تحملني. فإذا بسيارة خصوصية على رقمها حرف "ش" بالعبرية إشارة إلى أنها من مواليد "شخيم". وهي نابلس لا غير، تتوقّف فجأة أمامي.
ويدعوني سائقها إلى الصعود، فأصعد شاكراً.
وكان أن جلست في المقعد الخلفي وحيداً وأنا مستوحد. وكانت فتاة جالسة إلى جانبه ولم أرّ منها سوى شعر فاحم السواد كشعري بلا شيب. فقلت في نفسي: أنا في إيش وفكري في إيش.
وما اجتزنا طرفاً من الطريق حتى دهمني السائق بالسؤال: كنّا نعود قريباً في سجن شطّة فأخبرنا الزملاء بأنّك التقيت سعيداً.
ولكن المدير أنكر وجوده.
فهل تعرف له من مكان؟
فانقبضت نفسي من هذا السؤال. فتحسّست مقبض الباب كي أنزل من هذه السيارة الملغومة، إلاّ أنها كانت مسرعة. فأسرعت أجيب، وأنا مذهول:
-أنا سعيد!
فالتفتت الفتاة ذات الشعر الفاحم السواد نحوي لفتة زوبعية وهي تصيح:
-بل أخي سعيد.
-يعاد!
-حبيبي
-يعاد(1/160)
أو هذا ما أحسب الآن أنّه قد جرى بيننا. أمّا في تلك اللحظة التي كانت أقصر من اللحظة، فإنّني لم أكن أسمع شيئاً، ولم أكن أرى شيئاً سوى عينين خضراوين يتألّق بؤبؤهما بنور سماوي افتقدته عشرين عاماً.
لقد رأيت يعاد، عشرين عاماً من يعاد دفعة واحدة، في عينيها وفي صوتها وفي شعرها وفي قامتها. فكيف تشعر سمكة أطاحت زوبعة، دفعة واحدة، ثلج تراكم على سطح نهرها عشرين عاماً! يا تراب القطب الجنوبي قل لهم كيف يكون شعورك لو انحسرت من فوقك ثلوج الدهر دفعة واحدة! يا لظى البراكين أروِ لهم حكايتي!
ويا صخر بلادي انفجر ينبوعاً!
أمّا أنا فانفجرت بكاء.
فأوقفا السيارة: فنزلت يعاد وانتقلت إلى المقعد الخلفي بالقرب مني. فأخذت يدي بين يديها فوسدتهما صدرها ثم وسدت رأسها كتفي فامتزجت دموعنا. وكان السائق يزغرد ببوق سيارته ويسير بها بطيئاً كأننا في موكب عرس.
-سعيد، سعيد.
-يعاد، يعاد.
-أخيراً وجدته.
-ولن تفقديه أبداً.
-كيف حاله؟
-على ما ترين، يا يعاد!
واستحوذتني رغبة جامحة في أن أصفّق، في أن أغنّي، في أن أزغرد، في أن أصرخ حتى تنهار من على صدري طبقات الخنوع والمذلّة والحاجة، والصمت نعم يا سيدي، عظيم يا سيدي، أمرك يا سيدي! فينطلق قلبي من صدري، حرّاً يطير، يحلّق في أجواء النسور، ينادي على الناس: مثلكم أنا يا ناس، شجاع مثلكم، ومثلكم لي قدمان ثابتتان على الأرض وظهر مستقيم وقامة طويلة ورأس في السماء، سعيد بشجاعتي مثلكم يا ناس. يعاد إلى جانبي يا عالم! صغيرة كعصا الراعي، جديدة كالحلم القديم!
عشت الأعوام العشرين لوحدي. عشتها بعيداً عن يعاد. عشتها حتى الثمالة، حتى القعر. شربت كأسها المرّ كله وحدي. فلم يبق لها منه أيّة قطرة. أنقذتها من هذه السنوات العشرين المريرة، فبقيت يعاد صبية في العشرين وبدون عشريني. عادت إلي كما كانت، هي هي، تضحك وتبكي، تتحدّى وتحب، وتناديني: سعيد!(1/161)
سعيد أنا يا عالم! اسمعي يا دنيا، من الخط الأخضر حتى الأفق الأزرق، القفار والحقول، القبور والسماء: لقد انطلقت خارج الساحتين حرّاً، الداخلية والخارجية. أصبحت حرّاً.
سعيد، أنا سعيد!
ولكنّني فعلت أمراً آخر المرّة. فبدون أن أدري بما دفعني اندفعت ففتحت باب السيارة وألقيت نفسي منها، ويدي بيد يعاد لا أتركها.
فوقعنا على التراب الجاف وأنا غائب عن الوعي". (ص176-78)
مثل هذا المشهد له رجع الصدى لمشاهد متوازية في روايات عالمية، ولا يعني هذا أبداً انتقاص الأصالة عند إميل حبيبي، الذي قال عنه إحسان عبّاس إنّه "لم يلجأ إلى محاكاة نموذج جاهز بل ابتدع طريقة جديدة في الكتابة السردية، وحين يجيء الأوان لتعدد مختلف الإسهامات الأصلية في الإبداع الفلسطيني (بل العربي) سيكون من الصعب على مؤرّخ ذلك الإبداع أن يصنّف إميل حبيبي في "خانة" يشاركه فيها آخرون. بل سيجد مؤرّخ ذلك الإبداع أنّه كان نسيج وحده، في ما أبدع، حتى أنّه كان في كل مرحلة يتفوّق على نفسه". (مشارف، 45).(1/162)
أولى هذه المتوازيات نهاية الرواية المشهورة الآمال العظام لكاتبها المعروف تشارلز ديكنز، وهي النهاية التي أثارت عند ظهورها (أو حتى قبل ظهورها بقليل) جدلاً حيّر الكاتب نفسه في أمر النهاية المحزنة التي أرادها في الأصل عندما عبّر الجمهور من القرّاء عن رغبة في نهاية سارّة، وفي النهاية اختار ديكنز نهاية وسطاً، حيث يلتقي العاشقان بب وإستيلا على أرض الحديقة (وكثيراً ما تقرأ أنها رمزٌ لفردوس آدم وحواء) التي كانت أغلب الأحيان مسرحاً لمعاناتهما وآلامهما. هذه الأرض هي آخر ما تبقّى لإستيلا من ممتلكات احتفظت بها لما لها من قيمة تذكارية، وقد حضرت إليها لتلقي عليها النظرة الأخيرة قبل أن تقوم عليها منشآت وهي مسرورة أن تلتقي بعشيقها أيضاً على هذه الأرض لتقول له كلمة الوداع الأخيرة، ولا بُدّ أنها فوجئت باستجابة بب عندما انحنى عليها وهي تنهض من مقعدها في الحديقة ليضع يدها في يده ويسيرا خارج أرض الدمار، وكما كان ضباب المساء يرتفع إلى السماء مخلّفاً وراءه ضياء هادئاً ممتدّاً عبر الأفق مشيراً إلى غياب أي ظل للفراق مرة أخرى بينه وبين استيلا(520). وهكذا بعد رحلة طويلة من العناء والشقاء والنفي، تملأ الذات نفسها بخارجها ويعود بب إلى إستيلا وتعود إليه بعد غياب اثني عشر عاماً. والعودة التي يتم فيها اللقاء بعد غياب في الرواية الواحدة تذكّرنا بالعودة إلى الرواية الأخرى.
ومن المتوازيات الأخرى، مشهد دمتري في رواية الأخوة كارامازوف عندما يمثّل أمام المحكمة وهو متّهم بقتل والده بالرغم من أنّه ليس القاتل فعلاً، إلاّ أنّه يشعر بالذنب.
"وبينما تتأهّب المحكمة لإصدار القرار النهائي بالعقوبة، ينهض ديمتري من على الكرسي الذي كان جالساً عليه أثناء استماع المحلّفين إلى الدفاع فينزوي في ركن جانبي فيه منضدة كبيرة تغطّيها قطعة من القماش. يجلس ديمتري عليها فيغالبه النعاس فينام".(1/163)
وفي هذه الأثناء، يغشاه حلم غريب خارج عن المكان والزمان يرى فيه نفسه في مكان ما في أحد السهول (حيث كان يقيم منذ زمن بعيد) راكباً في عربة يجرّها حصانان عبر الثلج والجليد، وعلى مقربة رأى قرية تبدّت له منها أكواخها السوداء، ونصف هذه الأكواخ قد احترقت ولم يبقَ منها سوى الدخان الأسود الذي التصق بالهواء وهو يصعد إلى أعلى. وبينما هو يطوف بالعربة رأى على جانبي الطريق عدداً هائلاً من النساء الفلاحات يقفن في صف على طول الطريق بدا عليهن الضعف والهزال، وقد لفت نظره امرأة كان لون وجهها قانعاً طويلة نحيفة جداً بدت كأنها في الأربعين على الرغم من أنها قد تكون لم تتجاوز العشرين، كانت تحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي، وكان قد جفّ الحليب في ثدييها ولم يبقَ فيهما نقطة واحدة، وظلّ الطفل يبكي بساعديه النحيلين العاريين وبقبضتي يديه الزرقاوين من البرد.
سأل ديمتري السائق الفلاح الذي كان يقود العربة، من الذي يجعل هذا الحشد يبكي؟ فأجابه السائق: الطفل هو السبب، وقد تأثر ديمتري بالطريقة التي أجابه بها السائق الفلاح وهو ينطق بكلمة الطفل، وأحبّ الطريقة التي نطق بها الفلاح الكلمة. وتبدّت له من خلالها مشاعر الشفقة. ولكن ديمتري ألحّ على السؤال بغباء، فقال لماذا لا يغطّون سواعد الطفل العارية؟ لماذا لا يلفّونها؟ وجاءه الجواب: لأنّ الناس فقراء احترقت بيوتهم لا خبز لديهم وهم يتسوّلون لأنّ كل ما لديهم احترق.
أنكر ديمتري ما كان يرى ولم يفهم من الأمر شيئاً وقال: أخبروني لماذا تقف تلك الأمّهات الفقيرات هناك؟ لماذا الناس فقراء؟ لماذا الطفل فقير؟ لماذا تبدو الأرض جرداء؟ لماذا لا يعانق الناس بعضهم بعضاً؟ لماذا لا يغنّون أغاني البهجة؟ لماذا يغطّيهم سواد البؤس؟ لماذا لا يطعمون هذا الطفل؟(1/164)
وهكذا يجد في نفسه رغبة قوية في طرح هذه الأسئلة مع أنها تبدو له غير معقولة ولا معنى لها، وشعر في داخل نفسه بعاطفة لشفقة لم يعرفها من قبل. كان يرغب في البكاء، وفي عمل شيء ما لهؤلاء جميعاً حتى لا يضطر الطفل إلى البكاء، ولا يضطر غيره إلى أن يذرف الدموع مرّة أخرى منذ اللحظة التي يصبح فيها قادراً على العمل بالرغم من كل العوائق وكل الإهمال الذي يسببه آل كارامازوف لتحقيق هذا الغرض، وهكذا توهّج قلبه ورأى نفسه يندفع بشدّة نحو الضياء، وتملكه شوق للحياة لأن يعيش ويستمر في العيش بحياة جديدة حاملاً مشغل الضياء، أراد أن يسارع في عمل شيء من أجل كل هذا الآن وفي الحال.
وبينما كانت روحه ترتجف بالدموع، توجّه نحو المنضدة، وقال إنّه على استعداد أن يوقّع على أي شيء يريدون منه التوقيع عليه، وقال بصوت غريب فيه نور جديد وكان البِشْرُ يغطي وجهه: أيها السادة: لقد رأيت حلماً جميلاً".
هذا هو المشهد الذي استحوذ على انتباه فورستر فاقتطفه في أركان الرواية (1927) مُدَللاً على النبوءة كركن هام في الرواية يكشف الخطاب الروائي فيه عمّا يُروى ولا يفصح (120-122)(1/165)
ولو قارنا بين المشهدين لوجدنا تطابقاً كافياً، إذ يذكّرنا المشهد الواحد بالآخر، سعيد مثل ديمتري متّهم بريء. يحدث معه ما يحدث مع سعيد، وهو قد خرج من السجن لتوّه، وفي سيارة تقلّه من مكان لآخر. وحلم ديمتري، وهو على وشك أن يدخل السجن، أنّه يجوب القرية في عربة يجرّها حصانان. كلا المشهدين ينتهيان برغبة عارمة في التوقيع على ما تيسّر. غير أنّ أبرز وجه لهذا التطابق هو تحوّل الذات الفردية عند كل من سعيد وديمتري إلى ذات جماعية تتفوّق إلى حدّ كبير على فرديّتها (التي لا تفقدها حتى في هذا التحوّل)، وعلى المواقف العادية التي نعايشها يومياً. إنّ ما يقوله فورستر في معرض تعليقه على ديمتري وشخصيات دستوفسكي بشكل عام ينطبق إلى حدّ كبير على سعيد وشخصيات إميل حبيبي. يقول فورستر "إنّ ديمتري كشخصية في حدّ ذاتها لا يعني الكثير ولا يصبح حقيقة لنا إلاّ من خلال ما يوحي لنا من إيحاءات تتعدّى الحدود الظاهرة لنا من شخصيته، وهذا يعني أنّ عقله ليس مؤطّراً البتّة.. ولا نستطيع أن نفهمه إلاّ إذا رأيناه وهو يسمو فوق المألوف. لم يركّز دستوفسكي مثلاً على دوره وهو راقد فوق الصندوق الخشبي ولا وهو في أرض الأحلام، بل على صورته في مكان يلتقي فيه مع بقية الناس من بني البشر. إنّ ديمتري هو نحن جميعاً وهو الرؤية التنبؤية وفي الوقت ذاته الإبداع الفني للراوي... فهو الامتداد والذوبان والوحدة التي تتكوّن من خلال مشاعر المحبة والعطف في مكان يوحي به إلينا ربما لا يتّسع عالم الرواية... إنّ عالم شخصيات دستوفسكي ليس عالماً مخفياً ولا اليغوريا (شبه رمزي)، بل إنّه العالم العادي الذي يشكّل عالم الرواية والذي يرجع في صداه إلينا...(1/166)
ويعني هذا أنّ دستوفسكي لا يخفي علينا شيئاً (كأن يجعله سرّاً غامضاً)، ولا ينقل إلينا معنىً مبطّناً (تحتويه الرمزية)، بل يقدّم لنا مجرّد شخص ديمتري كارامازوف، ولكي تكون الشخصية مجرّد شخص عند دستوفسكي فما عليها إلاّ أن تشترك في رجع الصدى مع بقية الناس. ونتيجة لكل هذا وذاك ينساب التيار الهائل فجأة في كلمات: "لقد رأيت حلماً جميلاً" ... إن شخصيات دستوفسكي تطلب منّا أن نشاطرها شيئاً أعمق من تجاربها، فهي تحمل إلينا شعوراً في بعضه ميتافيزيقياً، ولكنه الشعور الذي يغوص بنا في عالم نستشفه من خلال تجربتنا وهي تسمو فوق السطح بعيداً عنّا ولكنها قريبة منّا. ومع أننا لا نعد أولئك الناس العاديين إلاّ أننا لا نفقد شيئاً بل نصبح مثل ما يقولون: "البحر بداخل السمك والسمك بداخل البحر."(122-23).
هذه العبارة الأخيرة التي صاغها فورستر من القول الشائع، شبيهة بعبارة محمود درويش الآنفة الذكر بالنسبة للذات التي تملأ ذاتها بخارجها، وهي أيضاً شبيهة بعبارة أخرى له في المقطع الأخير من قصيدته "للحقيقة وجهان" هي: "في داخلي خارجي... خارجي داخلي، (أحد عشر كوكباً 100)، والجسر الذي يربط بينهما هو نوع من الحلم الجميل الذي يجسّمه كل من دستوفسكي وإميل حبيبي في شخوص روائية خالدة، مهما ابتعدت عنّا في سمّوها تظل قريبة منّا بإنسانيتها الشاملة وبواقعها الذي نعيشه ونعايشه.(1/167)
ويقول لوكاش في معرض حديثه عن الواقعية في الرواية أنّ هنالك اختيارات ثلاثة أمام الفرد الذي يواجه واقعاً (مجتمعاً) سلبياً ينكر وجوده: الأول، أن يعقد معه صلحاً ولا يخرج عن إرادته، أي كما يلاحظ روبرت موسل يتمثّل بالمثل القائل عندما "تكون في روما اتبع ما يتبعه الرومان". والاختيار الآخر وهو أيضاً من ملاحظات موسل هو أن ينسحب من المجتمع كلياً وينزوي بنفسه وتصبح حياته حياة العصابي الذي يتقوقع على نفسه. أمّا الاختيار الثالث، وهو الذي يراه لوكاش بديلاً للاثنين السابقين، فهو أن يرقى الفرد بالواقع الذي يواجهه لواقع أسمى وأبقى، وهذا الاختيار هو في الأصل من أفكار أرسطو الذي ينظر إلى الفرد على أنّه حيوان اجتماعي سياسي مؤهّل لتطوير واقع جديد (new typology) في كل مرحلة من مراحل التطور
(30-31).
ويناقش وليمز أمر العلاقة بين الفرد وواقعه في حديثه عن الواقعية والرواية المعاصرة بطريقة مشابهة لما يفعل لوكاش. يتساءل وليمز كيف يمكن للروائي أن يخلق شخصية إيجابية من واقع سلبي، خصوصاً إذا كان لابدّ من صورة واقعية يرتبط فيها وبها الفرد والواقع، وهنا يعتقد وليمز أنّ الروائي الحقّ يكون قادراً على خلق واقع جديد بدلاً من الانتظار إلى توفر واقع إيجابي يصلح أن يكون صورة إيجابية(289).(1/168)
ويرى وليمز أنّ السبيل إلى ذلك هو من خلال ما يسمّيه بالشعور التركيبي (structure of feeling) وهو اصطلاح يعرف باسمه، ومجمل القول إنّ الروائي ببصيرته النفّاذة يستطيع أن يتحسّس المشاعر المشتركة الموجودة عند أفراد المجتمع وينقذها من حالة التشرذم وهي تعيش في حالة انفصال داخل كل فرد على حدة، بواسطة تركيبها في وحدة شعورية قوية. أليس ارتباط المشاعر بين سعيد ويعاد مثلاً على هذا التركيب الشعوري الذي جعله إميل حبيبي شعوراً أكبر بكثير من شعور مجرّد اثنين، بل نجح إميل حبيبي في أن يجعل هذه المشاعر عند الاثنين مشاعرنا، وبهذا يصبحان، سعيد ويعاد، واقعاً جديداً فيه من النشوء والارتقاء ما يضمّنا جميعاً تحت لوائه.
لقد استطاع إميل حبيبي خلق الواقع من جديد، من خلال حسّ فنّي يستوعب الواقع بتفاصيله وشموليته، ويصهر التناقض بين الأضداد التي ذكر محمود درويش بعضاً من أطرافها وهي تتركّب على يدي إميل حبيبي في إيقاع حيوي يلغي تشرذمها وهي أحادية الوجود. لقد جعل إميل حبيبي الكلمات تخلق هذا الواقع باستقلالية تختزل المسافة بين الذات وخارجها، بين الخطاب والواقع، والبدايات والنهايات. نجح إميل حبيبي في أن يمكّن اللغة من أن تنطق ليس فقط بلسان حاله، بل بلسان حالنا جميعاً، ليس بحاضره وحده، بل بحاضرنا جميعاً. فهو لم يقم فقط بتصوير الخسارة بل جعلنا نعيش هذه الخسارة مضفياً عليها من أسلوبه ما يعيننا على تحملها ونحن نبحث عن استرجاع المفقود. وهكذا يتحرك إميل حبيبي بيسر من واقع الخسارة الخاطئ الذي نعيشه ونعايشه قسراً، إلى منظور يتخطى الخطيئة ذات جماعية باقية، بذات إميل حبيبي نفسه الباقية أبداً في حيفا.
(
( المصادر:
-درويش، محمود، "أيها الساخر من كل شيء"، مشارف، العدد 9، حزيران 1996.
-أحد عشر كوكباً، بيروت، 1992.
-حبيبي، إميل، سداسيّة الأيام الستّة، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، وقصص أخرى، بيروت، 1980.(1/169)
-عبّاس، إحسان، أحد عمالقة الأدب العربي الحديث، مشارف، العدد 9، حزيران 1996، ص45.
-شاهين، محمد، الخرزة الزرقاء وعودة جبينه: أسطورة الزمن الدائري، في الأدب والأسطورة، بيروت 1996، ص125-138.
-Derrida, Jacques, Margins of Philosophy, London, 1982.
-Leach, Edmund. Leve-Strauss, London, 1970.
-Lukacs, George, Relasim in Our Time, New York, 1971, p. 28-31.
-Williams, Raymond, “Realism and the Contemporary Novel” in The Long Revolution, p.289.
(((
مدن الملح: الأخدود والكنز المفقود:
الواقعية في صورة الواقع
عندما يجد الكاتب نفسه مسكوناً بهمّ عام يخصّ السواد الأعظم من بني قومه، أو بقضية تمسّ الواقع اليومي لبني جنسه، أو بتاريخ يشمل تغيّرات سياسية واقتصادية واجتماعية يعيشها وطنه الصغير أو الكبير، عندما يجد الكاتب نفسه وقد وقع تحت إلحاح شديد يطلب التعبير عمّا يعتمر بنفسه نحو قضايا مصيرية، تلعب دوراً هامّاً في تشكيل إنسانية الإنسان وتوجيهها نحو منظور معيّن –عندما يجد الكاتب نفسه يعيش هذه الحالة أو تلك لا يجد غير الرواية شكلاً أنسب للتعبير عن النظرة الشاملة التي يطوّق بها آفاق واقع يسكن خياله ولا يرضى غير التعبير عنه بالرواية بديلاً.(1/170)
نقرأ عبد الرحمن منيف ونشعر على الفور أنّ الرواية وجدته، وأنّه وجد الرواية في آن واحد. إنّ التلقائية التي يقصّ بها علينا روايته تدلّل على أنّه حشد كل ما يلزم الرواية من تقنية، ووقف على حيثيات التاريخ والحياة الاجتماعية وسبر غورها، قبل أن يشكّلها من جديد ويكثّفها في نظرة شمولية تطلّ على واقع يتجدّد، بل ويتسارع في التجديد نتيجة التغيّر الذي حلّ به. في مدن الملح: الأخدود يذكر لنا عبد الرحمن منيف على لسان صبحي المحملجي الذي يعرف أكثر ما يعرف بكنية أطلقها عليه عبد الرحمن منيف، وهي الحكيم، أنّ التركيبة الاجتماعية تقسم إلى قسمين رئيسيين: الأولى، القشرة الصلبة، وهي شعب موران وحران التي تكوّن حياة المجتمع في هذين المكانين كظاهرة طبيعية ثابتة على مدى الدهر مهما قست الحياة الصحراوية على هذا الشعب الذي هو امتداد طبيعي وتاريخي لحياة الصحراء الأزلية؛ والثانية، هي كما يسمّيها الحكيم الصخرة الصلبة التي تتكوّن من السلطنة والسلطان والتي هي، كما يعتقد الحكيم، الأساس. فالقشرة مهما كانت صلبة تظلّ قشرة كما يوضّح الحكيم, وهنا تكمن المفارقة طبعاً، إذ إنّ الصلابة لا تتمثل في القشرة بل في الصخرة، لا في الشعب كما هو منطق الأحداث بل في الحاكم. وهذا هو بيت القصيد في مدن الملح وهذا هو من وجهة نظر الراوي الشمولية ومنظوره الفنّي المركز الذي ترتكز إليه بوصلة المفارقة. وهكذا تصبح التركيبة سلطان أو سلطنة (أرضية صلبة) أعواناً خارجيين أو دخلاء أو غرباء، ومنافسين أو حاسدين أقل درجة من القشرة الصلبة إلى آخر ذلك من مسمّيات، وهم يستحوذون لسبب أو لآخر على الصخرة الصلبة.(1/171)
انطلق عبد الرحمن منيف من هذه التركيبة المعقّدة وجعل البترول قوة جاذبية مهيمنة مسيطرة على جميع الأطراف، مشكّلة مسرحاً للأحداث تتنافس وتتنافر وتتحارب هذه الأطراف عليه، كلٌّ يتّجه إلى التقرّب من الصخرة الصلبة، لأنها هي المسيطر المحرّك لوقود البترول، لو ظلّ الأمر على ماهو قبل البترول. بكل بساطة العلاقة بين السطح والعمق لما تطلّبت هذه العلاقة أكثر من ديوان شعر يلمّ أو يلملم حالتها. أمّا وقد فجَّر البترول أبعاداً بعيدة في هذه العلاقة فلم يبقَ إلاّ الرواية معيناً على الوصف والتعبير، إذ إنّ دهاليز الواقع الذي خلّفه البترول، لا يغطّيها إلاّ تقنية مفتوحة على كل التقنيات وأكثر من ذلك، فتقنية الرواية، كما نعلم مفتوحة أكثر من غيرها على الواقع المتشعّب الأطراف والزوايا.
لم ينظر عبد الرحمن منيف إلى البترول على أنّه مجرّد ثروة حلّت على البلاد فغيّرت حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونقلتها من بداوة بسيطة إلى حضارة معقّدة، ولم ينظر إلى البترول وانتشار تأثيره نظرة عالم السوسيولوجيا أو عالم الأنثروبولوجيا، بل إنّه رصد قوّته الخفيّة على النفس البشرية وتغلغله إلى أعمق دواخلها، وإلى خصوصية الفرد وأسراره الدفينة، وكأنّ البترول مناسبة تكشف لنا وللفرد نفسه عمّا كان خافياً بداخله ينتظر فرصة تحرّك النوازع البشريّة البدئية الكامنة التي عاشت حبيسة الأنا مثل ما عاش البترول حبيس القشرة الأرضية.
بعبارة موجزة، لم يهتمّ عبد الرحمن منيف بصورة المنافع المادية التي كان من الطبيعي أن يكون البترول سببها كإنشاء البيوت الحديثة والقصور الشاهقة والجسور والطرق وما إلى ذلك، بل إنّ اهتمامه تركّز حول النسيج الرقيق في العلاقات الإنسانية بين الناس، نتيجة التماس الذي يحدث مع البترول.(1/172)
يذكّرنا عبد الرحمن منيف هنا، بالروائي كونراد الذي عالج تأثير المادة الخام الثمينة المستخرجة من الأرض في مستخرجها، وبيّن إيقاع الحياة الجديدة التي ينشأ من جرّاء وصوله أو حصوله على هذه المادة. وفي أهم عملين روائيين من أعمال كونراد، وربّما من أهم الأعمال الروائية في القرن العشرين، صوّر كونراد الصراع الأزلي الذي وقع فيه الرجل الغربي في المادة. ومن المعروف أنّ قلب الظلام ونوسترومو يتمحوران حول تهافت الرجل الغربي على ثروة العاج والفضة. ومن المعروف أيضاً أنّ هاتين القصتين تحكيان قصة الاستعمار ليس في جشعه بل في تحطيم إنسانية الإنسان نتيجة هذا الجشع. يذهب كورتز إلى الكونغو ممثّلاً للشركة الاستعمارية في برسل وفي ذهنه حلم وآمال عريضة، يظن بداية أنّ الرحلة إلى الأدغال سيكون لها أثر إيجابي في البشرية، إذ إنّه يظن بنفسه حاملاً مشعل الحضارة الأوروبية، مع أنّ مهمّته الحصول على أكبر كمية من العاج للشركة. وبُعيْدَ وصوله يتغيّر كل شيء بالنسبة لخطّته، ومن قبيل المفارقة يتحوّل كورتز إلى شخص أكثر همجية من أولئك الذي ظنّ نفسه محضّراً لهم. وفي النهاية يصيح صيحته المشهورة "يا للرعب، يا للرعب"، أي الرعب من الاستعمار في أشكاله المختلفة، وما يجلبه من شرّ في النهاية حتى على من ينهضون به من أبنائه ويؤمنون به في البداية.(1/173)
أمّا نوسترومو (1904)، وهي تحفة روائية، فهي صورة الاستعمار البشعة التي تنطبق صورتها (من الناحية الجغرافية على الأقل) على أمريكا اللاتينية، وفيها نبوءة لم يسبق لها مثيل، إذ تنبأ كونراد في بداية القرن العشرين أنّ أمريكا ستكون صاحبة ذلك النظام العالمي الذي يعطيها السيادة على المعمورة. يقول هولرويد، المستثمر الأمريكي، وهو شخصية رئيسية في نوسترومو: "سيكون لدينا متّسع من الوقت نستولي فيه على جزر وقارات المعمورة. سندير أعمال العالم قاطبة سواء رضي العالم أم غضب. لن يكون للعالم خيار في ذلك، وأعتقد أنّه لن يكون لنا الخيار أيضاً."(ص77).
لا أعرف روائياً غربيّاً يمكن مقارنة عبد الرحمن منيف به أكثر من كونراد. فعلى الرغم من أنّ عبد الرحمن منيف لا يعالج قضية الاستعمار مباشرة لأنّها تقع خارج مجال المحلية التي ينطلق منها عبد الرحمن منيف، فإنّ عبد الرحمن منيف يتّفق مع كونراد الذي يعالج قضية الجشع المادي وتأثيره في إنسانية الفرد، فالجشع المادي وتأثيره في بني البشر، ليس مرهوناً بالاستعمار، بالرغم من أنّ الاستعمار يعرف به وغالباً ما يعرَّف به.(1/174)
أقرأ عبد الرحمن منيف فأتذكّر نوسترومو على الرغم من كلّ ما في الرواية من أبعاد تاريخية للاستعمار، لا توجد عند عبد الرحمن منيف طبعاً. فافتتاحية نوسترومو التي تقدّم وصفاً جماليّاً للمكان يُعدُّ أنموذجاً في بعث الحياة الأسطورية من جديد في مكان الرواية، ليجعلنا نتمثّل روحها الصامتة المتحفّزة وكأنّها بركان أسطوري ساكن يحذّر بني البشر من العبث به أو الاقتراب منه تجنّباً لوقوع الطوفان مثلاً. هذه سولاكو، مسرح أحداث الرواية في جمهورية كوستجوانا (وهي أسماء خياليّة لا يمكن مطابقة مكانها إلاّ بأمريكا اللاتينية) تقع بين السهل والجبال المحاذية على مسافة بسيطة من الخليج وليست متّصلة اتصالاً مباشراً بالبحر. أمّا الجزر الثلاث التي تقع على مدخل الخليج الذي تقع عليه سولاكو فتحتفظ بأسرار كونية والجزر هي: أزابيلا الكبيرة، والأزابيلا الصغيرة وهيرموزا الصغرى. ويتناقل الناس أساطيرها على الدوام، وعلى مرّ العصور.
تبدأ الأخدود بوصف موران الذي يذكّرنا سكونها الحذر المخادع بسولاكو وجزرها وأخدودها السحيق الذي يظنّه الناس مكاناً اندفنت فيه الفضّة منذ زمن بعيد، وكل من حاول الاقتراب منه حلّت عليه اللعنة. هذا هو الوصف التمهيدي لمدينة موران:
"بدت موران في تلك الأيام المبكّرة في فصل الربيع غارقة في الصمت والتأمل، وكأنّها لا تنتظر شيئاً، لكن العين النافذة المدقّقة ترى في صمتها انتظاراً أو بقية من ترقّب، وترى في هذا السكون حذراً مخادعاً، إذ لابدّ أن ينتهي فجأة كأنّه لم يكن، ولذلك، ودون اتّفاق أو تدبير، شارك الجميع في هذا الصمت، وجعلوا لحركتهم البطيئة الموزونة طابعاً في الخفاء المشوب بالتآمر، وبالغوا في ذلك أ شد المبالغة؛ لأنّ خطأ أيّاً كان سببه أو مصدره، لابدّ أن يعكر الكثير، وقد يخلق صعوبات ليس من السهل معالجتها"(منيف، ص5).(1/175)
بعد ذلك يقدم لنا الراوي صورة المكان من خلال مشاعر وداد، إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية، ليبيّن لنا التفاعل بين المكان وإحساس الشخصية به، إذ تصبح العلاقة بين الاثنين علاقة عضوية كلاهما يتأثر بالآخر ويؤثّر به:
"بدت موران في عيني وداد، وهي تنظر إليها من الشبّاك في الصباح الباكر، مدينة منفّرة، فالبيوت متلاصقة، واطئة، متتابعة وكأنّها سلسلة لا نهاية لها من كتل طينية صمّاء، وأشجار النخيل القليلة المتباعدة ميتة الخضرة، عارية، أو أقرب إلى العري، حتى أنسام الفجر، رغم طراواتها، كانت جافة ومثقلة برائحة الغبار. نظرت إلى هذه اللوحة وزفرت من أعماقها. أمّا وهي تشرب القهوة مع زوجها على الشرفة، وقبل أن يستيقظ الأولاد، فقد كانت تشعر بالراحة والرضا والقلق والخوف معاً. كانت مشاعرها مختلطة مضطربة، وأقرب إلى التشوّش، وبين رشفة وأخرى كانت تنظر إليه، تريد أن تراه في ضوء النهار"(منيف، 35).
وهنالك صورة أخرى لمدينة موران بين الماضي والحاضر، بين حياة الألفة والبساطة ماضياً، وحياة الضياع والاضطراب حاضراً، بين موران الشعر وآيات القرآن وقصص الأقدمين، وموران القصور والطرق المعبّدة والسيارات الفخمة. هكذا يسجّل الراوي ما حلّ بموران بعد الخمسينات من القرن العشرين:(1/176)
"موران في تلك السنين التي أعقبت منتصف القرن، لا تزال بعيدة منسية: لم تبلغ المدينة وإن تجاوزت القرية، فهي أقرب إلى البلدات الكثيرة المنتشرة على طرق التجارة أو الواحات الكبيرة. الناس يعيشون حياة متواضعة، أقرب إلى الخشونة. يتوارثون أباً عن جدة نظرة بسيطة إلى الحياة والموت، ولأنهم لا يؤملون الكثير من الحياة، ولا يخافون الموت، فإنهم خلال السنين التي يقضونها على الأرض يكدحون لانتزاع اللقمة، ومع أنّ اللقمة صعبة أو بعيدة أغلب الأحيان، فقد كانوا، مع ذلك، يجدون وقتاً طويلاً يصرفونه لتأمل ما حولهم، ويلهون أنفسهم بحفظ الشعر وآيات القرآن وقصص الأقدمين. وفي ليالي الصيف الطويلة يجدون أرواحهم ترحل إلى ما وراء الحياة والموت، وعيونهم تجوب السماء تحدّد مواقع النجوم ومسارها، أو تقرأ في الرياح علائم الغبار والمصائب والجراد.(1/177)
ولأنّ موران في ذلك الموقع النائي المعزول، فلا أحد يصلها إلاّ إذا كان يقصدها، لذلك ألف الناس بعضهم بعضاً، وعرفوا القرابات والعلاقات، وصارت جزءاً من حياتهم. فإذا جاء الغريب لا يمكنه أن يخترق القشرة الصلبة التي تغلّف الناس والحياة هنا، وإذا استطاع فبعد وقت طويل وبكثير من المعاناة القاسية المجهدة. وأهل موران الذين رأوا عدداً من الغرباء، جاءوا أو مرّوا، كانوا، أغلب الأحيان، لا يبدون قلقاً أو خوفاً، ففي داخل تلك الشرنقة التي تحمي وتدفئ، وفي ظل تلك العلاقات الصلبة الراسخة، يعرفون كيف يحمون أنفسهم، وكيف يجب أن تكون ردود أفعالهم تجاه كل ما يحصل حولهم؛ لأنهم على ثقة أنّ هؤلاء الغرباء لا يمتلكون الصبر، ولا يعرفون الدروب الخفيّة إلى دواخل البشر والصحراء، ولذلك فإنّ إقامتهم لن تطول. أمّا الذين جاءوا بهدف الاستقرار، فما يلبث القلق أن يخامرهم، ثمّ يبدأ الخوف يفتك بهم، حتى إذا جاءت تلك الأيام اللافحة المثقلة بالغبار والحرارة، تصل أرواحهم إلى حلوقهم، عندها إمّا أن يستسلموا أو أن يرحلوا. فالذين لا يمتلكون غير هذا المكان، ويمتلؤون إصراراً على البقاء، يتحوّلون شيئاً فشيئاً إلى نمط من الناس لا يختلف عن أهل موران، بالنظرة، بالسلوك، بملامح الوجوه، وبتلك الرغبة التي تولد القوة على التحمّل والاستمرار. أمّا الذين أكل الحنين قلوبهم وعقولهم، ولسعت ملوحة المياه ومرارتها ألسنتهم، وشعروا أنهم محاصرون، وقد اقترب منهم الموت ولابدّ أن يدركهم، فعندئذ، وفي ليلة من ليالي الصيف، ومع قافلة أو رعية جمال، يرحلون، دون أن يقولوا، ودون أن يفطن لهم أحد، وبرحيلهم تنقطع أخبارهم، ويغيبون تماماً، حتى إنّه لم يصادف أن عاد إلى موران، بعد أن يكون قد تركها.(1/178)
هكذا كانت موران عبر مئات السنين. صحيح أنها كبرت واتّسعت في بعض الفترات، ثم تراجعت وصغرت في فترات أخرى، بل وكادت تندثر من الطواعين والجوع والحزن، لكنها كانت دائماً تنهض من بين الرمال وتعاود الحياة.
إنها مدينة عجيبة. حتى القصص التي ترويها الجدّات للصغار تمتلئ بالجنّ والعفاريت، وتمتلئ بالأصوات الخفيّة والبروق، فيحار الصغار والكبار من هذه المدينة، ويتلفّتون حولهم، ويغلفون خوفهم وانتظارهم بالصمت.
أمّا الذين حكموا موران وما حولها فكانوا يخافون هذه المدينة أكثر مما يحبّونها، وكانوا دائماً يتوقّعون أن تنشقّ الأرض فجأة وتأتي على كل شيء، وهذا التوقّع الذي ملأ الحكّام منذ أن وجدت موران، وإن لم يدركوا له سبباً واعياً، ملأهم بحقيقة سيطرت عليهم دائماً: أن يعيشوا ليومهم، أن ينتظروا الغد، لأنّ الغد، أغلب الأحيان، لا يأتي. هذه الحقيقة التي تسربّت بخفاء وعلى مهل، جعلت موران دائمة التوقّع، تنتظر لا تملّ من الانتظار، وكانت عيون الناس لا تفارق قصر السلطان، أياً كان هذا السلطان.
وإذا كان لكل مدينة مزاجها وطريقتها في التعبير، وتمتلئ في بعض اللحظات بالأشواق أو المخاوف، فإنّ موت السلطان خريبط جعل موران في حالة أقرب ما تكون إلى الانتظار والتوقّع، والناس فيها ينتظرون أو يتوقعّون شيئاً، لكنهم لو سئلوا أي شيء ينتظرون أو يتوقعون فإنهم لا يملكون جواباً.
قال شمران العتيبي، حين بلغته وفاة السلطان، وكان حوله ثلاثة من أبنائه وبعض الأقرباء والأصدقاء:
-الله ياما شاف قصر الروض قبله، لكن كلّم راحوا. وإذا الله أعطانا عمر بعد نشوف، وإذا قضينا ومضينا اللي يجي بعدنا يشوف ويسولف.(1/179)
وبعض الناس الذين سمعوا منذ وقت طويل ما قاله منجّم مغربي التقى بالأمير خزعل في إحدى سفراته، حين كان وليّاً للعهد، وقيل أنّه نبهه لشيء واحد: أن لا يسكن في قصر أبيه، لأنّ هذا القصر سيكون مشؤوماً على من يأتي بعد السلطان الحالي، ولمّا خاف الأمير وسأله عن معنى ذلك، قال له المنجّم: (قلت لك ما يكفي وما يجب أن يقال.. فاحذروا!"(منيف، 23-25).
تتبدل الحياة الطبيعية الوادعة في موران مثل ما تتبدّل في جمهورية كوستجوانا وعاصمتها لوكاستا، وتصبح موران مثل لوكاستا مدينة مستباحة من أصحاب رؤوس الأموال الذي يهمّهم المنشآت التجارية الضخمة التي تطمس الشخصية التاريخية المعبّرة عن الحياة الصادقة للمواطنين في مدينة سولاكو. ينظر المواطنون من حولهم في موران وسولاكو وإذا بأرضهم قد تحولّت ملكيتها إلى أولئك المستثمرين الذين لا يهمّهم الحفاظ على مقدرات أو تراث الماضي بقدر ما يهمّهم استغلال هذه الأراضي في التجارية والكسب المادي الذي بدوره يشوّه الصورة الحقيقة التراثية التي عاش في ظلّ أمنها واستقرارها المواطنون.
في إحدى المشاهد المؤثّرة في نوسترومو والتي يشار إليها دائماً عند تقديم أي قراءة نقدية للرواية يشهد مستر جولد أحد المستثمرين الرئيسيين منظر المواطنين وهم يرقصون وينشدون ويغنّون، وشملهم يلتمّ فوق أرض سولاكو فيقول لزوجته التي لا تشاطره حب السيطرة المادية "إنّ هذه الأرض التي غنّوا وفرحوا فوقها لم تعد أرضهم، بل إنها الآن ملك مشروع سكة الحديد، الذي تبنّاه مستر جولد، ذلك المشروع الذي سيكون في خدمة منجم الفضّة. ويعني هذا ضمنيّاً أنّ فرح الشعب فوق أرضه لن تكتب له الاستمرارية. أين يفرح المواطنون بدون وطن، وبدون أرض. أصبحت الأرض ملك شركة سكة الحديد مثل ما أصبحت أرض موران ملك مشاريع صبحي المحملجي (الحكيم). أقسى التجارب الإنسانية وأبشعها أن يصبح المواطنون بلا وطن في وطنهم!(1/180)
في نوسترومو يشير الراوي إلى أنّ التجارة المادية التي تحققها سكة الحديد ومشروع منجم الفضّة ليست للشعب. بهذا يصبح الشعب أشبه بمتفرّج على مشاريع غيره التي تقوم على استلاب أرضه في وضح النهار دون أن يكون له ذنب في ضياع أرضه ودون أن يكون له حقّ في المشاريع التي تقام عليهما. أن تصبح غريباً في وطنك أصعب من أن تكون غريباً في وطن غيرك. هذا هو بيت القصيد عند كونراد في نوسترومو وهو البيت الذي يلتقي فيه عبد الرحمن منيف مع كونراد: كيف يتحوّل المواطن بلا وطن، بين عشية وضحاها في وطنه، هو السؤال المحيّر الذي وجد سبيله إلى كونراد وعبد الرحمن منيف، كلا الروائيين وجد نفسه شخصياً يعاني من مثل هذا الوضع، ولا غرابة أن اتخذ هذا الوضع اهتماماً خاصاً عند الكاتبين، فأصبح قصّة حياتهما وحياة الشعوب التي غُلبت على أمرها وموضوع الرواية عندهما.
هذا هو وضع موران الجديد وهي تصبح وطناً مستباحاً للمستثمرين أمثال صبحي المحملجي!
"موران التي كانت تغرق في الرخاوة والتأمل والانتظار، بدأت تنتفض وتتغيّر: أبنية من أنماط وأشكال لا حصر لها تقوم وتنتشر في كل مكان، شوارع تُشقّ وسط المدينة وعلى أطرافها، وقريباً من منطقة القصور، كما سميت منطقة الغدير، فتبدو بقايا البيوت والجدران والأشجار وكأنها آثار عصور قديمة خلّفتها هزّة مفاجئة. الأجانب يصلون ويتكاثرون كل يوم، ولا يطول بهم الوقت حتى يستقرّوا. الأعمال تتزايد وتتداخل بحيث لا يعرف الإنسان هل يواصل في الغد ما بدأه اليوم أم ينتقل إلى عمل آخر. والحياة، بكلمة موجزة، تتقطّع جذورها، تضطرب، تتغيّر، لكن لا أحد يعرف ماذا سيصير.(1/181)
صحيح أنّ الأمر اختلف كثيراً عمّا حدث في حرّان أو رأس الطواشي، وعمّا حصل في بدرة وأم العوالي وعجرة، لأنّ كل بناء يشاهد هنا، أو كل شارع يشقّ، يضيف إلى الركام الموجود قروحاً جديدة وركاماً جديداً، حتى لتبدو موران كالأحشاء المتناثرة، أو كأكوام القمامة في هذا المدى الصحراوي اللامتناهي. وهذا المنظر الذي يمرض أي إنسان مقيم، ويجعله في حالة من التوتّر والحزن، فلا يعرف هل يمكن بعد الذي حدث في هذه المدينة التي تعوّد عليها وألفها منذ أن فتح عينه على الحياة، أن تعود إلى حالتها السابقة، أو إلى شيء من الانسجام؟ والغريب الذي يصل إلى موران لأول مرّة، لا يعرف هل جنّ الناس فيها، فحمل كل واحد معوله وأخذ ينتقم من المدينة ويقوّضها دون رحمة وبأسرع وقت؟ حتى المهندسون، أو من يفترض أنهم كذلك، والذين يقودون مجموعات من البشر والآلات هنا وهناك، ويبدأون بشراسة في تمزيق أحياء المدينة وبيوتها، كانوا يفعلون شيئاً ثمّ يتراجعون، لا يلبثون أن يعودوا إليه مرّة أخرى، وقد بدت على وجوههم وتصرّفاتهم علائم الحيرة والترقب، حتى إذا غرقوا في الأنقاض وتاهوا في المنعطفات والتقاطعات، جاء غيرهم ليواصلوا العمل ذاته أو ليبدأوا عملاً غيره.(1/182)
مدينة لا ترحم نفسها ولا ترحم ساكنيها: مجموعة من الأنقاض تتزايد كل يوم. والناس يتطلّعون حولهم بحيرة أو بتشفّ، لكن برغبة وحيدة أيضاً: أن يخلصوا من هذا الذي يجري. ولأنّ الحكيم يرى موران على مصوّرات المهندسين المليئة بالعذوبة والشفافية، والمليئة بالأشجار أيضاً، فإنّه لا يرى الشقاء ومدى العذاب الذي ينزل بالناس من حوله، ولذلك وجّه اهتماماً متزايداً إلى شيئين اثنين: الأراضي، والفكر، ففي النهار لا يتوقّف لحظة واحدة عن "دراسة المخططات". كان يفعل ذلك بكثير من الحماس والاهتمام، ولا يتردّد في استدعاء مهندسي البلدية ودار الإمارة لمناقشتهم في جميع التفاصيل المتعلقة بمستقبل موران، حتى إذا "حفظ المخططات" يوماً بعد يوم، شهراً بعد آخر، أرسل رجاله لمساعدة المعوزين في أطراف المدينة، عارضاً عليهم أن يشتري الأراضي البور التي يملكونها. وأنّه مستعدٌ لأن يدفع لهم فوراً مبالغ يمكن أن تساعدهم في أن يبدأوا حياة جديدة!
بعد أن ينتهي عمل النهار الشاق الطويل، ويعود الحكيم إلى قصر الحير، يخصص جزءاً طويلاً من ليله للتأمّل والتفكير بنظرية المربّع.
الذين عرفوا أو سمعوا بما يفعله الحكيم، وكيف إنّه يبحث عن الفقراء في الليل والنهار لكي ينقذهم من فقرهم، ولكي يؤمّن لهم أعمالاً في البلدية ودار الإمارة، قلبوا شفاههم بشكّ وتساؤل.
مالك الفريح عرف قبل الآخرين أنّ الحكيم لم يترك أرضاً في موران إلاّ واشتراها أو ساوم على شرائها، منفرداً أو مع آخرين، فكان يهزّ رأسه ويخرج صوته من أنفه:
-والله... والله إذا لقي شبر أرض واحد في موران كلها يندفن فيه ما أكون أبو صفوق!" (منيف، 248-49).
* * * *(1/183)
وعلى الرغم من بُعْدِ الشقة في الخلفية الحضارية بما فيها بُعدا الزمان والمكان بين تجربتي الكاتبين في الرواية، إلاّ أنّهما يلتقيان في المنظور الإنساني الذي لا يعرف حدود الجغرافية أو التاريخ. هذا المنظور المشترك يولد عندما يحلّ رأس المال على الأرض الآمنة العزلاء التي تنعم مع أهلها بالأمن والعزلة واستمرارية العيش المتواضع، من أوسع الأبواب فيهتك الستر ويغيّر ما تعوّد الناس عليه من راحة البال والاطمئنان. كل هذا يولّد نوعاً من الخداع: خداع النفس، وخداع الآخرين معاً (betrayal). وهو موتيف ترتكز عليه في التحليل النهائي رواية نوسترومو ويشكّل النسيج الداخلي لرواية مدن الملح وتصبح الحياة في هذه الحالة كما تصوّرها شخصيات الروايتين مقامرة فيها الربح وفيها الخسارة. وتكمن المفارقة (irony) التي هي عصب العمل الروائي في نوعية الربح ونوعية الخسارة!
ومن الواضح أنّ الروايتين تصوّران الصراع من أجل الوصول إلى الربح المادي بشتّى الطرق غير المشروعة وأنّ العلاقة وطيدة بين الفساد والمصالح المادية. هذه هي الصورة التي تصل إلينا من خلال الممارسات التي تتمثل في الجهود اليائسة التي تبذلها الشخصيات الرئيسية وهي تسعى نحو الوصول إلى الكنز المادي. أمّا الوجه الآخر للصورة الشاملة الذي لايظهر على السطح فهو خسارة الكنز الحقيقي.
الكنز الحقيقي وخسارته في معركة البحث عن الكنز المادي هو المغزى الحقيقي عند كل من كونراد وعبد الرحمن منيف، ولا يعرض الكاتبان لهذه الخسارة بقدر ما يعرضان للربح، ولا يعرضان للربح بقدر ما يعرضان للمعركة الضارية التي تتسبّب عن الإغراء والخداع والمقامرة التي تنتج جرّاء الخلط بين الوهم والحقيقة، فعندما يمارس الفرد حياة وهمية معتقداً أو ظانّاً أنها الحقيقة، يختلّ ميزان القيم عنده، ويعيش حياة خاسرة مهما بدت في ظاهرها رابحة، ومهما بدا في الربح من عزاء.(1/184)
يعرض لنا عبد الرحمن منيف حياة صبحي المحملجي وقد تكللت بالنجاح في مشاريعه المادية وأصبحت تدرّ عليه ربحاً مادياً يفوق حلمه في الأيام الأولى. استطاع أن يصل بحنكته إلى الصخرة القوية وأن يشيد عليها أو من خلالها مشاريعاً تؤمّن غناه، كما يرد في الرواية، إلى ولد الولد. ولكن هذا المال والجاه ورضى السلطان وتحكّمه في القشرة الصلبة وسيطرته على القاصي والداني، له ثمن ليس بخافٍ عنه، ألا وهو تصدّع حياته الأسريّة. يقول لنا الراوي غنّ صبحي المحملجي تزوج من وداد الحايك زيجة عادية، تمّت بترتيب قامت به والدته مع أسرة وداد، وهو أمر مألوف في طرابلس، بل وفي غيرها من مدن الشام، وغالباً ما تسير الأمور بعد الزواج سيراً طبيعياً عندما لا تتعدى الحياة الزوجية البسيطة إنجاب الأولاد ورعاية الزوج وبيت الزوجية. أمّا عندما تتعرّض هذه الحياة المحدودة إلى ظرف يبعد الزوج عن زوجته ويشغله ليل نهار في مشاريع مادية طموحة تستنزف جهده ووقته فإنّ خللاً ما يحدث في الحياة الزوجية البسيطة التي بنيت على القناعة والكنز الذي لا يفنى.
صحيح أنّ وداد الحايك قبلت الزواج مثل تقبل العديد من الفتيات في البيئة المملّة على أنّه ستر، ولكن الأمر لا يقف بالنسبة إليها عند هذا الحدّ أو عند ممارسة هذا الطقس على أنّه المحطة الأخيرة، إذ إنها تتمتّع بحساسية تجعلها تؤمن أنّ الحياة حقّ يجب التشبّث به ما دمنا على قيد الحياة. وهذا ما جعلها ترفض (دون مقاومة ظاهرة) جو الأسرة التي تربّت فيه، لأنّه جوّ مسكون بنذير الموت يشيعه والدها وتردّده والدتها. مهنة والدها الجديدة قسام شرعي:
"وهذه المهنة التي استهوته تماماً، جعلته لا يتحدّث إلاّ عن الموت والموتى: كيف خطف الموت البشر وأبقى الثروة، لكي يختلف عليها الأحياء، ولولاه لأمات الناس بعضهم بعضاً، وأنّ الموتى ذهبوا إلى الباري بأكفانهم، ولا يمكن تمييز الواحد من الآخر أو التفريق بينهم.(1/185)
كانت وداد تسمع هذه القصص في الليل والنهار، وتولّدت لديها نتيجة ذلك كراهية لهذا البيت الذي لا تدور فيه إلاّ قصص الموت والموتى. أمّا حين جاءت أم حكيم تختبر ثمّ تخطب، فقد مثّلت معها وداد دوراً كاملاً، واجتازت بنهايته الاختبار، فما كادت تقترب منها أم الحكيم لتتأكد من رائحتها حتى أعطتها نفسها."(منيف، 47).
ويدلنا هذا على أنّ وداد لم تكن في واقع الأمر متلهفة إلى عريس بقدر ما كانت توّاقة إلى التحرّر من جو أسري لا يحتمله إحساسها ليس كأنثى بل كإنسان يرفض أن يموت وهو حيّ يرزق أو يستعجل الموت وهو كذلك. يقول لنا الراوي:
"وداد التي كانت أمام شبح الموت الذي تخافه وتهرب منه باستمرار؛ لأنّ "رائحة الموتى عالقة بثبات أبي، وهو الآخر لا يفارق أمي" لم تتردّد في أن توافق الحكيم على الانتقال من مكان إلى آخر. أمّا حين رافق بعثة الحج أول مرّة، وعاد وذكر أنّه لم يتوصّل إلى نتيجة بالنسبة لـ "ملاك العائلة" لأنّ الوقت كان قصيراً "وهؤلاء الحجاج المسنّون لا يرتاحون ولا يتركون أحداً يرتاح" ويجب أن يعود مرّة أخرى لمتابعة بحث الأملاك" ولأنّ هذه البلاد لها مستقبل، ويمكن للإنسان أن يصبح غنياً بين يوم وليلة، إذا كان فهيماً وشاطراً."(منيف، 48).(1/186)
يلتقط عبد الرحمن منيف رياح التغيير في حياة وداد بل في حياة الأسرة بكاملها ويصوغ أبعادها من خلال مفارقة فنيّة جميلة لا يقدر عليها إلاّ كبار الروائيين أمثال جين أوستن، وتشارلز ديكنز. ومن خلال هذه المفارقة يبيّن لنا الراوي أنّ وداد شخصية متماسكة ومنسجمة مع نفسها في موقفها وسلوكها في الحياة. فإذا كانت قد قبلت الزواج كستر، فإنّها لا تقبل أن يستمر الزواج كذلك. أيقنت وداد أنّ زواجها نوع من الاستجارة بالرمضاء من النار. تركت وراءها حياة مشبعة بالموت لقاء حياة فرضت عليها اغتراباً عن زوجها سنوات طويلة. فلم يعوّضها اغترابها (مجازاً) في الماضي عن أمّها وأبيها اقتراب يكون فيه الزوج شريكاً بعيداً عنها فعلاً. المفارقة أنّ حياة وداد في بيت الستر الزوجي أصبحت امتداداً لحياتها السابقة في بيت والديها.عزلة واغتراب من نوع جديد، حساسيتها جعلتها ترى شبهاً كبيراً بين عزلتها عن والديها وابتعادها عن زوجها.
تتميّز وداد عن غيرها أنّ زواج الستر عندها لا يعني انّه بدون شروط، أو أنّه على الأقل يجب ألاّ يحقّق أدنى شروط الصفقة، وهو المشاركة الزوجية، أمّا أن تستمر الحياة الزوجية ستراً لا يهتكه شيء، فهذا ما لا ينسجم مع شخصية وداد. وأكثر من ذلك لم تقبل بالمقايضة المادية التي يوفّرها لها زوجها سواء وهي بعيدة عنه أم قريبة منه. بعبارة أخرى لم ترَ وداد في الكنز المادي بديلاً للكنز الحقيقي الذي كانت تعيش فقدانه. وهذا ما يولّد أزمة في حياة وداد، في بداية الأمر (سأعرض للتفاصيل لاحقاً).
إنّ تهافت صبحي المحملجي وراء المطامح المادية جعل وداد تعيش موتاً جديداً. هذه هي المفارقة. أمّا أفق هذه المفارقة، فهو أوسع من أفق أي مفارقة أخرى من نوعها، واتّساع هذا الأفق هو في حدّ ذاته مفارقة، أي أنّ المفارقة البسيطة تصبح مفارقة مركّبة. كيف ذلك؟(1/187)
إنّ إحساس وداد بالموت لا يكون ابتعاد زوجها عنها سنوات طويلة وحسب، وحضوره إلى حلب أو حضورها إلى موران وحران فترات قصيرة لا يمكن أن يسدّ الفراغ العاطفي أو شعورها بأسى الموت. ويتعمّق مدى هذا الإحساس، عندما ترى وداد أنّ زوجها يجري وراء الكنز المادي في بلد الموت. فصبحي مثلاً ليس مغترباً في فنزويلا أو أمريكا الشمالية أو أمريكا الجنوبية، بل في مكان يمكن أن يكون الموت مصيره في أي لحظة وبدون أسباب ومقوّمات أو مبرّرات. شغله، كما يقولون، مزاجية لابدّ أنّ وداد بإحساسها وخيالها وضعت في حسابها أنّ إمكانية فقدان زوجها في بلد الموت محتملة، وفي النهاية تصبح ليست فقط في عزلة عن زوجها بل فاقدة لزوجها وأبي أولادها. وهذا ما ساهم في تصوّرها لمستقبل أشدّ ظلاماً من حياتها الماضية (على الأقل في بداية الأمر وقبل أن تنجرف هي نفسها في حياة زوجها عندما يغيّر الزمن الأحوال وتكبر ابنتها).
لا أعرف كاتباً استطاع أن يصوّر الموت في الحياة، أو كما يسميّه إليوت (Life- in- death) أكثر من عبد الرحمن منيف. وتكمن قدرة عبد الرحمن منيف في السيطرة على مشاعر الرعب الحقيقية التي تنشأ من معرفة أو مشاهدة الرعب فعلاً والقدرة على تصوير هذه المشاعر بشكل يكثّف أو يعمّق هذه المشاعر دون أن تذهب هباءً، كأن تتحول إلى عاطفة جيّاشة أو إلى مجرّد الإحساس بالألم، أو ما إلى ذلك من رسائل تذوب فيها وسائل التعبير عن واقع الألم نفسه، فيصبح التعبير نسياً منسياً، وخارج نطاق السيطرة عليه. فصورة الموت التي يصوّرها عبد الرحمن منيف ليست خيالاً علمياً، ولا هي حوادث بوليسية مفبركة تكون المسافة الفنية بينها وبين الفنان ما يسمح بالسيطرة عليها كحوادث متخيّلة ومن ثمّ التعبير عنها بشيء من اليسر، بل هي واقع معاش يحدث أمام الملأ وكأنّه شيء عادي، على الرغم من كل ما فيه من رعب وهمجية تقشعر لها الأبدان.(1/188)
هذا مشهد من الأخدود ما قرأته إلاّ تذكّرت كاتباً مثل دوستوفسكي الذي يصوّر حوادث عامة مرعبة تقع بين صفوف الشعب، يكون الظلم فيها واضحاً للعيان، ويقف عامة الشعب أمام تنفيذه لا حول لهم و لا قوة وكأنّ على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في كابوس. كيف يستطيع الكاتب أن يصوّر المشهد بطريقة تسمو على البوليسية وتتفوّق على الخطابة والسنتمنتلتي التي غالباً ما تكون ملاذاً يتداعى له التعبير عندما يتأزّم الوضع في مثل هذا الموقف.
المشهد يقدّم إعدام اثنين من المواطنين الأبرياء وضح النهار، ومن الطبيعي أن يثير هذا المشهد التقزّز حتى في محمد عيد مساعد صبحي المحملجي. ومهما طال المقتطف من هذا المشهد، فإنّ الصورة تظل ناقصة بدون قراءة النص الكامل للصورة. هذه بداية المشهد:
"يوم الجمعة، منتصف الصيف.
استيقظ محمد عيد متأخّراً هذا الصباح، لأنّه تأخّر في نومه، ولأنّ أحلاماً أقرب إلى الكوابيس ملأت ليلته الفائتة."(منيف، ص193).
بعد ذلك يأتي وصف حران والجموع الخارجة من الجامع وبقية الناس الذين يرقبون بفزع وغير فزع مصير الضحيتين وعلى مقربة منهم أيضاً عدد من رجال الأمير والشرطة في حالة هياج متوحّش:
"حران في هذه الظهيرة ثقيلة مستبدّة. الهواء ساكن لكنه خطر، أمّا الصمت الذي زحم الأبنية والشوارع فقد كان فاضحاً. لم تكن حران في يوم من الأيام بهذا القدر من الارتياب وخداع النفس، ولم تكن عارية وسوداء هكذا. قال محمد عيد لنفسه وهو يحاول أن يسحب نفساً لكي لا يموت: اللهم قوّني وأعطني الشجاعة على تحمل المكاره.
في طريقه إلى الساحة أحبّ أن يمرّ بالقرب من دكّانه. تذكّر الاسم الذي أطلقه "خذ غرضك.. وامش." حاول أن يبتسم، لكنه وجد أنّه لا يستطيع. كانت في روحه بقايا حيرة، وكان فمه شديد المرارة.
ألقى نظرة أخيرة، لكن استمرّ حائراً. تطلّع إلى الأرض والسماء فوجدهما قاسيتين، وبعصبية اتّجه مسرعاً إلى ساحة السلطان خزعل، حيث يطلّ الجامع الكبير.(1/189)
فجأة أحسَّ بالخطر، فالجموع التي كانت تخرج من الجامع، والأعداد الكبيرة من الأطفال والصبية، وغير بعيد عنهم النساء، أوحت له بالخطورة ثمّ بالخوف. ماذا يمكن أن يكون؟ لماذا لم يعرف من قبل ولماذا لم يسمع؟
بصعوبة شقّ طريق وسط الجموع والصمت، وبصعوبة أيضاً رأى. رأى اثنين من البدو ينزلان من سيارة جيب، الأول كبير السن والآخر بين الصبا والشباب. الكبير بعباءة ممزّقة ومغبّرة. قاسي الملامح، أقرب إلى الخشب الجاف، عاري الرأس، حتى ليبدو مثل حيوان صحراوي ضعيف. كان يتلفّت بعيون حائرة، وبدا مذهولاً، وقد ربطت يداه إلى خلفه. أمّا الشاب فكان في ثوب ربّما كان أبيض في يوم من الأيام، لكنّه بلي ونصل وتمزّق عند الكم والصدر فظهرت يد الشاب عارية، وظهر صدره مسمّراً ضامراً وكأنّه قفص لطيور خطرة. أنزل الرجلان بخشونة وقسوة، وكان حولهما عدد من رجال الأمير والشرطة.(1/190)
تجمّع الناس في حلقة تشبه السوار. رجال الأمير في حالة من الهياج أقرب إلى التوحّش. الكلام الذي يسمع همهمة غامضة ولا يفهم. لا أحد يعرف أو يدري ماذا سيكون. الجوّ يزداد حرارة وخطراً. الرجلان اللذان كانت أيديهما مربوطة إلى الخلف تحلّ ويجبران على الجلوس. قال رجل من الجمع: "سرقوا.. ولابدّ أن تقطع يد السارق". ردّ آخر: "ليقولوا أي شيء سرقوا". قال ثالث: "العين بالعين والسن بالسن". قال آخر: "لم أرَ في حياتي ابن آدم تقلع عينه". قال آخر: "مساكين لا ذنب لهم". قال آخر: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله". وكل ابن آدم مسيّر لا مخيّر". ردّ عليه رجل قصير: "إلاّ ابن آدم له عقل وعنده وجدان". ردّ الرجل الأول: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله". قال رجل آخر: "آخر ابن آدم خرقة، ولا يفيده ذهب الأرض". قال رجل آخر: "اسكتوا يا جماعة الخير، خلنا نشوف تالي هالمصيبة". صرخ طفل في وسط الحلقة: "يا يوبه: العلقمي". وأشار إلى أحد رجال الأمير. التفت العلقمي غاضباً وضرب عصاه في الهواء فأزّت. قال رجل لم يتبيّن وجهه أحد: "أبرياء براءة الذيب من دم يوسف". صرح أحد رجال الأمير: "الكلام ممنوع". سأل محمد عيد بلسان مرتجف، الرجل الذي بجانبه عن ذنب الرجلين وماذا سيفعل بهما. هزّ الرجل كتفه، إنّه لا يعرف، ونظر إلى محمد عيد باستغراب.
الشمس تنتصب عمودية من السماء وكأنّها أسلاك من نار. رجال الأمير والشرطة يتحرّكون حركة عصبية عمياء. الرجلان يلتفتان إلى الجموع بعيون مذهولة، وبنظرات سريعة وكأنهما يبحثان عن أحد. ينظران، أحدهما إلى الآخر، نظرة فيها معنى الصبر والتأسّي، لعلّ شيئاً ما يقع في اللحظة الأخيرة. الشفاه يابسة. والحلوق مليئة بالمرارة والغبار. حركة الجموع ثقيلة آلية، والصمت يملأ الهواء.(1/191)
تقدّم رجل قصير ممتلئ، تخطّى سن الشباب، يبدو قوياً واثقاً، بل معادياً، أسمر أو أقرب إلى السواد. تقدّم بخطوات ثقيلة، لكنها صلبة، كان بثوبه الأبيض، وحزام الرصاص الذي يطوفّه من الكتف حتى أسفل الخصر، أشبه بالدجاجة السمينة. كان لا ينظر إلى شيء أو إلى أحد، وما عدا هزّات يده بالسيف، فقد كان خائفاً.
أجلس الرجلان على الأرض بشكل جديد. أجلسا كما لو أنهما يركعان وينويان السجود. أجلسا بصعوبة أول الأمر، أمّا حين شدّت أيديهم إلى أمام ثم ربطت بالأرجل، فقد كانا في حالة تشبه من يستغفر ربّه. قال الرجل المسنّ:
-اللي قالوا لكم يكذبون.. وأولاد حرام.
لم يجبه أحد. تابع:
-خلوني أشوف الأمير يا جماعة.
لم يجبه أحد، تابع بغضب:
-ودمي وخطيّتي برقبتكم اليوم وكل يوم.. وإلى يوم القيامة.
قال الشباب بنزق:
-إذا كان أميركم فيه خير، وإذا كان سلطانكم فيه خير خله يعرف اللي سواها.
قال الرجل المسنّ:
-حنا مظلومين، أولاد الحرام ظلمونا، ودمنا برقاب القريب والبعيد.
قال الشاب:
-والله لألعن أبو الأمير واللي حط أول حجر بحران.
قال الرجل المسنّ بغضب حزين:
-لا تخف يا حمد، دمنا ما يضيع، والدية رأس الكبير، دمنا برقاب اللي يشوفون واللي يسمعون... وتشوف.
وبطريقة فيها من المكر أكثر ممّا فيها من البراعة، غمز رئيس المفرزة الجلاد، وطلب من رجال الأمير، بحركات يده أكثر من الكلمات، أن يبتعدوا، وأن ينتبهوا، والجلاد، الذي كان ينتظر الإشارة، تحرك". (منيف، 197-200).
لأوّل مرة في حياته يشعر محمد عيد بالخوف والخزي والغضب بعد أن شاهد كل ما شاهد وسمع كل ما سمع من الجمهور والضحيتين ورئيس المفرزة الذي سارع بركوب سيارته وهو يرتجف قائلاً: "ابن هذال... يجي دوره" بمعنى أنَّ الحبل ما زال على الجرّار.
ويلخص الراوي الموقف بقوله:(1/192)
"ومن الكلمات القليلة عرف الناس أنَّ الرجلين اللذين قبض عليهما في اليوم الفائت، أبلغ عنهما أحد الرعاة، وقال إنهما كانا مسؤولين، مع آخرين، عن نسف خط الأنابيب، وخلال ساعات قليلة قرر ابن الشبلي أنَّ الرجلين يجب أن يقتلا، اعترفا أو لم يعترفا، لأنَّ ابن هذال نفسه سوف يخاف، وأنَّ رجاله سيخافون، ومن أجل الأمة والرعية، كما قال وأكّد، وكما طلب منه السلطان خزعل، لا فرق بين مذنب أو من يريد أن يكون مذنباً."(منيف، 202).
وينتهي المشهد بحوار بين محمد عيد، وسائقه، وهما خارجان من حران وقد خلّفا وراءهما المشهد المروّع الذي يغيب معه الصواب. وهنا يبدي الراوي مهارة فائقة في التقاط خلجات المشاعر الشفافة التي تخترق حدود الخوف والشكّ والريبة من كل شيء.
"في السهل المنبسط غير النهائي كانت السيارة تسابق الريح والرمال، وكان الهواء الساخن يلفح الوجوه ليصل إلى أصابع الأقدام، ثم يندفع مرّة أخرى لينثر ذرّات الغبار التي تشكل حاجزاً بين الأشياء كلها، وهذا الحاجز يجعل الرؤية والرغبة والفكر مختلطة إلى درجة أنَّ أي شيء يشبه أي شيء آخر. قال محمد عيد بطريقة فجّة:
ـ حلوة!
ردّ السائق بنفس الفجاجة:
ـ أي نعم حارة.
ـ أنت من حران؟
ـ لا.
ـ من أين؟
ـ من أرض الله الواسعة!
ـ صحيح من أين؟
ـ احزر.
ـ الشكل يقول إنك من السلطنة... أمَّا اللهجة...
ـ لو كنت من السلطنة لكان واحد غيري يسوق بك هالحين...
وبعد قليل وبحزن:
ـ لو كنت من السلطنة لخربت الدنيا.
وبعد فترة صمت سأله السائق من جديد:
ـ كنت بحران اليوم الظهر؟
ـ أي نعم.
ـ وشفت اللي صار!
ـ أي نعم ..
ـ ولا أي ابن كلب قال كلمة، ولا أي ابن كلب رفع رجل عن رجل، والمساكين راحوا بكيسهم. الله يرحم المساكين.
وبعد أن زفر أضاف:
ـ لو كان بحران رجال، لو هذا اللي صار صار بمكان ثاني لانقلبت الدنيا، لكن الناس مثل الغنم، يركضون ويصرخون وأخرتها يجي كم ابن حرام ويغفّون الأول والتالي.(1/193)
وعاد الصمت. الرمال والغبار وأشعة الشمس. قال السائق ليقطع الصمت:
ـ تروح عجرة أو أبعد منها؟
ـ أبعد.
ـ وين.. إنشاء الله؟
ـ لا أعرف!
التفت إليه باستغراب، تطلع إليه ثم هزَّ رأسه وقلب شفتيه، وعاد ليسأل من جديد:
ـ وليش ما تعرف؟
ـ لأنَّ الأرض كلها بعد اليوم خرا...... ومثل بعضها.
ـ تراك أنت مثلي؟
ـ كلنا مثل بعض يا ابن العم... وإذا كانت اليوم حران عقبة كلها راح تصير مثل حران. إلاَّ....
وداس السائق أكثر على دواسة البنزين... وخيم الصمت!"(منيف،
202-204).
صحيح أنَّ صبحي الملحمجي لم يواجه نفس النهاية، نهاية الضحيتين، لكنه واجه نهاية ليست مختلفة كثيراً عن هذه النهاية.(1/194)
فعندما وجد نفسه مجبراً على الإقامة الجبرية في قصره بأمر من الأمير فنز من خلال رسالة نقلها حامد فجأة عاش بعدها لحظات حرجة في حياته التي أصبحت أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. في تلك اللحظات عاش على وهم كان لابدَّ له أن يزوره وأن يقنع نفسه أنَّه هو الحقيقة، في كل لحظة كان يسوق لنفسه وهماً لابدَّ من التشبّث به من أجل المحافظة على البقاء على الأقل. وظلّت الأوهام تتراكم لديه إلى أن حسم الموقف بأمر لاحق من السلطان يطلب منه المغادرة فوراً ولم يفق إلى رشده إلاَّ عندما طلب من المضيفة في الطائرة التي تقلّه كوباً من الماء، ذاق فيه فعلاً طعم الكنز الحقيقي لأوّل مرّة في حياته، وهو الماء الذي وجد فيه أكسير الحياة، هذا كل ما تبقّي له في الحياة منها، وكأنَّه يفيق من أحلامه وأوهامه التي عاشها ردحاً من الزمن. ومن المفارقات الكبيرة أنَّه تمنّى لو أنَّ وداد بجانبه أثناء الأزمة ليستنير برأيها. وهذه أوّل مرّة يتمنّى مثل هذه الأمنية، وإنَّه لمن قبيل المفارقة الكبيرة أن تكون وداد في هذه الظروف القاسية بعيدة عنه، فكما عاش مختاراً بعيدا ًعنها طيلة هذه المدة، فإنَّه من قبيل الإنصاف ألاَّ تكون قريبة منه أثناء الأزمة، لكي يعرف بنفسه ومن خلال هذه التجربة المريرة معنى الحياة الأسرية ومغزى الزوجة الشريكة لـ"أم الأولاد"، كما كان يناديها، كأنَّ الراوي هنا يذكر صبحي المحملجي أنَّ الزوجة ليست شريكة في الضرّاء فقط بل في السرّاء أيضاً. وباختصار لابدَّ أنَّ صبحي الملحمجي ذاق طعم الموت أثناء الإقامة الجبرية الفجائية التي لم تكن في حسبانه، وكما دخل موران وحيداً بأحلام ورديّة خرج منها وحيداً بكوابيس سوداوية مخلّفاً وراءه القصور والكنز المادي.
****(1/195)
وعودة إلى تشابه صورة الأسرة في الروايتين. تقف وداد من زوجها بسبب تهالكه على الكنز المادي، موقفاً مشابهاً لموقف مسز جولد للسبب نفسه. فكل واحدة منهما تعبّر عن عدم الرضى عن الجفوة التي يتسبب بها الانشغال الكلي بالجري وراء المال ومشاريع جمعه، على حساب الجو الأسري، مما يجعل كلتا الزوجتين تعيش في عزلة عن زوجها. كلتا الزوجتين تقابل زوجها عند الحديث عن الموضوع بصمت تعتقد أنَّه الخيار الأوحد الذي بقي لها في هذا الأمر. هذا ما يجعل وداد الحايك وأميليا جولد يدركان الموقف كاملا ً بتلقائية صادقة وبتقدير واقعي للموضوع، فلا يبقى أمامهما إلاَّ الانسحاب إلى عالمهما الفردي الخاص على مضض محافظة على ما تبقَّى من الحياة الأسرية.
وفي بعض الأحيان نجد تشابهاً يصل حدّ الدقة في التفاصيل. هذا مثلاً ما يقوله الراوي عن مسز جولد:
"إنَّ ما وجدت مسز جولد نفسها محافظة به جعلها تشعر أنَّ حياتها محرومة من اللمسات الحميمة، من مشاعر العطف والمحبة التي تتطلبها رقَّة جسدها كما يتطلب جسد الإنسان الهواء كزاد يومي." (كونراد، 512).
"فإنَّ هذا الجسد الذي حاولت بكل طريقة أن تخضعه، أن تروّضه، مرّة بالرضا وأخرى بالغضب، كان يتمرّد عليها، يصرخ ويطالب، خاصة في أواخر الليل وعند الفجر، ويظلّ مستيقظاً متحفّزاً كأنَّه ينتظر بعد لحظات دقَّات يعزفها لكي ينتفض وينقض ولكي يعطي أيضاً."(منيف، 51).(1/196)
والأمثلة على التشابه، وتقاطع الموتيفات والثيمات في الروايتين كثيرة ولا داعي لعرض تفاصيلها."إذ إنَّ السؤال الذي يبرز هنا ونحن نعقد المقارنة بين عبد الرحمن منيف وجوزيف كونراد هو ما إذا كان الواقع الذي توافر لكونراد يمكن أن يتوافر لعبد الرحمن منيف حتى يتمكن من كتابة رواية مثل نوسترومو! بادئ ذي بدء أنا أعترف أنَّ عبد الرحمن منيف يمتلك قدرة الروائيين الكبار، وأنَّ مدن الملح وغيرها تشهد له على القدرة الروائية، بكل مافيها من "ملكة السرد" وتطويع اللغة إلى لغة روائية وضبط الحركات الداخلية للشخصيات، ورصد خلجات عواطفها وتفكيرها، وما إلى ذلك من مقوّمات الرواية الحديثة وتقنياتها.(1/197)
وليس المقصود في مقارنة خلفيّة رواية بخلفيّة رواية أخرى هو الانتقاص من قدرة كاتب أو رفعة آخر على حساب غيره، بل هو التنبّه إلى أنَّ الخلفيّة أو الواقع المعيّن الذي ينطلق منه الروائي له أثر كبير في استثمار مواهب الروائي، وفي النهاية تشكيل الرواية وفنّيتها، أي أنَّه لا يمكن لرواية عظيمة أن تكون أصلاً بدون واقع غنّي حضارياً يؤهّل الروائي أن يتحرّك بيسر بين حقبة تاريخية وأخرى، وأن ينظر عبر آفاق تبدّلت فيها أحوال البشر في مكان معيّن ونشب الصراع بأنواعه بين قيم الكنز الحقيقي، ومصالح الكنز المادي. فغياب الصراع من الواقع الذي تنبع منه الرواية يقزّم حجم الرواية ويحصر نشاطها في سرد الحوادث ووصفها، وهي تحدث في الزمن لا وهي تحفر في النفس البشرية أخدوداً تظل آثاره شاهدة على الدراما الإنسانية. إنَّ العواطف والأفكار في نوسترومو متشابكة متداخلة معقّدة متصارعة يتداخل فيها العام والخاص، ويتعانق فيها الماضي والحاضر، بل إنَّ الزمن بحدوده المعروفة لا يعود له قيمة من جرّاء ما ينتجه الصراع من تعقيد. لنأخذ على سبيل المثال تشارلز جولد وعلاقته بمنجم الفضّة. حارب جد جولد مع المحارب بوليفار الذي حرّر عدّة أقطار في أمريكا الجنوبية عام 1821. كان عمّه رئيس مقاطعة سولاكو وقُتل خلال حكم بنتو. قامت شركة إنجليزية باستثمار منجم الفضّة خلال حكم بنتو إلى أن أغلق المنجم أثر ثورة عماليّة بعد مقتل بنتو(1830). بعد ذلك انتقل امتياز المنجم إلى عائلة جولد. وفي هذه الأثناء. كتب والد تشارلز جولد إلى ابنه الذي كان في الرابعة عشرة من عمره في مدارس إنجلترا يقصّ عليه أخبار المنجم. وعندما بلغ تشارلز العشرين بدأ المنجم يداعب خياله، وبعد بضع سنوات تزوّج من أميليا جولد وقرّر العودة إلى كوستجوانا، في سولكو موطن المنجم، بعد سنة من زواجه وبعد غياب عشر سنوات عن المقاطعة.(1/198)
عاد تشارلز إلى المنجم الذي ورثه عن والده على الرغم من أنَّ والده طلب منه قبل وفاته ألاَّ يتابع مسيرة المنجم المشؤومة، بل وأن يبتعد عنه. كان تشارلز طموحاً وصمّم على أن يجعل المنجم ناجحاً على الرغم ممّا مُني به المنجم في عهد الحكومات المتعاقبة من نكسات وخسارة. أقام جولد وزوجته في نفس البيت الذي عاش فيه عاماً عندما كان صبياً يعيش في والديه في سولاكو. تعرّف إلى هولرويد المليونير الأمريكي الذي وافق على دعم المشروع بشروط قبلها تشارلز جولد على الرغم من مخاوف زوجته وتحفّظاتها، وهي التي تشهد الصفقة في بيتهم في سولاكو.
ليس تشارلز جولد تجسيماً للكنز المادي فقط، فهو على درجة عالية من الثقافة وليس المنجم مادة استهوته لجمعها فحسب، بل إنَّه وجد فيها رمزاً لشجونه العائلية التي تمتّد على مدى ثلاثة أجيال: جدّه المؤسّس، عمّه المغدور به، والده الذي شقي في إحياء المشروع دون جدوى، طفولته العزيزة وذكرياتها. كل هذه العوامل شحذت خياله وأصبح يواجه الحياة بتحدٍّ يتّفق مع سنّه في العشرينيات.
وليست مسز جولد مجرّد زوجة صابرة على مضض فحسب، بل إنها كانت تقامر على المغامرة، بسبب ما يربطها بزوجها من حبّ، وعلى ما لديه من مبادئ وقيم تعلّمها جيداً. كان زوجها قادراً على تبرير المصالح المادية وربطها بالمبادئ الأخلاقية. يوضّح لزوجته أنَّه يرفض أن يُسْلب (وهي إشارة غير مباشرة إلى ما حدث مع عائلته قبل توليه مهام الشركة)، ويتابع قوله أنَّ كوستجوانا بحاجة إلى القانون والإيمان الصادق والنظام والأمن.
"أمَّا بالنسبة لي فأنا أضع ثقتي في المصالح المادية، لأنها هي التي تكون الأرضيّة الصلبة لوجودي، بل واستمرارية تلك المبادئ. ويؤكّد لزوجته أنَّ عدالة أفضل لابُدَّ وأن تُتّبع من تحقيق المصالح المادية، "وهذه بارقة أمل" يقول مخاطباً زوجته."(كونراد، 84).
وفي موضع آخر يقول تشارلز جولد:(1/199)
"إنَّ ثورة إقليمية هي الحل الوحيد من أجل وضع المصالح المادية الضخمة في خدمة السلام والرفاهية في سولاكو بل إنها السلام الدائم الشامل."(كونراد، ص 379).
هذه الثنائية التي تتركّب منها كل من شخصية تشارلز جولد ومسز جولد، أيضاً هي التي تجعل صورة الشخصيتين إنجازاً فنياً مرموقاً ومصدر جذب للقارئ الذي يرى في الانقسام الداخلي في حياة الشخصية نمواً وتطوراً متجدّدين يجعل الشخصية تجدّد حياتها عندما تتعرّض لتجربة مختلفة، أي أنها تتفاعل مع ظرف التجربة بحساسيّة تأخذ وتعطي، وفي النهاية تثري شخصيتها وقيمتها الإنسانية وتبعث في القارئ شعوراً ورغبة في التأمّل.
من الأمثلة التي توضّح الانقسام الداخلي مسز جولد. فعلى الرغم من كلّ ما يربطها بزوجها من حب وتقدير لمبادئه فإنّها كانت تنظر إلى مشاريعه بريبة تجعلها أحياناً تهتزّ فزعاً. فهي لا تستطيع أن تفلسف الأمور أو تجد لها فكرة تبرّرها بحيث تصبح مقبولة عندها تماماً. أكثر ما يرعبها هو الفكرة الثابتة
(fixed idea) التي كان يتسلّح بها زوجها في خططه ومشاريعه المادية، إذ هي التي جعلته يقدّم المصالح المادية على المبادئ، وهي التي جعلته يقول لزوجته إنَّه لا عودة إلى الماضي، وهي التي جعلته يؤمن أنَّ لديه القدرة على إقناع هولرويد بدعم مشاريعه مادياً. هنالك فكرة مجرّدة في ذهنه لا يحيد عنها ويتّخذها قاعدة تنطلق منها قراراته. هذا ما يرعب مسز جولد:(1/200)
"كانت مسز جولد تراقب الفكرة هذه بفزع، وبدت لها أنَّها ظاهرة هدمت بيت الأسرة الذي يظلّلهما، أو كأنَّها عاصفة تحجب عنه الشمس، إذ تصوّرته يعوم في ظلام دامس وبرد قارس. هذه الفكرة جعلتها فكرة ثابتة مسكوناً بها طيلة الوقت، ومن يعش مسكوناً بفكرة ثابتة فهو فاقد لصوابه، ويشكل خطراً كبيراً، وإن كانت فكرته هذه عدالة، إذ يمكن أن يطيح بالسماء على رأس من يحبّ دون رحمة. لقد اغرورقت عينا مسز جولد بالدموع وهي تنظر إلى زوجها من زاوية جانبية، "ماذا كنت سأفعل لو أنَّ تشارلي غرق ونحن خطيبين؟"، صيحة أطلقتها وأفكارها ملأى بالرعب، تجمّد قلبها بين ضلوعها، وكانت وجنتاها تلتهبان وكأنَّ لهيباً أشعله نعش الجنازة ليلتهِمَ كلَّ عواطفها في هذه الدنيا. فانفجرت بالبكاء."(كونراد، 379).
ومقارنة مع مسز جولد وتشارلز، نجد صورة وداد وزوجها أحادية، أو مسطّحة، بتعريف فورستر للشخصية التي لا تملك من الحياة إلاَّ منحى واحداً يجعلها تظهر به وتحتفظ به طيلة حياتها. من البداية إلى النهاية صبحي الملحمجي شخص لا هدف له إلاَّ جمع المال والتخطيط له، وقد وصل إلى السلطان خزعل بألاعيبه، والغاية عنده تبرّر الوسيلة، حتى لبس الزيّ العربي ماهو إلاَّ وسيلة إلى الوصول. وفعلاً وصل ودخل قلب السلطان ومقرّه، وأوهمه أنَّه فاعل كلّ شيء يريده السلطان. لا يوجد لدى صبحي الملحمجي أيّ مثل تتعارض مع مصالحه المادية. المسألة بالنسبة له محلولة ولا حوار، ولا صراع داخل نفسه من أجل أن يبرّر ما يقوم به حتى تتحقّق غاياته.
كل مايمكن عمله من أجل إرضاء السلطان يقوم به دون تردّد، المهم أن يصل إلى السلطة التي تخوّله تنفيذ مآربه المادية، وقد ترك مهنته جانباً، وباشر في تقديم نفسه إلى السلطان كمنفّذ لمشاريع مادية ترقى بموران وبالسلطان مادياً. لا يهمّه أن رضيت وداد أم غضبت، إنْ تعذّبت أو استفادت من مشاريعه التي لاتقف عند حد.(1/201)
أمَّا وداد فتثأر لنفسها ولجسدها، وتحقّق رغبتها في الحياة التي حرمها منها والدها في البداية ثمّ زوجها في النهاية. تحرّر جسدها في علاقتها مع حامد ولكنها لا تحرّر نفسها، إذ إنها تواصل حياتها كزوجة، بل وأكثر من ذلك، إنَّها توافق على زواج ابنتها سلمى من السلطان وتصبح جزءاً من آلية الحياة التي يسير فيها زوجها. توافق على زواج ابنتها من السلطان مثل ما قبلت الزواج من صبحي دون حبّ وترضى من الغنيمة بالكنز المادي الذي يجهّزه السلطان، بل ويبالغ في تجهيزه أمام الملأ. وتتحوّل إلى أداة تنفيذ للآلية التي يقبلها زوجها ويريدها السلطان، وتسافر مع ابنتها التي يتزوجها السلطان خريبط في شهر العسل تاركة زوجها صبحي وراءها يتلقَّى جزاءه بنفسه.
في البداية يصوّر لنا الراوي شخصية وداد من خلال مفارقة جميلة كان بإمكانه أن يطوّرها ويجعلها مدام بوفاري على الأقل، لكنّه آثر أن يلتزم بواقع هزيل نشأت منه وداد، وهو أنَّها نشأت في بيئة تؤمن بستر الحال، فعاشت حياتها هكذا لا تؤمن بغير الستر حتى لو بدا أنَّ لديها إمكانية في التحرّر من مجرّد الستر. وإلاَّ لماذا ترضى لابنتها بزواج شبيه بزواجها ولا يختلف عن الستر المألوف إلاَّ أنَّه ستر بورجوازي يتميّز ببذخ السلطان، ولكنه في النهاية ستر. من هنا نرى أنَّ وداد لم تتطوّر كشخصية مع أنَّ الراوي لمح فيها إمكانية لتطوّر في تلبية رغبات جسدها مع رجل آخر. لكنها في النهاية ترجع إلى قواعدها وتلتزم بالاستمرار في آلية الحياة الخارجة عن رغبتها في مخالفتها. في النهاية تسير وداد وزوجها في آلية واحدة تقريبا. ولا تبدي معارضة تستحق الذكر. يسيّر صبحي الملحمجي زوجته وداد في نفس آلية الكنز المادي.(1/202)
هناك تشابه كبير بين واقع مسز جولد وواقع وداد، ولكن الاختلاف الأكثر ينشأ من موقف كل منهما من هذا الواقع. مسز جولد تجد الواقع الذي يحيط بها نافذة تطلّ على الإنسانية وأسرارها وآفاقها الرحبة. تتأمّل المفارقة التي تصطاد بني الإنسان. تفكّر مليّاً في مصير البشرية نتيجة إحساسها بآلام البشر وبالرغم من كلّ ما يسبّبه انشغال زوجها بالكنز المادي، فإنَّها لا تنسى قيمة الكنز الحقيقي، بل على العكس، فإنَّ الكنز الحقيقي يتبدّى لها أعظم قيمة من الكنز المادي، إذ ترى فيه العزاء والملاذ الأخير الذي ينقذها من مظاهر الموت التي تتصوّرها دائماً مرتبطة بالكنز المادي. وأكبر دليل على هذا أنَّها تفكّر دائماً في الفقراء والمساكين وفي آنطونيا العاشقة الحزينة، المعشوقة البريئة، في ابنتي فيولا اللتين تقعان ضحية الكنز المادي ولا ذنب لهما في الحياة إلاَّّ وجودهما في نطاق هذا الكنز أو علاقتهما بعملية نوسترومو. تفكّر في جرحى الثورة، في عمّال المناجم، أكثر من ذلك أنَّها تفكّر في آلام غيرها دون أن يفكر بها أحد حتى زوجها. هذه هي المفارقة الكبرى.
عندما يبدأ استخراج الفضّة من المنجم تملأ قبضتها بحفنة من تراب المعدن معبّرة عن شعورها بالقول: "ها هنا ينبثق مبدأ" ـ “ The emergence of a principle ” وعندما تمر ّعربات الفضّة من أمام بيتها تقف في الشرفة مستطلعة مرورها. إشارتها إلى ظهور الفضّة وظهور المبدأ إشارة غاية في التكثيف والإيماء. ولا يمكن حصرها في تأويل معين. هل تقصد أنَّ مبدأ زوجها قد أصبح حقيقة مع استخراج الفضّة، وأنَّ الارتباط العضوي بين الاثنين قد أصبح حقيقة ـ وفي هذه الحالة ـ تكون عبارتها، وكأنها أصبحت شاهدة على تحقيق آمال زوجها، ويمكن أن تكون مسز جولد ساخرة كأن تغني أنَّ المبدأ يساوي اكتشاف الفضّة، أو أنَّه يظهر بظهورها، وفي هذه الحالة، تزول الفروق بين المادة والمبدأ من حيث القيمة على الأقل!...(1/203)
ليت الواقع يساعد عبد الرحمن منيف في أن يستنطق وداد بعبارة واحدة مشابهة من العبارات التي يجعلها كونراد تنساب بعفوية معبّرة عن مسز جولد، أن يجعل وداد تقف مراقبة لحركة الكنز المادي ليوحي إلينا أنَّ وداد تقف من الكنز المادي متفرجة، هل يمكن لصبحي الملحمجي مثلاً أن ينسج في خياله حبل مشنقة من العزلة التي أحاطت به فجأة في قصره دون علمه كما يصور ديكود العزلة من حوله، حبلاً يقوى ويشتدّ ليكون جاهزاً لوضع حدّ لحياة ديكود؟ أم هل يمكن أن يفكّر صبحي بالانتحار مثل نوسترومو عندما وجد نفسه لا يعني شيئاً لأحد بعد أن كان محطّ الأنظار عند المواطنين والحكّام؟ لا يمكن أن يصل الإحساس والحساسيّة عند صبحي إلى درجة يجعله يسمو فوق الظرف القاتل. يغادر صبحي القصر بأمر من الأمير بجبن ومذلّة ومهانة، وكأنَّ نهايته استمرارية لصغار عاشه طيلة حياته.
شخصيات عبد الرحمن منيف شحصيات هزيلة في أصلها ليس لها جذور، تعيش في مدن أساسها أصلاً قابل للذوبان، فهي غير نامية، غير سامية، تخدع وتخادع، ليس لها قضية، أداة تستخدمها سلطة تسلّطت على المال والممتلكات، عاشت هذه الشخصيات كطفيليات في كنف السلطان تقتات على ما تسلب منه ولا تؤسس علاقات إنسانية حتى مع المواطنين الذين ينتمون إلى القشرة الصلبة.(1/204)
ومن الواضح أنّ عبد الرحمن منيف نفسه لديه قضية، ولا ينكر أحد أنَّه يعي الواقع خير وعي، ولكن أمانته مع نفسه، ومع واقعه تجعله يلتزم بالكشف عن هذا الواقع الذي يعرفه سلفاً دون أن يكون في هذه الحالة مفتعلاً، إذ إنَّه يكون بطبيعة الحال غير نابع أو مستمر أو نام من واقع له أساس. لهذا نجد السرد هو ما يغلب على رواية عبد الرحمن منيف. فهو الراوي الذي يعرف الكثير والذي يروي ليخبرنا بما يعرف. في هذه الحالة تكون وجهة النظر أقل تنوّعاً وتشعّباً لعدم وجود مجال لحوار مطوّل. فالمواجهة غير واردة، على الأقل، لعدم وجود تكافؤ بين الشخصيات وعدم توافر فرص المساواة بين الأطراف. إذ كان صبحي لا يستطيع أن يناقش زوجته أو يناقش السلطان في أمر زواج ابنته، فكيف يمكن أن نتصوّر حواراً حقيقياً يمكن أن يحصل في أي مجال آخر؟...
****
إذا كان أي موضوع وأي واقع وأيُّ ثيمة كافية كهدف مقصود عند كتابة الرواية على حدّ قول فيرجينيا، فإنَّ عبد الرحمن منيف في حِلٍّ من هذا العرض الذي يقدّم هنا. أمَّا إذا كانت الرواية كتاب الحياة (Book of Life) كما يقول لورانس، أو أنَّها جنس أدبي خارج حدود الواقع المعيش، ممّا يجعلها متحدّية لأطر التقنية في الأجناس الأدبية الأخرى، كما يقول ريموند وليمز، فهنالك وقفة عند كلّ هذا الالتزام بتصوير الواقع البشع الذي تلتزم به رواية عبد الرحمن منيف جملةً وتفصيلاً، لنرى ماله وما عليه.(1/205)
لا أحد ينكّر أنَّ مدن الملح واقع مرير شرّير من الطبيعي أن تثير بشاعته حمّية الكاتب الصادق الصدوق، وأكثر من ذلك فمن الطبيعي أن تغلق هذه البشاعة وحدّتها الأبواب في وجه منظور آخر جديد. والواقع العربي لا يختلف كثيراً عن واقع مدن الملح، على الأقل في نوعيته. ولكن السؤال الأزلي الذي يطرح نفسه بالنسبة للروائي بشكل عام، هو: هل على الروائي أن يخترق حواجز الواقع المنيعة (التي تصدّ عادة كل مخترق)، إلى واقع صامت تفعله نظرة الروائي الثاقبة، وتخرجه من بين الأنقاض ليكون أملاً مستقبلياً يجسّمه بخياله ويجعلنا نحسّ به رغم أنَّه غير موجود واقعياً، على أمل أن ينطلق واقعاً محسوساً مستقبلاً؟.. لقد قام كبار الكّتاب من روائيين وشعراء بالنفاذ إلى واقع كئيب بمنظور فيه الرؤية المستقبلية من دوستوفسكي إلى إليوت الذي رأى في واقع الأرض الخراب خرابات لملمها لتكون موازية لبناء جديد يظهر من بين الأنقاض التي صوّرها أعمق تصوير وجعلها تحرّك أعماقنا، ولكن دون أن تستبدّ صورتها الواقعية بنا حتى النهاية. ثمَّ ماذا فعل إميل حبيبي؟ أليس الواقع الذي انطلق منه لا يقل في نوعية بشاعته عن بشاعة مدن الملح؟ سعيد أبي النحس المتشائل مثلاً لا يقلّ بشاعة في واقعه عن واقع مدن الملح، غير أنَّ إميل حبيبي استطاع أن يرى في ثنايا هذا الواقع بوارق الأمل ينفذ من خلالها إلى قوى صامتة، صابرة متأجّجة بالحياة، على الرغم من كل قوى القمع والطغيان، يراها إميل حبيبي تتسلّل من خلال الواقع الوحشي، لتنطق بشهادة البقاء المتحدّي. ومن الواضح أنَّ إميل حبيبي استطاع أن يخلق شخصيات واقعية من واقع أسطوري في بشاعته، وستظلّ شخصية سعيد أبي النحس المتشائل، ويعاد في غيرها ماثلة في وعي القارئ.(1/206)
هذه "حكاية الثريا التي رجعت تسفّ الثرى"، التي تكوّن الجزء التاسع من سعيد أبي النحس المشتائل، ترينا كيف يمكن للراوي أن يرصد نبضات الواقع ويقرأ فيها ما يخفى حتى على من يمارس الواقع ويعيشه كل لحظة".
"وبعد عشرين عاماً، لمّا قرأت عن كنز العجوز اللداوية ثريا عبد القادر مقبول، كيف أضاعته لسلامة طويتها، أي لسذاجتها، أيقنت أنني أحسنت صنعاً لمّا لم أبقِ عنصراً من عناصر الخطر والفجاءة إلاَّ حسبت حسابه، واحتطّت له حيطة شديدة، حتى بقي سري دفيناً ما كشفت عنه إلاَّ الآن، ولك يا محترم.
ففي العاشر من أيلول، من العام الخامس (ب.ح)(1)، الموافق عام 1971م روت صحيفتكم الاتحاد، عن معاريف، عن هآرتس، عن الشرطة الإسرائيلية العامة، عن شرطة اللد الإسرائيلية، أنَّ السيدة العجوز ثريا عبد القادر مقبول، السن خمسة وسبعون عاماً، عادت من الأردن إلى بلدها ومسقط رأسها، مدينة اللد، بموجب نظام العطلة الصيفية عبر الجسور المفتوحة، وذلك بعد أن ظلّت بعيدة عن بلدها ثلاثة وعشرين عاماً لاجئة في عمّان مع زوجها وأولادها.
عاشت في عمّان مع زوجها وطفلها وأبي عمرة(2) الذي رحمها ولم تنجب منه أطفالاً. حتى شبّ ولداها، فسعيا إلى الكويت في طلب الرزق. فعادا بحفنة نفط أحمر شيدا بها بيتاً في عمّان شيعا منه والدهما إلى مقرّه الأخير. ثمَّ أقبل أيلول عام 1970، فلم يخرج من تحت الأنقاض سالماً سوى الثريا وطويتها السليمة.
فلمّا وقفت ثريا عبد القادر مقبول بين الأنقاض في صحراء الغربة القاحلة، تذكّرت عزّها الدارس في فردوسها المفقود، في بيتها العامر في اللد. وكانت خبأت مفتاحه في نقرة في الجدار. وكانت جمعت مصوغاتها في صفائح دفنتها في ذلك الجدار. وكانت توكّلت ونزحت مع النازحين عام 1948، وهي تؤكّد لنفسها: إذا أعود.
__________
(1) ب.ح ـ بعد حرب حزيران.
(2) أبو عمرة ـ كنية الجوع.(1/207)
فلمّا أقبل هذا الغد، بعد ثلاثة وعشرين عاماً، أزمعت أمرها، وفي الصيف عبرت الجسر المفتوح. فضيّعت اللبن.
ولمّا أرادت أن تدخل بيتها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية، من عهد نوح، الباب في وجهها. فلم تفاجأ حيث إنَّ ظلم ذوي القربى أشدَّ مضاضة.
فنصحها ذوو القربى، المقيمون في إسرائيل، أن تلتجئ إلى قبضة الأمن وعسس النظام، أي إلى الشرطة الإسرائيلية، فعملت بالنصيحة. فأرسلوا معها رجل شرطة ورجلاً قيّماً على أراضي إسرائيل. فلم يشاؤوا أن يقلقوا راحة الوريثة الشرعية، فأتوا منزل العجوز من خلف جداره، في منزل يقيم فيه ذوو قربى. فأحسنوا وفادتها. فأشارت إلى مكان في الجدار، فحفروا عميقاً. فوجدوا صفائح المصوغات. ثمّ أشارت إلى مكان آخر. فحفروا، فوجدوا المفتاح. فهلّلوا وكبّروا. واغرورقت عيون الجمع. ومسح الشرطي دموع رجل القيّم بمنديله. فقوّم القّيم إنسانية رجل الشرطة تقويماً عالياً، فمسح دموعه بمنديله. وتعانق العرب واليهود. وتعايشا بدموع الفرحة والامتنان والإنسانية. فأبلغوا رجال الصحف. فنشروا الخبر. وأذاعته الإذاعة. وكم من معلمة في روضة أطفال، في تلك الأيام المشهودة، روت هذه الحكاية على أطفال الروضة، عن شرطة إسرائيل التي تبحث عن كنوز الأمّهات الثكالى العربيات، وتبحث عن الأطفال اليهود الضائعين، ولا يغمض لها جفن...
ولكن، حين مدّت الأم الثكلى، الثريا، يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيّم على أراضي إسرائيل "شهادة بالذهب". وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة لتسفّ الثرى في مخيم الوحدات، ولتدعو بطول البقاء لذوي القربى ولأولاد عمّهم.
أمّا أنا فقد علّمتني التجارب ألاّ أحسن النيّة، وأن أبقى الطويّة مطوّية، علماً بأنّ بطاقة اتحاد عمّال فلسطين لا تنفعني إلاَّ حين لا أنفع غيري، أو أن يعود النفع على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، الذي لا ينفع أحداً.(1/208)
فلمّا نقلت متاعي من بيت إلى بيت أصلح للزوجيّة، من وادي النسناس في حيفا الذي لا يصلح لعشار البهائم، إلى شارع الجبل، ودفعت ثمن المفتاحية، أو خلو الرجل، حتى لم يبقَ معي ما استأجر به دّابة لنقل متاعي، فنقلتها راجلاً، إذاً بسيارة تقف فجأة أمامي، فينزل منها تأبّط شرّاً. فيستلّ من تحت إبطه قلماً وورقة ويقول:
ـ نحن (وهو وحده!) من الحارس على أملاك العدو.
فاستللت بطاقة اتحاد عمّال فلسطين من جيب المؤخّرة، وهتف:
نحن معكم!
قال: لا، لا. أريد شهادة تثبت أنَّ هذا المتاع هو متاعك، ولم تسرقه.
فأسقط في يدي. فأعدت البطاقة إلى جيب المؤخّرة. فأسقط في المؤخّرة:
متى حفظ الناس شهادات تثبت أنَّ متاع بيتهم هو متاع بيتهم، ولم يسرقوه؟.. فخفت على بنطلوني.
قال: لا، لا. هذا متاع بيت عربي.
وكان هذا القول قولاً صحيحاً.
فقال: فقد أصبح ملك الدولة.
قلت: كلّنا ملكها.
فلم ينج متاعي من ملك الدولة حتى استدعينا يعقوباً فأقنعه بأنني، أنا أيضاً، ملك الدولة. فحملت المتاع إلى بيتي الجديد، وأنا غير مقتنع بأنَّ الحارس كفَّ شرّه عنّي. فكنتُ كلما عسكر ليل، فطرق طارق بابي، أقوم مذعوراً وأنا أهجس بجاء ليضع اليد على متاعي.
فلمّا أشركتني شريكة حياتي، باقية الطنطورية، بسر كنزها، فأصبح سرّي الدفين، صار طرق ابن الجيران على الباب، ليدعونا إلى زفاف أخته، يلقينا من الفراش على أقدامنا مذعورين ونحن نتهامس: لقد علموا!!".(حبيبي،
136-138).
الرواية كنز حقيقي لا يعرف سرّه كاملاً غير الراوي، تماماً مثل سرّ كنز سعيد لا يعرف مفاتيحه غير الراوي، وربّما يسلّم الراوي هذا الكنز إلى شخصية أو أخرى في الرواية ولكن دون أن يكون الأمر مشروطاً بتسليم سر الكنز أو مفاتيحه. في نوسترومو "نظر [ديكود] إلى الكون من حوله ووجده صوراً متتابعة مبهمة.". (كونراد،498).(1/209)
حكاية الثريا عند إميل حبيبي تذكّرنا على الفور بموقع أم حسني عند عبد الرحمن منيف، وهي في اعتقادي من أجمل صور الشخصيات في الرواية وتعدّ واحدة في صحراء الواقع الشاسعة، فيها من الإيحاء المكثّف ما يمكّن القارئ من تأويل الرواية بأكملها من خلال تجارتها في الحياة بقجة متواضعة هي بمثابة بوليصة التأمين الوحيدة التي ترضى بها في هذه الدنيا وهي كبقية الخلق في الرواية لابدّ أن تبحث عن وسيلة تحميها من حياة الموت في مدن البحر الميت. هجرتها من الشام إلى مدن الملح أشبه بهجرة معاكسة للطيور ولموسم الهجرة، أو هي أشبه بخروج السمك من الماء، تنظر إلى بقجتها كصخرة النجاة من الموت. مثل هذا الشعور يغيب عن بال أبنائها وزوجاتهم وهم يحاولون إثناء أم حسني عن مثل هذه التجارة التي تسبّب لهم جميعاً حرجاً عند كبار القوم الذين يتعاملون معهم.
ولكن لابدّ لوقود قارب النجاة أن ينفد مع الزمن. وعند نفاد الوقود تموت أم حسني، وإنَّه من البراعة بمكان أن يجعلها الراوي تموت بدون مرض حقيقي. تبلغ الصورة ذروتها عندما تشير أم حسني إلى أنَّ حياتها في الغربة هي أساس العلّة.
"وفي الظهرية والمساء حاول سعيد أن يخفّف عنها، أن يقنعها أنَّ حالتها بسيطة، ولا بدّ أن تشفى خلال أيام، وبعد أن تشفى يمكن أن يستجيب لها وتسافر، ومن أجل أن تشفى لابُدَّ أن يأتيها بطبيب، وهي ترفض، تزداد إصراراً أنَّ دواءها هناك، وأنها حالما تصل تستعيد صحّتها، أمّا إذا استلمها الأطباء هنا، كالملحمجي وأمثاله، وبدأت إبرهم تثقب جنبيها، فإنَّ ذلك سيعجّل بموتها، ولا تريد أن تموت هنا.
ولكي تقنعه أنها ليست بحاجة إلى أطبّاء أو إلى أدويتهم، توافق على أن تصنع لها أديبة مشروباً من زهورات متنوعة تصفها لها، وبعد أن تشربه تتظاهر بالنشاط، بأنها استعادت قوّتها، وتنظر إلى عيني سعيد:
ـ يا بني، برضاي عليك، سفرني، خليني أرجع لبلدي وأهلي..
ـ يا حجة.. نحن أهلك، ونحن بلدك.(1/210)
ـ كنتم أهلي، يا ابني، اليوم ما عاد لي أهل.
وتسقط على خدّها دمعة، لا تخجل منها، وتريد الكل أن يراها، وتتابع كأنها تخاطب نفسها:
ـ واللي ما عنده بلد ما له بلد.
ـ وكلي الله يا حجة، وبلا هذا الكلام.
وتزفر بحرقة وتهزّ رأسها:
ـ ماعاد في فائدة من الحكي، يا ابني، لأني بزماني حكيت كثير وما أحد سمعني!
ـ إذا كان قصدك حسني وزعله وتركه للبيت فهذه المسألة بسيطة، رغم أنَّ الحق عليه، لك عليّ أن أبوس رأسه وأرضيه، ونظل، بوجودك، إخوان وحبايب، المهم أن تخلّي المرض وراء ظهرك.
وتهز العجوز رأسها دلالة أنَّ هذا ليس كل شيء. وحين تغرق الغرفة في الصمت، ويعجز سعيد عن خلق المرح الذي تعوّد أن يخلقه دائماً، يأتي صوتها ضعيفاً منهكاً:
ـ وصلوني لبلدي وما عليكم مني...
ـ على العين والراس، يا حجة، يا أمي.
ـ نسافر بكرة؟...
ـ نسافر بس تكون قادرة على السفر!". (منيف، 346-347).
أمّا لقطة البقجة التي تتبع هذا المشهد، فهي لقطة تشيكوفية رائعة لا يقدر عليها إلاَّ من استوعب ا لواقع بحذافيره. كيف أنَّ بهجة الحياة سرقت منها بسبب هجرتها ولم يبقَ لها من عزاء إلاَّ البقجة كفنت حياتها وهي ما زالت على قيد الحياة مع أنَّها أنبل من الأحياء من حولها الذين ينزعون عن أنفسهم كفن الموت ليصروا على أنهم أحياء. هنا يرينا عبد الرحمن منيف البؤس بعينه دون حاجة إلى البحث عن أسبابه ومسبّباته:
ـ البقجة؟
ـ فيها، يا بنتي، ما حضرّته لآخرتي.
وظلّت عينا أديبة تنظران بحزن وتساؤل، تابعت أم حسني:
ـ فيها، يابنتي كفني!(1/211)
وفي فجر اليوم التالي، لحظة انقشاع الظلمة وبداية أول النهار، وبعد ساعة من وصول طبيب من المستشفى الأهلي، وقد انتدبه الدكتور صبحي الملحمجي، لكي يقوم بمعالجة أم حسني بعد أن اعتذر هو عن القيام بهذه المهمّة بنفسه، لأنَّه: "اعتزل المعالجة العامة" كما قال لسعيد، الذي وصله بعد منتصف الليل بقليل، في تلك اللحظة بين آخر الظلمة وأول النهار، وحينما كان سعيد يجوب موران من أقصاها إلى أقصاها بحثاً عن صيدلية لشراء الدواء، فاضت روح أم حسني!
قالت أديبة لسائق القصر الذي جاء بعد ثلاثة أيام، مبعوثاً من الشيخة، يسأل عن أم حسني، قالت له من وراء الباب الموارب أنها غير موجودة. وحين سألها متى تعود أو متى يعود هو، لأنَّ الشيخة تريدها لأمر مستعجل، ردّت أديبة:
ـ قل للشيخة أنها راحت.
ـ ومتى ترجع؟
ـ لن ترجع!
ـ سافرت؟
ـ أعطتك عمرها!
ـ شنهو؟
ـ ماتت
ـ ماتت؟
ـ أي نعم، ماتت.
ـ الله يرحمها ويرحمنا.
قال سعيد لزوجته بعد أسبوعين على الوفاة:
ـ دائماً... عيني كانت على البقجة، كنت خايفة من كبرها، كنت متصورها من جملة التجارة... وأبداً ما تصوّرت أنها كفن!"...(منيف،
350-51).
مع أنَّه لا يحقّ للقارئ أن يطالب الكاتب بما لم يكتب، إلاَّ أنَّ القارئ يتمنّى وهو يقرأ صورة أم حسني لو أنَّ عبد الرحمن منيف بحث عن مثل هذه الشخصية بدل شخصيات الطمع والجشع وعدم الإحساس التي تتوجّه إلى موران وحران وكأنّها آلات صماء تستجدي الرزق بطريقة لا نبل فيها مستجيبة لما يطلبه منها الطرف الآخر الذي هو أيضاً لا نبل لديه في المعاملة.
****
لو سئل القارئ عن بطل مدن الملح أو عن الشخصية أو الشخصيات الرئيسية لأجاب أنَّ البطل هو الخسّة أو الصعلكة أو سمّها ما شئت من المسمّيات التي تهبط جميعها بمستوى الإنسانية ونبلها.(1/212)
بعد أن فرغت من كتابة هذا العرض المتواضع سألت إحسان عبّاس ما إذا كان يوافق معي على أنَّ عبد الرحمن منيف لا ينصف موهبته الفنية، وهو يصوّر واقعاً هالكاً (والصفة محبّبة عند إحسان عبّاس) لينتهي بواقعية مماثلة!.. فأجاب أنَّ عبد الرحمن منيف ضحية التاريخ، وقد راقت لي هذه الملاحظة خصوصاً وأنَّه أتبعها أنَّ جهد عبد الرحمن منيف مهما بلغ في تصوير الواقع فلن يتّسع فنّه أو واقعيته إلى استيعاب جزء من البشاعة المعروفة والمعهودة، فلماذا كل هذا التعب!.. وملاحظة إحسان عبّاس هنا تفضي إلى أفق أوسع وهو أنَّ الكاتب مثل الفرد في هذا المجتمع يقع ضحية. علّق المرحوم بكر عبّاس الذي كان يستمع إلى النقاش بيننا أنَّ عبد الرحمن منيف ذكر له أنَّه كان يخشى أن يضيع التاريخ دون كتابة وأنَّه سجّل ما لا يجرؤ على تسجيله الآخرون. هل نتذكّر في هذا السياق ما ذكره الروائي فورستر عن المؤرّخ الذي يقدّم لنا سجلاً لا يمكن التصرّف به لأنّه حدث في زمان معين ومكان معين لا نستطيع تغييرهما. أمَّا الروائي فهو يخلق صورة يطوّعها خياله لتشكّل صورة متحرّرة من بعدي الزمان والمكان على الأقل. لا يعني هذا أنَّ التاريخ والرواية أمران منفصلان. من المعروف أنَّ التاريخ كان على الدوام مصدراً هاماً للرواية وملهماً للراوي. من الواضح أنَّ تحفة كونراد الخالدة مبنيّة على تاريخ أمريكا اللاتينية وتاريخ أوروبا وأمريكا والعلاقات التاريخية المتداخلة بين الأمريكيتين من جهة، وأوروبا من جهة أخرى. نقرأ نوسترومو ولا نشعر أننا نقرأ تاريخاً في حقبة معيّنة من الزمن، بل إنّنا نرى أمامنا صوراً إنسانية تتحرّك بيسر عبر اللازمن.(1/213)
حتى الجغرافيا التي تقدّمها نوسترومو في صور رائعة تذكر بمناطق جغرافية معينة في أمريكا اللاتينية دون أن تكون فوتوغرافية، تذكر ولا تطابق، توحي ولا تشابه، وهكذا... ومن اللقطات الرائعة في نوسترومو لوحة الأخدود التي رسمتها مسز جولد والمعلقة على الجدار في بيتهم الذي كان يشهد جزءاً كبيراً من دراما الرواية، خصوصاً ما يخصّ الصراع الذي تتصدّر فيه مسز جولد الدور الرئيسي. تشكّل هذه اللوحة موتيفا رائعاً في الرواية، إذ تصبح أشبه بملاذ يلوذ إليه الزوجان كلما اشتدّت حدّة الأزمة، وتعمّق الصراع بين الولاء للمثل والقيم من جهة، والمصالحة مع المصالح المادية من جهة أخرى. رسمت مسز جولد هذه اللوحة عندما كان الماء ينساب من الأخدود محدثاً الخرير الجميل الذي استعاد مستر جولد ذكراه أيام الصبا وهو يعيش في رعاية والديه في سولاكو. تبدّل إنسياب الماء بانسياب الفضّة. وخرير الماء بصوت المعدن. وتبسط مسز جولد نظرها إلى اللوحة كلما أضناها ليل الظلمات مستنجدة بالكنز الحقيقي ليطل عليها من على حائط البيت.
وبالمقارنة يحسّ القارئ وهو يقرأ مدن الملح أنَّ عبد الرحمن منيف يجهد في جمع التفاصيل وسردها بقدرة سردية فائقة وكأنَّه يتحدث إليك (وعبد الرحمن منيف كما نعلم متحدّث بارع)، ويقول سأجعلك تعرف أولئك السلاطنة بأسمائهم الحقيقية بالرغم من أنهم معروفون عند الملأ ونحن معشر القراء العرب، على الأقل، نعرف من هو خريبط، ومن هو خزعل ومن هو فنز، من الجملة أو الفقرة الأولى، وكأنَّ عبد الرحمن منيف ينحى منحى الروائي التقليدي الذي يؤمن أنَّ التفاصيل تزيد المعرفة وتشيد الواقعية على أرض صلبة.
ونحن نعلم أنَّ الواقعية التقليدية كانت في يوم من الأيام حشد التفاصيل الوصفية في الحياة اليومية إلى أن تطوّرت إلى الكشف عن الواقع المدهش
((1/214)
Strtling) وخصوصاً في حياة الطبقة البرجوازية، وواقعية عبد الرحمن منيف هنا هي أقرب إلى مثل هذه الواقعية التي تُعَدُّ سلسلة في حلقة تطوّر الواقعية في الرواية.
في نهاية مقالته عن "الواقعية والرواية المعاصرة"، يقول وليمز: "إنَّ واقعية جديدة لابدَّ أن تكون ضرورية من أجل المحافظة على الإبداع، (وليمز،(1/215)
289)، وهذا يعني أنَّ الروائي عليه أن يكتشف واقعية جديدة في الواقع المعيش. ويعني وليمز بهذا أنَّه في حالة غياب واقع إيجابي يعبّر عن واقعية جديدة، فإنَّه لابدَّ من أن يجد الروائي واقعية جديدة تعبّر عن واقع يكمن في الخفاء، يمكن أن يكون هو الواقع الفعلي نتيجة التعبير عنه بواقعية جديدة. أي أنَّ الروائي أو الفنّان هنا هو الذي يتبنّى خلق واقع جديد من خلال واقعية يتخيّلها أو يتصوّرها. ويجب ملاحظة أمر التتابع هنا بالنسبة للواقعية والواقع، أي أنَّ الروائي أو الفنّان يمكنه خلق الواقعية أولاً تمهيداً لتوفير واقع منشود في سياق هذه الملاحظة الثاقبة حول الواقع والواقعية وجدليتهما لريموند وليمز يمكننا أن نقول إنَّ عبد الرحمن منيف حاد بمنظوره الفني الخاص عن خلق منظور يشابه منظور كونراد الذي نظر إلى هولرويد على أنَّه حاضر أمريكا ومستقبلها في العالم كقوة اقتصادية وبوليسية تهيمن على العالم بأكمله، وكأنَّه نظام عالمي لا ينازعه في جبروته أحد، إذ أنَّه أشبه بقدر يتحكّم في مصير العباد. ما لاحظه كونراد من خلال شخصية هولرويد عام 1904 فيه نبوءة خالدة ثبتت وما زال يثبت صحّتها الزمن. وبالرغم من أنَّه من غير الإنصاف أن يحاسب الروائي على نقص في الكتابة، كان عليه ألاَّ ينقصه من حسابه، أو من منظوره، إلاَّ أنَّنا لا نملك إلاَّ أن نقول إنَّه كان بإمكان عبد الرحمن منيف أن يتخطّى حدود الواقع ويستشفّ المستقبل ويرى مسبقاً ما حدث في العقد الأخير من القرن العشرين. كان بإمكان عبد الرحمن منيف أن يكون ولز أو كونراد العرب من خلال منظور الخيال العلمي أو الأدبي ويصنع من البترول وتوابعه ملحمة قرن البترول تستشفّ المأساة والمهزلة اللتين صارت المنطقة مسرحاً لهماً منذ بداية التسعينات على الأقل.(1/216)
بعبارة موجزة، كان بإمكان كاتب قدير متمكّن من فن الرواية مثل عبد الرحمن منيف أن يصنع صورة من الواقع تتعدى حدودها الرمز المحدود لمدن الملح التي ساهمت أمريكا في تشييدها على أرض الواقع مساهمة كبيرة. ما يصوّره عبد الرحمن منيف نعلم أنَّه صحيح ومعروف لدينا، ولكن ما نتوقّعه من الكاتب هو أن يصوّر لنا ما لا نستطيع أن نتصوّره بأنفسنا من الواقع الذي نعيش فيه ونعرفه. عندما تولد الشخصية ميتة فلا يمكن أن يعيش لا على يد الكاتب، ولا في ذهن القارئ، خريبط، خزعل، الحكيم، ومن لفّ لفّهم شخصيات هالكة أصلاً وواقعاً. لابدَّ أنَّ هنالك شخصيات أخرى مختلفة تعيش في الخفاء وفي ظل الواقع بل وفي أعماق الكنز الحقيقي.(1/217)
يقول وليمز في معرض تقييمه للواقعية المعاصرة ـ رواية القرن العشرين أنَّ الرواية المعاصرة عكست أزمة المجتمع الغربي ونوّرتنا بها، وهو بهذا يعني أنَّ الأدب ملتزم بتفاصيل التجربة التي نعرفها، وأنَّ الروائيين يبدؤون بتعريف الموقف الواقعي الحقيقي والذي يأخذه وليمز على الرواية المعاصرة هو الفصل بين الفرد والمجتمع بصورة مطلقة. كما يرى وليمز أنَّ الجهد الإبداعي الحقيقي الذي يطلب من الروائي هو الصراع من أجل إيجاد علاقات شاملة ممكن تحقيقها على المستويين الفردي والاجتماعي، ذلك الجهد الذي يتّضح في الدرس العلمي في توسيع مدى العلاقات، ويرى وليمز أنَّ الواقعية كما تتجسّد في التراث العظيم هو ركن في هذا المجال الذي فيه يتدخّل التأويل الأساسي وتلتحم فيه الفكرة بالشعور والفرد بالمجتمع والتغيّر بالاستقرار من أجل النمو والتطوّر مع مرور الزمن. ويعلّق وليمز على الأمر برمّته قائلاً إنَّ هذا التداخل والتلاحم الذي ينظّم الواقعية لا يتحقّق بفعل العزيمة، بل باستكشاف إبداعي، وربّما لا يوجد مجال لتثبيته غير بناء الرواية الواقعية شكلاً و مادةً، ويخلص وليمز إلى قول أصبح مأثوراً عنه وهو أنَّ الواقع أو الحياة استكشاف لا استرجاع، بمعنى أنَّ الاسترجاع هو نوستلجيا ومحاكاة، تقف في وجه أي واقعية جديدة مختلفة عن الواقعية التقليدية.(وليمز. 287).
هل يمكن هنا أن نقول إنَّ رواية عبد الرحمن منيف تقع ضمن الإطار العام للاسترجاع، وعلى الرغم ممّا فيها من تنوير رائع بالواقع مثلاً، فإنّها تفتقر إلى العلاقات المتشابكة والمتداخلة بين الفرد والمجتمع، ولهذا تبدو أحادية الجانب، بسبب اعتمادها على الواقع الحرفي ورغبة الراوي في تسجيل حوادثه بدلاً من استكشاف العلاقات الخصبة الممتدة في أعماق الأفراد، تلك العلاقات التي تصلهم بعضهم ببعض داخل مجتمع خارج عن سلطة السلطان وأتباعه.(1/218)
يعلّق وليمز على روائيي القرن العشرين بقوله إنهم مهروا في تسجيل الواقع المتردّي، وهم بهذا قد حقّقوا إنجازاً فنياً رفيعاً، ولكنه إنجاز أحادي الجانب لأنَّه ينتهي بتقديم صورة للواقع المتردّي كما يراه الكاتب دون محاولة لخلق واقعية جديدة من هذا الواقع. فإذا كانت الواقعية التقليدية تعني محاكاة الواقع كما وصل إلينا، أو كما وصلنا إليه، فإنَّ الواقعية المعاصرة تعنى بمحاكاة الواقع النفسي والفكري والشعوري للفرد، أي بمحاكاة للواقع من الناحية الداخلية، في كلا الواقعتين التقليدية والمعاصرة نقص لبعد معيّن ينشأ من الفصل بين الفرد والمجتمع، بين واقع الحياة الخارجية وشعور الفرد الداخلي بها، إذ تصبح الصورة بحاجة إلى ثنائية تثريها.
في هذا السياق يمكننا القول إنَّ مدن الملح تقع ضمن المنظومة التي يسمّيها وليمز بالاسترجاع أو المحاكاة وضمن وصفه للواقعية المعاصرة في الرواية الغربية التي يراها منقوصة الأبعاد الثنائية، فمدن الملح تقع بين الرواية التقليدية التي يصفها وليمز بالتركيز على البعد الخارجي للمجتمع والتاريخ من جهة، والرواية المعاصرة التي يرى فيها وليمز تركيزاً على البعد الداخلي، من جهة أخرى.
وهنا ـ كما يلاحظ وليمز ـ تفتقر الرواية إلى العلاقات المتداخلة التي تخلق من الواقع المعين خارجياً كان أم داخلياً بعداً جديداً يكون من الناحية الفنية امتداداً لما هو غير متوافر فعلاً في الواقع الذي تبدأ به الرواية.(1/219)
لا يمكن أن ننكر قدرة عبد الرحمن منيف على تصوير الشخصية من الداخل وسبر أغوارها، ولكن المحصّل في النهاية، أنَّ هذه الصورة لا تزيد عن محاكاة للصورة الخارجية للواقع. أي أنَّ الصورة الداخلية لهذه الشخصيات لا تعود أكثر من امتداد للواقع الذي تنشأ منه. وبهذا تنعدم المسافة بين البعدين الخارجي والداخلي ولا تتوافّر الفرصة لصراع ينشأ من الداخل ليطوّر صورة بأكملها، والسبب في ذلك أنها تخضع إنسانيتها لقيم السلطة التي تضع نفسها في خدمتها وتُقزِّم نفسها بنفسها حتى دون ممارسة الإرهاب عليها مباشرة، أي أنها شخصيات مسلوبة الإرادة، وربّما هذا ما أراد أن يصوّره وينقله إلينا عبد الرحمن منيف. وفي هذه الحالة لا يسعنا إلاَّ أن نقول إنَّ عبد الرحمن منيف يفعل ذلك بسبب ما يتمتّع به من الصدق والأمانة مع نفسه ومع الواقع. وفي الختام، فإنَّ جدلية الواقع والواقعية وطبيعة العلاقة بينها لا يمكن الوصول فيها إلى نهاية، وربّما من الإنصاف أن نقول إنَّ فنّ عبد الرحمن منيف يقع ضمن هذه الجدلية، جدلية الواقعية بين المحاكاة والمنظور، وهذا ما يؤثّر في الواقعية، وهي تتشكّل في صورة الواقع.
(
( المصادر:
ـ عبد الرحمن منيف ، مدن الملح، الأخدود، بيروت، 1988.
ـ إميل حبيبي، سداسية الأيام الستة: الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتسائل، وقصص أخرى، بيروت، 1980.
Joseph Conrad, Nostromo, London. 1904.
Raymond Williams, The Long Revolution, London. 1961.
(((
ما تبقى لكم...
ذاكرة ليست للنسيان
لا ينكر غسان كنفاني تأثير فولكنر عليه في قصته "ما تبقّى لكم"، وكما يلاحظ فاروق وادي، فقد اعترف غسان كنفاني بذلك في آخر حديث إذاعي له، نشر في مجلة الهدف بعد رحيله.
وفي موقع آخر ذكر إنَّه تصوّر فولكنر يصافحه مهنئاً بعد أن أتمَّ القصة المذكورة.(1/220)
لكنَّ الفنان الحقّ يمتلك القدرة على تطويع مصدر التأثير ليناسب موهبته الفنيّة، وفي النهاية يخرج بمنظور جديد يتمتّع بأصالة تشٌّق طريقها عبر المصدر الأصلي مبتعدة بذلك عن التقليد والمحاكاة، محتفظة بالإيحاء الذي يولِّد في الفنان المعجب بغيره طاقة توجه هذا الفنان الوجهة التي تنسجم مع موهبته الفردية وسياق منظوره الفني الذي لابدَّ أن يكون مختلفاً عن المصدر الذي يتأثّر به. فكل عمل أصيل ينأى بطبيعته عن التكرار.
من المعروف أنَّ فولكنر اجتزأ عنوان قصّته "الصخب والغضب" من مسرحية شكسبير الخالدة مكبث، وهي عبارة قالها مكبث في أواخر أيّامه وهو يشرف على النهاية معلّلاً النفس وهي على وشك الهلاك بالحكمة البالغة، مستشفاً خبايا الكون وأسراره من خلال تجربة الطموح والألم المضني الذي يولِّده الصراع مع الشر والوقوف على الخط الفاصل بين المجد المهلك والصحوة المتأخرة التي لا يمكن أن تفضي إلى الخلاص. ومن ثمَّ تلك هي المأساة.
يقول مكبث وهو يودّع الدنيا وقد تجرّع كأس الطموح الزائف حتى الثمالة:"إنَّ الحياة حكاية مليئة بالصخب والغضب ولا مغزى لها" يتأثّر فولكنر بالجزء الأخير الذي ربما يصعب ترجمته وهو (Signifying nothing)، وتكاد تكون هذه العبارة تكوّن المرتكز الأساسي لقصة فولكنر. إذ أنَّ منظور الرواية الشمولية هو العبثية. وفعلاً يفرّغ فولكنر حياة شخصياته من أي معنى ويجعلها تعيش حياة عبث خارجة عن أبعاد الزمان والمكان التي تربطنا عادة بمعنى الحياة، من الناحية التقليدية على الأقل.
عند أول قراءة لقصة كنفاني ربّما يتبادر للذهن أنَّ كنفاني قدّم قراءة لعبارة مكبث تختلف في جوهرها عن القراءة التي قدّمها لنا فولكنر. فبينما نرى فولكنر فسّر العبارة على أنها عبثية الحياة، وهذا ما تشير إليه كلمة اللاشيء
((1/221)
Nothing)، وانطلق إلى بثّ روح العبثية في قصّته من أولها إلى آخرها، رأى كنفاني أنَّ اللاشيء يعني بالضرورة المغزى اللغوي المألوف في اللغة نتيجة التطابق الحرفي بين (Signifier - signified)، وأنَّ المغزى إن وجد أصلاً فهو يتعدّى المعاني المعروفة (Knowable)، وهو أوسع من دال لغوي ومدلول قاموسي فحسب. وفي جميع الأحوال، حتى اللاشيء يمثل وجوداً
(being)، وليس كما أعتقد فولكنر أنَّ لا وجود لأي وجود.
ويحضرنا هنا عبارة كيتس في قصيدته المشهورة عن مخاوفه بعنوان "عندما تمتلكني المخاوف أنَّه يمكن أن ينتهي أجلي"، إذ يقول في آخرها: "عندما يغرق الحب في اللاشيء". ويجمع النقّاد على أنَّ القصيدة ليست تعبيراً مباشراً وحرفياً عن خوفه الفعلي من أن يفقد حب عشيقته فاني براون، بل إنَّ اللاشيء هنا تشير كما يعتقد النقّاد المحدثون إلى التحرّر من قيد الزمن الذي يكبّل حبّه ومن البعث الجديد لهذا الحب في فضاء اللا زمن.
وفي اعتقادي أنّ كنفاني يتصوّر أنّ مكبث يصل في آخر أيّامه إلى درجة من المعاناة تسمو به فوق حدود الزمن وهي التي أوصلته إلى أن يرى أنَّ الحياة مثل اللغة، ذلك المغزى الذي لا يسعف في التعبير عن التجربة الإنسانية بشموليتها الرائعة، أي أنَّ كنفاني يرى أنَّ اللا شيء في اللغة لا يعني العبثية أو العدمية، فغياب مغزى الحياة لا يعني بالضرورة غياب وجودها حتى في حالة العبثية. ولا يمكن لكنفاني أن يتصوّر الوجود بدون إمكانيات
(Possibilities)، تكمن في الوجود، ومن غير الضروري أن تكون هذه الإمكانات جاهزة لتتحوّل إلى أفعال مستقبلية، فالوجود حاضر لا يمكن تفريغه من الإمكانات وتحويله إلى عدم لينتهي الوجود إلى نفق مظلم، مثل نفق فولكنر الذي يتركنا فيه دون أمل الخروج من ظلمته.(1/222)
عندما نتأمّل عنوان "ما تبقى لكم"، نجد أنَّه يوحي بتفاؤل لا يوجد بقصة فولكنر، وكأنَّ حدّة التشاؤم عند فولكنر لم تستطع ، بالرغم من التأثير الذي وقع تحته كنفاني، أن تحدّ من وجود إمكانيات التفاؤل عند كنفاني، فأقلّ ما يعني العنوان هو أنَّ شيئاً ما، تبقّى في جعبة الحياة، مع أنَّ هذا الشيء، كما يشير الحرف الأول في العنوان، غير معروف وغير محدّد ويبقى غامضاً في رؤيته ومنظوره، ولو أراد كنفاني لقصّته أن تعني غير ذلك العنوان لأوحى بذلك ولكان عنوانه "لم يبق لكم شيء"، أو "هل تبقى لكم شيء في هذه الحياة الدنيا؟"، أو ما شابه ذلك من عناوين تفصح عن التشاؤم أو تشيعه في النفس من أول وهلة. باختصار، استطاع كنفاني بإيمانه العميق بالحياة أن يحرّر جماليّات فولكنر من النظرة السوداوية ويطوّعها، بحيث تصبح قادرة على خلق إيقاع إيجابي مغاير.(1/223)
إنَّ العنوان المحكم يغوي القارئ عند كل قراءة لقصة كنفاني أن يتذكّر ما تبقّى للشاعر الكبير إزرا باوند في محنته الكبرى عندما وقع أسيراً في يد الحلفاء في شهر حزيران عام 1945 وألقي القبض عليه بسبب معارضته الشديدة لسياسة بلده أمريكا. إذ كان قد قام بشن حملات إعلامية ضد هذه السياسة على مدى سنوات من راديو إيطاليا بسبب اشتراكها في الحرب العالمية الثانية وبتصعيدها لها، مبيّناً أنَّ البنوك الأمريكية الواقعة تحت النفوذ الصهيوني آنذاك هي التي كانت تغذّي الحرب. وهاجم بشكل خاص روزفيلت وزبانيته إلى آخر ذلك. وقبل نقل باوند من إيطاليا إلى أمريكا لمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى احتجزته قوات الحلفاء في قفص من حطام الطائرات في جوّ سيء للغاية: حر شديد في النهار وبرد قارص في الليل. في الأسابيع التي قضاها أسيراً في هذه الحالة كتب باوند ما يُعرف بـ"أناشيد بيزا"، وهي جزء من الأناشيد المعروفة التي تعدّ ملحمة القرن العشرين شعراً، وتعدّ أناشيد بيزا من عيون الشعر الحديث، بل من أجمل ما كتب شاعر في القرن العشرين. يقول باوند في أشعار بيزا عدداً من أبيات الشعر يحفظها قرّاء باوند عن ظهر قلب أشهرها:
ما تحبونه حقَّاً هو ما تبقَّى لكم. البقية تذهب زبدا
لا أحد يسلبكم ما تحبّونه حقا
ما تحبّونه حقاً هو إرثكم الحقيقي
ليس المقصود هنا أنَّ كنفاني مثلاً تأثّر بالشاعر باوند، ولا أعتقد أنَّ كنفاني كان من بين المحتفين بالشاعر أو حتى من الذين قرأوا شعر الشاعر أو نثره. وفي جميع الأحوال ما هو أهم من المطابقة بين كنفاني وباوند. أنَّ العنوان الذي نحته كنفاني تعبير دقيق (articulation) لحالة شعورية في الحياة نصل إليها عادة في النكبات والأزمات التي تبدو مستعصية على الانفراج. أي أنَّ العنوان يتضمّن دراما إنسانية إذ لُفِظَ، فإنَّه يمدّ الإنسان بعون وهمي في القدرة على الصمود من خلال التعبير الكلامي عن خيبة الأمل.(1/224)
فبدلاً من أن يضيع الإنسان في صمت يتبع ألم المعاناة ويندثر في ركام الهزيمة أو يتدثّر بها، يلملم شتات آلامه ليقف عليها وكأنّها محطة أخيرة تنوّره برحلة الآلام وتجدّد فيه العزم على التشبّث بالحياة دون الهلاك. وكأنَّ الكاتب يقول لنا ولنفسه معاً: أنا أستطيع أن ألخص ما حدث في كلمات قليلة ربما لا تكون حلاً ولا خلاصاً ولا شفاء، بل توقفاً عن الاستمرار في الفرق والعبثية واللا شيء، تدبّراً وتأملاً في أمر هذا الوجود، عبثياً كان أم غير ذلك.
ماذا يفعل الإنسان الفنان عندما يقف لالتقاط أنفاسه بعد رحلة شاقَّة مؤلّمة؟ إنَّه يرى مالم يره من قبل، إنَّه يدرك شيئاً جديداً ليس استمراراً لما قبل. وكأنَّ الحياة تصبح وقفة حساب يوم الحساب، وهو يوم بلا زمن حقيقي، إذ إنّه وعي جديد يلغي الزمن الذي سبق، وان امتدّت من خلاله تجربته حتى انتهت منفصلة زمنياً (وشعورياً بالطبع) عمّا حدث له فعلاً مثل التوقّف عن حد الحد اللا زمني. نتصوّر مكبث وهو يقول لنفسه في آخر أيامه ما تبقّى من رحلتي مع الحياة "صخب وغضب"، ولا يمكن أن يتكون من الصخب لغة فيها مغزى ولا من مشاعر الغضب الحادة (fury) التي تحول بين المرء وقدرته على التعبير. صرخة مكبث وهو يصفي الحساب مع نفسه: لقد ضاع المغزى من هذه الحياة، غرقت اللغة، معين المغزى، في لا شيء الصخب والغضب وفي لا لغتهما. هذا ما تبقّى صخب وغضب، وبتعبير آخر معروف لشكسبير "ضجة بلا طائل". ولكنها في جميع الحالات وجود (Being) ليس من الإنصاف نعته بالعبثية أو العدمية.(1/225)
هل يمكن القول إنَّ إعجاب كنفاني بقصة فولكنر أدّت إلى اتّصاله بالمصدر الأصلي الذي استعار منه فولكنر عنوان قصّته؟ وفي هذه الحالة يكون كنفاني قد استوحى عنوان قصّته من نفس المصدر الأصلي. وفي اعتقادي أنَّ مكبث ودراما حياته في نهاية المسرحية هي التي أوحت إلى كنفاني بالعنوان الدرامي المرموق الذي اكتسب بعد كنفاني شيوعاً ملحوظاً كما نلاحظ من السياقات المختلفة التي استثمرت هذا العنوان.
والمهم أنَّ "ما تبقى لكم" على بساطته كعنوان، يوحي بدلالات كثيرة ومعقّدة ومتشابكة يصعب إخضاعها لمغزى محدّد. هذه مريم الضحيّة مثلاً تتّجه إلى زكريا "النتن"، (كما يسمّيه خالد)، لتقول له إنَّه أي زكريا، ما تبقى لها. ويبدو أنَّ هذا القول يجسّم لها تجربتها باتجاه معاكس وفي مفارقة فنيّة مؤثرة تجعلها تحسّ فعلاً بمأساتها. والذي تقرؤه بين السطور دون أن يرد بصريح العبارة أنَّه من الأفضل لو لم يتبقى لها شي. ما تبّقى لها هو عبء عليها وعلى أخيها وعلى الوطن،بل على الإنسانية إيضاً. لقد كانت لدى زكريا فرصة ذهبية أن يستجيب لمخاطبة مريم له بهذه العبارة ويغيّر من سلوكه ويقابلها بالحماية والرعاية كردّة فعل إيجابية تتناسب مع ماكان يمكن أن تثير العبارة في نفسه من مشاعر إيجابية تؤسّس شراكة فعلية بينه وبين مريم. إنَّ وضع مريم المأساوي لا يمكن أن يتيح لنا المجال للوصول إلى مغزى معين. هل كانت مريم فعلاً تعني ما تقول ولا سيّما أنّه لم يتبقّ لها أحد: أمّها في الأردن، أخوها رجل عنها إلى الأردن ليلتحق بأمّه، فقدت وطنها في حيفا، فقدت شرفها (في نظر المجتمع طبعاً) في غزّة، إنَّ الواقع الذي تعيش فيه مريم يجعلنا نميل إلى أنَّ مريم كانت مخلصة في قولها. أمَّا المغزى الآخر، فيمكن أن يكون في مجمله مفارقة، وفي هذه الحالة يكون صوت مريم هو صوت الراوي وتكون مريم متخفية وراء قناع المفارقة (irony).(1/226)
وما تبقّى لمريم هو تقريباً ما تبقّى لحامد، صحراء يحتضنها وتحتضنه في الليل البهيم، وصيحة ما تبقى لواحد تتزامن مع صيحة ما تبقّى للآخر لتؤكّد الرواية على الزمن الواحد وهو الحاضر، والكلمة الثانية من العنوان "تبقى" تحكم هذا الأمر، ولو كانت المسألة غير هذا لقال: ما بقي... أي ضاع الوطن وتبقت الصحراء. ولو أراد كنفاني أن يخرج عن حدود الواقعية السحريّة التي اتّخذها استراتيجية لقصّته، لجعل حامد يقابل العدو في يافا أو حيفا أو على شواطئهما. والقارئ لا يعلم بالضبط هل الصحراء مجرّد معبر يعبره حامد ليلتقي بأمّه في الضفة الشرقية من نهر الأردن، أو أنها رمز يمسرح حدث المواجهة بين حامد والعدو. حاول كنفاني أني خرج من الإشكالية بتصريحه أنّ القصة كتبت قبل انطلاق الثورة إلى الداخل، وكان لزاماً عليه أن يراعي التطابق بين الواقع والواقعية، ومع التقدير لهذا التصريح، إلاَّ أنَّه لزوم ما لا يلزم؛ لأنَّ وضع الصحراء والمواجهة ينسجم تماماً مع مكوّنات القصّة بكاملها.
****
وعلاوة على كل ما تقدّم، فإنَّ أهم ما تبقّى للمرء هو ما يكمن في شخصيته وهو خير وأبقى من كل شيء آخر من حوله. وهذا ما يكوّن البناء الداخلي للشخصية والذي بدوره يكشف عن قدرة فنية هائلة تجعل كل شخصية تصل إلينا بفردية تعبّر عن تميّزها الفردي، وفي الوقت ذاته عن موقعها من قضيتها الكبرى الجماعية، وذلك دون ن يختلّ التوازن بين الناحيتين الفردية والجماعية، أو أن يكون التأكيد على واحدة دون الأخرى.(1/227)
يلاحظ نيتشه أنَّ لكل شخصية مركزاً ينطلق منه سلوكها الرئيسي الذي يطغى على التفاصيل الفرعية ويميّزها عن سائر البشر. مريم مثلاً شخصية تتمتّع بفرديّة قوية أمينة مع نفسها ورغباتها. عادات المجتمع وتقاليده ليست من أولوياتها، لذلك، فإنّها لا تدعها تطغى على فرديتها، ولديها الجرأة على الاستجابة لعواطفها دون تحسّب لعقاب أو جزاء المجتمع. وعندما تحاول تصفية الحساب في لحظة حاسمة في حياتها وتجد أنَّ كل ما تبقّى لها فعلاً تركة لا تستحقّ أن تبقى أو تتبقى لأحد في وضعها على الأقل فتمارس شجاعتها المعهودة وتقضي على التركة النتنة. أمّا حامد فإنَّ جبنه يمنعه من اتخاذ قرار، ويظل سكينه بالمقابل معلّقاً في ظلمة الصحراء يشهره على العدو مع وقف التنفيذ، أي أنَّ الإمكانيات (possibilities) موجودة عند مريم وحامد، عند الأولى قابلة لأن تتحوّل إلى فعل انسجاماً مع سلوكها السابق مع زكريا قبل الزواج المحتوم، وعند الآخر، تظل الإمكانات أسيرة شخصية إتكاليّة. كيف نريد حامد أن يتصرّف مع العدو وهو في طريقه من أجل التشاور مع أمّه بشأن مريم لأنَّه عاش حياته معتمداً على أمَّه. هنا يتداخل البعدان الاجتماعي والسياسي مع بعدي الفرد والجماعة بطريقة عفوية غاية في الدقة والتركيب الفني.
وبالرغم من كل ما ورد عن محاولة التعرّف على ما "تبقى" وتصفية الحساب في هذه القصة الرائعة، إلاَّ أنَّ بقيّة باقية هي التي تتبقى وربما هي خير وأبقى، ألا وهي بطولة سالم، نموذج البطولة الغائبة. تقول مريم لأخيها حامد إنهم قتلوا سالم لأنه كان بطل المقاومة. وفي هذا غمز لعجز أو جبن حامد. وبصورة فيها الكثير من المفارقة تقول مريم لأخيها وكأنّها تطمئنه على حياته "وأغلب الظن أنها كانت تريد أن تطمئني ولم تعرف أبداً أنها حمّلتني ذلاً جديداً، لماذا يقتلونك أنت؟ تافه آخر لا بأس من أن يكمل حياته تافهاً ويموت تافهاً، يموت ها هنا ...".(ص201).(1/228)
والسؤال الذي يطرحه القارئ على نفسه: هل هذا هو صوت مريم، أم أنّه صوت حامد وليس صوت الراوي؟ تتقاطع الأصوات وتتناغم بطريقة تحيِّر، ولكنها في النهاية صوت واحد يخرج من الوحدة الفنية الرائعة التي تشمل الأصوات مهما اختلف أصحابها في تركيب موحَّد. وهنا يصدق في هذا الموقف د.هـ. لورانس عندما قال: ضع ثقتك في القصة لا في القاص الذي يروي القصة، بمعنى أنَّ الصوت الواحد في القصة يظلّ عاجزاً عن تقديم المطلوب من وجهة النظر. تعليق لورانس هو trust the tale not the teller.
كيف تصل إلينا صورة البطولة الغائبة. يستثمر كنفاني ميتافيزيقا الزمن عند فولكنر. الحاضر عند فولكنر واقع وهمي، فهو مليء بالخيبة والفشل والتفزر، ويحصل دون تحسّب أو دراية مسبقة بحدوثه، ويحل علينا، بطريقة فجائية. وفي سياق تعليقه على فولكنر يشبّه سارتر حدوث الزمن الحاضر عند فولكنر بمن هو في سيارة ينظر حوله وهو يدير ظهره إلى اتجاه سيرها. ويستخدم سارتر كلمة (sink) بمعنى أنَّ المناظر التي يشاهدها من ينظر إليها وهو في هذه الحالة تظهر وتختفي دون فاصل زمني حقيقي في وعي الناظر.
ولكنها لا تغرق في الوعي من أجل أن تحتفظ بها الذاكرة بل من أجل أن تظهر ثانية وهكذا. ويقصد فولكنر من ذلك أن يبيّن أنَّ الحاضر زمن غير ثابت ولا وجود له أصلاً وفيه صفة الوحشية في ظهوره واختفائه والإحساس المؤقت به، ولهذا نجد شخصيات فولكنر تعاني من العصابية والهلوسة والهستيريا والتفزر والقرف.(1/229)
ولابدَّ ها أن نعترف أنَّ كنفاني استثمر ميتافيزيقا الزمن عند فولكنر بطريقة مخفّفة، ولم يجعلها تطابق كل تلك السلبية التي يعرض لها فولكنر. صحيح أنَّ حاضر الشخصيات عند كنفاني يلتقي بعض الشيء بحاضرها عند فولكنر: مريم تحمل فجأة، ويزوّجها أخوها فجأة إلى زكريا النتن، الذي يشرع عليها الطلاق فجأة إن امتنعت عن الإجهاض، وفجأة يتوجّه حامد إلى الأردن عبر الصحراء، وبطريقة فجائية تحصل المقابلة مع العدو، كل ذلك يحدث بتقنية مكثّفة بارعة من خلالها تصل إلينا الأحداث وكأنَّها مناظر سينمائية أو مشاهد يراها الناظر من سيارة وهو يدير ظهره إلى اتجاه السير، يظهر حاضر وسرعان ما يختفي، أو يظهر مرّة أخرى، وهكذا يتوالى ظهور الحاضر أو غيابه دون استقراره على حال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كنفاني ينحاز عن تأثّره بـ"فولكنر" وهو يجعل الماضي حدثاً مفقوداً تسترجعه الذاكرة خلاف ما يجري عند فولكنر الذي لا يؤمن بالذاكرة كحاضنة للماضي، وأنَّ الماضي عنده مثل المستقبل لا وجود لهما، وأنَّ الماضي لا يستيقظ في ذاكرة الحاضر، وأنَّه ليس للحاضر أي امتداد مستقبلي.(1/230)
هل يمكننا القول إنَّ كنفاني تأثّر بالروائي بروست علاوة على تأثره بـ"فولكنر"؟ إنَّ ظهور سالم البطل في ذاكرة مريم لا يعلّله أكثر من ميتافيزيقا الزمن عند بروست الذي يعتقد أنَّ الزمن يبقى ضائعاً إلى أن تنقذه الذاكرة من براثن النسيان وتعيده إلينا حاضراً، وفي هذا خلاص لنا، أي أنَّ الذاكرة هي منقذنا، وربّما لا يكون ضرباً من المبالغة القول إنَّ تأثير كنفاني بـ"بروست" أكثر من تأثيره بـ"فولكنر"! وإلاَّ كيف نفسّر ذكرى سليم وهي تحيا في ذاكرة مريم فتعيّر أخاها الجبّان بسليم الشجاع، وتجعل وجود زكريا يتلاشى في نظرها عندما تتذكّر خيانته سليم، ألم يلقَ زكريا حتفه على يد مريم عبر فتيل الذاكرة؟ ألم تحرّك صورة سليم المشاعر الكامنة في حامد وتجعل منها إمكانية النضال وترقَ به درجة عن جبنه المعهود؟ صورة سليم النضالية هي إذن فعلاً ما تبقّى للجميع، وهي صورة تطلّ من نافذة الماضي على واقع الحاضر الكئيب.(1/231)
ما تبقى لكم لوحة فنية خارج المكان والزمان. تذكّرنا على الفور ودائماً بالوقوف في حياتنا على نوع من حصاد الهشيم الذي ربّما يكون هو الحصاد بعينه على الرغم ممّا يبدو فيه من ضآلة يائسة وبائسة، ولكنها تحمل بذور النشوء والارتقاء بداخلها منتظرة فرصة. تذكّرنا برحلة الحياة الشاقّة الظالمة البائسة اليائسة وبالصراع مع كل المثبطات من أجل البقاء واسترجاع ما تبقّى من أجل حياة جديدة. تذكّرنا بالبعث من الرماد الأسطوري، طائر الفينكس الذي يخرج من الحطام ليحيا ويطير من جديد بعد كل الدمار الذي حلّ به. تذكّرنا هذه القصة أيضاً برواية كونراد الخالدة "قلب الظلام" الذي ربّما قرأها كنفاني، إذ أنها من النوع الذي يستهويه شكلاً ومضموناً. المعروف أنَّ رواية كونراد تلخّص رحلة الحياة المضنية ومضمونها، إذ أنها من النوع الذي يستهويه شكلاً ومضموناً. المعروف أنَّ رواية كونراد تلخّص رحلة الحياة المضنية ومضمونها، إن كان لها مضمون، فالمعروف أنَّه مهما أبحرت في قلب الظلام فلن تصل إلى نتيجة. وكثيراً ما تراود قارئ "ما تبقى لكم" أن يسمّيها "ما تبقى لكم في قلب الظلام"، آخذاً بعين الاعتبار أنَّ قلب الظلام، سياق قصّة كونراد الحقيقي والتشبيهي ماهو إلاَّ زمن الحاضر الذي يكتنفه الظلام من أوله إلى آخره. ماذا يتبقى للمرء بعد رحلة مضنية يكتشف من يرحلها في النهاية أنَّ الاستعمار خرافة جوفاء جنّد لها عميلها الاستعمار الأبرياء فتوهّموا في البداية أنَّ الاستعمار حقيقة ثم اكتشفوا أنَّه وهم أو هم من استخدمهم لخدمته، فتبينت لهم الحقيقة في رؤية مفزعة لخصّها كونراد في عبارة موجزة:
ياللرعب، ياللرعب! "The terror, the terror" وهي العبارة التي يمسرحها مارلو في قلب الظلام ويعجب بها، لأنَّ سلفه كورتز استطاع أن يجد تعبيراً مقتضباً عن رحلة الاستعمار إلى قلب الظلام.(1/232)
فبينما كان على فراش الموت استطاع أن يلملم نفسه ويعبّر عن رحلة طويلة معقَّدة فيها مافيها من معاناة يصعب وصفها وتقديم أي تفاصيل عنها. وقد أعجب الراوي مارلو بقدرة زميل له خاض التجربة نفسها تقريباً في قدرته على التعبير عن أشقّ وأعقد تجربة، في حين أنَّ مارلو نفسه عندما مرض (والإشارة هنا إلى كونراد نفسه) لم يستطع أن يقول شيئاً، وتبدت له الدنيا مسطحة لا تستحق الإشارة إليها من قريب أو بعيد.
ماذا يتبقّى للمرء في ساعة الشدّة. شيء واحد كما عبّر عنه كونراد، هو المتعة التي تعين المرء على الصمود في الموقف. كل منّا يقول كونراد يتكئ على مابه من مقوّمات، وهنا يبدو امتحان الشخصية، فإن كان أصلاً جوفاء فلن تجد ما يعينها على الصمود، وإن كانت لدينا مقومات كامنة، فإنَّ هذه تتقدّم نحو الصدارة لتحمي صاحبها من الانزلاق إلى الهاوية. هذا ما حدث في مشهد القارب عندما وجد البيض والسود أنفسهم محاصرين من قوى الشر ولا يوجد ما لديهم من مقومات المعيشة. صمد السود الذين اعتادوا أكل لحم البشر، وانهار البيض وأكلوا لحم البشر. وهنا مفارقة تعبّر عن موقف إنساني يمتحن كلا الطرفين. تبيّن أنَّ السود الذين جاء البيض بحضارتهم لنشرها بينهم هم أرفع مستوى في القدرة على الصمود من أصحاب الحضارة الأوروبية. باختصار، لا يمكن أن نحكم على الشخصية دون أن نتعرف إلى تصرّفها وقت الشدّة.
هكذا استطعنا أن نعرف مريم وأن نتعرّف أكثر على كل من حامد وزكريا. والشدّة أيضاً هي التي تحرّك الذاكرة وتجعلها تنقّب عن بديل ينقلنا من قلب الظلمات إلى مشارف النور. وعند قراءة قصّة كنفاني بجانب قصة كونراد، يمكن أن يخرج القارئ على سبيل المثال بعنوان مركّب مثل "ما تبقى لكم في قلب الظلام"، أليست بطولة غسان كنفاني نفسه مثل بطولة سالم ذاكرة تحيا لتبقى وتتبقى لنا؟
( المصادر:(1/233)
ـ كنفاني، غسان، "ما تبقى لكم"، الآثار الكاملة والروايات، المجلد الأول، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، الطبعة الرابعة، 1994.
ـ وادي، فاروق، "غسان كنفاني، سقوط من الوهم"، في كتاب ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية.
Conrad, Josehp, Heart of Darkness, Robert Kimbrough, ed.,( 1899; Norton Edition 1971, 1963), New York.
(((
المحتويات
1. حول أدبيات الرواية ... 3
2. السندباد: حكاية العودة: من الشعر إلى القصة ... 3
3. ألف ليلة وليلة: إشكالية المتلقي الخصم ... 3
4. عودة الروح... آمال عظام ... 3
5. "موسم الهجرة إلى الشمال" دائرة السر الاسطوري وما بعدها ... 3
6. سراب عفان: حصاد المرايا المهشمّة ... 3
7. إميل حبيبي ذات جماعيّة باقية ... 3
8. مدن الملح: الأخدود والكنز المفقود: الواقعية في صورة الواقع ... 3
9. ما تبقى لكم... ذاكرة ليست للنسيان ... 3
((((1/234)