آفات على الطريق
الدكتور : السيد محمد نوح
الجزء الأول
الآفة الأولى : الفتور
الآفة الثانية: الإسراف
الآفة الثالثة : الاستعجال
الآفة الرابعة : العزلة
الآفة الخامسة : الإعجاب بالنفس
الآفة السادسة: الغرور
الآفة السابعة : التكبر
آفات على الطريق
بسم لله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آله وأصحابه والسالكين سبيله والداعين بدعوته إلى يوم الدين بعد ......
فإن توضيح معالم الطريق أمام العاملين الفارين بدينهم إلى ربهم كي يعدوا لكل أمر عدته ويأخذوا لكل شئ أهبته فلا ينقطعوا ولا يتوانوا ولا يتأخروا عن ركب النجاة ضرورة لا مفر منها ولا محيص عنها توجبها الدعوة إلى الله والجهاد من أجل التمكين لدينه في الأرض .
ولعل من أهم هذه المعالم :أن هناك آفات يمكن أن يصاب بها بعض العاملين بل قد تصيبهم بالفعل فتقعد بهم عن أداء دورهم والقيام بواجبهم .
ويطيب لنا في هذا المقام : أن نعرض لهذه الآفات بشيء من التحليل والبيان كي يحذرها العاملون ويتطهروا منها .
و على الله قصد السبيل
أبو عبد الرحمن
الآفة الأولي
الفتور
معناه :
لغة : يطلق الفتور على معنيين :
أ) الانقطاع بعد الاستمرار أو السكون بعد الحركة .
ب)الكسل أو التراخي أو التباطؤ بعد النشاط والجد .
جاء في لسان العرب :
( وفتر الشيء ، والحر ، وفلان يفتر ، ويفتر فتوراً وفتاراً : سكن بعد حدة ولان بعد شدة ).
اصطلاحا : أما في الاصطلاح فهو داء يمكن أن يصيب بعض العاملين بل قد يصيبهم بالفعل . أدناه : الكسل أو التراخي أو التباطؤ . وأعلاه : الانقطاع أو السكون بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة .
قال تعالى عن الملائكة :
{ وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }.
أي (أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به ويصلون ويذكرون الله ليل نهار لا يضعفون ولا يسأمون ).(1/1)
أسبابه :
ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية :
(1) الغلو والتشدد في الدين : بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي : الانقطاع والترك بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب وهذا أمر بديهي إذ للإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها اعتراه الفتور فيكسل أو ينقطع ولعل ذلك هو السر في تحذير الإسلام الشديد ونهيه الصريح عن الغلو ، والتنطع ، والتشديد إذ يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ) ، ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاث يعنى : المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم أفعالهم.
( لا تشددوا على أنفسكم ، فيشدد عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع ، والديارات - رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ، ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .... )
وعن أنس رضى الله عنه - قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم - في السر ، فلما أخبروها كأنهم تقالوها ، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلى الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الثالث : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال :(1/2)
( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم إلى لله وأتقاكم له ، لكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى ) ، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة ، فقال من هذه ؟ قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها ، قال :0 مه عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه ) ، ( اكفلوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ )
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - قال : كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار ، وتقوم الليل ، فقيل له : إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال - صلى الله عليه وسلم - :( إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل ) .
2- السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات :
فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى السمنة وضخامة البدن ، وسيطرة الشهوات ، وبالتالي التثاقل ، و الكسل و التراخي ، إن لم يكن الانقطاع و القعود ، ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله ، وتحذيرهما من السرف ، قال تعالى :{ يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه ... )1
وقد أدرك سلف الأمة ما يصنعه السرف و التوسع في المباحات بصاحبه ، فحذروا منه ، إذ تقول أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - :( أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع ، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم ) 2(1/3)
وإذا يقول عمر - رضى الله تعالى عنه - :( إياكم و البطنة في الطعام و الشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وابعد من السرف ،وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه )3
وإذ يقول أبو سلمان الدارانى:( من شبع دخل عليه ست آفات : فقد حلاوة المناجاة ، وحرمان الشفقة على الخلق - لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع - وثقل العبادة - وزيادة الشهوات ، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد ، والشباع يدورون حول المزابل ).4
3- مفارقة الجماعة ، وإيثار حياة العزلة و التفرد : ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد ، متعددة المراحل ، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد ، فإذا سارها المسلم مع الجماعة ، وجد نفسه دوماً ، متجدد النشاط ، قوى الإرادة ، صادق العزيمة ، أما إذا شذّ عن الجماعة وفارقها ، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه ، ويقوى إرادته ، ويحرك همته ، ويذكره بربه فيسأم ويمل ، وبالتالي يتراخى ويتباطأ ، إن لم ينقطع ويقعد.
ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده وتشديده على الجماعة ، وتحذيره من مفرقتها ، و الشذوذ عنها إذ يقول الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }
{ وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان ...}
{ وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ... }
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم }
وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
( .... عليكم بالجماعة ،وإياكم و الفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة )5
( من فارق الجماعة شبراً ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )6(1/4)
( وآمركم بالسمع و الطاعة ، و الهجرة و الجهاد ، و الجماعة ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا كانت ميتته ميتة جاهلية )7
( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )8
وقد أدرك سلف الأمة ذلك فلزموا الجماعة ، ورغبوا فيها ، وأكدوا عليها ، يقول علىّ رضى الله عنه :_( كدر الجماعة خير من صفو الفرد )
ويقول عبد الله بن المبارك :
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ……ولكان أضعفنا نهباً لأقوانا
4- قلة تذكر الموت و الدار الآخرة :
فإن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى فتور الإرادة ، وضعف العزيمة ، وبطء النشاط و الحركة ، بل قد يؤدى إلى الوقوف والانقطاع ، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم - بزيارة القبور بعد النهي و التحذير ، إذ يقول :( إني نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة )9 وفي رواية :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ) كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم من تذكر الموت ، وانتهاء الأجل إذ يقول :
( أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء ، فقال رجل : يا رسول الله إنا نستحي من الله تعالى ؟ فقال : من كان منكم مستحيياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه ، وليحفظ البطن وما حوى و الرأس وما وعى وليذكر الموت و البلى ، وليترك زينة الدنيا )10
5- التقصير في عمل اليوم و الليلة :
مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السمر الذي لا مبرر له بعد العشاء ، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة ، وترك قيام الليل ، أو صلاة الضحى ، أو تلاوة القرآن ، أو الذكر أو الدعاء ، أو الاستغفار ، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد ، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر ، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات ، وأدنى هذه العقوبات : الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف .
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شئ من هذا إذ يقول :(1/5)
( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد : يضرب كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، وإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) 11
6- دخول جوفه شئ محرم أو به شبهة : إما بسبب تقصيره وعدم إتقانه للعمل اليومي الذي يتعيش منه ، وإما بسبب تعامله فيما نسميه شبهة ، وإما بسبب غير ذلك ، فمثل هذا يعاقب من سيده ومولاه ، وأدني عقاب في الدنيا ، أن يفتر فيقعد ويرقد عن الطاعات ، أو على الأقل يكسل ويتثاقل فلا يجد للقيام لذة ، ولا للمناجاة حلاوة .
ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى أكل الحلال وتحريه ، والابتعاد عن الحرام ، وما كانت به أدنى شبهة، إذ يقول الله عز وجل :
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين }
{ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون }
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ، إني بما تعملون عليم }
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( كل جسد نبت من سحت - أي من حرام - فالنار أولى به )
، ( الحلال بين و الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان ، و المعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه )12 (دعما يريبك إلى ما لا يريبك ) ، ويربى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عملياً على ذلك حين يجد تمرة في الطريق ويرفض أكلها قائلاً :( لولا أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها )(1/6)
وعلى هذا المنهج سار سلف الأمة ، فكانوا يفتشون ويتحرون عن كل ما يتعلق بحياتهم من الطعام و الشراب واللباس و المركب .... الخ وإذا وجدوا شيئاً شابته شائبة أو أدنى شبهة اجتنبوه ، مخافة أن يجرهم إلى الحرام ، فتفسد قلوبهم ، فيحرموا العمل أو يحرموا قبوله .
عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :( كان لأبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - غلام يخرج له الخراج ، فجاء في يوم بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : أتدرى ما هذا ؟ فقال أبو بكر وما هو ؟ ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكهانة ، إلا أنى خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شئ أكله )13
7- اقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين : كأن يجعل همه العقيدة فحسب ، ملغياً كل شئ غيرها من حسابه ، أو يجعل همه الشعائر التعبدية ، تاركاً كل ما سواها ، أو يقتصر على فعل الخيرات وراعية الآداب الاجتماعية ، غاضاً الطرف عما عداها فكل هؤلاء وأمثالهم تأتى عليهم أوقات يصابون فيها لا محالة بالفتور ، وهذا أمر بديهي ، نظراً لأن دين الله موضوع لاستيعاب الحياة كلها ، فإذا اقتصر واحد من الناس على بعضه فكأنما أراد أن يحيا بعض الحياة ، لا كل الحياة ، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل : وماذا بعد ؟ فلا يجد جواباً سوى الفتور إما بالعجز وإما بالكسل .
ولعل ذلك هو أحد أسرار الدعوة إلى أخذ منهج الله كلاً بلا تبعيض ، ولا تجزيء :
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ،أي اعملوا بجميع شعب الإيمان ، وشرائع الإسلام ، ولا تسيروا خلف الشيطان ، لما يكنه لكم من العداوة و البغضاء فيصرفكم عن منهج الله بالكلية ، أو عن بعضه فتفتروا وتضيعوا ....(1/7)
8- الغفلة عن سنن الله في الكون و الحياة : فإننا نرى صنفاً من العاملين لدين الله يريد أن يغير المجتمع كله - أفكاره ومشاعره ،وتقاليده وأخلاقه وأنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في يوم وليلة بأساليب ووسائل هي إلى الوهم والخيال أقرب منها إلى الحقيقة و الواقع ، مع شجاعة وجرأة وفية ، لا تستكثر تضحية وإن غلت ، ولا تعبأ بالموت سعت إليه أو سعى إليها ، ولا تهتم بالنتائج أياً كانت ، ما دامت نيتها لله ، وما دام هدفها إعلاء كلمة الله ، غير واضعين في حسابهم سنن الله في الكون و الحياة : من ضرورة التدرج في العمل ، ومن أن الغلبة إنما تكون للأتقى ، فإذا لم يكن فللأقوى ، ومن أن لكل شئ أجلا مسمى لا يقدم ولا يؤخر .... الخ فإذا ما نزلوا إلى أرض الواقع ، وكان غير ما أملوا ، وما أرادوا وما عملوا ، فتروا عن العمل إما بالكسل و التواني و التراخي ، وإما بالقعود والانسلاخ و الترك .
9-التقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات وقلة العاملين :
ذلك أننا نجد بعض العاملين ينفقون كل ما يملكون من جهد ووقت وطاقة في سبيل خدمة هذا الدين ، ضانين على أنفسهم بقليل الراحة و الترويح فهؤلاء وأمثالهم ، وإن كانوا معذورين بسبب ضخامة الأعباء ، وكثرة الواجبات وقلة العاملين ، إلا أنه تأتى عليهم أوقات يفترون عن العمل لا محالة .
ولعل هذا هو سر تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على حق البدن مهما تكن الأعذار و المبررات إذ يقول :" إن لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه " وفي رواية أخرى :" فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزويك عليك حقاً "14(1/8)
10- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق : ذلك أننا نجد بعض العاملين يبدءون السير في الطريق دون أن يقفوا على معوقاته ، من زوجة أو ولد ، أو إقبال دنيا ، أو امتحان ، أو ابتلاء ،أو نحو ذلك ، و بالتالي لا يأخذون أهبتهم ، ولا استعدادهم ،وقد يحدث أن يصدموا أثناء السير بهذه المعوقات ، أو ببعضها ، فإذا هم يعجزون عن مواجهتها ،فيفترون عن العمل إما بالكسل و التراخي ، وإما بالوقوف والانقطاع .
وهذا سر تنبيه القرآن الكريم ، وتحذيراته المتكررة من معوقات الطريق إذ يقول سبحانه :
{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة وإن الله عنده أجر عظيم } ، { واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ... } ، { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم } .
11-صحبة ذوى الإرادات الضعيفة و الهمم الدانية : فقد يحدث أن يصحب العامل نفراً ممن لهم ذيوع و شهرة ،وحين يقترب منهم ويعايشهم يراهم خاوين فاترين في العمل ، كالطبل الأجوف ، فإن مضى معهم عدوه- كما يعدى الصحيحَ الأجربُ - بالفتور و الكسل .
وهذا هو سر تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة انتقاء واصطفاء الصاحب ، إذ يقول :( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل ) 15 .
( إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة ) .(1/9)
12- العفوية في العمل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي : ذلك أن كثيراً من العاملين أفراداً كانوا أو جماعات يمارسون العمل لدين الله بصورة عفوية لا تتبع منهجاً ، ولا تعرف نظاماً ، فيقدمون الأمور الثانوية أو التي ليست بذي بال ويؤخرون بل ويهملون الأمور الرئيسية و التي لابد منها من أجل التمكين لدين الله ، وهذا يؤدى إلى أن تطول الطريق وتكثر التكاليف و التضحيات ، فيكون الفتور غالباً ، إن لم تتدخل يد الله بالرعاية و التأييد و الثبات .
ولعلنا في ضوء هذا نفهم سر وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما وجهه إلى اليمن إذ قال له : إنك تأتى قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .
إن الحديث قاعدة رئيسية في منهجية العمل ، وترتيبه ودقته .
13- الوقوع في المعاصي و السيئات ولاسيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها :
فإن ذلك ينتهي بالعامل لا محالة إلى الفتور ، وصدق الله الذي يقول :
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول :( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً ، كمثل قوم نزلوا إلى أرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود و الرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً ، وأججوا ناراً ، وأنضجوا ما قذفوا فيها )16 ، ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً ، نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكره - عز وجلّ - { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
تلك هي الأسباب التي توقع في الفتور غالباً .
آثاره :(1/10)
وللفتور آثار ضاره ، ومهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي :
على العاملين : فمن آثاره على العاملين قلة رصيدهم - على الأقل - من الطاعات ، وربما قبض أحدهم وهو فاتر كسلان ، فيلقى الله مقصراً مفرطاً ، لذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم إني أعوذ بك منالهم و الحزن وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن و البخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) .17
( اللهم اجعل خير عمري آخره اللهم اجعل خواتيم عملي رضوانك ، اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك ) .... ( ..... اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه )18
وكان من بشرياته لأمته :( إذا أراد اله بعبد خيراً استعمله ، قيل كيف يستعمله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه )19
وكان من وصيته لها :( إن العبد ليعمل بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنما الأعمال بالخواتيم )20
( لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له )21
وكان من تأثر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضى الله تعالى عنه - لما مرض مرض الموت إذ جاء : أنه لما مرض بكى فقال :0 إنما أبكى لأنه أصابني على حال فترة ، ولم يصبني على حال جهاد )22 ويقصد أن المرض أصابه وهو في حال سكون وتقليل من العبادات و المجاهدات .
على العمل الإسلامي : ومن آثاره على العمل الإسلامي طول الطريق ، وكثرة التكاليف و التضحيات ، إذ مضت سننه سبحانه : ألا يعطى النصر و التمكين للكسالى و الغافلين و المنقطعين ، وغنما لعاملين المجاهدين الذين اتقنوا العمل ، واحسنوا الجهاد :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً }
{ إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون }
{ و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }
علاجه :(1/11)
ولما كان الفتور يؤدى إلى الآثار و المخاطر التي ذكرنا لزم التحرز و التطهر منه ويستطيع العاملون التحرز و التطهر منه على النحو التالي :
1- البعد عن المعاصي و السيئات كبيرها وصغيرها ، فإنها نار تحرق القلوب ، وتستوجب غضب الله ، ومن غضب عليه ربه فقد خسر خسراناً مبينا ً ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى }
2- المواظبة على عمل اليوم و الليلة : من ذكر ودعاء وضراعة ، أو استغفار ، أو قراءة قرآن ، أو صلاة ضحى ، أو قيام ليل ، ومناجاة ولاسيما في وقت السحر ، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد ، ينشط النفوس ويحركها ويعلى الهمم ، ويقوى العزائم ، قال تعالى
{ وهو الذي جعل الليل و النهار خلفة ، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً }
{ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً ..... سنلقى عليك قولاً ثقيلاً ... }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( من نام عن حزبه من الليل ، أو على شئ منه ، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل )23
3- ترصد الأوقات الفاضلة و العمل على إحيائها بالطاعات ، فإن هذا مما ينشط النفوس ، ويقوى الإرادات يقول : صلى الله عليه وسلم:
( ..... فسددوا وقاربوا وأبشروا واستيعنوا بالغدوة و الروحة وشئ من الدلجة )
4- التحرر من التشدد و الغلو في دين الله ، فإن ذلك مما ينشط ويساعد على الاستمرار ، عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :
( كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير ، وكان يحجره من الليل فيصلى فيه فجعل الناس يصلون بصلاته ، ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليلة فقال :( يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ) وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه .24(1/12)
ولا جرم أن نشير هنا إلى أن التحرر من التشدد و الغلو لا يعنى الترك والإهمال ، بل يعنى الاقتصاد و التوسط مع المحافظة عل ما اعتاده من العمل ، ومع اتباع السنة ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
5- دفن النفس في أحضان الجماعة ، وعدم اعتزالها أو الشذوذ عنها بحال من الأحوال ، وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم :( الجماعة رحمة و الفرقة عذاب )25 ، ( يد الله مع الجماعة )26 ، وقول على رضى الله عنه - المذكور آنفاً :( كدر الجماعة خير من صفو الفرد )
6- الانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون { فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } من استفراغ الطاقة وبذل الجهد الإنساني أولاً { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } ، ومن التدرج في العمل ، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضى الله تعالى عنها - ( إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة و النار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام ، ولو نزل أول شئ ، لا تشربوا الخمر ، ولا تزنوا لقالوا : لا ندع الخمر ولا الزنى أبداً )27 وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز - رضى الله تعالى عنه - خامس الخلفاء الراشدين ، فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدى الخلفاء الأربعة ، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه ، وكان له ابن يقال له عبد الملك ، فيه فتوة وحماس وحيوية وتقى ، فأنكر على أبيه البطء ، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف و المظالم ، حتى تعود الحياة سيرتها الأولي أيام الراشدين ، إذ قال له يوماً :(1/13)
( ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي ، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق ) .
فكان جواب الأب الفقيه :( لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة ) 28... الخ
7- الوقوف على معوقات الطريق من أول يوم في العمل : حتى تكون الأهبة ، ويكون الاستعداد لمواجهتها و الغلب عليها فلا يبقى مجال لفتور أو انقطاع .
8- الدقة و المنهجية في العمل على معنى مراعاة الأولويات وتقديم الأهم ، وعدم الدخول في معارك جانبيه ، أو مسائل جزئية هامشية.
9- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله : إذ أن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي والإشراق القلبي ، والإشعاع الروحي ، ما يسبى ، ويجذب بل ما يحرك الهمم و العزائم ، ويقوى الإرادات ، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ذلك حين قال :
( ألا أخبركم بخير الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من تذكركم رؤيته بالله عز وجل )29
10- إعطاء البدن حقه من الراحة و الطعام و الشراب مع الاعتدال في ذلك ، فإن هذا مما يجدد نشاط الجسم ويعيد إليه قوته وحيويته .
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم العاملين إلى ذلك ، فقد دخل مرة المسجد فرأي حبلاً ممدوداً بين ساريتين ، فقال :( ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد )30
وقال أيضاً : إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه )31(1/14)
11- الترفيه عن النفس بالمباحات ، من مداعبة الأهل ، أو ملاعبة الأولاد ، أو القيام ببعض الرحلات النهرية للتجديف ، أو القمرية للرياضة ، و التدبر و التفكر ، أو الجبلية للصعود و التسلق ، أو الصحراوية للتمرس و التعود على مواجهة مشاق الحياة ، أو الحقلية أو غير ذلك ، فإن هذا مما يطرد السأم و الملل ، ويقضى على الفتور والكسل ، بحيث يعود المسلم إلى ممارسة نشاطه ، وكأنما ولد من جديد ، أو صار خلقاً آخر .
عن أبى ربعي حنظلة ابن الربيع الأسيدى الكاتب ، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقيني أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت نافق حنظلة ، قال : سبحان الله ما تقول ؟ قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد ، و الضيعات ونسينا كثيراً ، قال أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد ، و الضيعات ونسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي و في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ) 32 ثلاث مرات .
12- دوام النظر و المطالعة في كتب السيرة و التاريخ و التراجم ، فإنها مشحونة بكثير من أخبار العاملين المجاهدين ، أصحاب العزائم القوية والإرادات الصادقة التي تسرى عن النفس ، وتسليها وتولد فيها حب الاقتداء و التأسي وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول :
{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب }(1/15)
وعلى سبيل المثال حين يقرأ المسلم عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا فتر في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وارتفاعها قليلاً أخذ يدور في صحن بيته ، ويردد على نفسه :
وكيف تنام العين وهي قريرة ……ولم تدر أي المحلين تنزل
حين يقرأ المسلم ذلك تتحرك مشاعره وأحاسيسه فينشط ويجاهد نفسه ليكون ضمن قافلة العاملين المجاهدين .
13- تذكر الموت وما بعده من سؤال القبر وظلمته ووحشته ، و البعث و الحشر ... الخ فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدتها ، وينبهها من غفلتها ، فتنشط وتتابع السير ، وخير وسيلة لتذكر الموت الذهاب إلى القبور - ولو مرة كل أسبوع - وزيارتها للاعتبار بأحوال أهلها :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة )
= وجاء عن ابن السماك الواعظ : أنه كان قد حفر حفرة في بيته كأنها قبر ، وكلما أحس من نفسه فتوراً أو كسلاً ، نزل إلى هذه الحفرة واستلقى كأنما قد مات ، ثم يتخيل أنه قد سئل ، وأن أعماله قد قصرت به ، ويأخذ في الاستغاثة و الصراخ وطلب العودة قائلاً :
{ رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت ..}
وبعد طول استغاثة وطلب يجيب نفسه ، ها أنت يا ابن السماك قد أعطيت فرصة أخرى ، ثم يقوم من قبره ، وكأنما نشط من عقال .
14- تذكر الجنة و النار ، وما فيهما من النعيم و العذاب ، فإن ذلك مما يذهب النوم عن الجفون ، ويحرك الهمم الساكنة و العزائم الفاترة ، جاء عن ابن هرم بن حيان أنه كان يخرج في بعض الليالي ، وينادى بأعلى صوته :( عجبت من الجنة كيف ينام طالبها ، وعجبت من النار كيف نام هاربها ، ثم يقول : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً بياتاً وهم نائمون } )33 .
15- حضور مجالس العلم ، إذ العلم حياة القلوب وربما سمع العامل كلمة من عالم صادق مخلص ، فنشطته سنة كاملة ، بل الدهر كله وصدق الله الذي يقول :
{ إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } ، { وقل رب زدني علماً }(1/16)
16- أخذ هذا الدين بعمومه وشموله ، دون التخلي عن شئ منه ، فإن ذلك يضمن الدوام والاستمرار ، حتى تنقضي الحياة ونلقى الله .
17- محاسبة النفس و التفتيش فيها دائماً ، فإن ذلك مما يبصر بالعيوب في بدايتها ، فتسهل معالجتها :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .... }
الآفة الثانية
الإسراف
والآفة الثانية التي تصيب العالمين ولابد أن يتخلصوا منها وأن يتحصنوا ضدها إنما هي الإسراف ولكي يكون حديثنا عن إسراف العاملين واضحاً محدد المعلم سنجعله يدور على النحو التالي :
أولاً : معنى الإسراف
لغة : الإسراف في اللغة يطلق ويرد به :
(أ) ما نفق من غير طاعة .
(ب) أو التبذير ومجاوزة الحد .34
اصطلاحا : أما في اصطلاح الدعاة فيراد به مجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب واللباس والسكنى ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية .
ثانياً أسباب الإسراف :
وللإسراف أسباب وبواعث توقع فيه وتؤدى إليه ونذكر منه :
(1) النشأة الأولي :
فقد يكون السبب في الإسراف إنما هي النشأة الأولي أي الحياة الأولي ذلك أن المسلم قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ فما يكون منه سوى الإقتداء والتأسي إلا من رحم الله على حد قول القائل :
وينشئ ناشئ الفتيان منا ……على ما كان عوده أبوه
ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة إنصاف الزوجين والتزامهم بشرع الله وهديه :
{ وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ....}
{ ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ,......}
( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ).35
(2) السعة بعد الضيق :(1/17)
وقد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر ذلك أن كثيرا من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر وهم صابرون محتسبون بل وماضون في طريقهم إلى ربهم وقد يحدث أن تتغير الموازين وأن تتبدل الأحوال فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال فينقلب على النقيض تماما فيكون الإسراف أو التبذير .
ولعلنا بهذا ندرك بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فأبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها تهلككم كما أهلكتم ).36
( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء ).37
(3) صحبة المسرفين :
وقد يكون في الإسراف إنما هي صحبة المسرفين ومخالطتهم ذلك أن الإنسان غالبا ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله لاسيما إذ طالت هذه الصحبة وكان هذا الصاحب قوى الشخصية شديد التأثير .
ولعلنا بذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الصحاب أو الخليل ولقد مرت بنا بعض النصوص الدالة على ذلك أثناء الكلام عن أسباب الفتور .
(4) الغفلة عن زاد الطريق :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن زاد الطريق ذلك أن الطريق الموصلة إلى رضوان الله والجنة ليست طريقاً مفروشة بالحرير والورود والرياحين بل بالأشواك والدموع والعرق والدماء والجماجم وولوج هذه الطريق لا يكون بالترف والنعومة والاسترخاء وإنما بالرجولة والشدة ذلك هو زاد الطريق والغفلة عن هذا الزاد توقع المسلم العامل في الإسراف .(1/18)
ولعلنا بذلك ندرك سر حديث القرآن المتكرر المتنوع عن طبيعة الطريق : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }.
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين }.......إلى غير ذلك من الآيات.
(5) الزوجة والولد :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الزوجة والولد .
إذ قد يبتلى المسلم بزوج وولد دأبهم وديدنهم الإسراف وقد لا يكون حازما معهم فيؤثرون عليه وبمرور الأيام وطول المعاشرة ينقلب مسرفا مع المسرفين .
ولعلنا بذلك نفهم بعض الأسرار التي قصد إليها الإسلام حين أكد ضرورة انتقاء واختيار الزوجة وقد قدمت بعض النصوص الدالة على ذلك قريبا أثناء الحديث عن السبب الأول وحين أكد على ضرورة الاهتمام بتربية الولد والزوجة .
{ يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }
( ألا كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤل عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤل عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤلة عن عنهم ......الحديث ). 38
(6) الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبت ولا تستقر على حال واحد بل هي متقلبة تكون لك اليوم وعليك غدا وصدق الله العظيم :{ وتلك الأيام نداولها بين الناس }.
والواجب يقتضي أن نكون منها على وجل وحذر : نضع النعمة في موضعها وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم من مال وصحة ووقت إلى الغد أو بعبارة أخرى : ندخر من يوم إقبالها ليوم إدبارها .(1/19)
تلك طبيعة الحياة الدنيا وهذا ما ينبغي أن تكون والغفلة عن ذلك قد توقع في الإسراف .
(7) التهاون مع النفس :
وقد يكوون السبب في الإسراف التهاون مع النفس ذلك أن النفس البشرية تنقاد وتخضع ويسلس قيادها بالشدة والحزم وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين وعليه فإن المسلم العامل إذا تهاون مع نفسه ولبى كل مطالبها أوقعته لا محالة في الإسراف .
ولعلنا بذلك نفهم السر في تأكيد الإسلام على ضرورة المجاهدة للنفس أولا وقبل كل شئ :
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.
{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }.
{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }.
(8) الغفلة عن شدائد وأهوال يوم القيامة :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الشدائد وأهوال يوم القيامة ذلك أن يوم القيامة يوم فيه من الشدائد والأهوال ما ينعقد اللسان وتعجز الكلمات عن الوصف والتصوير وحسبنا ما جاء في كتاب الله عز وجل ـ وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا اليوم.
ومن ظل متذكرا ذلك متدبرا فيه قضى حياته غير ناعم بشيء في هذه الحياة الدنيا أما من غفل عن ذلك فإنه يصاب بالإسراف والترف بل ربما ما هو أبعد من ذلك .
ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دوام خشيته صلى الله وعيه وسلم لربه وقلة تنعمه ونيله من الحياة الدنيا ,
يقول صلى الله عليه ويسلم :
( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ).39
وفي رواية أخرى :
( وما تلذذتم بالنساء على الفراش ).
(9) نسيان الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هو نسيان الواقع الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص :(1/20)
ذلك أن البشرية اليوم تقف على حافة الهاوية ويوشك أن تتزلزل الأرض من تحتها فتسقط أو تقع في تلك الهاوية وحينئذ يكون الهلاك أو الدمار أما المسلمون فقد صاروا إلى حال من الذل والهوان يرثى لها ويتحسر عليها ومن بقى مستحضرا هذا الواقع وكان متبلد الحس ميت العاطفة فإنه يمكن أن يصاب بالترف والإسراف والركون إلى زهرة الدنيا وزينتها .
ولعلنا بذلك ندرك شيئا من أسرار حزنه واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر البشرية قبل البعثة وبعدها حتى عاتبه ربه ونهاه عن ذلك :
{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } .
{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين }.
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }.
(10) الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف :
وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف ذلك أن للإسراف آثاراً ضارة وعواقب مهلكة على نحو الذي سنعرض له بعد قليل .
ولقد عرف من طبيعة الإنسان :أنه غالبا ما يفعل الشيء أو يتركه إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه أما إذا غفل عن هذه الآثار فإن سلوكه يختل وأفعاله تضطرب فيقع أو يسقط فيما لا ينبغي ويهمل أو يترك ما ينبغي .
وعليه فإن المسلم العالم إذا غفل عن الآثار المترتبة على الإسراف يكون عرضة للوقوع في الإسراف .
ولعلنا بذلك نفهم السر في اهتمام الإسلام بذكر الحكم والمقاصد المنوطة بكثير من الأحكام والتشريعات .
ثالثاً : آثار الإسراف :
هذا وللإسراف آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي وإليك طرفا من هذه الآثار :
على العاملين :
فمن آثاره على العاملين :
(1) علة البدن :(1/21)
أي أن الأثر الذي يتركه الإسراف : إنما يكمن في علة البدن ذلك أن هذا البدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص تطرقت إليه العلة وحين تتطرق إليه العلة فإنه يقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات والمسؤليات الملقاة على عاتقه أو المنوطة به
( 2 ) قسوة القلب :
والأثر الثاني الذي يترتب على الإسراف : إنما هو قسوة القلب ذلك أن هذا القلب يرق ويلين بالجوع أو بقلة الغذاء ويقسو ويجمد بالشبع أو بكثرة الغذاء سنة الله { ولن تجد لسنة الله تحويلا }وحين يقسو القلب أو يجمد فإن صاحبه ينقطع عن البر والطاعات ، والويل كل الويل لمن كانت هذه حالة { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } وحتى لو جاهد المسلم نفسه وقام بالبر والطاعات فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة بل لا يجنى من ورائها سوى النصب والتعب (... ورب قائم حظه من قيامه السهر )
( 3 ) خمول الفكر :
والأثر الثالث الذي يترتب على الإسراف إنما هو خمول الفكر ذلك أن نشاط الفكر وخموله مرتبط بعدة عوامل ، البطنة أحدها ، فإذا خلت البطنة نشط الفكر ، وإذا امتلأت اعتراه الخمول حتى قالوا قديما : ( إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة )
ويوم أن يصاب الفكر بالخمول يوم أن يحرم المسلم الفقه والحكمة وحينئذ يفقد أخص الخصائص التي تميزه عن باقي المخلوقات .
(4) تحريك دواعي الشر والإثم :(1/22)
والأثر الرابع الذي يخلقه الإسراف إنما هو تحريك دواعي الشر والإثم ذلك أن الإسراف يولد في النفس طاقة ضخمة ووجود هذه الطاقة من شأنه أن يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس وحينئذ لا يؤمن على المسلم العامل الوقوع في الإثم والمعصية إلا من رحم الله ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على الصوم لمن لم يكن قادرا على مؤن النكاح إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )
( 5 ) الانهيار في ساعات المحن والشدائد :
والأثر الخامس الذي يتركه الإسراف إنما هو الانهيار في ساعات المحن والشدائد ذلك أن المسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف فلم يألف المحن والشدائد ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد فيضعف وينهار لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد إلا من جاهد نفسه وكان صادقا مخلصا في هذه المجاهدة { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } .
(6) عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين :
والأثر السادس الذي يتركه الإسراف إنما هو عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين ذلك أن الإنسان لا يرعى الآخرين ولا يهتم غالبا إلا إذا أضناه التعب وعصبته الحاجة كما أثر عن يوسف عليه السلام : أنه لما صار على خزائن الأرض ما كان يشبع أبدا فلما سئل عن ذلك قال : أخاف أن شبعت أن أنسى الجياع .
والمسرف مغمور بالنعمة من كلا جانب فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين .
( 7) المساءلة غدا بين يدي الله :
والأثر السابع المترتب على الإسراف إنما هي المساءلة غدا بين يدي الله كما قال سبحانه { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }.
ومجرد الوقوف بين يدي الله للمساءلة والمناقشة عذاب كما قال صلى الله عليه وسلم :(... من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ).
( 8) الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام :(1/23)
والأثر الثامن الذي يتركه الإسراف إنما هو الوقوف تحت وطأة الكسب الحرام ذلك أن المسرف قد تضيق به أو تنتهي موارده فيضطر تلبية وحفاظا على حياة الترف والنعيم ?التي ألفها إلى الواقع والعياذ الله في الكسب الحرام وقد جاء في الحديث :( كل جسد نبت من سحت أي من حرام فالنار أولى به ).
(9) أخوة الشياطين :
والأثر التاسع يتركه الإسراف هي أخوة الشياطين كما قال سبحانه وتعالى :{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا }.
وأخوة الشياطين تعنى الصيرورة والانضمام إلى حزبهم وإن ذلك لهو الخسران المبين والضلال البعيد { ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون } .
(10) الحرمان من محبة الله :
والأثر العاشر الذي يتركه الإسراف إنما هو الحرمان من محبة الله كما قال سبحانه :{.........إنه لا يحب المسرفين }.
على العمل الإسلامي :
وأما آثاره على العمل الإسلامي فتنحصر في :
سهولة القضاء عليه أو على الأقل تأخيره إلى الوراء عشرات السنين نظرا لأن السلاح الوحيد الذي يواجه به المسلمون أعداء الله ألا وهو الإيمان إنما يتأثر أشد ما يكون التأثير بالإسراف والترف والراحة والنعيم .
تلك هي آثار الإسراف على العاملين وعلى العمل الإسلامي وقد مرت بنا أثناء الحديث عن أسباب الفتور عدة نصوص من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف تتضمن إجمالا لكل هذه الآثار .
رابعاً : الطريق لعلاج الإسراف :
ومادامت هذه آثار وعواقب الإسراف وتلك أسبابه وبواعثه فإن طريق العلاج تتخلص في :
(1) التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف فإن ذلك من شأنه أن يحمل على تدارك الأمر والتخلص من الإسراف قبل فوات الأوان .
(2) الحزم مع النفس وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها وحملها على الأخذ بكل شاق وصعب من قيام ليل إلى صوم تطوع إلى صدقة إلى مشى على الأقدام إلى حمل الأثقال ....ونحو ذلك .(1/24)
(3) دوام النظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مليئة بالتحذير من الإسراف بل ومجاهدة النفس والأهل والعيش على الخشونة والتقشف إذ يقول صلى الله عليه وسلم :
( والمؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبع أمعاء ) وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضافه ضيف وهو كافر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها ثم أمر بأخرى فلم يستتمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والمؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبع أمعاء ) .
ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ).
وإذ تحكى أم عائشة رضى الله تعالى عنها لعروة بن الزبير بن أختها فتقول ( إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، فيقول لها عروة ، ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر و الماء ، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار ، كان لهم منائح ، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقيناه ) .
وإذ تقول أيضاً : ( كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف )
( ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ) 40
بل كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم ارزق آل محمد قوتاً )41
وأن المسلم العامل لدين الله حين يقف على ذلك ، وعلى غيره تتحرك مشاعره ،وتتأجج عواطفه فيترسم خطاه صلى الله عليه وسلم ويسير على هديه اقتداء وتأسياً وطمعاً في معيته في الجنة :(1/25)
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليماً } .
4- دوام النظر في سيرة سلف هذه الأمة ، من الصحابة المجاهدين و العلماء العاملين فقد اقتدى هؤلاء به صلى الله عليه وسلم فكان عيشهم كفافاً ، ولا هم لهم من الدنيا إلا أنها معبر أو قنطرة توصل للآخرة .
دخل عمر بن الخطاب على ابنه عبد الله - رضى الله تعالى عنهما - فرأي عنده لحماً ، فقال : ما هذا اللحم ؟ قال : أشتهيه قال : وكلما اشتهيت شيئاً أكلته ؟ كفي بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه )42
وأتى سلمان الفارسي أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنهما - في مرضه الذي مات فيه فقال : أوصيني يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو يكر : ( إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا يأخذن منها أحد إلا بلاغاً )43
وكتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضى الله عنهما - وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه فوقع في كتابه :
( ابن ما يسترك من الشمس ويكنك من الغيث ، فإن الدنيا دار بلغة )44
وحكى ميمون أن رجلاً من بنى عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما - استكساه إزاراً قائلاً : قد تخرق إزاري ، فقال له عبد الله :( اقطع إزارك ثم اكتسه ) فكره الفتى ذلك فقال له :0 ويحك اتق الله ولا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم وعلى ظهورهم ) ......
إلى غير ذلك من الأخبار المودعة في بطون الكتب المنثورة هنا وهناك .
وأن المسلم العامل حين يقف على هذه الأخبار يتحرك من داخله فيتولد عنه حب السير على نفس المنهج فتراه يطرح الترف و السرف ويعيش على الخشونة و التقشف ليكون ناجياً مع الناجين .(1/26)
5- الانقطاع عن صحبة المسرفين ، مع الارتماء في أحضان ذوى الهمم العالية و النفوس الكبيرة ، الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم ، وكرسوا كل حياتهم من أجل اسئناف حياة إسلامية كريمة ، تصان فيها الدماء والأموال والأعراض ، ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض ، غير مبالين بما أصابهم ويصيبهم في ذات الله ، فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر السرف والدعة و الراحة ، بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى ، لنكون ضمن قافلة المجاهدين وفي موكب السائرين .
6- الاهتمام ببناء شخصية الزوجة و الولد فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر الترف ، وأن يحول دون التورط فيها مرة أخرى ، بل ويعين على سلوك طريق الجادة حين تنقضي هذه الحياة بأشواكها وآلامها ونرد إلى ربنا فنلقى حظنا هناك من الراحة و النعيم المقيم .
7- دوام التفكر في الواقع الذي تحياه البشرية عموماً و المسلمون على وجه الخصوص ، فإن ذلك يساعد على التخلص من كل مظاهر الإسراف بل ويحول دون التلذذ أو التنعم بشيء من هذه الحياة ، حتى يمكن لمنهج الله وترفع الراية الإسلامية من جديد .
8- دوام التفكر في الموت ، وما بعده من شدائد وأهوال ، فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف و الترف ، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء .
9- تذكر طبيعة الطريق ، وما فيها من متاعب وآلام ، وأن زادها ما يكون بالإسراف والاسترخاء و الترف بل بالخشونة و الحزم و التقشف ، فإن ذلك له دور كبير في علاج الإسراف ومجاهدة النفس و القدرة على اجتياز وتخطى المعوقات و العقبات .
الآفة الثالثة
الاستعجال
والآفة الثالثة التي يصاب بها بعض العاملين ولابد أن يحذروها وأن يتخلصوا منها إنما هي(الاستعجال) ولكي يكون لدنيا التصور الدقيق عن هذه الآفة سنتناولها على النحو التالي :
أولاً : معنى الاستعجال :(1/27)
لغة : الاستعجال والإعجال كلها بمعنى واحد وهو : الاستحثاث وطلب العجلة أي السرعة أو استعجل الرجل الرجل حثه ، وأمره أن يعجل في الأمر ومنه قوله تعالى { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم } .
أي لو عجل الله للناس الشر إذا دعوا به على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم وأولادهم واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير فيسألونه الخير والرحمة لقضى إليهم أجلهم فماتوا ).
اصطلاحا :
ومعناه في اصطلاح الدعاة إرادة تغيير الواقع الذي يحياه المسلمون اليوم في لمحة أو في أقل من طرفة عين دون نظر في العواقب ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ، ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب و الوسائل .
بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها أو ينامون ليلة ثم يستيقظون فإذا بهم يرون كل شئ عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم : زالت الجاهلية من طريقهم ، ورفعت الراية الإسلامية من جديد ، ووجد كل إنسان إنسانيته ، وخلصت الفطرة من كل ما يكدرها ويعكر صفوها.
ثانياً : نظرة الإسلام إلى الاستعجال :
ولما كانت العجلة والاستعجال من طبيعة الإنسان بشهادة خالقه وصانعه ، ومدبر أمره { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } ، { خلق الإنسان من عجل ... } فإن الإسلام ينظر إلى الاستعجال نظرة عدالة وإنصاف ، فلا يحمده بالمرة ، ولا يذمه بالمرة ، وإنما يحمد بعضه ، ويذم البعض الآخر :
فالمحمود منه : ما كان ناشئاً عن تقدير دقيق للآثار و العواقب ، وعن إدراك تام للظروف و الملابسات ، وعن حسن إعداد وجودة ترتيب .
ولعل هذا النوع من الاستعجال هو المعنى في قوله تعالى حكاية عن موسى - عليه السلام - { وما أعجلك عن قومك يا موسى ؟ قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى } إذ الظروف مناسبة و الفرصة مواتية و العاقبة محمودة و النفس صافية مشرقة فما الذي يحمل موسى على التواني والتأخير ؟ .(1/28)
المذموم منه : ما كان مجرد ثورة نفسية خالية من تقدير العاقبة ومن الإحاطة بالظروف و الملابسات ، ومن أخذ الأهبة والاستعداد .
وهذا النوع الأخير هو الذي عناه رسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لخباب بن الأرت - رضى الله تعالى عنه- وقد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو ما يلقاه هو وإخوانه من الأذى والاضطهاد ، ويطلب منه أن يستنصر ربه ، وأن يدعوه قال له :( كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق اثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )45 وهو الذي نعنيه هنا أيضاً .
ثالثاً : مظاهر الاستعجال :
والاستعجال له مظاهر عديدة منها :
1- ضم أشخاص إلى قافلة الدعاة قبل الاستيثاق، و التأكد من مواهبهم وقدراتهم واستعداداتهم .
2- الارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم واستواء شخصيتهم .
3- القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة ولا تفيدها .
رابعاً : آثار الاستعجال
وكل هذه المظاهر المذكورة آنفاً ، وغيرها تكون لها آثار ، وعواقب
1- فهي قد تؤدى إلى الفتور على النحو الذي شرحنا في الآفة الأولي ، وقليل دائم خير من كثير منقطع :( .... وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ ) .
2- وقد تؤدى إلى موتة غير كريمة ، وذلك حين لا يكون من ورائها عائد أو ثمرة ، وهنالك تكون المسئولية و المعاتبة بين يدي الجبار الأعلى ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ، والأمر يومئذٍ لله و القصة التالية برهان عملي لما نقول :(1/29)
( كانت الحركة الإسلامية بمصر في نهاية الثلاثينات تعيش أزهي أيامها فها هي : تشق طريقها بين جميع البيئات ، والأوساط كما تشق السفينة البحر الهادئ و الريح رخاء وها هو صوتها مسموعاً في جميع القضايا سواء على المستوى المحلى أو على المستوى العالمي ، في هذه الأثناء وقف أحد أبنائها هو :( أحمد رفعت ) يعترض على كل ما تتخذه الحركة من أساليب ويدعو إلى أساليب أخرى .
ولم يكن في هذا ما يلفت النظر ابتداء ، فلكل عضو في الحركة الحق في نقد ما يرى أنه يستحق النقد ، ثم تكون مناقشة بين الأطراف تنتهي إلى الأصوب و الطريق الأقوم بيد أن الذي استرعى الانتباه ، ولفت النظر هو أن هذه الدعوة لقيت آذاناً صاغية واستجابة سريعة لدى كثير من شباب الحركة ، ولا نريد أن نخوض الآن في البحث عن أسباب ذلك ، وإنما الذي يعنينا هو أنه عقد لقاء لمعرفة اعتراضات ، ومطالب أحمد رفعت وانحصرت في ثلاثة :
الأول : أنه يرى أن الحركة تجامل الحكومة وتتبع سياسة اللف و الدوران ، و الواجب يقتضي مواجهة الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن الكريم :{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
الثاني : أنه يرى أن الحركة لم تتخذ أي إجراء عملي في موضوع سفور المرأة وتبرجها ، مكتفية بالنصيحة و الكلام ، و الواجب يقتضي أن توزع الحركة نفسها في شوارع القاهرة ومع كل واحد من أبنائها زجاجة حبر ، وكلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ، ألقى عليها من هذا الحبر ، حتى يلطخ ملابسها ، فيكون هذا رادعاًً لها .
الثالث : أنه يرى أن وقوف الحركة في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية لهم وجمع المال إنما هو تقصير في حق هذه القضية ، وقعود عن الجهاد ، وتخلف عن المعركة ، وعلى جميع أبناء الحركة أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من المخالفين.
وتصدى بعض الحاضرين للرد على ( أحمد ) بشأن المطلبين الأولين فقال :(1/30)
- إن مواجهة الحكومة يجب ألا يكون إلا بعد توفر عاملين :
أ- توعية الشعب بالحقائق الإسلامية التي لا زال حتى اليوم خالي الذهن منها لا سيما علاقة الإسلام بالحكم وعلاقة الإسلام بالتشريع .
ب- اكتساب الحركة قوة شعبية تستند إلى مواجهة أي ظروف تتعرض لها ولا زالت الحركة حتى اليوم حركة وليدة في حاجة إلى تثبيت دعائمها وبسط لرواقها .
- أما موضوع المرأة فكان ردهم عليه هو أننا لو أخذنا باقتراح ( أحمد ) لكانت النتيجة في اليوم الأول للأخذ بهذا الأسلوب أن يلقى القبض على جميع أبناء الحركة ، ويجرى معهم التحقيق ، ويودعوا السجون حتى يحاكموا أمام القضاء الذي يقضى بالسجن و الغرامة ، وإذا قضوا العقوبة وعادوا إلى نفس الأسلوب ، فإن العقوبة تضاعف ، وما دامت التي لطخت ثيابها ستعوض ثمن هذا الثياب مضاعفاً من جيوب أبناء الحركة ، ثم ترى الذي لطخ ثيابها قد أودع السجن ، فما الذي يمنعها من لبس ما كانت تلبسه ، وإذن فلا جدوى من وراء هذا الأسلوب في ردع المتبرجات السافرات .
- وأما موضوع فلسطين ، فقد أجاب عنه كتاب سماحة مفتى فلسطين السيد أمين الحسيني ردّ به على الحركة الإسلامية في مصر ، ومضمونه :" أن المجهود الذي تبذله الحركة في الدعاية لقضية فلسطين في مصر هو القدر المطلوب و الذي نحن في أمس الحاجة إليه ، ولا يستطيعه غيرها ، ولسنا في حاجة إلى متطوعين " .
ورغم وضوح الجواب فقد أصرَّ ( أحمد ) على موقفه ، وزاد عدد مؤيديه ، ووصلت بهم الحال إلى أن صاروا يسبون في الحركة الإسلامية و القائمين عليها دونما حياء أو خجل ، ولما قاطعه أبناء الحركة ، وانفض من كانوا حوله ورأي في نفسه عزلة تامة قرر السفر إلى فلسطين لينضم إلى المجاهدين في محاربة الإنجليز و اليهود .(1/31)
وهنا أشفقت عليه الحركة وأرسلت له تطلب منه الحضور لتجهزه بالمال و السلاح ثم تسلمه إلى مجموعة من المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يتصلون بهم حتى يؤمنوا له الطريق ، لأن المجاهدين يشكون في كل من يرونه في طريقهم - ما داموا لا يعرفونه - ويعدونه جاسوساً عليهم ويقتلونه ، فرفض وأصر على الذهاب وحده ، وذهب فعلاً ولقي مصرعه كما كانت الحركة تتوقع - على أيدي المجاهدين ) .
إن هذه القصة تبين لنا عاقبة الحماس مع السطحية في فهم كتاب الله ،وتاريخ الدعوة الإسلامية ، واقع الحياة ، إن عاقبة ذلك إنما هي الاستعجال وآثار الاستعجال قد تكون موتاً غير كريم ، كما وقع لأحمد رفعت .
فإنه لم يكن له - قبل الانضمام إلى الحركة - أدنى معرفة بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالسيرة ولا بالتاريخ الإسلامي ، وحين اقتنع بالفكرة الإسلامية انقض عليها بحماس بالغ ، وقبل أن يتزود بكل معالم الطريق اندفع اندفاعاً غير بصير ، فاصطدم وتحطم ، وكاد يحطم الحركة معه لولا العناية الإلهية ثم حكمة القائمين عليها وإخلاصهم .
3- تعطيل العمل ، أو على الأقل الرجوع به إلى الوراء عشرات السنين وذلك فيه ما فيه من استمرار تدنيس الحياة و المضي في الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض وزيادة وضع الأحجار و العقبات على الطريق .
خامساً أسباب الاستعجال :
وإذا كانت هذه آثار الاستعجال ، فلابد من معرفة الأسباب التي تؤدى إليه لتكون خطوة على طريق العلاج ، فما هي إذن الأسباب التي توقع في الاستعجال ؟ حقيقة هنالك أسباب كثيرة توقع في الاستعجال نخص منها :
1- الدافع النفسي :(1/32)
فقد يكون الدافع النفسي هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن الاستعجال طبيعة مركوزة في فطرة الإنسان كما قال المولى تبارك وتعالى :{ خلق الإنسان من عجل ... } ، { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } ، { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم .... } وإذا لم يعمل الداعية على ضبط نفسه وإلجامها بلجام العقل و التخفيف من غلوائها فإنها تدفعه لا محالة إلى الاستعجال .
2- الحماسة أو الحرارة الإيمانية :
وقد يكون الحماس أو الحرارة الإيمانية هي السبب في الاستعجال ، ذلك أن الإيمان إذا قوى ، وتمكن من النفس ، ولَّد طاقة ضخمة ، تندفع - ما لم يتم السيطرة عليها وتوجيهها - إلى أعمال تؤذى أكثر مما تفيد وتضر أكثر مما تنفع .
ولعل هذا هو السر في أن الله سبحانه وتعالى تولى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم و المؤمنين في المرحلة المكية إلى الصبر و الجلد ، وقوة التحمل فقال { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً } ، { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } ، { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً } ... إلى غير ذلك من الآيات .
3- طبيعة العصر :
وقد تكون طبيعة العصر هي الباعث على الاستعجال ، ذلك أننا نعيش في عصر يمض بسرعة ويتحرك فيه كل شئ بسرعة ، فالإنسان يكون هنا وبعد ساعات يكون في أقصى أطراف الأرض ، بسبب التقدم في وسائل المواصلات ، والإنسان يضع أساس بيت اليوم ويسكنه غداً بسبب التمكن من وسائل العمارة الحديثة ، وقس على ذلك أشياء كثيرة في حياة الإنسان ، فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال لمواكبة ظروف العصر و التمشي معه .
4- واقع الأعداء :(1/33)
وقد يكون واقع الأعداء هو السبب في الاستعجال ، ذلك أنه ما يمر من يوم الآن إلا وأعداء الله يحكمون القبضة ويمسكون بزمام العالم الإسلامي ، ويلاحقون العمل الإسلامي في كل مكان لإسكات كل صوت حر نزيه ، وحسبنا أن إسرائيل كانت بالأمس فكرة في الأذهان فإذا بها اليوم واقع يحكم القبضة على جزء غال عزيز من ديار الإسلام هو فلسطين ، وينطلق منه إلى لبنان ، وسائر بلدان العالم العربي ليحقق حلم اليهود :( إسرائيل من النيل إلى الفرات ) فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال ، قبل أن يتفاقم الخطر ويصعب الخلاص .
5- الجهل بأساليب الأعداء :
وقد يكون الجهل بأساليب الأعداء هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن أعداء الله لهم أساليبهم الخبيثة ، و المتنوعة في الوصول إلى قلب العالم الإسلامي ، وإحكام القبضة عليه ، وأخطر هذه الوسائل وأشدها دهاء ومكراً أن يواجه المسلمين نفر من بينهم يعلنون الإسلام ويبطنون الكفر ، و الحقد و الضلال ، إن مثل هذا الأسلوب من الكيد يحول دون التعبئة العامة في الأمة ، وما أكثر هؤلاء ، لمواجهة الشر أو الباطل وإزاحته من الطريق ، بل إنه ليجعل العامة معهم وفي صفهم ولقد لجأ أعداء الله لمثل هذا الأسلوب ، بعد أن جربوا زماناً طويلاً ، ومرات عديدة ، أسلوب المواجهة الصريحة السافرة ، ورأوا أنه لن يغنى عنهم من الله شيئاً ، وأنه يحمل المسلمين حتى المفرطين و المستهترين منهم على التصدي وبذل الغالي و الرخيص ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
فلعل الجهل بمثل هذا الأسلوب وغيره من الكيد يكون سبباً من الأسباب التي توقع في الاستعجال .
6- شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها :(1/34)
قد يكون شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن الإنسان لا يتحرك حركة الآن إلا وقد أحاطت به المنكرات ، ولفته من كل جانب ، وواجب المسلم حين يرى ذلك أن يعمل على تغيير المنكر وإزالته ما في ذلك شك ، لئلا تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد ، قال تعالى :{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ... } ، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز }.
وقال - صلى الله عليه وسلم - :
( من رأي منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) 46
( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ) بيد أنه ليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور ، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدى إلى منكر أكبر منه فإن أدى إلى منكر أكبر منه وجب التوقف بشأنه ، مع الكراهة القلبية له ، ومع مقاطعته ، ومع البحث عن أنجح الوسائل لإزالته ، والأخذ بها ، ومع العزم الصادق على الوقوف في أول الصف حين تتاح فرصة التغيير .
وفي السنة و السيرة شواهد على ذلك :
فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث والأصنام تملأ جوف الكعبة ، وتحيط بها وتعلوها من كل جانب ، ثم لا يقبل على إزالتها بالفعل إلا يوم فتح مكة في العام الثامن من الهجرة ، أي أنها بقيت منذ بعث إلى يوم تحطيمها إحدى وعشرين سنة .(1/35)
ليقينه صلى الله عليه وسلم بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم ، قبل أن يحطمها من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع ، وأشنع فيعظم الإثم ، ويتفاقم الضرر ، لذلك تركها ، وأقبل يُعِد الرجال ، ويزكى النفوس ، ويطهر القلوب حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة ، ويزيل الأصنام مردداً :{ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } .
وها هو - صلى الله عليه وسلم يخاطب أم المؤمنين عائشة قائلاً :
( ألم ترى أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ ، قال : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت )47
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا توقف في شأن تجديد الكعبة ، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفاً من أن يؤدى ذلك إلى منكر أكبر ، وهو الفرقة و الشقاق ، بدليل قوله في رواية أخرى :( .... ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم ... )
بل إن المسلم حين يسكت عن منكر خوفاً من أن يؤدى إلى منكر أكبر ، مع الرفض القلبي و المقاطعة ومع البحث عن الأفضل السبل للتغيير ، ومع العزم الصادق على أنه حين تتاح الفرصة لن يكون هناك توان ولا تباطؤ ، لا يكون آثماً بذلك وصدق الله الذي يقول :
{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ... } ، { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، وأنفقوا خيراً لأنفسكم } .
فإذا نسى العامل أو الداعية فقه أسلوب تغيير المنكر وإزالته وقع - لا محالة - في الاستعجال لظنه ، أو لتصوره أن الأمر يجب تنفيذه فوراً ، وأنه آثم ومذنب إن لم يقم بذلك .
7- العجز عن تحمل المشاق ، ومتاعب الطريق :(1/36)
وقد يكون العجز عن تحمل المشاق ومتاعب الطريق هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن بعضاً من العاملين يملك جرأة وشجاعة وحماساً لعمل وقتي ، ولو أدى به إلى الموت ، لكنه لا يملك القدرة على تحمل مشاقّ ومتاعب الطريق لزمن طويل ، مع أن الرجولة الحقة هي التي يكون معها صبر ، وجلد ، وتحمل ، ومثابرة ، وجد ، واجتهاد حتى تنتهي الحياة .
لذلك تراه دائماً مستعجلاً ليجنب نفسه المشاق و المتاعب ، وإن تزرَّع بغير ذلك .
وقد أفرزت الحركة الإسلامية في العصر الحاضر صنفاً من هذا ، عجز عن التحمل والاستمرار فاستعجل وانتهي ، وصنفاً آخر أوذي في الله عشرات السنين فصبر ، وتحمل واحتسب لأن الظروف غير ملائمة ، و الفرص غير مواتية ، و العواقب غير محمودة و المقدمات ناقصة أو قاصرة ، وكانت العاقبة أن وفقهم الله وأعانهم فثبتت أقدام على الطريق ولا تزال .
8- الظفر ببعض المقدمات ، أو ببعض الوسائل مع عدم تقدير العواقب :
وقد يكون الظفر ببعض المقدمات أو ببعض الوسائل مثل العدد البشرى ، ومثل الأدوات مع عدم تقدير العواقب ، من زيادة تسلط أعداء الله ومن حدوث فتنة وردة فعل ، لدى جماهير الناس قد يكون كل ذلك هو السبب في الاستعجال .
ولعل هذا هو السر في أمر الإسلام بالصبر على جور الأئمة ، ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح و الخروج السافر عن الإسلام .
يقول - صلى الله عليه وسلم - :
( من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية )48
ويقول عبادة بن الصامت - رضى الله تعالى عنه -دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه ، فقال فيما أخذ علينا :( أن بايعنا على السمع و الطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )49 .(1/37)
بل حتى الكفر البواح لا يكون معه خروج إلا إذا أمنت الفتنة ، وتوفرت القدرات والإمكانات وهذا لا يمنع أن ننكر عليهم باللسان وبالقلب.
يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرح حديث عبادة :
" معنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم ، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين).
ونقل ابن التين عن الداودى قال :
( الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب ، وإلا فالواجب الصبر ) 50 .
9-عدم وجود برنامج أو منهاج يمتص الطاقات ، ويخفف من حدتها وغلوائها :
وقد يكون عدم وجود برنامج أو منهاج يمتص الطاقات ويخفف من حدتها وغلوائها هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن نفس الإنسان التي بين جنبيه إن لم يشغلها بالحق شغلته بالباطل .
ولعل ذلك هو السر في أن الإسلام غمر المسلم ببرنامج عمل في اليوم و الليلة ، وفي الأسبوع وفي الشهر و في السنة وفي العمر كله بحيث إذا حافظ عليه كانت خطوته دقيقة وكانت جهوده مثمرة .
ولعله السر أيضاً في تشديد الإسلام على الأئمة أن يستفرغوا كل ما في وسعهم وكل ما في طاقتهم لاستنباط ما يملأ حياة المسلمين بالعمل الجاد المثمر الخالي من الضر و الشرر وإلا حرموا الجنة .
يقول - صلى الله عليه وسلم - " ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة "51
10- العمل بعيداً عن ذوى الخبرة و التجربة :
وقد يكون العمل بعيداً عن ذوى الخبرة و التجربة هو السبب في الاستعجال ، ذلك أن الإنسان يولد ولا علم له بشيء في هذه الحياة كما قال سبحانه : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً .... }(1/38)
ثم يبدأ - عن طريق ما وهبه الله من السمع والأبصار والأفئدة - التعلم ، و التعلم لا يكون من الكتب وحدها ، بل يتم أيضاً بواسطة التجربة ، و الممارسة ، و العامل الواعي هو الذي ينتفع بخيرات وتجارب من سبقوه على الطريق ليوفر على نفسه الجهد ، و الوقت و التكاليف ، أما إذا شمخ بأنفه ونأي بنفسه وبدأ العمل بعيداً عن ذوى الخبرة و التجربة فستكون له أخطاء ، وقد يكون الاستعجال واحداً منها .
ولعل السر في وصية الإسلام باحترام العلماء وكبار السن الصالحين وذوى الفضل حيث يقول - صلى الله عليه وسلم - :" يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً ولا يؤمَّن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه "52
11- الغفلة عن سنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع :
وقد تكون الغفلة عن سنن الله في الكون وفي النفس وفي التشريع هي السبب في الاستعجال ، ذلك :
أن من سنن الله في الكون : خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وخلق الإنسان و الحيوان و النبات على مراحل مع أنه قادر على خلق كل ذلك وغيره بكلمة " كن " { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } .
ومن سنن الله في النفس : أنها لا تضحي ولا تبذل ولا تعطى إلا إذا عولجت من داخلها ، واقتلعت منها كل الحظوظ ، وأدركت قيمة وفائدة التضحية و البذل و العطاء { قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها } وذلك لا يتم بسهولة ويسر ، وإنما لابد له من جهد ووقت وتكاليف .
ومن سنن الله في التشريع : أن الخمر حرمت على مراحل وكذلك الربا ، وإذا نسى العامل أو الداعية هذه السنن كانت السرعة و العجلة ، أما حين تظل ماثلة أمام عينيه ، حاضرة في ذهنه وفؤاده ، فإنها تهدئ من نفسه ، وتضبط حركته ، وتبصره بموضع قدميه .
12- نسيان الغاية التي يسعى إليها المسلم :(1/39)
وقد يكون نسيان الغاية التي يسعى إليها المسلم هي السبب في الاستعجال ، ذلك أن المسلم يسعى أساساً لتحقيق مرضات الله ، وهذا إنما يتحقق بالتزام منهجه ، وعدم التفريط فيه ، و الثبات على عليه إلى يوم اللقاء قدر الطاقة مع الإخلاص { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } ، { فاتقوا الله ما استطعتم ... }
وتلك مقدمات يسأل عنها المسلم بين يدي الله يوم القيامة وعليها تكون النجاة أو عدم النجاة أما النتائج من التمكين أو عدم التمكين فلا يسأل عنها ، لأنها بيد الله يأتي بها حيث يشاء وكما يشاء .
فإن حدث ونسى العامل أو الداعية هذه الحقيقة فإنه يقع لا محالة في الاستعجال .
13- الغفلة عن سنة الله مع العصاة و المكذبين :
وقد تكون الغفلة عن سنة الله مع العصاة و المكذبين هي السبب في الاستعجال .
ذلك أن من سنة الله مع العصاة و المكذبين ، الإمهال ، وعدم الاستعجال { وأملي لهم إن كيدي متين } ، { وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } .
ومن سننه كذلك معهم : أنه إذا أخذهم لم يفلتهم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة * إن أخذه أليم شديد } ، { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } .
ومن سنته أيضاً : أن أيامه ليست كأيامنا هذه {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون }.
وإذا غفل العامل أو الداعية عن هذه السنن استعجل قائلاً: نناجزهم قبل أن يستفحل شأنهم، وقبل أن يمسكوا بزمام الأمور، فتستحيل إزاحتهم بعد ذلك من طريق الناس .
14- صحبة نفر من ذوى العجلة وعدم التأني :(1/40)
وقد تكون صحبة نفر من ذوى العجلة وعدم التأني هي السبب في الاستعجال ، ذلك أن الطبع يعدى ، و المرء على دين خليله ، وإذا لم يحسن المسلم اختيار صاحبه ، فإنه يقتدي به لا محالة في ما يعتنق وفي كل ما يسلك - سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية - وقد يكون من بين ذلك الاستعجال ، ولعل هذا هو سر تأكيد الإسلام على ضرورة مراعاة الدقة والأمانة في اختيار الصديق و الصاحب ، وقد قدمنا طرفاً من الأحاديث الدالة على ذلك أثناء الحديث عن " الفتور" .
تلك هي الأسباب التي توقع في الاستعجال .
سادساً : طريق علاج الاستعجال :
وما دمنا قد وقفنا على أهم الأسباب التي تؤدى إلى الاستعجال ، فإنه صار من السهل علينا أن ندرك طريق العلاج وتتلخص في :
1- إمعان النظر في الآثار و العواقب المترتبة على الاستعجال ، فإن ذلك مما يهدئ النفس ويحمل على التريث و التأني .
2- دوام النظر في كتاب الله عز وجل ، فإن ذلك يبصرنا بسنن الله في الكون وفي النفس ، وفي التشريع ومع العصاة و المكذبين و البصيرة بهذه السنن تهدئ النفس وتساعد على التأني و التروي ، قال الله تعالى :{ ... سأريكم آياتي فلا تستعجلون } ، { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } ، { إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم } .
3- دوام المطالعة في السنة و السيرة النبوية ، فإن ذلك مما يوقعنا على مقدار ما لاقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشدائد و المحن ، وكيف أنه تحمل ، وصبر ولم يستعجل ، حتى كانت العاقبة له ، وللمنهج الذي جاء به .
ومعلوم أن الوقوف على ذلك مما يضبط حركة المسلم ، إقتداء وتأسياً به - صلى الله عليه وسلم -{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيراً }(1/41)
4- مطالعة كتب التراجم و التاريخ ، فإن ذلك مما يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات و السلف في مجابهة الباطل ، وكيف أنهم تأنوا وتريثوا حتى مكن لهم ، وهذا بدوره يحمل على الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و المشابهة على حد قول القائل :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ……إن التشبه بالرجال فلاح
وقد مرت بنا قصة عمر بن عبد العزيز مع ولده في هذا الشأن ، ونحن نتحدث عن علاج " الفتور "
5- العمل في أحضان وفي ظل ذوى الخبرة والتجربة ممن سبقوا علي الطريق فإن ذلك من شأنه أن يجعل خطوات العاملين دقيقة محسوبة وأن يوفر عليهم الكثير من الجهد والوقت وباقي التكاليف :
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم - النظر إلى ذلك حين قال : ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )53
6- العمل من خلال منهاج و برنامج واضح الأركان محدد المعالم يستوعب الحياة كلها ويأخذ بيد العامل من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة فيشبع تطلعاته ويجيب على تساؤلاته ويرفع من مستواه.
7- الفهم الدقيق لأساليب ومخططات الأعداء فإن ذلك من شأنه أن يحمل العامل على النظر في عواقب الأمور وعلى التريث والتأني والتصرف بحكمة وعلى بينة .
8- عدم الرهبة أو الخوف من تسلط الأعداء وإحكامهم القبضة على العالم الإسلامي لأن ذلك يمكن أن يزول في لحظات وما هو على لله بعزيز : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد }. { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم }. { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }.(1/42)
بيد أن هذا الشرط بأن تقيم الإسلام في أنفسنا وفيمن حولنا بكل ما نملك وبكل ما نستطيع : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}. { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا }.
9- مجاهدة النفس وتدريبها على ضرورة التريث والتأني والتروي فإنما الحلم بالتحلم ومن يتصبر يصبره الله والرجولة لا تكون إلا بذلك.
10- الانتباه إلى الغاية أو الهدف الذي من أجله يحيا المسلم فإن ذلك يحول دون الاستعجال ويحمل على إتقان المقدمات والوقوف عندها وعدم تجاوزها إلى النتائج .
11-الانتباه إلى موقف المسلم من المنكرات وأسلوب تغييرها فإن ذلك يبصره بمعالم الطريق ويحول بينه وبين الاستعجال .
تلك خطوات لابد منها على الطريق العلاج .
سابعا : الاستعجال ومنهج الحركة الإسلامية المعاصرة :
وجدير بالذكر أن نشير إلى أن الاستعجال على النحو الذي ذكرنا غير وارد في منهج الحركة الإسلامية المعاصرة بالمرة بل أنه مرفوض صراحة والنص التالي - وهو جزء من منهج هذه الحركة يصدق ذلك :
( أيها المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم :
اسمعوها منى كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل اقتناع بأنها أسلم طريق للوصول .
أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة .(1/43)
أيها المسلمون :
ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة ولا تميلوا كل ميل فتذروها كالمعلقة ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وتراقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .
أيها المسلمون :
إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ذلك مكفول لكم مادمتم مخلصين ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ونحن بعد ذلك : إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين وإما مصيبون فلنا مع ذلك ضعف أجر الفائزين المصيبين على أن التجارب في الماضي والحاضر أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ولا إنتاج إلا مع خطتكم ولا صواب إلا فيما تعلمون فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالك والفوز للعاملين -{ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم }.
ثامنا : الداعية بين الفتور والاستعجال :
ويظهر من حديثنا عن الفتور والاستعجال : تحديد موقع الداعية إن موقعه يجب أن يكون وسطا بين الفتور والاستعجال عل معنى أنه مع المقدمات كخلية النحل دائب النشاط والحركة لا يقصر ولا يتوانى لحظة من ليل أو من نهار ولا يضيع فرصة تتاح له أما أوانه مع النتائج فهو هادئ متريث متأن غير متهور لا يستعجل شيئا قبل أوانه وإلا عوقب بحرمانه .
هذا ولم يفت الحركة الإسلامية المعاصرة أن تحدد هذا الموقع وتلك كلماتها أحرف من نور ومشاعل على الطريق :( إن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل ، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ .(1/44)
يسهل على كثيرين أن يتخيلوا ، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوال باللسان ، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل ، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل ، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق و العمل المضني ، وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله ، وفي قصة طالوت بيان لما أقول ، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل ، العمل القوى البغيض لديها الشاق عليها ، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها ..... ولا تضيعوا دقيقة بغير عمل وعند ذلك يكون عون الله وتأييده ، ونصره ).
الآفة الرابعة
العزلة
و الآفة الرابعة التي يصاب بها بعض العاملين ، وعليهم أن يعملوا جاهدين على التطهر منها : إنما هي العزلة أو التفرد ، ولكي يكون لدينا إلمام دقيق بأبعاد ومعالم هذه الآفة سنتناولها على النحو التالي :
أولاً : معنى العزلة أو التفرد :
لغة : العزلة أو التفرد في اللغة تعنى الابتعاد أو التنحي جانباً ، قال صاحب لسان العرب :( عزل الشيء يعزله عزلاً ، وعزّله فاعتزل وانعزل وتعزّل : نحَّاه جانباً فتنحى ، وقوله تعالى :{ إنهم عن السمع لمعزولون } معناه : أنهم لما رموا بالنجوم - كما في قوله تعالى { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } منعوا من السمع ) .54
اصطلاحاً : أما في اصطلاح الدعاة فيراد بها إيثار حياة التفرد على حياة الجماعة ، وذلك بأن يكتفي العامل بإقامة الإسلام في نفسه ، غير مبال بالآخرين ، وبما هم فيه من ضياع وهلكة ، أو أن يقيم الإسلام في نفسه ، ويسعى جاهداً لإقامته في الناس ، ولكن بجهود فردية بعيدة عن التعاون و التآزر من بقية العاملين في الميدان .
ثانياً : أسباب العزلة أو التفرد :(1/45)
وهناك أسباب تؤدى إلى هذه العزلة أو التفرد نذكر منها :
1- الوقوف عند بعض النصوص الشرعية المرغبة في العزلة ، مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية إلى حياة الجماعة:
فقد جاءت بعض النصوص الشرعية مادحة للعزلة ، ومرغبة فيها كقوله صلى الله عليه وسلم :( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) 55
وكإجابته للذي سأل : أي الناس أفضل ؟ قائلاً :( رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ، قال : ثم من ؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره )56
وكقوله في حديث حذيفة بن اليمان :(.. فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت ، وأنت على ذلك ) 57
وكقوله :( من خير معاش الناس لهم : رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه ، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه ، يبتغى القتل و الموت مظانة أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف ، أو بطن واد من هذه الأودية ، يقيم الصلاة ، ويؤتى الزكاة ، ويعبد ربه ، حتى يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في خير )58
وكذلك جاءت بعض النصوص الشرعية الأخرى داعية إلى السير تحت لواء الجماعة ، و العيش في كنفها كقوله تعالى :
{ وتعاونوا على البر و التقوى ، ولا تعاونوا على الإثم و العدوان }
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ... }
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص }
وكقوله صلى الله عليه وسلم :( ... إياكم و الفرقة ، وعليكم بالجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة )59
( .... وأنا آمركم بخمس : الله أمرني بهن : بالجماعة و السمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع ، قالوا : يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ قال : وإن صام و صلى وزعم أنه مسلم )60(1/46)
( يد الله مع الجماعة )
و العامل الذي يقف عند النصوص الأولي المرغبة في العزلة ناسياً أو متناسياً صلتها بالنصوص الأخرى الداعية إلى مخاطبة الجماعة ، و العيش في رحابها ، يبتلى أو يصاب لا محالة بآفة العزلة أو التفرد .
2- الوقوف عند ظاهرة العزلة التي أثرت عن بعض السلف مع الغفلة عن الظروف التي دعت إلى ذلك :
وقد يكون الحامل على العزلة ما أثر عن بعض السلف : أنهم آثروا العزلة على مخالطة الجماعة ، ومعايشتها ، فها هو نبي الله إبراهيم - عليه السلام - يقول لقومه كما حكى القرآن الكريم :
{ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ... }
وقد كان الحامل له على ذلك استنفاذ وسائل التغيير والإصلاح ، ثم إصرار قومه على الكفر ، الأمر الذي خشي معه الفتنة في الدين ، ففر منهم واعتزلهم .
وها هو أبو ذر ، وابن عمر ، ومعهما جمع من الصحابة يعتزلون جماعة المسلمين ، ويعيشون وحدهم لما وقعت الفتنة ، وقد كان الباعث لهم على ذلك ، صيانة أيديهم أن تغمس في دماء زاكية ، طهرها الله - عز وجل - ولا يعرف : من المصيب ومن غير المصيب.
وهذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ، يقضى أخريات أيام حياته في عزلة بعيداً عن الناس ، وقد كان عذره ، تجنب مصادمة السلطات حقناً لدماء المسلمين .
وإن العامل الذي يقرا عن هذه العزلة ، التي عاشها هؤلاء وينسى ظروفها وملابساتها يتولد في نفسه معنى الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و التشبه ، فيلجأ إلى حياة العزلة ، بعيداً عن جو الجماعة حتى وإن لم يكن لهذه العزلة ما يبررها وما يدعو غليها .
3- الظن أن حياة الجماعة تلغى دائماً ذاتية المنتمى إليها ، وتؤثر على شخصيته مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعة :(1/47)
وقد يكون الحامل على العزلة ظن بعض العاملين أنه يعيش مع الجماعة وانتمائه إليها يلغى ذاتيته ، وتذوب شخصيته فيبقى إمعة ، إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساءوا أساء ، مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية و الجماعية ، إذ يقول هذا المنهج على دعوة الفرد إلى أن يعيش في كنف الجماعة ، ويستظل بظلها على النحو الذي قدمنا في الوقت الذي يؤكد فيه أنه مسئول مسئولية كاملة عن كل تصرف يقع منه فيقول له :
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }
{ كل نفس بما كسبت رهينة }
{ لا تجزى نفس عن نفس شيئاً }
{ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره }
{ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى }
وأن عليه أن يبذل النصيحة بشروطها وآدابها لكل واحد في الجماعة مهما علا كعبه ، ومهما عظمت مكانته ( الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )61
( المؤمن مرآة أخيه و المؤمن أخو المؤمن يكف عن ضيعته ويحوطه من ورائه ) وفي رواية :( المؤمن مرآة أخيه إن رأي فيه عيباً قومه ) .
ولقد عاش الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وعاش المسلمون بعضهم مع بعض فما رأينا فرداً ذابت شخصيته أو تلاشت فرديته في الجماعة وإنما رأينا النصيحة و الشورى والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، وما قول بعضهم لعمر :( لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا ) عنا ببعيد .
وبهذه الدعوة ينشأ ويبنى في نفس المسلم كيان داخلي متميز واضح المعالم و الحدود ، وتبقى أعصابه صاحية منتبهة لكل ما يمسه ، ولو من بعيد .
إن هذا الظن ، وهذه الغفلة ينتهيان بالعامل لا محالة إلى أن يلجأ إلى العزلة ، فيصاب بآفة من أخطر الآفات .
4- الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة و العيش بين الناس :(1/48)
وقد يكون الحامل على العزلة الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة و العيش بين الناس ، إذ أن طبيعة هذه التكاليف : أنها كثيرة ضخمة ، تستوعب حياة الإنسان من أول يوم إلى آخر يوم ، وقد لا تنتهي ، وغالباً ما تكون على خلاف ما تهوى الأنفس ، وما لم يكن العامل منتبهاً إلى ذلك ، فإنه يعمل نفسه من التزكية و التربية ، و المجاهدة وتسيطر عليه الأهواء و الشهوات وبمرور الأيام يضعف ويعجز عن القيام بهذه التكاليف ، وحينئذٍ يبحث عن مخرج أو ملجأ فلا يجد سوى العزلة أو التفرد
5- التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة :
وقد يكون الحامل على العزلة التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة من صلاة إلى صيام إلى قراءة القرآن إلى ذكر إلى دعاء ، إلى استغفار إلى تفكر .... الخ مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة ، إذ المفهوم الصحيح للعبادة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -
( أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من القوال والأعمال الظاهرة و الباطنة ، فالصلاة و الزكاة و الصيام و الحج عبادة ، و الدعاء والاستغفار و الذكر وتلاوة القرآن عبادة ، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام عبادة و الوفاء بالعهود عبادة و الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد للكفار و المنافقين عبادة ، والإحسان للجار و اليتيم و المسكين وابن السبيل و الخادم و الرحمة بالضعيف و الرفق بالحيوان عبادة ، وكذلك حب اله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له ، و الصبر لحكمه و الرضا بقضائه و التوكل عليه و الرجاء في رحمته و الخوف من عذابه وأمثال ذلك كله عبادة ) ...
و القرآن الكريم و السنة النبوية يصدقان هذا المفهوم الذي قاله شيخ الإسلام .(1/49)
على أن مخالطة الناس لا تمنع أن يكون للمسلم أوقات يخلو فيها بنفسه ليؤدى واجباً ، أو يتقرب إلى الله بنفل أو يحفظ علماً ، أو يحقق مسألة ، أو يتلو قرآناً ، أو يذكر ويتفكر ، أو يحاسب نفسه ، وذلك هو معنى قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه :( خذوا حظكم من العزلة )
كأن غياب المفهوم الصحيح للعبادة عن بال المسلم العامل ، وحصره العبادة في دائرة الشعائر التعبدية ، متوهماً أن حياة الجماعة تحول بينه وبين التفرغ الكامل لأداء هذه الشعائر ، كل هذا يوقع لا محالة في آفة العزلة أو التفرد .
6- الاعتذار بانتشار الشر و الفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر و الفساد :
وقد يكون الحامل على العزلة الاعتذار بانتشار الشر و الفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر و الفساد ، إذ أن دور المسلم في هذه الحال أن ينشط للمقاومة بكل الأساليب المتاحة ، و الوسائل الممكنة ولا يلجأ إلى العزلة إلا عند تمكن الداء وعجز الوسائل وخوف الفتنة .
وإذا ما غفل المسلم العامل عن حقيقة هذا الدور فإنه يفر لأول وهلة إلى العزلة أو التفرد ، وتتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد، وصدق الله العظيم القائل :
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } .
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } :
وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناصح : ( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )62(1/50)
7- الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلى ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور :
وقد يكون الحامل على العزلة الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلى ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور، إذ أن موقف هؤلاء إنما كان اليقين التام بأن الابتلاء سنة من سنن الله في الدعوات ، ثم الاعتراف بالتقصير و اللجوء إلى الله أن يثبت أقدامهم على الطريق ، وأن ينصرهم وقد قبل الله منهم فثبتهم ونصرهم { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين *وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين }
نعم إن العامل إذا اطلع على هذه الصور ، وكان في غفلة عن موقف أولئك الممتحنين يسيطر عليه الخوف و الهلع ، ويحاول أن يجد مخرجاً ، وحينئذٍ تسول له نفسه ، ويزين له الشيطان أن المخرج إنما يكون في العزلة أو التفرد فيركن إلى ذلك .
8- صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة ، وسيرتهم التفرد :
وقد يكون الحامل على العزلة صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة ، وسيرتهم التفرد نظراً لأن المرء شديد التأثر بقرينه ، لاسيما إذا كان هذا القرين ذا شخصية مؤثرة وممن يقتدي أو يتأسى به .
يقول صلى الله عليه وسلم : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
9- تعدد الهيئات و الجماعات العاملة لدين الله :(1/51)
وقد يؤدى تعدد الهيئات و الجماعات العاملة لدين الله إلى أن يقع المسلم العامل في حيرة من أمره ، مع أي من هذه الهيئات وتلك الجماعات يعمل ، وعن أي منها يبتعد ؟ وتنتهي به هذه الحيرة إلى العزلة أو التفرد ، لاسيما إذا لم يكن يعرف حقيقة هذه الهيئات و تلك الجماعات وموقفه منها ، غذ أن حقيقة هذه الهيئات وتلك الجماعات أنها جميعاً على خير بيد أن هذا الخير متفاوت ، فمنها ما هو على جزء يسير من الخير ، ومنها ما هو على كثير من الخير ، ومنها ما هو على الخير كله ، وأن موقفه منها يفرض عليه أن يتعرف عليها جميعاً :( أهدافاً ووسائل ، ثم يسير مع من كانت على الخير كله )
- بأن يكون هدفها تطبيق شرع الله ، ومنهجه في الأرض { إن الحكم إلا لله } ، { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } .
-وأن تقصد بكل ما يصدر عنها من أقوال وأفعال وجه الله { قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }
- وأن تخلعه كل ولاء إلا ولاء الله ورسوله ، و المؤمنين المتمسكين بهدى الله :{ إنما وليكم الله ورسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، ومن يتول الله ورسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }
- وأن تفهم الإسلام فهماً وسطاً دون غلو أو تشدد ودون تفريط أو إسراف ثم تعمل به كله من السواك إلى الجهاد { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } .
- وأن تعمل ابتداء على إيجاد الشخصية المسلمة الجامعة لكل خصال الخير ، المتأبية على كل خصال الشر المستأهلة لعون الله وتأييده نصره { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }
{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }
- وأن تتوسع في تحقيق هذه الشخصية المسلمة بحيث تنتشر وتعم المجتمع كله ، بل العالم كله :{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }(1/52)
- وأن تجتهد في الربط بين هذه الشخصيات المسلمة بحيث تصدر عن رأي واحد وتصير فكراً واحداً وقلباً واحداً وروحاً واحدة ومشاعر واحدة وإن تعددت الأجساد { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }
- وأن تنطلق من ترتيب واع دقيق مبنى على دراسة وفهم الواقع باستمرار ثم التعامل معه بناء على هذه الدراسة ، وهذا الفهم { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المؤمنون ... } .
{ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون .
- وأن تراعى الأولويات في العمل بحيث إذا أصيبت بضيق ذات اليد وقصرت بها إمكانياتها ووسائلها قدمت بعض الأصول على بعض ، بل والأصول على الفروع ، و الفرائض على النوافل ، و المجمع عليه على المختلف فيه ، كما صنع - رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين سعى إلى تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفس البشرية قبل تحطيم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة وعلى سطحها .
- وألا تتساهل أو تتهاون في الأصول المجمع عليها ، مع التماس الأعذار في الفروع المختلف فيها وبذلك تفتح الباب للتعاون مع جميع العاملين .
- وأن يكون لها منهاج واضح الأركان ، محدد المعالم ، يأخذ بيد الفرد من طور إلى طور ، ومن مرحلة إلى مرحلة ، فيشبع تطلعاته ، ويجيب على تساؤلاته ويرفع من مستواه .
- وأن يكون قد ظهر ثباتها أو صبرها على مشاق ومتاعب الطريق فصمدت أمام الإرهاب ، واستعلت على المحن و الشدائد وبذلك استحقت أن تكون إماماً ورائداً لباقي العاملين :
{ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم } .
- وأن تكون قد قطعت شوطاً طويلاً في العمل ، بحيث صارت ذا دراية وخبرة بالطريق ، وبهذا توفر على من يسير معها جهداً ووقتاً ومالاً .
- وأن يكون دأبها التأني ، و التروي ، وعدم الاستعجال :{ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم .
- وأن يكون معها من يوجهها ويرشدها بحيث يرتب العمل وتوضع الأمور في نصابها .(1/53)
- وأن ينزل جميع أبنائها على رأي من يوجههم مادام في المعروف .
- وأن يكون هناك التناصح بشروطه وآدابه ، وقبول هذا التناصح و الرضا به .
- وأن تكون هناك الدقة والأمانة في اختيار العاملين ليقطع الطريق على المتربصين { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة }
- وأن يكون هناك الاتباع لا الابتداع { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً } .
10- الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي :
وأخيراً قد يكون الحامل على العزلة الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي ، على النحو الذي سنعرض له بعد قليل ، إذ أن من غفل عن الآثار الضارة المترتبة على أمر ما وقع لا محالة في هذا الأمر .
ثالثاً : آثار العزلة أو التفرد :
هذا وللعزلة أو التفرد آثار ضارة ، وعواقب سيئة ، سواء على العاملين ، أو على العمل الإسلامي ودونك هذه الآثار :
= على العاملين :
فمن آثارهم على العاملين :
1- جهلهم بأبعاد ومعالم شخصيتهم :(1/54)
ذلك أن الإنسان - مهما يكن ذكاؤه ، ومهما تكن فطنته - لا يمكنه وحده أن يعرف أبعاد ومعالم شخصيته معرفة دقيقة ، بل لابد من آخرين يعينونه على ذلك ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، لا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما في شخصيته من أثرة وأنانية أو إيثار ، وتعاون ، إلا إذا عاش بين الناس وخالطهم ، ورأي أصحاب الحاجات منهم ، ثم تأمل في نفسه ، هل تقسو وتجمد ، فتشح وتبخل ؟ وحينئذٍ تكون الثرة والأنانية ، أو ترق وتلين فتجود وتعطى ؟ وحينئذٍ يكون الإيثار و التعاون ، وكذلك لا يمكنه أن يقف على ما في شخصيته من حلم وأناة ، أو حمق وعجلة ، إلا إذا خالط الناس وصادف طبقات من غير أولى الكياسة ، ونظر : هل يقابل خشونة ألسنتهم باللين ، وغلظة قلوبهم بالرفق ؟ وهنا يكون الحلم والأناة ، أو يقابلها بمثلها أو أشد ؟ وهنا يكون الحمق و العجلة .
وأيضاً لا يعرف الإنسان ما لديه من الشجاعة الأدبية أو الجبن و الخور إلا إذا لزم الجماعة ، ورأي من يخطئ ثم تبصر في نفسه :
هل يهون عليها أن تقول لهذا المخطئ : إن الصواب في غير ما نطقت ، والحق في غير ما رأيت ، و الخير في غير ما أتيت ؟ وهنالك تكون الشجاعة الأدبية ، أو يعز عليها أن تقول ذلك فتصمت وتخرس ؟ وهناك يكون الجبن و الخور .
وبالمثل لا يدرك الإنسان ما تنطوي عليه شخصيته من صدق وكذب ، من أمانة وخيانة ، من نظام أو فوضى ، إلا إذا عاش في وسط الجماعة ، وحدَّث أفرادها ، أو ائتمنوه على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، أو ضرب لهم موعداً ، أو أعطى من نفسه عهداً لهم ، ثم نظر:
هل يحدثهم بما يوافق الحقيقة و الواقع ؟ فيكون صدوقاً ، أو بما يخالفها فيكون كذوباً .
وهل يحافظ على دمائهم وأموالهم وأعراضهم فيكون أميناً ، أو يعتدي عليها ويهدرها ؟ فيكون خائناً .
وهل يحافظ على عهده ، ويفي بوعده ؟ فيكون دقيقاً منضبطاً منظماً أو يهمل ويخلف ؟ فيكون فوضوياً غير دقيق ولا منظم ولا منضبط .(1/55)
كأن المسلم إذا عاش في عزلة أو منفرداً فإن شخصيته تبقى مجهولة لديه ، وذلك هو الخسران بعينه ، إذ ربما يفعل الشر ظاناً أنه الخير ، وربما يترك الخير ، معتقداً أنه الشر { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } .
ولعل هذا الأثر هو المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم - ( المؤمن مرآة المؤمن ... )
ومن قول عمر - رضى الله عنه - :( أهديت إلينا عيوبنا )63
أي أن الطريق التي يعرف بها المسلم أبعاد ومعالم شخصيته من كمال أو نقص ، قوة أو ضعف - فينمى نواحي الكمال و القوة ، ويستكمل ويقوى نواحي النقص و الضعف - إنما هي الجماعة ، وبغيرها يعيش المسلم في عماية وعلى غير هدى .
2- حرمانهم من المعين الذي يمكن أن يأخذ بأيديهم ، ويساعدهم على إصلاح عيوبهم ، ذلك أن الإنسان قد يهدى إلى عيوبه ، لكنه قد يكون من ضعف الإرادة ، وخور العزيمة بحيث يعجز بمفرده عن إصلاح وتقويم هذه العيوب ، ولابد له من معين ، يعينه على نفسه ، وحين يختار العزلة أو التفرد يحرم هذا المعين ، ويبقى طوال حياته غارقاً في المعاصي و السيئات .
ولعل هذا الأثر هو المفهوم مما جاء :( المؤمن مرآة أخيه إذا رأي فيه عيباً أصلحه )64
( من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً ، إن نسى ذكره ، وإن ذكر أعانه ) 65(1/56)
3- تعطيل بعض طاقاتهم وإمكاناتهم ، الأمر الذي يجعلهم فريسة لإغواء الشيطان وإضلاله ، ووسوسته ، فضلاً عما يلحق شخصيتهم من الانفصام أو الخلل ، ذلك أن الإنسان - كما هو معلوم - مؤلف من جسد وعقل وروح ،أو بعبارة أخرى من مادة وروح ، و الروح مزود بطاقة من الغرائز تشبه الخيوط الدقيقة المتقابلة المتوازية ، كل غريزتين منهما متجاورتين في النفس ، وهما في الوقت ذاته مختلفتان في الاتجاه ، الخوف و الرجاء ، الحب و الكره ، الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال ، الطاقة الحسية والطاقة المعنوية ، الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس ، حب الالتزام و الميول إلى التطوع ، الفردية و الجماعية ، السلبية والإيجابية ....الخ كلها غرائز متوازية ، ومتقابلة - كما ترى - وهي بتوازيها وتقابلها - تؤدى مهمتها في ربط الكائن البشرى بالحياة ، كأنما هي أوتاد متفرقة ، متقابلة تشد الكيان كله ، وتربطه من كل جانب يصلح للارتباط ، وهي في الوقت ذاته توسع أفقه وتفسح مجال حياته ، فلا ينحصر في نطاق واحد ، ولا في مستوى واحد ، بيد أن تحقيق التوازن و التكامل في حياة الإنسان مرهون بإعطاء كل غريزة من هذه الغرائز حقها ، دون زيادة أو نقص .
و الجماعة هي المجال الوحيد الذي يوظف سائر طاقات المسلم ويعمل كل الغرائز بدرجات متساوية ومتوازية في نفس الوقت ، فتتكون الشخصية السوية المتكاملة ، الخالية من أي انفصام أو اعوجاج و المحصنة ضد كيد الشيطان وإغوائه .
وإذا حدث أن ابتعد المسلم عن الجماعة وآثر حياة العزلة أو التفرد فإنه تتعطل - لا محالة - بعض طاقاته وإمكاناته ، وحينئذٍ يكون الخلل أو الانفصام في شخصيته ، فضلاً عن وجود الفراغ الذي يمكن أن يستغله شياطين الإنس و الجن في إغوائه وإضلاله ، ولعل هذا الثر هو ما لفت النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر إليه بقوله :(1/57)
( ... فمن أحب منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد .. )
4- قلة رصيدهم من الخبرات و التجارب التي تعينهم على مواجهة كل ما يعترض طريقهم من صعاب وعقبات :
ذلك أن العمل لدين الله طريق مليئة بالأشواك محفوفة بالمخاطر ، و المسلم الحصيف الذكي هو الذي تكون لديه الخبرة أو التجربة التي تمكنه من التغلب على هذه المخاطر ، و النجاة من تلك الأشواك .
وليس هناك مجال أرحب وأوسع - يكتسب فيه المسلم الخبرات ويتعلم التجارب - سوى العيش مع الناس ومخالطتهم .
وحين ينأى المسلم العامل بنفسه عن الجماعة ، ويرضى بالعزلة أو التفرد فإنه يحرم هذه الخيرات ، وتلك التجارب ، ويبقى طول حياته ضيق الأفق قاصر النظر ، لا يعرف كيف يواجه أبسط المشكلات ، فضلاً عن أمهاتها وعظائمها .
ولعل هذا الثر هو ما نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم :
(إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة ) .
5- سيطرة اليأس و القنوط على نفوسهم ، الأمر الذي قد ينتهي بهم إلى الفتور ، ذلك أن المسلم العامل لدين الله - لاسيما في هذا العصر - يأتيه الشيطان بين الحين و الحين ويلقى عليه هذه التساؤلات :
ما المخرج وأعداء الله - في داخل الأمة الإسلامية وفي خارجها - كثير ؟ وهم الآن ممسكون بخناق العالم الإسلامي ، ولديهم خطط ماكرة وأساليب خبيثة ؟
ويستطيع المسلم المخالط للناس و العامل من خلال جماعة دفع هذه التساؤلات ، بأنه ليس وحيداً في هذا الميدان ، وإنما هناك آخرون سواه يسيرون في نفس الطريق ، وأولئك لهم من الأساليب والإمكانات ما يعينهم على مواجهة أعدائهم ، وإحباط مكائدهم ومخططاتهم .(1/58)
أما إذا كان في عزلة أو يعمل وحده ، فإن هذه التساؤلات تظل تلح عليه وليس هناك ما يدفعها به ، حينئذٍ يدب اليأس في قلبه و القنوط إلى نفسه فيفتر وربما ترك العمل لدين الله .
6- قلة رصيدهم من الأجر و الثواب :
ذلك أن الذي يعيش مع الناس ويخالطهم يجد أمامه مجالات رحبة ، وميادين واسعة لتحصيل الأجر و الثواب ، فهناك مجالس العلم للإفادة أو الاستفادة ، وهناك عيادة المرضى وزيارة الإخوان تأكيداً لمودتهم أو تهنئة بنعمة ، أو تعزية على مصيبة ، وهناك إرشاد للناس وتوجيههم إلى الخير ، ومد يد المعونة على ما يسد حاجاتهم ، أو تقوى به شوكتهم .... وهكذا .
أما الذي يعيش منفرداً أو منعزلاً فإنه يحرم من هذه الميادين وتلك المجالات ، وبالتالي يقل رصيده من الأجر و الثواب .
7- عدم تمكنهم من إقامة دين الله في أنفسهم اليوم أو غداً :
ذلك أن الباطل لا يفتأ لحظة عن العمل بهدف أن تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر و الفساد ، فلا يستطيع المسلم العامل أن يؤدى دوراً أو أن يقوم بواجب ، وما يمكن أن يتحقق للباطل مثل ذلك ، إلا إذا فرَّ أهل الحق من الميدان ، أو عملوا متفرقين ، و المعتزل واحد فرَّ من الميدان ، أو آثر أن يعمل وحده ، ومن كان كذلك فإنه سيضيق عليه حتماً اليوم أو غداً .
ولعل ذلك هو ما أشارت إليه تلك النصوص التي ذكرناها آنفاً في أسباب العزلة أو التفرد :
:{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ... } ، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز }.(1/59)
( مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )
8- تعريضهم أنفسهم للإثم و الغضب الإلهي - بسبب اعتزالهم الناس ومفارقتهم الجماعة ، وأنى للمسلم أن يطيق ذلك أو يتحمله ؟ ولعل هذا الأثر هو ما تفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم :
( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ... )
تلكم أهم آثار العزلة أو التفرد على العاملين وهي في جملتها مستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم :
( من فارق الجماعة شبراً ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )66
وكأنه يعنى بذلك أن من خرج عن الجماعة وفارقها في الأمر المجمع عليه .
فقد عرَّض نفسه للهلاك والضياع إذ لا يؤمن عليه حينئذ الوقوع في جميع الآثار المذكورة آنفا أو على الأقل في بعضها ، تماما كما يحدث للدابة إذا جعلت الربقة أو الطوق الذي يجعل في عنقها لئلا تشرد فإنه لا يؤمن عليها الهلاك والضياع .
على العمل الإسلامي :
أما آثارها على العمل الإسلامي فتدور حول :
(1) سهولة ضربه والقضاء عليه أو على الأقل إجهاضه فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل نظرا لضعفه بسبب تفرق العاملين وعدم تضامنهم ولعل ذلك هو السر في حرص أعداء الله على أن يظل المسلمون منقسمين على أنفسهم تحت شعار : ( فرق تسد ).
ولعله السر أيضا في الأمر بالوحدة ونبذ الفرقة والتنازع :
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } .
{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .
{ وتعاونوا على البر وتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
(2) الحرمان من العون أو المدد الإلهي :(1/60)
ذلك أن العمل الإسلامي مهما تكن طاقاته وإمكاناته فهو بحاجة إلى عون وتأييد من الله عز وجل وقد وعد الله أنه لا يعطى هذا العون وذلك التأييد إلا إذ كان القائمون على العمل الإسلامي متضامنين متكاتفين ,
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(يد الله مع الجماعة )
ولئن ترتب على هذا الحرمان امتحان أو ابتلاء فإنه يكون رحمة وبركة على العاملين المتضامنين ونقمة وعذابا على القاعدين وكذلك على العاملين المتفرقين :
{والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعماله سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم}.
( إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم )67.
رابعاً : الطريق للخلاص والوقاية من العزلة :
ومادمنا قد وقفنا على أسباب العزلة وآثارها فإن من السهل أن ندرك طريق الخلاص والوقاية منها وتتلخص في :
(1) الفهم التام للعلاقة أو الصلة القائمة بين النصوص الشرعية المرغبة في العزلة والأخرى الداعية إلى مخالطة الناس ولزوم الجماعة:
فإن ذلك الفهم كفيل بانتزاع المسلم إن كان صادقا مع نفسه من حياة العزلة وإلقائه في أحضان الجماعة نظرا لأن مخالطة الجماعة هي الأصل والعزلة أمر طارئ لا يكون إلا عند الضرورة التي لا يبقى معها دين ولا حياة .
(2) الفهم التام للظروف أو الأسباب التي دعت بعض السلف إلى العزلة أو التفرد :
فإن ذلك الفهم كثيرا ما يحول بيننا وبين الاقتداء بهم في هذا الشأن لا سيما إذ عرفنا أن عزلة هؤلاء لم يكن من ورائها ضرر فقد كانت دولة الإسلام قائمة والراية مرفوعة والدين كله لله أما عزلتنا الآن فمن ورائها ضرر كثير نظرا لغياب دولة الإسلام وإمساك أعداء الله بخناقنا وصدهم عن سبيل الله كثيرا وحاجتنا إلى سواد كثير وجهود ضخمة متعاونة متآزرة لإعادة السلطان لله.
(3) الإلمام الدقيق بمنهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعية :(1/61)
فإن ذلك كفيل بدفع السلم إلى أن يعيش في أحضان الجماعة في الوقت الذي يحافظ فيه على ذاتيته أو فرديته .
(4) الوقوف على المفهوم الصحيح للعبادة :
فإنه كاف في القضاء على العزلة والحمل على ملازمة الجماعة ومخالطة الناس دون أن يكون هناك أدنى حرج في أن الأوقات تنفق في غير الطاعة والعبادة .
(5) مجاهدة النفس وأخذها دوما بالشدة والحزم :
لئلا تسيطر عليها الأهواء وتستبد بها الشهوات فتدفعها إلى العزلة والفرار من تكاليف مخالطة الجماعة والعيش بين الناس .
(6) فهم الدور الواجب على المسلم حين ينتشر الشر ويعم الفساد :
فإن ذلك كاف في إخراج أي عامل من عزلته وحمله على مخالطة الناس واقتحام الخطوب من أجل القضاء على الشر ومقاومة الفساد أو على الأقل تحجيمهما .
(7) اللجوء التام إلى الله عز وجل والاستعانة الصادقة به فإن من يستعين بالله يعينه الله :
{ وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } .
(8) التخلص من صحبة من كان منهجهم العزلة وسيرتهم التفرد مع ملازمة صف العاملين : فإن ذلك له دور كبير في القضاء على العزلة .
(9) الإلمام التام بحقيقة الهيئات والجماعات العاملة لدين الله : فإن ذلك سينتهي به حتما إلى نبذ حياة العزلة والسير مع من كانت على الخير كله وقائمة بالحق جميعه.
(10) الوقوف على حقيقة المنهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تشييد صرح ودولة الإسلام الأولي فإن ذلك يعين على التخلص من العزلة ويحمل على الانحياز للجماعة اقتداء وتأسيا به صلى الله عليه وسلم :
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }.(1/62)
(11) إدراك أن أعداء الله من الكافرين والمنافقين يتعاونون فيما بينهم ويعملون لضرب الإسلام مجتمعين لا متفرقين في شكل أحلاف عسكرية : ( حلف وارسو - حلف الأطلنطي ) وفي شكل أسواق تجارية : ( السوق الأوروبية المشتركة ) وفي شكل برلمانات وهيئات سياسية : ( البرلمان الأوروبي ) وفي شكل اتحادات جمهورية وولاياته ( جمهوريات الاتحاد السوفيتي ، والولايات المتحدة الأمريكية ).
وإذا كان هذا شأن أعداء الله وهم على الباطل وبينهم من خلافات جوهرية فأولى بنا نحن المسلمين لا سيما أننا على الحق وليست لدينا خلافات جوهرية أن نواجههم بنفس الأسلوب أي مجتمعين لا متفرقين :
{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير }.
(12) التأمل في حياة المخلوقات المحيطة بنا الموجودة حولنا فإن ذلك التأمل سيقودنا حتما إلى أن هذه المخلوقات ما تعيش في عزلة وإنما تعيش مجتمعة متعاونة لتؤدى دورها فها هي المجموعة الشمسية تتعاون لتوفير الضياء والدفء لسائر الكائنات الحية وها هي جماعة النحل تتعاون في بناء بيوتها وتنظيفها وتوفير الحماية لها ثم تسرح لتمتص رحيق الأزهار ولتخرجه في النهاية عسلا مصفي فيه شفاء للناس ومثل ذلك يحدث لجماعة النمل وباقي المخلوقات مما حدا بالشاعر أن يقول :
النمل تبنى قراها في تماسكها …… والنحل تجنى رحيق الشهد أعوانا
وإذا كان هذا شأن المخلوقات التي لا عقل لها فكيف بنا نحن بني آدم الذين ميزنا الله بالعقل والحرية والإرادة وجعلنا سادة في هذا الكون وهكذا يمكن أن يؤدى مثل هذا التأمل إلى نبذ حياة العزلة والعيش مع الجماعة وبين الناس .
(13) الوقوف على حقيقة الآثار المترتبة على العزلة أو التفرد وقد ذكرناها آنفا فإن ذلك يقود من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد إلى العيش بين الناس ومخالطتهم حذرا من الوقوع في هذه الآثار أو تلك العواقب .
الآفة الخامسة
الإعجاب بالنفس(1/63)
والآفة الخامسة التي يصاب بها بعض العاملين وعليهم أن يعملوا جاهدين على مداواة أنفسهم وتحريرها بل والاحتراز والتوقي منها : إنما هي الإعجاب بالنفس .
ولكي يكون حديثنا عن هذه الآفة واضح الأبعاد محدد المعالم سنجعله يدور على النحو التالي :
أولاً : معنى الإعجاب بالنفس :
لغة : يطلق الإعجاب بالنفس في اللغة ويراد به :
(أ) السرور والاستحسان تقول : أعجبه الأمر : سره وأعجب به : سر به ومنه قوله تعالى: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}.
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث }.
{ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا }.
(ب) الزهو أو الإعظام والإكبار تقول : أعجبه الأمر أي زها به وعظم عنده وكبر لديه ، ورجل معجب أي مزهر أو معظم ومكبر لما يكون منه حسنا أو قبيحا ومنه قوله تعالى : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا }.
اصطلاحا : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن الإعجاب بالنفس هو : السرور أو الفرح بالنفس وبما يصدر عنها من أقوال أو أعمال من غير تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس سواء أكانت هذه الأقوال وتلك الأعمال خيراً أو شراً محمودة أو غير محمودة فإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقار واستصغار ما يصدر عنهم فهو الغرور أو شدة الإعجاب وإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقارهم في أشخاصهم وذواتهم والترفع عليهم فهو التكبر أو شدة الإعجاب 68.
ثانياً : أسباب الإعجاب بالنفس
للإعجاب بالنفس أسباب تؤدى إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها :
1- النشأة الأولى :
فقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي النشأة الأولى .
ذلك أن الإنسان قد ينشأ بين أبوين يلمس منهما أو من أحدهما : حب المحمدة ودوام تزكية النفس أن بالحق وإن بالباطل والاستعصاء على النصح والإرشاد ونحو ذلك من مظاهر الإعجاب بالنفس فيحاكيهما(1/64)
وبمرور الزمن يتأثر بهما ويصبح الإعجاب بالنفس جزء من شخصيته إلا من رحم الله .
ولعل ذلك السر في تأكيد الإسلام على التزام الأبوين بمنهج الله على النحو الذي قدمنا الآفة الثانية ((آفة الإسراف )).
إذ منهج الله وحده هو الذي يحمى الأبوين من أي انحراف وبذلك يصلحان أن يكونا قدوة للأولاد.
2- الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك :
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هو الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك :
ذلك أن هناك فريقا من الناس إذا أطرى أو مدح في وجهة دون تقيد بالآداب الشرعية في هذا الإطراء وذلك المدح اعتراه أو ساوره لجهله بمكائد الشيطان خاطر : أنه ما مدح وما أطرى أي أنه يملك من المواهب ما ليس لغيره وما يزال هذا الخاطر يلاحقه ويلح عليه حتى يصاب والعياذ بالله بالإعجاب بالنفس ولعل ذلك هو السر في ذمه صلى الله عليه وسلم للثناء والمدح في الوجه بل وتأكيده على ضرورة مراعاة الآداب الشرعية إن كان ولابد من ذلك 69.
جاء عن مجاهد عن أبى معمر أنه قال : قام رجل يثنى على الأمير من الأمار فجعل المقداد بن السود في وجهة التراب وقال :(( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثى في وجوه المداحين التراب))70
وجاء عن عبد الرحمن بن أبى بكر عن أبيه قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال :(( ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك)) مرارا (( إذا كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا ـزكى على الله أحدا أحسبه إن كان يعلم ذلك كذا وكذا ))71.
3-صحبة نفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم :
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الصحبة والملازمة لنفر من ذوى الإعجاب بأنفسهم(1/65)
ذلك أن الإنسان شديد المحاكاة والتأثر بصاحبه لا سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية ذا خبرة ودارية بالحياة وكان المصحوب غافلا على سجيته يتأثر بكل ما يلقى عليه وعليه فإذا كان الصاحب مصابا بداء الإعجاب فإن عدواه تصل إلى قرينه فيصير مثله ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على ضرورة انتقاء واختيار الصاحب لتكون الثمرة طيبة والعواقب حميدة وقد قدمنا طرفا من النصوص الشرعية المتعلقة بذلك أثناء الحديث عن آفة (( الفتور )).
4- الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم :
وقد يكون السب في الإعجاب : إنما هو الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم : كذلك أن هناك صنفا في العاملين إذا حباه الله نعمة من المال أو علم أو قوة أو جاه أو نحوه وقف عند نعمة ونسى المنعم وتحت تأثير بريق المواهب وسلطانها تحدثه نفسه أنه ما أصابته هذه النعمة إلا لما لديه من ولا يزال هذا الحديث على حد قول قارون :(( إنما أوتيته على علم عندي )) ولا يزال هذا الحديث يلح عليه حتى يرى أنه بلغ الغابة أو المنتهي ويسر ويفرح بنفسه وبما يصدر عنها ولو كان باطلا وذلك هو الإعجاب بالنفس .
ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على أن مصدر النعمة أي نعمة إنما هو الله عز وجل : { وما بكم من نعمة فمن الله .....} .
{ والله أخرجكم منبطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم سمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون }. {ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه}.
{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم }.بل وعلى أن يناجى المسلم ربه كل صباح ومساء قائلا ثلاث مرات:
اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر)) 72
5- الصدارة للعمل قبل النضج وكمال التربية :(1/66)
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الصدارة للعمل قبل النضج وكمال التربية : ذلك أن ظروف العمل الإسلامي قد تفرض أن يتصدر بعض العاملين للعمل قبل أن يستوي عودهم وقبل أن تكتمل شخصيتهم وحينئذ يأتي الشيطان فيلقى في روعهم أنهم ما تصدروا للعمل وما وضعوا في الموقع الذي هم فيه الآن إلا لما يحملون من مؤهلات ما لديهم من مواهب وإمكانات وقد ينطلي عليهم لجهلهم بمكائد الشيطان وحيله مثل هذا الإلقاء فيصورونه حقيقة ويرفعون من قدر نفوسهم فوق ما تستحق حتى يكون الإعجاب بها والعياذ بالله........
ولعل هذا هو السر حرص الإسلام على الفقه فقه وعلى أن يكون هذا الفقه قبل الصدارة أو القيادة إذ يقول الله تعالى :{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.
{ يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا }.
وإذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم -:
(( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )) 73.
وإذ يقول عمر رضى الله تعالى عنه -:(( تفقهوا قبيل تسودوا )) يعنى : تعلموا العلم قبل أن تصيروا سادة أو أصحاب مسئولية لتدركوا ما في السيادة أو ما في المسئولية من آفات فتتقوها .
6- الغفلة أو الجهل بحقيقة النفس :
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي الغفلة و الجهل بحقيقة النفس : ذلك أن الإنسان إذا غفل أو جهل حقيقة نفسه ، وأنها من ماء مهين خرج من مخرج البول ، وأن النقص دائماً طبيعتها وسمتها ، وأن مردها أن تلقى في التراب ، فتصير جيفة منتنة ، تنفر من رائحتها جميع الكائنات ، إذا غفل الإنسان أو جهل ذلك كله ربما خطر بباله أنه شئ ، ويقوى الشيطان فيه هذا الخاطر حتى يصير معجباً بنفسه .
ولعل هذا هو السر في حديث القرآن و السنة المتكرر عن حقيقة النفس الإنسانية بدءاً ، ونهاية .(1/67)
إذ يقول الحق سبحانه { الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } ، { ألم نخلقكم من ماء مهين } ، { ثم أماته فأقبره } .
7- عراقة النسب أو شرف الأصل :
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هي عراقة النسب ، أو شرف الأصل ، ذلك أن بعض العاملين قد يكون سليل بيت عريق النسب ، أو شريف الأصل ، وربما حمله ذلك على استحسان نفسه وما يصدر عنها ، ناسياً أو متناسياً أن النسب أو الأصل لا يقدم ولا يؤخر ، بل المعول عليه إنما هو العمل المقرون بالجهد و العرق ، وهكذا تنتهي به عراقة نسبه أو شرف أصله إلى الإعجاب بنفسه ، ولعل ذلك هو سر تأكيد الإسلام على العمل و العمل وحده :
إذ يقول الحق سبحانه { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون } { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } .
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، ( يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً ، يا بنى عبد المطلب : لا أغنى عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت رسول الله : سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئاً ) 74
8- الإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام :
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس ، إنما هو الإفراط أو المبالغة في التوقير والاحترام ، ذلك أن بعض العاملين قد يحظى من الآخرين بتوقير واحترام فيهما مبالغة أو إفراط يتعارض مع هدى الإسلام ، ويأباها شرع الله الحنيف ، كدوام الوقوف طالما أنه قائم أو قاعد ، وكتقبيل يده والانحناء له و السير خلفه ... الخ .(1/68)
وإزاء هذا السلوك قد تحدثه نفسه أنه ما حظي بهذا التوقير والاحترام إلا لأن لديه من المواهب ، و الخصائص ما ليس لغيره ، ويظل هذا الحديث يقوى ويشتد إلى أن يكون الإعجاب بالنفس - و العياذ بالله - ولعل هذا هو سر نهيه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه : أن يقوموا له ، وأن يعظموه كما يعظم الأعاجم ملوكهم فيقول :( من أحب أن يتمثل له الناس فليتبوأ مقعده من النار )75
ويخرج صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه يوماً متوكئاً على عصا فيقومون له فيقول :( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً)76
9- الإفراط أو المبالغة في الانقياد ، و الطاعة :
وقد يكون السبب في الإعجاب بالنفس إنما هو الإفراط أو المبالغة في الانقياد ، و الطاعة ، ذلك أن بعض العاملين قد يلقى من الآخرين انقياداً وطاعة فيهما إفراط أو مبالغة لا تتفق ومنهج الله ، كأن يكون هذا الانقياد وهذه الطاعة في كل شئ سواء كان معروفاً أو منكراً ، خيراً أو شراً .
وتبعاً لذلك قد تسول له نفسه أنه ما كان الانقياد ، وما كانت الطاعة إلا لأنه يملك من الخصائص ، و المزايا ما لا يملك غيره ، وربما صدق فكان الإعجاب بالنفس .
ولعل ذلك هو بعض السر في تأكيد الإسلام على أن يكون الانقياد و الطاعة في المعروف ، وليس في المعصية .
يقول - صلى الله عليه وسلم - :( على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )77
10- الغفلة عن الآثار المترتبة على الإعجاب بالنفس :
وأخيراً قد يكون السبب في الإعجاب بالنفس ، إنما هي الغفلة عن الآثار و العواقب ، ذلك أن سلوك الإنسان في الحياة غالباً ما يكون نابعاً من إدراكه أو عدم إدراكه لعواقب وآثار هذا السلوك .
وعليه فإن العامل أو الداعية إذا لم يدرك العواقب المترتبة على الإعجاب بالنفس فإنه قد يصاب به ، ولا يراه إلا أمراً بسيطاً هيناً ، لا يحتاج منه أن يقف عنده ، أو أن يضيع فيه وقته .(1/69)
ولعل ذلك السر في حرص هذا الدين على عرض مبادئه ومقاصده مقرونة بآثارها وعواقبها .
ثالثاً : آثار الإعجاب بالنفس :
هذا وللإعجاب بالنفس آثار سيئة ، وعواقب وخيمة ، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ، ودونك طرفاً من هذه الآثار ، وتلك العواقب :
على العاملين :
فمن آثاره على العاملين :
1- الوقوع في شراك الغرور بل والتكبر :
أي أن الأثر الأول للإعجاب بالنفس ، إنما هو الوقوع في شراك الغرور بل والتكبر ، ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يؤدى به الإعجاب إلى أن يهمل نفسه ، ويلغيها من التفتيش و المحاسبة ، وبمرور الزمن يستفحل الداء ، ويتحول إلى احتقار واستصغار ما يصدر عن الآخرين ، وذلك هو الغرور ، أو يتحول إلى الترفع عن الآخرين ، واحتقارهم في ذواتهم وأشخاصهم وذلك هو التكبر.
وللغرور و التكبر آثارهما الخطيرة ، وعواقبهما المهلكة التي سنقف عليها بالتفصيل عند الحديث عن هاتين الآفتين إن شاء الله تعالى .
2- الحرمان من التوفيق الإلهي :
أي أن الأثر الثاني للإعجاب بالنفس ، إنما هو الحرمان من التوفيق الإلهي :
ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما ينتهي به الإعجاب إلى أن يقف عند ذاته ، ويعتمد عليها في كل شئ ناسياً أو متناسياً خالقه وصانعه ، ومدبر أمره ، و المنعم عليه بسائر النعم الظاهرة و الباطنة .
ومثل هذا يكون مآله الخذلان ، وعدم التوفيق في ظل ما يأتي وفي كل ما يدع ، لأن الحق - سبحانه - مضت سنته في خلقه ، أنه لا يمنح التوفيق إلا لمن تجردوا من ذواتهم ، واستخرجوا منها حظ الشيطان ، بل ولجأوا بكليتهم إليه ، تبارك اسمه ، وتعاظمت آلاؤه ، وقضوا حياتهم في طاعته وخدمته ، كما قال في كتابه { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .(1/70)
وكما قال في الحديث القدسي :( .... وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ) .
3- الانهيار في أوقات المحن و الشدائد :
أي أن الأثر الثالث للإعجاب بالنفس ، إنما هو الانهيار في أوقات المحن و الشدائد :ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يهمل نفسه من التزكية ، و التزود بزاد الطريق ، ومثل هذا ينهار ويضعف مع أول شدة أو محنة يتعرض لها ، لأنه لم يتعرف على الله في الرخاء حتى يعرفه في الشدة ، وصدق الله إذ يقول :{ إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون } ، { وإن الله لمع المحسنين } .
وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ ينصح عبد الله بن عباس فيقول :
( ... احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ... )78
4- النفور و الكراهية من الآخرين :
أي أن الأثر الرابع للإعجاب بالنفس ، إنما هو النفور و الكراهية من الآخرين ، ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بصنيعه هذا لبغض الله له ، ومن ابغضه الله أبغضه أهل السموات ، و بالتالي يوضع له البغض في الأرض ، فترى الناس ينفرون منه ، ويكرهونه ولا يطيقون رؤيته بل ولا سماع صوته جاء في الحديث :( إن الله إذا أحب عبداً ، دعا جبريل فقال : إني أحب فلاناً فأحبَّه ، قال: فيحبه جبريل ، ثم ينادى في السماء فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، قال : ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلاناً فأبغضْه ، قال فيبغضه جبريل ، ثم ينادى في أهل السماء ، إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، قال : فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض ) 79.
5- العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً :(1/71)
أي أن الأثر الخامس للإعجاب بالنفس ، إنما هو العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً : ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بهذا الخلق إلى العقاب والانتقام الإلهي عاجلاً بأن يخسف به كما كان في الأمم الماضية ، أو على الأقل يصاب بالقلق ، و التمزق والاضطراب النفسي ، كما في هذه الأمة ، أو آجلاً بأن يعذب في النار مع المعذبين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :( بينما رجل يمشى في حلة تعجبه نفسه ، مرجِّل جمَّته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة )80
على العمل الإسلامي :
وأما آثاره على العمل الإسلامي فتدور حول :
1- سهولة اختراقه وبالتالي ضربه ، أو على الأقل إجهاضه ، فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة ، وزمن طويل ، نظراً لانهيار العاملين المعجبين بأنفسهم في أوقات المحن و الشدائد ، بل وحرمانهم من خاصية نفاذ البصيرة ، تلك التي تساعد على معرفة الأدعياء ، وتمييز الدخلاء من غيرهم .
2- توقف أو على الأقل بطء كسب الأنصار والأصدقاء ، نظراً لنفور الناس وكراهيتهم للعاملين المعجبين بأنفسهم وهذا فيه ما فيه من طول الطريق وكثرة التكاليف ، تلكم هي آثار الإعجاب بالنفس على العاملين ، وعلى العمل الإسلامي .
رابعاً : مظاهر الإعجاب بالنفس :
ويمكن اكتشاف هذا الداء من خلال المظاهر التالية :
1- تزكية النفس :
أي أن المظهر الأول للإعجاب بالنفس ، إنما هو دوام التزكية للنفس و الثناء عليها ، و العرف من قيمتها ، مع نسيان أو تناسى قول الله عز وجل { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } .
2- الاستعصاء على النصيحة :
و المظهر الثاني للإعجاب بالنفس ، إنما هو الاستعصاء على النصيحة بل و النفور منها ، مع أنه لا خير في قوم لا يتناصحون ولا يقبلون النصيحة .
3- الفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه :(1/72)
و المظهر الثالث للإعجاب بالنفس إنما هو الفرح بسماع عيوب الآخرين لاسيما أقرانه ، حتى قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - ( إن من علامة المنافق : أن يفرح إذا سمع بعيب أحد من أقرانه )81
خامساً : الطريق لعلاج الإعجاب بالنفس :
وما دمنا قد وقفنا على أسباب وباعث الإعجاب بالنفس ، فإن من السهل معرفة طريق علاج واقتلاع هذا الداء ، بل الوقاية منه ، وتتلخص في :
1- التذكير دائماً بحقيقة النفس الإنسانية ، وذلك بأن يفهم المعجب بنفسه أن نفسه التي بين جنبيه لولا ما فيها من النفخة الإلهية ما كانت تساوى شيئاً ، فقد خلقت من تراب تدوسه القدام ، ثم من ماء مهين يأنف الناظر إليه من رؤيته ، وسترد إلى هذا التراب مرة أخرى ، فتصير جيفة منتنة ، يفر الخلق كلهم من رائحتها ، وهي بين البدء والإعادة تحمل في بطنها العذرة أي الفضلات ذات الروائح الكريهة ، ولا تستريح ولا تهدأ إلا إذا تخلصت من هذه الفضلات .
إذ أن مثل هذا التذكير يساعد كثيراً في ردع النفس ، وردها عن غيها ، واقتلاع داء الإعجاب منها ، بل وحمايتها من التورط فيه مرة أخرى .
وقد لفت أحد السلف النظر إلى هذه الوسيلة حين سمع معجباً بنفسه قائلاً :( أتعرف من أنا ؟ فرد عليه بقوله : نعم : أعرف من أنت ، لقد كنت نطفة قذرة وستصير جيفة قذرة ، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة ) .
2- التذكير دائما بحقيقة الدنيا والآخرة ، وذلك بأن يعرف المعجب بنفسه أن الدنيا مزرعة للآخرة ، وأنه مهما طال عمرها فإنها إلى زوال ، وأن الآخرة إنما هي الباقية ، وأنها هي دار القرار ، إذ أن مثل هذا التذكير يحمل الإنسان على أن يعدل من سلكوه ، أو يقوم عوج نفسه ، قبل أن تنتهي الحياة ، وقبل أن تضيع الفرصة ، ويفوت الأوان .(1/73)
3- التذكير بنعم الله التي تغمر الإنسان ، وتحيط به من أعلى إلى أدنى كما قال سبحانه { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ، { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } ، فإن هذا التذكير من شأنه أن يشعر الإنسان بضعفه وفقره ، وحاجته إلى الله دائماً ، وبالتالي يطهر نفسه من داء الإعجاب ، بل ويقيه أن يبتلى به مرة أخرى .
4- التفكر في الموت : وما بعده من منازل ، من شدائد وأهوال ، فإن ذلك كفيل باقتلاع الإعجاب من النفس ، بل وتحصينها ضده ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
5-دوام الاستماع أو النظر في كتاب الله عز وجل وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيهما البيان الشافي ، و التحليل الدقيق لكل ما يتصل بالوسائل الأربع المذكورة آنفاً ، وبهما يتخلص الإنسان - إن كان موضوعياً وصادقاً مع نفسه - من كل داء .
6-دوام حضور مجالس العلم ، لاسيما تلك التي تدور حول علل النفس وطريق الخلاص منها ، فإن أمثال هذه المجالس كثيراً ما تعين على تطهير النفس ،بل وصيانتها من داء الإعجاب .
7- الإطلاع على أحوال المرضى وأصحاب العاهات بل و الموتى ، لاسيما في وقت غسلهم وتكفينهم ودفنهم ، ثم زيارة القبور بين الحين و الحين و التفكر في أحوال أهلها ومصيرهم ، فإن ذلك يحرك الإنسان من داخله ، ويحمله على اقتلاع العجب ونحوه من كل العلل والأمراض النفسية أو القلبية .
8- وصية الأبوين أن يتحررا من داء الإعجاب بالنفس ونحوه ، وأن يكوناً قدوة صالحة أمام الولد ، وأن يفهماه بأن ما وقع منهما كان خطأ وأنهما قد أقلعا عن هذا الخطأ ، وعليه أن يقلع عنه مثلهما ويتوب إلى الله عز وجل .
9- الانقطاع عن صحبة المعجبين بأنفسهم مع الارتماء في أحضان المتواضعين العارفين أقدارهم ، ومكانتهم ، فإن ذلك يساعد في التخلص بل وفي التوقي من الإعجاب بالنفس .(1/74)
10- التوصية و التأكيد على ضرورة اتباع الآداب الشرعية في الثناء و المدح في التوقير والاحترام ، في الانقياد و الطاعة ، مع الإعراض والزجر الشديد لكل من يخرجون على هذه الآداب ، فإن ذلك له دور كبير في مداواة النفس وتحريرها من الإعجاب .
11- التأخير عن المواقع الأمامية بعض الوقت ، إلى أن تستقيم النفس ويصلب عودها ، وتستعصي على الشيطان فإن ذلك يسهل طريق العلاج .
12- دوام النظر في سير السلف ، وكيف كانوا يتعاملون مع أنفسهم حين يرون منها مثل هذا الخلق ، فإن ذلك يحمل على الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة ، و المشابهة في استئصال هذا الداء ، وقطع الطريق عليه أن يعود إلى النفس مرة أخرى .
13- تعريض النفس بين الحين و الحين لبعض المواقف التي تقتل كبرياءها وتضعها في موضعها الصحيح ، كأن يقوم صاحبها بخدمة إخوانه الذين هم أدنى منه في المرتبة ، أو أن يقوم بشراء طعامه من السوق ، وحمل أمتعته بنفسه ، على نحو ما أثر عن كثير من السلف .
فقد روى عن عمر - رضى الله تعالى عنه - أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضة ، فنزل عن بعيره ونزع خفيه وخاض الماء ومعه بعيره ، فقال له أبو عبيدة عامر بن الجراح : لقد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض ، فصك صدره وقال : أوَّه ، لو غيرك قال هذا يا أبا عبيدة ، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس فأعزكم الله برسوله فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله ) .
وجاء في رواية أخرى :( أنه لما قدم الشام استقبله الناس ، وهو على بعيره ، فقيل له ، لو ركبت برذوناً تلقى بع عظماء الناس ووجوههم ؟ فقال عمر - رضى الله تعالى عنه - لا أراكم ههنا ، إنما الأمر من ههنا - و أشار بيده إلى السماء - خلوا سبيل جملي ) .
14- متابعة الآخرين له ، ووقوفهم بجانبه حتى يتمكن من التخلص من هذه الآفة .
15- محاسبة النفس أولاً بأول ، حتى يمكن الوقوف على العيوب وهي لا تزال في بداياتها فيسهل علاجها و الوقاية منها .(1/75)
16- إدراك العواقب والآثار المترتبة على الإعجاب بالنفس ، فإنها ذات أثر فعال في علاج هذه الآفة و التحصن ضدها .
17- الاستعانة بالله - عز وجل - وذلك بواسطة الدعاء والاستغاثة و اللجوء إليه ، أن يأخذ الله بيده ، وأن يطهره من هذه الآفة ، وأن يقيه شر الوقوع فيها مرة أخرى ، إذ أن من استعان بالله أعانه الله ، وهداه لصراطه المستقيم .
18- التأكيد على المسئولية الفردية ، بغض النظر عن الأحساب والأنساب ، فإن ذلك له دور كبير في علاج النفس ، بل وحفظها من أن تقع مرة أخرى في آفة الإعجاب .
الآفة السادسة
الغرور
والآفة السادسة التي يبتلى بها بعض العاملين ، وعليهم أن يعملوا جاهدين على التحرر منها ، وعدم الوقوع فيها مرة أخرى إنما هي : الغرور ، ولكي يكون حديثنا عن هذه الآفة واضح الأبعاد ، محدد الملامح و المعالم سنجعله يدور على النحو التالي :
أولاً : معنى الغرور :
لغة : يطلق الغرور في اللغة على عدة معان أهمها :
أ- الخداع سواء أكان للنفس أو للغير ، أو للنفس وللغير معاً ، تقول : غرّه ، يغرّه ، غروراً أي خدعه ، وغرّ نفسه يغرها غروراً تعنى خدعها .
ومنه قوله تعالى { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً }
ب- ما يؤدى إلى الغرور ، وما يوقع فيه ، قال الجوهري ، و الغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا .
ومنه قوله سبحانه { يا أيها الناس إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } .
اصطلاحاً : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن الغرور : هو إعجاب العامل بنفسه إعجاباً يصل إلى حد احتقار أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجنب ما يصدر عنه ، ولكن دون النيل من ذواتهم أو الترفع على أشخاصهم .
ولا شك أن من كان بهذه المثابة فهو مخدوع ، وتبعاً لذلك فإننا يمكن أن نفهم مدى التلاقي بين المعنى الاصطلاحي و المعنى اللغوي .
ثانياً : أسباب الغرور(1/76)
ولما كان الغرور شدة الإعجاب بالنفس ، فإن أسبابه التي تؤدى إليه وبواعثه التي توقع فيه هي في جملتها أسباب الإعجاب بالنفس ويزاد عليها :
( 1 ) إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة :
إذ قد يكون السبب في الغرور إنما هو إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة ذلك أن بعض العاملين قد يبتلى بالإعجاب بالنفس ولإهماله نفسه من التفتيش والمحاسبة يتمكن الداء منه ويتحول إلى احتقار أو استصغار ما يقع من الآخرين بالإضافة إلى ما يقع منه وبذلك يصير مغرورا ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بالتفتيش في النفس ومحاسبتها أولا بأول :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }
(2) الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين :
وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين :
ذلك أن بعض العاملين قد يصاب بآفة الإعجاب بالنفس ويكون من ضعف الإرادة وخور العزيمة وفتور الهمة بحيث لا يستطع التطهر بذاته من هذه الآفة وإ نما لابد له من متابعة الآخرين ووقوفهم بجواره وأخذهم بيده وقد لا يلتفت الآخرين إلى ذلك فيقعدون عن أداء دورهم وواجبهم وحينئذ تتمكن هذه الآفة من النفس وتتحول بمرور الزمن إلى غرور والعياذ بالله 0
ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على النصيحة حتى جعل الدين كله منحصرا فيها وراجعا إليها : إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) قلنا : لمن ؟ قال : الله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسمين وعامتهم )82 ولعله السر أيضا في دعوته إلى التضامن والتعاون بين المسلمين :إذ يقول الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه )
(3) الغلو أو التشدد في الدين :(1/77)
وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الغلو أو التشدد في الدين ذلك أن بعض العاملين قد يقبل على منهج الله في غلو وتشدد وبعد فترة من الزمان ينظر حوله فيرى غيره من العاملين يسلكون المنهج الوسط فيظن لغفلته أو عدم إدراكه طبيعة هذا الدين أن ذلك منهم تفريط أو تضيع ويتمادى به هذا الظن إلى جد الاحتقار والاستصغار لكل ما يصدر عنهم بالإضافة إلى ما يقع منه وذلك هو الغرور
ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى الوسطية بل وتحذيره من الغلو أو التشدد في الدين :
إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرهط الذين عزموا على التبتل واعتزال الحياة: ( أنتم قلتم كذا وكذا : أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى )83 ويقول : ( هلك المتنطعون )84 قالها ثلاثا يعنى : المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ) ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا 000 الحديث )85
(4) التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهمال العمل :
وقد يكون السبب في الغرور إنما هو التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهمال العمل :ذلك أن بعض العاملين قد يكون كل همه التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل مع إهماله العمل وربما لاحظ أثناء طرح هذه المسائل غفلة بعض العاملين عنها وعدم إلمامهم بها إنما لأنها ثانوية لا يضر الجهل بها وإما لأنه لا يترتب عليها عمل فيخطر بباله أن هؤلاء لا يتقنون من مسائل العلم شيئا وإن أتقنوا فإنما هو قليل في جانب ما لديه من الغرائب والشواذ وما يزال هذا الخاطر يتردد في نفسه ويلح عليه حتى يتحول إلى احتقار واستصغار ما لدى الآخرين بالإضافة إلى ما عنده وذلك هو داء الغرور 0(1/78)
ولعل ذلك هو السر في دعوة الإسلام إلى أن يكون السعي في طلب العلم دائما حول النافع والمفيد إذ كان من دعائه صلى الله عليه وسلم( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها )86 بل وفي تأكيده على أن يكون هذا العلم مقرونا بالعمل وإلا كان الهلاك والبوار إذ يقول الله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }
{ أتأمرون الناس بالير وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون }
وإذ يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :( يجئ بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه )87
(5) الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات :
وقد يكون السبب في الغرور إنما هو الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات ذلك أننا جميعا بشر وشأن البشر سوى النبيين الصواب والخطأ وإذا غفل العامل عن ذلك فإنه كثيرا ما يقف عند الطاعة أو الصواب في الوقت الذي ينسى فيه المعصية أو الخطأ وتكون العاقبة الإعجاب بالنفس المقرون باحتقار ما يقع فيه الآخرون إلى جانب ما يصدر عنه وهذا هو الغرور(1/79)
ولقد لفت المولى سبحانه وتعالى النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث وهو يمدح صنفا من المؤمنين يؤدى الطاعة ويخاف أن يكون قد وقع منه ما يحول بينه وبين قبولها فقال : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } تقول عائشة رضى الله تعالى عنها قلت يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : ( لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل )88
كما لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك حين دعا إلى أن يكون التعويل بعد الفراغ من العمل على فضل الله ورحمته لا على العمل نفسه وإلا كان الغرور والضياع فقال : ( لن ينجى أحدا منكم عمله ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشئ من الدلجة والقصد تبلغوا )89 وقد عبر عن ذلك كله بوضوح سيدنا عبد الله بن مسعود حين بين أثر تذكر الذنب ونسيانه على سلوك الإنسان فقال ( إن المؤمن من يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي نحاه بيده ودفعه عنه )90 .
(6) الركون إلى الدنيا :
وقد يكون السبب في الغرور هو الركون إلى الدنيا : ذلك أن بعض العاملين قد يفطن إلى أنه مبتلى بآفة الإعجاب بالنفس بيد أنه لركونه إلى الدنيا وانغماسه فيها ربما يعتريه الكسل فلا يستطيع أن يجمع همته لمداواة نفسه بل قد يأخذ في التسويف وتأخير التوبة وبمرور الزمن يتحول الإعجاب بالنفس إلى داء أكبر وأبعد ألا وهو الغرور(1/80)
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث من خلال ذم الدنيا والتحذير منها إذا اتخذها الناس هدفا أو غاية فقال { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما }
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا } { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون }
وقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة : إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله وأشعت رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذى له وإن شفع لم يشفع )91 وقلما كان صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه :
( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منها واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا )92 .
ولقد وعى سلف الأمة ما يجره الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها على المرء من وبال فأعرضوا عنها إلا بمقدار ما يتزودون منه للآخرة وجرى ذلك كثيرا على ألسنتهم يقول على رضى الله تعالى عنه :_
( ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهم بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل )93.(1/81)
ويقول الحسن رحمه الله :-
( من نافسك في دينك فنافسه فيه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره )94.
ويصور بعضهم هذا الوعي وذلك الإحساس قائلا :
إن لله عبادا فطنا…… طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا…… أنها ليست لحي وطنا
جعلوه لجة واتخذوا…… صالح العمال منها سفنا 95
7- رؤية بعض ذوى الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها :-
وقد يكون السبب في الغرور إنما هي رؤية بعض ذوى الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها .
ذلك أن بعض ذوى الأسوة والقدوة قد ينزلون لسبب أو لآخر عن الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها من أخذ أنفسهم بالعزيمة في غالب الأحيان إلى حال أقل منها من أخذ أنفسهم بالرخص في بعض الأوقات .
وربما رأي ذلك من يحاول الإقتداء والتأسي بهم ولقلة رصيده من الفقه أو لعدم اكتمال تربيته يتوهم أو يظن أنهم بذلك دونه في العمل بمراحل ويظل هذا الوهم أو هذا الظن يلاحقه ويلح عليه حتى يتحول والعياذ بالله إلى الإعجاب بالنفس ثم الغرور .
ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى البعد عن مواطن التهم من خلال بيان وجه حق في سائر التصرفات المباحة التي ربما تؤدى إلى سوء الظن :
عن صفية بنت حيى زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( على رسلكما : إنما هي صفية بنت حيى )فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم _( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا )96.(1/82)
وصلى يزيد الأسود مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجئ بهما ترعد فرائصهما فقال : ( ما منعكما أن تصليا معنا )؟ قالا : قد صلينا في رحالنا فقال: لا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصلى فليصل معه فإنها له نافلة )97.
ولذا قال ابن دقيق العيد .
(وهذا أي التحرز من كل ما يوقع في التهم متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم وقد قالوا : أنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحق للمحكوم عليه إذا خفي عليه وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم ).
8- مبالغة بعض العاملين في إخفاء ما يصدر عنهم من أعمال :
وقد يكون السبب في الغرور إنما هي مبالغة بعض العاملين في الإخفاء ما يصدر عنهم من أعمال :
ذلك أن بعض العاملين قد يحمله الحرص على تحقيق معنى الإخلاص إلى أن يبالغ في إخفاء ما يصدر عنه من عمل فلا يظهر منه إلا أقل القليل وربما لا حظ أو رأي بعض من لم تتضح تربيتهم بعد هذا الذي يظهر فقط فيتوهم أن عمل هؤلاء قليل في جنب عمله ويظل هذا الوهم يساوره ويلح عليه حتى يقع في أحبولة الإعجاب بالنفس ثم الغرور .
ولعل دعوة الإسلام إلى إبراز الأعمال الطيبة والتعرض بها للناس فوق كونها تحريضا لهم على الإقتداء والتأسي فيها إشارة إلى هذه السبب أو إلى هذا الباعث مع بيان طريق الخلاص منه : إذ يقول الله تعالى:
{ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم.... .....}.
وإذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم _:
( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ).
( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ .... الحديث )98(1/83)
9- تفرقة بعض ذوى الأسوة والقدوة في معاملة المتأسين أو المقتدين :
وقد يكون السبب في الغرور إنما هي : تفرقة بعض ذوى الأسوة والقدوة في معاملة المتأسين أو المقتدين :
ذلك أن بعض ذووا الأسوة والقدوة قد تغيب عن بالهم الأسلوب الأمثل في معاملة المتأسين أو المقتدين فتراهم يقربون البعض ويفسحون صدورهم له ويتغاضون عن هفواته وأخطائه في الوقت الذي يعرضون فيه عن البعض الآخر ويضيقون به ذرعا ويفتحون عيونهم على أدنى الهفوات والزلات التي تقع منه وربما كان في الصنف الأول من لم تكتمل تربيتهم ولم تنضج شخصايتهم بعد ويشاهد هذه الفرقة في المعاملة فيخطر بباله أنها نابعة مما لديه من إمكانيات ومواهب لا توجد عند الآخرين ويظل هذا الخاطر يلح عليه حتى يكون الإعجاب بالنفس ثم الغرور .
ولقد سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب من خلال حرصه على معاملة أصحابه بالسوية إذ كان من هديه صلى الله عله وسلم كما يقول واصفوه :
( أن يعطى كل جلسائه نصيبه ولا يحسب جليسه أن أحد أكرم عليه منه )99.
ويوم أن كانت الحاجة تلجؤه صلى الله عليه وسلم إلى التفرقة في المعاملة ولا يفهم جليسه الحكمة من وراء ذلك يبين صراحة إذ يروى سعد بن أبى وقاص فيقول :
( أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فترك رجلا هو أعجبهم إلى فقلت يا رسول الله مالك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( أو مسلما ) فسكتّ قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت : مالك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( يا سعد إني لأعطى الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار )100
الآفة السابعة
التكبر(1/84)
والآفة السابعة التي تصيب بعض العاملين وهى ذات أثر خطير في حياتهم وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم للتطهر منها بل وأن تصير لديهم حصانة ضدها إنما هي : آفة التكبر ، وحتى يكون حديثنا عن هذه الآفة واضحا محدد الأبعاد والمعالم فإننا سنتناولها على النحو التالي :
أولا معنى التكبر :
لغة : التكبر في اللغة هو التعظم أي إظهار العظمة قال صاحب اللسان : ( والتكبر والاستكبار : التعظم ومنه قوله تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق }
أي : أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم)101
اصطلاحا : أما في اصطلاح الدعاة أو العاملين فإن التكبر هو إظهار العامل إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم وينال من ذواتهم ويترفع عن قبول الحق منهم جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدجل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال : أن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس)102.
ثانيا : الفرق بين التكبر وبين العزة :
والفرق بين التكبر والعزة واضح إذ التكبر ترفع بالباطل والعزة ترفع بالحق أو أن التكبر : كران النعمة وجحودها والترفع : اعتراف بالنعمة وتحدث بها على نحو ما تضمنه الحديث المذكور آنفا 0
ثالثا : أسباب التكبر :
ولما كان التكبر شدة الإعجاب بالنفس المؤدية إلى احتقار الناس والترفع عليهم فإن أسبابه التي تؤدى عليه وبواعثه التي ينشأ منها هي بعينها : أسباب وبواعث الإعجاب بالنفس والغرور إذا أهملت ولم تعالج وهى لا تزال في مهدها أو في أوائلها ويزاد عليها :
(1) مبالغة الآخرين في التواضع :(1/85)
فقد يكون السبب أو الباعث على التكبر : إنما هي مبالغة الآخرين في التواضع وهضم النفس ذلك بعض الناس قد تحملهم المبالغة في التواضع على ترك التجمل والزينة في اللباس ونحوه وعلى عدم المشاركة بفكر أو برأي في أي أمر من الأمور بل والعزوف عن التقدم للقيام بمسؤلية أو تحمل أمانة وقد يرى ذلك من لم يدرك الأمور على حقيقتها فيوسوس له الشيطان وتزين له نفسه أن عزوف الآخرين عن كل ما تقدم إنما هو للفقر أو لذات اليد ، وإلا لما تأخروا أو توانوا لحظة ،وتظل مثل هذه الوساوس وتلك التزيينات تلح عليه وتحيط به من هنا وهناك حتى ينظر إلى الآخرين نظرة ازدراء وسخرية في الوقت الذي ينظر فيه إلى نفسه نظرة إكبار وإعظام وقد لا يكتفي بذلك ، بل يحاول إبراز هفي كل فرصة تتاح له أو في كل مناسبة تواتيه وهذا هو التكبر .
وقد لفت القرآن الكريم والسنة النظر إلى هذه السبب أو إلى هذا الباعث من خلال دعوتهما إلى التحدث بنعمة الله تعالى إذ يقول سبحانه:
{ وأما بنعمة ربك فحدث }.
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم -:
( إن الله جميل يحب الجمال )
(واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا ).
وعن مالك بن نضلة الجشمى قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون فقال : ألك مال ؟ قال : نعم قال : من أي المال ؟ قال: قد أتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال : فإذا أتاك اله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته ) 103
وقد فهم السلف ذلك فحرصوا على التحدث بما يفيض الله عليهم من نعم وعابوا على من يغفل هذا الأمر من حسابه قال الحسن بن على رضى الله تعالى عنهما : ( إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك )104 وقال بكر بن عبد الله المزني : ( من أعطى خيرا فلم ير عليه سمى بغيض الله معاديا لنعم الله )
2- اختلال القيم أو معايير التفاضل عند الناس :(1/86)
وقد يكون السبب أو الباعث على التكبر غنما هو اختلال القيم أو معايير التفاضل عند الناس ، ذلك أن الجهل قد يسود في الناس إلى حد اختلال القيم أو معايير التفاضل عندهم ، فتراهم يفضلون صاحب الدنيا ، ويقدمونه حتى لو كان عاصياً أو بعيداً عن منهج الله ، في الوقت الذي يحتقرون فيه البائس المسكين الذي أدارت الدنيا ظهرها له حتى وإن كان طائعاً ملتزماً بهدى
الله ، ومن يحيا في هذا الجو يتأثر به لا محالة - إلا من رحم الله - ويتجلى هذا التأثر في احتقار الآخرين و الترفع عليهم .
وقد ألمح القرآن و السنة إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث من خلال رفض هذا المعيار ، ووضع المعيار الصحيح مكانه ، إذ يقول الله سبحانه وتعالى - :
{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } .
{ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين ، قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ، إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون }.
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وقد مرّ عليه رجل : ما تقولون في هذا الرجل ؟ قالوا: رأيك في هذا ، نقول هو من أشرف الناس ، هذا حري إن خطب أن يخطب ، وإن شفع أن يشفع ، وإن قال أن يسمع لقوله ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرَّ رجل آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا ؟ قالوا : نقول والله يا رسول الله ، هذا من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب لم ينكح ، وإن شفع لا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا )105
3- مقارنة نعمته بنعمة الآخرين ونسيان المنعم :(1/87)
وقد يكون السبب في التكبر إنما هو مقارنة نعمته بنعمة الآخرين ونسيان المنعم ، ذلك أن من الناس من يحبوه الله - لحكمة يعلمها - بنعم يحرم منها الآخرين ، كالصحة أو الزوجة أو الولد أو المال أو الجاه أو المركز أو العلم أو حسن الحديث أو الكتابة أو التأليف أو القدرة على التأثير ، أو كثرة الأنصار والأتباع ... الخ ، وتحت بريق وتأثير هذه النعم ينسى المنعم ، ويأخذ في الموازنة أو المقارنة بين نعمته ونعمة الآخرين فيراهم دونه فيها ، وحينئذٍ يحتقرهم ويزدريهم ويضع من شأنهم وهذا هو التكبر .
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب ، أو إلى هذا الباعث من خلال حديثه عن قصة صاحب الجنتين فقال :
{ واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً .... }
4- ظن دوام النعمة وعدم التحول عنها :
وقد يكون السبب في التكبر إنما هو ظن دوام النعمة وعدم التحول عنها ، ذلك أن بعض الناس قد تأتيه النعمة من الدنيا ، وتحت تأثيرها وبريقها يظن دوامها أو عدم التحول عنها ، وينتهي به هذا الظن إلى التكبر أو الترفع أو التعالي على عباد الله ، كما قال صاحب الجنتين لصاحبه :
{ ... ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً } ، وكما قال الله عن الإنسان :
{ ... ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى } .
5- السبق بفضيلة أو أكثر من الفضائل :
وقد يكون السبب في التكبر إنما هو السبق بفضيلة أو أكثر من الفضائل ، كالعلم أو الدعوة أو الجهاد أو التربية أو نحو ذلك .(1/88)
ذلك أن بعض الناس قد يحبوهم القدر بفضيلة السبق في بعض خصال الخير ، وإذا بهم ينظرون إلى اللاحق نظرة ازدراء واحتقار ، ولسان حالهم أو مقالهم ينطق في استكبار : ومن هؤلاء الذين يعملون الآن ؟ لقد كانوا عدماً أو في حكم العدم يوم أن مشينا على الأشواك ، وتحملنا مشاق ومتاعب الطريق ، حتى عبَّدناها لهم ولغيرهم من الناس .
وقد لفت المولى سبحانه إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث حين بين : أن السبق لا يعتبر ، ولا قيمة له إلا إذا كان معه الصدق ، فقال :
{ و السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } .
{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ..... } إلى قوله { ربنا إنك رءوف رحيم } .
ولم ينظر المولى سبحانه إلى سبق هؤلاء إلا من خلال ما قدموه من الأدلة على صدقهم وثباتهم على الحق ، مثل : الهجرة و النصرة واتباع سبيل المؤمنين ، وحسن الصلة بالله ومعرفة الفضل لذويه ... وهلم جراً .
وهكذا صار مبدأ الإسلام :( ليس الفضل لمن سبق ، بل لمن صدق ) وصدق الله :
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً }
6- الغفلة عن الآثار المترتبة على التكبر :
وقد يكون السبب في التكبر ، إنما هو الغفلة عن الآثار الخطيرة و العواقب المهلكة المترتبة على التكبر في الأرض بغير الحق ، ذلك أن من غفل عن الآثار الضارة لعلة من العلل ، أو آفة من الآفات ، فإنه يصاب بها
وتتمكن من نفسه ، ولا يشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان، وبعد الاستعصاء على القلع و العلاج.
رابعا : مظاهر التكبر :
هذا وهناك مظاهر للتكبر يعرف أو يستدل عليه بها ، نذكر منها :(1/89)
1- الاختيال في المشية مع لي صفحة العنق وتصعير الخد ، قال تعالى { ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله } ، { والله لا يحب كل مختال فخور } ، { ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور .
2- الإفساد في الأرض عندما تتاح الفرصة مع رفض النصيحة ، والاستنكاف عن الحق ، قال تعالى :{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ... }
3- التقعر في الحديث ، يقول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - :
( إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه ، كما
تخلل البقرة بلسانها )106 ، ( ألا أنبئكم بشراركم ؟ فقال : هم الثرثارون المتشدقون .... ) 107
4- إسبال الإزار بنية الاختيال و التكبر ن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
( من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر صلى الله عليه وسلم إليه يوم القيامة ) قال أبو بكر : إن أحد جانبي إزاري يسترخي ، إني لأتعاهد ذلك منه ، قال : لست ممن يفعله خيلاً )108
5- محبة أن يسعى الناس إليه ، ولا يسعى هو إليهم ، وأن يمثلوا له قياماً
إذا قدم أو مر بهم ، وقد جاء في الحديث :( من أحب أن يمتثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار )109
6- محبة التقدم على الغير في المشي أو في المجلس أو في الحديث أو نحو ذلك .
خامساً آثار التكبر :
وللتكبر في الأرض بغير الحق آثار ضارة ، وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي :
على العاملين :
1- الحرمان من النظر والاعتبار :(1/90)
أي أن الأثر الأول الذي يتركه التكبر على العاملين : إنما هو الحرمان من النظر والاعتبار ، ذلك أن المتكبر - بترفعه وتعاليه على عباد الله - قد اعتدى من حيث يدرى أو لا يدرى على مقام الألوهية ، ومثل هذا لابد له من عقوبات ، وأول هذه العقوبات : الحرمان من النظر والاعتبار فتراه يمر على آيات الله المبثوثة في النفس وفي الكون ، وهو في إعراض تام عنها { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } ، ومن حرم النظر والاعتبار ، كانت عاقبته البوار و الخسران المبين ، لأنه سيبقى مقيماً على عيوبه وأخطائه ، غارقاً في أوحاله ، حتى
تنتهي الحياة ، كما عقب النبي - صلى الله عليه وسلم حين قرأ الآيات الأخيرة من سورة آل عمران { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل و النهار لآيات لأولى الألباب ... } إلى قوله سبحانك فقنا عذاب النار } عقب بقوله :( ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها )110 وقد صرح المولى - سبحانه وتعالى - بهذا الأثر في قوله :{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ... } .
2- القلق والاضطراب النفسي :
وأما الأثر الثاني الذي يتركه التكبر على العاملين ، فإنما هو القلق
والاضطراب النفسي ، ذلك أن المتكبر يحب - إشباعاً لرغبة الترفع و التعالي أن يحنى الناس رؤوسهم له ، وأن يكونوا دوماً في ركابه ، ولأن أعزة الناس وكرامهم يأبون ذلك ، بل ليسوا مستعدين له أصلاً ، فإنه يصاب بخيبة أمل ، تكون عاقبتها القلق والاضطراب النفسي ، هذا فضلاً عن أن اشتغال هذا المتكبر بنفسه يجعله في إعراض تام عن معرفة الله وذكره ، وذلك له عواقب أدناها في هذه الدنيا القلق و الاضطراب النفسي .
وصدق الله إذ يقول :
{ ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ... }
{ ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعدا ... }
3- الملازمة للعيوب و النقائص :(1/91)
وأما الأثر الثالث الذي يتركه التكبر على العاملين ، فإنما هي ملازمة العيوب و النقائص ، ذلك أن التكبر لظنه أنه بلغ الكمال في كل شئ لا يفتش في نفسه ، حتى يعرف أبعادها ومعالمها ، فيصلح ما هو في حاجة منها إلى إصلاح ، ولا يقبل كذلك نصحاً أو توجيهاً أو إرشاداً من الآخرين ، ومثل هذا يبقى غارقاً في عيوبه ونقائصه ، ملازماً لها إلى أن تنقضي الحياة ، ويدخل النار مع الداخلين :
{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}
{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
4- الحرمان من الجنة :
وأما الأثر الرابع الذي يتركه التكبر على العاملين ، فإنما هو الحرمان من الجنة ، وذلك أمر بدهى ، فإن من يعتدي على مقام الألوهية ، ويظل مقيماً على عيوبه ورذائله ، ستنتهي به الحياة حتماً وما حصل خيراً يستحق به ثواباً أو مكافأة فيحرم الجنة مؤبداً أو مؤقتاً ، وصدق الله ورسوله إذ يقول الحق في الحديث القدسي :
( الكبرياء ردائي و العظمة إزاري من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم )111 ، وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم :
( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال ذرة من كبر ..) 112
( ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جوَّاظ متكبر ) 113.
على العمل الإسلامي :
ومن آثاره على العمل الإسلامي :
1- قلة كسب الأنصار بل و الفرقة و التمزق :
ذلك أن القلوب جبلت على حب من ألان لها الجانب ، وخفض لها الجناح ، ونظر إليها من دون لا من علٍ ، أما من ترفع عليها واحتقرها أو ازدراها ونال منها ، فإنها تبغضه وتنفر منه ، بل وتحاول الابتعاد عنه ، وتكون العاقبة خواء ذات اليد من الأنصار من ناحية ، ووقوع الفرقة و التمزق بين من هو نصير وظهير بالفعل من ناحية أخرى .(1/92)
ويوم ينتهي الأمر بالعمل الإسلامي إلى انعدام النصير من الخارج ووقوع الفرقة و التمزق من الداخل ، فإنه يسهل ضربه ، أو على الأقل إجهاضه فلا يؤتى ثمره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل .
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا الأثر ، وهو يتحدث عن المنافقين فقال :{ ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } .
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :( وإن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد114.
2- الحرمان من العون و التأييد الإلهي :
ذلك أن الحق سبحانه مضت سنته أنه لا يعطى عونه وتأييده ، إلا لمن هضموا نفوسهم حتى استخرجوا حظ الشيطان من نفوسهم بل حظ نفوسهم من نفوسهم ، و المتكبرون قوم كبرت نفوسهم ، ومن كانت هذه
صفته ، فلا حق له في عون أو تأييد إلهي ، ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ...} حيث ربط نصره لهم بحالهم التي كانوا عليها من المسكنة و التواضع وهضم النفس ، وكأن هذه الحال إذا انعدمت أو غابت غاب معها العون والتأييد سادساً .
علاج التكبر :
هذا وعلاج التكبر - بحيث تطهر منه النفس ، ولا يعود إليها مرة أخرى - إنما يكون باتباع الأساليب و الوسائل التالية :
1- تذكير النفس بالعواقب والآثار المترتبة على التكبر ،سواء كانت عواقب ذاتية أو متصلة بالعمل الإسلامي ، وسواء كانت دنيوية أو أخروية على النحو الذي قدمنا ، فلعل هذا التذكير يحرك النفس من داخلها ، ويحملها على أن تتوب ، وتتدارك أمرها قبل ضياع العمر وفوات الأوان .
2- عيادة المرضى ، ومشاهدة المحتضرين وأهل البلاء وتشييع الجنائز ، وزيارة القبور ، فلعل ذلك أيضاً يحركه من داخله ، ويجعله يرجع إلى ربه بالإخبات ، و التواضع .
3- الانسلاخ من صحبة المتكبرين ، والارتماء في أحضان المتواضعين المخبتين ، فربما تعكس هذه الصحبة بمرور الأيام شعاعها عليه ، فيعود له سناؤه ، وضياؤه الفطري كما كان عند ولادته .(1/93)
4- مجالسة ضعاف الناس وفقرائهم ، وذوى العاهات منهم ، بل ومؤاكلتهم ومشاربتهم ، كما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام ، وكثير من السلف ، فإن هذا مما يهذب النفس ويجعلها تقلع عن غيها ، وتعود إلى رشدها .
5- التفكر في النفس ، وفي الكون ، بل وفي كل النعم التي تحيط به من أعلاه إلى أدناه ، مَن مصدر ذلك كله ؟ ومن ممسكه ؟ وبأي شئ استحقه العباد ؟ وكيف تكون حاله لو سلبت منه نعمة واحدة فضلاً عن باقي النعم ؟؟؟ فإن ذلك التفكر لو كانت معه جدية ، يحرك النفس ويجعلها تشعر بخطر ما هي فيه ، إن لم تبادر بالتوبة و الرجوع إلى ربها .
6-النظر في سير وأخبار المتكبرين ، كيف كانوا ؟ وإلى أي شئ صاروا ؟ من إبليس و النمرود إلى فرعون ، إلى هامان ، إلى قارون ، إلى أبى جهل ، إلى أبى بن خلف ، إلى سائر الطغاة و الجبارين و المجرمين ، في كل العصور و البيئات فإن ذلك مما يخوف النفس ويحملها على التوبة والإقلاع ، خشية أن تصير إلى نفس المصير ، وكتاب الله - عز وجل - وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتب التراجم و التاريخ خير ما يعين على ذلك .
7- حضور مجالس العلم التي يقوم عليها علماء ثقات نابهون ، لاسيما مجالس التذكير و التزكية ، فإن هذه المجالس لا تزال بالقلوب حتى ترق وتلين وتعود إليها الحياة من جديد .
8- حمل النفس على ممارسة بعض الأعمال التي يتأفف منها كثير من الناس ممارسة ذاتية ما دامت مشروعة ، كأن يقوم هذا المتكبر بشراء طعامه وشرابه وسائر ما يلزمه بنفسه ، ويحرص على حمله
و المشي به بين الناس ، حتى لو كان له خادم ، على نحو ما كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه و السلف ، فإن هذا يساعد كثيراً في تهذيب النفس وتأديبها ، و الرجوع بها إلى سيرتها الأولى الفطرية ، بعيداً عن أي التواء أو اعوجاج .(1/94)
9- الاعتذار لمن تعالى وتطاول عليهم بسخرية أو استهزاء ، بل ووضع الخد على التراب وإلصاقه به ، وتمكينه من القصاص على نحو ما صنع أبو ذر مع بلال لما عاب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - تعييره بسواد أمه .
10- إظهار الآخرين بنعمة الله عليهم ، وتحدثهم بها - لاسيما أمام المستكبرين - علهم يثوبون إلى رشدهم وصوابهم ، ويتوبون ويرجعون إلى ربهم ، قبل أن يأتيهم أمر الله .
11- التذكير دوماً بمعايير التفاضل و التقدم في الإسلام :
{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم }
( كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله - تعالى - من الجعلان )115
12- المواظبة على الطاعات : فإنها إذا واظب عليها ، وكانت متقنة لا يراد بها إلا وجه الله ، طهرت النفس من كل الرذائل ، بل زكتها
الفهرس
الصفحة
الموضوع
آفات على الطريق
الآفة الأولى : الفتور
الفتور لغة واصطلاحاً
أسبابه
آثاره
علاجه
الآفة الثانية : الإسراف
أولاً : معنى الإسراف
ثانياً : أسباب الإسراف
ثالثاً : آثار الإسراف
على العاملين
على العمل الإسلامي
رابعا : الطريق لعلاج الإسراف
الآفة الثالثة : الاستعجال
أولاً : معنى الاستعجال
ثانياً : نظرة الإسلام إلى الاستعجال
ثالثاً : مظاهر الاستعجال
رابعاً : آثار الاستعجال
خامساً : أسباب الاستعجال
سادساً : علاج الاستعجال
سابعاً : الاستعجال ومنهج الحركة الإسلامية المعاصرة
ثامناً : الداعية بين الفتور والاستعجال
الآفة الرابعة : العزلة أو التفرد
أولاً : معنى العزلة أو التفرد
ثانياً : أسباب العزلة أو التفرد
ثالثاً : آثار العزلة أو التفرد
على العاملين
على العمل الإسلامي
رابعا : الطريق للخلاص و الوقاية من العزلة
الآفة الخامسة : الإعجاب بالنفس
أولاً : معنى الإعجاب بالنفس
ثانياً : أسباب الإعجاب بالنفس
ثالثاً : آثار الإعجاب بالنفس
على العاملين
على العمل الإسلامي
رابعاً : مظاهر الإعجاب بالنفس(1/95)
الآفة السادسة : الغرور
أولاً : معنى الغرور
ثانياً : أسباب الغرور
الآفة السابعة : التكبر
أولاً : معنى التكبر
ثانياً : الفرق بين التكبر وبين العزة
ثالثاً : أسباب التكبر
رابعاً : مظاهر التكبر
خامساً : آثار التكبر
على العاملين
على العمل الإسلامي
سادساً : علاج التكبر
الفهرس
1 أخرجه الترمذى
2 أورده المنذرى في الترغيب و الترهيب
3 أورده علاء الدين في : كنز العمال
4 أورده الغزالي في إحياء علوم الدين
5 أخرجه الترمذى
6 أخرجه البخاري
7 أخرجه أحمد
8 أخرجه مسلم
9 أخرجه الترمذى
10 أخرجه ابن ماجه
11 متفق عليه
12 متفق عليه
13 أخرجه البخاري
14 أخرجه البخاري
15 أخرجه أبو داود
16 أخرجه أحمد
17 أخرجه أبو داود
18 أورده الهيثمى في مجمع الزوائد 10/157 من حديث أنس ، وعقب عليه بقوله :( رواه الطبرانى في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمى ، وهو ثقة )
19 أخرجه الترمذى
20 أخرجه البخاري
21 أخرجه أحمد
22 النهاية في غريب الحديث لابن الأثير
23 أخرجه مسلم
24 أخرجه مسلم
25 أخرجه أحمد
26 أخرجه الترمذى
27 أخرجه البخاري
28 الموافقات للشاطبى
29 أخرجه ابن ماجه
30 متفق عليه
31 متفق عليه
32 أخرجه مسلم
33 التخويف بالنار لابن رجب
34 انظر القاموس المحيط 3/156 ، المعجم الوسيط 1/427 ، الصحاح في اللغة و العلوم ص 474 مادة ( سرف )
35 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، ، كتاب النكاح باب الأكفاء في الدين 7/9
36 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الرقائق ، باب ما يحذر من زهرة الدنيا و التنافس فيها 8/12 ، ومسلم في الصحيح ، كتاب الزهد و الرقائق 4/2273-2274 رقم 2961 كلاهما من حديث عمرو بن عوف عنه - صلى الله عليه وسلم - به واللفظ لمسلم(1/96)
37 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح ، كتاب الذكر و الدعاء و التوبة والاستغفار باب أكثر أهل الجنة الفقراء 4/2098 رقم 2742 من حديث أبى سعيد الخدرى عنه صلى الله عليه وسلم - به
38 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الأحكام باب قول الله تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } 9/77 ، ومسلم في الصحيح ، كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل 3/1459 رقم 1829 كلاهما من حديث عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم - به واللفظ للبخاري .
39 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الرقائق باب قوله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم 8/127 من حديث أبى هريرة وأنس عنه صلى الله عليه وسلم - به و الترمذى في السنن كتاب الزهد باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم 6/603 رقم 2415 بهامش تحفة الأحوذى من حديث أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم وعقب عليه بقوله " هذا حديث صحيح "
40 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الرقائق باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 8/121 ، ومسلم في الصحيح : كتاب الزهد و الرقائق 4/2281 رقم 2970 كلاهما من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها - به .
41 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الرقائق باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 8/122 ، ومسلم في الصحيح : كتاب الزهد و الرقائق 4/2281 رقم 1055 من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها - به .
42 الأثر أورده الكاندهلوى في حياة الصحابة 2/284 -285 قائلاً :0 وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد في الزهد و العسكري في المواعظ ، وابن عساكر عن الحسن قال : دخل عمر على ابنه .... وساقه بتمامه(1/97)
43 الأثر أورده الكاندهلوى في حياة الصحابة 2/287 قائلاً :( وعند الدينورى عن الحسن أن سلمان الفارسي أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنهما - في مرضه الذي مات فيه فقال : أوصيني ... ) وساقه بتمامه .
44 الأثر أورده الكاندهلوى في حياة الصحابة 2/286 قائلاً : وأخرج ابن أبى الدنيا و الدينورى عن سفيان ابن عيينة قال وكتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضى الله عنهما - وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه ... وساقه بتمامه
45 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الأنبياء باب علامات النبوة في الإسلام 4/244 وكتاب مناقب الأنصار باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 5/56-57 وكتاب الإكراه باب من اختار الضرب و القتل و الهوان على الكفر 9/25-26 من حديث قيس عن خباب به
46 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح :كتاب الإيمان ، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان ... 1/69 رقم 78، 79 من حديث أبى سعيد الخدرى - رضى الله تعالى عنه - به ، وأبو داود في السنن : كتاب الصلاة ، باب خطبة يوم العيد 1/296 - 297 رقم 1140 من حديث أبى سعيد أيضاً به غير أنه قال :( من رأي منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده )
47 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الحج : باب فضل مكة وبنيانها 2/179 من حديث عائشة - رضى الله تعالى عنها - به ،وأخرجه مسلم في الصحيح كتاب الحج : باب نقض الكعبة وبنائها 2/969 رقم 399 من حديث عائشة أيضاً به
48 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أثرة وأمور تنكرونها 9/59 من حديث عبد الله بن عباس - رضى الله تعالى عنهما - به ، ومسلم في الصحيح كتاب الإمارة ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1477 رقم 55 من حديث ابن عباس أيضاً به إلا أنه قال :( فمات ميتة جاهلية )(1/98)
49 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أثرة وأمور تنكرونها 9/59 -60 من حديث عبادة بن الصامت - رضى الله تعالى عنه - به ، ومسلم في الصحيح كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية من حديث عبادة بن الصامت أيضاً به
50 انظر فتح الباري لابن حجر 13/8
51 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الأحكام باب من استرعى رعيه فلم ينصح 9/80 من حديث معقل بن يسار بنحوه ، ومسلم في الصحيح : كتاب الإمارة باب فضل الإمام العادل 3/1460 من حديث معقل بن يسار أيضاً به.
52 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أحق بالإمامة 1/465 رقم 290 من حديث أبى مسعود الأنصاري - رضى الله تعالى عنه - به
53 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح في كتاب الأدب : باب : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 8/38 من حديث أبى هريرة به ، ومسلم في الصحيح : كتاب الزهد باب : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 4/2295 رقم 63 من حديث أبى هريرة أيضاً .
54 انظر لسان العرب لابن منظور 11/440 مادة " عزل "
55 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الإيمان :باب من الدين الفرار من الفتن 1/11 وكتاب الفتن : باب التعرب في الفتنة 9/66 من حديث أبى سعيد الخدرى - رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به .
56 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الإمارة باب فضل الجهاد و الرباط 3/1503 من حديث محمد بن الوليد الزبيدى ، ومعمر ، كلاهما عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثى ، عن أبى سعيد الخدرى مرفوعاً به وبنحوه .
57 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الفتن : باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة 9/65 ومسلم في الصحيح : كتاب الإمارة : باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1475-1476 ، كلاهما من حديث حذيفة بن اليمان - رضى الله تعالى عنه - مرفوعا به واللفظ للبخاري ، بيد أنه ورد مختصراً هنا ومطولاً هناك .(1/99)
58 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الإمارة باب فضل الجهاد و الرباط 3/1503-1504 رقم 1889 من حديث أبى هريرة مرفوعاً به
59 الحديث أخرجه الترمذى في السنن 9/10 بهامش عارضة الأحوذى من حديث ابن عمر - رضى الله تعالى عنهما - مرفوعاً به ، وعقب عليه بقوله :( حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه )
60 الحديث أخرجه أحمد في المسند 4/202 مرفوعاً به .
61 الحديث أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الأدب ، باب النصيحة 4/286 رقم 4944 من حديث تميم الدارى مرفوعاً نحوه .
62 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح في كتاب الشركة : باب هل يقرع في القسمة ، وكتاب الشهادات باب القرعة في المشكلات 3/182 ، 237 من حديث كريا والأعمش كلاهما عن الشعبي عن النعمان بن بشير مرفوعاً به وبنحوه .
63 الأثر أورده ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين الفصل الثالث : علامات مرض القلب ص 171
64 الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد : باب المسلم مرآة أخيه ص 107 رقم 238 من حديث أبى هريرة - رضى الله تعالى عنه - ومرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ :( المؤمن مرآة أخيه و المؤمن أخو المؤمن يكف عن ضيعته ويحوطه من ورائه ) وهو عند أبى داود في السنن كتاب الأدب : باب في النصيحة و الحياطة 4/280 باللفظ المرفوع ، إلا أن فيه:( المؤمن مرآة المؤمن ) بدل المؤمن مرآة أخيه .
65 الحديث صحيح وانظر في تخريجه سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني المجلد الأول 431 .
66 أخرجه البخاري
67 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الفتن باب إذا أنزل الله بقوم عذاباً 9/71 من حديث عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما - مرفوعا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
68 انظر مختصر منهاج القاصدين ص 247 - 248 بتصرف .(1/100)
69 الآداب الشرعية المتعلقة بالإطراء و المدح كما استنبطها العلماء من الكتاب و السنة ثلاثة :الأول : ألا يكون في المدح إفراط أو مجاوزة للحد ، الثاني : أن يكون بالحق لا بالباطل ، الثالث : وألا يكون مع من يخشى عليه الفتنة من إعجاب وغيره فإذا توافرت هذه الآداب جاز المدح ، بل قد يصير مستحباً إذا كانت من ورائه مصلحة أو منفعة كالتنشيط لفعل الخير ، أو الزيادة منه أو الاستمرار عليه ، أو الإقتداء و التأسي ونحو ذلك ، انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي ، كتاب الزهد والرقائق باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح 18/126 بتصرف .
70 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الزهد والرقائق باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح4/2297 رقم 3002 من حديث المقداد بن الأسود مرفوعاً به .
71 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الأدب باب ما يكره من التمادح 8/22 ، ومسلم في الصحيح : كتاب الزهد والرقائق باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح4/2296 رقم 3000 كلاهما من حديث خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه مرفوعاً واللفظ لمسلم .(1/101)
72 المناجاة أو الدعاء جاء فيه حديث أخرجه أبو داود في السنن ، كتاب الأدب باب ما يقول إذا اصبح 4/318 رقم 5073 من حديث عبد الله بن غنام البياضى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من قال حين يصبح : اللهم ما اصبح بي من نعمة فمن وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه ، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته ) ، وإذ يقول بشر بن جحاش القرشي ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال : قال الله تعالى : ( يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد فجمعت أو منعت ، حتى إذا بلغت التراقى قلت : أتصدق وأنى أوان الصدقة ) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند .
73 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب العلم باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين 1/27-28 وكتاب فرض الخمس : باب قول الله تعالى فأن لله خمسه 4/103 وكتاب الاعتصام بالكتاب و السنة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق 9/125 ومسلم في الصحيح كتاب الإمارة : باب قوله صلى الله عليه وسلم :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق 3/1524 رقم 175 وكتاب الزكاة ، باب النهي عن المسألة 2/718 رقم 1037 كلاهما من حديث معاوية بن أبى سفيان - رضى الله تعالى عنهما - مرفوعاً به
74 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب التفسير : سورة الشعراء 6/140 ، ومسلم في الصحيح : كتاب الإيمان : باب في قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } 1/192-193 كلاهما من حديث أبى هريرة - رضى الله تعالى عنه -مرفوعاً ،واللفظ لمسلم
75 الحديث أخرجه أبو داود في السنن كتاب الأدب : باب في قيام الرجل للرجل 4/358 رقم 5229 من حديث معاوية مرفوعا به(1/102)
76 الحديث أخرجه أبو داود في السنن كتاب الأدب : باب في قيام الرجل للرجل 4/358 رقم 5230 من حديث أبى أمامة مرفوعا به
77 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح ، كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 3/1469 رقم 1839 من حديث ابن عمر مرفوعاً به .
78 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند
79 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح في كتاب بدء الخلق باب الملائكة 4/135 وكتاب الأدب : باب المقت من الله تعالى 8/17 ، وكتاب التوحيد ، باب كلام الرب مع جبريل 9/173 -174 من حديث نافع وأبى صالح كلاهما عن أبى هريرة مرفوعاً ، ومسلم في الصحيح ، كتاب الأدب : باب إذا أحب الله عبداً 4/2030 رقم 2637 من حديث أبى صالح عن أبى هريرة مرفوعاً واللفظ لمسلم .
80 مرجل جمته : أي مسرح ما سقط على المنكبين من شعر رأسه ، إذ الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين ، انظر النهاية 1/179 ، يتجلجل : أي يغوص في الأرض يخسف به ، و الجلجلة حركة مع صوت ، انظر النهاية 1/170
الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب اللباس ،باب من جرّ ثوبه من الخيلاء 7/183، ومسلم في الصحيح ، كتاب اللباس و الزينة : باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه 3/1653 -1654 كلاهما من حديث أبى هريرة مرفوعاً واللفظ للبخاري .
81 العوائق للأستاذ / محمد أحمد الراشد ص 53 .
82 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الإيمان ، باب : بيان أن الدين النصيحة 1/74-75 رقم 55 ، وأبو داود في السنن ، كتاب : الأدب ، باب النصيحة 4/286 رقم 4944 من حديث تميم الداري - رضى الله عنه - مرفوعاً واللفظ لمسلم .
83 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب النكاح ، باب الترغيب في النكاح 7/2 ، ومسلم في الصحيح ، كتاب النكاح 1/584 ، و النسائي في السنن كتاب النكاح باب النهي عن التبتل 6/49-50 ، وأحمد في المسند 3/241 ، 259 ، 285 كلهم من حديث أنس بن مالك - رضى الله عنه - مرفوعاً واللفظ للبخاري .(1/103)
84 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح ، كتاب العلم ، باب : هلك المتنطعون 4/2055 رقم 2670 من حديث عبد الله بن مسعود - رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به .
85 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الإيمان ، باب : الدين يسر 1/16 من حديث أبى هريرة - رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به .
86 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح ، كتاب : الذكر و الدعاء و التوبة والاستغفار ، باب : التعوذ من شر ما عمل ، ومن شر ما لم يعمل 4/2088 من حديث زيد بن أرقم - رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به ، بيد أنه زاد قبله :( اللهم إني أعوذ بك من العجز و الكسل و الجبن و البخل ، و الهرم وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها )
87 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح كتاب بدء الخلق ، باب : صفة النار وأنها مخلوقة 4/147 ، ومسلم في الصحيح ، كتاب : الزهد و الرقائق ، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهي عن المنكر ويفعله 4/2290-2291 رقم 2989 من حديث أسامة بن زيد - رضى الله تعالى عنهما - مرفوعاً به واللفظ للبخاري .
88 الحديث أخرجه الترمذى في السنن ، كتاب تفسير القرآن ، باب من سورة المؤمنون 5/327-328 رقم 3175 من حديث عائشة - رضى الله تعالى عنها - مرفوعاً به ، وعقب عليه بقوله :( وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن سعيد ، عن أبى حازم ، عن أبى هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا .
89 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الرقاق ، باب القصد و المداومة على العمل 8/122 ، 123 ومسلم في الصحيح كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله 4/2169 رقم 71-78 من حديث أبى هريرة وعائشة - رضى الله تعالى عنهما - مرفوعاً به وبنحوه واللفظ للبخاري(1/104)
90 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الدعوات ، باب التوبة 8/83-84 من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه - موقوفاً عليه ، وادعى بعضهم أنه مرفوع ، وهو وهم ، انظر فتح الباري 11/105
91 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الجهاد ، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله 4/41-42 ، كتاب الرقائق : باب ما يتقى من فتنة المال 8/114-115 وابن ماجه في السنن ، كتاب الزهد ، باب في المكثرين 2/1385-1386 رقم 4135-4136 من حديث أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً به .
92 الحديث أخرجه الترمذى في السنن ، كتاب الدعوات ، باب منه 5/528 رقم 3502 من حديث ابن عمر - رضى الله تعالى عنهما - مرفوعاً به وعقب عليه بقوله :( هذا حديث حسن غريب )
93 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الرقاق : باب في الأمل وطوله 8/110 من حديث علىّ - موقوفاً عليه به .
94 انظر إحياء علوم الدين 3/207
95 الأبيات أوردها الإمام النووي في مقدمته لكتاب رياض الصالحين ص 2 دون أن يعزوها لأحد
96 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الاعتكاف ، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد ؟ 3/64-65 ومسلم في الصحيح ، كتاب السلام : باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خالياً بامرأة وكانت زوجة أو محرماً له ... 4/1712-1713 رقم 23 ،24 ،25 من حديث صفية - رضى الله تعالى عنها - مرفوعاً به
97 الحديث أخرجه أبو داود في السنن ، كتاب الصلاة باب فيمن صلى في منزله ، ثم أدرك الجماعة يصلى معهم 1/136 و الترمذى في السنن ، كتاب الصلاة باب ما جاء في الرجل يصلى وحده ثم يدرك الجماعة 1/424-426 رقم 219 ، وقال عقبة : حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح ، و النسائي في السنن : كتاب الإمامة باب إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه 2/87 من حديث يزيد بن الأسود - رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به .(1/105)
98 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح ، كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة 2/704-706 رقم 1017 من حديث جرير بن عبد الله البجلى مرفوعاً به وبنحوه .
99 الحديث جزء من حديث مطول أخرجه الترمذى في الشمائل المحمدية ، باب ما جاء في خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم -18-23 من حديث سفيان بن وكيع عن جميع بن عمير بن عبد الرحمن ، عن رجل من بنى تميم من ولد أبى هالة ، عن ابن أبى هالة عن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه به ، وإسناده ضعيف لضعف سفيان وجميع وجهالة الرجل الذي من بنى تميم ، إلا أن له شواهد أخرى تجبر هذا الضعف وترفعه إلى درجة المقبول .
100 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الإيمان : باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة 1/13-14 من حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه مرفوعاً به .
101 انظر لسان العرب 5/129 مادة ( كبر )
102 الحديث أخرجه مسلم فى الصحيح كتاب الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 رقم 147 من حديث عبد الله بن مسعود - رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به ، ومعنى ( بطر الحق ) إنكار الحق ودفعه ترفعاً وتجبراً ، أما ( غمط الناس ) فإن معناه : احتقارهم
انظر النهاية فى غريب الحديث والأثر 1/83 ، 3/171
103 الحديث أخرجه أبو داود فى السنن كتاب اللباس باب فى غسل الثوب وفى الخلقان 4/51 رقم 4063 من حديث أبى ألأحوص عن أبيه مرفوعاص به
104 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 20/102
105 الحديث أخرجه ابن ماجه فى السنن كتاب الزهد ، باب فضل الفقراء 2/1379 -1380 رقم 4120 من حديث سهل بن سعد الساعدى رضى الله تعالى عنه - مرفوعاً به(1/106)
106 الحديث أخرجه أبو داود في السنن كتاب الأدب ، باب ما جاء في المتشدق في الكلام 4/301-302 رقم 5005 عن محمد بن سنان الباهلى العوفى ، و الترمذى في السنن ، كتاب الاستئذان ، باب ما جاء في الفصاحة و البيان 5/141 رقم 2853 عن محمد بن عبد الأعلى ، عن عمر بن على المقدمى ، وأحمد في المسند ( الفتح الرباني 19/271 ) عن يزيد كلهم عن نافع عن بن عمر ، عن بشر بن عاصم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً به و الذي يتخلل بلسانه هو الذي يتشدق في الكلام ، ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها ، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر .
107 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند ( الفتح الرباني 19/271 من حديث أبى هريرة مرفوعاً به ، وعقب عليه صاحب الفتح الرباني بقوله :( لم أقف عليه بهذا اللفظ لغير الإمام أحمد من حديث أبى هريرة وسنده جيد وله شاهد من حديث أبى ثعلبة الخشنى في المسند أيضاً 19/76 .
108 الحديث أخرجه أبو داود في السنن ، كتاب اللباس ، باب ما جاء في إسبال الإزار 4/56-57 رقم 4085 عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه مرفوعا به .
109 الحديث أخرجه أبو داود فى السنن كتاب الأدب ، باب فى قيام الرجل للرجل 4/258 رقم 5229 من حديث معاوية بن أبى سفيان مرفوعاً به .(1/107)
110 الحديث جزء من حديث طويل أورده بن كثير فى تفسيره 1/440-441 من طريقين عن عطاء الأولى : بلفظ : انطلقت أنا وابن عمر ، وعبيد بن عمير الى عائشة - رضى الله تعالى عنها - فدخلنا عليها ، وبيننا وبينها حجاب ، فقالت يا عبيد : ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول الشاعر :( زر غباً تزد حباً ) فقال بن عمر : ذرنا ، أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت ، وقالت :( كل أمره كان عجباً ، أتانى فى ليلتى حتى مس جلده جلدى ثم قال :0 ذرينى أتعبد لربى عز وجل ، قالت فقلت : والله إنى لأحب قربك ، وإنى أحب أن تعبد ربك ، فقام الى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ثم قام يصلى ، فبكى حتى ابتلت لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى ، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأحر ؟ فقال : ويحك يا بلال وما يمنعنى أن ابكى وقد أنزل الله علىّ فى هذه الليلة { إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب } ثم قال :( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) و الطريق الأخرى بنحوه ، ثم عزاهما - أى ابن كثير - الى ابن مردويه ، وعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم وابن حبان .
111 الحديث أخرجه ابن ماجة فى السنن كتاب الزهد باب البراءة من الكبر والتواضع 2/1397 رقم 4174 من حديث أبى هريرة مرفوعا به
112 الحديث أخرجه مسلم فى الصحيح ، كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه 1/93 رقم 149 من حديث ابن مسعود مرفوعاً به .
113 الحديث شطر من حديث أخرجه البخارى فى الصحيح : كتاب الأدب ، باب الكبر 7/ من حديث حارثة بن وهب الخزاعى مرفوعاً و الجواظ وهو الجموع المنوع
114 الحديث أخرجه مسلم فى الصحيح كتاب الجنة وصفة نعيمها واهلها 4/2198-2199 رقم 2865 ( 64 ) من حديث عياض بن حمار مرفوعاً(1/108)
115 الحديث أورده ابن كثير فى تفسيره 4/217 من حديث حذيفة وعزاه الى أبى بكر البزار - عقب عليه بقوله :" لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه "
??
??
??
??
13(1/109)
آفات على الطريق
الدكتور : السيد محمد نوح
الجزء الثاني
الآفة الثامنة الرياء أو السمعة
الآفة التاسعة : اتباع الهوى
الآفة العاشرة: الآفة العاشرة : التطلّع إلى الصدارة وطلب الريادة
الآفة الحادية عشرة : ضيق الأفق أو قصر النظر
الآفة الثانية عشرة : ضعف أو تلاشي الالتزام
الآفة الثالثة عشرة: عدم التثبت أو التبّين
الآفة الرابعة عشرة: التفريط في عمل اليوم والليلة
آفات على الطريق
بسم لله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـوعلى آله وأصحابه والسالكين سبيله والداعين بدعوته إلى يوم الدين بعد ......
فإن توضيح معالم الطريق أمام العاملين الفارين بدينهم إلى ربهم كي يعدوا لكل أمر عدته ويأخذوا لكل شئ أهبته فلا ينقطعوا ولا يتوانوا ولا يتأخروا عن ركب النجاة ضرورة لا مفر منها ولا محيص عنها توجبها الدعوة إلى الله والجهاد من أجل التمكين لدينه في الأرض .
ولعل من أهم هذه المعالم :أن هناك آفات يمكن أن يصاب بها بعض العاملين بل قد تصيبهم بالفعل فتقعد بهم عن أداء دورهم والقيام بواجبهم .
وقد استعرضنا في الجزء الأول من الكتاب سبعاً من هذه الآفات وهي :
- الفتور - الإسراف - الاستعجال - العزلة - الإعجاب بالنفس - الغرور - التكبر
ونستعرض في هذا الجزء ( الثاني ) من الكتاب سبعاً أخر من الآفات هي :
الرياء أو السمعة - واتباع الهوى - و التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة - وضيق الأفق أو قصر النظر ، وضعف أو تلاشى الالتزام - وعدم التثبت أو التبين ، و التفريط في عمل اليوم و الليلة .
ويطيب لنا في هذا المقام : أن نعرض لهذه الآفات بشيء من التحليل و البيان كي يحذرها العاملون ويتطهروا منها .
وعلى الله قصد السبيل
أبو عبد الرحمن
الآفة الثامنة
الرياء أو السمعة(2/1)
والآفة الثامنة التي يبتلى بها بعض العاملين والتي تعد من أخطر الآفات وأشدها فتكا بهم وعليهم أن يجاهدوا أنفسهم فورا للتخلص والتطهر منها وإلا ضل سعيهم في الدنيا والآخرة إنما هي : الرياء أو السمعة .
ولكي يكون لدينا تصور واضح أو قريب من الواضح عن هذه الآفة وآثارها وسبيل الخلاص منها فإننا سنتناولها على النحو التالي:
أولا : مفهوم الرياء أو السمعة :
الرياء والسمعة لغة : الرياء في اللغة مشتق من الرؤية تقول : أ رأي الرجل : إذا أظهر عملا صالحا ليراه الناس ومنه قوله تعالى: { يراءون ويمنعون الماعون } { بطرا ورئاء الناس }
والسمعة مشتقة من سمّع يقول : سمّع الناس بعمله أي أظهره لهم بعد أن كان سرا .
الرياء والسمع اصطلاحا : أما مفهوم الرياء أو السمعة في اصطلاح الدعاة وعلماء السلوك والأخلاق : فهو إطلاع المسلم الناس على ما يصدر منه من الصالحات طلبا للمنزلة والمكانة عندهم أو طمعا في دنياهم فإن وقعت أمامهم ورأوها فذلك هو الرياء وإن لم تقع أمامهم لكنه حدثهم بها فتلك هي السمعة ، وفرق العلامة عز الدين بن عبد السلام بين الرياء والسمعة قائلا :(2/2)
الرياء :( أن يعمل لغير الله والسمعة أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس ) وكأنه يرى أن الرياء كله مذموم أما السمعة فقد تكون مذمومة إذا قصد بالحديث عن عمله وجه الناس ، ومحمودة إذا قصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته وذلك الذي قاله ابن عبد السلام هو ما تصدقه النصوص الشرعية إذ يقول الله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس } وإذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به ) ، ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا فانظروا : هل تجدون عندهم الجزاء ؟ ) وإذ يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فيقول : ( إنه أواب ) فإذا هو المقداد بن الأسود .
هذا وللرياء أو السمعة أسباب أو بواعث توقع فيه وتؤدى إليه نذكر منها :
(1)…النشأة الأولى :
إذ قد ينشأ الولد في أحضان بيت دأبه وديدنه الرياء أو السمعة فما يكون منه إلا التقليد والمحاكاة وبمرور الزمن تتأصل هذه الآفة في نفسه وتصبح وكأنما هي جزء لا يتجزأ من شخصيته ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بأن يكون الدين هو أساس اقتران الرجل بالمرأة إذ يقول صلى الله عليه وسلم ( فاظفر بذات الدين تربت يداك ) ( وإذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ).
(2)…الصحبة أو الرفقة السيئة :
وقد تحتويه صحبة أو رفقة سيئة لا هم لها إلا الرياء أو السمعة فيقلدهم ويحاكيهم لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية شديد التأثر بغيره وبتوالي الأيام يتمكن هذا الداء من نفسه ويطبعها بطابعه وذلك هو سر ما قدمناه فيما مر من آفات من ضرورة أن تكون الصحبة طيبة تحترم شرع الله وتعمل به .
(3)…عدم المعرفة الحقيقة بالله عز وجل :-(2/3)
وقد يكون عدم المعرفة الحقيقة بالله عز وجل هو السبب أو الباعث على الرياء أو السمعة إذ أن الجهل بالله أو نقصان المعرفة به يؤدى إلى عدم تقديره حق قدره : ومن ثم يظن هذا الجاهل بالله الذي لم يعرفه حق المعرفة ولم يقدره أن العباد يملكون شيئا من الضر أو النفع فيحرص على مراءاتهم وتسميعهم كل ما يصدر عنه من الصالحات ليمنحوه شيئا مما يتصور أنهم مالكوه ولعل ذلك هو السر في دعوة الإسلام إلى المعرفة بالله أولا : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } بل وتطبيقه ذلك حيث دار القرآن المكي وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم طوال المرحلة المكية حول التعريف بأصول العقيدة وتأكيدها وترسيخها في النفس .
(4)…الرغبة في الصدارة أو المنصب :
وقد تدفع الرغبة في الصدارة أو في المنصب إلى الرياء أو السمعة حتى يثق به من بيدهم هذا الأمر فيجعلوه في الصدارة أو يبوئوه المنصب ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على اختيار أو ابتلاء الناس قبل الوثوق بهم أو الركون إليهم لا سيما إذا كانوا على حال تدعو إلى ذلك إذ يقول الله عز وجل : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } { يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن }
(5)…الطمع فيما في أيدي الناس :
وقد يحمله الطمع فيما بين أيدي الناس والحرص على الدنيا على الرياء أو السمعة ليثق به الناس وترق قلوبهم له فيعطونه ما يملأ جيبه ويشبع بطنه وفي سؤال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم ( والرجل
يقاتل للمغنم ) وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر ( من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى ) ما يشير إلى هذا السبب.
(6)…إشباع غريزة حب المحمدة أو الثناء من الناس :(2/4)
وقد يدعوه حب المحمدة أو الثناء من الناس إلى الرياء أو السمعة حتى يكون حديث كل لسان وذكر كل مجلس فتنتفش نفسه وتنتفخ بذلك والعياذ بالله وإلى هذا السبب يشير بقية الحديث المتقدم : ( .... والرجل يقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه من في سبيل الله ؟ ...)
(7)…شدة ذوى المسؤلية في المحاسبة :
وقد تكون شدة ذوى المسئولية في المحاسبة هي السبب في الرياء أو السمعة لاسيما إذا كان هناك ضعف في الإرادة وفتور في العزيمة وكأنه يحاول بهذا الرياء أو بهذه السمعة ستر ضعفه وفتوره وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إذ يقول لعائشة ( إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه ولا ينزع من شئ إلا شانه ).
(8)…إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال :
وقد يكون إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال هو الباعث على الرياء أو السمعة كي يكون هناك مزيد من هذا الإعجاب .
وحتى يحمى الإسلام البشر من هذا الداء منع إبراز هذا الإعجاب فإن كان ولا بد فليكن معه الاحتراز والحيطة بان
يقول : (( أحسب فلانا كذا والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا )).
(9)…الخوف من قالة الناس لا سيما الأقران :
وقد يكون الخوف من قلة الناس لا سيما الأقران هو الباعث على الرياء أو السمعة حتى يظهر أمامهم بالصورة التي ترضيهم وتسكت ألسنتهم عنه وإذا ما خلا بنفسه انتهك محارم الله { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا }.
(10) الجهل أو الغفلة عن العواقب أو الآثار الناجمة عن الرياء أو السمعة :
وأخيرا قد يكون الجهل أو الغفلة عن العواقب أو الآثار الناجمة عن الرياء أو السمعة هي السبب في مراءاة الناس أو تسميعهم فإن من جهل أو غفل عن عاقبة شئ ما لاسيما إذا كانت هذه العاقبة ضارة تعاطى هذا الشيء ولازمه حتى يصير خلقا له .
ثالثاً : سمات أو علامات الرياء أو السمعة :(2/5)
وحتى يدرك المسلم موقعه من الرياء أو السمعة فإن هناك سمات أو علامات يعرف بها وهذه السمات أو تلك العلامات هي :
(1)…النشاط في العمل ومضاعفة الجهد إذا كان هناك ثناء أو مدح والكسل والتقصير إذا كان هناك عيب أو ذم .
(2)…النشاط في العمل ومضاعفة الجهد إذا كان مع الناس والكسل والتقصير حال التفرد أو البعد عن الناس وإلى هاتين السمتين أو يشير سيدنا على رضى الله تعالى عنه : فيقول :
(( للمرائي علامات : كسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس ويزيد في العمل إذا أثنى عليه وينقص إذا ذم )).
(3)…الحفاظ على محارم الله ورعايتها إذا كان مع الناس وانتهاك هذه المحارم والتطاول عليها إذا كان وحد أو بعيدا عن الناس وإلى هذه السمة أو العلامة يشير النبي صلى الله عليه وسلم قائلا :
(( لأعملن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) .
رابعاً : آثار الرياء أو السمعة
وللرياء أو للسمعة آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي وإليك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب:
أ- آثار الرياء على العاملين :
فمن آثاره على العاملين :
1 - الحرمان من الهداية والتوفيق :
ذلك أن الله عز وجل هو وحده الذي يملك الهداية والتوفيق وهو وحده الذي يمن بهما على من يشاء ويمنعها ممن يشاء لا راد لقضائه ولا معقب لحكمة وقد مضت سنته وجرى قضاؤه أنه لا يمنحهما إلا لمن علم منه الإخلاص وصدق التوجه إليه { ويهدى إليه من أناب }. { ويهدى إليه من ينيب } والمرائي أو السمع بدد هذا الإخلاص وضيع ذلك الصدق فأنى له الهداية والتوفيق ؟ وصدق الله الذي يقول : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولله لا يهدى القوم الفاسقين }.
2 - الضيق أو الاضطراب النفسي :(2/6)
ذلك أن المرائي أو المسمع إنما يفعل طلبا لمرضاة لناس وطمعا فيما بأيديهم وقد يحول قضاء الله وقدره دون تحقيق ذلك نظرا لأن الأمور عنده سبحانه تجرى بالمقادير : { وكل شئ عنده بمقدار }. وحينئذ يعتريه الضيق والاضطراب النفسي فلا هو الذي ظفر برضا الله عز وجل ولا هو بالذي حصل ما كان يؤلمة ويرجوه من الناس : { ومن أعرض عن ذكرى الله فإن له معيشة ضنكا } { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } .
3 - نزع الهيبة من قلوب الناس :
ذلك أن الله وحده هو الذي يملك غرس هذه الهيبة في قلوب من يشاء من عباده بيد أن ذلك مرهون بتقديم الإخلاص بين يدي كل سلوك أو تصرف والمرائي أو المسمع أضاع هذه الرهينة فيضيع الله عليه الهيبة ونزعها من قلوب الناس فصار هينا عليهم:{ ومن يهن الله فما له من مكرم }.
ولقد وعى السلف ذلك فكانوا أحرص الناس على الإخلاص العمل لله حتى تبقى هيبتهم ومكانتهم مستقرة في الصدور أو في القلوب والأخبار الواردة عنهم في ذلك اكثر من أن تحصى وحسبنا منها ما أوصى به عمر بن الخطاب - رضى الله تعالى عنه أبا موسى الأشعرى إذا قال له :(( من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس )).
وما أثر عن الحسن البصري من كثرة مجاهداته لنفسه بالليل والناس نيام ثم محاولة إخفاء ذلك عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا حتى هابه ذووا السلطان والجاه .(2/7)
فقد نال من الحجاج - ذات مرة - لظلمة وطغيانه فوجه الحجاج بعض شرطه وأمرهم أن يأتوه به ليقتله وما هو إلا قيل حتى جاء الحسن فشخصت نحوه الأبصار ووجفت عليه القلوب واقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن وعزة المسلم ووقار الداعية فلما رآه الحجاج على حاله هذه هابه أشدد الهيبة وقال له : هاهنا يا أبا سعيد ......... هاهنا ...... ثم مازال يوسع له ويقول : هاهنا .....والناس ينظرون إليه في دهشة واستغراب حتى أجلسه على فراشه ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج وجعل يسأله عن بعض أمور الدين والحسن فقال له الحجاج يجيبه عن كل مسالة بجنان ثابت وبيان ساحر وعلم واسع فقال له الحجاج : أنت سيد التابعين يا أبا سعيد ثم أذن له بالعودة إلى بيته معززا مكرما .
4 - الإعراض من الناس وعدم التأثر :
ذلك أن القلب هو محل التأثر من الإنسان والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء ومن راءى أو سمع بعمله فقد قطع ما بينه وبين الله وأنى لذلك أن يمنحه الله إقبالا من الناس أو تأثيرا فيهم لذا تره إذا تكلم لا يسمع وإذا عمل لا يحرك والحوار التالي يكشف لنا عن حقيقة ذلك بجلاء ووضوح :
كان عمر بن هبيرة الفزارى واليا على العراقين في عهد الخليفة الأموي : يزيد بن عبد مالك وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في هذه الكتب ولو كان مجافيا بحق أحيانا فدعا ابن هبيرة كلا من الحسن البصري وعامر بن شراحبيل المعروف بالشعبي يستفتيهما في ذلك وهل له من مخرج فيدين الله ؟(2/8)
فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة ومسايرة للوالي والحسن ساكت فالتفت عمر ابن هبيرة إلى الحسن وقال : ما تقول أنت يا أبا سعيد فقال : يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله ، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد ، وأن يزيد لا يمنعك من الله ... يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ لا يعصى الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، حيث لا تجد هناك يزيد ، وغنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد ... يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد بن عبد الملك في الدنيا والآخرة ، وإن تك مع يزيد في معصية الله تعالى فإن الله يكلك إلى يزيد .
واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائناً ما كان في معصية الخالق - عز وجل - فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته ومال عن الشعبي إلى الحسن ، وبالغ في إعظامه وإكرامه ، فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد ، فاجتمع عليهما الناس ، وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع أمير العراقين ، فالتفت الشعبي إليهم وقال : أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله - عز وجل - على خلقه في كل مقام فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لعمر بن هبيرة قولاً أجهله ولكنى أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة ، وأراد فيما قاله وجه الله ، فأقصاني الله من ابن هبيرة وأدناه منه وحببه إليه.
5- عدم إتقان العمل :(2/9)
ذلك أن المرائي أو المسمِّع إنما يراقب الخلق لا الخالق ، و الخلق مهما كانت طاقاتهم وإمكاناتهم ، عاجزون عن المتابعة في كل بيئة وفي كل وقت ، وفي كل ظرف أو ملابسة ، لذا فإن عجزهم هذا ينتهي بالمرائي أو بالمسمِّع إلى عدم إتقان العمل ، الأمر الذي يفقده ثقة الناس ويكون بذلك قد ضيَّع نفسه من حيث أراد مصلحتها أو منفعتها ، وصدق الحق - تبارك وتعالى - إذ يقول { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }، ولقد أشار المولى - عز وجل إلى هذا الأثر وهو يتحدث عن المنافقين فقال:{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } .
6- الفضيحة في الدنيا وعلى رؤوس الأشهاد يوم القيامة :
ذلك أن المرائي أو المسمع إنما يقصد بعمله هذا خداع غيره ليعطيه هذا الغير زمامه ، وليسلم إليه قياده ، ويأبى الله - عز وجل - ذلك نظراً لما يمكن أن يصنعه هذا المرائي أو المسمع من إفساد في الأرض وإهلاك للحرث و النسل { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل والله لا يحس الفساد } .
لذا فإنه يفضحه في الدنيا ولو بعد حين ، حتى يحذره الناس ، ولا يغتروا به ، أما في الآخرة فإن الفضيحة تكون مزيدا من الانتقام و العذاب .
وقد سبق التصريح بهذا السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد سأله عن الجهاد و الغزو :( يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابراً محتسباً ، بعثك الله صابراً محتسباً ، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً ، بعثك الله مرائياً مكاثراً ، يا عبد الله بن عمرو على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تيك الحال ).
7- الوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس ، ثم الغرور ثم التكبر :(2/10)
ذلك أن المرائي أو المسمع يخدع كثيراً من الناس فترة زمنية معينة ، وخلال هذه الفترة تلهج ألسنة الناس وأفئدتهم بحمده و الثناء عليه ، وقد يحمله ذلك على الإعجاب بنفسه ، ثم الغرور ، ثم التكبر ، ثم يعيث في الأرض فساداً ، ويؤكد ذلك ما نشاهده في الوقت الحاضر من أن كثيراً من ذوى القيادة في أمتنا ، يسلكون سبيل الرياء و التسميع حتى إذا انخدع بهم الدهماء و العامة ، وسبحوا بحمدهم انقلبوا إلى معجبين بأنفسهم ، ثم مغرورين ، ثم متكبرين ، ثم سلطوا على الذين يفهمونهم منذ اللحظة الأولى يسومونهم سوء العذاب ، وأخيراً يسلطون على أولئك الذين ضيعوهم ، فيأكلونهم ، وصدق الله العظيم الذي يقول { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار }.
8- بطلان العمل :
ذلك أن الحق - سبحانه - مضت سنته في خلقه ألا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له ، وابتغى به وجهه { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } .
و المرائي جعل لنفسه وللناس حظاً من عمله ، وأنى لذلك أن يقبل الله منه عملاً ، أو أن يثيبه عليه ، وصدق الله { وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلماً } { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - :( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا فانظروا : هل تجدون عندهم لجزاء ) ، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي :( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برئ وهو للذي أشرك ).
وهكذا ينتهي الرياء أو السمعة بصاحبه إلى بطلان العمل ورده وعدم قبوله .
9- العذاب الشديد في الآخرة :(2/11)
وأخيراً ... فإن من حبط عمله على النحو الذي قدمنا ، ليس له من جزاء إلا العذاب الشديد في الآخرة ، ولذلك العذاب صور أبرزها صورتان :
الأولى : أنه يكون أول من تسعر بهم النار ، فإن وقودها كما قال الله في كتابه ، الناس و الحجارة ، { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة } ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم - إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ، رجل استشهد ، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جرئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجل تعلم العلم و علَّمه وقرأ القرآن ، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال إنك عالم ، وقرأت القرآن ليقال : قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال :ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى به في النار ).
الأخرى : الإلقاء في النار بحيث تخلع مفاصله وتتفكك أوصاله ، وتسقط أمعاؤه ، ويدور بها على مشهد ومرأى من أهل النار جميعاً ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى ، فيجتمع عليه أهل النار ، فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ؟ فيقول : بلى ، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهي عن المنكر وآتيه ).
ب- آثار الرياء على العمل الإسلامي :(2/12)
وإذا كان للرياء أو للسمعة تلك الآثار التي قدمنا على العاملين ، فإنها بدورها تنعكس على العمل الإسلامي ، وتتلخص هذه الآثار المتعلقة بالعمل الإسلامي فيما يأتي :
طول الطريق وكثيرة التكاليف :
ذلك أن قوماً أخلاقهم الرياء ، وصفاتهم التسمّع لا يمكن أن يُمَكَّن لهم إلا بعد طول ابتلاء وكثرة تمحيص :
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ... } ، { ... أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }، { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون } .
خامساً : طريق علاج الرياء و السمعة
هذا ... و الطريق لعلاج الرياء أو السمعة تتلخص في :
1- تذكر عواقب الرياء أو السمعة الدنيوية والأخروية على النحو الذي قدمنا آنفاً ، فإن ذلك له أثر كبير في تحريك القلوب ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ثم إقلاعها عن هذه الآفة ، أو عن هذا الداء الخطير .
2- الانسلاخ من الصحبة المعروفين بالرياء أو بالسمعة ، ثم الارتماء في أحضان المخلصين الصادقين ، فإن ذلك له دوره في إقلاع النفس عن هذه الآفة حتى تبرأ منها تماماً .
3- معرفة الله - عز وجل - حق المعرفة ، فإن هذه المعرفة تعين على تقدير الله حق قدره ، الأمر الذي يؤدى إلى التخلص من الرياء أو السمعة ، ثم التحلي بالإخلاص ، وسبيل ذلك معايشة الكتاب و السنة .
4- مجاهدة النفس ، حتى تهذب من الغرائز التي تملى على الإنسان الرياء أو السمعة و التي من جملتها الرغبة في الصدارة أو المنصب ، وكذلك الطمع فيما في أيدي الناس ، وحب الثناء أو المحمدة .
5- رفق ذوى المسئولية في المحاسبة ، فإن الرفق ما كان في شئ إلا زانه ، وما نزع من شئ إلا شانه .(2/13)
6- الالتزام بأدب الإسلام في المعاملة فلا غلو في الاحترام و التقدير ، ولا إهمال ولا تقصير ، وإنما هو الأمر الوسط ، وخير الأمور أوساطها .
7- الوقوف على أخبار المرائين ، ومعرفة عواقبهم ، فإن ذلك مما يساعد على تجنب هذا الداء ، أو هذه الآفة ، لئلا تكون العاقبة كعاقبة هؤلاء .
8- دوام النظر أو السماع للنصوص المرغبة في الإخلاص ، و المحذرة من الرياء ، فإن بداية الإقلاع عن الأخطاء والالتزام بالصواب تكون بوضوح الرؤية ، ودقة التصور ، إذ من جهل شيئاً عاداه ، كما قال الله عز وجل{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } .
9- محاسبة النفس أولاً بأول للوقوف على عيوبها ، ثم التخلص من هذه العيوب .
10- اللجوء التام إلى الله ، والاستعانة به ، فإن من لجأ إلى الله واستعان به ، وكان صادقاً في ذلك ، أيده الله ، وأعانه ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خطب ذات يوم فقال :
( أيها الناس اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفي من دبيب النمل ، فقال له من شاء أن يقول ، وكيف نتقيه ، وهو أخفي من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : ( قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ).
11- التذكر بأن كل شئ يجرى في هذا الكون بقضاء وقدر :
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } ، وأن الخلق مهما كانت قوتهم ، ومهما كان سلطانهم فإنهم عاجزون عن أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً أو يدفعوا عنها ضراً فضلاً عن أن يملكون هذا لغيرهم { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } ، { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً }.
الآفة التاسعة
إتباع الهوى
والآفة التاسعة التي تصيب بعض لعاملين ويصطلي بناره العمل الإسلامي إنما هي :(( إتباع الهوى )).(2/14)
وحتى يتطهر منها من ابتلوا وأصيبوا ويتحصن من غوائله وخطرها من عافاهم الله عز وجل منها فإنه لابد من الوقوف على أبعاده ومعالمها وتقديم تصور واضح لها .
ولكي نقف على هذه الأبعاد وتلك المعالم ويكون لدينا تصور واضح أو قريب من الواضح عن هذه الآفة فإننا سنتناولها على النحو التالي :
أولاً : مفهوم اتباع الهوى :
اتباع الهوى لغة : لا يمكن أن ينجلي أو يظهر المراد باتباع الهوى لغة إلا إذا فسر المراد بالهوى فماذا يراد بالهوى ؟.... يطلق الهوى على عدة معان نذكر منها :
(أ) ميل النفس إلى ما تشتهي .
(ب) إرادة النفس ما تحب .
(ج) عشق الشيء وتمكنه من القلب .
وحقيقة الحال أن هذه المعاني جميعا متقاربة وإن اختلف العبارة أو اللفظ إذا المعنى الأول والثاني يصوران الهوى في بدايته على أنه مجرد ميل وإرادة قلبية دون تمكن واستقرار أما المعنى الثالث فيصوره في وسطه على أنه حب أو غلبة قلبية يمكن أن تزول بقليل من الجاهدة أما المعنى الرابع والأخير يصوره في نهايته على أنه عشق وهيام يسيطران على القلب ويتمكنان منه ولا يمكن زوالهما بالجاهدة إلا بعد جهد جهيد وزمن طويل .
ولما كان معنى من المعاني المذكورة آنفا صالحا لأن يكون في الخير وصالحا لأن يكون في الشر فقد علماء اللغة : إن الهوى إذا أطلق انصرف إلى ما كان شرا أو ما كان مذموما فإذا أريد به ما كأن يقال : هوى حسن وهوى مواقف للصواب .
وإذا انتهينا الآن من تحديد المراد بالهوى لغة فإننا نقول : أن اتباع الهوى في اللغة هو السير وراء ما تهوى النفس وما تشتهي بل ما تحب .
اتباع الهوى اصطلاحا : أما المراد بتباع الهوى في اصطلاح الشرعي والدعوة فهو السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل أو الرجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة .
ثانيا : حقيقة اتباع الهوى في الميزان الإسلام :(2/15)
واتباع الهوى ليس مذموما كله في نظر الإسلام بل منها ما هو مذموما وهو المذكور في المعنى الاصطلاحي وهو الذي عناه القرآن الكريم في قول الله عز وجل -:
{ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا }.
{ ولا تتبع الهوى فيظلك عن سبيل الله }.
{ ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي }.
{ وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى }.
{ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه }.
{ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }.
أخرى كثيرة .
كما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ).
بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودينا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام .....
والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معرفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه .... وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه.
وعناه بعضهم بقوله :
إني بليت بأربع يرمينني بالنيل من قوس لها توتير
إبليس والدنيا ونفسي والهوى يا رب أنت على الخلاص قدير
ومنه ما هو محمود وهو الموقف لشرع الله ومنهجه وهديه وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئتكم به كما عنته عائشة رضى الله تعالى عنها بقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله تعالى قوله :{ ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك }:
(( ما أرى إلا يسارع في هواك )).
ثالثا : أسباب اتباع الهوى تؤدى إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها :
1- عدن التعويد على ضبط الهوى منذ الصغر :
أي أن السبب الأول لاتباع الهوى إنما يدور حول عدم التعويد على ضبط هذا الهوى منذ الصغر :(2/16)
ذلك أن الإنسان قد يلقى من أبويه منذ الصغر حبا مفرطا وحنان فوق المطلوب بحيث يطغى هذا الحب وذلك الحنان على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لابد منها لتنظيم الرغائب أو الدوافع وحينئذ يكبر هذا الإنسان ويكبر معه الانسياق وراء العواطف والرغائب حتى لو كانت مخالفة للمشروع إذ من شب على شئ شاب عليه إلا من رحم الله عز وجل .
جاء في منهج التربية الإسلامية قول كاتبه:
والأم التي ترضع طفلها كلما بكى لكي يسكت أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكى تضره بذلك لأنها لا تعينه على ضبط رغباته ولا تعوده على ذلك الضبط في صغره فلا يتعوده في كبره ومن منا تتركه ظروف الحياة لرغباته يشبعها كما يشاء ؟ وذلك فضلا عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط ويتعوده منذ باكر عمره لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم في النفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها فتنساق معها وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط في ذاته ولكنه يصبح إثما حين يشغل عن الجهاد في سبيل الله :
{ قل أن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب إليكم من الله لا يهدى القوم الفاسقين }.
فكل ما ذكرته الآية ليس محرما في ذاته ولكنه صار فسقا وحراما حين أصبح سببا في القعود عن الجهاد في سبيل الله وحين رجحت كفته في الميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله.
فما الوسيلة للاستقامة على ميزان الله إلا ضبط هذه الرغبات ، والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله .
و الضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها ، وعادة يتعلمها وكلما تدرب عليها وهو صغير كان اقدر عليها ، واكثر تمكناً منها فيجدها حاضرة في أعصابه حين تفجؤه الأحداث.
2- مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم :(2/17)
و السبب الثاني لاتباع الهوى ، إنما هو مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم ، ذلك أن العواطف أو الدوافع تنمو بالمجالسة وطول الصحبة ، وعليه فمن لازم مجالسة أهل الأهواء وأدام صحبتهم ، فلابد من تأثره بما هم عليه ، لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية ، وعنده قابلية التأثر بغيره من أولئك الناس .
وقد وعى السلف - رضوان الله عليهم - هذا السبب ، فأكثروا من التحذير من مجالسة أهل الأهواء ، بل و التعامل معهم أثر عن أبى قلابة قوله :
( .... لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وأثر عن الحسن وابن سيرين قولهما :
( ولا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ، ولا تسمعوا منهم ) .
3- ضعف المعرفة الحقة بالله و الدار الآخرة :
و السبب الثالث لاتباع الهوى إنما هو ضعف المعرفة الحقة بالله وبالدار الآخرة ، ذلك أن من ضعفت معرفته بالله ، وأنه وحده له الحكم ، وإليه المرجع و المآب ، وهو أسرع الحاسبين ، كما قال سبحانه عن نفسه { ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } من كان كذلك لا يقدر ربه حق قدره ، وبالتالي يفعل ما يفعل غير مبال بما إذا كان ذلك يرضى الله أو يغضبه ، ينجيه أو يهلكه .
وقد لفت الحق سبحانه النظر إلى ذلك وهو يتحدث عن الضالين و المكذبين ، مبيناً أن السبب في ضلال هؤلاء وتكذيبهم إنما يعود إلى عدم معرفتهم بالله حق المعرفة ، وبالتالي عدم تقديرهم له حق قدره ، إذ يقول سبحانه :(2/18)
{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ ... } { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ، وغن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز } { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ، ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .
4- تقصير الآخرين في القيام بواجبهم نحو صاحب الهوى :
و السبب الرابع لاتباع الهوى إنما هو تقصير الآخرين في القيام بواجبهم نحو صاحب الهوى ، ذلك أن صاحب الهوى إذ رأي ممن حوله استحساناً لما هو عليه ، أو سكوتاً وعدم إنكار بأي من وسائل الإنكار ، فإنه يمضى ويتمادى فيما هو عليه ، حتى يتمكن الهوى من قلبه ،ويسيطر على كل سلوكياته وتصرفاته .
ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على مقاومة المنكرات ، وعدم السكوت عنها ولكن بالأسلوب المناسب ، ومع التكرار ، نظراً لأن غالبها ناشئ عن اتباع الهوى ، إذ يقول الحق سبحانه { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ، { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ، { وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } .
ولعله السر كذلك في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مجانبة من لمح فيهم ميلاً إلى الهوى ، وعدم رحابة الصدر لهم ، لعلهم يتوبون أو يذكرون .
جاء عن عبد الله بن كعب أنه قال : سمعت كعب بن مالك ، وذكر ابن السرح قصة تخلفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، قال :(2/19)
ونهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة ، حتى إذا طال تسورت جدار حائط أبى قتادة ، وهو ابن عمى ، فسلمت عليه ، فوا الله ما رد على السلام ، ثم ساق خبر توبته.
وجاء عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - أنه اعتل بعير لصفية بنت حيى ، وعند زينب فضل ظهر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطيها بعيراً ، فقالت : أنا أعطى تلك اليهودية ؟؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهجرها ذا الحجة و المحرم وبعض صفر .
وجاء عن عمار بن ياسر أنه قال :: قدمت على أهلي ، وقد تشققت يداي ، فخلفوني بزعفران ، فغدوت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه ، فرد على ، وقال :( اذهب فاغسل عنك هذا ).
5- حب الدنيا و الركون إليها مع نسيان الآخرة :
و السبب الخامس لاتباع الهوى إنما هو حب الدنيا و الركون إليها مع نسيان الآخرة ، ذلك أن من أحب الدنيا ، وركن إليها ونسى الآخرة يتولد عنده سعى حثيث لتلبية كل ما يفرضه هذا الحب ، وذلك الركون ، حتى وإن كان مخالفاً لمنهج الله ، وذلك بعينه هو اتباع الهوى ، وقد لفت المولى النظر إلى هذا السبب في قوله :
{ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، و الذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } .
كما لفت النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر في الحديث المذكور آنفاً :( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله )
6- الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى :
والسبب السادس لاتباع الهوى إنما هو الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى ، ذلك أن من جهل عواقب محظور من المحظورات وقع في هذا المحظور دون أدنى اهتمام أو مبالاة ، ولعل هذا هو السر في اهتمام الشارع الحكيم بالتذكير بالعواقب المترتبة على المأمورات و المنهيات ، كما أشرنا إلى ذلك غير مرة فيما تقدم من آفات .(2/20)
رابعاً : آثار اتباع الهوى :
ولاتباع الهوى آثار ضارة ، وعواقب مهلكة ، سواء كانت على العاملين أو على العمل الإسلامي ودونك هذه الآثار :
أ- آثار اتباع الهوى على العاملين :
فمن آثاره على العاملين :
1- نقصان بل تلاشى الطاعة من النفس :
ذلك أن صاحب الهوى أو المتبع لهواه يعز عليه ، بل يكبر في نفسه أن يطيع غيره ، خالقاً كان هذا الغير أو مخلوقاً ، بسبب أن هذا الهوى قد تمكن من قلبه ، وملك عليه أقطار نفسه ، فصار أسيراً لديه ودافعاً له في نفس الوقت إلى الغرور ، و التكبر ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، فإما أن يطيع ربه ، وغما أن يطيع نفسه وهواه ، وشيطانه ، وهو ليس بمطيع ربه ، فلن يبق إلا أن يكون مطيعاً لهواه .
2- مرض القلب ثم قسوته وموته :
ذلك أن صاحب الهوى غارق من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه في المعاصي و السيئات ، وهذه بدورها لها آثار خطيرة على القلب ، إذ أنها تنتهي به إلى المرض ثم القسوة أو الموت ، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت ، حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكره الله - عز وجل - في القرآن { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ، وإذا مات القلب وهو لب الإنسان وجوهره ، فماذا بقى لهذا الإنسان ؟!! إنه لا يبقى له سوى الشحم و اللحم ، أو بالأحرى الجانب الطيني وهو جانب حقير لا قيمة له في ميزان الله ، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :
( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ).
3- الاستهانة بالذنوب والآثام :
وذلك أن المتبع لهواه قد قسا قلبه ومات على النحو الذي قدمنا ، ويوم تقسو القلوب وتموت تكون الاستهانة والاستهتار بالذنوب والآثام كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(2/21)
( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا .... ) والاستهانة بالذنوب والآثام هي عين الهلاك ، و البوار و الخسران المبين .
4- عدم جدوى النصح والإرشاد :
وذلك أن المتبع لهواه قد ركب رأسه ، وصار عبد لشهواته ، وأني لهذا أن يستجيب لنصح أو ينفع فيه توجيه وإرشاد ؟!! ولا خير في قوم لا يتناصحون ولا يقبلون النصيحة ، { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ... } .
5- الابتداع في دين الله :
وذلك أن صاحب الهوى يميل كغيره من البشر إلى إثبات ذاته ووجوده وهو لا يرضى منهج الله طريقاً لتحقيق هذا الميل ، فلم يبق إلا أن يبتدع منهاجاً يوافق هواه وشهواته ، يقول حماد بن سلمة :( حدثني شيخ لهم تاب - يعنى الرافضة - قال :( كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثاً ) والابتداع هو الضلال وكل ضلال في النار كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ... إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ).
( ... أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )
6- التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم :
وذلك أن صاحب الهوى بعبوديته لشهواته وميوله ، قد أعرض عن مصدر الهداية و التوفيق ، فمن أين يأتيه التوفيق ، و الهداية إلى الطريق المستقيم ؟ وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول :
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على قلبه غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } .
7-إضلال الآخرين وإبعادهم عن الطريق :
ولا تقتصر هذه الآثار الضارة على صاحب الهوى ، بل كثيراً ما تتعداه إلى الآخرين لاسيما السقوط أو البعد عن الطريق سهل مرغوب فيه ، وقد لفت المولى - سبحانه وتعالى - النظر إلى ذلك في قوله :
{ وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم } .(2/22)
8- الصيرورة إلى الجحيم وبئس المصير :
وأخيراً فإن من عوقب بكل الآثار التي قدمنا فإنما مأواه الجحيم وصدق الله العظيم :
{ فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى } .
ب- آثار اتباع الهوى على العمل الإسلامي :
وأما آثار اتباع الهوى على العمل الإسلامي ، فإنها كثيرة نذكر منها :
1- ضعف بل تلاشى كسب الأنصار :
وذلك أن العمل الإسلامي إذا قام على أكتاف ، أو كان في صفه من عرف باتباع الهوى ، فإنه بذلك يسد الباب في وجه الأنصار الجدد ، إذ ليس فيه حينئذٍ أسوة أو قدوة تغرى بالالتحاق به ، وبذل الغالي و الرخيص في سبيل نصرته و المضي به قدماً إلى الأمام ، وهذا بدوره يؤدى إلى طول الطريق مع كثرة التكاليف .
2- تفريق أو تمزيق وحدة الصف :
وذلك أن صف العمل الإسلامي إذا اشتمل على أصحاب الأهواء ، فإنهم ينتهون به إلى التمزيق و الفرقة ، نظراً لضعف أو تلاشى مبدأ الطاعة عندهم ، وحين تقع هذه الفرقة أو هذا التمزق ، فقد صار العمل الإسلامي لقمة سائغة في فم الأعداء .
ولعمري هذا هو أهم ما يسعى إليه هؤلاء ، حتى يصير حقيقة وواقعاً في هذه الأرض ، وحينئذٍ يتمكنون بواسطته من ضرب العمل الإسلامي أو على الأقل إجهاضه و الرجوع إلى الوراء عشرات السنين .
3- الحرمان من العون والتأييد الإلهي :
وذلك أن سنة الله في خلقه مضت أنه لا يمنحهم العون أو التأييد إلا إذا كانوا أهلاً لذلك ، حتى إذا مكَّن لهم يكونون كما قال سبحانه :( الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ... } .
ولعمري فإن صاحب الهوى بمعصيته لربه ولرسوله ولإمارة المسلمين ، يكون سبباً في حجب هذا العون وذلك التأييد الإلهي للعمل الإسلامي .
وما زالت وصايا عمر لأمراء الجيوش الإسلامية وجندها ، أبان الفتوحات الإسلامية ترن في الآذان ، إذ قال لسعد بن أبى وقاص حين أمَّره على العراق :(2/23)
يا سعد بن وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن ، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء ، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه ، فإنه الأمر ، هذه عظتي إياك ، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ، وكنت من الخاسرين ).
كما كتب إليه ومن معه من الأجناد :
أما بعد ... فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال ، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ، وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدتنا كعدتهم ، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا ، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون ، فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا شر منا ، فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بنى إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كفار المجوس فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً ، واسألوا الله العون على أنفسكم ، كما تسألونه النصر على عدوكم ، واسألوا الله تعالى ذلك لنا ولكم .
خامساً : علاج اتباع الهوى :
وحتى يعالج أصحاب الأهواء أنفسهم ويقيمونها على الجادة فإنه لا مناص من اتباع الخطوات الآتية :
1- التذكير بعواقب اتباع الهوى سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ، فإن ذلك له دور كبير في تخليص النفس من أهوائها وشهواتها ما دامت مخالفة لمنهج الله ورسوله .(2/24)
2- الانقطاع عن مجالسة ومصاحبة أهل الأهواء ، مع الارتماء في أحضان أهل الصلاح والاستقامة ، فإن ذلك يعين على تحرير النفس من وقوعها أسيرة الأهواء والشهوات .
3- التعريف بالله - عز وجل - حق المعرفة ، فإن ذلك يولد في النفس حبه وإجلاله ، و النزول على حكمه في كل ما أمر به ، وفي كل ما نهي عنه ، بل ويربى فيها كذلك مراقبته وخشيته و الطمع في جنته ، ورضوانه و الخوف من ناره وعقابه .
4- حياطة الآخرين ورعايتهم لصاحب الهوى ، تارة بالنصيحة المقرونة بآدابها وشروطها ، وتارة بإيقاع السلوك الأمثل أمامه ، وتارة بالعتاب وتارة بالتوبيخ و التأنيب وتارة بالهجر و القطيعة إلى غير ذلك من أساليب ووسائل الحياطة و الرعاية .
5- الوقوف على سير أصحاب الأهواء وعاقبتهم سواء أكانوا من هذه الأمة أو من الأمم الأخرى ، فإن ذلك يولد في النفس نفوراً من اتباع الهوى لئلا تكون حديث كل لسان ، ولئلا ينزل بها من العقاب مثلما نزل بهؤلاء .
6- الوقوف على سير وأخبار من عرفوا بمجاهدة نفوسهم وأهوائهم وإلزامها بحدود الله مثل عمر بن عبد العزيز ، و الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، و الفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وغيرهم وغيرهم ، فإن ذلك يحمل معنى الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و المشابهة .
7- التحذير من الركون إلى الدنيا والاطمئنان بها مع الربط الشديد بالآخرة بحيث يبتغى المسلم فيما آتاه الله : الدار الآخرة ، ولا ينسى نصيبه من الدنيا إن أمكن ، وإلا آثر الآخرة عن الأولى .
8- الاستعانة الكاملة بالله - عز وجل - فإنه سبحانه يعين من لجأ إليه ولاذ بحماه ، وطلب العون و التسديد منه ، وصدق الله إذ يقول في الحديث القدسي :
( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ).
9- مجاهدة النفس ، وحملها قسراً على التخلص من أهوائها وشهواتها من قبل أن يأتي يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ، والأمر يومئذٍ لله .(2/25)
10- التذكير بأن السعادة و الراحة و الطمأنينة و الفوز ، إنما هي في اتباع المشروع ، لا في اتباع ما تملى النفس وما تهوى ، وصدق الله إذ يقول :
{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } ، { فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وفي هذا المعنى يقول القائل :
واعلم بأن الفضل في إيحائه ……لا في الذي يوحي إليه هواكا
الآفة العاشرة
التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
والآفة العاشرة التي يبتلى بها نفر من العاملين ولا يكاد يسلم من شرها العمل الإسلامي إنما هي : ( التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة ) وحتى يتطهر من هذه الآفة من ابتلوا بها ويتقى شرها من عافاهم الله عز وجل منها فتصفو الطريق أمام العمل الإسلامي فإنه لابد من تقديم أو عرض تصور واضح لها وذلك على النحو التالي :
أولا : مفهوم التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة :
التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة لغة : لا نستطيع تحديد المراد بالتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة لغة إلا بعد تحديد المراد بالصدارة والريادة فماذا يراد بهما ؟
تطلق الصدارة في اللغة ويراد بها التقدم أو الترؤس إذ هي مأخوذة من الصدر الذي هو أعلى مقدم كل شئ وأوله ، تقول : صدر النهار والليل وصدر الشتاء والصيف وما أشبه ذلك تعنى أول وأعلى كل واحد منها وتصدر الفرس وصدر أي تقدم الخيل بصدره .
وكذلك الريادة تطلق لغة ويراد بها : التقدم أو السبق للإعداد والتهيئة إذ هي مأخوذة من الرود وهو الترويد أو فعل الرائد تقول : بعثنا رائدا يرود لنا الكلأ والمنزل ، ويرتاد أي ينظر ويطلب ويختار أفضله .(2/26)
وإذ انتهينا الآن من تحديد المراد بالصدارة والريادة لغة فإننا نقول : إن التطلع للصدارة وطلب الريادة في اللغة إنما هو الرغبة في التقدم على الغير بل سؤال ذلك صراحة التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة اصطلاحا : أما المراد بالتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في الاصطلاح الشرعي والدعوى فإنما هو تعلق القلب بالإمامة أو الريادة وسؤال ذلك صراحة أو القعود عن القيام بالواجب وأداء الرسالة .
ثانيا : حقيقة التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في ميزان الإسلام :
والتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في ميزان الإسلام شئ مذموم ومنهي عنه بل عليه الوعيد الشديد إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا والله لا نولى على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه ).
ويقول عليه الصلاة والسلام - لعبد الرحمن بن سمرة رضى الله عنه : ( يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها ) .
ويقول أبو ذر رضى الله عنه : قلت يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ثم قال : ( يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها ) ويقول المقدام بن معد يكرب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه ثم قال له : ( أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميراً ولا كاتباً ولا عريفاً ).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(ويل للأمراء ويل للعرفاء ويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شئ ) .(2/27)
وإذا كان هذا هو موقف الإسلام من التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة فما بال نبي من أنبياء الله سألها وزكى نفسه ليعطاها ؟ إنه يوسف عليه السلام إذ حكى القرآن الكريم قوله { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } وما بال المسلم يلح في سؤالها حتى تصبح سمة من سماته وعلامة يعرف بها بين الناس ؟ إذ يقول الحق سبحانه في صفات عباد الرحمن : { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } ونقول : لا تعارض ولا تناقض : ذلك أن يوسف عليه السلام سأل وزكى نفسه لأنه رأي خلو المكان من قائم بالحق وداع إليه ومدافع عنه ووجد نفسه أهلا لذلك ولكنه لم يكن معروفا فكان لابد من السؤال والتزكية من باب { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } وكذلك سؤال المسلم الريادة والإمامة إنما هو سؤال لله وليس للبشر والمنهي عنه سؤال البشر وأيضا هناك فرق بين أن يطلب المسلم ذلك من ربه حتى يكون جاهزا ومعدا لسد الفراغ عند الحاجة وبين أن يظل نائما ثم يسأل الريادة ولم يأخذ بسبب واحد من أسباب القدرة عليها والقيام بحقها .
ثالثا : أسباب التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة :
وللتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة أسباب تؤدى إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها :
(1) الرغبة في التحرر من سيطرة وسلطان الآخرين :
فقد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة إنما هي الرغبة في التحرر من سيطرة وسلطان الآخرين ذلك أن بعض الناس قد ينشأ دون أن يذوق طعم الطاعة لأحد ولو مرة واحدة ومثل هذا إذا وضع في محيط جماعي فإنه يعز عليه بل يكبر في نفسه أن يكون فوقه أحد لذلك تراه تتعلق نفسه تعلقا بالصدارة ويسعى جاهدا لسؤال الريادة حتى يتحرر بتصوره من سيطرة وسلطان الآخرين.
(2) الرغبة في تحصيل عرض من أعراض الحياة الدنيا :(2/28)
وقد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة إنما هي الرغبة في تحصيل عرض من أعراض الحياة الدنيا ذلك أن بعض الناس قد يتعلق بالحياة الدنيا تعلقا يحمله على إصابتها من أي باب تيسر له حلالا كان هذا الباب أو حرام ومثل هذا الصنف يتصور أنه إذا كان صدرا أو رائدا فإن الكل سيكون في خدمته من أجل إصابة حظه من أعراض هذه الحياة الفانية لذا تراه متعلق النفس بالصدارة ساعيا بجدية واهتمام لسؤال أو طلب الريادة .
(3) الغفلة عن تبعات الصدارة والريادة :
وقد يكون السبب في التطلع وطلب الريادة إنما هي الغفلة عن تبعات هذه الصدارة وتلك الريادة ذلك أن تبعات الصدارة والريادة ضخمة فصاحبها يجوع حيث يشبع الآخرين ويظمأ حيث يروى الآخرون ويسهر حيث ينام الآخرون ويتعب حيث يستريح الآخرون وبالجملة فإن تبعات هذا الأمر أن يفدى صاحبه الآخرين بنفسه في ساعات الشدة ويقدمهم على هذه النفس في ساعات الرخاء على نحو ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ يقول للبراء رضى الله عنه : ( كنا والله إذا احمر البأس نتقى به وإن الشجاع منا للذي يحاذى به يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ).
وإذ يقول علىّ رضى الله تعالى عنه ( كنا إذا أحمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه ).(2/29)
ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: ( لن تراعوا لن تراعوا ) وهو على فرس لأبى طلحة عرى ما عليه سرج في عنقه سيف ) ويقول أبو هريرة رضى الله تعالى عنه : الله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم بفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال : يا أبا هر فقلت : لبيك يا رسول الله قال : الحق ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال : من أين هذا اللبن ؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة قال : أبا هر قلت : لبيك يا رسول الله قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا أحد إذا أتته هدية أرسل إليهم ، وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت فقال : يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال : خذ فأعطهم قال : فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح حتى انتهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلى فتبسم فقال : أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله قال :بقيت أنا وأنت ؟ قلت : صدقت يا رسول الله قال : اقعد فاشرب فقعدت فشربت قال : اشرب فشربت فما زال يقول(2/30)
: اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال : فأرني : فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة ).
هذه تبعات وتكاليف الصدارة والريادة ومن غفل عنها فإنه تتعلق نفسه لا محالة بالصدارة ويجتهد في طلب الريادة.
(4) الغفلة عن عواقب التقصير في الصدارة والريادة :
وقد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة إنما هي الغفلة عن عواقب التقصير في هذه الصدارة وتلك الريادة وذلك أن عواقب التقصير في هذه الصدارة وتلك الريادة وذلك أن عواقب التقصير في هذا الأمر في الدنيا إنما هي إفساح المجال أمام الباطل وجنده ليفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل وأما في الآخرة فهي التقييد بالأغلال والسلاسل والحرمان من الجنة والإلقاء في النار إذ يقول -صلى الله عليه وسلم -:
( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )
( ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور ).
(من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار ).
ومن غفل عن هذه العواقب فإنما تتوق نفسه إلى الصدارة ويسأل الريادة .
(5) الرغبة في التسلط وإذلال الآخرين :
وأخيرا قد يكون السبب في التطلع إلى الصدارة وطلب ذلك إنما هي الرغبة في التسلط وإذلال الآخرين ذلك أن بعض الناس قد يلقى شدة وضغطا في تربيته أو تخوينا وتسيبا إلى حد حب التسلط والإذلال ومثل هذا يرى الصدارة والريادة باب يلج منه ليتشفى وليشبع غريزة أفرزتها التربية السيئة .... لذا فإن نفسه تتوق إلى هذه الصدارة ويجتهد في طلب تلك الريادة .
رابعا : آثار التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة :
وللتطلع إلى الصدارة وطلب الريادة آثار سيئة وعواقب وخيمة على العاملين وعلى العمل الإسلامي ودونك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب :
أ- آثار التطلع إلى الصدارة على العاملين :
فمن آثار ذلك على العاملين :(2/31)
(1) الحرمان من التوقيف والعون لإلهي :
ذلك أن التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة يعنى الوثوق بالنفس والاعتماد عليها وعلى ما لديها من طاقات وإمكانيات دون الحاجة إلى عون وتأييد من الله وقد جرت سنة الله مع خلقه أن يتخلى عمن اعتمدوا على حولهم وقوتهم غير عابئين بحوله سبحانه وقوته ... وما ظنك بمن تخلى عنه ربه أيكتب له التوفيق أو يحظى بأي عون أو تأييد ؟ اللهم لا !!
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا الأثر في قوله لعبد الرحمن ابن سمرة :( يا عبد الرحمن : لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسالة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسالة أعنت عليها .....)
(2) تعريض النفس للفتنة وبالتالي للغضب الإلهي :
وذلك أن من تطلع إلى الصدارة والريادة فقد جعل نفسه في مهب ريح الفتن إذ ربما ينسى بهذا التطلع وذلك الطلب مراقبة الله والحساب والمساءلة غدا بين يديه سبحانه فيركن إلى الدنيا ويرضى بها أو ينسى تبعات وتكاليف هذا الأمر بل ربما جار وظلم وهذا كله ينتهي به إلى استحقاق الغضب والسخط الإلهي الذي يتمثل في العقاب والعذاب على نحو ما شرحنا آنفا .
وما اجمل وأروع تصوير النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الأمر حتى يقول :
( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ).
(3) تضاعف الأوزار والأثقال :
وذلك أن من يصل إلى الصدارة و الريادة بعد التطلع والسؤال قد يفتن ويقتدي ويتأسي به من هم دونه فيعرضون أنفسهم للفتنة مثله وحينئذ تتضاعف عليه الأوزار والأحمال فيحمل وزره ووزر من اقتدى وتأسى في الشر به وتصدق الله :{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم -:-
( ...... ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ ) ...(2/32)
من عمل إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )
(4) القتل أو النفي أو التشريد في الأرض :
وذلك أن التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة قد يؤدى إلى التشاجر أو التناحر وربما أسفر ذلك عن قتل أو النفي والتشريد في الأرض والتاريخ البشرى حافل بآلاف النماذج التي تطلعت إلى الصدارة وطلب الريادة ولم تصل إلى مرادها بل انتهت بها الحال إلى القتل أو النفي والتشريد في الأرض:
ب- آثار التطلع إلى الصدارة على العمل الإسلامي :
ومن آثار ذلك العمل الإسلامي كثرة التكاليف وطول الطريق ذلك أن صفا يحوى في طياته متطلعين إلى الصدارة وطالبين للريادة لا يمكن أن يستقيم أبدا وأنى لهذا الصف أن يستقيم وفيه من أغرتهم الدنيا بزخرفها وبريقها وزهرتها وزينتها ممثلا ذلك التطلع إلى المنصب والتعلق به ؟.
وإذا انتهي الأمر بصف إلى الاعوجاج فإن نصر الله منه بعيد إلا أن يكون ذلك مكرا واستدراجا وصدق الله :
{ ولينصرن الله من ينصره } .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ..}.
قد فطن إلى ذلك سلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين فكانوا إذا تأخر عليهم النصر يردون هذا التأخير إلى حب الدنيا والتعلق بها ثم يبادرون بالتوبة والرجوع إلى الله فينزل بهم نصره .
والقصة التالية تصوير بديع لما فطن إليه هؤلاء :
لما أبطأ فتح مصر على عمرو بن العاص كتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف (تمام ثمانية آلاف ) على ألف رجل منهم رجل كتب إليه : إني أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد واعلم أن معك اثني عشر ألفا ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة .(2/33)
ولما وصل هذا المدد وتأخر الفتح على عمر كتب إلى عمرو : أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم وقد كنت وجهت إليك الأربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم فإذا أتاك كتابي فاخب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله ويسألوا النصر على عدوهم ......
خامساً: علاج التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة :
ويمكن التطهر من هذه الآفة بل وتحصين النفس ضدها باتباع الأساليب التالية :
(1) دوام النظر في السنة النبوية :
فإن فيها تحذيرا شديدا من سؤال الولاية أو تعلق القلب بها بل فيها تصوير بليغ لتبعات وعواقب التقصير في هذا الأمر على نحو ما ذكرنا في الأسباب من قبل .
(2) دوام التذكير بتبعات هذا الأمر وعواقبه الدنيوية والأخروية :
فإن الإنسان بفطرته ينسى ولا علاج لهذا النسيان إلا بالتذكير والتذكير الدائم على منهج القرآن الكريم :{ فذكر إن نفعت الذكرى }. { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }.
(3) التعويد على الطاعة وهضم النفس منذ نعومة الأظافر :
فإن ذلك له أثره فيما بعد فيخلع هذه الأمراض من القلب والرضا بالحال التي يوضع فيها المسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(.... طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعت رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في ساقة كان في الساقة ......).
(4) الرفق في المعاملة :(2/34)
فإنه ما كان الرفق في شئ إلا زانه وما نزع الرفق من شئ إلا شانه وعليه فإن هذا الرفق سيعين على تخليص القلب من الصدارة بل وحمد الله على المعافاة منها .
(5) التذكير بسيرة السلف وموقفهم من الصدارة والرياء :
فإن سيرتهم طافحة بكراهية هذا الأمر والنفور والتحذير الشديد منه تقديراً لتبعاته وعواقبه فهذا أبو بكر رضى الله تعالى عنه يخطب في المسلمين بعد قبوله الخلافة قائلا :
( يا أيها الناس : إن كنتم ظننتم أنى أخذت خلافتكم رغبة فيها أو إرادة استئثار عليكم وعلى المسلمين فلا والذي نفسي بيده ما أخذتها رغبة فيها ولا استئثار عليكم ولا على أحد من المسلمين ولا حرصت عليها يوما ولا ليلة قط ولا سألت الله سرا ولا علانية ولقد تقلدت أمرا عظيما لا طاقة لي به إلا أن يعين الله ولوددت أنها إلى أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعدل فيها فهي إليكم رد ولا بيعة لكم عندي فادفعوا لمن أحببتم فإنما أنا رجل منكم ).
ولما كان عمر في النزع الأخير جعل الأمر شورى في ستة من المسلمين فأشار عليه المغيرة بن شعبة بابنه عبد الله بن عمر ، ليكون خليفة ، فغضب عمر ورد عليه قائلاً :" قاتلك الله ، والله ما أردت الله بهذا ، لا إرب لنا في أموركم ، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي ، إن كان خيراً أصبنا منه ، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يحاسب منه رجل واحد ، ويسأل عن أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أما لقد جهدت نفسي ، وحرمت أهلي ، وإن نجوت كفافاً لا وزر ، ولا أجر إني لسعيد " ، ولما ولى عمر بن عبد العزيز ، جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله ، فقال له عمر :(2/35)
مالي ولك ؟ تنح عنى ، إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد ، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال : أيها الناس قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان منى فيه ولا طلبة له ، ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم ، ولأمركم من تريدون ، فصاح المسلمون صيحة واحدة : قد اخترناك لأنفسنا ولأمرنا ورضينا كلنا بك .... " إلى غير ذلك من الأخبار المشحونة بها كتب التاريخ .
6- التذكير بمكانة ومنزلة الدنيا من الآخرة ، على نحو ما جاء في كتاب الله - عز وجل - وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم:
إذ يقول المولى عز وجل - عن هذه المنزلة ، وتلك المكانة :
{ قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ..... } ، { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } ، { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الدار الآخرة هي دار القرار } ، { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة والأنعام و الحرث ، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن الثواب } .
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بما يرجع " ، " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " ، فإن هذا التذكير قد يحمل العقلاء على أن يكونوا مغمورين بعيداً عن أي صدارة أو ريادة ، حتى يخرجوا من هذه الدنيا سالمين غانمين فيظفروا غداً برضوان الله سبحانه و الجنة .
الآفة الحادية عشر
ضيق الأفق أو قصر النظر
والآفة الحادية عشرة التي يبتلى بها كثير من العاملين ، ويعانى منها العمل الإسلامي أشد المعاناة ، إنما هي :(2/36)
ضيق الأفق أو قصر النظر وحتى نسهم في اقتلاع هذه الآفة من النفوس من ابتلوا بها وتحصين الآخرين ضدها ، ويسلم من شرها العمل الإسلامي ، فإنه لابد من تقديم تصور دقيق واضح على النحو التالي :
أولاً : مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر
ضيق الأفق لغة : الأفق لغة واحد الآفاق التي هي الجهات أو النواحي، قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق } و النظر هو تأمل الشيء بالعين ، قال تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } ، وهو كذلك تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، قال تعالى { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ، وما خلق الله من شئ .... } وتبعاً لما ذكرنا ، فإن ضيق الأفق في اللغة ، يعنى انحسار أو انكماش جهة أو ناحية النظر والتأمل وكذلك قصر النظر يعنى ضعف أو اختلال البصر و البصيرة أو هما معاً .
ضيق الأفق اصطلاحاً : أما مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر في الاصطلاح الشرعي و الدعوى فهو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدى إلى حصر التفكير أو الرؤية في حدود ضيقة لا تتجاوز المكان و الزمان ، أو بعبارة أخرى ، هو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدى إلى رؤية القريب وما تحت القدمين فقط ، دون النظر إلى البعيد ، ودون تقدير الآثار و العواقب ، قال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } .
ثانياً : أسباب ضيق الأفق أو قصر النظر :
ولضيق الأفق أو قصر النظر أسباب تؤدى إليه ، وبواعث توقع فيه ، نذكر منها :
1- النشأة الأولى :
فقد ينشأ الإنسان في بيئة لا تهتم كثيراً بتنمية الذكاء الفطري أو المواهب لدى أفرادها فتكون العاقبة انحسار دائرة التفكير أو النظر أو التأمل إلا من رحم الله - عز وجل - .
2- صحبة نفر من ذوى الأفق الضيق و النظر القصير :(2/37)
وقد يحيط بالإنسان صحبة ذات أفق ضيق ، ونظر قصير ، فتسرى آثار ذلك إلى هذا الإنسان ، فإذا به يواجه كل المواقف بنفس النمط ، وعلى هذا المنوال ، إذ المرء على دين خليله .
3- الانزواء أو العزلة :
وقد يؤثر الإنسان العزلة و الانزواء ، إما لعدم القدرة على التوفيق بين الفردية و الجماعية ، وإما إيثاراً للعافية و السلامة ، ومثل هذا وإن جنى كثيراً من ثمار العزلة أو التفرد ، فإنه يخسر أول ما يخسر الخبرة أو التجربة ، تلك التي تستفاد من ملازمة الجماعة والارتماء في أحضانها ، و التي تساعد على اتساع الأفق ، وبعد النظر ، وحين يخسر الإنسان الخبرة ، فإنه يظل ذا أفق ضيق ، ونظر قصير محدود .
4- عدم الفهم لدور أو لرسالة الإنسان في الأرض :
وقد لا يفهم الإنسان دوره أو رسالته في الأرض ، من أنه خليفة فيها { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض
خليفة ..} وأن هذه الخلافة إنما هي سيادة { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } وعبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، وإن تحقيق هذا الدور أو الرسالة يقتضي التبصر و التدبر { وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ، و العمل الدائم بالليل و النهار { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المؤمنون } ، وقد لا يفهم الإنسان ذلك كله ، فيقعد وينام ، أو ينطلق على غير هدى وبصيرة ، وأنى لهذا أن يكون واسع الأفق بعيد النظر ؟ .
5- عدم الفهم لحقيقة ومضمون الإسلام :(2/38)
وقد لا يفهم المسلم حقيقة ومضمون الإسلام ، من أنه دين شامل للحياة جميعاً ، وإلى قيام الساعة :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } وأن الدعوة إليه ، و التمكين له في الأرض يقتضي الحكمة التي من لوازمها اتساع الأفق ، وبعد النظر ، كما قال سبحانه وتعالى { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } ، { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة } وقد لا يفهم المسلم ذلك فيدعو إلى هذا الإسلام ، ويعمل على التمكين له دون أن يجهد نفسه في تحصيل الحكمة ، وأنى لمن حرم الحكمة أن يكون واسع الأفق بعيد النظر ؟ .
6- عدم الإلمام بواقع الأعداء وأسلوبهم في العمل :
وقد يكون المسلم غير ملم بواقع الأعداء ، وأسلوبهم في العمل من أنهم كثرة ، وأن لديهم العتاد و العدد ، وأن أسلوبهم في العمل يقوم على الدهاء و المكر و الخديعة ، قد لا يلم المسلم بذلك كله ، فتضيع عليه فرصة اكتساب الخبرة و الدراية و التجربة ، وأنى لمن لم يكتسب خبرة ولا دراية ولا تجربة أن يكون واسع الأفق بعيد النظر ؟ .
7- الإعجاب بالنفس ، بل الغرور و التكبر :
وقد يكون الإنسان معجباً بنفسه ، مغروراً متكبراً فيحمله ذلك على الترفع ، والاستعلاء أن يكتسب من غيره الخبرة أو مهارة أو تجربة ، فيبقى طول حياته محدود الأفق قصير النظر .
8- الغفلة عن العواقب أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق ، أو قصر النظر ، وقد يكون المسلم غافلا عن العواقب أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق ، أو قصر النظر ، فيقنع بما هو عليه دون أن يجهد نفسه ، أو أن يعمل فكره في تلاشى هذه العواقب ، أو تلك الآثار ، ومثل هذا يظل طول حياته ضيق الأفق ، محدود النظر .
9- الجهل بأخبار وحوادث الماضين :(2/39)
وقد يكون المسلم جاهلاً بأخبار وحوادث الماضين وكيف كانوا يتصرفون بإزاء المواقف المباغتة أو المفاجئة ، ومثل هذا يعيش محروماً من الخبرة و الدراية و التجربة ، التي هي أساس اتساع الأفق ، وبعد النظر ، وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول عن أخبار وحوادث الماضين :
{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب } ، { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } .
10- ضعف الصلة بالله - عز وجل -
وقد يكون المسلم ضعيف الصلة بالله - عز وجل - بأن يكون غير محترز من المعاصي و السيئات ، لاسيما الصغائر منها ، أو أن يكون مفرطاً في عمل اليوم و الليلة ، أو أن يكون مهملاً لجانب فعل الخيرات ، فيعاقب على ذلك كله بالحرمان من الحكمة التي هي أساس سعة الأفق وبعد النظر .
ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى في كتابه الحكيم :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي يقول الله تعالى
:" من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته "
ثالثاً : مظاهر أو سمات ضيق الأفق أو قصر النظر :
ولضيق الأفق أو قصر النظر مظاهر أو سمات يعرف بها وتدل عليه نذكر منها :
1- التبرم الشديد بالمنهج الدعوى أو الحركي الذي ارتضته الحركة الإسلامية المعاصرة ، من أجل التمكين لدين الله في الأرض ، ووصف هذا المنهج بالتخلف ، وعدم القدرة على مواكبة ظروف ومستجدات العصر ، بل ووصف القائمين عليه بالركون إلى الدنيا إيثاراً للعافية و السلامة .(2/40)
2- حصر الجهد في جوانب ، وإن كانت مفيدة إلا أنها ثانوية ، تستهلك طاقة كبيرة ، ووقتاً طويلاً ، مثل العمل على بناء مسجد أو إنشاء جمعية خيرية ، أو إلقاء موعظة ، أو تأليف كتاب ، أو قراءة
ومطالعة ، أو عيادة مريض ، أو محاولة جمع الناس على رأي واحد في مسائل الفروع ، أو المسائل المختلف فيها ، وهكذا دواليك .
3- الصلابة أو الشدة عند التقصير في سنة من السنن ، أو هيئة من الهيئات ، و السكوت وعدم تغير القلب أو تمعر الوجه عند تضييع فريضة من الفرائض ، أو واجب من الواجبات ، فتراه مثلاً يقيم الدنيا ولا يقعدها على من لا يهتم بتقصير ثيابه ، أو لا يحافظ على السواك ، أو لا يلبس الساعة في اليد اليمنى ، ولا تتحرك فيه شعرة عندما يرى حكم الله معطلاً في الأرض ، وأهل الباطل يصدون عن سبيل الله ، ويسومون أولياء الله سوء العذاب .
4- علاج المشكلات التي تعانى منها الأمة الإسلامية بطريق تعاطى المسكنات دون البحث عن أصل الداء ، وسبب العلة ، ثم اجتثاث هذا الأصل ، أو هذا السبب من جذوره ، فمثلاً نسمع ونرى علاج مشكلة الحانات و البارات ومراكز الفيديو الداعرة ، إنما يكون بالتكسير وإشعال الحرائق ، وحقيقة العلاج يجب أن ينصرف إلى إيجاد السلطان الذي يقيم شرع الله في الأرض ، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، ثم إحداث وعى في الأمة يغير العرف العام ويجعلها تحمل مسئولية أو أمانة تطبيق شرع الله بنفسها.
5- استعجال النتائج أو قطف الثمار قبل أوانها ن وقد قيل : من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه .
رابعاً : آثار ضيق الأفق أو قصر النظر :
ولضيق الأفق أو قصر النظر آثار سيئة وعواقب وخيمة على العاملين ، وعلى العمل الإسلامي وهاك طرفاً منها :
آثار ضيق الأفق على العاملين :
فمن آثار ضيق الأفق أو قصر النظر على العاملين :
1- تبديد الجهود وإهدار الطاقات(2/41)
فالأثر الأول : تبديد الجهود وإهدار الطاقات في أمور نافعة مفيدة لكنها ثانوية بل هامشية ، وإذا بددت الجهود ، وأهدرت الطاقات في مثل هذه الأمور ، فإن المسلم العامل سيعجز بعد ذلك ويفقد القدرة على مواجهة المهام الجسام ، و التبعات الضخمة .
ولعل هذا الأثر هو المفهوم من توجيه القرآن للمسلمين أول مرة : أن يقيموا الإسلام في أنفسهم وأن يحسنوا الترابط فيما بينهم { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } ، { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ، دون أن يستجيبوا لأي إثارة أو يردوا على أي أذى أو اضطهاد يوجه إليهم من عدوهم :
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ... } ، { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }.
كل هذا من أجل أن تنمو طاقاتهم ، وتتضاعف جهودهم بل ويحتفظ بهذه الجهود وتلك الطاقات لتوجه نحو النافع والمفيد في الوقت المناسب وفي اللحظة المناسبة ، وقد كان ... فإن أولئك الذين جاهدوا أنفسهم وترابطوا فيما بينهم ، وأوذوا فصبروا طوال المرحلة في بدر ، رغم عدم التكافؤ بين الفريقين ، لا في العدد ولا في العدة ، وسجلت لهم صور تدل على مدى امتلائهم وشحنهم من داخلهم ضد أعداء الله وأعدائهم ، ولعل من أبرز هذه الصور ما صنعه بلال بن رباح مع أمية بن خلف ، إذ يقول عبد الرحمن بن عوف :(2/42)
" كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتى ( خاصتى ) بمكة ، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ، فلما ذكرت الرحمن ، قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته : عبد عمرو ، فلما كان في يوم بدر ، خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس ، فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال : أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا أمية ، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا ، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم ، فقتلوه ، ثم أتوا حتى يتبعونا ، وكان رجلاً ثقيلاً ، فلما أدركونا قلت له ابرك فبرك فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه ، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه.
2- اليأس و القنوط :
والأثر الثاني هو اليأس و القنوط ، وذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر سيواجه في طريقه كثيراً من العقبات و الصعاب ، ولن يستطيع - لضيق أفقه أو لقصر نظره - استيعاب هذه العقبات وتلك الصعاب ، ومحاولة التغلب عليها وتكون النتيجة : اليأس و القنوط ، بله القعود عن أداء الدور والقيام بالواجب ، ولعمري ذلك هو أهم ما يسعى إليه أعداء الله ، ليخلوا لهم الجو ويفسح أمامهم المجال :" خلا لك الجو فبيضي واصفري ".
3- قلة بل تلاشى كسب الأنصار و المؤيدين :
والأثر الثالث إنما هو قلة بل تلاشى كسب الأنصار و المؤيدين ، ذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر نادراً ما يصادفه التوفيق و النجاح ، ومن يفقد التوفيق و النجاح لا يبقى لديه ما يغرى به الناس ، حتى يكسب منهم نصيراً ، أو على الأقل مؤيداً ، و الواقع يؤيد ذلك ، فكم من ضيق أفق أو قصير نظر يعيش ويموت وليس من حوله إلا أفراداً يعدون على الأصابع ، فضلاً عن نفور كثير من الناس منه ، وإعراضهم عنه .
4- الحرمان من التوفيق الإلهي :(2/43)
والأثر الأخير هو الحرمان من التوفيق الإلهي ، ذلك أن ضيق الأفق أو قصير النظر ، يريد من كل الناس السير وفق تصوره الضيق ورؤيته المحدودة ، ولن يستجيب له الناس ، وحينئذٍ يسلقهم بألسنة حداد ، ويجعل من لحومهم غذاءً شهياً ، وأنى لمن يلغ في أعراض الناس ، ويعيش على لحومهم أن يمنحه ربه توفيقاً أو تأييداً ؟
آثار ضيق الأفق على العمل الإسلامي :
ومن آثار ضيق الأفق أو قصر النظر على العمل الإسلامي :
1- التشويه :
ذلك أن ضيق الأفق وقصر النظر سيوجه العمل الإسلامي إلى علاج المشكلات عن طريق المسكنات دون النظر في الأسباب وبترها من جذورها على النحو الذي ذكرنا آنفا ومثل هذه الأسلوب في العمل غير مجد فضلا عما سيصاحبه من طول الطريق وكثرة التكاليف وحينئذ يجدها أعداء الله فرصه للتشويه وتقديم الإسلام وصورة العمل له على أنهما غير قادرين على مواجهة مشكلات العصر ووضع الحلول المناسبة لها .
(2) المصادرة :
وذلك أن العمل الإسلامي يواجه كثيرا من العقبات والصعاب التي يضعها أعداء الله في طريقه وضيق الأفق أو قصر النظر سيؤدى إلى الصدام بهذه العقبات وتلك الصعاب وعدم القدرة على استيعابها أو تحايل عليها وحينئذ تكون المصادرة وعدم السماح بالاستمرار.
(3) الضرب أو على الأقل الإجهاض :
وذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر سيحرم العمل الإسلامي من الأنصار المؤيدين بل من التوفيق والعون الإلهي ويوم يحرم العمل الإسلامي من ذلك فإنه يسهل على أعداء الله ضربه أو على الأقل إجهاضه والرجوع به إلى الوراء عشرات السنين .
خامسا : علاج ضيق الأفق أو قصر النظر :
هذا ويمكن علاج ضيف الأفق أو قصر النظر بل والتحصين ضده باتباع الأساليب التالية :
(1) التعويد على حمل المسؤلية في الصغر ومنذ نعومة الأظفار فإن ذلك يكسب الإنسان كثيرا من الخبرات والتجارب وينمى لديه مواهبه أو ذكاءه الفطري فإذا شب بعد ذلك كان واسع التصور بعيد الرؤية .(2/44)
ولنا في أنبياء الله ورسله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة إذ حملوا بأنفسهم مسئولية الحياة في الصغر ومنذ نعومة أظفارهم الأمر الذي ساعد على تنمية مواهبهم وقدرتهم على سياسة النفوس وإصلاحها بعد الرسالة وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا الأسلوب التربوي حين قال : ( ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ) فقال أصحابه : وأنت فقال ( نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ).
(2) اقتلاع النفس من بين ذوى الأفق الضيق والنظرة المحدودة والارتماء في أحضان أصحاب الخيرات والتجارب الذين اتسموا بسمة التصور الواسع والرؤية البعيدة وملازمة هؤلاء دوما مع التواضع وخفض الجناح لهم فإن ذلك يؤدى بمرور الزمن إلى تنمية المواهب الفطرية وتعلم الحكمة التي يعد اتساع الأفق أو يعد النظر أمارة من أماراتها وسمة بارزة من سماتها .
(3) الفهم الدقيق لرسالة الإنسان ودوره في الأرض وسبيل القيام بهذا الدور وهذه الرسالة .
(4) الفهم الدقيق لحقيقة ومضمون الإسلام وسبيل العمل أو التمكين له في الأرض فإن هذا الفهم كثيرا ما يحمل على جمع الهمة من أجل التطبيق والتنفيذ الأمر الذي يساعد على سعة الأفق وبعد النظر.
(5) الإلمام التام بواقع الأعداء وسبيلهم أو مناهجهم في العمل فإن هذا الإلمام كثيرا ما يحمل صاحبه على قدح زناد الفكر والاحتيال من أجل إبطال هذه السبيل أو هذا النهج وذلك هو ما نعنيه بسعة الأفق وبعد النظر .(2/45)
(6) معايشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته فإنها حافلة بالكثير من المواقف التي تساعد على سعة الأفق وبعد النظر وحسبنا من هذه المواقف ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لم يحطم الأصنام الموجودة في جوف الكعبة وعلى سطحها إلا في العام الثامن من الهجرة يوم فتح مكة لأنه كان يرى أن البدء بتحطيم هذه الأصنام قبل تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفوس تلك التي توجه وتدعو إلى الشرك والإثم والرذيلة سيساعد على إعادة بناء هذه الأصنام من الذهب بدلا من الحجارة بل سيضاعف من عددها لذا تركها وعمل إلى إصلاح النفوس من داخلها تطبيقا لقوله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} حتى إذا صلحت هذه النفوس واستقامت على منهج الله وترابطت فيما بينها قادها صلى الله عليه وسلم وفتح بها مكة وحطم بها هذه الأصنام وكذلك ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية إذ قبل هذا الصلح رغم القسوة التي انطوت عليها شروطه حتى ضايق ذلك كثيرا من الصحابة وعلى رأسهم عمر رضى الله تعالى عنه لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر بعين النبوة وكان يرى أن هذه الشروط وإن بدا أنها قاسية فإنها ستسفر عن خير كثير للمسلمين وذلك هو ما أكده الواقع فقد زاد عدد المسلمين بعد الحديبية إلى أضعاف أضعاف ما كانوا قبله حسبنا أن عدد المقاتلين في غزوة الخندق وهي التي كانت في السنة الخامسة من الهجرة كان ثلاثة آلاف وإذا به يصل يوم فتح مكة إلى عشرة آلاف وما حدث هذا بسبب التزاور والاختلاط بين الفريقين واطلاع المشركين على أخلاق المسلمين وأحوالهم نتيجة الهدنة ووضع الحرب بين الفريقين لعشر سنوات وكذلك جاء المشركون بعد فترة من إبرام هذا الصلح يطالبون بإلغاء شرط ( ومن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما رده إلى المشركين ) بعد ما أذاقهم أبو بصير ورفاقه الأمرين وبعد ما قطعوا طريق تجارتهم حتى اضطروهم إلى أكل الجيف والميتة وأوراق الشجر من(2/46)
شدة الجوع .
هذه المواقف وغيرها تعلم كيف تكون سعة الأفق وبعد النظر.
(7) حسن الصلة بالله عز وجل من ترك للمعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها ومن المواظبة لي عمل اليوم والليلة ومن التفاني في فعل الخيرات فإن ذلك يورث الحكمة التي عنوانها : سعة الأفق وبعد النظر .
(8) دوام الاطلاع على خبرات وتجارب الماضين فإنها مشحونة بالكثير والكثير الذي يكسب الخبرات والتجارب وينمى المواهب والقدرات وحسبنا في هذا المقام ما أثر عن الحافظ أبى الفرج المعروف بابن الجوزى ت 597 إذ سأله رافضي في مجلس وعظ عام قائلا له :(يا سيدي : نريد كلمة ننقلها عنك أيهما أفضل أبو بكر أو على ؟ وأدرك أبو فرج خبث السؤال وخطورته فرد على الفور : (أفضلهما من كانت بنته تحته ).
وهذه العبارة محتملة للوجهين لذا فهي ترضى الفريقين : الرافضة وأهل السنة وما كان هذا الجواب إلا لسعة الأفق وبعد النظر .
وحسبنا أيضا ما قاله الشيخ حسن البنا ردا على مؤلف كتاب ( أحداث صنعت التاريخ ) وقد حمل إليه مقالا كتبه يبطل فيه المقال الذي نشره سيد قطب في جريدة الأهرام في أواخر الثلاثينات حيث دعا سيد قطب في هذا المقال دعوة صريحة إلى العرى التام وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم قرأ الشيخ حسن البنا الرد ثم أطرق طويلا على غير عادته والتفت إلى كاتب مقال الرد واسمه (محمود ) وقال له : يا محمود إن المقال متين الأسلوب قوى الحجة جدير أن ينشر وقد سبق أن أجزت لك بعض ما نشرته في بعض الصحف اليومية ولكن في هذه المرة مرت بخاطري عدة خواطر أحب أن أعرضها عليك فقال:
أولاً : لاشك أن فكرة المقال مثيرة تجرح قلب المؤمن .
ثانيا :كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار .
ثالثا : إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس مجرد التغيير عما يؤمن به وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه على أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة .(2/47)
رابعا : إن قراء الأهرام عدد محدود بالنسبة لسكان هذه البلاد يعنى بها مصر وليس كل قراء الأهرام قد قرأوا هذا المقال
فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار وأكثر الذين قرءوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسة قراءة عابرة .
خامسا : إذا نشرنا ردا على هذا المقال في الأهرام كانت لذلك النتائج الآتية :
(أ) سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرءوا المقال الأصلي إلى البحث عنه وقراءته كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخرى قراءة متأنية وسيبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام ونكون بذلك قد عملنا من حيث لا نقصد على تحقيق مأرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه على الألسنة .
(ب) نكون من غير قصد قد تسببنا في لفت الأنظار إلى لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلى هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان .
(ج) الرد نوع من التحدي يخلف في نفس المرء المردود عليه نوعا من العناد وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه ونكون بذلك قد قطعنا عليه خط الرجعة وفي هذا خسارة نحن في غنى عنها .
وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلى الحق خير من إحراجه وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته ويفئ إلى الصواب ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام ثم قال : ما رأيك في هذه الخواطر ؟ قلت - أي كاتب الرد - إنها مقنعة تمام الإقناع ....ومزقت الرد بين يديه.
وتمر الأيام ويصير (سيد قطب ) رحمة الله علما من أعلام الدعوة الإسلامية بل شهيدا من شهدائها .
ولعل السر في ذلك هو توفيق الله أولا ثم هذه البصيرة النافذة والرأي الملهم اللذين كان يتمتع بهما الشيخ حسن البنا رحمة الله تعالى .(2/48)
وحسبنا كذلك ما قاله داعية ملهم لشابين من شباب هذا العصر الملتزم بالإسلام عن ضيق أفق وقصر النظر وقد رآهما يختلفان على مقدار الممسوح من الرأس أهو شعرات أم الربع أم النصف أم الرأس كله ؟ووصل الاختلاف إلى أحد التراشق بالكلام بل إلى حد الضرب قال لهما : احميا هذه الرأس من القطع أولا فإن هناك مؤامرة من قلب أعداء الله على قطعهما ثم بعد ذلك اختلفا في مقدار الممسوح منها .
(9) النظر في عواقب قصر النظر أو ضيق الأفق سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي إلى النحو الذي شرحنا آنفا فلعل ذلك يشحذ الهمم أو يحرك العزائم فتسعى إلى السعة الأفق ونفاذ البصيرة .
الآفة الثانية عشرة
ضعف أو تلاشى الالتزام
الآفة الثانية عشرة التي يبتلى بها نفر من العاملين وتكون ذا أثر خطير عليهم وعلى العمل الإسلامي إنما هي :ضعف أو تلاشى الالتزام ، وحتى نسهم في اقتلاع هذه الآفة من النفوس التي ابتلت بها وحتى نحمى النفوس الأخرى التي عافاها الله عز وجل منها فإنه لا بد من تقديم تصور واضح أو قريب من الواضح عنها وذلك على النحو التالي :
أولاً: مفهوم ضعف أو تلاشى الالتزام :
ضعف أو تلاشى الالتزام لغة : يطلق الالتزام في اللغة على عدة معان منها:
(أ) الاستمساك أو الاعتناق والالتصاق بالشيء تقول: التزم الشيء وبالشيء تعنى : استمساك به أو اعتنقه والتصق به وفي لسان العرب :( والالتزام : الاعتناق) ومنه في الحديث الشريف : أنه صلى الله عليه وسلم مازال يهتف بربه يوم بدر ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كذاك أو كفاك مناشدتك ربك .....)
ومنه أيضا قول عبد الله بن مغفل في الحديث :( أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال : فالتزمه فقلت : لا أعطى اليوم أحدا من هذا شيئا قال : فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسما ).(2/49)
(ب) الفرض أو الإيجاب على النفس تقول التزم الشيء أو الأمر : أوجبه على نفسه والتزم فلان للدولة : تعهد أن يؤدى قدرا من المال لقاء استغلاله أرضا من أملاكها فهو ملتزم.
وعليه فإن ضعف أو تلاشى الالتزام في اللغة إنما هو التقصير في الاستمساك بالشيء أو اعتناقه والالتصاق به أو عدم الاستمساك بالشيء والالتصاق به أو اعتناق له بالمرة وهو أيضا التقصير أو عدم الوفاء بالمرة بما يوجبه أو يفرضه المرء على نفسه .
اصطلاحاً : أما ضعف وتلاشى الالتزام في اصطلاح العلماء و الدعاة فهو التقصير أو عدم الوفاء بما يتعهد به المسلم أو يفرضه ويوجبه على نفسه من الصالحات ، حين يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، بل حين يرضى أن يكون في صفوف الدعاة ، وضمن قافلة العاملين من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض .
ثانياً : مظاهر الضعف أو تلاشى الالتزام :
ولضعف أو تلاشى الالتزام مظاهر تدل عليه ، وسمات يعرف بها نذكر منها :
1- عدم الدقة أو عدم الانضباط في الحديث و الموعد .
2- إصدار الأحكام دون تثبت أو تبين .
3- الفجور في الخصومة أو عدم رعاية أدب الخلاف .
4- الإصغاء إلى الإشاعات والأراجيف .
5- نبذ الطاعة إلا فيما يوافق الهوى النفس .
6- عدم النهوض بالبيت من الأهل و الولد إلى المستوى المنشود .
7- عدم رعاية الآداب أو السلوكيات الاجتماعية .
8- عدم التضحية سواء بالنفس أو بالمال أو بهما معاً .
9- عدم الدقة أو عدم الانضباط في الحركة .
1.- إهمال النفس من التنقية و التزكية .
11- استعجال النصر دون تأن أو ترو أو تأهب .
12- الاجتهاد فيما لا مجال فيه للاجتهاد .
13- عدم الثبات أمام مطامع الحياة الدنيا ، وعند المحن و الشدائد .
14- إهدار حقوق الأخوة .
15- التدخل فيما لا يعنى .
وهلم جراً .
ثالثاً : أسباب ضعف أو تلاشى الالتزام :
وهناك أسباب وبواعث تؤدى إلى ضعف أو تلاشى الالتزام نذكر منها :(2/50)
1- عدم الفهم أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم الالتزام :
ذلك أن عدم الفهم أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم أي أمر من الأمور يؤدى إلى رفضه ، بل ومعاداته كما قال الله عز وجل { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } .
وعليه فإن عدم الفهم ، أو الفهم مع عدم الإدراك القلبي لأبعاد ومعالم الالتزام سينتهي حتماً بصاحبه إلى التقصير وعدم الوفاء بما يقتضيه الدخول في صفوف المسلمين ، بل في صفوف الدعاة و العاملين.
ولعل ذلك هو السر في افتتاح آى التنزيل بالدعوة إلى الفهم ، و الفهم الصحيح الواعي المستنير { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم } .
2- الوسط الضعيف الالتزام أو غير الملتزم :
وقد تلقى الأقدار بالمسلم في وسط ضعيف الالتزام أو غير ملتزم بالمرة ، فيأخذ في الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل في المحاكاة والمشابهة، لاسيما إذا كان هذا الوسط ممن يقتدي أو يتأسى به وتكون النتيجة ضعف أو تلاشى الالتزام .
ولعل هذا السبب يكشف لنا عن السر في تأكيد الإسلام على الأسوة و القدوة الطيبة ، وذمِّه للأسوة و القدوة السيئة ، إذ يقول سبحانه { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ، وكان ذلك على الله يسيراً ومن يقنت منكن لله ورسوله ، وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً } .(2/51)
فيضاعف سبحانه لهن العقاب على السيئة ، و الثواب على الحسنة بسبب جو الطهر و العفاف الذي يعشن فيه و الذي يساعد على الطاعة و التقوى ، وبسبب أن غيرهن يقتدي بهن فيكون عليهن عقاب معصيتهن ، وعقاب معصية من اقتدى بهن ، وكذلك يكون لهن ثواب طاعتهم وثواب طاعة من اقتدى بهن جزاء وفاقاً ، لاسيما وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم :" من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً "
و الدعوة كما تكون بالقول تكن بالسلوك { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ... }
وإذ جاء عن عمر - رضى الله تعالى عنه - أنه رأي على طلحة بن عبيد الله ثوباً مصبوغاً وهو محرم ، فقال عمر : ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنما هو مدر ، فقال عمر : إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ، فلو أن رجلاً جاهلاً رأي هذا الثوب لقال : إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام ، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة.
3- ضعف الإيمان :
وقد يكون ضعف الإيمان ونزول مستواه في نفس المسلم ، هو السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ذلك أن الإيمان هو مصدر الطاقات المتجددة بل هو الحارس و الحامي لصاحبه من أن يهمل أو يقصر ، أو يصر على الأخطاء ، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له : إنك تواصل يا رسول الله : " وأيكم مثلى ؟ إني أبيت يطعمني ربى ويسقيني " فقد بين جمهور علماء المسلمين المراد من هذا الكلام قائلين :(2/52)
" قوله يطعمني ربى ويسقيني مجاز عن لازم الطعام و الشراب ، وهو القوة ، فكأنه قال : يعطيني قوة الآكل الشارب ، ويفيض علىّ ما يسد مسد الطعام و الشراب ، ويقوى علىّ أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس ... " وقال ابن حجر :" ويحتمل أن يكون المراد بقوله :" يطعمني ربى ويسقيني " أي يشغلني بالتفكير في عظمته و التملي بمشاهدته ، و التغذى بمعارفه وقرة العين بمحبته ، والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام و الشراب "
وقال ابن القيم :" ... إن المراد به ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه و الشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ، ونعيم الأرواح ، وقرة العين ، وبهجة النفوس ، و الروح و القلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه ، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغنى عن غذاء الأجسام مدة الزمان ، كما قيل :
لها أحاديث في ذكراك تشغلها ……عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ……ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السير أوعدها……روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب و الروح عن كثير من الغذاء الحيواني ... ، وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " يعنى : لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.
وعليه ... فإن المسلم إذا ترك هذا الإيمان بدون تجديد وتعهد فإن جذوته تخبو أو تضعف في النفس وتكون العاقبة ضعف أو تلاشى هذا الالتزام .(2/53)
ولعل هذا السبب يضع أيدينا على الحكمة من وراء دعوة الإسلام إلى ضرورة تعهد الإيمان في القلب ،وعدم إهماله ولو لحظة من نهار ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم :" إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم " ، :" جددوا إيمانكم " قيل يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا ؟ قال :" أكثروا من قول لا إله إلا الله " .
4- إقبال الدنيا و التعلق بها :
وقد يكون إقبال الدنيا ببريقها وزخارفها من الأموال والأولاد و الشهادات و الوظائف و المركز و الجاه وتعلق القلب بها هي السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ذلك أنه { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وعليه فإذا أقبلت الدنيا ، وكان الاشتغال و التعلق بها لم يبق هناك وقت ولا طاعة ولا فكر يساعد على الالتزام والالتزام الدقيق ، وحينئذٍ يكون ضعف أو تلاشى الالتزام .(2/54)
ولعل هذا هو سر تحذير الإسلام الشديد من إقبال الدنيا و التعلق بها ، إذ يقول الحق - سبحانه وتعالى - { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } ، { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } ، وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" .... فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم " ، " وانظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم " ، وفي رواية " إذا نظر أحدكم إلى من فصل الله عليه في المال و الخلق ، فلينظر إلى من هو أسفل منه " ، " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء"، " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ... "
5- المحن و الشدائد :
وقد تكون المحن و الشدائد في داخل الصف أو من خارجه هي السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ، ذلك أن المحنة أو الشدة عندما تنزل بالإنسان فإنها تزلزل كيانه ، وتكاد تعصف به إلا من رحم الله ، لاسيما إذا كان نزولها خالياً من الترقب والاستعداد ، ومعرفة طريق الخلاص ، وسبيل المواجهة ، وحينئذٍ يشغل بها عن دوره الحقيقي ورسالته السامية ويكون ضعف أو تلاشى الالتزام .(2/55)
ولعل هذا هو سر حديث الإسلام المتكرر عن المحن و الشدائد وكيفية التعامل معها ، غذ يقول الحق - تبارك وتعالى - { ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع ونقص من الأموال والأنفس و الثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } ، { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط } ، { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً ، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } ، { الذين آمنوا وهاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات ترى من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب } .
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله ليجرب عليكم بالبلاء ، وهو أعلم به ، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز ، فذلك الذي نجاه الله من السيئات ، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي افتتن ) ، ( إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) ، ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه ) .
6- كثرة الأعباء مع طول الطريق :
وقد تكون كثرة الأعباء مع طول ومشاق الطريق هي السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ، ذلك أن الإنسان طاقة ، وإذا حمل عبئاً فوق طاقته ، فإنه ستأتي عليه لحظة يسقط بعضه أو كله عن كاهله ، لاسيما إذا كانت الطريق طويلة وبها كثير من العقبات والمعوقات ، ولعل ذل ك هو سر دعوة الإسلام إلى الأخوة أو الجماعة إذ هي التي تشارك في حمل الأعباء وتجاوز طول ومشاق الطريق .(2/56)
يقول الحق سبحانه وتعالى { إنما المؤمنون أخوة } ، { رحماء بينهم }، { أذلة على المؤمنين } ، { واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزرى وأشركه في أمري } ، { وتعاونوا على البر و التقوى } ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) ، ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ) .
7- الأبوان :
وقد يكون الأبوان هما السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ، ذلك أن بعض الآباء قد تحمله عاطفة الحب لولده على الحيلولة بين الولد والالتزام لاسيما في هذا العصر الذي صار فيه الالتزام بالإسلام بل والالتزام بالدعاة و العاملين لدين الله تهمة ، وتهمة خطيرة تقود صاحبها إلى السجون و المعتقلات ، أو النفي و التشريد في الأرض ، بل الموت أو القتل ، ناسين أو متناسين أن الآجال بيد الله لا بيد البشر { وما كان لنفس أن تمت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } وأن الله وحده هو الذي يعلم نهاية هذه الآجال ، { وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر :(2/57)
{ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها } ، { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } ، { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ، { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } ، بل ناسين أو متناسين أن موسى - عليه السلام - الذي ألقي في اليم وهو صغير لا حول له ولا قوة نجاه الله ، وكان هلاك فرعون طاغية مصر على يديه { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } ، وأن يوسف - عليه السلام - الذي ألقى به من قبل في الجب أنجاه الله ومكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء وقال لإخوته في النهاية { أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
8- الاستجابة للوساوس والشبهات الشيطانية :
وقد تكون الاستجابة للوساوس و الشبهات الشيطانية هي السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام ، ذلك أن الشيطان قاعد للإنسان لاسيما المسلم بالمرصاد ، يوسوس بإلقاء الشبهات والأباطيل كي يصرفه عن
طريق الله أو على الأقل يجعل سيره في هذه الطريق محفوفاً بالتضييع و التفريط ، وحين يستجيب المسلم إلى هذه الوساوس وتلك الشبهات يبتلى بضعف أو تلاشى الالتزام .(2/58)
ولعل هذا هو السر في دوام تحذير الإسلام لنا من الشيطان الرجيم ووسوسته فلا نسمع لها ولا نستجيب ، يقول الحق - سبحانه وتعالى - { يا بنى آدم لا يفتتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما }، { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ، { قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس } ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال : تسلم وتذر دينك ، ودين آبائك ، فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجرين كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : تجاهد فهو جهد النفس و المال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك كان حقاً على الله - عز وجل - أن يدخله الجنة ، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقاً على الله - عز وجل - أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ) .
9- عدم المتابعة من الآخرين :
وقد يكون السبب في ضعف أو تلاشى الالتزام إنما هو عدم المتابعة من الآخرين ، ذلك أن الإنسان إذا شعر أن هناك إهمالاً أو عدم متابعة من الآخرين ، فإن همته تفتر ، وعزيمته تضعف ، أما إذا كانت المتابعة المتمثلة في المساءلة و المجازاة ، فإن الهمة تعلو والإرادة تقوى ،و العزيمة تشتد ، ولعل هذا هو سر متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشديدة لأصحابه في كل تصرفاتهم وسلوكياتهم ، وحسبنا هنا هذه الصورة من المتابعة :(2/59)
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من اصبح منكم اليوم صائماً؟ قال : أبو بكر - رضى الله عنه - أنا ، قال : فمن تبع اليوم منكم جنازة ؟ قال أبو بكر - رضى الله عنه - أنا ، قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ؟ قال أبو بكر رضى الله عنه أنا ، قال : فمن عاد منكم اليوم مريضاً ؟ قال أبو بكر - رضى الله عنه - أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ".
10- الغفلة عن عواقب ضعف أو تلاشى الالتزام :
وأخيراً قد يكون الغفلة عن عواقب ضعف أو تلاشى الالتزام هي السبب في هذا الضعف أو ذلك التلاشي :
ذلك أن من غفل عن العواقب الخطيرة لأمر ما ، تعاطى هذا الأمر مع تقصير فيه ، أو أهمله وألغاه من حسابه بالمرة ، ولا يفيق ولا ينتبه إلا حين تزول العواقب فيندم حيث لا ينفع الندم ويتمنى حين لا تفيد الأماني .
رابعاً : آثار ضعف أو تلاشى الالتزام :
ولضعف أو تلاشى الالتزام عواقب وخيمة ، وآثار سيئة على العاملين ، وعلى العمل الإسلامي ، ودونما طرفاً من هذه العواقب وتلك
الآثار :
آثار ضعف أو تلاشى الالتزام على العاملين :
لعل من أبرز آثار ضعف أو تلاشى الالتزام على العاملين :
1- الحيلولة دون العبودية الحقة :(2/60)
ذلك أن من كان ضعيف أو عديم الالتزام فإنه يفسح المجال أمام الشر ليستشري و الباطل لينتشر ، حتى يصل إليه وإلى ذويه ، وحينئذٍ يحال بينه وبين أبسط قواعد الالتزام الإسلامي كالشعائر التعبدية مثلاً ، وحال المسلمين في الجمهوريات الواقعة الآن تحت نير الشيوعية الحمراء في الاتحاد السوفيتي خير ما يوضح هذا الأمر ،فقد أتى على هؤلاء زمان كان الواحد فيه يكتفي بالالتزام بجزء من دين الله ، وهو ما يخصه في نفسه ، تاركاً ومهملاً الباقي ، قائلاً : علىَّ نفسي في الوقت الذي كان فيه الباطل يواصل الليل بالنهار في تنفيذ خطته حتى أمسك بخناق هؤلاء ، وحينئذٍ حال بينهم وبين أسمائهم الإسلامية ، بل بينهم وبين الأعراف و التقاليد الإسلامية فيما عرف بشئون الأسرة من :الزواج و الطلاق و الحضانة و النفقة ونحوها ، وابعد من ذلك سعى إلى تحويل المساجد إلى دور للخيالة أو اصطبلات خيول ، وحظر على أي منهم اقتناء نسخة بل ورقة من المصحف الذي يضم بين طياته القرآن الكريم ، وكان السبب المباشر إنما هو ضعف أو تلاشى الالتزام .
2- فقد ثقة الناس :
وهذا أمر بدهي ، فإن الناس لا يتأثرون بالكلمات قدر ما يتأثرون بالسلوكيات ، حتى قيل :( عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل ) ، وعليه فإن من كان ضعيفاً أو عديم الالتزام يسحب الناس ثقتهم منه ، وحينئذٍ يخسر كثيراً وتكون هذه الخسارة في الدنيا قبل الآخرة ، وكم قرأنا وسمعنا وشاهدنا أقواماً استهانوا بأمر الالتزام ، فعاقبهم الله بضياع ثقة الناس وجر ذلك عليهم خسراناً مبيناً حتى في وظائفهم ودنياهم ومصالحهم الشخصية.
3- القلق والاضطراب النفسي :
ذلك أن ضعيف أو عديم الالتزام إنما هو عاص لله ، وللمعصية آثار ضارة أشدها القلق والاضطراب النفسي ، ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى :(2/61)
{ ومن يؤمن بالله يهد قلبه } ، { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } بل هو المصرح به في قوله تعالى :
{ ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ... } ، { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعدا } .
4- الحرمان من الأجر و المثوبة بل وتحمل الأوزار :
ذلك أن ضعيف أو عديم الالتزام ضيع على نفسه بذلك الأجر وحرمها من المثوبة بل وعرَّضها لتحمل أوزار الذين اقتدوا به في ضعفه أو عدم التزامه ففتنوا وضاعوا ، وصدق الله : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون }.
على العمل الإسلامي :
وأما آثار ضعف أو تلاشى الالتزام على العمل الإسلامي فكثيرة نذكر منها :
1- فتح المجال لمحاولة اختراق هذا العمل لضربه أو على الأقل تطويقه وإجهاضه ، فلا يؤتى ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل .
2- قلة أو انعدام كسب الأنصار و المؤيدين لأن كسب هؤلاء إنما يكون بكسب ثقتهم أولاً ، وضعف أو تلاشى الالتزام يضيع هذه الثقة وبالتالي يضيع منها المؤيد و النصير .
3- منح أعداء الله فرصة التحرش بالعمل الإسلامي لتشويه صورته في عيون العامة ، والدهماء من الناس تمهيداً لضربه و القضاء عليه أو تعطيله على الأقل .
4- الحرمان من العون و المدد الرباني ، ذلك أن من كان في التزامه ثلمة أو ضعف ، فهو مقصر في نصرة دين الله ، وأنى لمن أعرض عن نصرة دين الله أن يمنحه ربه عوناً أو مدداً ؟ وصدق الله { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } .
خامساً : علاج ضعف أو تلاشى الالتزام :
وما دمنا قد وقفنا على الأسباب أو البواعث التي تؤدى إلى ضعف أو تلاشى الالتزام فإن طريق العلاج تبدأ بتطبيق ما يلي :(2/62)
1- الإدراك الذهني بل و القلبي لأبعاد ومعالم الالتزام ، بحيث يخالط هذا الإدراك الأحاسيس و المشاعر بل و الخواطر ويصير سجية للنفس تفرح وتستريح حين تتمثله في داخلها وفي واقع الحياة ، وتحزن وتضيق إذا هي قصرت في هذا التمثيل .
2- التأكيد على دقة الالتزام من ذوى الأسوة و القدوة حتى يكون ذلك دافعاً لمن دونهم على الإقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و المشابهة .
3- الحرص على تجديد الإيمان وتقويته في النفس ، فإن ذلك يولد طاقات وإمكانات تعين على الالتزام وأبعد من ذلك يكون الحارس والأمين لئلا يكون تقصير أو إهمال .
4-الفهم الدقيق الواعي لحقيقة الدنيا والآخرة وعلاقة كل منهما بالآخر وسبل تحقيق التوازن بينهما
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } .
5- إدراك أن طريق الهجرة و الفرار إلى الله طريق كلها أشواك وصعاب ، ولكنها تفضي إلى النعيم المقيم في جوار رب العاملين ، وأنه لابد من حمل النفس على أخذ الأهبة والاستعداد { واستعينوا بالصبر و الصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } .
6- حمل ما بمقدور النفس القيام به حتى لا تضعف أو تنقطع عن ركب العاملين المجاهدين { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } .
7- التحذير المستمر من كيد الشيطان ووسوسته مع بيان سبيل النجاة من هذه المكايد وتلك الوساوس .
8- الوقوف على سير وأخبار من عرفوا بدقة وكمال الالتزام والتاريخ الإسلامي طافح في ذلك بالنافع المفيد :(2/63)
حسبنا ما جاء عن حذيفة رضى الله تعالى عنه قال : لق أتينا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر (أي برد ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -:( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة )؟ فسكتنا فلم يحبه أحد منا ثم قال : (ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) فسكتنا فلم يحبه أحد منا أحد فقال : ( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) فسكتنا فلم يحبه أحد منا فقال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم)فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال : ( أذهب فائتني بخبر القوم ولا تذعرهم على ) ، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشى في حمام حتى أتيهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا تذعرهم على ) ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشى في مثل حمام فلما أتيته فخبرته بخبر القوم وفرغت قررت فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال : ( قم يا نومان ).
وحسبنا أيضا ما جاء عن أم جميل بنت الخطاب في بداية الدعوة الإسلامية غذ تقول عائشة رضى الله تعالى عنها -:(2/64)
لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على الرسول صلى الله عليه سلم في الظهور فقال : ( يا أبو بكر إنا قليل ) فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفوق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله وثار المشركين على أبو بكر وعلى المسلمين فضربوا شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين لوجهه ونزل على بطن أبى بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعدون فأجلت المشركين عن أبى بكر وحملت بنو تيم أبا بكر حتى دخلوا منزله ولا يشكون في موته ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا : ولله لئن مات أبو بكر لنقتلن(2/65)
عتبة ابن ربيعة فرجعوا إلى أبو بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يتكلمون أبا بكر حتى أجابهم فتكلم آخر النهار فقل : م فعل رسول الله صلى لله عليه و سلم فمسوا منه بألسنتهم وعدلوه ثم قاموا وقالوا لأمة أم الخير : انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول : ( ما فعل رسول الله صلى لله عليه وسلم ؟ قالت : ولله مالي على بصحبك فقل : ذهبي إلى أم جميل بنت لخطاب فسأليه عنه فخرجت حتى جاءت م جميل فقلت : إن ب بكر أبن عبد الله وإن يسألك عن محمد بن عبد الله فقالت ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وعن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك قلت نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت : والله إن قوما نالوا هذه منك لأهل فيق وكفر وإني لأرجو أن ينقم لله لك منهم قال :فما فعل رسول لله صلى لله عليه وسلم ؟ قالت : هذه أمك تسمع قال :فلا شئ عليك منه قالت : سالم صالح قال : أين هو ؟ قالت : في دار بن الأرقم قال فإن الله على ن ى أذوق طعاما ولا أشرب شرب و آتى رسول لله صلى الله عليه وسلم فأمهلتاه حتى إذ هدت الرجل ومسكن الناس خرجت به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول لله صلى لله عليه وسلم قل فكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله واكب عليه المسلمون ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمي يا رسول الله : ليس بي بأس إلا ما ناله الفاسق من وجهي وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى لله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار قال : فدعا لها رسول الله صلى لله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت.
وحسبنا كذلك ما ورد عن انس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :(2/66)
( أتى على رسول الله صلى لله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال فسلم علينا فبعثنى إلى حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت : ما حسبك ؟ قلت : بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة قالت : ما حاجته ؟ قلت : إنها سر قالت : لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ).
هذه الأخبار وغيرها كثير في تاريخ المسلمين قديمة وحديثه تعين من سمعها على الإقتداء والتأسي أو على الأقل المحاكاة والتشبه .
(9) الحرص على لزوم الجماعة وعدم الانفكاك عنها لحظة واحدة إذ فيها يكون التناصح والتواصى بالحق والتواصى بالحق والتواصي بالصبر والتعاون وتجديد النشاط وإعلاء الهمة وغير ذلك مما يعد في الحقيقة جوهر ومضمون الالتزام .
(10) الاستعانة التامة بالله عز وجل فإنه سبحانه يعين من لجأ إليه واستعان به ولاذ بحماه .
(11) محاسبة النفس دوما للوقوف على الجوانب الضعف والخلل فيها ثم
تلا في بالتوبة والإقلاع عن الخطأ وجبره بأنواع من لكفارات كالصداقة والإكثار من النوافل .
(12) الإحسان إلى الأبوين في المعاملة مع لفت نظرهما بأدب ورفق إلى أن الآجال بيد الله وأن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها .
(13) التذكير الدائم بفوائد وثمرات الالتزام وكذلك بعواقب ومضار إهدار هذا الالتزام أو التخلي عنه فإن هذا التذكير له دور كبير في عودة النفس إلى صوابها ونهوضها من جديد .
(14) معايشة المستمرة لكتاب الله عز وجل فإنه بيان دقيق لحقيقة مضمون الالتزام ولم لا يكون كذلك وهو حكم الله :
{ ومن حسن من الله حكما لقوم يوقنون }.
(15) المسارعة بالانتفاع بالنعم الآنية من الوقت والصحة والمال والعلم والشباب ونحو ذلك قبل زوالها إذ يقول صلى الله عليه وسلم :( بادروا بالأعمال الصالحة سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر(2/67)
غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.
(16) المعايشة الدائمة لسنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيهما الصورة الدقيقة الحية لما ينبغي أن يكوون عليه المسلم من الالتزام .
حسبنا أنه لم يقبل أن يهاجر وأمول الناس عنده أمانات وودائع بل استبقى عليا مكانه في فراشة ليرد هذه الودائع إلى أهلها وليموه على الأعداء وحسبنا أنه لم ينقض عهدا قط لا مع الأعداء ولا مع غير الأعداء فكان بذلك مضرب الأمثال .
والقصة التالية بعض من كل وقليل من كثير : يروى حذيفة بن اليمان رضى الله عنه فيقول : ما ينبغي أن أشهد بدرا إلا أنى خرجت أنا وأبى حسيل قال فأخذنا كفار قريش قالوا : إنكم تريدون محمدا ؟ فقلنا : ما نريده إلا المدينة فاخذوا منا عهد اله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبرنا الخبر فقال :( انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين بالله عليهم ).
الآفة الثالثة عشرة
عدم التثبيت أو التبين
والآفة الثالثة عشرة التي لا يكاد يسلم من شرها إلا من كان ذا صلة قوية متينة بربه وكان حصيفا : إنما هي عدم التثبيت أو التبين وحتى يتحرر من ابتلوا بها ويتقيها من عافاهم الله عز وجل منها فلا بد من تقديم تصور دقيق عن أبعادها ومعالمها وذلك من خلال الجوانب التالية :
أولاً : مفهوم عدم التثبيت أو التبين :
عدم التثبيت لغة : وحتى نفهم المرد بعدم التثبيت أو التبين في اللغة فإننا فماذا يراد من كل منهما لغة ؟ يطلق التثبيت في اللغة على أمور منها :
(أ) طلب ما يكون به الثبات على الأمر أي لزومه وعدم التحول عنه أو تجاوزه إلى غيره وبعباره أحرى طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر .
(ب) والتأكيد من حقيقة ما يعين على الثبات في الأمر وبعبارة أخرى فحص الدليل الوصل إلى الثبات في الأمر تقول :( أثبت الأمر :
حققه صححه وأثبت الكتاب سجله واثبت الحق أقام حجته واثبت الشيء عرفه حق المعرفة ).(2/68)
(ج)والتأني أو التريث وعدم الاستعجال تقول تثبيت في الأمر والرأي استثبت : تأنى فيه ولم يعجل واستثبت في أمره : إذا شاور وفحص عنه ).
وكذلك التبين يطلق في اللغة على النفس المعني التي يطلق عليها التثبت فهو :
(أ) طلب ما يستبين به الأمر وتنكشف حاله تقول :( تبين الشيء أي تأمله حتى اتضح ).
(ب) وهو التأكيد من حقيقة ما يستبين به الأمر ونتكشف حاله تقول :( تبين الشيء ظهر واتضح ).(واستبنت الشيء : إذا تأملته حتى تبين لك ).
(ج) وهو التأني أو التريث في لأمر وعدم الاستعجال فيه تقول ( تبين القوم تدبروه على مهل غير متعجلين ليظهر لهم جليا ) وتبين في أمره تثبت وتأنى ).
ويؤكد أن التثبت والتبين معناهما واحد لغة : استعمال القرآن الكريم ، فقد جاء في قوله تعالى { يا أيها الذين إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أن أكثر الكوفيين يقرأون الآية الأولى وكذلك عامة أهل المدينة يقرأون الآية الثانية ( فتثبتوا ) بدل (فتبينوا ) ، وفي هذا يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله : ( والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ لأن المتثبت متبين والمتين متثبت فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك ، كما يقول في موضع آخر ( والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى فبأيتهما قر القارئ فمصيب ) ، ونستطيع أن نقول إن هذه الإطلاقات واحد ألا وهو التأني أو التريث في الأمر وعدم الاستعجال فيه فإن ذلك مطلوب دليله بل وفي فحص وتأمل هذا الدليل وحيث انتهينا من تحديد المراد بالتثبت أو التبين لغة فإننا نقول : إن عدم لتثبت أو التبين لغة يعنى ( السرعة في الحكم على الشيء دون طلب دليله ودون تأمل هذا الدليل ).
عدم التثبت اصطلاحا : أما عدم التثبت أو التبين في الاصطلاح الإسلامي والدعوى فهو :(2/69)
السرعة أو عدم التأني والتريث في كل ما يمس المسلمين بل الناس جميعا من أحكام أو تصورات ومن تناقل وتداول لهذه الأحكام وتلك التصورات دون فهم دقيق للواقع وما يحيط به من ظروف وملابسات.
وإلى هذا أشار القرآن الكريم في تعليقه على حادثة الإفك حين قال : { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم }
لأن من المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب وحينئذ يكون الكلام باللسان فإنما هي لفتة إلى السرعة وعدم التأني أو التروي في إصرار الحكم بل في تداوله والتحرك به كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صمت الآذان وسترت العقول وغلفت القلوب فلم يبق إلا أن لاكته الألسن وتحركت به الشفاه دون فهم للواقع ودون معرفة بالظروف والملابسات ولقد صوّر صاحب الظلال - رحمه الله - ذلك تصويرا بديعا حين قال: "وهي صور فيها الخفّة والاستهتار، وقلّة الحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: )إذ تلقّونه بألسنتكم( لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروّ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبّره القلوب، {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم}، بأفواهكم لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم، إنّما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول..." 1
ثانيا: أسباب عدم التثبت أو التبين:
وهناك أسباب أو بواعث تؤدى إلى عدم التثبت أو التبيّن، نذكر منها:
1 - النشأة الأولى :
فقد ينشأ المرء بين أبوين سمتهما عدم التثبت أو التبين، وحينئذ يسرى ذلك إلى نفسه، فإذا به صورة منهما، وهنا يتجلّى دور التزام الآباء بأخلاق وآداب الإسلام، أجل . إن ذلك لو روعي لجنب الآباء أبناءهم كثيرا من الانحرافات، دون الحاجة إلى خطب أو مواعظ.
2 - الصحبة العارية من هذا الخلق الإسلامي :(2/70)
وقد يعيش المرء في وسط غير ملتزم بهذا الخلق الإسلامي، فإذا به يحاكى،ويتأسى، لا سيما إذا كان ضعيف الشخصية غير واثق من نفسه، ومن تصرفاته وسلوكه، وهنا يأتي دور الارتماء بين أحضان الصحبة الطيبة الملتزمة بالمنهاج الإسلامي. إن هذا لو وقع، لصَحَتْ الأعصاب، ولتنبّهت المشاعر والأحاسيس والجوارح.
(3) الغفلة أو النسيان :
وقد تؤدى الغفلة أو النسيان بالإنسان إلى عدم التثبت أو التبين وحينئذ يجب أن يتعلم من ذلك درسا لا ينساه على مدار الزمان فلا يتكرر منه هذا الخطأ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول ( كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ).
(4) الاغترار ببريق الألفاظ :
وقد يقرع أذن المرء طائفة من الألفاظ المعسولة والعبارات الخلابة وإذا به يغتر بما لهذه الألفاظ وتلك العبارات من بريق وزخرف وحينئذ يكون منه عدم التثبت أو التبين وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا السبب حين قال : ( إنكم تختصمون إلى
ولعلل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها ).
(5) الجهل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين :
وقد يحمل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين إلى السرعة في الحكم وتداوله هنا وهناك ذلك أن للتثبت أو للتبين أساليب أو طرقا كثيرة توصل إليه من بينها :
# الرد إلى الله والرسول وذوى الرأي والحجا كما قال سبحانه { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم }(2/71)
# السؤال أو المناقشة لصاحب الشأن وخير ما يوضح ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم من حاطب بن أبى بلتعة لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى اله عليه وسلم لهم وأطلع الله عز وجل نبيه على الكتاب وجئ به إليه صلى الله عليه وسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قبل أن يقضى في أمره قائلا :( يا حاطب ما هذا ؟ فقال : يا رسول الله لا تعجل على إني كنت امرءا ملصقا من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أما إنه قد صدقكم ) ولما استأذن عمر في ضرب عنقه قائلا : ( وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
- الإصغاء الجيد بل و المراجعة إذا لزم الأمر أو أشكل الأمر ، فهذا علىّ- رضى الله عنه - يعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر ثم يقول له :" اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت " ويشعر علىّ رضى الله عنه - بعد مضيه لأداء مهمته أن التكليف الذي كلف به غير واضح في ذهنه فيعود بظهره امتثالاً للأمر ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : : علام أقاتل الناس ؟ فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".
- التجربة و الملاحظة من خلال المعايشة و المصاحبة ، فهذا عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يثنى رجل على آخر في مجلسه فيقول عمر للرجل الذي أثنى : هل صحبته في سفر قط ؟ يقول : لا ، فيقول له : هل كانت بينك وبينه معاملة في حق ؟ يقول : لا ، فيقول له :" اسكت فلا أرى لك علماً به ، أظنك - والله - رايته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه ".(2/72)
- الجمع بين كل الأطراف مع المواجهة ، لاسيما في الأمور التي لا يجوز فيها التغاضي أو السكوت ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم عليَّاً لما بعثه قاضياً إلى أهل اليمن ، أسلوب التثبت في القضاء قائلاً له : " إن الله سيهدى قلبك ، ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ".
- السماع من صاحب الشأن أكثر من مرة ، وعلى فترات متباعدة مع المقابلة و الموازنة فها هي أم المؤمنين عائشة - رضى الله تعالى عنها - يبلغها عن عبد الله بن عمرو ، أنه قادم من مصر للحج ، فتقول لابن أختها عروة بن الزبير ، يا ابن أختي بلغني أن عبد الله لن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله ، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً قال ، فلقيته فسائلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال عروة : فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً ، ولكن يقبض العلماء فيرتفع العلم معهم ويبقى في الناس رؤساء جهالاً يفتونهم بغير علم فيَضلون ويُضلون " قال عروة فلما حدَّثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال عروة : حتى إذا كان قابل قالت له : إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم ، قال : فلقيته فسائلته ، فذكر لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى ، قال عروة : فلما أخبرتها بذلك قالت : ما أحسبه إلا قد صدق ، أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص " .
هذه الطرق أو الأساليب وغيرها كثيرة قد يجهلها كثير من الناس وحينئذٍ يتناولون الأمر بغير تثبيت ولا تبين .
6- الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة :(2/73)
وقد يؤدى الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة المتأججة إلى عدم التثبت أو التبين ، ذلك أن هذا الحماس أو هذه العاطفة ما لم تكن موزونة بميزان الشرع ، ومحكومة بلجام العقل ، فإنها تسلب صاحبها الإدراك ، وإذا به يخطئ كثيراً ويضيع في بيداء هذه الحياة .
ويمكن أن نستشف هذا السبب من حديث أسامة بن زيد التالي إذ يقول :بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقن أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" يا أسامة أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ قلت : كان متعوذاً ، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ".
أجل لقد كان الحامل لأسامة على قتل الرجل مع نطقه بلا إله إلا الله تلك التي تعصم الدم إلا بحقها إنما هو الحماس أو العاطفة الإسلامية الجياشة التي انطوى عليها قلب أسامة بن زيد - رضى الله عنه - بحيث حالت بينه وبين الاقتناع بما صدر عن الرجل من الإسلام ، و النطق بالشهادة واتهمه بأنه يظهر خلاف ما يبطن ناسياً أن الله وحده هو المطلع على ما تكنه القلوب ، وتخفيه الصدور { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } ، { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } { والله يعلم ما في قلوبكم } ، { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } .
7- التعلق بعرض زائل من الدنيا :
وقد يكون التعلق بعرض زائل من أعراض هذه الحياة الدنيا هو الحامل على عدم التثبت أو التبين ، وذلك أن حب الشيء يعمى ويصم ، ويحول بين الإنسان وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة ولعل هذا السبب هو المشار إليه في قوله سبحانه :{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة } .(2/74)
8 - الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على عدم التثبت أو التبين :
وأخيرا، قد تؤدى الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على عدم الالتزام بهذا ا الخلق الإسلامي إلى السرعة، أو العجلة في الأمر، وعدم التريث أو التأني، فان من غفل عن عاقبة أمر ما، وقع فيه لا محالة إلا من عصم الله - عز وجل.
ثالثاً : مظاهر عدم التثبت والتبين :
ولعدم التثبت أو التبين مظاهر تدل عليه وأمارات يعرف بها نذكر منها :
(1) معاداة كثير من الأفراد والهيئات العاملة للإسلام استجابة لحملات التشويش والدعاية المغرضة دون مخالصة هؤلاء ومعرفة أحوالهم وأخلاقهم عن قرب ومشاهدة .
(2) التركيز على المظهر والشكل مع إهمال المخبر والجوهر فإن كثيرا من الهيئات العاملة للإسلام تهتم كثيرا بالمظهر والشكل من اللحية والسواك وقصر الجلباب وإرخاء العذبة وحمل العصا والعمامة مع الإهمال التام للمخبر والجوهر الأمر الذي يجعلهم لا يميزون بين الصالح والطالح وبين الصادق والكاذب
ولا يفهم ذلك أنه استهانة أو تحقير لتلك الأشياء ، فقد وردت
بذلك أحاديث تتفاوت صحة وضعفا وليس هنا مجال تحقيقها الآن ولكننا نريد من المسلم أن يكون لديه ترتيب الأولويات وتقديرا لمخبر الإنسان وجوهره وإن قصر في بعض الشكليات فإن ذلك لا يضره .
(3) عدم التماس المعاذير وعدم السماع للحجج والآراء برغم أنه لا عقبات ولا صعوبات في حياة الناس.
(4) المبادرة بالتفوه ، والرأي ، لمجرد السماع والتلقي أو لمجرد الرؤية والمشاهدة .
(5) المبادرة بالتنفيذ لمجرد صدور التكليف دون إحاطة تامة بكل ظروفه وملابساته ودون معرفة دقيقة بمن له حق التكليف والإلزام.
رابعاً : آثار عدم التثبت أو التبين :
ولعدم التثبت أو التبين آثار سيئة وعواقب وخيمة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ودونك طرفا من هذه الآثار .
* آثار عدم التثبت على العاملين :
فمن آثار عدم التثبت أو التبين على العاملين :(2/75)
(1) اتهام الأبرياء من الناس زورا وبهتانا :
فقد اتهمت أم المؤمنين عائشة زورا وبهتانا بما لم يقع منها في الجاهلية فكيف بعد إذ أعزها الله بالإسلام وصارت زوجة لإمام المسلمين وأفضل النبيين ورسول الله للعالمين الأمر الذي أقلقها وأقلق أبويها ورسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها والمسلمين جميعا شهراً كاملاً حتى نزلت البراءة بشأنها من فوق سبع سموات .
وكان السبب هذا الاتهام هو عدم التثبت أو التبين حتى قال الله لهم :{ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون }.
وحسب العامل هذا الأثر إذ هو مجلبة للشر والإثم - والعياذ بالله - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( خيار عباد الله الذين إذا رُءوا ذكر الله ، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب ).؟
(2) سفك الدماء وسلب الأموال :
فقد قَتل أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه أو غيره نفراً من الناس وسلب ماله بغير تثبت ولا تبين وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة .......}.
(3) - الحسرة والندم :
فإن بعض الصحابة الذين خاضوا في الإفك وطاروا من غير تثبت ولا تبين من أمثال حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثه وغيرهما وكذلك الذين قتلوا الرجل وأخذوا ماله بعد أن أسلم وشهد أن لا إله إلا هو من مثل أسامة بين زيد - رضى الله تعالى عنه - كل أولئك أصابتهم الحسرة وعمهم الندم لما نزل الوحي من السماء يكشف الموقف ويضع النقاط على الحروف وتمنوا أن لم يكونوا أسلموا قبل ذلك اليوم بل ظلت الحسرة والندامة شبحا مخيفا يلاحقهم حتى لقوا ربهم .(2/76)
ولعل هذا الأثر هو ما يشير إليه قوله تعالى في قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط مع بني المصطلق الواردة في سورة الحجرات: {...... فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .....}.
(4) فقد ثقة الناس مع النفور والكراهية :
فمن عرف عنه العجلة في الرأي والحكم أو عدم التثبت أو التبين ينظر إليه الناس على أنه أرعن أحمق ومثل هذا يسحب الناس ثقتهم منه بل وينفرون منه ويكرهونه بشدة وإذا ذهبت الثقة وكان النفور والكراهية لم يعد في يد المسلم ما يكسب به الأنصار أو
المؤيدين .
(5) التعرض للغضب الإلهي :
فمن تجرد من التثبت أو التبين كثرت أخطاؤه وتضاعفت عثراته من ثم يستوجب غضب الله وسخطه ومن حل عليه غضب الله وسخطه فقد ضاع دنيا وآخرة وخسر خسرانا مبينا وصدق الله :{ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى }.
* آثار عدم التثبت على العمل الإسلامي :
ومن آثاره على العمل الإسلامي :
(1) خلل أو اضطراب الصف :
فإن عدم التثبت أو التبين من شأنه أن يؤدى إلى خلل أو اضطراب في الصف على نحو ما صوره صاحب الظلال - رحمه الله - إذ يقول :" كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته ، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة قد تحدث إشاعة الخوف فيه خلخلة وارتباكاً ، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف وقد تكون كذلك القاضية ".
وعلى نحو ما وقع بين الأنصار بين أوسهم وخزرجهم حين استمعوا إلى هذا الدخيل الذي بثه بينهم أحد اليهود في ساعات الصفاء ، و الحب في الله ليذكرهم بيوم بعاث ، وثاراتهم القديمة ، لقد تنادوا قائلين :(2/77)
السلاح السلاح موعدكم الظاهرة ( أي الحرة ) وخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، و الخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، ولولا رحمة الله ولطفه بهم ، ثم خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم وتذكيرهم بنعمة الله عليهم وهدايته لهم بعد الكفر و الضلالة قائلاً :" يا معشر المسلمين : الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر ، وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ، لولا ذلك لعادوا- كما كانوا في الجاهلية -شيعاً وأحزاباً .
وعلى نحو ما وقع للحركة لإسلامية في مصر في الخمسينات حيث استمع نفر من أبنائها لوشايات الواشين وافتراءات المغرضين ، وأراجيف المبطلين دون تثبت أو تبين ، الأمر الذي أدى إلى خلل في الصفوف لبعض الوقت ، وكاد يعصف بهذه الحركة لولا لطف الله ورحمته ، وعنايته وتثبيته لبعض الصادقين المخلصين من أبنائها .
2- الفتور أو التراخي في العمل :
فإن عدم الالتزام بالتثبت أو التبين من شأنه أن يؤدى إلى الفتور أو التراخي في العمل مباشرة ، أو بعد سلسلة من المكدرات
و المنغصات كما يصوره صاحب الظلال إذ يقول :" .... فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة العدو ، إشاعة أمر الأمن في هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي مهما تكن الأوامر باليقظة النابعة من التحفز للخطر ، غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر ، وفي ذلك التراخي تكون القاضية.
3- إفساح المجال للأدعياء و الدخلاء :(2/78)
فإن عدم الالتزام بهذا الخلق الإسلامي جعل أكثر الجمعيات و الجماعات العاملة للإسلام مخترقاً ومكشوفاً من قبل الأدعياء و الدخلاء وهذا فيه من الخطورة ما فيه ، حسبنا أن هذه الجمعيات و الجماعات يكاد لها بواسطة هؤلاء الأدعياء و الدخلاء ، و المنشئون أو المؤسسون الحقيقيون لها ، نائمون غافلون لا يدرون من أمرها شيئاً .
4- خسارة بعض الأنصار و المؤيدين :
وقد يخسر العمل الإسلامي بسبب عدم التثبت أو التبين بعض الأنصار و المؤيدين ، وربما انقلبوا رأس حربة على العمل الإسلامي و العاملين لدين الله ، بعد أن كانوا مرجوا منهم أنهم مساندون أو مؤيدون .
5- الانطلاق من الخيال لا من الواقع :
فإن من كان من شأنهم عدم التثبت أو التبين سينقلون الأمور
على غير وجهها ويحكون الواقع بصورة غير صورته الحقيقية التي هو عليها ، وعليه فإذا كانت خطة أو منهاج أو رأى فإنما يكون مصدره أو منبعه الخيال لا الواقع ، وتلك أولى عوامل الفشل و الخسران .
6- الحرمان من العون و التأييد الإلهي :
فإن عدم الالتزام بهذا الخلق ... أعنى التثبت أو التبين ... سيؤدى إلى دخن في القلوب وغل في الصدور ، فضلاً عن باقي الآثار و السلبيات التي ذكرنا آنفاً ، وهذا بدوره يؤدى إلى الحرمان من العون و التأييد الإلهي ، إذ أنه عونه - سبحانه - وتوفيقه وهدايته لنا ذلك كله مقرون باستقامتنا وثباتنا في الطريق { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } .
خامساً : علاج عدم التثبت أو التبين :
وما دمنا قد وقفنا على أبعاد ومعالم عدم التثبت أو التبين على النحو الذي قدمنا ، فإن علينا أن نعرف سبيل العلاج وتتلخص في الأخذ بالوسائل التالية :
1- تقوية ملكة التقوى و المراقبة لله - سبحانه وتعالى - :
فإن هذه إن تأكدت في النفس ، فسوف تحمل صاحبها حملاً على(2/79)
التأني و التروي والإنصاف ، ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقص ، بل ستكون سبباً في نور القلب ، ونفاذ البصيرة كما قال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } ولعلنا نلمح هذه الوسيلة العلاجية من قوله صلى الله عليه وسلم :" التثبت من الله و العجلة من الشيطان ".
2- التذكير بين يدي الله - سبحانه وتعالى - للمساءلة و الجزاء :
{ وقفوهم إنهم مسئولون } ، { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } ، { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } ، { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } .
فإن هذا إن تمكن من النفس ، وخالط القلب ، فإنه سيقود حتماً إلى التأني أو التروي .
3- معايشة الكتاب و السنة ، من خلال هذه النصوص المتصلة بقضية التثبت أو التبين ، كما في آيات " النساء " : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ... } ، وآيات الإفك في سورة النور ، وآيات سورة الحجرات ، { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ... } ، وآيات سورة " ص " داود مع الخصمين :{ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } وآيات سورة " النمل " سليمان مع الهدهد إذ قال له { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين }.
فإن هذه النصوص جميعاً مدعاة إلى تربية ملكة التثبت أو التبين في النفس .
4- دوام النظر في سير وأخبار السلف فإنها طافحة بالنماذج الحية التي تجسد هذا التثبت ،وتجعله ماثلاً أمامنا كالعيان وحسبنا من هذه السير وتلك الأخبار :
قصة عمر بن الخطاب مع سعيد بن عامر الجمحى واليه على حمص إذ قدر الله لعمر أن يزور هذه البلدة ، ويسأل أهلها كيف وجدتم عاملكم ؟ فيشكونه له ، وكان يقال لأهل حمص : الكوفية الصغرى لشكايتهم عمالهم قائلين :(2/80)
نشكو أربعاً : لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار ، قال : أعظم بهذا ، وماذا ؟ قالوا : لا يجيب أحد بليل ، قال وعظيمة وماذا ؟ قالوا وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا ، قال عظيمة ، وماذا ؟ قالوا يغنط الغنطة بين الأيام ( أي يغمى عليه ويغيب عن حسه ) فلم يفصل عمر في الأمر ، إلا بعد أن جمع بينهم وبينه ودعا ربه قائلا : ( اللهم لا تفيل رأيي فيه ) وكان عمر حسن الظن به وبدأت المحاكمة فقال عمر لهم أمامه : ما تشكون منه ؟ قالوا : لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار قال : ما تقول ؟ قال : والله إن كنت لأكره ذكره : ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم فقال : ما تشكون منه ؟ قالوا : لا يجيب أحدا بليل قال : ما تقول ؟ قال : إن كنت لأكره ذكره : إني جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل قال : وما تقول ؟ قال : ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها فأجلس حتى تجف ثم أدلكها ثم أخرج إليهم من آخر النهار قال : ما تشكون منه ؟ قالوا : يغنط الغنطة بين الأيام قال :ما تقول ؟ قال : شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش من لحمه ثم حملوه على جذعة فقالوا : أتحب أن محمدا مكانك ؟ فقال : والله ما أحب أنى في أهلي وولدي وأن محمدا صلى الله عليه وسلم شيك بشوكة ، ثم نادى يا محمد فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر بعد أن أظهر براءته أمامهم الحمد لله الذي لم يفيل فراستي وبعث إليه بألف دينار وقال : استعن بها على أمرك ففرقها ) .(2/81)
وقصة الوزير أبى القاسم بن مسلمة أحد وزراء بنى العباس مع اليهود الخيابرة في القرن الخامس الهجري إذ رفع إليه هؤلاء اليهود كتابا زاعمين أنه كتاب نبوي فيه إسقاط الجزية عنهم فلم يبادر بالفصل في المسألة دون تثبت أو تبين وإنما رد الأمر إلى أهله ، لقد دفع الكتاب إلى الحافظ الخطيب البغدادي ت 463هـ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره فنظر فيه ثم قال :هذا كذب فسأله الوزير : وما الدليل على كذبه ؟ فقال لأن فيه شهادة معاوية بن أبى سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة وإنما أسلم معاوية يوم الفتح وفيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات قبل خبر عام الخندق سنة خمس فأعجب الناس ذلك وتوقف الوزير عن العمل بالكتاب .
أرأيت لو أن هذا الوزير استعجل ونفذ ما في الكتاب من غير أن يرد الأمر إلى أهله فماذا تكون النتيجة ؟ إن النتيجة هي تعطيل نص صريح من كتاب الله عز وجل بغير دليل ولا برهان إذ يقول الحق سبحانه { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
5- التربية على ذلك من خلال الأحداث والوقائع على نحو ما جاء في : قصة أسامة بن زيد مع الجهنى في سورة النساء وعلى نحو ما جاء في : حادثة الإفك في سورة النور وعلى نحو ما جاء في قصة داود مع الخصمين في سورة النمل وعلى نحو ما جاء في : قصة الوليد بن عقبة مع بنى المصطلق في سورة (الحجرات )فإن هذا اللون من التربية يثبت في النفس ولا ينسى نظرا لارتباطه بالحدث أو بالقصة .
6- التذكير بقواعد ومعالم وطرق التثبت أو التبين فإن الإنسان مجبول على النسيان وعلاج هذا النسيان دوام التذكير :
{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }.{ فذكر إن نفعت الذكرى }.(2/82)
7- تقدير العواقب المترتبة على ترك التثبت أو التبين في الدنيا والآخرة فإن هذا التقدير من شأنه أن يبعث الإنسان من داخله ويحمله على التروي أو التأني أو التريث .
8- معايشة أو مخالطة من اشتهروا بخلق التثبت أو التبين فإن هذا يفيد الإنسان كثيرا ويدعوه إلى محاكاتهم والنسج على منوالهم لتقل العثرات وتسلم الخطوات .
9- الحكمة في التعامل مع الناس فلا تخدعنا الظواهر والأشكال والصور ولا نبالغ في البحث والتفتيش عن البواطن وخفايا الصدور وإنما ندع الواقع ليحدد كيفية وأسلوب التعامل .
10- محاولة الإفادة من مناهج أهل الأرض بشأن هذا الخلق ..أعنى التثبت أو التبين شريطة ألا يتعارض ذلك مع الإسلام فإن لدى هؤلاء رصيداً لو أمكن استغلاله وتوجيهه التوجيه السليم لعاد على الإسلام والمسلمين بالخير الكثير .
11- أن يتصور المسلم نفسه في موطن من يؤخذ بغير تثبت أو تبين فإن ذلك يحمله على تعديل خطواته في الطريق إذ مالا يرضاه لنفسه لا يرضاه لغيره .
12- التعويد على إحسان الظن بالمسلمين إلا أن يقع منهم ما يوجب غير هذا :
{لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا }.
الآفة الرابعة عشرة
التفريط في عمل اليوم والليلة
والآفة الرابعة عشرة التي يبتلى بها الكثير من العاملين إنما هي (التفريط في عمل اليوم والليلة ).
وحتى يتخلص منها من ابتلوا بها ويتقيها من عافاهم الله عز وجل منها فإنه لابد من تقديم تصور يكشف عن أبعادها ومعالمها وذلك على النحو التالي :
أولاً : مفهوم التفريط في عمل اليوم والليلة :
التفريط لغة : التفريط في اللغة هو : التقصير في الأمر وتضييعه حتى يفوت قال في اللسان ( وفرط في الأمر يفرط فرطا أي قصر فيه وضيعه حتى فات كذلك التفريط ) وفرط في الشيء وفرطه ضيعه وقدم العجز فيه والتنزيل :{ أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله }.(2/83)
أي أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له مخافة أن تصيروا إلى حال الندامة للتفريط في أمر الله ، وعمل اليوم والليلة في اللغة هو الوظائف أو الواجبات التي ينبغي للمرء الحفاظ عليها أعم من أن تكون دنيوية أو أخروية وعليه فإن التفريط في عمل اليوم والليلة لغة هو : التقصير أو التضييع للوظائف أو الواجبات التي ينبغي للمرء الحفاظ أو المواظبة عليها دنيوية كانت أو أخروية أو هما معا حتى تفوت.
التفريط في عمل اليوم والليلة اصطلاحا : أما مفهوم التفريط في عمل اليوم والليلة في اصطلاحا العلماء والدعاة فإنه التقصير أو التضييع للوظائف العبادية التي ينبغي للمسلم الحفاظ والمواظبة عليها في اليوم والليلة حتى يخرج وقتها وتفوت مثل النوم عن الصلاة المكتوبة ومثل إهمال النوافل الراتبة أو ترك قيام الليل أو صلاة الوتر أو صلاة الضحى أو تضييع الورد القرآني أو الأذكار أو الدعاء أو المحاسبة للنفس والتوبة والاستغفار أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد وعدم حضور الجماعة بغير عذر ولا مبرر أو عدم فعل الخيرات الأخرى أو إهمال الآداب الاجتماعية : من عيادة المرض وتشييع الجنائز والسؤال عما في الناس ومشاركتهم أحوالهم في السراء والضراء ..... إلى غير ذلك من الطاعات أو العبادات .
ثانيا : أسباب التفريط في عمل اليوم والليلة :
وللتفريط في عمل اليوم والليلة أسباب تؤدى إليه وبواعث توقع فيه نذكر منها :
(1) التلطخ أو التدنس بالمعصية :(2/84)
بأن يكون المسلم غير محترس أو متحرز من المعصية لا سيما الصغائر تلك التي يستهين بها كثير من الناس ولا يولونها رعاية أو أهمية وحينئذ فلابد من العقاب ويكون العقاب بأمور كثيرة من بينها التفريط في عمل اليوم والليلة وصدق الله العظيم : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وجاء عن الحسن البصري مرسلا قوله : لما نزلت هذه الآية { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ) وقال صلى الله عليه وسلم ( لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وقرأ : { وما أصابكم من مصيبة } ..
وقد وعى السلف مثل هذا السبب وأثره على عمل اليوم والليلة ونبهوا إليه كثيرا :
هذا الضحاك يقول : ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } ثم يقول الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن وهذا الحسن يسأله رجل قائلا : ( يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهورى فما بالى لا أقوم ؟ فقال ذنوبك قيدتك ).
وهذا الثوري يقول : ( حرمت قام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته قيل : وما ذاك الذنب ؟ قال : رأيت رجلا يبكى فقلت في نفسي : هذا مراء ) ، وهذا كرز بن وبرة يدخل عليه بعض الناس وهو يبكى فيقول له : أتاك نعى بعض أهلك ؟ فيقول : أشد فيقول له : وجع يؤلمك ؟ فيقول : أشد فيقول له وما ذاك ؟ فيجيبه : بابي مغلق وسترى مسبل ولم أقرأ حزبي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثته.(2/85)
وهذا أبو سلمان الدارانى يقول : (لا تفوت أحدا صلاة الجماعة إلا بذنب ) وهذا عابد عالم يقول : ( كم من أكلة منعت قيام الليل وكم من نظرة منعت قراءة سورة وإن العبد ليأكل أكلة أو يفعل فعلة فيحرم بها قيام سنة وكما أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فكذلك الفحشاء تنهى عن الصلاة وسائر الخيرات ).
وقد بين الحافظ ابن القيم كيف يؤدى هذا السبب إلى مثل هذا التفريط فقال ( ومنها أي من آثار المعاصي حرمان الطاعة فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله وتقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرا فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها والله المستعان ).
(2) التوسع في المباحات :
وقد يكون التوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمراكب ونحوها هو السبب في التفريط في عمل اليوم
والليلة ذلك أن هذا التوسع يورث الركون والنوم والراحة الأمر الذي يمكن أن يؤدى إلى مثل هذا التفريط وقد سبق أن بينا ذلك بالتفصيل عند الحديث عن آفة الإسراف وحسبنا هنا قول الغزالى :( لا تأكلوا كثيرا فتشربوا كثيرا فترقدوا كثيرا فتتحسروا عند الموت كثيرا ).
(3) عدم إدراك قيمة النعم وسبيل الدوام :
وقد يكون عدم إدراك قيمة النعم وسبيل الدوام هو السبب في التفريط في عمل اليوم والليلة ذلك أن من لم يدرك أن نعم الله على العباد الظاهر منها والباطن والمعلوم منها وغير المعلوم شئ لا يكون ولا يحصى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة }(2/86)
ومن غفل عن أن دوام هذه النعم إنما يكون بالشكر : { لئن شكرتم لأزيدنكم } ومن الشكر المواظبة على عمل اليوم والليلة من العبادات والطاعات من لم يدرك هذا كله وغفل عنه فإنه يقع منه لا محالة التفريط فيعمل اليوم والليلة وصدق الله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون }.
قال الحسن البصري وأبوا العالية والسدى والربيع بن أنس :
(إن الله يذكر من ذكره ويزيده من شكره ويعذب من كفره ) .
وقال الحسن البصري أيضا في قوله { فاذكروني أذكركم }. قال :( اذكروني فيما أو جبت لكم على نفسي) .
وقال سعيد بن جبير :( اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ) وفي رواية (برحمتي) .
(4) الغفلة عن الحاجة إلى عمل اليوم والليلة :
وقد تكون الغفلة عن الحاجة إلى عمل اليوم والليلة هي السبب في التفريط في هذا العمل فإن من غفل عن أنه بحوله وقوته ضعيف وإنه بحول الله وقوته قوى وأنه لابد له كي ينجح في أداء دوره والقيام بواجبه في هذه الأرض لابد من عون الله وتأييده ونصره وأن المواظبة على عمل اليوم والليلة هي التي تستجلب هذا العون وذلك التأييد والنصر :
{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }
{وتزودا فإن خير الزاد التقوى }.
{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا }.
( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذنى لأعيذنه .....ـ}.
بل إنها هي التي تكون سببا في سكينة النفس وطمأنينة القلب :
{ ولقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }
{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن }.(2/87)
{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ....}
من غفل قلبه عن كل ما قدمنا فإنه سيفرط لا محالة في عمل اليوم والليلة .
5- ضعف أو تلاشى التصور الصحيح لحقيقة أجر المواظبة على عمل اليوم والليلة .
وقد يكون ضعف أو تلاشى التصور الصحيح لحقيقة أجر المواظبة على عمل اليوم والليلة هو السبب في هذا التفريط فإن الاستمساك بالشيء والعض عليه بالنواجذ مرتبط بالتصور الصحيح له وللمنافع أو الفوائد المرتبطة به.
وعليه فمن لم يكتمل عنده التصور الصحيح لحقيقة الأجر المرتبط بعمل اليوم أو الليلة من أنه نجاة من أهوال وشدائد يوم القيامة .
{ وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون }.
{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }.
بل من أنه أي الأجر جنات فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وفوق هذا رؤية الله ، و التمتع بالنظر إلى وجهه الكريم :
{ وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } ، { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } ، { وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة } ، { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } .
من لم يكتمل عنده التصور لحقيقة هذا الأجر فإنه يستلذ النوم و الراحة ويضن بالتعب و المجاهدة في سبيل الله و بالتالي يفرط في عمل اليوم و الليلة .
وصدق العلامة ابن الجوزى حين قال :" من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف ".
6- نسيان الموت وما بعده من أهوال وشدائد :
وقد يكون نسيان الموت وما بعده من أهوال وشدائد هو السبب في التفريط في عمل اليوم و الليلة ، ذلك أن من نسى أنه ميت لا
محالة وإن طال الأجل :(2/88)
{ كل نفس ذائقة الموت ... }، { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } .
وأن هذا الموت أقرب إليه من شراك نعله :
{ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون }
وأنه سيكون بعد هذا الموت شدائد وأهوال يشيب من هولها الولدان وتنخلع لها القلوب ، ولا نجاة منها إلا بالمواظبة على عمل اليوم و الليلة :
{ فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به كان وعده مفعولاً } ، { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } ، { وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع }
من نسى ذلك كله كان منه هذا التفريط ولا شك .
وقد ألمح إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل مصلاه فرأى ناساً كأنهم يكتشرون فقال :" أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى : الموت فأكثروا من ذكر هادم اللذات الموت فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول : أنا بيت الغربة ، و أنا بيت الوحدة ، وأنا بيت التراب ، وأنا بيت الدود ..... ".
7- ظن بلوغ الكمال :
وقد يكون ظن بلوغ الكمال هو السبب في التفريط في عمل اليوم و الليلة ، ذلك أن الإنسان قد ينسى نفسه وينسى أنه مهما عمل وأطاع بالليل و النهار ، فلن يستطيع شكر نعمة من نعم الله - تعالى - عليه ، ويحمله هذا النسيان مع عوامل أخرى على ظن بلوغ الكمال ، وحينئذٍ يقع منه التفريط في عمل اليوم و الليلة .
ولعل هذا هو ما نفهمه من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :( الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ) .(2/89)
ومما جاء عن عمر بن الخطاب-رضى الله تعالى عنه- إذ كان يقول:"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا " .
ومن قول لميمون بن مهران :" لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه " .
8- كثرة الأعباء و الواجبات :
وقد تؤدى كثرة الأعباء و الواجبات إلى التفريط في عمل اليوم و الليلة ، ذلك أن الإنسان في زحمة العمل ، وفي إلحاح الأعباء
و الواجبات قد يهمل في عمل اليوم و الليلة بحجة ضيق الوقت وضرورة الفراغ من هذه الأعباء وتلك الواجبات ، ناسياً أو متناسياً أن زاده على الطريق للخروج من كل ما هو مطلوب منه إنما يكون بالمواظبة على عمل اليوم و الليلة ، إذ الوقت و الطاقات والإمكانات كلها ملك لله ، وبيده سبحانه ، وحين يرى من العبد إقبالاً عليه وتلذذاً بطاعته وذكره يمتن ويتفضل عليه بالبركة في الوقت و القوة في الإرادة و المضاء في العزيمة و السداد في الرأي :
{ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم }،{ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدراً } .
9- التسويف :
وقد يكون التسويف هو السبب في التفريط في عمل اليوم و الليلة ، ذلك أن من تعود التسويف أو التأجيل تتراكم عليه الواجبات أو الأعباء ، وحين يريد الخلاص أو الخروج منها تصبح ثقيلة أو شاقة عليه ، وحينئذٍ لا يكون منه إلا التفريط أو التضييع ولعل هذا هو المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم :" بادروا بالأعمال الصالحات سبعاً ، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال
فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ".(2/90)
وقد وعى ذلك سلف الأمة - رضوان الله عليهم - فحرصوا على اقتناص الفرص واغتنام العمر قبل أن يضيع ، وحسبنا هنا مقالة عمر - رضى الله تعالى عنه - " القوة ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد ".
ومن وعظه صلى الله عليه وسلم لرجل بقوله :( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ).
10- مشاهدة بعض ذوى الأسوة على حال من التفريط :
وأخيراً ... قد يكون مشاهدة بعض ذوى الأسوة و القدوة على حال من التفريط هي السبب في عدم المواظبة على عمل اليوم و الليلة ، ذلك أن المسلم أحياناً ينظر إلى ذوى الأسوة و القدوة على أنهم نمط فريد من الناس ، لا يمكن أن يقع منهم تفريط أو تقصير ، وحين يطلع منهم أو من بعضهم على شئ من التفريط ، فإن هذه النظرة قد تحمله على محاكاتهم ، ناسياً أنه لا طاعة ولا محاكاة في المعصية ، وإنما في المعروف فقط .
ولعل هذا السبب هو المفهوم من تشديد الإسلام على عدم المجاهرة بالإثم ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم :( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان : عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ).
ثالثاً : آثار التفريط في عمل اليوم و الليلة :
وللتفريط في عمل اليوم و الليلة آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي ، ودونك بعض هذه الآثار :
أ- آثار التفريط في عمل اليوم و الليلة عل العاملين :
من آثار التفريط في عمل اليوم والليلة على العاملين :
1- الاضطراب و القلق النفسي :(2/91)
ذلك أن غذاء القلب وراحة النفس وسمو الروح إنما يكون في المواظبة على عمل اليوم و الليلة ، وعليه فإن من فرَّط في عمل اليوم و الليلة ، فقد قطع عن القلب غذاءه ودواءه ومصدر سعادته وطمأنينته ، وتكون النتيجة القلق والاضطراب النفسي وصدق الله العظيم { ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً } ، { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً } .
2- القعود عن أداء الواجب أو على الأقل الفتور :
وذلك أن زاد المسلم على الطريق إنما هو في المواظبة على عمل اليوم و الليلة ، وعليه فمن فرط في عمل اليوم و الليلة فقد بقى بغير زاد ، ومثل هذا تنتهي به الحال إلى القعود عن أداء الواجب ، أو على الأقل الفتور ، وذلك فيه من الخطورة و الضرر ما فيه ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال :( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد ، يضرب كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، وإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً
طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) .
3- الجرأة على المعصية :
وذلك أن الطاعة الحقة بمثابة حاجز يحول بين الإنسان وبين المعصية { وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهي عن الفحشاء و المنكر ولذكر الله أكبر } وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن فلاناً يصلى بالليل فإذا أصبح سرق ، فقال :" إنه سينهاه ما تقول " ، وعليه فإنه إذا فرط فيها وضيعها أو أداها بشكلها لا بجوهرها وحقيقتها ، فقد هدم هذا الحاجز وصارت الطريق مفتوحة أمامه للوقوع في المعاصي و السيئات ، بصورة فيها جرأة أو لا مبالاة ، ولعل هذا هو ما يشير إليه قول ابن عباس :" من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر ،لم يزد بصلاته من الله إلا بعداً ".
4- الضعف أو الانهيار البدني :
وذلك أن المواظبة على عمل اليوم و الليلة تكسب الجسم مناعة وقدرة على التحمل ، كما قال - سبحانه - على لسان هود(2/92)
عليه السلام { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم } ، وكما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم - علياً وفاطمة - عليهما السلام ، إذ قال علىّ : إن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى ، وبلغها أنه جاءه رقيق ، فلم تصادفه ، فذكرت ذلك لعائشة ، فلما جاء أخبرته ، قال : فجاءنا ، وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال :" على مكانكما " فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال :" ألا أدلكما على خير مما سألتما ؟ ، إذا أخذتما مضاجعكما ، أو أويتما إلى فراشكما ، فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم " ، وعليه فمن فرط في عمل اليوم و الليلة فسيعتاد الاسترخاء و النوم ، وذلك لا يعود على الجسد إلا بما فيه ضعفه وانهياره .
5- الحرمان من العون و التوفيق الإلهي :
وذلك أن عون الله وتوفيقه لا يظفر بهما العبد إلا إذا كان على صلة طيبة بربه تتجلى في المواظبة على عمل اليوم و الليلة { إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون } ، { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } ، وإذا حدث وفرَّط المسلم في هذا العمل ، فقد قطع نفسه عن ربه وحينئذٍ يحرم العون و التوفيق ، ولعل ذلك هو ما نفهمه من قوله سبحانه { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين ، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون }.
6- فقد الهيبة أو التأثير في الناس :
وذلك أن من فرط في عمل اليوم و الليلة فقد ضيع أعظم سلاح يؤثر به في الناس ، وسبى قلوبهم ، وهذا بدهي لأنه بهذا التفريط ضيع منزلته عند ربه ، ومن ضاعت منزلته عند ربه فقد ضاعت منزلته عند الناس .(2/93)
وقد أشار إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذٍ ؟ قال : بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ) .
آثار التفريط في عمل اليوم و الليلة على العمل الإسلامي :
ومن آثاره على العمل الإسلامي :
1- طول الطريق مع كثرة التكاليف :
ذلك أن عملاً يضيِّع المنتسبون إليه حق الله - تبارك وتعالى - عليهم ستطول به الطريق وتتضاعف عليه التكاليف وتحيط به المحن و الشدائد من كل ناحية ، لاسيما وأعداء الله ماضون في تنفيذ أساليبهم ومخططاتهم ، ولا يتوانون عن ذلك لحظة من ليل أو نهار ، وصدق الحق سبحانه حين قال على لسان نبي الله صالح عليه السلام { ... فمن ينصرني من الله إن عصيته } .
2- عدم الثبات في ساعات المحن و الشدائد :
وذلك أن المحن بطبيعتها قاسية وشديدة ، لا يطيقها البشر بحولهم وقوتهم ، وإنما لابد له من العون و التأييد الإلهي ، وأنى لمن فرَّطوا في جنب الله أن يرزقهم الله تحملاً أو ثباتاً ، ولعل هذا هو المفهوم من قوله تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، ومن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس :( يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
رابعاً : علاج التفريط في عمل اليوم و الليلة :(2/94)
وبعد هذا نستطيع علاج التفريط في عمل اليوم والليلة باتباع ما يلي :
1- معايشة الكتاب و السنة ففيهما صورة صادقة لثواب الطائعين ، وعقاب العاصين ، وماهية هذا الثواب ، وذلك العقاب بل فيهما تحريض على ملازمة الطاعة وترك المعصية ، من خلال التذكير باطلاع الله - سبحانه - وإحاطة علمه بكل شئ و الرجوع إليه و المساءلة بين يديه و الجزاء وحسب المسلم أن يقرأ هذه الآيات { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم
العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ، أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } .
2- التحرر من المعاصي و السيئات لا سيما الصغائر فإنها سم قاتل ، ونار محرقة وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول :( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجئ بالعود حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها ".
3 - التوسط في تعاطى المباحات لاسيما المطاعم و المشارب ، فإنها أساس كل بلية وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) .
4- إدراك دور المواظبة على عمل اليوم و الليلة في النجاح و القدرة على القيام بالأعباء و الواجبات ، فإن ذلك يحرر النفس من التفريط ويحملها على المواظبة و الملازمة .(2/95)
5- تقدير النعمة وإنها لن تدوم إلا بالطاعات ، فإن ذلك يحرك النفوس المستقيمة للمواظبة على عمل اليوم و الليلة ، وفاء بحق الله وطمعاً في الاستمرار و الزيادة .
6- محاولة التوفيق بين المواظبة على عمل اليوم و الليلة و القيام بالواجبات الأخرى :( إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً ، فأعط لكل ذي حق حقه ) .
7- مجاهدة النفس وأخذها بالحزم و الشدة ، مع اتهامها بالتقصير ومع ترك التسويف ، ومع تمنيتها بأنها إن تعبت اليوم ، ستتمتع غداً بالنعيم المقيم ، وتتلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم .
8- تقدير العواقب والآثار المترتبة عل التفريط في عمل اليوم و الليلة ، فلعل ذلك يحرك القلوب وتنعكس هذه الحركة على الجوارح فتكون المواظبة على عمل اليوم و الليلة .
9- ملازمة الجماعة ، و العيش في وسط صالح مستقيم ، فإن ذلك يذكر بالله ويشحذ الهمم و العزائم ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألا أنبئكم بخياركم ؟ ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : خياركم الذي إذا رُؤوا ذكر الله عز وجل ) .
10- الاستعانة التامة بالله - عز وجل - فإنه سبحانه يعين من استعان به ولجأ إلى حماه ولاذ بجنابه ، لاسيما في ساعات الاضطرار و الشدة { وقال ربكم ادعونى استجب لكم } ، { أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكرون } .
11- إدراك أن الدنيا دار عمل وغرس وزراعة ، وغداً سيكون الحصاد ، ومعرفة النتائج ، ولئن ضاعت الدنيا بغير طاعة ، كانت الخسارة التي لا خسارة بعدها :{ ... إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } .
{ وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } .(2/96)
12- مواظبة ذوى الأسوة و القدوة على عمل اليوم و الليلة حتى لا يكونوا سبباً في فتنة وضياع غيرهم من الناس ، فيحتملون إثم أنفسهم وإثم اقتداء غيرهم بهم :( ... ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ).
13- معايشة النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته ، وكيف كان يصوم النهار حتى يقال إنه لا يفطر ، ويقوم الليل حتى يقال إنه لا ينام ، ومثل ذلك كان يصنع في باقي الطاعات ، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، إن هذه المعايشة تحمل كل مفرط في عمل اليوم و الليلة على المواظبة ، من منطلق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع ذلك ، وقد وعده الله المقام المحمود فكيف بمن لا يعرف عاقبته ، وهل سيكون في الجنة أم مع أهل النار ؟.
14- دوام النظر في سيرة وأخبار السلف ، فإنها مليئة بصور حية مشرقة في المواظبة على عمل اليوم و الليلة ، تحمل كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد على الاقتداء و التأسي ، أو على الأقل المحاكاة و التشبه .
15- تذكر الذنوب والآثام الماضية ، فإن ذلك يحمل على المواظبة في عمل اليوم و الليلة تداركاً لما فات ، وطمعاً في تكفير هذه الذنوب ، وتلك الآثام ، وخير ما يصدق ذلك موقف السحرة من تهديد فرعون حين خالطت حلاوة الإيمان قلوبهم وردهم عليه :
{ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا ، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } .
16- تذكر أن الموت يأتي بغتة ، وإذا لم يأت بغتة فسيسبقه المرض ثم يكون الموت ، ويكون الندم ولكنه بعد فوات الأوان وضياع الفرصة .
الفهرس
الصفحة
الموضوع
الآفة الثامنة : الرياء و السمعة
أولاً : مفهوم الرياء أو السمعة لغة واصطلاحاً
ثانياً : أسباب الرياء أو السمعة
ثالثاً : سمات أو علامات الرياء أو السمعة(2/97)
رابعاً : آثار الرياء أو السمعة
على العاملين
على العمل الإسلامي
خامساً : طريق علاج الرياء أو السمعة
الآفة التاسعة : اتباع الهوى
أولاً : مفهوم اتباع الهوى لغة واصطلاحاً
ثانياً : حقيقة اتباع الهوى في ميزان الإسلام
ثالثاً : أسباب اتباع الهوى
رابعاً : آثار اتباع الهوى
على العاملين
على العمل الإسلامي
خامساً : علاج اتباع الهوى
الآفة العاشرة : التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
أولاً : مفهوم التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة لغة واصطلاحاً
ثانياً : حقيقة التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة في ميزان الإسلام
ثالثاً : أسباب التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
رابعاً : آثار التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
على العاملين
على العمل الإسلامي
خامساً : علاج التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
الآفة الحادية عشرة : ضيق الأفق أو قصر النظر
أولاً : مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر لغة واصطلاحاً
ثانياً : أسباب ضيق الأفق أو قصر النظر
ثالثاً : مظاهر أو سمات ضيق الأفق أو قصر النظر
رابعاً : آثار ضيق الأفق أو قصر النظر
على العاملين
على العمل الإسلامي
خامساً : علاج ضيق الأفق أو قصر النظر
الآفة الثانية عشرة : ضعف أو تلاشى الالتزام
أولاً : مفهوم ضعف أو تلاشى الالتزام لغة واصطلاحاً
ثانياً : مظاهر أو سمات ضعف أو تلاشى الالتزام
ثالثاً : أسباب ضعف أو تلاشى الالتزام
رابعاً : آثار ضعف أو تلاشى الالتزام
على العاملين
على العمل الإسلامي
خامساً : علاج ضعف أو تلاشى الالتزام
الآفة الثالثة عشرة : عدم التثبت أو التبين
أولاً : مفهوم عدم التثبت أو التبين لغة واصطلاحاً
ثانياً : أسباب عدم التثبت أو التبين
ثالثاً : مظاهر عدم التثبت أو التبين
رابعاً : آثار عدم التثبت أو التبين
على العاملين
على العمل الإسلامي
خامساً : علاج عدم التثبت أو التبين
الآفة الرابعة عشرة : التفريط في عمل اليوم و الليلة(2/98)
أولاً : مفهوم التفريط في عمل اليوم و الليلة لغة واصطلاحاً
ثانياً : أسباب التفريط في عمل اليوم و الليلة
ثالثاً : آثار التفريط في عمل اليوم و الليلة
على العاملين
على العمل الإسلامي
رابعاً : علاج التفريط في عمل اليوم و الليلة
1 انظر في ظلال القرآن 6/80
??
??
??
??
19(2/99)
آفات على الطريق
الدكتور : السيد محمد نوح
الجزء الثالث
الآفة الخامسة عشرة: سوء الظن
الآفة السادسة عشرة: الغيبة
الآفة السابعة عشرة: النميمة
الآفة الثامنة عشرة: فوضى الوقت
الآفة التاسعة عشرة: التسويف
الآفة العشرون: التشاؤم
الآفة الحادية والعشرون: التنطع أو الغلو في الدين
الآفة الخامسة عشرة
سوء الظن
والآفة الخامسة عشرة التي يبتلى بها نفر من العاملين، وتصيبهم، وتصيب العمل الإسلامي بآثار مهلكة، وعواقب وخيمة، إنما هي: "سوء الظن".
وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتلوا بها، ويتجنبها من سلمهم الله منها، فإننا سنتناولها من الجوانب التالية:
أولا: تعريف سوء الظن:
يطلق الظن لغة على معان عدة نذكر منها:
1 - الشك، تقول: بئر ظنون: لا يدرى أفيها ماء أم لا؟، ومنه قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} (الحج: 15).
2 - التهمة، تقول: أظنَّ به الناس، تعني: عرضه لتهمتهم، ومنه قوله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب: 10)، {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 12).
3 - الحسبان أو ا لعلم بغير يقين، تقول: ظننت الشمس طالعة أي حسبتها أو علمتها علما غير يقيني، ومنه قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء: 87)، {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} (الحشر: 2)، {ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن} (النجم: 28).(3/1)
4 - اليقين، تقول: ظن فلان الشيء بمعنى تيقنه، ومنه قوله تعالى: {واستعيوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} (البقرة: 45، 46)، {فأما من أوتى كتابه يمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أنى ملاق حسابيه} (الحاقة: 19، 20)، {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} (المطففين: 1-5) . (1)
ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، إذ هي تصوير لمراتب الظن من بدايته إلى نهايته، وكأن الظن: إنما هو تخمين أو هاجس أو خاطر يقع في النفس لأمارات تظهر، وقرائن تبدو، فإذا قويت، وتأكدت هذه الأمارات، وتلك القرائن أثمرت علما يقينياً أو تصديقا قطعيا، وإذا ضعفت أو تلاشت لم تثمر إلا مجرد الشك أو التوهم، أو العلم الغير يقيني.
والسوء لغة يطلق على معنيين:
الأول: أن السوء هو كل ما يقبح أو ما يقابل الحسن، قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} (الأنعام: 160)، {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء} (الأعراف: 95)، {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} (الرعد: 6).
الآخر: أن السوء هو كل ما يغم الإنسان من أمور الدارين سواء أكان في نفسه أو في غيره . (2)
ولا تعارض بين المعنيين، إذ القبيح أو الشر يعود على النفس بالهم والغم، والقلق الاضطراب النفسي كما قال سبحانه: {ومن يعرش عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} (الجن : 17)، {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124).
وإذ قد عرفنا معنى : "الظن " ومعنى "السوء" كل على حدة فإننا نقول: إن سوء الظن هو تخريص أو تخمين ينتهي بوصف الغير بما يسوءه ويغمه من كل قبيح من غير دليل، ولا برهان.
ثانيا: مظاهر سوء الظن، ووضعه في ميزان الإسلام:(3/2)
لسوء الظن مظاهر عدة، وأمارات كثيرة تدل عليه، نذكر منها:
1 - القعود عن نصرة دين الله - عز وجل - في الغير أو في النفس وفي الغير معاً بدعوى أننا أهل الله وأولياؤه، وقد عملنا طويلا وتعبنا كثيرا وما حصلنا من وراء ذلك نصرة على أعدائنا بل على العكس كانت الشدائد والامتحانات شدة بعد شدة، وامتحانا بعد امتحان، كما حكى الله - عز وجل- عن نفر من الناس يوم أحد: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} آل عمران: 154، أو بدعوى أن ذنوبنا كثيرة لن تغفر، ولا يمكن أن تغفر.
2 - الولوغ في المعاصي والسيئات بدعوى أن الله لا يرى، ولا يعلم، كما قال سبحاته: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} (فصلت: 23)، أو بدعوى أنه لا بعث، ولا حساب كما قال سبحانه : {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} الجن: 27، {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} الكهف: 35، 36، {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} فصلت: 50.
3 - توقع هلاك المؤمنين، واستئصال شأفتهم أمام كثرة العدو عددا وعتادا مع تقدم هذا العدو، ونبوغه، كما قال سبحانه عن المنافقين وموقفهم من المؤمنين يوم الحديبية: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} الفتح: 12.
4 - الرجاء أو الخوف من الخلق ظنا أنهم يعطون ويمنعون، ينفعون ويضرون.(3/3)
5 - التقصير في عمل من أعمال البر المعروفة، مثل عيادة المريض، وتشييع الجنائز، ورد السلام، وإجابة الدعوة، وبذل النصيحة، وتشميت العاطس، ومساعدة ذوي الحاجة، وإماطة الأذى عن الطريق، والتزاور ونحوها لأسباب خارجة عن الإرادة، مثل السفر أو المرض، أو القيام بواجب أكبر، أو عدم العلم، أو غير ذلك فيظن سيئ الظن أن هذا التقصير نشأ من التكبر والاستعلاء أو من الاحتقار وعدم الاهتمام، أو من البخل والشح، وهكذا.
6 - القيام بأعمال البر المعروفة من: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقات، وإرشاد الناس وتعليمهم والإصلاح بين المتخاصمين ونحوها، فيظن سيئ الظن: أنه إنما يفعل ذلك رياء أو شهرة أو طمعا في مغنم، والحقيقة أن البار ما كان يفعل ذلك إلا لأنه المعروف الذي دعانا الله إليه، وحذرنا من تضييعه والتفريط أو التقصير فيه.
ولقد حكى لنا القرآن الكريم ما كان يصنعه المنافقون مع المتصدقين من المسلمين، إذ كانوا يقولون: إنهم يصنعون ما يصنعون للرياء والشهرة، فأنزل الله فيهم قوله سبحانه: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} التوبة : 79.
7 - إتقان السعي المعاشي من تجارة أو صناعة أو زراعة ونحوها، امتثالا لما أمر الله - عز وجل - به من السعي والضرب في الأرض في قوله: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} الملك: 15، {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} الجمعة: 10، فيظن سيئ الظن أن هذا تكالب، وتهافت وحب للدنيا وبغض للآخرة.
8 - إتقان الشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وصيام وحج، وقراءة للقرآن، وذكر، ودعاء، واستغفار ونحو ذلك، فيظن سيئ الظن أن هذه رهبانية وعزلة أو انقطاع للعبادة وترك للحياة الدنيا.(3/4)
9 - الحرص على الحياة في الوقت الذي يقتضي الحرص على الحياة، والإقدام على الموت في الوقت الذي يقتضي الإقدام على الموت كما أمر الإسلام بذلك، فيظن سيئ الظن أن هذا جبن وأن ذاك تهور، إلى غير ذلك من المظاهر الدالة على سوء الظن.
ولقد حرم الإسلام سوء الظن بالله وبرسوله وبالمؤمنين المعروفين بصلاح الحال واستقامة الخلق، ونظافة السيرة، وإن وقع منهم تقصير في معروف أو تجاوز لمباح أو خدش لمروءة، وأمر بتدارك هذا التقصير، أو هذا التجاوز والخدش عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن يتغير قلب المسلم على أخيه المسلم قيد شعرة، ولو للحظة واحدة، إذ يقول سبحانه: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} الأنعام: 11، {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} يونس: 36، {يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 12).
وإذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" ، (3) "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي" ، (4) "لايموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى" ، (5) "... ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم يرعد السعفة في يوم عاصف، فجاءه رجاؤه في الله - عز وجل-فاستنقذه من ذلك ومضى" . (6)
وأوجب سوء الظن بكافر معلن بكفره وعداوته لله ولرسوله وللمؤمنين، وإن وقع منه معروف أو عمل من أعمال البر، لأنه إذا كان قد أنكر وجود الله أو وحدانيته، وخان نعمه التي تغمره من أعلاه إلى أدناه، فكيف يفي لنا، ويصدق معنا، وصدق الله العليم بالنفوس وخفاياها إذ يقول: }يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} ( التوبة: 8)، }يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} ( آل عمران)، {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} (آل عمران: 119).(3/5)
وكذلك وجوب سوء الظن بمسلم عرف عنه المجاهرة بالمعصية، والصد عن سبيل الله، وعدم الالتزام بالإسلام، لجواز أن يكون أداة في أيدي الكافرين لتنفيذ مخططاتهم ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، كما يشهد بذلك الواقع اليوم، ويكون سوء الظن بهؤلاء حينئذ من باب الحذر والحيطة، اتقاء لشرهم، وإبطالا لكيدهم ومؤامراتهم.
إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم حين يدخل عليه الغريب من الناس أن يحذره ويحترس منه من غير أن يطوي عنه بشره ولا خلقه.
وهكذا يدور سوء الظن بين الحرمة والوجوب، وأما الأحاديث التي وردت في الدعوة إلى سوء الظن بإطلاق فإنها ضعيفة ولا تصح مثل: "من حسن ظنه بالناس كثرت ندامته" ، (7) "الحزم سوء الظن" ، (8) "احترسوا من الناس بسوء الظن" . (9)
ثالثا: أسباب سوء الظن.
ويوقع في سوء الظن أسباب كثيرة، وبواعث عدة، نذكر منها:
1 - سوء النية وخبث الطوية:
كأن ينشأ الإنسان تنشئة غير صالحة فيقع كثيرا في المعاصي والسيئات حتى تورثه تلك المعاصي وهذه السيئات سوء الظن بمن ليس أهلا له، ويصبح ذلك مظهرا من مظاهر سوء النية وخبث الطوية، كما قال سبحانه وتعالى: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا} (الفتح)، {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} (الفتح)، {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء} ( آل عمران: 154)، {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (يونس: 36)، {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب: 10).
2 - عدم التنشئة على المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء و الأشخاص(3/6)
ذلك أن المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص إنما يتمثل في:
أ - النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، فهو وحده المطلع عليها العليم بكل ما فيها، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" . (10)
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال لا إله إلا الله، فقتلته؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: لا أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا "فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ... الحديث . (11)
ب - والاعتماد على الدليل أو البرهان قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ( البقرة: 111)، {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} ( النور: 13).
ج - والتأكد من صحة هذا الدليل أو ذلك البرهان، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} (النساء: 94)، {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات: 6).(3/7)
د - وأخيرا عدم معارضة الأدلة، أو البراهين لبعضها البعض، هذا هو المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص، ومن يربى على غير هذا المبدأ فإن أموره وأحكامه كلهما تبنى على الظنون والأوهام التي قد تصيب مرة وتخطيء مائة مرة ومرة، ولقد أشار القرآن إلى هذا السبب وهو يناقش المشركين في دعواهم أن وقوعهم في الشرك من الله، قائلين: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} ( الأنعام: 148)، فرد عليهم سبحانه بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلاّ تخرصون} (الأنعام: 148).
3 - البيئة قريبة كانت أو بعيدة:
وقد ينشأ المرء في بيئة معروفة بسوء الخلق، ومنه سوء الظن، سواء أكانت هذه البيئة قريبة - ونعني بها البيت - أم بعيدة - ونعني بها الأصدقاء - فيتأثر بها، ولا سيما إذا كان في مرحلة الحضانة أو البناء والتكوين، ولما يصلب عوده ويحصن بعد ضد هذه الأخلاقيات وتلك السلوكيات، وحينئذ يصاب بسوء الظن.
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر البيئة على الإنسان عندما قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء " ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (الروم: 30) (12) "إنما مثل الجليس الصالح، وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة" . (13)
4 - اتباع الهوى :(3/8)
ذلك أن الإنسان إذا اتبع هواه حتى صار هذا الهوى إلهه الذي يعبده من دون الله، فإنه يقع لا محالة في الظنون الكاذبة التي لا دليل عليها ولا حجة، ولا برهان؛ نظرا لأن حب الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، وتصيد الأخطاء، فمثلا إذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مخطئا في الواقع، ونفس الأمر، وإذا أبغض الإنسان آخر لأنه لا يميل إليه بهواه، ولم يكن هذا الإنسان منصفا، فإن هذا البغض يحمل على سوء الظن، وما يتبعه من التماس العثرات وتصيد الأخطاء وإن كان مصيبا في الواقع ونفس الأمر، من باب:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا
وقد لفت الحق تبارك وتعالى الأنظار إلى هذا السبب حين قال: {إن يتبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس}(النجم: 23)، {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ( القصص: 50) {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله عن علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} (الجاثية: 23).
5 - الوقوع في الشبهات:
وقد يكون الوقوع في الشبهات عن قصد، أو عن غير قصد، بل وعدم تبرير الوقوع في هذه الشبهات إن كانت عن غير قصد، أو غير تعمد من الأسباب التي تغري الآخرين أن يقعوا في سوء الظن، ولعل هذا بعض أسرار تأكيده صلى الله عليه وسلم على البعد عن الشبهات إذ يقول: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه" ، (14) "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" . (15)(3/9)
بل وضربه صلى الله عليه وسلم المثل من نفسه لنقتدي به ونتأسى في البعد عن كل شبهة، إذ تقول السيدة صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا- أو قال: شيئا" . (16)
6 - عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي :
ذلك أن الإسلام أدبنا: أنه إن كان ولا بد من التناجي لصلاح الحياة واستقامة الحال، فإن هناك آداباً يلزم مراعاتها وهذه الآداب هي:
أ- حرمة انفراد اثنين فما فوقهما بالنجوى دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه" . (17)
ويدخل في هذا الأدب: حرمة تناجي اثنين فما فوقهما دون الجماعة بلسان غير لسان الجماعة، لاتحاد العلة، وللمشابهة المتمثلة في الإحزان والإغضاب.
ب - وأن تكون النجوى في الطاعة والمعروف، لا في المعصية والمنكر، إذ يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا}( المجادلة: 9).
ج- وأن تكون النجوى في أمر مهم لا يتم ولا يبرم إلا بعيدا عن أعين المرجفين، والمفسدين في الأرض.
تلكم هي آداب الإسلام في التناجي، ومن يهملها أو لا يلتزم بها يمكن أن يفتح الطريق على نفسه لتتسرب إليها الظنون والأوهام الكاذبة التي لا دليل عليها، ولا برهان.(3/10)
7 - الوقوع في المعاصي والسيئات ولا سيما مع المجاهرة أو الإعلان :
فقد يقع الإنسان في المعاصي والسيئات وتصل به الحال إلى أن يجاهر أو يعلن بها، وحينئذ يفتح الباب أمام الآخرين ليظنوا به سوءا, نظرا لأنه خان نعمة الله عليه، ولم يقابلها بالعرفان والشكر، وإنما قابلها بالجحود والنكران، فكان أجدر أن يخافه الناس وأن يظنوا به سوءا أو شرا.
ولهذا وغيره دعا الإسلام إلى الإسرار بالمعصية إن كان ولا بد من اقترافها فقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" . (18)
8 - نسيان الحاضر النظيف والوقوف مع الماضي الدنس :
فقد يفتتح الإنسان حياته بالوقوع في الرجس والدنس من المعاصي والسيئات، ثم يتوب الله عز وجل عليه فيقلع عن هذه المعاصي، وتلك السيئات، ويواظب على المعروف من البر والطاعات.
ويأتي من ينسى أن قلوب العباد جميعا بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ويأخذ في تقييم هذا الصنف - الذي عصى ثم تاب الله عليه فتاب - من خلال ماضيه السيء، وليس من خلال حاضره النظيف، وحينئذ يجد الشيطان مدخلاً يدخل منه لتحريك الظنون الكاذبة والأوهام الباطلة التي لا دليل عليها، ولا برهان، ويعمل على تنميتها، حتى تصير خلقاً يتحرك به صاحبه بين الناس.
ولقد علمنا الله في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يتجاوز عن العبد ما دام قد تاب وصحت التوبة، إذ يقول سبحانه: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} ( الفرقان: 68- 70).(3/11)
وإذ يقول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص وقد جاء يبايعه وأراد أن يشترط في البيعة مغفرة ما مضى من ذنوبه، يقول له: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" . (19)
وعن ابن عبا س: أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} ( الفرقان: 68)، ونزل: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (20) (الزمر: 53).
9 - الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن:
وأخيرا فإن الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن قد تكون من بين الأسباب التي تؤدي إلى التردي في هذه الآفة، إذ الإنسان إذا غفل أو نسي عاقبة شيء تردى فيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {ولكن متّعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا( ( الفرقان: 18).
رابعا : آثار سوء الظن:
ولسوء الظن آثار ضارة، وعواقب خطيرة يصطلي بنارها الفرد، وتصطلي بنارها الجماعة ودونك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب:
أ - على الفرد:
فمن آثار وعواقب سوء الظن على الفرد :
1 - الوقوع في المعاصي والسيئات:
فقد يؤدي سوء الظن بصاحبه حين يريد أن يتحقق أو يتأكد من صحة ما ظن، أن يقع في سلسلة طويلة من المعاصي والسيئات، تسلم كل واحدة إلى التي تليها، مثل: التجسس أو التحسس، الغيبة، النميمة، التحاسد، التباغض، التدابر، التقاطع، الفرقة، وهلم جراً.(3/12)
وقد لفت القرآن الكريم والسنة النبوية النظر إلى هذا الأثر وهذه العاقبة حين ذكرا سلاسل المعاصي والسيئات مقترنة بسوء الظن في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} ( الحجرات: 12)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا" . (21)
2 - القعود عن أعمال البر والطاعات فضلا عن القلق والاضطراب النفسي:
إذ الوقوع في سلاسل المعاصي والسيئات التي ذكرنا تكون سبباً في سواد القلب فيمرض فيقسو أو يموت فيقفل، ويختم عليه فيكون القعود عن الطاعات وأعمال البر، فضلا عن القلق والاضطراب النفسي وصدق الله العظيم: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }( البقرة: 225)، {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}( المائدة: 13).
ويتأكد القلق والاضطراب النفسي من جانب آخر، وهو أن سيئ الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يحمي به نفسه وعرضه وماله، وعشيرته، فتراه يتوهم أن الناس يتآمرون عليه لقتله أو هتك عرضه أو سلب ماله أو أنهم يحتقرونه، ولا يلقون له بالا ولا يقيمون له وزنا، ومن ثم يحيا قلقا من داخله، لا ينعم بأمن ولا باطمئنان نفسي: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، (طه: 124)، {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعداّ} (الجن).
3 - الحسرة والندامة :
فقد ينتهي سوء الظن بصاحبه بعد البحث ومحاولة التحقق أو التأكد إلى عكس ما توهم، وهنا تكون الحسرة والندامة إن كانت لا تزال هناك بقية من خير في الفطرة.(3/13)
وعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد أن الذين ظنوا بأم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل ظن السوء، من أمثال حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وغيرهما، أصابتهم الحسرة وعمتهم الندامة لما نزلت البراءة لعائشة من السماء، وتمنوا لو أنهم لم يكونوا ولدوا حتى هذا اليوم، بل لقد ظلت الحسرة والندامة شبحاً مخيفا يلاحقهم في كل مكان حتى لقوا ربهم.
4 - كراهية الناس ونفورهم من أصحاب الظن السيء:
ذلك أن الناس حين يعرفون عن واحد من الناس أنه سيئ الظن، وأن ظنونه هذه تنتهي إلى مجرد اتهام لا دليل عليه ولا برهان، ينفرون منه ويكرهونه أشد الكراهية، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وماذا جنى المرء إذا كرهه الناس، ونفروا منه، والإنسان مدني بطبعه، كما أنه قليل بنفسه كثير بإخوانه.
5 - تضييع العمر فيما لا يفيد :
ذلك أن سيء الظن يظل طول حياته يجري وراء هذه الظنون بغية المتحقق والتأكد من صحتها، وغالبا ما تكون كاذبة، فيكون قد ضيع عمره بددا، وحتى لو كانت صادقة فقد اطلع على ما يؤذي ويؤلم ويبقى خاسرا في الحالين.
6 - التعرض للغضب والسخط الإلهي :
وفوق ما قدمنا فإن سوء الظن وما يترتب عليه من أعمال تؤكده أو تبطله يكون سببا في التعرض للغضب والسخط الإلهي، ومن يطيق غضب الله وسخطه وهو سبحانه يقول: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} (طه:81).
ب - على الجماعة :
ومن آثار وعواقب سوء الظن على الجماعة:
1 - الفرقة وتمزيق الصف :(3/14)
ذلك أن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن يتراشق الناس بالتهم، ثم يسحبوا الثقة من بعضهم فيتباغضون، ويتدابرون، ويتقاطعون، الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا ونسلنا في مواجهة العدو، وذلك هو العذاب العظيم الذي حذرنا الله في أسبابه فقال : {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (آل عمران: 105-106).
2 - طول الطريق مع كثرة التكاليف :
وكذلك إذا جثم العدو على صدرنا بسبب الفرقة التي هي من آثار سوء الظن، فإن التكاليف تكثر، والطريق تطول، إذ ليس من السهل أن يخلي العدو لنا طريقنا، وإنما يحتاج إلى جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة ومثابرة ومرابطة حتى يزحزح ويزاح من طريق الناس، وليلة تحت قيادة العدو تحتاج منا إلى تكاليف وتضحيات لسنة، لمحو آثار الشر التي غرسها في هذه الليلة وصدق الله: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون} (الممتحنة: 2).
وحتى يدرك القارئ خطورة هذه الآثار نضع بين يديه نماذج أخرى غير ما قدمنا:(3/15)
- كان أحد الموظفين في بعض المؤسسات الخاصصة قد طلب من صاحب المؤسسة قرضاً لفرش وتجهيز سكناه، وحدد مقدار القرض الذي يريد، وإذا بصاحب المؤسسة يوافق على ثلاثة أثمان ما طلب فقط وأصر على ألا يزيد، في الوقت الذي يمنح من هم دونه منزلة وإحسانا القرض الذي يريدون، وعجبنا لصنيع صاحب المؤسسة، وظننا أنه يكره طالب القرض، ويريد التضييق عليه حتى يترك العمل، وبسؤال صاحب العمل أجاب أن هذا الموظف كبير في السن وليست له امرأة، وبحاجة إلى من يعينه على أمره، وهو الآن يقيم في دار ابنه المتزوج، وقد منحنا الابن سكنا به فسحة وسعة من أجل أبيه، وصرحنا بما صرحنا به من قرض ليتمكن من تجهيز غرفة خاصة به ضمن سكن ولده، ولو أعطيناه القرض الذي أراد لساعده ذلك على تجهيز سكن مستقل عن ولده ونحن لا نريد له ذلك لأنه كبير، ووجوده مع ولده خير له ألف مرة من عيشه لحاله.
فانظر كيف ساء ظننا بصاحب العمل، وبالبحث والتحري تبين أنه لا يريد بما صنع إلا الخير على النحو الذي شرحنا.
- قال عبيد بن عمير: بينما عمر بن الخطاب يمر في الطريق فإذا هو برجل يكلم امرأة فعلاه بالدرة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هي امرأتي، فقال له: فلم تقف مع زوجتك في الطريق تعرضان المسلمين إلى غيبتكما؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الآن قد دخلنا المدينة ونحن تتشاور أين ننزل، فدفع إليه الدرة، وقال: اقتص مني يا عبد الله، فقال: هي لك يا أمير المؤمنين، فقال: خذ واقتص، فقال بعد ثلاث: هي لله، قال: الله لك فيها . (22)(3/16)
- ومر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ففقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟ " فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيك في هذا؟" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" . (23)
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج. وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه، وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا، وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتت الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا.(3/17)
وبينما صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال؟ اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه، فجعل يرتضع) يقول راوي الحديث: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها.
قال: "ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع، ونظر إليها، وقال: اللهم اجعلني مثلها.
فهنالك تراجعا الحديث. فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة، وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارا. فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت ولم تسرق فقلت: اللهم اجعلني مثلها " . (24)
- وقال علي رضي الله عنه: أكثروا على ماريية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها يزورها ويختلف إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ السيف فانطلق فإن وجدته عندها فاقتله " قال: قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة، لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرت به، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب لا فأقبلت متوشحا السيف فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما رآني عرف أني أريده، فأتى نخلة، فرقى فيها ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شال رجليه، فإذا به أجب أمسح، ماله مما للرجال لا قليل، ولا كثير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت" . (25)(3/18)
- ويحكي الدكتور نجيب الكيلاني في كتابه: ( المجتمع المريض ص 83- 85 ) قصة سجين قتل زوجته لظن كاذب، ثم ندم بعد فوات الأوان، فيقول على لسان هذا السجين: " كنت زوجا سعيدا أنعم ببيتي وزوجتي، ولم أكن أرى الحياة إلا باسمة مزدهرة، وأنا بطبيعتي أقنع بالقليل، وأومن بأن الرغيف الذي أحصل عليه هو كنز مقدر علي أن أشكر الله عليه.. كنت سعيدا بحق.. ومرت بي الأيام ناعمة هادئة. ثم جاء اليوم الذي تعكر فيه صفو أحلامي التي كنت أحيا فيها، وذلك حين تناهى إلى سمعي شائعة خيانة زوجتي وأنا يا سيدي من أسيوط، ونحن هناك نرى الشرف أرفع بكثير من أن يمس، ثارت ثائرتي، وخرجت من عملي مسرعا إلى البيت، وهناك رأيت زوجتي ومعها رجل كانا جالسين في صورة لا تثير ريبة أو شك في أن خيانة ما قد وقعت ولكني لم أكن أعرف الرجل، بل إني لم أره من قبل، وكنت حين دخولي أعاني ثورة نفسية عاتية وفي اضطراب شديد.
سألت الرجل من يكون؟ فارتبك وتلعثم ولم يحر جوابا، ونظرت إلى امرأتي فرأيت في عينها خوفا مريعا، فجن جنوني وشعرت بدمائي الساخنة تنطلق إلى رأسي، وتركت في نفسي مشاعر عديدة من الشعور بالخيانة والرغبة في الانتقام من هذه المرأة التي أدخلتها قلبي وأطلعتها على سري، فقد كان بيننا عهود.
أحسست بكل هذه المشاعر تموج بين جوانحي في لحظات سراع ثم راحت تتلاشى رويدا رويداً إلا شعورا واحدا كئيبا سيطر على خيالي في إصرار، كان هذا الشعور بأني مغفل، نعم مغفل.
ورأيت ذلك السكين على المائدة، وكانت زوجتي في أقصى حالات الرعب وكنت أنا ثائرا أصرخ، وأهدد وأقترب منها ولففت ذراعي حول ظهرها ثم ذبحتها ذبح الخراف من غير أن تنبس ببنت شفة، ولكني سمعت عشيقها يرجوني بصوت متحشرج ألا أقتلها ثم غمغم بكلمات كثيرة لم أفهم منها شيئا، ولكني أجهزت عليها تماما، واتجهت إليه ولم يكن مصيره إلا مصير زوجتي.(3/19)
كان هذا الرجل الذي وجدته مع امرأتي يقطن في قرية مجاورة ويدعونه الشيخ محمود، وكان الناس يتبركون به ويلجئون إليه في الملمات، ودعته زوجتي إلى البيت مرات عديدة لأنها كانت لا تخرج مطلقا، دعته ليبرئها من العقم ويدعو لها أسياد السموات والأرض لينقذوها من هذه الأزمة، ولم يكن الذنب ذنبها يا سيدي بل ذنبي أنا، أنا كنت ألومها لأنها لم تنجب لي ابنا يرث قوتي ووجودي.. ثم عرفت أنها بريئة من كل خيانة، وأن الشيخ محمود كان من الأتقياء الصالحين، سيدي أنا معذب فليرحمني الله".
خامسا: علاج سوء الظن:
وما دمنا قد وقفنا على حقيقة سوء الظن، وأسبابه، وآثاره، فإن العلاج معروف، ويمكن تلخيصه في الخطوات التالية:
1 - بناء العقيدة السليمة القائمة على تحسين الظن بالله، وبرسوله وبالمؤمنين الصالحين، فإن هذه العقيدة تحرسنا أن نظن ظن السوء بالآخرين من غير مبرر، ولا مقتضى، وحتى لو كان فإننا نبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى.
2 - التربية على تغذية هذه العقيدة بما يثبتها في النفس وينميها، وذلك بترك المعاصي والسيئات والمواظبة على فعل الطاعات وأعمال البر، فإن التربية بهذه الصورة تجعلنا نتورع أن نقع في سوء الظن بمن ليس له أهلا، وإن وقعنا فالتوبة والندم.
3 - التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من: الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى، ومن طلب الدليل والبرهان، ومحض ذلك الدليل وهذا البرهان، بل والتأكد من عدم تعارض وتضارب الأدلة مع بعضها البعض، فإن التنشئة بهذه الصورة تحرس الإنسان من التورط في سوء الظن بغير مبرر ولا موجب.(3/20)
4 - التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في النجوى من عدم تناجي اثنين فما فوقهما دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، ومن كون هذه النجوى في الطاعة والمعروف دون المعصية والمنكر، ومن كونها في أمر مهم لا يصح أن يقضى فيه إلا بعيدا عن سمع وبصر المرجفين، والمفسدين في الأرض.
5 - تجنب الوقوع في الشبهات ثم الحرص على دفع هذه الشبهات إن وقعت خطأ أو عن غير قصد، وقد مرت بنا قصته صلى الله عليه وسلم مع الأنصاريين، حين كان يودع أم المؤمنين صفية، وهو معتكف، وأسرعا السير واستوقفهما قائلا: "إنها صفية بنت حيي" . (26)
وقاس العلماء على ذلك عدة صور فقالوا:
- إذا كنت في خلوة مع محرم لك، أو مع أهلكك، ورآك الغير الذي تخشى عليه الشيطان، وجب أن تقول له: هذه أهلي كيلا تعين عليه الشيطان.
- وإذا كنت قد صليت في بيتك، ثم جئت المسججد، فوجدت الناس يصلون فصل معهم وتكون الصلاة الثانية نافلة لك، لئلا يتخذ الناس قعودك وهم يصلون ذريعة لإساءة الظن بك وأنك لست من المصلين. جاء في الحديث: عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا"، قالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: " لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة . (27)
وأمثلة البعد عن مواطن التهم في الإسلام كثيرة جدا، غاية ما في الأمر أنه يجب أن يكون هذا المعنى آكد، وأشد في حق العلماء والمربين، لأنهم أسوة وقدوة لغيرهم من الناس، وأي سلوك أو تصرف محسوب عليهم.(3/21)
يقول ابن دقيق العيد: "وهذا -أي التحرز من كل ما يوقع في التهم - متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي عليه، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم" . (28)
6 - الحرص على سلامة البيئة، ولا سيما في مجتمع الأصدقاء، فإن ذلك له دور كبير في علاج سوء الظن وحماية النفس من أن تتورط فيه من جديد .
7 - مجاهدة النفس وقمع الهوى والشهوات، حتى تعرف النفس أنه ليس من السهل توجيه تهمة لأحد من الناس لمجرد ظن أو تخمين لا دليل عليه ولا برهان، وما في الدنيا شيء أعظم من أن يكون هوانا تبعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول سبحانه : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران: 31).
8 - معاملة التائبين من الناس بحاضرهم لا بماضيهم، وإذا كان الملك الذي أساء هؤلاء وأجرموا في حقه قد تجاوز وعفا فنحن في التجاوز والعفو أولى وأحق، ولا سيما ونحن في المعاصي مثلهم وربما أشد.
9 - دوام النظر في كتب السيرة والتاريخ، ولا سيما تاريخ المسلمين، فإنها مليئة بصور حية عن الظن السيء وآثاره وطريق الخلاص منه، بحيث يسهل على النفس التخلص من هذا الداء.
10 - التذكير الدائم بعواقب سوء الظن في الدنيا والآخرة، وعلى الفرد، والجماعة، فان الإنسان كثيرا ما ينسى، وعلاج هذا النسيان بالتذكير، كما قال سبحانه: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات)، {فذكر إن نفعت الذكرى} (الأعلى).
الآفة السادسة عشرة
الغيبة
والآفة السادسة عشرة التي يبتلى بها كثير من العاملين فضلاً عن عامة المسلمين، بل لا يكاد يسلم منها أحد إلا من رحم الله عز وجل، إنما هي: (الغيبة).(3/22)
وحتى يتطهر منها من ابتلى بها، ويتقيها من عافاه الله - عز وجل - وسلمه من الوقوع في غوائلها، فإننا بعون الله وتوفيقه سنعرض لها من الجوانب التالية:
أولا : تعريف ومظاهر أو صور الغيبة :
لغة
الغيبة لغة: مشقة من الغيب الذي هو خلاف الشهادة، أو هو كل ما غاب عن الإنسان، سواء كان محصلاً في القلوب أم غير محصل، ومنه قوله - سبحانه -في صفة نفسه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } (الجن: 26-27)، {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} ( التغابن: 18)، وعليه فالغيبة في اللغة، هي ذكر الغير في غيابه سواء أكان ذلك بما يرضى أم بما لا يرضى، وسواء أكان ذلك بالخير أم بالشر . (29)
اصطلاحا :
أما ماهية الغيبة في المصطلح الشرعي فتدور حول ذكر المسلم أخاه المسلم في غيابه بما فيه مما يسوءه، ويكرهه، يستوي في ذلك اللفظ والكتابة، التصريح والتلويح . (30)
جاء في الحديث أنه في صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: "أتدرون ما الغيبة؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" . (31)
ومظاهر أو صور الغيبة كثيرة منها :
1 - العيوب البدنية كقولك عن المسلم: أعمى، أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل، أسود، أصفر، كبير البطن كالحبر السمين... وهكذا.
2 - العيوب الدينية كقولك عن المسلم: فاسق، فاجر، سارق، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارا بوالديه، لا يضع الزكاة مواضعها، لا يجتنب الغيبة... وهكذا.
3 - العيوب الدنيوية كقولك عن المسلم: قليل الأدب، يتهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام، كثير الأكل أو النوم، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه... وهكذا.(3/23)
4 - العيوب المتعلقة بأسرته كقولك عن المسلم: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكافي، بزاز، نحا س، نجار، حداد، حائك... وهكذا.
5 - العيوب الخلقية للمغتاب، كقولك عنه: سيئ الخلق، متكبر، مراء، عجول، جبار، عاجز، ضعيف القلب، متهور، عبوس، خليع... وهكذا.
6 - العيوب باللباس والهيئة كقولك عن المغتاب: واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب... وهكذا.
7 - محاكاة المغتاب في مشيه وحركته وحديثه مثل : المشي متعرجاً، أو مطأطئ الرأس، أو مصعرا الخد، ونسبة ذلك إلى المغتاب.. . وهكذا.
8 - غيبة المتفقهين والمتعبدين، كأن يقول أحدهم عن آخر: كيف حال فلان، الله يصلحه، الله يغفر لنا، الله يصلحنا، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الشر، الله يعافينا من قلة الحياء، الله يتوب علينا، وما أشبه ذلك من كل ما يفهم منه التنقص، والازدراء... وهكذا.
9 - سوء الظن بغير دليل ولا برهان فإنه غيبة بالقلب، وقد أفردنا الحديث عن هذا المظهر، أو هذه الصورة على أنها آفة قائمة بذاتها وفصلنا القول في ذلك فليراجع في موضعه.
10 - سماع المغتابين، وعدم زجرهم والإنكار عليهم، أو عدم مقاطعة مجلسهم... وهكذا . (32)
ثانيا: الغيبة في ميزان الإسلام:
والغيبة في ميزان الإسلام حرام بإجماع المسلمين، للدلائل الواضحة الصريحة المنصوص عليها في الكتاب والسنة إذ يقول الله عز وجل: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم } ( الحجرات: 12).(3/24)
وإذ يقول صلى الله عليه وسلم وقد مر بقبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير"، قال: "بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله " ، (33) ويقول في خطبة يوم النحر بمنى في حجة الوداع: ".. إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت" ، (34) "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" ، (35) "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" ، (36) "المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" . (37)
ويقول صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد قالت عن صفية حسبك من صفية كذا وكذا، يقول لها: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" . (38)
إلى غير ذلك من النصوص الواضحة الدلالة في ذم الغيبة، وتحريمها، وإن كان الحديث الأخير - كما يقول الإمام النووي رحمه الله: (من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئا من الأحاديث يبلغ في الذم لها هذا المبلغ" . (39)
ومع حرمة الغيبة على النحو الذي ذكرنا فإنها تباح في أحوال ولأسباب هي:
1 - التظلم :
فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان، والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيذكر أن: فلانا ظلمني وفعل بي كذا، وأخذ منى كذا، ونحو ذلك . وأطلب منك إنصافي ورد مظلمتي، إذ يقول سبحانه : {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما} (النساء: 148).
2 - الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب :(3/25)
فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوسل إلى إزالة المنكر فإن قصد غير ذلك كان مغتابا، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" . (40)
ومن التغيير باللسان الاستعانة بذوي القدرة على إزالة هذا المنكر .
3 - الاستفتاء :
بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي أو فلان بكذا فهل له ذلك، أم لا؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم عني، ونحو ذلك؟ وكذلك قوله: زوجتي تفعل معي كذا أو زوجي يفعل كذا، ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن ينسب ذلك إلى غيره بصفته لا باسمه، بأن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا، أو في زوج أو زوجة تفعل كذا ونحو ذلك، فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع هذا فالتعيين جائز ولا يضر ما دام بهذا المقصد، أو بهذه النية.
جاء في حديث هند بنت عتبة أم معاوية وامرأة أبي سفيان في رضي الله عنها قولها للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ عليها العهد مع من أخذ يوم فتح مكة حين أسلمت ألا تسرق، فقالت: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وبني إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" . (41)
4 - تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم :
وذلك من وجوه :
منها: جرح المجروحين من الرواة للحديث، وكذلك الشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة، فقد استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة" ، (42) وقال صلى الله عليه وسلم في رجلين من المنافقين: "ما أظن فلانا، وفلانا يعرفان من ديننا شيئاً" . (43)(3/26)
ومنها: أنه إذا استشارك إنسان في مصاهرته، أو مشاركته أو إيداعه أو الإيداع عنده، أو معاملته بغير ذلك، وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النصيحة فان حصل الغرض بمجرد قولك: لا تصلح لك معاملته أو مصاهرته، أو لا تفعل هذا، أو نحو ذلك لم تجزئه الزيادة بذكر المساوئ، وإن لم يحصل الغرض إلا بالتصريح بعينه وجب ذكره بصريحه.
جاء في حديث فاطمة بنت قيس أنها جاءت تستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجلين خطباها، هما: معاوية، وأبو الجهم فقال صلى الله عليه وسلم : " أما معاوية فصعلوك، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه" . (44)
ومنها: أنه إذا رأيت من يشتري عبدا معروفا بالسرقة، أو الزنا، أو الشرب أو غيرها فعليك أن تبين ذلك للمشتري إن لم يكن عالما به، ولا يختص بذلك بل كل من علم بالسلعة المبيعة عيبا وجب عليه بيانه للمشتري إذا لم يعلمه.
ومنها: إذا رأيت متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخفت أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليك نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يكون القصد النصيحة، مجردة عن أي حظ من حظوظ النفس.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بألا يكون صالحا لها، وإما بان يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك، فيجب ذكر هذا لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعف في حثه على الاستقامة أو خلعه واستبداله بمن يصلح، وجماع ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: "لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" . (45)(3/27)
ولا جرم أن نشير هنا إلى أنه ليس من هذا الباب: جرح الثقات المجاهدين من العلماء، والدعاة المصلحين الذين باعوا أنفسهم وما يملكون لله عز وجل، وتعرضوا في سبيل ذلك لأصناف شتى من المحن والابتلاءات حتى كان منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد في هذا العصر، ومن أمثال الشيخ حسن البنا مجدد الإسلام في القرن الرابع عشر، ومن أمثال الشيخ سيد قطب الذي تحولت كلماته التي قالها في ظلال القرآن الكريم بعد أن مات في سبيلها إلى أحرف من نور، تضيء للسالكين الطريق، وتحملهم على التضحية، بالنفس والنفيس، الغالي والرخيص وغيرهم، ليس ذلك كله من هذا الباب بدعوى أنهم منافقون، أو مبتدعون، أو ذيول وأذناب للمستعمرين، إذ المنافق والمتبدع أو الذنب لا يقدم رقبته للموت، أو على الأقل لا يظل ماضيا في الطريق وإن لحقه من العنت والأذى ما لحقه، وتجريح هؤلاء فضلا عن أنه غيبة، فهو إما حسد وإما تلبيس وتخييل من الشيطان، وإما ضيق أفق وبله وغباء، وإما عمالة وخسة ونذالة.
5 - أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر أو مصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما قدمنا آنفا.
إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله، ويصبح يكشف ستر الله عنه " . (46)
6 - التعريف :(3/28)
فإذا كان الإنسان معروفا بلقب مذموم، كالأعمش والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، والأفطس، وغيرهم، جاز تعريفه بذلك بغية التعريف، ويحرم إطلاقه على جهة النقض، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى، وإذا أمكن التعريف بلقب واحد، من الألقاب المذمومة، فإن الزيادة على هذا اللقب تعد غيبة وهي حرام.
إذ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله تعالى، فأتى ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فتغير وجهه وقال: "رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ، (47)
يقول ابن مسعود: فقلت: لا أرفع إليه بعد هذا حديثا.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي وذكر الحديث، فأنكر وكذب زيد بن أرقم، وأنزل الله تصديق زيد بن أرقم في قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (المنافقون:1) . (48)
ثالثا: أسباب الوقوع في الغيبة
وهناك أسباب كثيرة وبواعث عدة تدفع إلى الوقوع في الغيبة وأهم هذه الأسباب وتلك البواعث:
1 - عدم التثبت أو التبين :
ذلك أن الحكم على الأمور والأشخاص بالسوء دون طلب للدليل وفحص له والتأكد من صحته، والموازنة بينه وبين الظروف المحيطة والواقع المعاش - وهو ما يعرف بعدم التثبت أو التبين - قد يكون من بين الأسباب أو البواعث التي تدفع بالمسلم إلى أن يقع في الغيبة، وصدق الله إذ يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(الحجرات: 6).
2 - الغضب :(3/29)
وقد يكون الغضب من بين الأسباب أو البواعث التي تدفع إلى الوقوع في الغيبة، ذلك أن الإنسان إذا غضب من إنسان وهيج هذا الغضب، ولم يكن هناك وازع من دين أو خلق فإن لسانه يسبق إلى غيبة هذا الإنسان من باب التشفي وإراحة النفس.
وأحيانا يمتنع الإنسان من التشفي وإراحة النفس عند الغضب لسبب أو لآخر، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا كامنا في النفس، الأمر الذي يؤدي إلى ذكر العيوب والمساوئ، وهذه هي الغيبة بعينها.
ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها دعا الإسلام إلى كظم الغيظ ومقاومة الغضب، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " من كتم عيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء" . (49)
3 - البيئة ا لمحيطة قريبة كانت أو بعيدة :
وقد تكون البيئة المحيطة قريبة كانت - ونعني بها البيت - أو بعيدة - ونعني بها مجتمع الأصدقاء - هي السبب في الوقوع في الغيبة، ذلك أن الإنسان شديد التأثر ببيئته، ولا سيما إذا كان في مرحلة الإعداد والبناء .
وعليه فإذا وجد في بيئة لا ترعى للغائب حقه ولا حرمته فإنه يحاكيها، بل ربما وسوس له الشيطان وسولت له نفسه أن الإنكار على هذه البيئة أو قطع هذا المجلس قد يؤدي إلى استثقاله والنفور منه فيجاري، ويرى ذلك من حسن المعاشرة وتمام المجاملة، وأبعد من ذلك غضبه لغضب رفاقه، والخوض في ذكر معايب ومساوئ الغائبين إظهارا للمشاركة والمساهمة في السراء والضراء .
4- الحسد :
ذلك أن الإنسان قد يحسد من يثني الناس عليه ويجلونه ويكرمونه، متمنيا زوال نعمته، ولا يجد سبيلا لتحقيق هذه الأمنية إلا بالطعن فيه والنيل منه حتى تسقط منزلته ومكانته عند الناس وهذه هي الغيبة المحظورة أو المحرمة .(3/30)
ولعل هذا من الأسرار التي من أجلها نهى الإسلام عن الحسد، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً " ، (50) " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" . (51)
5 - الإعجاب بالنفس حد الغرور والتكبر :
ذلك أن الإنسان قد تعجبه نفسه إلى حد الغرور والتكبر، فيحاول وصفها بالرفعة وعلو المنزلة والمكانة على حساب غيره، فيتناول هذا الغير بالانتقاص والطعن فيقول : فلان جاهل وفهمه ركيك، وكلامه هزيل أو ضعيف لا يحسن أن يبين به عما في نفسه -كما قال هذا الطاغية الجبار فرعون عن موسى عليه السلام وقصده بذلك أن يرفع من قدر نفسه : {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مُقترنين} (الزخرف:52-53).
6 - محاولة تبرئة النفس من التهمة والعيب :
وذلك أن الإنسان قد توجه إليه بعض التهم وتلصق به بعض العيوب ويحاول أن يبرئ نفسه من هذه وتلك، فيخطئ السبيل، وبدل أن يثبت عكس التهمة بسلوكه الحميد، وخلقه الطيب أو عن طريق الشهود الثقات الأثبات، يلجأ إلى الطعن والنيل ممن اتهمه وعابه وهذه هي الغيبة المحرمة.(3/31)
وصلى الله وسلم وعظم وبارك على الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كانت توجه إليهم الطعون وتلصق بهم التهم، فكانوا يصبرون ويحتسبون ويمضون في طريقهم إلى نهايتها، مفوضين الأمر كله لله قائلين: "حسبنا الله ونعم الوكيل" وقد اقتدى بهم أتباعهم في كل عصر ومصر ومن كل جيل وقبيل، وشغلوا أنفسهم بالله وطاعته عن الطعن والنيل من خصومهم وأعدائهم، ويوم القيامة سيكون فوزهم وربحهم وخسارة أعدائهم وخصومهم بسبب ما كانوا يصنعون كما قال سبحانه: {اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون} (المؤمنون:108-111) .
7 - استشعار الطعن من الآخرين :
وقد يستشعر المسلم أن الآخرين سيتوجهون إليه بالطعن والعيب، فيحاول أن يبادرهم قبل أن يبادروه وأن يبادئهم قبل أن يبادئوه، فيقبح من حالهم أو يذكر بعض ما فيهم من خير، ويتخذه سبيلا للطعن فيهم والنيل منهم فيقول: ليس من عاداتي الكذب وقد أخبرتكم بكذا وكذا من أحوالهم فكان كما قلت، ويبني على ذلك ما يريد من الطعن فيهم والنيل منهم ولا سيما في غيابهم، فيقع في آفة الغيبة المحظورة أو المحرمة.
8 - المزاح أو التفكه :
وقد يذكر المرء عيوب الآخرين ولا سيما في غيابهم، من باب المزاح والتفكه ومحاولة تضييع الوقت وإضحاك الآخرين، ناسياً أنه بذلك يأكل لحوم الناس، وناسياً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفاً في النار " . (52)
9 - عد م الدقة في التعبير وتصوير المراد :(3/32)
ذلك أن المسلم قد يرى من آخر ثباتا في حق أو صبرا على بلاء، في أهل، ومال، وولد، وعشيرة، فيتعجب من صنيعه هذا أو يشفق عليه، ويغضب فيه لله، ويحاول أن يعبر عن ذلك وأن يصوره، فلا يوفق، إذ بدل أن يذكره بصفته، يذكره باسمه، ويعيب عليه أنه كان ينبغي أن يصنع كذا وكذا، وما درى ظروفه أو الملابسات التي أحاطت به، فيكون له بذلك مغتابا.
وقد جاء في الحديث: أن رجلا مر على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى، فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت، والله لننبئنه، ثم قالوا: يا فلان - لرجل منهم - قم فأدركه فأخبره بما قال: فأدركه رسولهم، فأخبره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه له، فدعاه وسأله، فقال: قد قلت ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تبغضه؟"، فقال: أنا جاره وأنا به خابر، والله ما رأيته يصلي صلاة قط، إلا هذه المكتوبة، قال: فاسأله يا رسول الله: هل رآني أخرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها؟ فسأله، فقال: لا. فقال: والله ما رأيته يصوم شهرا قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله: هل رآني قط أفطرت أو نقصت من حقه شيئا؟ فسأله عنه، فقال: لا، فقال: والله ما رأيته يعطي سائلا، ولا مسكينا قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله، إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فاسأله: هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: "قم فلعله خير منك" . (53)
10 - العمل الحساب أفراد أو جهات مشبوهة :(3/33)
وقد يكون العمل لحساب أفراد أو جهات مشبوهة معروفة بالحقد على الإسلام وأهله، طمعا في عرض زائل من أعراض هذه الحياة الدنيا، هو السبب في الوقوع في آفة الغيبة، على النحو الذي نشهده الآن من الطعن في أبناء الحركة الإسلامية، ومحاولة إلصاق التهم والعيوب بهم، لا لشيء إلا لأنهم باعوا أنفسهم، وما تملك هذه النفوس لله عز وجل، وممن؟ من أناس ذوي لحى، وعمائم، وسواك، وثياب قصار وقد أرخوا ذوائبهم من وراء ظهورهم، واعتلوا المنابر، وتصدروا للفتوى، إنه لا تبرير لذلك سوى العمالة، سواء أكانوا يقصدون أم لا يقصدون، إذ لا يستفيد من مثل هذا الطعن وذلك النيل والعيب إلا أعداء الله.
11 - عدم قيام الأمة بواجبها نحو المغتابين :
وقد يكون عدم قيام الأمة بواجبها - حكاما أو محكومين - نحو المغتابين، من الأسباب إلى تفتح الطريق أمام هذه الآفة حتى تشيع وتنتشر في الناس.
ذلك أن واجب الأمة نحو المغتابين يقضي:
أ - بعدم السماع أو الاستحسان لما يصدر عن هؤلاء المغتابين.
ب - وزجر أولئك وتخويفهم من عقاب الله في الدنيا والآخرة.
ج - ومقاطعة مجالسهم، والإعراض التام عنهم، وإلا فالإنكار، والبغض القلبي .
د - ثم دعوتهم إلى أن يشتغلوا بعيوبهم عن عيوب الناس "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس".
وما لم يرع هذا الواجب يكون الوقوع في آفة الغيبة.
12 - سلوكيات أو تصرفات الآخرين الغير محسوبة، ولا سيما إذا كان هؤلاء من ذوي الأسوة والقدوة :
وقد تكون سلوكيات أو تصرفات الآخرين الغير محسوبة من بين الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في الغيبة.(3/34)
ولعل هذا من بين الأسباب التي من أجلها دعا الإسلام إلى ترك المعاصي وإن كانت صغيرة، واتقاء الشبهات، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"، وضرب صلى الله عليه وسلم لهن مثلاً: "كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، فأججوا نارا، وأنضجوا ما قذفوا فيها" ، (54) "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، (55) " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه" . (56)
وحين يبتلى المسلم بشيء من المعاصي أو الشبهات، فإن عليه أن يستتر فلا يعلن أو يجاهر، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا، وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" . (57)
13 - عدم تقدير العواقب المترتبة على الغيبة:
وأخيرا قد يكون عدم تقدير العواقب المترتبة على الغيبة هو السبب في الوقوع في آفة الغيبة، إذ الإنسان -كما قدمنا في سائر الآفات التي مضت -إذا نسي عواقب الشيء الضارة، وآثاره المهلكة تجرأ عليه، وواقعه، بل ربما لا يستطيع الانفكاك والتحول عنه.
وإلى هذا أشار رب العزة في قوله سبحانه: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (طه:115)، {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:26).
رابعا: آثار الغيبة:
وللغيبة آثار ضارة، وعواقب مهلكة، سواء أكان ذلك على العاملين، أم على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب.
أ - على العاملين:
فمن آثار الغيبة الضارة، وعواقبها المهلكة على العاملين:(3/35)
1 - قسوة القلب :
ذلك أن المغتاب كثير الكلام بغير ذكر الله، لأنه وقّاع في أعراض الناس، أكال للحومهم، ومن كثر كلامه بغير ذكر الله قسا قلبه، فلم يوفق لخير أبدا، وإن وفق فإنما هو توفيق الجوارح، لا توفيق القلوب، ولهؤلاء من ربهم الويل كل الويل كما قال سبحانه: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} ( الزمر: 22 ).
2 - التعرض لسخط الله وغضبه :
وذلك أن المغتاب قد تطاول بهذه الغيبة على حدود الله، وأتى منكرا من القول وزورا، والتطاول على حدود الله، وإتيان المنكر من القول والزور مما يعرض لغضب الله، وسخطه كما جاء في حديث أبي هريرة، عنه رضي الله عنه أنه قال: "وان العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم" . (58)
3 - العذاب الشديد ولا سيما في القبر:
وذلك أن المغتاب يضيع حسناته إن كانت له حسنات بل تتكاثر عليه السيئات، الأمر الذي يعرضه للعذاب الشديد ولا سيما في القبر، وأقل شيء في هذا العذاب تشويه الوجه، فقد مر صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة" . (59)
وقال لأصحابه: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار" . (60)
وقال صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" . (61)
4 - عدم القدرة على القيام بالواجبات :(3/36)
وذلك أن المغتاب يبدّد طاقاته في أكل لحوم الناس، وإذا بددت طاقات الإنسان عجز عن القيام بالمهام المنوطة، والواجبات المفروضة.
ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها دعا الإسلام إلى الصبر وكظم الغيظ، فقال سبحانه: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} (النحل:126)، {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} (البقرة: 153)، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} ( آل عمران: 250)، {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} ( آل عمران: 134).
5 - الجبن :
وذلك أن الغيبة في حدّ ذاتها مظهر من مظاهر الجبن، وإلا لواجه المغتاب أخاه بعيبه، ونصحه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبمرور الوقت تثمر الغيبة آفة الجبن، والضعف، وعدم القدرة على المواجهة، الأمر الذي يؤدي إلى انتفاش الباطل وانتفاخه وتحول الأرض إلى جورة من الشر والفساد، كما قال سبحانه: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} ( الحج: 40)، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} ( البقرة: 251).
ب - على العمل الإسلامي،
وأما آثار الغيبة الضارة وعواقبها المهلكة على العاملين فإنها تتلخص في:
1 - الفرقة والتمزق :
الأمر الذي يؤدي إلى شيوع الشر والفساد وطول الطريق، وكثرة التكاليف وتمكن العدو من رقابنا، ذلك أن الغيبة تؤدي إلى قول الزور، وقول الزور يؤدي إلى البهتان، والبهتان يؤدي إلى الخصومة، ثم التدابر والقطيعة، أو الفرقة.
ولعل هذا هو ما عناه سهل بن عبد الله حين قال: من أراد أن يسلم من الغيبة، فليسد على نفسه باب الظنون، فمن سلم من الظن سلم من التجسس، ومن سلم من التجسس سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان" . (62)
2 - فتح الطريق أمام الناشئة والبسطاء من الناس للوقوع في هذه الآفة :(3/37)
ذلك أن الناشئة والبسطاء من الناس فيهم حب الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة أو التشبه، فإذا كان الجو الذي يحيط بهم ملوثا بالغيبة، وليس لديهم حصانة أو رصيد يقوم على مراقبة الله والخوف منه، فإنهم لا محالة سيشاركون، إما اقتداءً وتأسياً، وإما محاكاة ومشابهة، وكأننا بذلك نفتح المجال أمامهم لتدنس نفوسهم، وتفسد قلوبهم، وحينئذ يكون البوار والخسران المبين.
خامسا: علاج الغيبة:
وما دمنا قد وقفنا على أسباب الوقوع في الغيبة، وأدركنا آثارها الضارة، وعواقبها المهلكة، فقد صار من السهل علينا رسم طريق العلاج، بل الوقاية من هذه الآفة، وتتلخص في:
1 - تربية ملكة تقوى الله، ومراقبته في النفس، وإن هذه الملكة إن نبتت، ورسخت في النفس تحمي صاحبها من أكل لحوم الناس، بل قد تدفعه أن يصون أعراض الآخرين من أن تنتهك في مجلسه وهو ساكت لا يفعل شيئاً، ولعل هذا الدواء هو الوارد في ذيل آية تحريم الغيبة في سورة الحجرات، إذ ختمت الآية بقوله سبحانه: {واتقوا الله إن الله توّاب رحيم} ( الحجرات: 12).
2 - أن يضع المسلم في حسابه أن كل ما يتفوه به مكتوب ومحسوب عليه، إذ يقول سبحانه: {ما يلفظ من قول إلاّ لديه ريب عتيد} ( ق: 18).
ولأن تحسب له كلماته التي يتفوه بها، خير من أن تحسب عليه.
3 - التثبت أو التبين في الحكم على الأشياء والأشخاص بل وفي نقل هذا الحكم، وإشاعته بين الناس حفاظا على أعراض الناس، وإبقاءً على رابطة الأخوة، إذ يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ( الحجرات:6).(3/38)
4 - كظم الغيظ، ومقاومة الغضب على اعتبار أن الغضب من أسباب الوقوع في الغيبة كما قدمنا، يقول سبحانه : {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (آل عمران:134)، {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} ( الشورى:43). ويقول صلى الله عليه وسلم: "من كتم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء" . (63)
5 - العمل على سلامة البيئة قريبة كانت أو بعيدة من مثل هذه الآفة، حتى لا يكون هناك مجال للاقتداء أو للمحاكاة بما هو ضار وموبق في الحياتين جميعا: الدنيا والآخرة.
6 - التبصير بالسبيل الصحيحة لتبرئة النفس من التهم أو الطعون الموجهة إليها، بأن يواجه المسلم التهم أو الطعون الموجهة إليه بالسلوك الحميد، والخلق الطيب، أو بواسطة الشهود الثقات الأثبات، دون لجوء إلى غيبة من اتهمه وطعن فيه.
7 - دعوة ذوي الأسوة والقدوة أن تكون تصرفاتهم دقيقة ومحسوبة، وإلا اقتدى بهم الآخرون، وكانت شرور ومفاسد لا يعلم عقباها إلا الله عز وجل.(3/39)
وإليك ما نبه إليه الإمام النووي - رحمه الله - في هذا الأمر، إذ يقول: اعلم أنه يستحب للعالم، والمعلم، والقاضي، والمفتي، والشيخ المربي، وغيرهم ممن يقتدي به، ويؤخذ عنه: أن يجتنب الأفعال، والأقوال، والتصرفات التي ظاهرها خلاف الصواب وان كان محقا فيها ؛ لأنه إذا فعل ذلك ترتب عليه مفاسد من جملتها: توهم كثير ممن يعلم ذلك منه أن هذا جائز على ظاهره بكل حال، وأن يبقى ذلك شرعاً، وأمرا معمولا به أبدا، ومنها: وقوع الناس فيه بالتنقص، واعتقادهم نقصه وإطلاق ألسنتهم بذلك، ومنها: أن الناس يسيئون الظن به، فينفرون عنه، وينفرون غيرهم عن أخذ العلم عنه، وتسقط رواياته، وشهادته، ويبطل العمل بفتواه ويذهب ركون النفوس إلى ما يقوله من العلوم، وهذه مفاسد ظاهرة، فينبغي له اجتناب أفرادها، فكيف بمجموعها ؟ فإن احتاج إلى شيء من ذلك، وكان محقا في نفس الأمر لم يظهره، فإن أظهره أو ظهر أو رأى المصلحة في إظهاره ليعلم جوازه، وحكم الشرع فيه، فينبغي أن يقول: هذا الذي فعلته ليس بحرام، أو إنما فعلته لتعلموا أنه ليس بحرام إذا كان على هذا الوجه الذي فعلته، وهو كذا، وكذا، ودليله: كذا، وكذا .
روينا في صحيحي البخاري، ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر، فكبّر، وكبّر الناس وراءه، فقرأ، وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض. ثم عاد إلى المنبر حتى فرغ من صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: "أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي". والأحاديث في هذا الباب كثيرة . (64)(3/40)
8 - وجوب السؤال عن التصرفات التي ظاهرها مجانبة الصواب قبل الوقوع في أصحابها بالغيبة، فلعل لهؤلاء مبررا، أو وجهة نظر فيما وقع منهم مجانبا للصواب، ولا سيما وكل واحد في الناس يؤخذ منه، ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الإمام النووي - رحمه الله: ( اعلم أنه يستحب للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممن يقتدى به في ظاهره للمعروف، أن يسأله عنه، بنية الاسترشاد، فإن كان قد فعله ناسيا تداركه، وإن كان فعله عامدا، وهو صحيح في نفس الأمر تنبه له، فقد روينا في صحيحي البخاري، ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فقلت: الصلاة يا رسول الله. فقال: "الصلاة أمامك".
يقول الإمام النووي معقبا على ذلك: "إنما قال أسامة ذلك؛ لأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب، وكان قد دخل وقتها قبل خروجه" . (65)
وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، فقال عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: "عمدا صنعته يا عمر" . (66)
9 - قيام الأمة بواجبها نحو المغتابين بألا تسمع لهؤلاء، بل عليها أن تزجرهم بكل ما تملك من أساليب ووسائل، ومن أبرز هذه الأساليب وتلك الوسائل رد غيبة هؤلاء، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" ، (67) "ما من امرئ خذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته" ، (68) "من حمى مؤمنا من منافق، بعث الله تعالى ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلما بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم، حتى يخرج مما قال" . (69)(3/41)
وعلى ولي الأمر بالذات لفت نظر المغتابين إلى خطورة الغيبة وضررها على الفرد، والجماعة، فإن لم ينزجروا أنذرهم، ثم عزرهم، وبذلك يقضي على الشر من أساسه، ويقتل السوء في مهده.
10 - التذكير الدائم بعواقب الغيبة في الدنيا والآخرة، سواء أكان ذلك على العاملين، أم على العمل الإسلامي، فإن الإنسان ينسى، وعلاج النسيان إنما يكون بالتذكير: {وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين} ( الذاريات: 55).
الآفة السابعة عشرة
النميمة
والآفة السابعة عشرة التي ابتلي بها نفر من العاملين، وكادت تأتي على الأخضر واليابس إنما هي: "النميمة".
وحتى يتطهر من هذه الآفة من ابتلي بها، ويتوقاها من سلّمه الله - عز وجل- منها، فإننا سنتناولها من الجوانب التالية:
أولا : تعريف النميمة :
لغة
تطلق النميمة في اللغة على معان عدّة، نذكر منها:
أ - قتُّ الكلام أو الحديث مطلقاً أي نقله، تقول: نم الحديث نماً أي قتَّه، ورجل نَمُُّ، ونمَّام أي قتَّات، ثم صارت تطلق على نقل الكلام على جهة الإفساد، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة قتّات" . (70)
ب - الهمس و الحركة، ومنه قولهم : أسكت الله نامّته، أي ما ينمُّ عليه من حركته.
ج- الترقيش و الزغرفة، تقول: نمنم الشيء نمنمةً، أي رقّشه، وزخرفه، وثوب منمنم أي موشّى، ومنه قيل للبياض الذي يكون على أظفار الأحداث: نمنمة . (71)
ولا تعارض بين هذه المعاني جميعاً، إذ قتُّ الكلام أو الحديث قد يكون مصحوبا بالهمس، والحركة، وقد يكون مزخرفا، ومنمقا حتى يحظى بالقبول .
اصطلاحا :
أما معنى النميمة في الاصطلاح الشرعي فلها معنيان:
أحدهما خاص، وهو: نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم.(3/42)
والآخر عام، وهو: كشف ما يكره المرء كشفه سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث، وسواء أكان الكشف بالقول، أم بالكتابة، أم بالرمز، أم بالإيماء يعني الإشارة وسواء أكان المنقول من الأفعال، أم من الأقوال، وسواء أكان ذلك عيباً أو نقصاً في المنقول عنه، أم لم يكن . (72)
وليس من النميمة بمعنييها الخاص، والعام، نقل الكلام أو الحديث على جهة الإصلاح كالتقريب بين متخاصمين مثلاً، وكما إذا رأى من يعتدي على مال غيره بسرقة، أو اختلاس، وشهد به مراعاة لحق المشهود عليه ويعرف هذا في اللغة باسم الإنماء ، (73) وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الكذاب من أصلح بين الناس، فقال خيرا، أو نمى خيرا " . (74)
والفرق بين النميمة، والغيبة على هذا التعريف هو العموم والخصوص المطلق، أي أن كل نميمة غيبة، وليس كل غيبة نميمة، فإن الإنسان قد يذكر عن غيره ما يكرهه، ولا إفساد فيه بينه وبين أحد، وهذا غيبة، وقد يذكر عن غيره ما يكرهه وفيه إفساد، وهذا غيبة، ونميمة معاً . (75)
ثانيا : موقف ا لإسلام من النميمة :
والإسلام يحرم النميمة، ويراها من الكبائر التي تحرم الواقع فيها المقيم عليها من الجنة، وتوجب له النار، نظرا لأنه سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل، ويفسد في الأرض.
يقول تبارك وتعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}(الشورى: 42). والنّمام م واحد من هؤلاء: {ولا تطع كل حلاّف مهين هماز مشاء بنميم} (القلم: 10-11).(3/43)
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره" ، (76) "لا يدخل الجنة قاطع" قيل: وما القاطع؟ قال: "قاطع بين الناس" . (77) وهو النمام، وقيل: قاطع رحم، "لا يدخل الجنة قتات" ، (78) ومر صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالغيبة والنميمة " ، (79) "من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة " ، (80) "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين " . (81) إلى غير ذلك من النصوص.
ثالثا: أسباب النميمة :
والأسباب التي توقع في النميمة كثيرة، ونذكر منها:
1 - البيئة ا المحيطة القريبة كانت أو بعيدة:
فقد ينشأ الإنسان في بيئة دأبها الإفساد والوقيعة بين الناس، فيأخذ في الأثر بها، ومحاكاتها، ولا سيما إذا لم يكن قد توفرت لديه الوقاية والحصانة اللازمة لحمايته من مثل هذه الآفات، ولا فرق بين أن تكون هذه البيئة قريبة - أي البيت - أو بعيدة - أي المجتمع - إذ الكل له دور كبير في حياة المرء على وجه العموم، والناشئة على وجه الخصوص.
2 - الحسد أو محبة الشر والسوء للناس :
وقد يكون الحسد أو محبة الشر والسوء للناس مدعاة للوقيعة والإفساد، على نحو ما جاء عن حماد بن سلمة إذ قال: "باع رجل عبدا، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة، قال: قد رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً، ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى، واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها، فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها، فجاءت المرأة بالموسى، فظن أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين" . (82)(3/44)
وعلى نحو ما ذكر صاحب بدائع السلك في طبائع الملك إذ قال: "كان رجل يغشي بعض الملوك، فيقوم بحذاء الملك، ويقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، والمسيء ستكفيه مساوئه، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك، ويقول ما يقول يزعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك، فإذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له الملك: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعاما فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه، والمسيء ستكفيه مساوئه، فقال له الملك: ادن مني، فدنا منه، فوضع يده على فيه، مخافة أن يشتم الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانا إلا وقد صدق، وكان الملك لا يكتب بخطه إلا جائزة أو صلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا، فاذبحه، واسلخه، واحش جلده تبنا، وابعث به إلي، فأخذ الرجل الكتاب، وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه، ومضى إلى العامل، فقال العامل: في كتابك: أن أذبحك، وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أرجع إلى الملك، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه، وسلخه، وحشا جلده تبنا، وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال: لقيني فلان، فاستوهبني إياه، فوهبته له، فقال الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما فعلت، قال: فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: كان أطعمني طعاما فيه ثوم، فكرهت أن تشمه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفاك المسيء مساوئه " . (83) ولهذا السبب وغيره جاء الأمر بالاستعاذة بالله من شر الحاسد، إذ يقول سبحانه: {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا(3/45)
وقب ومن شرِّ النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد}، (سورة الفلق).
3 - التملق لدى ذوي الوجاهة والسلطان إرضاء لهم أو طمعا فيما بأيد يهم :
وقد يكون التملق لذوي الوجاهة والسلطان، إرضاء لهم أو طمعا فيما بأيديهم، هو السبب في الوقوع في آفة النميمة، ذلك أن نفرا من الناس يتصورون بفهمهم القاصر أن إرضاء ذوي الوجاهة والسلطان، أو الحصول على ما بأيديهم لا يتم إلا على أعراض الناس، والوشاية أو الوقيعة بينهم وقد نسوا، أو تناسوا أن ما عند الله، وما عند الناس لا يخاله المرء إلا بطاعته لله، وتفانيه في مرضاته تبارك وتعالى، إذ يقول سبحانه: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف:96).
وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوباً برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " . (84)
4 - الترويح عن النفس :
وقد يرى بعض الناس أن الخوض في الفضول والباطل، والسعي بين الناس بالقطيعة، والإفساد، إنما هو من قبيل التنفيس والترويح عن النفس ومن ثم فلا يتورع عن الوقوع في هذه الآفة، ناسيا أو متناسياً أن الترويح عن النفس بالخوض في الباطل والفضول، والسعي بين الناس بالقطيعة والإفساد لا يعود على المرء إلا بالقلق، والاضطراب النفسي؛ نظرا لأنه معصية، وللمعصية عواقب وخيمة، وآثار مهلكة أعظمها هذا القلق والاضطراب النفسي، مصداقاً لقوله سبحانه: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124)، {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} ( الجن:17).
5 - عدم قيام الأمة بواجبها نحو النمام بل استحسان عمله هذا :(3/46)
وقد يكون عدم قيام الأمة - حكاماً ومحكومين - بواجبها نحو النمّام من تكذيبه، وزجره، وتخويفه، واستهجان عمله هذا، بل استحسان الأمة لمثل هذا العمل، قد يكون سبباً من الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في آفة النميمة.
وقد وعى السلف واجبهم نحو النمامين، فقطعوا الطريق عليهم بأداء هذا الواجب : هذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يدخل عليه رجل، فيذكر له عن رجل شيئا، فيقول له أمير المؤمنن عمر: (إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً، فأنت من أهل هذه الآية: {إن جاءتهم فاسق بنبأ فتبيّنوا} ( الحجرات: 6)، وإن كنت صادقا، فأنت من أهل هذه الآية: {هماز مشاء بنميم} ( القلم:11)، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا) . (85)
وهذا سليمان بن عبد الملك يأتيه رجل - وعنده الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري - فيقول سليمان للرجل: "بلغني أنك وقعت في، وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت، ولا قلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقالله الإمام الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام " . (86)
وهذا عمرو بن عبيد زعيم الخوارج يدخل عليه رجل، فيقول له: "إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا، ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أ علمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه: أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين " . (87)(3/47)
وهذا الصاحب بن عباد يرفع إليه بعض السعاة رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فوقع الصاحب بن عتاد على ظهرها: "السعاية قبيحة، وان كانت صحيحة، فان كنت أجريتها مجرى النصح، فخسرانك فيها أفضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكا في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوقَّ يا ملعون العيب، فان الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمَّره الله، والساعي لعنه الله " . (88)
6 - العمل لحساب أفراد أو جهات مشبوهة :
وقد يكون العمل لحساب أفراد، أو جهات مشبوهة، هو السبب في الوقوع في آفة النميمة، ذلك أن هناك أفرادا وجهات مشبوهة لا تصل إلى مرادها إلا بالوقيعة، والسعاية بين الناس بالإفساد، مباشرة أو بواسطة آخرين من ذوي النفوس الضيقة، والقلوب المريضة، ومن ثم تنتشر وتشيع النميمة بين الناس ولعل الفرقة الواقعة اليوم بين المسلمين بعامة، والجماعات الإسلامية في أنحاء الوطن العربي والإسلامي بخاصة نابعة من هذا السبب.
7 - نسيان الله والدار الآخرة:
وقد يكون نسيان الله، وأنه القوي القهار الفعال لما يريد، المطلع على كل شيء، الجامع الناس ليوم لا ريب فيه، المجازي كلا بما فعل، وكذلك نسيان الدار الآخرة، وما فيها من الأهوال والشدائد، أو السلامة والأمن، العذاب الدائم، أو النعيم المقيم، قد يكون هذا كله سبباً في الوقوع في النميمة، وصدق النبي الكريم إذ يقول: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" . (89)
8 - الغفلة عن العواقب الناشئة عن النميمة:
وأخيرا قد تكون الغفلة عن العواقب الناشئة عن النميمة - كما سنعرف بعد قليل - هي السبب في الوقوع في هذه الآفة، إذ من لا يقدر عواقب الشيء، ولا سيما إذا كانت هذه العواقب وخيمة، فإنه يتجرأ عليه، وإن كان في تجرئه هذا الحتف والهلاك .
رابعا: آثار النميمة:(3/48)
وللنميمة آثار ضارة، وعواقب مهلكة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، ودونك طرفاً من هذه ا لآثار، وتلك العواقب:
أ - على العاملين،
فمن آثار النميمة على العاملين :
1 - قسوة القلب :
ذلك أن النميمة كغيرها من المعاصي والسيئات تسود القلب وتدنسه، فيصيبه المرض، ويظل هذا المرض يسري فيه حتى يموت، فتكون القسوة، والويل كل الويل لمن قسا قلبه كما قال سبحانه: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مُبين} ( الزمر: 22).
2 - نزع الثقة والهيبة من قلوب الناس :
وتنتهي النميمة بصاحبها إلى نزع هيبته والثقة به من قلوب الناس، من باب أن من نم لك نم عليك، وإذا نزعت هيبة المرء، وضاعت الثقة به من قلوب الناس احترقت كل أوراقه، ولم يبق له ما يعيش أو يحيا به بين الناس، فيكون قد حكم على نفسه بالموت، وإن بدا أنه واحد من الأحياء .
3 - الإفلاس :
وتنتهي النميمة كذلك بصاحبها إلى الإفلاس، إذ تضيع حسناته إن كانت له حسنات، الواحدة تلو الأخرى، بل ربما حط عليه من سيئات الآخرين إن لم تف حسناته بما عليه من مظالم وديون، وهذا ما لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار حين قال لأصحابه: "أتدرون ما المفلس؟"، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار" . (90)
4 - سلب الأموال وانتهاك الأعراض وسفك الدماء :
ومن آثار النميمة على العاملين أيضاً: سلب الأموال، وانتهاك الأعراض، وسفك الدماء، وقد مرت بنا قصة العبد النمام، وكيف حرض سيده على مولاته حتى قتلها، ثم قتل بأيدي أقاربها، واشتعلت الحرب بين الفريقين.(3/49)
ومن هذا الباب ما يقع لنفر من العاملين للإسلام على أيدي بعض الحكومات من انتهاك للأعراض، وسلب للأموال، وسفك للدماء، حيث تعمل الوشاية، والنميمة عملها في إشعال أوار هذه الحرب، ولو كان التثبت أو التبين لحقيقة ما يقوله هؤلاء النمامون والوشاة لما كان شيء من ذلك .
5 - التعرض لغضب الله وسخطه الموجبين للنار:
وأخيرا فإن النميمة تنتهي بصاحبها إلى التعرض لغضب الله وسخطه الموجبين للنار، فضلا عن عقاب الدنيا، إذ يقول سبحانه: {ولا يحيق، المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا}، ( فاطر: 43).
وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام " . (91)
ب - على العمل الإسلامي:
ومن آثار النميمة على العمل الإسلامي:
1 - ا لفرقة والتمزق:
وذلك أن سماع النميمة إذا لم يكن معه تقوى الله، يؤدي إلى سوء الظن، ثم التجسس وتتبع العورات، ثم الغيبة، ثم الخصومة، ثم التدابر والتقاطع، أو الفرقة والتمزق، الأمر الذي يكون سببا في ذهاب ريحنا وطمع الأعداء فينا، على النحو الذي نعيشه نحن المسلمين اليوم على كل المستويات الداخلية، والخارجية، الشعبية والقيادية، الفردية والجماعية، وصدق الله الذي يقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمران: 105).(3/50)
وقد حفظ لنا التاريخ الإسلامي من عصر النبوة إلى يومنا هذا صورا توضح هذا الأثر، وحسبنا منها ما ذكره ابن إسحاق، وغيره من كتاب السيرة النبوية: أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم بعاث، وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه، حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتغاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم، فجعل يسكنهم ويقول: " أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم" وتلا عليهم هذه الآية: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} ( آل عمران: 103)، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح رضي الله عنهم . (92)
وحسبنا ما كان بين إمامين جليلين من أئمة المسلمين: الأول: الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي، المعروف بابن حجر العسقلاني (ت 852 ه )، والآخر العلامة بدر الدين محمود بن أحمد المعروف بالعيني ( ت 855 ه )، وكلاهما له شرح نفيس على صحيح البخاري، وقد كانا على صلة وثيقة، وصداقة وصحبه، وذهبا معا رفقة السلطان - في السفرة الحلبية - واستضاف العيني ابن حجر في بلدته عيتاب، فلبى الحافظ ذلك، وأخذ كل منهما عن الآخر، ثم سعى بينهما الوشاءون النمامون، فدب الخلاف بينهما، وتتبع كل منهما الآخر في كتبه ومؤلفاته، ودروسه واملاءاته، وأول ما بدأ الخلاف بينهما على ما يحكي المؤرخون أن اتفق أن المئذنة التي بنيت على البرج الشمالي بباب زويلة للجامع المؤيدي بمصر، قد مالت، وكان العجني يدرس بالجامع المؤيدي آنذاك، فرسم محضر بهدمها، فقال ابن حجر معرضا بالعيني :(3/51)
لجامع مولانا المؤيد رونق منارته بالحسن تزهو وبالزين
أصيب بعين، قلت ذا غلط فليس على جسمي أضرمن العين
فذكر بعض الجلساء للعيني أن ابن حجر عرض به، فغضب ورد عليه قائلا:
منارة كعروس الحسن إذ جليت وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر (93)
ثم اتسع الخلاف بينهما، وإن كان ذلك لم يمنع كل واحد منهما من إنصاف الآخر والشهادة له بالفضل، ومتانة الدين، والكفاية العلمية، ولا سيما عندما يسأل أو يستشهد، وقاتل الله الوشاة النمامين.
2 - فتح الطريق أمام الناشئة وضعاف النفوس أن يقعوا في هذه ا لآفة :
وأخيرا، فإن شيوع النميمة في الأمة يفتح الطريق أمام الناشئة، وضعاف النفوس أن يقعوا في هذه الآفة، وحينئذ تتسع أسباب الفرقة والتمزق، ويكون العذاب الأليم .
خامسا: علاج النميمة :
وما دمنا قد وقفنا على أسباب وبواعث النميمة، وأدركنا آثارها الضارة، وعواقبها الوخيمة، فإنه يسهل علينا أن نرسم طريق الوقاية، والعلاج، وتتلخص في الخطوات التالية :
1 - المبادرة بعدم تصديق النمام، بل زجره، وتخويفه الله والدار الآخرة، فإن ذلك مما يقطع الطريق على النمام، ولا يجعله يستمرئ أو يتمادى، ويوقن المسلم أن مثل هذه الخطوة من باب {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} (لقمان:17).
2 - بغض النمام في الله بغضاً ينعكس على السلوك، وعلى طريقة المعاملة، فإن ذلك له أثر كبير في الإقلاع عن هذه الآفة، ولا سيما عند من لديهم بقية من خير أو ذرة من نور .
3 - تربية ملكة تقوى الله، ومراقبته في النفس، فإن هذه الملكة لها دور كبير في التخلص من العيوب والآفات ومن بينها النميمة، ثم التحلي بالفضائل والمنجيات .
4 - نقاء الوسط الذي يعيش فيه النمام، سواء أكان قريباً كالبيت، أم بعيدا كالمجتمع، فإن المرء ابن بيئته، وكم من أناس طهرت قلوبهم، وزكت جوارحهم واستقاموا على الطريق، بسبب عيشهم في وسط نقي نظيف .(3/52)
5 - اليقين التام بأن ما عند الله لا ينال ل بالمعصية، والوقيعة أو الإفساد بين الناس، وإنما ينال بالطاعة والاستقامة: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشدّ تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما} (النساء: 66-68).
6 - دوام النظر في سيرة السلف، ومنهجهم في مقاومة النميمة ومعالجة النمامين، فإن ذلك له دور كبير في الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، وحينئذ يكون التخلص من النميمة .
7 - التذكير بعواقب النميمة والنمامين، سواء أكان ذلك على العاملين أم على العمل الإسلامي، وخير مذكر بذلك دوام النظر في كتاب الله - عز وجل - وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وواقع هذا الصنف من الناس .
8 - قيام أولي ا لأمر بواجبهم نحو النمامين، وذلك بزجرهم وتخويفهم، بل وتعزيرهم إن اقتضت المصلحة ذلك، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
9 - مقاطعة النمام إن أصر على هذا الخلق الذميم، ولم تنفع معه الأساليب المتقدمة، وآخر الدواء الكي، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " . (94)
الآفة الثامنة عشرة
فوضى الوقت
والآفة الثامنة عشرة التي يبتلى بها كثير من العاملين، بل لا يكاد يسلم منها أحد إنما هي: "فوضى الوقت"، ولا بد أن يتخلص منها من ابتلي بها، وأن يتوقاها، ويتجنبها من سلمه الله وعافاه منها.
وحتى يكون لدينا تصور واضح أو قريب من الواضح عن أبعاد ومعالم هذه الآفة، فإننا سنتناولها على النحو التالي:
أولا: تعريف فوضى الوقت :
لغة
الفوضى في اللغة تطلق على معنيين هما:
أ - اختلاط الأمور بعضها ببعض، يقال: نعام فوضى: أي مختلط بعضه ببعض، ويقال: أموالهم فوضى بينهم: أي هم شركاء فيها.
ب - والتساوي في ا لأمر أو الرتبة، يقال: قوم فوضى: أي متساوون لا رئيس لهم.
قال الأفوه الأودي:(3/53)
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا (95)
وعندي أنه لا تعارض بين المعنيين جميعا؛ لأن الأول لازم للآخر، ومنبثق عنه، ذلك أن التساوي في الأمر أو الرتبة يقتضي الاختلاط أو التداخل في هذا الأمر أو في هذه الرتبة.
اصطلاحا:
أما في الاصطلاح فإن فوضى الوقت تعني خلط الأمور بعضها ببعض، والنظر إليها على أنها بدرجة واحدة من حيث الأهمية والفائدة، مع عدم التوفيق بين الواجبات والأوقات.
ثانيا: مظاهر فوضى الوقت، ووضع هذه الفوضى في ميزان الإسلام :
ولفوضى الوقت مظاهر كثيرة تدل عليها، أهمها:
1 - الاشتغال بثانويات، أو هوامش الأعمال عن أصولها وقلبها.
2 - إعطاء العمل البسيط فوق ما يستحق من الجهد، والوقت.
3- تضييع الساعات الطوال بغير عمل بالمرة.
4 - تراكم أكثر من عمل في وقت واحد، بل في لحظة واحدة.
وأما عن وضع فوضى الوقت هذه في ميزان الإسلام، فهي حرام، كما تلمح بذلك النصوص الكثيرة الناطقة بتحسر أقوام على أعمارهم التي ضيعوها بغير عمل يفيد، فيقول: {إن الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} ( الأحزاب: 63-66).(3/54)
وأنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من تقصير، فيقول: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربي ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} (المؤمنون)، {وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} (المنافقون: 10)، {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} (الأنعام:27)، {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل} (الأعراف: 53)، {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل}(فاطر: 37).
وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ " ، (96) "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه " . (97)
ويشرح أو يبين الحق - تبارك وتعالى - حرمة هذه الفوضى بشكل أدق حين يذكر بنعمة الوقت، فيقول: {يُقلّب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (النور: 44)، {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} ( الفرقان: 62)، {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} ( القصص: 73).
ويقول صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" ، (98) "بادروا بالأعمال الصالحة سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتاً مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" . (99)
ثالثا : أسباب فوضى الوقت :
والأسباب أو البواعث التي توقع في فوضى الوقت كثيرة، نذكر منها:(3/55)
1 - الأسرة التي لا ترعى حرمة الوقت:
فقد ينشأ الإنسان في أسرة لا ترعى حرمة الوقت، ولا تعطي له أدنى رعاية أو أهمية، وتكون النتيجة التأثر، والتأثر الشديد بهذا الجو، أو بهذا المحيط من الفوضى، وتصبح لازمة من لوازم حياته، تسير معه إلى القبر إلا أن يتداركه الله برحمة منه وفضل، ويهيئ له صحبة صادقة طيبة، تأخذ بيده إلى احترام الوقت وتنظيمه، وتظل تتعهده، وترعاه حتى يقلع عن هذا الداء .
2 - الصحبة السيئة :
وقد تلقي المقادير بالإنسان في وسط من الصحبة السيئة، دأبها وديدنها ضياع الوقت، أو ملؤه بالتافه الضار، ويكون هو غير مكتمل الحصانة وحينئذ يتأثر بهم، ويظهر ذلك أول ما يظهر في وقته، فإذا به يهدره ويضيعه فيما لا طائل تحته، ولا فائدة ترجى من ورائه .
3 - عدم احترام ذوي الأسوة والقدوة لأوقاتهم:
وقد يكرم الله المسلم بصحبة طيبة، إلا أن ذوي التأثير والأسوة والقدوة في هذه الصحبة مصابون بفوضى الوقت، فيتأثر بهم، وخصوصا إن لم يعمل عقله، ويرى نفسه مسئولا وحده بين يدي ربه، وبمرور الزمن تصبح فوضى الوقت خلقا لازما له في حياته.
4 - عدم تقدير قيمة الوقت:
وقد لا يعرف الإنسان قيمة الوقت، وأنه رأس ماله على ظهر هذه الأرض، وأنه إن ضاع ضاعت نفسه، وإن بقي بقيت نفسه. قد لا يعرف ذلك كله، فينشأ في نفسه، وفي سلوكه ما يسمى بفوضى الوقت.
5 - الركون إلى النعمة مع أمن مكر الله :
وقد يمن الله على الإنسان من فراغ، أو صحبة، أو شباب، أو غير ذلك فيطمس بهذه النعمة، ويركن إليها، وينسى أنه يمكن أن تصير إلى زوال في لحظة، ويأمن مكر الله، وتكون العاقبة إهدار الوقت، وتضييعه فيما لا يجدي، ولا يفيد، وتلك هي فوضى الوقت.
6 - الانفراد بالرأي وعدم المشورة:(3/56)
وقد ينطلق الإنسان يعمل حسبما تسنح له الفرصة، معتمدا على رأيه دون الرجوع إلى أحد من ذوي الخبرة، والتجربة، والسداد، والرأي ومشاورته فيما يريد، وتكون العاقبة فوضى الوقت، حيث يشتغل بثانويات الأمور، ويضيع الأصول، أو الأساس، أو تتراكم عليه الأعمال فيقعد ولا يعمل شيئا بالمرة.
7 - عدم تقدير المرء لجهده وطاقته:
وقد لا يقدر المرء جهده، وطاقته، ويظن أن لديه القدرة على عمل كل شيء، ويأخذ في العمل، ويصادف أنه لم ينجز شيئا، ويصير من أصحاب أنصاف أو أثلاث، أو أرباع الأعمال. كما قيل: الذي يعمل كل شيء لا يعمل شيئا، وهذه هي فوضى الوقت.
8 - عدم المتابعة والمحاسبة:
وقد يحرم الإنسان ممن يتابعه، ويحاسبه على عمله، وعلى خطواته أولا بأول، وتكون النتيجة فوضى الوقت حيث يضيع الوقت في غير عمل بالمرة، أو في عمل هامشي لا يسمن ولا يغني من جوع.
9 - المعصية، وإهمال النفس من التزكية:
وقد يقع الإنسان في المعصية، ولا سيما الصغير منها، ويهمل التوبة والتخلص منها، بل يهمل تزكية نفسه التي هي سبب بركة الوقت وامتداده، أو اتساعه، وحينئذ يبتلى بفوضى الوقت، إذ يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه" . (100)
والعلماء مختلفون في تحديد معنى الإنساء على نحو ما ذكر الحافظ ابن القيم في كتابه الداء والدواء، إذ يقول:
"وقد اختلف الناس في هذا الموضع، فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره، ومحقها عليه، وهذا حق، وهو بعض تأثير المعاصي، وقالت طائفة : بل تنقصه حقيقة، كما تنقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسباباً كثيرة تكثره، وتزيده، وللبركة في العمر أسبابا تكثره، وتزيده.(3/57)
قالوا: ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، فالأرزاق، والآجال، والسعادة، والشقاوة، والصحة، والمر ض، والغنى، والفقر، وإن كانت بقضاء الرب - عز وجل - فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها لمسبباتها مقتضية له.
وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب، ولهذا جعل الله - سبحانه - الكافر ميتا غير حي، كما قال تعالى: {أموات غير أحياء} (النحل: 21).
فالحياة في الحقيقة حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر، والتقوى، والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها.
وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غبّ إضاعتها يوم يقول: {يا ليتني قدّمت لحياتي} ( الفجر: 24). فلا يخلو إما أن يكون له مع ذلك تطلع إلى مصالحه الدنيوية، والأخروية أولا، فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك، فقد ضاع عليه عمره كله، وذهبت حياته باطلاً. وإن كان له تطلع إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله بأضدادها، وذلك نقصان حقيقي من عمره.
وسر المسألة: أن عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه، وذكره، وإيثار مرضاته" . (101)
10 - الغفلة عن واقع الأعداء:
وقد ينسى المرء واقع الأعداء، وأنهم يعملون بالليل والنهار، ولا يسمحون لأنفسهم بتضييع لحظة بغير عمل، وبغير كيد لله ولرسوله، ولجماعة المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويلتزمون بهدي السماء، قد ينسى المسلم ذلك، فيهمل الانتفاع بوقته، وحينئذ يصاب بفوضى الوقت.
11 - الغفلة عن عواقب فوضى الوقت:(3/58)
وقد تغيب عواقب فوضى الوقت الدنيوية والأخروية عن بال المسلم فإذا به يهدر وقته، ولا ينتفع به، أو ينتفع به فيما لا جدوى من ورائه، وحين يأتيه الموت يبكي ندماً، ويتمنى التأخير لتدارك ما فات، وأنى له ذلك، وقد قال الله تعالى: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} (المنافقون:11).
12 - الدخول في العمل بغير تنظيم وتخطيط:
وقد يدخل الإنسان في العمل مهملا قواعد التنظيم، والتخطيط لواجباته ولطاقاته، بل للواجب الواحد، وحينئذ يأخذ في التضييع والتفريط، وتكون فوضى الوقت.
رابعا: آثار فوضى الوقت:
ولفوضى الوقت آثار مهلكة، وعواقب خطيرة، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه ا لآثار.
أ - على العاملين :
أما عن آثار فوضى الوقت على العاملين فكثيرة، نذكر منها :
1 - ضياع العمر بغير فائدة، أو بفائدة لا تذكر:
ذلك أن الفوضوي في وقته، تمر عليه أوقات كثيرة بغير عمل، أو بعمل هامشي لا يكاد يذكر، وتكون النتيجة الأخيرة، والمحصلة النهائية ضياع العمر كله بغير فائدة، أو بفائدة قليلة الجدوى، ضئيلة النفع، وهذا هو الغبن الذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" . (102)
وهو الذي قصد إليه حكيم من الحكماء حين قال: من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه . (103)
2 - القلق والاضطراب النفسي:(3/59)
ذلك أن الفوضوي في وقته ينسى نفسه من التزكية، أو يزكيها بما لا يشبعها ولا يشفيها، بل ربّما وقع في المعاصي والسيئات كما شهد بذلك الواقع، وأشار إليه بعض الحكماء إذ قال: "من الفراغ تكون الصبوة" ، (104) وتكون النتيجة مرض القلب وموته، وبعبارة أخرى قسوته، الأمر الذي يؤدي إلى القلق والاضطراب النفسي، كما يفهم من قوله تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}( التغابن:11)، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: 28)، {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام: 82).
3 - الذل والهوان في الدنيا:
ذلك أن الفوضوي في وقته إنما هو واقف في محله، أو يتحرك حركة بطيئة لا تسمن ولا تغني من جوع، في الوقت الذي لا يكف فيه الباطل، ولا يفتر عن العمل لحظة واحدة، ومثل هذا سيأتي عليه لحظة، لا يتمكن فيها حتى من التنفس العادي، فضلا عن الحركة والتأثير في غيره، فيقضى حياته ذليلا مهينا، كما يقول سبحانه: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124).
4 - الحسرة والندامة يوم القيامة:
ذلك أن الفوضوي في وقته، يلقى ربه يوم القيامة بغير ما يرضيه وتكون العاقبة الحسرة والندامة، بل وتمني العودة إلى الدنيا للتدارك، والإصلاح كما يقول سبحانه: {أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين} ( الزمر: 56)، {وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي} ( الفجر: 23-24)، {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت} ( المؤمنون: 99)، {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل}(فاطر: 37).
ب - على العمل الإسلامي:
وأما عن آثار فوضى الوقت على العمل الإسلامي فتتلخص في:
1 - الفرقة والتمزق:(3/60)
ذلك أن الفوضوي في وقته يقصر في حق الآخرين، فلا يرعى الآداب الاجتماعية، وتكون العاقبة النفور والقطيعة، الأمر الذي يؤدي إلى الفرقة والتمزق، ثم تمكين العدو من رقابنا واستغلاله لخيرنا، وثرواتنا.
2 - الحصار والتطويق:
ذلك أن فوضوي الوقت، إنما يفسح الطريق أمام الباطل لحصار العمل الإسلامي وتطويقه، بل وتشديد القبضة عليه، ولا سيما أن هذا الباطل حريص كل الحرص على الانتفاع بوقته وتوظيفه فيما يحقق له أهدافه، ويوصله إلى غاياته.
3 - طول الطريق، وكثرة التكاليف:
أو على الأقل تؤدي فوضى الوقت إلى طول الطريق، وكثرة التكاليف نظرا لتربص الباطل بالعمل الإسلامي، وعدم انتفاع هذا العمل بوقته في إبطال هذا التربص، وتفادي شرره وأخطاره.
ولقد أشار الإمام المودودي وهو يخاطب الدعاة إلى هذا الأثر والذي قبله بقوله:
"اسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم، فإنكم لا بد أن تبوءوا بالفشل الذريع، بفشل لا تتجرأ بعده أجيالنا القادمة على أن تفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مدة غير وجيزة من الزمان، عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية، قبل أن تهتموا بالخطوات الكبيرة " . (105)
خامسا: علاج فوضى الوقت:
وما دمنا قد وقفنا على الأسباب أو البواعث التي أدت إلى فوضى الوقت، فإنه من السهل معرفة طريق العلاج، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1 - اليمين بأن الوقت هو رأس المال على ظهر هذه الأرض:(3/61)
بأن يضع المسلم في حسابه أن وقته هو رأس ماله على ظهر هذه الأرض، والتفريط فيه، أو عدم شغله بالنافع المفيد يعني خسارة الدنيا والآخرة أو خسارة الآخرة على الأقل، وتلك هي الخسارة التي لا خسارة بعدها، إذ يقول الحق - تبارك وتعالى: {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}( الزمر: 15)، فإن ذلك من شأنه أن يحمل المسلم على تنظيم وقته، وملئه بما يعود عليه وعلى أمته بالخير العظيم.
2 - اليقين بضخامة المسئولية غدا:
وأن يوقن المسلم بضخامة المسئولية غدا بين يدي الله - عز وجل - إذ الوقت من بين ما يسأل عنه العبد يوم القيامة كما جاء في الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أفناه، وعن عمره فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه" . (106)
3 - دوام النظر في سيرة السلف:
وأن يديم المسلم النظر في سيرة السلف، وكيف كان حرصهم على الوقت بل واستغلاله استغلالا صحيحا حقيقيا، ولا سيما العلماء والدعاة والمجاهدون، فقد كان هؤلاء يستغلون أوقاتهم استغلالا يدور بين القراءة، والسماع، والإسماع، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والصلوات، وسائر أعمال البر والخيرات.
هذا أبو بكر الأنباري يدخل عليه الطبيب في مرض موته، فينظر إلى مائه - يعني بوله - ويقول له: قد كنت تفعل شيئا لا يفعله أحد، ثم يخرج فيقول: ما يجيء منه شيء. ويعود إليه ويسأله: ما الذي كنت تفعل؟ فيقول له أبو بكر -رحمه الله -: كنت أعيد في كل أسبوع عشرة آلاف ورقة . (107)
وها هي امرأة الحافظ محمد بن مسلم المعروف بابن شهاب الزهري، المحدث المشهور المتوفي 124 هـ، تشكو من تعلق زوجها بالكتب، وطول معايشته لها فتقول: والله، إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر . (108)(3/62)
وهذا الشيخ عبد العظيم المنذري (صاحب كتاب الترغيب والترهيب المتوفى 656 ه ) يحكي عن إسحاق بن إبراهيم بن عيسى المرادي، فيقول: ولم أر، ولم أسمع أحدا أكثر اجتهادا منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار، وقد جاورته في المدرسة - يعني القاهرة - بيتي فوق بيته، اثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي، في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته، وهو مشتغل بالعلم، وحتى كان في حال الأكل، والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها . (109)
وهذا العلامة ابن الجوزي ( المتوفى 597 ه ) يقول عن نفسه: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم، قدر همهم، وحفظهم، وعاداتهم، وغرائب لا يعرفها من لم يطالع . (110)
وهذا الحافظ ابن قيم الجوزية - رحمه الله - يقول: وأعرف من أصابه مرض من صداع، وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك، فقال: إن هذا لا يحل لك، فإنك تعين على نفسك، وتكون سببا لفوات مطلوبك . (111)
وهذا عبد الرحمن بن تيمية ينقل عن أبيه، عن جده، فيقول: كان الجد إذا دخل الخلاء، يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع . (112)
وهذا أبو عثمان أحد شيوخ البخاري يقول: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم، وإلا قمت له بمالي، فإن تم، وإلا استعنت له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان . (113)
وهذا الليث بن سعد - رحمه الله - كان يجلس للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحد من الناس فيرده، كثرت حاجته، أو صغرت . (114)(3/63)
وهذا الخطيب البغدادي يقول: سمعت علي بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوي، يحكي أن محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 ه - عن ثلاث وثمانين سنة- مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة . (115)
وهذا الإمام حسن البنا- رحمه الله - يقول عن نفسه: لقد استدعيت في دار الشبان حتى أقول رأيي في كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين) بعد خمسة أيام، ولما لم أكن أستطع التحلل من مواعيد كنت مرتبطا بها في خلال الأيام الخمسة، فلم أجد وقتا أخصصه لقراءة هذا الكتاب إلا فترة ركوبي الترام في الصباح إلى مدرستي، وفترة رجوعي منها في الترام، قال:
فقرأت الكتاب - لأنه لم يكن كبيرا - وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص على فقرات معينة، ولم تمض الأيام الخمسة، حتى كنت قد استوعبت الكتاب كله . (116)
وهذا المرحوم عمر التلمساني، يقول عن نفسه: أقبلت على القراءة الدينية، فقرأت تفسير الزمخشري، وابن كثير، والقرطبي، وسيرة ابن هشام، وغيرها من السير... قرأت أسد الغابة، والطبقات الكبرى، ونهج البلاغة، والأمالي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والمخصص لابن سيده، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم من جلده، إلى جلده . (117)
وهذا الأستاذ علي طنطاوي يقول: لو أحصيت معدل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم، لأنني منذ الصغر شبه معتزل، بعيد عن المجتمع، فلو جعلت لكل ساعة عشرين صفحة، أقرأ من الكتب الدسمة نصفها، ومن الكتب السهلة نصفها، لكان لي في كل يوم مائتا صفحة في اليوم.(3/64)
فاحسبوا كم صفحة قرأت من يوم تعلمت النظر في الكتب، وامتدت يدي إليها سبعين سنة، في كل سنة اثنا عشر شهراً، في كل شهر ثلاثون يوما، في كل يوم مائة صفحة، فإن هالكم الرقم، فاحسموا منه نصفه فكم يبقى؟ كنت ولا أزال أقرأ في كل علم: في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي التاريخ، وفي الأدب: الأدب العربي، والأدب الفرنسي. وفي العلوم على تنوعها وتعددها بدأت اليوم أقرأ سنة 1335 ه، ونحن اليوم في سنة 1405 ه وأنا أقرأ أكثر ساعات ليلي ونهاري، فلو قدرت لكل يوم مائة صفحة - وأنا أقرأ أضعافها - لكان مجموع ما قرأت مليونين ونصف من الصفحات، وكتبت ما لم يكتب أكثر منه مما أعرف إلا قليلا، كالأمير شكيب أرسلان، والأستاذ العقاد، وأمثالهما، وان كان أمثالهما قلة من أصحاب القلم الفياض، والذي نشر مما كتبت يزيد على ثلاث عشرة ألف صفحة، وما ضاع مني مثله، أو أكثر منه . (118)
وهذا الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء بالجزائر يصفه أحد الكتاب بقوله: ولقد تميز ابن باديس في حياته كلها باحترام الوقت والنظام فكان - رحمه الله - رجل علم ونظام يحافظ على أوقاته، فكان برنامجه اليومي، مما يصعب على الكثير أن يقوم به، حيث يبدأ نهاره من قبيل صلاة الفجر بالمرور على مساكن طلاب الجامع الأخضر ليتأكد من استيقاظهم لأداء صلاة الفجر، وبعد الصلاة يشرع في التدريس حتى الشروق، فيتناول إفطاره، ويعود إلى التدريس حتى صلاة الظهر، ثم يعاود التدريس من صلاة العصر حتى ما بعد صلاة العشاء، وقد بلغت الدروس التي يلقيها في اليوم الواحد خمسة عشر درساً . (119)
إن الوقوف على أمثال هذه السير وغيرها يجعل المسلم يراجع نفسه بالنسبة لوقته، ويجتهد أن يملأه بالنافع المفيد اقتداءً وتأسياً، أو على الأقل محاكاة، وتشبهاً بذوي الفضل، والحكمة.
4 - الدعاء والضراعة إلى الله بالبركة في الوقت:(3/65)
وأن يلزم المسلم الدعاء والضراعة إلى الله الذي بيده مقاليد السموات والأرض أن يبارك له في وقته، وأن يوفقه لملئه بالنافع المفيد، إذ الدعاء سهام نافذة، ولا سيما إذ وقع في الأوقات التي ترجي فيها الإجابة كوقت السحر وفي السفر، وعند الاضطرار، ونحوها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة، إذ كان من دعائه قوله: "اللهم بارك لأمتي في بكورها " . (120)
5 - الزهد في الدنيا مع الرغبة في الآخرة:
وأن يزهد المسلم في الدنيا بأن تكون في يده لا في قلبه، وأن تكون من حلال، وأن يؤدي حق الله فيها، بل أن يتنازل عنها جميعا لله إن اقتضت الحال ذلك، مع الرغبة القوية في الآخرة، فإن ذلك من شأنه أن يحمله على التشمير الدائم، والحرص ألا تمر عليه لحظة بغير طاعة تقربه إلى الله - تبارك وتعالى.
قيل للإمام الزهري مرة: ما الزهد؟ قال: ليس تشعيث اللمة، ولا قشف الهيئة - أي ليس شعث الرأس، ولا اغبرار الهيئة - ولكنه صرف النفس عن الشهوة . (121)
وقال أحد الزهاد: ما علمت أن أحدا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر، أو صلاة، أو قراءة، أو إحسان، فقال له رجل: إني أكثر البكماء، فقال: إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل - أي منبسط بعملك - وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه.
فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها. وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا، وإن أطعمت أطعمت طيبا، وان سقطت على شيء لم تكسره، ولم تخدشه . (122)
6 - التخلص من الصحبة السيئة مع الارتماء في أحضان الصحبة الطيبة:
وأن يحرص المسلم علف تخب الصحبة السيئة مع الإلقاء بالنفس بين أحضان الصحبة الطيبة، فإن هذا من شأنه أن يحفظ على المسلم أوقاته، وأن تنفق في النافع المفيد، وفي الخبر:(3/66)
"من يرد الله به خيرا يهده خليلا صالحا، إن نسي ذكره،وإن ذكر أعانه" ، (123) " ألا أنبئكم بخير الناس؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "من تذكركم رؤيته بالله عز وجل" ، (124) "اصحب من يدلك على الله حاله، ومن يعرفك بالله مقاله" . (125)
7 - تنظيم الأسرة للوقت مع شغله بالنافع المفيد:
وأن تحرص الأسرة على تنظيم أوقات المنتمين إليها مع شغل هذه الأوقات بالنافع المفيد، فوقت للراحة والنوم، ووقت للطعام والشراب، ووقت لتحسين وتقوية الصلة بالله عز وجل، ووقت للترفيه عن النفس، ووقت لرعاية الآداب الاجتماعية، وهكذا دواليك، فإن هذا التنظيم مع الشغل من شأنه أن يبني في النفس الحرص على الوقت، وعدم تضييع لحظة منه بغير ثمرة أو عمل .
8 - الحرص على المشورة وعدم الانفراد بالرأي:
وأن يحرص المسلم ألا يبرم أمرا دون أخذ الرأي والمشورة، فإن ذلك من شأنه أن يدل المسلم على النافع المفيد، بل وعلى الأولويات والمهمات، فلا تضيع منه لحظة بغير عمل نافع، أو ثمرة حلوة .
9 - معرفة المرء قدر نفسه :
وأن يكون المسلم عارفا قدر نفسه، مدركا حدود جهده، فلا يزعم لنفسه ما ليس من شأنها، ولا يدخل فيما لا يجيد، إذ أن هذا من شأنه أن ينظم الوقت، وأن يشغله بالنافع المفيد الذي هو في حدود الطاقة والوسع .
10 - الاحتراز من المعاصي مع الإكثار الطاعات:
وأن يحترز المسلم من المعاصي والسيئات، وإن وقع في شيء منه فليبادر بالتوبة والإقلاع، مع الإكثار من الطاعات، فإن ذلك يكون سببا في بركه الوقت وسعة الرزق، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه " . (126)
11 - احترام ذوي الأسوة والقدوة لأوقاتهم مع شغلها بالنافع المفيد :(3/67)
وأن يحرص ذوو الأسوة والقدوة على تنظيم أوقاتهم، مع شغلها بالنافع المفيد، واضعين في حسابهم أن الناس يصنعون كما يصنعون في الغالب دون أن يعملوا فكرهم، ودون أن يسألوا : هل هذا موافق للهدي الرباني أو غير موافق . وأنهم إن أهملوا هذا الجانب فقد سنوا لغيرهم سنة سيئة عليهم وزرها، ووزر العاملين بها إلى يوم القيامة، وإن اهتموا بهذا الجانب فقد سنوا لغيرهم سنة حسنة لهم ثوابها، وثواب العاملين بها إلى يوم القيامة .
12 - الخوف من الله مع عدم الركون إلى النعمة:
وأن يصحب المسلم معه في سفره إلى ربه خلق الخوف منه وعدم أمن مكره أو عذابه، مع عدم الركون إلى النعمة، فإن ذلك إن توفر للمسلم صار سوطا يلهب ظهره، ويحمله على تنظيم وقته، وشغله بالنافع المفيد، ويصدق ذلك ما أثر عن السلف .
وحسبنا هنا : ما جاء عن سيدنا عمر بن عبد العزيز، إذ تقول عنه زوجه فاطمة بنت عبد الملك : ما رأيت أحدا أكثر صلاة، ولا صياما منه، ولا أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلب عيناه، ولقد كان معي في الفراش، فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف . (127)
وحسبنا هنا كذلك ما جاء عن الإمام أبي حنيفة - النعمان بن ثابت -إذ يقول عنه صاحبه يزيد بن الكميت :(3/68)
كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله تعالى، فقرأ بنا علي بن الحسين المؤذن ليلة في العشاء الآخرة سورة {إذا زلزلت} وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة، وخرج الناس، نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يتفكر ويتنفس فقلت: أقوم لا يشتغل قلبه بي، فلما خرجت تركت القنديل، ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر، وهو قائم، وقد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرا، أجر النعمان عبدك من النار، ومما يقرب منها من السوء وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذنت، وإذا بالقنديل يزهر، وهو قائم فلما دخلت قال لي: تريد أن تأخذ القنديل؟ قلت: قد أذنت لصلاة الغداة "- فقال: اكتم ما رأيت، وركع ركعتين، وجلس حتى أقمت الصلاة، وصلى معنا . (128)
13 - الحرص على التنظيم والتخطيط لأي عمل من الأعمال:
وأن يحرص المسلم ألا يدخل في أي عمل من الأعمال وإن كان بسيطا إلا بالتنظيم والتخطيط، فإن هذا من شأنه استغلال الوقت أحسن استغلال مع توفير الجهد، والتقليل من التكاليف والتضحيات، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم غاصة بالنماذج الناطقة بحرصه صلى الله عليه وسلم على التنظيم والتخطيط ولو لأبسط الأعمال.
فمثلا ما كان ينام في سفر أو حضر إلا ويكلف من يكلأ الوقت، ويراقبه، وما كان يأكل أو يشرب إلا بنظام أو ترتيب خاص، وما كان يغزو أو يسالم إلا وفق تنظيم وتخطيط، وهكذا سائر حياته وأعماله صلى الله عليه وسلم.
14 - البصيرة بواقع الأعداء، والعواقب المترتبة على فوضى الوقت:
وأن يكون المسلم بصيرا بواقع الأعداء، وأنهم لا يضيعون لحظة بغير عمل، وأن إهدار وقته أو عدم استغلاله الاستغلال الصحيح يعني تمكن هؤلاء الأعداء من رقاب الأمة، فضلا عن غضب الله وسخطه في الدنيا والآخرة على النحو الذي قدمنا.
15 - الحرص على لزوم الجماعة، ونبذ العزلة أو التفرد:(3/69)
وأن يظل المسلم ملازما الجماعة نابذا وراء ظهره العزلة أو التفرد، فإن الجماعة إن كانت مدركة لمهمتها، بصيرة بأمرها، نهضت بواجبها نحو هذا المسلم، فتنظم له وقته، وتملؤه بالنافع المفيد، بل وتتابعه وتحاسبه على التفريط أو التضييع، مقتفية في ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقوم من الليل ثلثه، ثم ينام سدسه، ثم يصلي الصبح، ويضل يذكر ربه حتى تطلع الشمس وترتفع قدر رمح، فيصلي الضحى، ويتناول طعامه، وينصرف إلى واجباته نحو المسلمين، ومنهم أهله وأحفاده، ثم يصلي الظهر، وينام القيلولة، ويصلي العصر ويظل في حاجة المسلمين إلى العشاء، وفي هذه الأثناء يتناول عشاءه إن كانت به حاجة إلى هذا العشاء، ثم يصلي العشاء، وينام مبكرا، أو يسمر بعض الوقت في مصالح المسلمين إن قصر النهار عن تغطية هذه المصالح، ثم ينام، ولم يكن ينسى حق بدنه من الرياضة كالمشي، أو العدو، أو المصارعة، أو ركوب الخيل أو الرمي، فتحاول الجماعة تطبيق هذا الهدي مع كل مسلم، وتتولى متابعته ومحاسبته، فتحميه بذلك من التفريط والتضييع.
16 - التأكيد على الموعد بالنسبة للزائرين مع لباقه التخلص من الفضوليين أو شغلهم بالنافع المفيد :(3/70)
ولا بد من أن يعود المسلم الزائرين على ألا تتم زيارة بغير موعد حفاظا على الوقت، وتوفيرا للجهد، وأن يكون لبقا في التخلص من الفضوليين، كأن يصنع معهم ما كان يصنعه بعض السلف إذ كان يأمر جاريته أن تدور دائرة، وأن تضع أصبعها في وسط هذه الدائرة، وتقول: سيدي ليس هنا، أي ليس في داخل الدائرة، وهي صادقة، أو ما يصنعه أحد العلماء، الدعاة المعاصرين بأن يضع عمامته وجبته على مشجب خلف الباب، فإن جاء فضولي ورمقه من ثقب بالباب، لبس عمامته، وجبته إيهاما له بأنه خارج لواجب أو لمهمة، وفعلا يعتذر له، ويخرج قليلا، ويعود، فإن أبى هذا الفضولي إلا الدخول عمل على شغله بالنافع المفيد، وعلى نحو ما كان يصنع ابن الجوزي، إذ كان يقصر الكلام معهم استعجالا للفراق، أو يعد أعمالا تعنيه، ولا يمنع إنجازها من المحادثة والكلام مثل تقطيع الأوراق التي يكتب فيها وبري الأقلام، وحزم الدفاتر ونحوه، ودونك تجربته في ذلك بنصهما، إذ يقول:
" لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثيرا من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، خصوصا في أيام التهاني، والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلما رأيت الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق.(3/71)
ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة، لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد - أي الورق - وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي " . (129)
الآفة التاسعة عشرة
التسويف
والآفة التاسعة عشرة التي تصيب نفراً من العاملين، بل لا يكاد يسلم منها إلا أصحاب الهمم العالية، والإرادات القوية والعزائم الصادقة، إنما هي: "التسويف".
وحتى يتخلص منها من أصيبوا بها، ويتقيها، ويتجنبها من سلمهم الله - عز وجل - منها، فإننا سنعرض لها بإذن الله من الجوانب التالية:
أولا: تعريف التسويف:
لغة
التسويف لغة يطلق على معان عدة، نذكر منها:
أ - التأخير والمماطلة، يقال: سوف يسوف تسويفا أخر، وماطل، يؤخر، ويماطل، تأخيراً، ومماطلة، وسوف حرف يدخل على الفعل المضارع، فيخصصه للاستقبال ودلالته التأخير، يقال: سوف أسافر.
ب - والتهويل، يقال: سوَّف الأمر تسويفاً معنى هوله وضخم من شأنه، ومنه قوله تعالى: {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} ( الأنعام: 67)، {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} (الحجر: 3).
ج - والوعد، يقال: سوف بالحسنة تسويفاً يعني وعد بها مستقبلاً ومنه قوله تعالى: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (النساء: 74)، {وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} ( النساء: 146).
د - والوعيد، يقال: سوف بالسيئة تسويفا، يعني توعد بها مستقبلا، ومنه قوله تعالى: {قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا} ( الكهف: 87)، {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} ( مريم: 59) . (130)
وعندي أنه لا تعارض بين هذه المعاني جميعاً، إذ هي وعدا، أو وعيدا أو تهويلا إنما ترد إلى معنى التأخير أو التأجيل والمماطلة.
اصطلاحا:(3/72)
أما معنى التسويف اصطلاحاً، فهو المماطلة أو التأجيل على سبيل التهويل، والتضخيم لتنفيذ المطلوب وعدا كان أو وعيدا.
ثانيا: وضع التسويف في ميزان الإسلام مع بعض ما يدل عليه من سمات ومظاهر:
والتسويف بهذا المعنى ليس مذموما كله وليس محمودا كله، بل منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود.
فأما المذموم : فهو التأجيل أو التأخير لتنفيذ المطلوب بغير مبرر أو مقتضى، وهو الذي نبه إليه الحق - تبارك وتعالى - بقوله: {وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدّق وأكن من الصالحين} ( المنافقون: 10)، {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت} (المؤمنون: 99)، {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفّاً وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي} (الفجر: 21-24 )، {اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} ( الزمر: 55-58 ). كما نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "بادروا بالأعمال الصالحة سبعا: هل تنتظرون إلا فقرأ منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" ، (131) "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" . (132)(3/73)
وأما المحمود : فهو التهويل أو الوعد والوعيد، دفعا لفعل خير، أو ترك شر، أو ترقبا وانتظاراً للحظة مناسبة، وفرصة مواتية، ويدلنا على حسن هذا النوع من التسويف وروده في كلام الحق - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم، إذ يقول سبحانه : {ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا}(النساء: 30)، {إن الذين كفروا يآياتنا سوف نُصليهم نارا} (النساء: 56)، {وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} (النساء)، {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة: 54)، {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون} (الأعراف)، {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} (التكاثر: 3-4) كما يدلنا على حسن هذا النوع من التسويف، وروده على لسان بعض الأنبياء كما حكى القرآن الكريم:
فقد طلب أولاد يعقوب من أبيهم أن يعفو عنهم وأن يستغفر لهم ربهم، بعد أن أدركوا خطأهم الذي وقعوا فيه بشأن يوسف عليه السلام قائلين: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} (يوسف:97)، فرد عليهم قائلا: {سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} ( يوسف: 98).
ونصح نوح قومه، فلما أعرضوا وكذبوا، توعدهم قائلا: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} (هود: 39)، ومثل ذلك صنع شعيب عليه السلام، فقال: {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} ( هود: 93).
وأما السمات أو المظاهر الدالة على التسويف فكثيرة نذكر منها:
1 - البقاء على المعصية مع الوعد بالتوبة بأن يقول العاصي: سوف أتوب، أو سأتوب، أو غدا أتوب، وهكذا.
2 - تأجيل عمل اليوم إلى الغد بغير مبرر، ولا مقتضى، بأن يقول المسلم: غدا أفعل كذا، أو أنفذ كذا مما يلزم أن يكون فعله أو تنفيذه توا، وحالا، ولا يفعل، ولا ينفذ. ومثاله من الواقع أن يكلف محاضر أو مربّ بالتحضير لموضوع ما قبله بوقت كاف، ويظل يؤخره ويؤخره حتى يدخل عليه الوقت، وما صنع شيئا، أو صنع شيئا ولكنه لا يذكر... وهكذا.
ثالثا: أسباب التسويف:(3/74)
والأسباب أو البواعث التي توقع في التسويف كثيرة نذكر منها:
1 - الأسرة التي تبنى حياتها على التسويف أو تدليل الأولاد:
إذ قد ينشأ المسلم في أسرة بنت حياتها على التسويف، فالأب، والأم، والأجداد، والإخوة الكبار غارقون من مفرق رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم في الأخطاء، ويعدون بالتغيير ولا تغيير، ولهم أماني طويلة، وعريضة، ولا تنفذ ولا تطبق، وقد تبغي الأسرة حياتها على تدليل الأولاد القائم على الحنو والشفقة المجاوزين للحد، فيندفع الابن إلى أداء المعروف محاكاة للكبار، فتمنعه الأسرة من أداء هذا المعروف بحجة صغره وعدم إطاقته، وتعده بإفساح المجال له في المستقبل، ويتكرر ذلك في كل مرة، حتى يرث هذا الابن خلق التسويف.
ولعلنا في ضوء هذا السبب نفهم السر في تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة الوفاء للأولاد إذا تم وعدهم بشيء، وإلا كان ذلك تعويدا للأولاد على الكذب، نظرا لأنه تسويف والتسويف أوسع أبواب الكذب، إذ يقول عبد الله بن عامر: دعتني أمي يوما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أردت أن تعطيه؟"، قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو لم تعطيه شيئا، كتبت عليك كذبة " . (133)
كما نفهم في ضوء هذا السبب أيضا حزم الأنصار مع أولادهم دفعاً لهم إلى المبادرة بفعل المعروف، وقطع الطريق على التسويف وخصوصا في تعويدهم على الصوم منذ نعومة أظفارهم، إذ تقول الربيع بنت معوذ: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم"، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن ، (134) فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار ، (135) وفي رواية: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم . (136)(3/75)
وعن رزينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر مرضعاته في عاشوراء، ورضعاء فاطمة، فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم ألا يرضعن إلى الليل . (137)
2 - صحبة الكسالى والمسوفين:
وقد تكون صحبة الكسالى، والمسوفين السبب في التسويف، ولا سيما إذا كانت هذه الصحبة قبل إيجاد الحصانة التي تحول دون انتقال عدوى الكسل والتسويف.
ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على الصحبة الطيبة، ونبذ ما عداها، إذ جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" . (138)
3 - ضعف ا لإرادة أو الكسل والتراخي مع النفس:
وقد يكون ضعف ا لإرادة، وفتور العزيمة، ونزول الهمة، أو الكسل والتراخي مع النفس سببا من الأسباب التي تؤدي إلى التسويف، فمثلا بينما الواجب ينادي المسلم ويلح عليه إذ يدعوه ضعف الإرادة وفتور العزيمة، ونزول الهمة، أو الكسل والتراخي مع النفس إلى القعود عن أداء هذا الواجب بحجة أن في الغد فسحة أو فرصة.
ولعلنا في ضوء هذا السبب نفهم استعاذته صلى الله عليه وسلم الدائمة من العجز والكسل، إذ كان كثيراً ما يدعو في الصباح والمساء بهذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن، والهرم..." ، (139) وفي رواية ثانية: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال " ، (140) وفي رواية ثالثة: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " . (141)
4 - أمن مكر الله :(3/76)
وقد يكون أمن مكر الله سببا من الأسباب التي توقع في التسويف، إذ الإنسان مجبول على المبادرة والإسراع بأداء ما يطلب منه عندما يخاف، وعلى التواني والتفريط إذا أمن، ولقد أشار رب العزة إلى هذا السبب عند حديثه عن الكفار ومضيهم في كفرهم وباطلهم، فقال سبحانه: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم باسئنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} (الأعراف: 97-99)، {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير} (الملك: 16-17)، {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون}، (يوسف: 107)، {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم في تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} (الإسراء).
5 - طول الأمل مع نسيان الموت والدار الآخرة:
وقد يكون طول الأمل مع نسيان الموت والدار الآخرة من الأسباب التي تؤدي إلى التسويف.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في تصوير هذا السبب: "اعلم أن من له أخوان غائبان، وينتظر قدوم أحدهما في غد، وينتظر الآخر بعد شهر أو سنة، فلا يستعد للذي يقدم إلى شهر أو سنة، وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غدا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة، اشتغل بالمدة، ونسي ما وراء المدة، ثم يصبح كل يوم، وهو منتظر للسنة بكمالها، لا ينقص منها اليوم الذي مضى وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا، فإنه أبدا يرى لنفسه متسعا تلك السنة، فيؤخر العمل" . (142)(3/77)
ويقول الحافظ ابن الجوزي في تصوير نفس السبب: "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدا، ولا يغتر بالشباب، والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا:
يعمر واحد، فيغر قوما وينسى من يموت من الشباب
ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلا، وإنما يقدم المعاصي، ويؤخر التوبة لطول الأمل، وتبادر الشهوات، وتنسى ا لإنابة لطول ا لأمل" . (143)
ولعل هذا السبب يفسر لنا تحذيره صلى الله عليه وسلم من طول الأمل، والركون إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة، فقد خط صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض (144) فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا " . (145)
6 - الاستهانة بالأمر مع اعتماد المرء على بعض ما وهبه الله من حول وقوة:
وقد تكون الاستهانة بالأمر مع اعتماد المرء على بعض ما وهبه الله من حول وقوة هي السبب في التسويف.(3/78)
ولعل خير ما يشرح هذا السبب ويجليه، قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وتخلفه عن غزوة تبوك، إذ يحكي عن نفسه، فيقول: "... كان من خبري أني لم أكن قط أقوى، ولا أيسر حين تخلفت منه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومغازا، وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار، والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم، أو يومين، ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك " . (146)
7 - التعويل على عفو الله ومغفرته مع نسيان شدة أخذه وعقابه :
وقد يكون التعويل على عفو الله، ومغفرته، مع نسيان شدة أخذه سبحانه، وعقابه، هو السبب في الوقوع في آفة التسويف، وقد سبق الحافظ ابن الجوزي إلى هذا السبب، فقال - بعد أن ذكر سببين للتسويف:(3/79)
(... والثالث: رجاء الرحمة، فيرى العاصي يقول: رب رحيم وينسى أنه شديد العقاب، ولو علم أن رحمته ليست رقة، إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفور، ولا آلم طفلا، وعقابه غير مأمون، فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة قراريط) . (147)
8 - عدم المتابعة والمحاسبة من الآخرين:
وقد يكون السبب في التسويف إنما هو عدم المتابعة والمحاسبة الآخرين، ذلك أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، ومقتضى هذه الولاية ينصح بعضهم بعضاً، وأن يتابع بعضهم بعضا بل أن يحاسب بعضهم بعضا وهذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المشار إليهما في قوله سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ( التوبة: 71) وعندما تغيب هذه الولاية من حياة المسلمين، فلا تكون متابعة، ولا محاسبة، يتجرأ الناس على الإهمال ويقع التسويف .
9 - الانغماس في المعاصي والسيئات:
وقد يكون الانغماس في المعاصي والسيئات إنما هو السبب في التسويف، ذلك أن كثرة المعاصي والسيئات، تقسي القلب، وتكون من شأن هذه المعاصي، وتلك السيئات، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى الإهمال، والوقوع في التسويف.
ولقد ألمح إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "... وإن الفاجر يرى ذنوبه، كذباب مر على أنفه فقال به هكذا" . (148)
10 - عدم تقدير العواقب والآثار المترتبة على التسويف:
وأخيرا، قد يكون عدم تقدير العواقب والآثار المترتبة على التسويف إنما هو السبب في الوقوع في هذا التسويف، ذلك أن الإنسان جبول على تأخير الشيء، والتواني فيه، إذا لم يقدر عواقبه الوخيمة، وآثاره السيئة، ولعل ذلك من بين الأسباب التي أدت إلى أن تكون أكثر أحكام ديننا الحنيف معللة مقرونة بحكمة التشريع.
رابعا: آثار التسويف:
وللتسويف آثار ضارة، وعواقب وخيمة، سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب:
أ - على العاملين:(3/80)
أما آثار التسويف على العاملين فكثيرة، نذكر منها:
1 - الحسرة والندم في وقت لا تنفع فيه الحسرة والندم:
ذلك أن المسوف يقضي دهره متعديا على حدود الله، مفرطاً في جنبه حتى إذا جاءه الموت، وكشف عنه الغطاء، وعاين الأمور على حقيقتهما يتحسر ويندم، ويتمنى التأخير، أو الرجعة إلى الدنيا ليتدارك أمره، وأنى له ذلك، وقد ضاعت منه الفرصة وفات الأوان، يقول تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} ( المؤمنون: 99-100)، {وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فاصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون} ( المنافقون: 10-11)، {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}( الأنعام: 27).
2 - الحرمان من الأجر والثواب:
وهو كذلك بتعديه على حدود الله، وتفريطه في جنبه سبحانه حرم نفسه من كثير من الأجر والثواب، وما قيمة الإنسان غدا إذا لقي ربه بغير أجر ولا مثوبة، إن قيمته إذن أن يكون من أصحاب الجحيم، وتلك هي الخسارة الحقيقية، وصدق الله الذي يقول: {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} (الزمر: 15)، {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} (الشورى: 45).
3 - تراكم الذنوب، وصعوبة التوبة :
والتسويف يؤدي إلى تراكم الذنوب، وإذا تراكمت الذنوب ثقلت على المرء، وحار حيرة شديدة، بأيها يبدأ، وبأيها ينتهي، الأمر الذي يؤول به إلى استثقال التوبة وصعوبتها وواقع العصاة والمذنبين في كل عصر ومصر خير شاهد على ذلك .
4 - تراكم ا لأعمال، وصعوبة الأداء :(3/81)
وقد يؤدي التسويف إلى تراكم الأعمال، وتزاحم الأعباء، فلا يدري المرء أيها يقدم، وأيها يؤخر، ومن ثم يتشتت فكره ويضيع سعيه، ويصبح أمره فرطا، ولا يمكن أن ينجز واجباً من الواجبات .
5 - ضياع الهيبة، وعدم القدرة على التأثير في الناس:
وهو بتعديه على حدود الله، وتفريطه في جنبه سبحانه وعدم قيامه بواجبه نحو ربه، ونحو نفسه، وذويه، ونحو أمته، تضيع هيبته من صدور الناس، ولا يتمكن من إتقان أي عمل من الأعمال، الأمر الذي يفقده القدرة على التأثير في الناس، وإذا ضاعت هيبة المسلم من صدور الناس فقد القدرة على التأثير فيهم، واستوى معهم، وكيف يستوي معهم، والمفروض أنه إمامهم، ورائدهم كما قال سبحانه: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} ( البقرة :143)، {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} ( الحج : 78).
ب - على العمل الإسلامي :
وأما آثار التسويف على العمل الإسلامي فكثيرة أيضا، ونذكر منها :
1 - تطويق العمل الإسلامي :
الأمر الذي يؤدي إلى طول الطريق وكثرة التكاليف، ذلك أن التسويف ينتهي بأصحابه إلى ضياع الهيبة، وفقدان عنصر التأثير في الناس كما قدمنا، الأمر الذي يطمع العدو، ويقلل من الأنصار، وبذلك يسهل تطويق هذا العمل، وتكثر التكاليف وتطول الطريق .
2 - الحرمان من العون والمدد الإلهي :
وذلك أن من سنته سبحانه في خلقه أنه لا يمنحهم عونه ولا مدده وهم مسوفون، متعدون على حدود الله، مفرطون في جنبه سبحانه، وإذا حرم العمل الإسلامي عونه ومدده سبحانه، فعلى هذا العمل السلام، ولن يصل إلى مبتغاه، وإن تعلق بأسباب السماء .
خامسا : علاج التسويف:
وما دمنا قد وقفنا على ماهية ومظاهر وأسباب وآثار التسويف، فإنه يسهل علينا الآن أن نسعى نحو العلاج، والوقاية، بل أن نصف هذا العلاج وهذه الوقاية، وذلك على النحو التالي:(3/82)
1 - أخذ النفس بالحزم، وقوة العزيمة، ولأن تتعب النفس اليوم لتستريح غدا، خير لها من أن تستريح اليوم، وتتعب غدا، وأيضا لأن مكر الله غير مأمون، والموت يأتي بغتة، وإذا لم يأت بغتة فإنه يسبقه المرض، ثم يكون الموت، وهو سبحانه يقول: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفر يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} (الزمر: 54-59).
2 - تذكير النفس دوماً بأن التسويف عجز وضعف، وخور، وليس من سمات المسلم العجز، والضعف، والخور، بل إن الإنسان إذا كان معتزا بإنسانيته فإنه يأبى عليها هذه الأوصاف، وإن مثل هذا التذكير إن كان صادقا، وانفعلت به النفس، فإنه سيقودها حتما إلى التشمير، والمسارعة بترك المحظور والمكروه، وفعل المأمور والمحبوب، ورضي الله عن سيدنا عمر حين قال : " من القوة ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد " . (149)
3 - دوام الدعاء والضراعة إلى الله - عز وجل - بالتحرر من العجز والكسل على نحو ما قدمنا في دعاء وضراعة النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء، فإن الدعاء هو العبادة، وهو سبحانه يقول: {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ( غافر: 60)، {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة: 186).
4 - أن تأخذ البيوت نفسها بالحزم والعزم حتى لا تفسد الناشئة من الأولاد، وعلى الأولاد من جانب آخر أن يشبوا على تعلم وتعاليم الكتاب والسنة، وأن يزنوا كل تصرف بهما، فما وافقهما فهو الحق، وعليهم اتباعه، وما خالفهما فهو الباطل، وعليهم اجتنابه.(3/83)
5 - الانسلاخ من صحبة الكسالى، والمسوفين، والارتماء بين يدي ذوي الحزم، والعزم، والقوة، فإن ذلك من شأنه أن يحمل على مجاهدة النفس وأخذها بالحزم، والعزم، والقوة.
6 - دوام معايشة الكتاب والسنة، فإن هذه المعايشة تكون سببا في معرفة الله حق المعرفة، وإذا عرف المسلم ربه حق المعرفة قضى عمره، وكأنما يمشي على الجمر، بحيث لا تمر عليه لحظة إلا وهو فيها مؤدي ما عليه، مستعد للقاء الله -عز وجل.
7 - الاحتراز من المعاصي والسيئات بألا يقع فيها المسلم أصلا، وإن وقع بادر بالتوبة، فإن أكثر التسويف مبعثه الانغماس في المعاصي والسيئات على النحو الذي ذكرنا في الأسباب، بل ويشفع ذلك بمزيد من الطاعات: فرائض، ونوافل حتى تلين الجلود، والجوارح، وترق القلوب بذكر الله، فتنشط النفس من عقالها، وتتخلص من التسويف.
8 - تذكر الموت والدار الآخرة على الدوام، فان مثل هذا التذكر مما يقلل عمر الدنيا في نظر المسلم، ويهون من شأن زخرفها، وزهرتها، وزينتها، ويحمله على المبادرة بالتوبة، وأداء الحقوق لذويها، وإن ثقل الحمل، وعظمت التكاليف .
9 - معايشة السلف في نظرتهم إلى التسويف، ونفورهم منه نفورا شديدا قولا، وفعلا، فكرا، وسلوكا، وسبق قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : (من القوة ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد) . (150)
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك الخليفة الذي كان قبله، وانتهى من الخطبة التي افتتح بها حكمه بعد أن بايعه الناس، ينزل عن المنبر ويتجه إلى بيته، ويأوي إلى حجرته يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد هذا الجهد، وذلك العناء اللذين كان فيهما منذ وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك.(3/84)
وما يكاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى يقبل عليه ولده عبد الملك - وكان يومئذ يتجه نحو السابعة عشرة من عمره - ويقول له: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بني، أريد أن أغفو قليلا، فلم تبق في جسدي طاقة، فقال: أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان، وإني إذا حان الظهر صليت في الناس، ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فقال: ومن لك يا أمير المؤمنين بان تعيش إلى الظهر؟ فألهبت هذه الكلمة عزيمة عمر، وأطارت النوم من عينيه وبعثت القوة والعزم في جسده المتعب، وقال: ادن مني أي بني، فدنا منه، فضمه إليه، وقبل ما بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي، من يعينني على ديني، ثم قام، وأمر أن ينادي في الناس: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها . (151)
وقال لقمان لابنه: يا بني، لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف، كان بين خطرين عظيمين، أحدهما : أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو، الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو . (152)
وعن أبي إسحاق قال : قيل لرجل من عبد القيس في مرضه: أوصنا قال: أنذرتكم سوف . (153)
وأوصى ثمامة بن بجاد السلمي قومه، فقال: أي قوم، أنذرتكم سوف أعمل، سوف أصلي، سوف أصوم . (154)
ويقول الحسن البصري رضي الله عنه إياك والتسويف، فانك بيومك، ولست بغدك، قال: فإن يكن غد لك، فكس فيه - أي اعمل عملا تكون به كيسا- كما كست في اليوم، وإلا يكن الغد لك، لم تندم على ما فرطت في اليوم . (155)
وقال المنذر: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك، بادري قبل أن يأتيك، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر. حتى كرر ذلك ستين مرة أسمعه، ولا يراني . (156)(3/85)
واجتهد سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته، اجتهادا شديدا، فقيل له: لو أمسكت، أو رفقت بنفسك بعض الرفق، فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك، قال: فلم يزل حتى مات . (157)
10 - أن تقوم الأمة كلها على المستوى القيادي، وغير القيادي، في متابعة ومحاسبة المسوفين، فإن هذه المتابعة، وتلك المحاسبة، تقطع الطريق على النفس، وتحول بينها وبين التسويف، وهذا من حق الأمة على بعضها البعض وصدق الله العظيم: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله}( التوبة:71).
11 - عدم الاستهانة بأي أمر من الأمور، وإن كان هذا الأمر بسيطا، واليقين بأن الأمر كله لله، والفرصة التي في يدك الآن قد تضيع منك غدا .
12 - التذكير الدائب بالعواقب والآثار المترتبة على التسويف، فان هذا التذكير من شأنه أن يشحذ الهمم، والعزائم، وأن يقضي على التسويف عند من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
الآفة العشرون
التشاؤم
والآفة العشرون التي أصابت، وتصيب نفرا من العاملين، بل ومن غير العاملين ولم يسلم منها إلا من حباه الله - عز وجل - إيمانا صادقا، ويقينا تاما، إنما هي: (التشاؤم).
وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتلي بها، ويتوقاها من سلمه الله - تبارك وتعالى -منها، فإننا سنعرض لها من الجوانب التالية:
أولا: تعريف التشاؤم:
لغة
يطلق التشاؤم في اللغة على معان عدة، وأهمها:(3/86)
أ - التطير أو ما يقابل التيامن، يقال: تشاءم منه أي تطير، وتشاءم به أي عدّه شؤما لا يمن فيه ولا خير، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا أمرا من الأمور سفرا، أو زواجا، أو سيرا نفروا الطير، وزجروه، فإن مال ناحية اليمين تفاءلوا، ومضوا لتنفيذ ما يريدون، وإن مال ناحية الشمال تشاءموا، وقعدوا عن إتمام وبلوغ ما قصدوه، وإن لم تمل لا إلى هذه، ولا إلى تلك، أعادوا تنفير الطير وزجره، وسمي هذا كله تطيرا، كما سمي القعود عن أداء الواجب نتيجة ميل الطير ناحية الشمال تطيرا أي تشاؤما، وكانوا في أحايين أخرى يبنون أمور حياتهم على مجرد حركة الطير، أو الوحش، فإن كانوا سائرين في طريقهم لإمضاء أمر ما، ورأوا الخير أو الوحش فجأة، أو كان الطير أو الوحش واقفا، وحين رآهم ولى وأدبر، تطيروا، أي تشاءموا ورجعوا.
ب - توهم أو توقع الشر، يقال: تشاءم من الأمر أو من فلان أي توهم، وتوقع الشر من ناحيته، ومنه قيل لأهل النار: أصحاب المشأمة، للعذاب أو الشر الذي ينزل بهم، بسبب كفرهم، وسوء أعمالهم في الحياة الدنيا، قال تعالى: {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة} (البلد: 19-20).
ومنه ما يحكى عن الأعاجم أنهم كانوا يتشاءمون عند الخروج بالغداة برؤية الصبي، يذهب به إلى المعلم، ويتيمنون إذا خرجوا للحاجة ورأوا صبيا يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء، وعلى ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة، ويتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع حمله، ويحكي، والدابة التي حطّ عنها حملها.
ج - إساءة الظن بكل شيء في الوجود خالقا أو مخلوقا، عاقلا أو غير عاقل . (158)
وعندي أنه لا تعارض بين هذه المعاني اللغوية جميعا، إذ التطير أو توقع الشر، والمكروه، ما هو إلا أثر من آثار سوء الظن بكل شيء في الحياة .
اصطلاحا:(3/87)
أما تعريف التشاؤم في المصطلح الشرعي والدعوي فيتلخص في:
التطير أو توهم حصول الشر والمكروه بصورة تؤدي إلى القعود عن أداء الواجب، أو على الأقل الكسل والتواني، والتراخي نتيجة إساءة الظن بكل شيء في هذا الوجود، أو في هذه الحياة.
ثانيا: صور أو مظاهر التشاؤم مع بيان وضعه في ميزان الإسلام:
وللتشاؤم بهذا المعنى الذي قدمنا صور كثيرة، ومظاهر عدة، تدل عليه وبها يعرف، ونذكر منها:
1 - عدم الاستجابة للدعوة التي تنادي بالمشاركة في العمل الجماعي من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض من جديد، على أساس أن الإسلام عقيدة، وعبادة، وخلق، وتشريع، أو هو دين ودولة، يشمل الحياتين جميعا، الدنيا والآخرة، بدعوى أن عدونا يفوقنا عددا، وعدة، وهو الآن الممسك بخناقنا، والموجه للحياة، وأين نحن إذن من هذا العدو؟ لا مناص لنا إلا القعود، والاستسلام حتى الموت، أو أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
2 - المشاركة في العمل الجماعي القائم على تصور أنه لا دخل للإسلام في السياسة، نظرا لما يجره هذا التصور - وهو أن الإسلام دين ودولة - من محن، وشدائد، وابتلاءات شهد بها واقع الأمة المسلمة منذ سقوط الخلافة الإسلامية إلى اليوم.
3 - المشاركة في العمل الجماعي للإسلام، على أساس أن هذا الإسلام دين ودولة، ولكن بهمّة نازلة، وعزيمة ضعيفة، وإرادة فاترة، يأسا، وقنوطا من أننا مهما عملنا، فلا يمكن أبدا أن نلحق بعدونا، فضلا عن أن نسبقه أو أن نفوقه.(3/88)
4 - التثبيط من همم وعزائم العاملين لدين الله بصدق وجدية بدعوى الإشفاق والرحمة بهذا الصنف من الناس، وأنه لا داعي أن يتعب هؤلاء أنفسهم، وأن يجروا عليها من المحن والشدائد ما لا يعلمه إلا الله، ولا سيما وقد صار الأمر بأيدي أعدائهم، وأولئك اليوم هم حكام العالم، وساسته في النظام العالمي الجديد، حسبهم أن يكونوا - هم، وأهلوهم، وأولادهم وذووهم - مسلمين في أنفسهم، ولا شأن لهم بالآخرين، إذ الحق - تبارك وتعالى - يقول: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105).
5 - النظر لكل ما هو أجنبي من أشخاص، وأفكار، وإنتاج، بعين الإكبار، والإجلال، والاحترام، والتوقير، أما ما هو وطني من أشخاص، وأفكار، وإنتاج، فينظر إليه بعين الاحتقار، والسخرية، والازدراء، والاستهزاء.
6 - اليأس من رحمة الله، وعفوه، بسبب كثرة المعاصي والسيئات وتصور أن الله شديد العقاب فقط، وأنه لن يغفر، ولن يعفو، ولن يتجاوز بحال من الأحوال.
7 - تصديق دعايات أعداء الله وأعداء الأمة الإسلامية القائمة على الدجل، وقلب الحقائق، والنيل من الإسلام، والمسلمين والرفع من شأن ا الكفر، والكافرين، بحيث يسلم ذلك في نهاية المطاف إلى القطيعة للمسلمين، والموالاة للكافرين.
8 - الخوف من بعض الحوادث اليومية العادية، والتي هي جزء من قضاء الله وقدره، ككسر بعض الأواني، أو انطفاء المصابيح، أو صراخ وبكاء بعض الأولاد بصورة مستمرة، أو وقوع مكروه عند ولوج بعض الأماكن المباركة كالمساجد مثلا، ثم القعود عن أداء بعض الواجبات بسبب ذلك.
9 - الخوف من لقاء المعروفين بالحسد، أو بالسحر والكهانة، وعدم اتباع الحكمة في دعوة هؤلاء، ومداواتهم كي يقلعوا عما هم فيه من شر، وباطل.
هذه هي أهم صور أو مظاهر التشاؤم.
أما عن وضع هذا التشاؤم في ميزان الإسلام، فيتلخص من خلال النظر في النصوص الشرعية:(3/89)
أن التشاؤم أو التطير إن كان مجرد توهم أو توقع حصول الشر نتيجة حوادث معينة، أثبتت التجارب، والممارسة صحتها، أو صدقها، مع اعتقاد أن الأمر كله لله، وليس لهذه الحوادث أدنى أثر على النفس إلا بإذن الله، بل لم تصرفه هذه الحوادث عن المضي في طريقه وتنفيذ مراده، إن كان الأمر كذلك، فلا شيء فيه، لأن مثل هذا التوهم أو التوقع شيء فطري في النفس الإنسانية وما من إنسان إلا ويخاف الشر، وينقبض منه، ويفرح بالخير ويهش، ويبش له، وبهذا المعنى جاءت النصوص، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد، الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، و إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" ، (159) "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا " ، (160) "لن ينال الدرجات العلا من تكهن أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا" ، (161) "الطيرة شرك - وما منا إلا تطير-ولكن الله يذهبه بالتوكل" . (162)
وقد علق الحافظ ابن حجر على الحديث الأخير بقوله: "وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل "إشارة إلى أن من وقع له ذلك، فسلم الله، ولم يعبأ بالطيرة، أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك" . (163)
أما إن كان توهم أو توقع الشر لحوادث معينة دافعا لصاحبه أن يقعد عن أداء دوره، والقيام بواجبه، اعتقادا منه أن لهذه الحوادث أثرا فيما يصيبه دون أن يرد الأمر كله لله، فذلك شرك، وهو حرام مذموم، يوجب لصاحبه عدم المغفرة، ومن ثم الخلود في النار إذ يقول تبارك وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 116).
وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، الشؤم في ثلاث، في المرأة، والدار، والدابة" ، (164)(3/90)
"لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر" ، (165) "لا طيرة، وخيرها الفأل"، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" ، (166) "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح : الكلمة الحسنة " ، (167) "العين حق، وأصدق الطيرة الفأل" . (168)
وذكرت الطيرة عنده صلى الله عليه وسلم فقال: "خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" . (169)
وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، ويكره الطيرة . (170)
فهذه النصوص وغيرها قاطعة الدلالة في حرمة الطيرة والتشاؤم؛ لأن ذلك كله شرك، يجر على صاحبه خسارة الدنيا والآخرة.
غاية ما في الأمر أنه قد يقال: كيف يكون هذا شركاً، وكيف يلحقه الذم، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم نوعا منه، وهو التفاؤل، حيث قال: "وخيرها الفأل" أو "ويعجبني الفأل الصالح"؟. والجواب: أن هذا ليس إباحة للطيرة، وإنما هو من باب قول العرب: "الصيف أحر من الشتاء" يعني: الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها، وباب الفأل هو التيامن، كما أن باب الطيرة هو التشاؤم . (171)
ويقوي ذلك الأحاديث الكثيرة الدالة على حرمة التطير وقد مضت، والأحاديث الدالة على إباحة التفاؤل ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: "يا نجيح، يا راشد" ، (172) وأنه صلى الله عليه وسلمكان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها... الحديث . (173)
يقول الإمام الحليمي صاحب المنهاج في شعب الإيمان: "وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال" . (174)(3/91)
ويقول الإمام الطيبي: "معنى الترخص في الفأل، والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا، فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك، وإن رآه بغير ذلك فلا يقبله، بل يمضي لسبيله، فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم" . (175)
ثالثا: أسباب التشاؤم:
وللتشاؤم أسباب كثيرة تؤدي إليه، وبواعث عدة توقع فيه، وأهم تلك ا لأسباب، وهذه البواعث:
1 - عدم معرفة الله حق المعرفة:
ذلك أن المرء إذا لم يعرف ربه حق المعرفة من أنه - سبحانه - موصوف بالكمال، والجلال: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} ( الرحمن: 78)، فهو الخالق، المالك، المدبر، الناصر لأهله، وأوليائه، الرحيم بهم، المنتقم من أعدائه، المذل لكبريائهم، الذي يمهل ولا يهمل، إلى غير ذلك من الصفات، إذا لم يعرف المرء هذا فإنه يسيء ظنه بربه، ولا يثق به، ويتصور أنه مأخوذ بذنبه لا محالة، فلا عفو ولا صفح، وأنه لن يؤيد، ولن ينصر، بل ربما انقلب هذا الظن، وما يجره من عدم الثقة بالله إلى أن يعتقد قدره المخلوقات وارتباط الحوادث اليومية بالغيب، فيتولى هؤلاء المخلوقين من دون الله، ويكون التطير والتشاؤم.
ومن أجل حماية المسلم من مثل هذا الظن السيء ألزم الله المسلم التأمل المستمر في النفس، وفي الكون، وجعل هذا التأمل طريقا لمعرفة الله حق المعرفة، وتمام الثقة واليقين، فقال - سبحانه: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 20-21 )، {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت: 53 )، {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها} (النمل: 93).(3/92)
كما تولى القرآن التعريف بالله بصورة تزرع الثقة واليقين به سبحانه وتعالى، وكان ذلك منذ بدأت آيات الوحي تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ختم هذا الوحي، يقول سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق)، {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين...}، (سورة الفاتحة)، {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} (الملك:1- 4)، إلى غير ذلك من الآيات.
وتولى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، فقال في بيان قدرته سبحانه: "بينما رجل يسوق بقرة، إذ ركبها، فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث" فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم، فقال: "إني أومن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر وما هما ثمَّ، وبينما رجل في غنمه، إذ عدا الذئب، فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري"، فقال الناس: سبحان الله: ذئب يتكلم، قال: "فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر: وما هما ثم" . (176)
وقال في بيان إمهاله للظالمين، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته" . (177)
2 - عدم معرفة النفس معرفة حقيقية:(3/93)
وذلك أن المرء إذا لم يعرف نفسه معرفة حقيقة، وأن الله زود هذه النفس بطاقات وإمكانات هائلة تؤهلها لمهمة العبودية، والاستخلاف في الأرض، كما نطق بذلك الحديث الشريف إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله" . (178)
وأنه ما على هذا المرء إلا أن يجاهد نفسه، وأهواءه، ونزعاته، إذا لم يعرف المرء نفسه بهذه الصورة، فإنه ينهزم من داخله، ويحتقر هذه النفس، ولا سيما في هذه الآونة التي نعيشها اليوم والتي أمسك فيها العدو بخناقنا، وأكثر علينا من الدعايات والأكاذيب أنا ضعفاء، وأنا لم نعد نحسن شيئا، وحين ينهزم المرء من داخله، ويحتقر نفسه يكون التشاؤم من أقل شيء، ومن أدنى حادث.
ولعل هذا هو السر في تحذيره صلى الله عليه وسلممن الانهزام النفسي، والاستسلام، والضعف، والخور، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز..." الحديث ، (179) "لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله - عز وجل - له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى" . (180)
3 - عدم معرفة الكون معرفة حقيقية :(3/94)
وذلك أن المرء إذا لم يعرف حقيقة هذا الكون الذي يعيش فيه وأنه من خلق الله، وتدبيره، وأنه سخره لنا، وضمن استمرار هذا التسخير بالطاعة، وانقطاعه بالمعصية، فقال - سبحانه : {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} ( الرعد: 2- 4)، {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار} (إبراهيم: 32- 33)، {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الجاثية: 96)، {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف: 96).
وإن في واقع البشرية نماذج عملية تشهد بهذه الحقيقة، وتؤكد هذه السنة، فهذا داود عليه السلام يلين الله له الحديد بطاعته لله : {ولقد آتينا داود منّا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألناله الحديد أن اعمل سابغات وقدِّر في السَّرْد} (سبأ: 10).(3/95)
وهذا ولده سليمان يسخر الله له الريح، والطير، والوحش، والإنس، والجن بطاعته لله كذلك: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقذور راسيات} (سبأ: 12).
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم ينصره الله - عز وجل - ومن معه في غزوة الأحزاب، بالريح، والملائكة، فيقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بها تعملون بصيرا} (الأحزاب: 9)، بينما يسلط هذه الريح على عاد قوم هود عندما طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وقالوا: من أشد منا قوة، فقال: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت علية إلا جعلته كالرميم} (الذاريا ت:41-42 ) ويرسل الحجارة على قوم لوط عندما أصروا على إتيان الرجال، وقطع السجيل، وفعل المنكرات: {فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} ( الحجر: 73- 47).
ويغرق بالماء فرعون وقومه حين طغى، وبغى، وقال: أنا ربكم الأعلى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} (الزخر ف: 55 - 56).
إذا لم يعرف المرء حقيقة الكون، وكيفية التعامل معه على النحو الذي شرحنا، فإنه يسوء ظنه بكل شيء فيه، ويعاديه، ويكون التطير، والتشاؤم .
4 - عدم معرفة العدو على حقيقته :
وذلك أن المرء إذا لم يعرف عدوه على حقيقته، وأن عداوته قديمة منذ أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، وأن هذا العدو لا يفتأ يكيد بكل ما أوتي من أساليب ووسائل: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} ( الأعراف: 16-17).(3/96)
وأنه لا وزن لهذا الكيد ما دامت الصلة قوية بالله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ج ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق: 2- 3)، {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} ( الحجر: 42)، {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} (الأنفال: 29)، {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (فصلت: 36)، {إنّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 175).
إذا لم يعرف المرء حقيقة عدوه على الصورة التي شرحنا، فإنه يهابه ويخافه، ويستجيب لدعاياته، وأكاذيبه، ويكون التطير والتشاؤم من أدنى شيء، ومن أي حادث من الحوادث .
5 - عدم فقه ماهية الجهاد والنصر فقها حقيقيا :
وذلك أن نفرا من المسلمين قد فقهوا الجهاد بمعناه العرفي وهو ملاقاة العدو بالقوة، ممثلة في الضرب بالسيوف أو الطعن بالرماح، أو الرمي بالسهام، أو ما يقوم مقام ذلك مما ابتكرته مدنية العصر من استخدام البنادق، والمدافع، والدبابات، والمصفحات، والطائرات، والغواصات ونحوها.
وغاب عن بالهم معناه الاصطلاحي، وهو بذل أقصى ما في الطاقة والوسع من أجل تحرير الأرض كلها من أي سلطان مناوئ لسلطان الله - عز وجل - بحيث يشمل جهاد النفس، وجهاد العدو باليد، وباللسان، وبالقلب، وكذلك يتناول تجهيز الغزاة، والقيام بحاجة أهليهم، وأولادهم سواء رجعوا إليهم، أو لقوا ربهم شهداء، بل إنه يتناول ما هو أبعد من ذلك، من مثل دعوة الناس، وتعليمهم، وحضهم على الجهاد واستحضار نية الغزو، ما دامت هناك عين تطرف أو عرق ينبض، مع أخذ الأهبة والاستعداد لتحويل هذه النية إلى واقع حي متحرك في دنيا الناس، وطبيعة الظروف التي يعيشها المسلم هي التي تحدد نوع الجهاد الواجب والرباط المطلوب.(3/97)
وكذلك فقه هذا النفر النصر بمعناه العرفي وهو تحرير الدار والأرض من سيطرة الغاصب المحتل، وغاب عن بالهم معناه الاصطلاحي وهو التحرر من سيطرة الباطل، سواء أكان ذلك في النفس أم في واقع الحياة.
فقهوا الجهاد والنصر بالمعنى العرفي الضيق، لا بالمعنى الاصطلاحي الواسع، وحين لم يتحقق لهم شيء من هذين تطيروا وتشاءموا، وهكذا كل من لم يفقه الجهاد والنصر الفقه الصحيح يقع في التطير والتشاؤم.
6 - كثرة المحن والابتلاءات مع الغفلة عن أسرار هذه المحن وتلك الابتلاءات:
وذلك أن المسلم إذا نظر إلى واقعه، وواقع أمته اليوم، ورأى كثرة وتتابع المحن، والابتلاءات، في نفسه، وفي أهله، وولده، وذويه، وإخوانه، وماله، وغفل عن أسرار هذه المحن وتلك الابتلاءات، من أنها قد تكون لتقويم العوج: {ولقد صدقكم الله وعدة إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} (آل عمران: 152).
وقد تكون لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} ( آل عمران:141)، {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} (آل عمران: 179)، {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منهم والصابرين ونبلو أخباركم} ( محمد: 31).
وقد تكون تكفيرا للسيئات، ورفعا للدرجات بالنسبة للمؤمنين مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" ، (181)
"إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له منه" ، (182) وقد تكون لغير ذلك.
إذا رأى المسلم المحن والبلايا بهذه الكثرة، وغفل عن فقه أسرارها، أصيب بالانهزام النفسي وما يتبعه من التطير والتشاؤم.(3/98)
7 - العيش في وسط متشائم:
وقد يعيش المسلم في وسط مريض بالتشاؤم، ولا سيما إذا كان هذا العيش قبل النضج، وكمال التربية، وحينئذ يتأثر بهذا الوسط، ويصاب هو الآخر بمرض التشاؤم .
8 - الغفلة عن طبيعة الصراع بين الحق والباطل :
وقد يغيب عن بال المسلم طبيعة الصراع بين الحق والباطل، ويرى اليوم نشوة الباطل، وانتفاخه، وقوة صولجانه، وضعف الحق، وقلة أنصاره، وانزواءه، فيظنها سنة عامة مضت بها كل العصور، وستبقى كذلك إلى آخر الزمان، وحينئذ يبتلى بالتشاؤم.
ولعل هذا هو السر في اشتمال القرآن الكريم على قصصن الماضين وما يحمله هذا القصص من عظات وعبر، بل ودعوته إلى التدبر والتفكر في هذا القصص ونتائجه، إذ يقول سبحانه: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} ( يوسف: 111)، {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الأعراف: 176)، {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} ( آل عمران:137- 138).
9 - قياس واقع الأمة بحاضرها دون النظر إلى الماضي :(3/99)
وقد يقيس البعض واقع الأمة اليوم بما هي فيه من حاضر فيرى الشرور، والآثام، والفساد المنتشر هنا وهناك والحروب الضروس الموجهة للإسلام وأهله، وممن؟ من أبناء جلدتنا، والناطقين بلغتنا، والمسمين بأسمائنا يقيس هذا الواقع بالنظر إلى هذا الحاضر المرير، وينسى الماضي، والماضي القريب، وكيف تنصّلت الأمة من إسلامها أو هكذا أريد لها أن تتنصل من إسلامها ؛ حيث كانت الصحف والمجلات، وباقي وسائل الإعلام لا هم لها إلا الطعن في الإسلام ونشر موجة الإلحاد، والإباحية بين الناس، وعضدها وساعدها نفر من الكتاب تربيتهم وتوجيههم غربي، بل فرض ذلك فرضا بقوة السلطان وكانت الثمرة سقوط الخلافة الإسلامية، وتقسيم الدولة إلى دويلات وشيوع الموبقات من الشرك بالله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والعقوق، والقطيعة، ونبذ منهج الله والتحاكم إلى المناهج الوافدة من هنا وهناك، والمصنوعة بأيدي البشر، وبمثل هذا المقياس يمكن أن يكون الوقوع في غوائل التطير، والتشاؤم.
10 - عدم إدراك عواقب التشاؤم :
وأخيرا قد يكون عدم إدراك عواقب التشاؤم الدنيوية والأخروية الفردية والجماعية، هي السبب في الوقوع في آفة التشاؤم .
رابعا: آثارا لتشاؤم:
وللتشاؤم آثاره السلبية، وعواقبه المهلكة على العاملين، وعلى العمل ا لإسلامي، ودونك طرفا من هذه ا لآثار، وتلك العواقب:
أ - على العاملين :
فمن آثار التشاؤم على العاملين:
1 - التراخي مع النفس ربما إلى حد التطاول على حدود الله، والوقوع في حبائل الشرك والعياذ بالله :(3/100)
وقد رأينا أقواما ملء السمع والبصر في العمل الإسلامي، ثم سيطر عليهم التشاؤم، فإذا هم خارج دائرة العمل الإسلامي، وإذا الشياطين قد اغتالتهم، ففرطوا وأسرفوا على أنفسهم، وتطاولوا على حدود الله، وتحول ولاؤهم للشيطان وحزبه، بعد أن كان ولاؤهم لله ولرسوله، وللمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم راكعون، بل لقد حدثني من أثق به أن أحدهم كان يبكي الناس بحديثه، وتلاوته لآيات الله، وقد خاض محنة قاسية شديدة اضطرته إلى الهجرة، والعيش في ديار الغربة، ثم ابتلي بالدنيا بعدها، وسيطر عليه التشاؤم من أن العمل الإسلامي سيظل هكذا في مكانه، ولن يصل إلى ما يريد، وكان أن ترك، وأصبح ذيلا أو ذنبا، أو ظلا لملك من ملوك الأرض يرى مما تراه عينه وما يريد، فيفتي به، وضاع مع الضائعين .
2 - القلق والاضطراب النفسي:
وذلك لما قدمنا من أن التطير أو التشاؤم شرك، وقد آلى الله - عز وجل - على نفسه أن ينتزع من قلوب أولئك الأمن والأمان، والطمأنينة، كما يفهم من قوله سبحانه: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام: 82)، {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} ( الزمر: 29).
وكما جاء صريحا في قوله سبحانه: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}، (الجن: 17)، {ومن أغرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124).
3 - تعريض النفس لغضب الله وسخطه :
وذلك أن التشاؤم إذا وصل إلى حد القعود عن أداء الواجب فقد صار لونا من ألوان الشرك، يجر إلى كثير من المعاصي والسيئات، والمعاصي والسيئات توجب غضب الله، وسخطه، وماذا يجني من حل عليه غضب الله وسخطه، سوى الضياع والعذاب، وصدق الله: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} (طه: 81).
ب - على العمل الإسلامي :
وأما آثار التشاؤم على العمل الإسلامي فكثيرة، نذكر منها:
1 - التثبيط والتعطيل للآخرين:(3/101)
وذلك أن قعود المتشائم قد يؤدي إلى تثبيط همم الآخرين وقعودهم مثله، ولا سيما في صفوف الناشئة الذين ليست لديهم الحصانة، وحينئذ يتحمل المتشائم إثمين:
الأول: إثم تشاؤمه وقعوده عن أداء دوره، والقيام بواجبه.
والآخر: إثم تثبيط همم الآخرين، وتعطيلهم عن المضي في الطريق.
2 - الحرمان من العون والمدد الإلهي:
وذلك أن سنة الله - سبحانه - في خلقه مضت أن يمنح التأييد التام، والعطاء الكامل لمن وصلوا أنفسهم به، فحسنوا الظن ومضوا على الطريق مجاهدين، لا يلوون على شيء إلا على مغفرته ورضوانه، أما إن أساءوا، وتشاءموا، فإنه يقطع عنهم عونه، ومدده، وان كان فلا يكون كاملا، وربما يكون من باب: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}، (الأعراف: 182).
3 - طول الليل مع استمرار حياة الذل والهوان:
وذلك أن التشاؤم إذا انتهى إلى القعود عن أداء الواجب، والحرمان من العون والمدد الرباني، فإن أعداء الله يحكمون القبضة ويطول الليل، وتستمر حياة الذل والهوان، وهذا ما نعيشه نحن المسلمين اليوم، فالمتشائمون فينا قعدوا، وأقعدوا، وحرمنا بسببهم العون الكامل، والنصير من البشر، فطوق العدو أعناقنا، وطال الليل، وصرنا إلى ذلّ لا ذل بعده، وهوان لا يعدله هوان.
خامسا: علاج التشاؤم
ونستطيع بعد وقوفنا على ماهية وصور التشاؤم، وموقف الإسلام منه وكذلك بعد معرفتنا لأسبابه، وبواعثه، وآثاره المهلكة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، أن نرسم طريق العلاج والوقاية من هذه الآفة، وتتلخص في الخطوات التالية:
1 - التعريف بالله تعريفا يورث الثقة واليقين: وطريق ذلك التأمل في النفس وفي الكون: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 20-21).
وأيضا معايشة الكتاب والسنة، إذ ليس في الدنيا مصدر يعدلهما ثقة، وعصمة، وفيهما الدواء، والغذاء إن شاء الله.(3/102)
ثم النظر في سير أصحاب الدعوات، ومن تابعوهم على الطريق وكيف كان جهادهم، وصبرهم، وتحملهم، وتفاؤلهم حتى أعزهم الله بعزه، وأمدهم بجنده، ومكن لهم في الأرض كما قال سبحانه: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21)، {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 171-173).
2 - التعريف بالنفس تعريفا يدفعها إلى مقاومة التشاؤم، والانهزام انفسي، والثقة بأنها قادرة بعون الله ومدده على الكثير، شريطة أن تتجرد من حظوظها، وأن تتواضع لربها، وأن تستسلم له وتخضع، وتنقاد: "لا يحقرن أحدكم نفسه..." الحديث ، (183)
{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} (العنكبوت).
3 - التعريف بالكون تعريفا يبصرنا بكيفية الإفادة منه لخير البلاد والعباد، وذلك يلفت النظر إلى أن هذا الكون مسخر لنا، وقد خلق لمصلحتنا، وأن علينا أن نواظب على الطاعة والاستقامة لله - عز وجل - حتى يظل هذا الكون منسجماً معنا، غير متمرد علينا، دائم العطاء لنا، كما قال سبحانه: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} ( الجن: 16).
ولا شك أن انسجام الكون معنا، وعدم تمرده علينا، وديمومة عطائه لنا بسبب استقامتنا مع ربنا، وطاعتنا له - تبارك وتعالى - مما يفتح باب الأمل، والتفاؤل أمام المتشائمين، ويجعلهم يوقنون أن مزيدا من الطاعة والاستقامة تجعل كل ما في الكون معنا حربا ونارا على كل من يحادون الله ورسوله، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، كما شهد بذلك تاريخ البشرية ا لطويل.(3/103)
4 - التبصير بواقع العدو ولا سيما من الناحية النفسية، وذلك يلفت النظر إلى أن هذا العدو غير عفيف، ولا نزيه في حربه مع الحق، وأنه لا يتورع من استخدام أي أسلوب يحقق له ما يريد، وإن كان يتنافى مع القيم، والآداب والأخلاق لأن من منطلقاته الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل أبداً: أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الكذب والدجل وقلب الحقائق هو جوهر هذه الأساليب، وأنه وإن كان يبدو متماسكا مترابط الجأش أمامنا، إلا أنه في حقيقة أمره، خائف، وجل من داخله، يعاني الكثير والكثير، كما قال سبحانه: {ولا تهنوابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} (النساء: 104).
وأنه حاقد من داخله لا يحب أحدا، حتى أبناء جلدته كما قال سبحانه: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى{ (الحشر: 14).
وأنه ليس له من مولى يعتمد عليه في حربه لنا سوى الشيطان، والشيطان لا حول له ولا قوة، في جنب حول وقوة خالقه، وباريه، والممسك بناصيته: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة: 19).
إذا تبصر المسلم ذلك، وتبصر أن الله مولاه، وقد وعد بنصر المؤمنين ودحض المبطلين والمجرمين، كما قال سبحانه: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} (محمد: 11)، {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21)، ووصلت هذه البصيرة لديه إلى حد اليقين، فإنه يتحرز من التشاؤم، ويفتح أمامه باب ا لأمل، والتفاؤل، والتيامن.(3/104)
5 - إحياء الفقه الاصطلاحي لا العرفي لكل من الجهاد والنصر، كي يطمئن المعلم، والمربي، والطبيب، والمهند س، والفلكي، والجيولوجي، والتاجر، والصانع، والزارع وغيرهم أنهم بعملهم هذا حين يقصدون به وجه الله، وامتثال أوامره، وإعزاز الأمة، وتحريرها من أن تبقى عالة على عدوها يتحكم فيها كما يشاء، وكيفما شاء، فإنهم مجاهدون كالمحارب في ميدان القتال سواء بسواء، وأنهم كذلك بثباتهم على منهجهم في وجه الامتحانات والابتلاءات سواء أكانت شدة أم رخاء، بل حتى موتهم وهم ثابتون على هذا المنهج، عاملون له، يكتبون في سجل المنتصرين، ورضي الله عن هذا الصحابي الجليل، الذي جاءته ضربة مسددة من قبل عدوه دخلت في ظهره، فخرجت من صدره فهتف بأعلى صوته قائلا: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة"، إن إحياء مثل هذا الفقه، له دور كبير في القضاء على التشاؤم وملء النفس بالتفاؤل، والتيامن.
6 - التأكيد على فقه المحن والابتلاءات، وأنها ليست أبدا دليل عدم الرضا من الله، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما قدمنا- : أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأمثل، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء، حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " ، (184)
وإما قد تكون لحكمة يعلمها الله، وهي في النهاية لصالح المسلم، إن مثل هذا الفقه يقتلع التشاؤم من أغوار النفس، ويزرع مكانه الأمل، والتفاؤل.
7 - الانسلاخ من صحبة المتشائمين، والارتماء في أحضان المتفائلين الواثقين بربهم، وبمنهجهم، وبقدوتهم، وبأنفسهم، وبأمتهم الآخذين من ماضيهم العبرة لحاضرهم، فإن مثل هذا الانسلاخ له دور كبير في علاج التشاؤم، وتحلية النفس بالتفاؤل والتيامن .(3/105)
8 - دوام النظر في قصص الماضين مكذبين ومصدقين، وطبيعة الصراع بينهم، والنتيجة التي أسفر عنها هذا الصراع، فإن ذلك يطمئن المؤمنين، ويريحهم من داخلهم أن العاقبة لهم مصداقا لقوله سبحانه: {والعاقبة للمتقين} ( القصص: 83)، {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء: 105)، {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا} (فاطر: 43)، {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (آل عمران:137).
9 - الموازنة المستمرة بين حاضر هذه الأمة، وماضيها القريب، ولا سيما هذا الماضي الذي اقترن بسقوط الخلافة الإسلامية، وسيظهر من هذه المقارنة أنه بعد أن كان الالتزام بالشعائر التعبدية أو بالعبادات المخصوصة من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وعمرة، وحفظ وتلاوة لكتاب الله، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والحفاظ على الحجاب والزي الإسلامي، سمة واضحة من سمات كبار السن الذين أحيلوا إلى التقاعد عن العمل أو هدهم المرض، فوهنت قواهم وضعفت بنيتهم، فلا يصلي إلا العجوز رجلا أو امرأة، ولا يرسل اللحية إلا الكبير الطاعن في السن، ولا تلتزم بالحجاب والزي الإسلامي إلا العجوز التي صارت من القواعد، ولا يحج، ولا يعتمر إلا العجائز، ولا يصوم إلا الكبير... وهكذا حتى كان الشاب الذي يحاول الالتزام بهذه الشعائر محل سخرية واستهزاء من الآخرين.(3/106)
بعد هذا كله تبدلت الصورة، وصار الالتزام بهذه الشعائر هو السمت العام في الأمة، ولا سيما في صفوف الشباب، وخير دليل على ذلك : المساجد في أيام رمضان، ولا سيما في العشر الأواخر، عشر الاعتكاف، حيث تغص هذه المساجد بالشابات والشباب كل في مصلاه، وصلاة العيد، حيث تمتلئ الساحات بالشباب، والشابات، والأطفال كل في مصلاه، والحج والعمرة حتى أصبحت نسبة الشباب والشابات إلى العجائز كبيرة جدا ربما تجاوز السبعين في المائة، وكذلك الالتزام بالحجاب والزي الشرعي صار هو السمة العامة في الأمة، حتى المتبرجات اللائي يرغبن في الزواج صرن على يقين أن الشباب لا يرغب فيهن، وهن هكذا متبرجات، ومن ثم يرتدين الحجاب، وإن لم يكن كاملاً، ولكنه خطوة على الطريق، ودليل أن الأمة قطعت شوطا لا بأس به على طريق العودة إلى الإسلام، وانتشرت أيضا مدار س، ومعاهد، وحلقات القرآن، والحديث حفظاً، وترتيلا، وفقها، وتدبرا، حتى في قعر أوربا الشرقية والغربية وأمريكا.(3/107)
وبعد أن كانت اللامبالاة، وعدم التفريق بين الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، والملابس، والمراكب، والسكن هي السمة العامة في الأمة، حتى انتشرت البنوك الربوية في كل بلاد المسلمين، وحتى عمت وشاعت الرشوة، والغش، والاحتكار، والسلب والنهب هنا وهناك، بعد هذا كله صارت الدقة في تحري الحلال والحرام هي الأساس والأصل، فكانت البنوك والمصارف الإسلامية الموزعة في كل أنحاء العالم، والتي جاوزت الخمسين حتى الآن، وصار الإقبال عليها من المسلمين عديم النظير، حتى لو لم يحصلوا عليها عائدا أو فائدة، حسبهم أنها خالية من الربا، وكان السؤال بإلحاح عن كل شيء، أهو حلال أو حرام، حتى سألت امرأة أن زوجها يمشي لزيارة أقاربه، وأموال هؤلاء الأقارب كلها ربا في ربا وهو يأكل عندهم، ثم يعود فيعاشرها، فهل يصيبها شيء من هذا الحرام؟ وحتى أصبح الناس، ولا سيما الشباب والشابات يسألون عن العمل مع هذه الأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله، وفي ظلها، ولا سيما في الشرطة والجيش والبنوك، وغيرها، وعن العائد المالي من وراء العمل في هذه المؤسسات.
وبعد أن كان الساسة، والحكام والحزبيون وغيرهم يعلنون في إصرار ألا دخل للدين في السياسة، ولا دخل للسياسة في الدين، صارت السمة العامة لأولئك - إرضاء للشعوب المسلمة التي لا يرضيها إلا أن تحكم بشرع الله -أن الإسلام دين ودولة، صحيح هم يقولونها بأفواههم، ولا تؤمن بها قلوبهم، لكن لنا الظاهر، والله يتولى السرائر، وهي كذلك خطوة على الطريق.(3/108)
وبعد أن كان التعليم ينطلق من العلمانية التي تفصل بين التعليم المدني والتعليم الشرعي، حتى خرج لنا طائفة من الملحدين الذين يحادون الله ورسوله، وتولوا هم بأنفسهم بذر بذور الشر والفساد في الأمة، أصبح التعليم في كثير من المدارس، والمعاهد، والجامعات ينطلق من منطلق إسلامي، ألا وهو عدم الفصل بين التعليم الشرعي والتعليم المدني، بل هناك قدر من العلوم العينية وهو ما تصح به العقيدة، والعبادة، والسلوك، وتضبط به النظم والتشريعات تتعلمه الأمة كلها رجالا ونساء، صغارا، وكبارا، ثم يكون التخصص في فرع أو أكثر من فروع المعرفة التي بها تعز الأمة، وتسود، ولقد أثمر التعليم بهذا المنطلق الجديد حتى صرنا نرى طبيباً أو مهندسا أو فلكيا يحدثك في الإسلام حديثا يفوق به المتخصصين في العلوم الشرعية، إن هذه الموازنة ضرورية لاقتلاع جذور التشاؤم من النفس، وصبغها بصبغة الأمل، والتفاؤل.
10 - التذكير المستمر بعواقب التشاؤم الدنيوية، والأخروية، الفردية والجماعية على النحو الذي شرحنا، فإن ذلك أيضا له دور كبير في علاج التشاؤم، واستبداله بالتفاؤل والتيامن، إذ ا لإنسان كثيرا ما ينسى، وعلاج النسيان إنما يكون بالتذكير الدائم: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات: 55)، {فذكر إن نفعت الذكرى} (الأعلى: 9).
11 - الحرص على حضور التجمعات الإسلامية في موسم الحج، وفي المؤتمرات، وفي الندوات، والمحا ضرا ت، وفي رمضان، وفي ا لعيدين، فان رؤية جموع المسلمين، وإقبالهم على دينهم مما يزرع في النفس الثقة والتفاؤل، ويخلصها مما تعاني من التشاؤم.(3/109)
12 - الوقوف طويلا عند الحركات الجهادية التي انطلقت الآن في كل مكان في العالم، ولا سيما في أفغانستان وفلسطين باذلة النفس والنفيس من أجل زحزحة وإزاحة الباطل من طريق الناس، والتمكين لمنهج الله في الأرض، ولقد لاحت بشائر النصر، فها هي أفغانستان يقوم فيها - بمشيئة الله تعالى - بعد جهاد دام قريبا من خمسة عشر عاما حكم إسلامي يطبق القرآن، وهدي النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أن سقوط الشيوعية الحمراء الملحدة التي كانت تحكم نصف العالم كان ثمرة مباشرة من ثمار هذا الجهاد الأفغاني، وها هم أطفال الحجارة في فلسطين يدوخون اليهود والصهاينة في إسرائيل ويجعلونهم يدورون حول أنفسهم متسائلين: أين طريق الخلاص؟ إن الوقوف عند مثل هذه الحركات الجهادية المنتشرة هنا وهناك في كل أنحاء العالم، ولا سيما العربي والإسلامي له دور كبير في زرع الثقة والتفاؤل في النفس، وتحريرها من التطير والتشاؤم.
الآفة الحادية والعشرون
التنطع أو الغلو في الدين
والآفة الحادية والعشرون التي أصابت، وتصيب نفرا من العاملين لدين الله، وتكاد تهوي بأصحابها في أودية الهلاك، ومهاوي الضلال إنما هي: "التنطع أو الغلو في الدين".
وحتى يكون لدينا تصور واضح، أو قريب من الواضح عن أبعاد ومعالم هذه الآفة، فإننا سنعرض لها على النحو التالي:
أولا: ماهية التنطع أو الغلو في الدين:
لغة
التنطع في أصل وضعه اللغوي، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى في الفم، أو الجلدة الملتزقة بآخر الفك العلوي من الفم، وبها آثار كالتحزيز، وعندها موقع اللسان في الحنك. ثم استعمل في كل تعمق قولاً، وفعلاً، يقال: تنطع في الكلام وتنطع، إذا تأنق فيه، وتشدق، وتعمق، وتنطع في الفعل إذا تكلف فيه، وأتى بما يشق به على نفسه، وعلى غيره . (185)(3/110)
والغلو لغة: هو الارتفاع، أو الإفراط، ومجاوزة الحد أو القدر في كل شيء، تقول: غلا في الدين، وغلا في الأمر غلوا، جاوز حده، وفي التنزيل: {لا تغلوا في دينكم} (النساء: 171) أي لا تفرطوا فيه، ولا تتجاوزوا حد ا لاعتدال، أو حد التوسط . (186)
اصطلاحا :
أما معنى التنطع أو الغلو في الدين في الاصطلاح الإسلامي فإنما هو : التعمق، أو الإفراط، أو مجاوزة الحد في الأقوال والأعمال ، (187) وبعبارة أخرى: هو تحميل الأقوال، أو الكلمات والأعمال فوق ما تحتمل، والتنطع بهذا المعنى يساوي الغلو، كما يساوي التشدد في الدين، وقد جاء التحذير من هذا كله في كتاب الله، وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وسائر السلف، يقول الله - تبارك وتعالى - محذرا أهل الكتاب من الغلو في الدين: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} (النساء:171)، {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} (المائدة: 77).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" ، (188) قالها: ثلاثا. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو، ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت أحدا كان أشد عليهم من أبي بكر، وإني لأرى عمر كان أشد خوفاً عليهم، أو لهم . (189)(3/111)
ويقول أيضاً: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب بأصحابه، عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده، إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق . (190)
ويقول نافع مولى عبد الله: إن صبيغا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص، إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب، فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة؟ فأرسل إلى رطائب من جريد، فضربه بها حتى ترك ظهره دبره ، (191) ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته . (192)
ويقول مسروق: كنت أمشي مع أبي بن كعب، فقال فتى: ما تقول يا عماه، كذا، وكذا، فقال: يا ابن أخي، أكان هذا؟ قال: لا، قال: فاعفنا حتى يكون . (193)
ويقول الصلت بن راشد: سألت طاووسا عن مسألة، فقال لي: كان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله؟ قلت: الله، ثم قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل، أنه قال: أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هنا وهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد، وإذا قالع وفق . (194)(3/112)
ويقول إسماعيل بن أبي خالد، سمعت عامراً يقول: استفتي رجل أبي ابن كعب فقال: يا أبا المنذر، ما تقول في كذا وكذا؟ قال: يا بني أكان الذي سألتني عنه؟ قال: لا، قال: أما لا، فأجلني حتى يكون، فنعالج أنفسنا، حتى نخبرك . (195)
ويقول حماد بن يزيد المقرئ: حدثني أبي، قال: جاء رجل يوما إلى ابن عمر، فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من يسأل عما لم يكن (196) وغير هذا كثير.
ثانيا: مظاهر التنطع أو الغلو في الدين:
ومظاهر التنطع أو الغلو في الدين كثيرة، نذكر منها :
1 - كثرة الافتراضات، والسؤالات عما لم يقع، أو عما عفا الله - عز وجل - عنه، وسكت، حيث يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} (المائدة: 101-102).
2 - المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو تضييع الواجب، كمن بات يصلي الليل كله، ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل قام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة.
3 - العدول عن الرخصة في موضعها إلى العزيمة، كمن يباح له التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيترك التيمم، ويصر على استعمال الماء فيفضي به ذلك إلى ضرر في بدنه.(3/113)
4 - الاشتغال بمسائل الفروع على حساب الأصول، أو استفراغ الجهد في المختلف فيه، مع إهمال المجمع، أو المتفق عليه، كمن يركز على مسائل السواك، أو قصر الثوب، والعذبة ونحوها، ويهمل قضية تعطيل شرع الله في الأرض، أو كمن يقضي وقته في قضية الجهر بالبسملة، أو الإسرار بها، وكذلك قضية وضع اليدين في الصلاة: هل على السرة، أو فوقها، أو تحتها؛ ويهمل الحديث عن انتشار الخمور، وتفشي البغاء، وسفك الدماء، وتتبع العورات، والإفساد في الأرض.
5 - التكفير بالمعصية، أو بالكبيرة، بل تكفير من لم يكفر الكافر، وكذلك جعل الأصل في الأشياء الحظر، أو الحرمة، مع أن القاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، أو الحل، إلا ما جاء النص بخلافه.
6 - إحياء الكلام في المسائل التي فرضتها ظروف معينة، ثم انتهت بانتهاء هذه الظروف، مثل الكلام في مسائل الصفات، وخلق القرآن، والخلاف الذي نجم بين الصحابة، ونحو ذلك . (197)
ثالثا: أسباب التنطع، أو الغلو في الدين:
ويوقع في التنطع أو الغلو في الدين أسباب عدة، وبواعث كثيرة نذكر منها:
1 - البيئة :
فقد ينشأ الإنسان في بيئة شأنها الغلو، أو التنطع سواء أكانت بيئة قريبة، ونعني بها البيت، أم بيئة بعيدة، ونعني بها مجتمع الأصحاب، والأصدقاء، وليست لديه حصانة فكرية، فيحاول الاقتداء، والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، وحينئذ يقع في آفة التنطع أو الغلو.
2 - التكوين النفسي والفكري:
وقد يكون التكوين النفسي والفكري لنفر من الناس من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كأن يحرم هؤلاء من المربي أو الموجه الذي يرشدهم، ويوجههم إلى بعد النظر، واتساع الأفق، فينشئون على الوقوف عند الشكليات والقشور، مهملين اللباب والجوهر، وذلك هو عين التنطع، أو الغلو.
3 - الذكاء مع الفراغ، وعدم البصيرة بالأولويات :(3/114)
وقد يمن الله - عز وجل - على إنسان ما، بقدر من الذكاء الفطري ولكنه يعيش في فراغ، مع عدم البصيرة بالأولويات، ويحاول - شأنه شأن أي إنسان آخر - توظيف هذا الذكاء، وشغل ذلك الفراغ، وحينئذ يكون فريسة آفة التنطع، أو الغلو، إذ أن من سمات النفس البشرية أن صاحبها إن لم يشغلها بالحق، شغلته بالباطل.
4 - الاعتماد على النفس من أول الأمر في تحصيل العلم، أو المعرفة:
وقد تكون لدى المسلم الرغبة في تحصيل العلم، أو المعرفة، ولا دراية له بالطريق فيأخذ في الاعتماد على نفسه من أول الأمر في تحصل هذا العلم، أو هذه المعرفة، ويجعل جل اهتمامه الكتب، فتجنح به هذه الكتب نحو التنطع أو الغلو، نظرا لأن الكتاب وجهة، أو وجهات نظر صامتة، لا تمد لك القدرة على رد التساؤلات التي تثيرها قراءة هذا الكتاب أو الاطلاع عليه، أو التي يثيرها الواقع نفسه.
بينما لو كان تحصل هذا العلم، أو هذه المعرفة بواسطة مربي أو موجه فإن هذا المربي، أو هذا الموجه لسعة اطلاعه، وتجربته، وبصيرته النافذة يمكنه الرد على كل هذه التساؤلات، بل حتى على الشبهات إن وجدت.
5 - الأخذ أو التلقي عن الجاهلين:
وقد تكون لدى المسلم الرغبة في تحصيل العلم أو المعرفة، ولا يعرف على يد من يكون الأخذ، أو التلقي، وتلقي به المقادير في أيد الجاهلين وتصير العاقبة الوقوع في آفة التنطع أو الغلو .
ولعل هذا هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا" . (198)
ولا جرم أن نشير هنا إلى أن المراد بالجهل بالدين ليس هو الجهل المطلق، إذ هذا الجهل المطلق يفضي بصاحبه عادة إلى الانحلال والتسيب لا إلى التنطع أو الغلو، وإنما المراد به الجهل بالاجتهاد وأسلوبه أو طريقته، إذ هو المفضي إلى التنطع أو الغلو.(3/115)
6 - خلو الساحة أو الميدان من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور بل والسلوك :
وقد يكون خلو الساحة أو الميدان من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور بل والسلوك، هو السبب في الوقوع في آفة التنطع، أو الغلو، ولا سيما إذا كانت هناك حماسة أو قوة إيمان وعاطفة تدفع إلى العلم لدين الله، والتمكين له في الأرض، على نحو ما وقع لنفر من شباب الصحوة الإسلامية اليوم، فقد شاهدوا انكماش العلماء، وغيابهم من الميدان أو الساحة إيثارا للعافية، والسلامة، وتقدموا هم لحمل الراية، واعتمدوا على أنفسهم في الفقه أو الاستنباط، فكان الوقوع في آفة التنطع أو الغلو.
7 - تعطيل شرع الله في الأرض :
وقد يكون تعطيل شرع الله في الأرض، وما نتج عنه من انتشار أو ذيوع الشر والفساد وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كرد فعل مضاد لذلك، على نحو ما وقع لنفر من أبناء أمتنا المسلمة في هذا العصر، فقد رأى شرع الله معطلا، والشر والفساد على أشده، فحمله حبه لدينه، وحرصه على مرضاة ربه، أن ينبري وحده للعمل دون أن يكون معه موجه أو مرب، فتردى في آفة التنطع أو الغلو.
8 - الحظوظ النفسية:
وقد تكون الحظوظ النفسية من حب الذيوع والشهرة، أو الثناء والمحمدة، أو المغنم والجاه، من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، من منطلق أن التنطع أو الغلو يحمل في طياته غالبا كل شاذ وغريب، والشواذ والغرائب من بين ما يكسب الذيوع والشهرة، أو الثناء والمحمدة، بل ربما توصل، إلى المغنم والجاه، تطبيقا لمبدأ: "خالف تعرف، وتغنم".
9 - الرغبة في تحقيق مزيد من القرب من الله مع الغفلة عن أبعاد ومعالم الطريق:
وقد تكون الرغبة في تحقيق مزيد من القرب من الله مع الغفلة عن أبعاد ومعالم الطريق، من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو.(3/116)
وقد نقل عن نفر من الصحابة ما يؤكد ذلك، إذ جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في السر، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، ومما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا، وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" . (199)
10 - الإغراء بالدنيا:
وقد يكون الإغراء بالدنيا ممثلة في الجاه، والمركز، والمنصب، أو في المال، أو في تذليل صعوبة من الصعوبات، أو تخطي عقبة من العقبات، أو نحو ذلك، قد يكون ذلك كله من العوامل التي توقع في آفة التنطع أو الغلو، ولا سيما إذا كان هذا الإغراء لأناس ليست لديهم الحصانة الفكرية، والنفسية، على نحو ما ذكر الأستاذ المرحوم عمر التلمساني في بعض أحاديثه من أن السلطات في بعض البلاد الإسلامية والعربية قد أقطعت بعض الجماعات الغالية أو التي لديها استعداد للغلو، أقطعتها أرضا لفلحها، وزراعتها، والانتفاع بخيرها بهدف تشجيع التنطع أو الغلو، في مواجهة التوسط والاعتدال الذي عرفت به الجماعة التي هي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث.
11 - الكراهية للإسلام مع التظاهر بحبه:
وقد تكون الكراهية للإسلام مع التظاهر بحبه وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، على نحو ما وقع من عبد الله بن سبأ اليهودي، ومغالاته في شأن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه حل في الإله، أو هو الإله، وأنه لم يمت، وإنما رفع إلى السماء، وأن الرعد صوته، والبرق نوره وسناؤه، وما تبع ذلك من الغلو في شأن الأئمة، وادعاء العصمة لهم.
12 - الشد ة أو الإكراه والضغط:(3/117)
وقد تكون الشدة، أو الإكراه، والضغط - سواء من البيت، أو المجتمع، أو الدولة - من بين العوامل، أو البواعث التي تدفع إلى الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، على نحو ما وقع لنفر من أبناء الحركة الإسلامية اليوم، فقد رأوا الجلادين يصنعون بهم ما يجلّ عن الوصف، وما جعل الكلاب البوليسية، تتحول إلى عض، وإيذاء هؤلاء الجلادين لأولئك الأبرياء، لا لشيء إلا لأنهم قالوا: ربنا الله، فانقلبوا يحكمون على هؤلاء، بل على المجتمع كله لسكوته على هذا المنكر، أو هذا الصنيع بالكفر، فوقعوا في آفة التنطع أو الغلو.
13 - الهجوم العلني والتآمر الخفي على الأمة الإسلامية:
ذلك أن الأمة الإسلامية في كل أقطار الأرض لقيت، وما زالت تلقي هجوما شرسا عليها، وعلى حرماتها، ومقدساتها، مرة في صورة علنية، وأخرى في صورة سرية أو خفية، ويشارك في هذا الهجوم كل القوى غير المسلمة من يهودية وصليبية، وشيوعية، ووثنية، وذيول هؤلاء وأذنابهم من أبنائنا نحن المسلمين من كل من غرهم بريق المادية في الشرق أو في الغرب، ولا يسع مسلما يؤمن بالله والدار الآخرة، ويوقن بالأخوة الإسلامية، ويعتز بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويفهم أن المسلمين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم -أقول: لا يسعه أن يسمع، ويرى مآسي أمته في كل مكان، وما يلقاه إخوانه هنا وهناك من إبادة مادية تتمثل في التقتيل والتنكيل، أو معنوية تتمثل في التنصير أو على الأقل : التجهيل والتضليل، ثم يمسي، ويصبح قرير العين، ضاحكا ملء سنه، نائما ملء جفنيه، بل لا بد أن يخامره شعور قوي وأكيد بضرورة التصدي، والمواجهة، وحين يأخذ في التصدي، والمواجهة يصيبه ما يصيب أي إنسان يبصر أمته وقد تكالب عليها الأعداء من كل مكان تكالب الأكلة على القصعة، من التنطع أو الغلو.(3/118)
14 - التصدر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء وكمال النضج:
وقد يكون التصدر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء وكمال النضج: من ضرورة ربط الجزئيات بالكليات، ورد المتشابهات إلى المحكمات، وتحاكم الظنيات إلى القطعيات، والقدرة على الجمع بين المختلفات عند التعارض أو الترجيح، وعدم الأخذ بظاهر النص، إلا بعد التغلغل في فهم فحواه، ومعرفة أهدافه ومقاصده، قد يكون ذلك من أسباب الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين.
15 - نسيان العواقب المترتبة على الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين:
وقد يكون نسيان العواقب المترتبة على الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين من بين الأسباب التي توقع في هذا التنطع أو الغلو، إذ الإنسان إذا نسي عاقبة الشيء تجرأ على فعله، وتعاطيه، وان كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (طه: 115).
رابعا: آثار التنطع أو الغلو في الدين:
وللتنطع أو الغلو في الدين آثار ضارة، وعواقب مهلكة، سواء على العاملين أو العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب:
أ - على العاملين :
أما آثار التنطع أو الغلو في الدين على العاملين، فكثيرة، نذكر منها:
1 -كراهية الناس، ونفورهم من المتنطع أو المغالي في الدين:
ذلك أن المتنطع أو المغالي في الدين، إنما هو واقف في الطرف بعيدا عن الوسط، فكرا كان ذلك أو سلوكا، ومثل هذا لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم، لم يصبر عليه جمهورهم، وحينئذ يكون النفور، وتكون الكراهية.(3/119)
ولعل هذا الأثر هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود إذ قال: إن رجلا قال: يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: "إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضيف، والكبير وذا الحاجة" ، (200) وما أشار إليه عمر رضي الله عنه بقوله: "لا تبغضوا الله إلى عباده، فيكون أحدهم إماماً، فيطول على القوم الصلاة حتى يُبغض إليهم ما هم فيه" . (201)
2 - الفتور أو الانقطاع:
ذلك أن التنطع، أو الغلو قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر إذ الإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوما على التشدد والتعسر فسرعان ما تكل دابته، أو تحرن عليه مطيته، في السير، ونعني بها جهده البدني، والنفسي، فيسأم، ويدع العمل حتى القليل منه أو يأخذ طريقا آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه، أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب.
ولعل هذا هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وان أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قل" . (202) وحديث ابن عباس: قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار، وتقوم الليل فقال صلى الله عليه وسلم: " إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى" . (203)
3 - تضييع العمر، وتبديد الجهد في غير ما طائل ولا فائدة:(3/120)
وذلك أن جهد المتنطع أو المغالي إنما هو مصروف إلى ثانويات الأمور فكراً أو سلوكاً، دون أصولها، وهو بهذا يضيع عمره، ويبدد جهده في غير ما طائل ولا فائدة، وصدق الله الذي يقول: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (الكهف: 104)، إذ يفسر الحافظ ابن كثير هذه الآية، فيسوق طائفة من الأخبار عن السلف حول معناها قائلاً: "قال البخاري: حدثنا مجمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن مصعب، قال: سألت أبي - يعني: سعد بن أبي وقاص -عن قول الله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} أهم الحرورية؟ قال: لا، هم: اليهود، والنصارى، أما اليهود، فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأما النصارى، فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها، ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين، وقال علي بن أبي طالب، والضحاك، وغير واحد هم ا لحر ورية" . (204)
ثم يبدي رأيه فيها بعد ذلك، فيقول: " ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه ا لآية الكريمة تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود، والنصارى، وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود..." . (205)
4 - التقصير في حقوق الآخرين:
وذلك أن المتنطع أو المغالي إنما يدور في فلك معين من الفكر والسلوك الأمر الذي ينتهي به إلى التقصير في حقوق يجب أن تراعى، وواجبات ينبغي أن تؤدى.(3/121)
ولعل ذلك هو ما حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص - وقد بلغه انهماكه في العبادة، انهماكا أنساه حق أهله عليه: "ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟"، ويجيبه عبد الله بقوله: بلى يا رسول الله، ويرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ناصحا، وموجهاً: "لا تفعل: صم، وأفطر، وقم، ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا" . (206)
5 - القلق والاضطراب النفسي:
وذلك أن المتنطع أو المغالي إنما يريد حمل الآخرين على ما يوافق هواه وما يريد، وما الآخرون بمستجيبين له، ولا بموافقيه فيما يهوى، وفيما يريد، وتكون العاقبة حينئذ القلق، والاضطراب النفسي، بل العدوان على الآخرين، حيث لم تتحقق رغبته، ولم تجب طلبته. وإن الواقع المعاش ليشهد بذلك، حتى إنا لنرى المتنطعين أو المغالين أضيق الناس صدراً، وأشدهم قلقا واضطرابا، وأكثرهم فورانا وغضبا، بل ربما استخداما للقوة، لحمل الآخرين على ما يريدون.
ب - على العمل الإسلامي:
وأما آثاره على العمل الإسلامي فكثيرة، نذكر منها:
1 - الفرقة والتمزق:(3/122)
ذلك أن المغالين أو المتنطعين؛ لقصور الفهم لديهم، لا يلتقون على رأي واحد، ولا يقبل الآخرون رأيهم، وحينئذ تكون الفرقة، ويكون التمزق، ولعل ذلك هو ما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما إذ خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه، كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، وكتابها واحد؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنما أنزل علينا القرآن، فقرأناه وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن، ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان كذلك اختلفوا. وفي رواية: فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. فزجره عمر، وانتهره على... فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه وقال: أعد علي ما قلته، فأعاد عليه، فعرف قوله: وأعجبه . (207)
2 - كثرة التكاليف، وطول الطريق:
ذلك أن التنطع أو الغلو مكروه منفر، الأمر الذي يعطي المتربصين بالعمل الإسلامي الفرصة لتوجيه الضربة بعد الضربة من أجل القضاء على هذا العمل أو على الأقل إجهاضه بحجة التشدد، أو التزمت، وحينئذ تكثر التكاليف وتطول الطريق.
3 - الحيلولة دون كسب الأنصار:
ذلك أن العنف أو الشدة التي هي من لوازم التنطع أو الغلو، تحول دون كسب الأنصار، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ورفق بها، وعلى بغض من أساء إليها، وقسا عليها، وحسبنا أن نجاحه صلى الله عليه وسلم في دعوته، ما كان إلا بالرفق، واللين: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159).
خامسا: علاج التنطع أو الغلو في الدين:
وعلى ضوء ما قدمنا من أسباب للتنطع، أو الغلو في الدين ندرك طريق العلاج وتتلخص في الخطوات التالية:(3/123)
1 - تطبيق حكم الله في الأرض: عقيدة، وعبادة، أخلاقاً، وتظيماً، أو تشريعات، فكراً وسلوكا، وعلى كل المستويات: الفردية، والجماعية، الشعبية والقيادية، فإن هذا من شأنه أن يشجع الميول الفطرية الكامنة عند هؤلاء، فيستريحوا من القلق والاضطراب النفسي، بل من محاولة التنفيس عن هذا القلق وذلك الاضطراب بواسطة العنف والقوة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه سيقضي على كل مظاهر الشر والفساد التي تثير هؤلاء، وتميل بهم نحو التنطع أو الغلو: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم: 30)، {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة: 50)، {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} (الأعراف: 3)، {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه: 132)، {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة: 37).
2 - تشجيع العلماء العاملين، والدعاة المجاهدين، على أداء دورهم، والقيام بواجبهم نحو ا لإسلام، والمسلمين بعامة، والمعروفين بالتنطع أو الغلو، وذلك برفع سوط الملاحقة، والمتابعة من فوق ظهور هؤلاء ومنحهم حرية التعبير عما تفرضه عليهم الأمانة التي كلفهم الله - عز وجل - بها، وحملهم إياها، فإن ذلك له دور كبير في القضاء على التنطع أو الغلو في الدين.(3/124)
3 - التبصير بفقه العبودية، والدعوة إلى الله، والفتوى، من ترتيب الأولويات، ومن معرفة بمقاصد الشريعة، وكلياتها، ومن فهم للنصوص في ضوء بعضها البعض، ومن إلمام بمراتب الأحكام، وطريق ثبوتها، والعلاقة بينها عند التعارض، ومن رعاية لأدب الخلاف، وعن العلم بقيم الأعمال، ومراتبها، ومراتب المأمورات، والمنهيات، بل مراتب الناس مع الأعمال، وتقدير ظروف الناس، وأعذارهم، ومن الإلمام بسنن الله في خلقه: الكونية منها، والشرعية، ولا سيما سنن وشروط النصر، فإن هذا التبصير كافي في القضاء على التنطع، أو الغلو، وقد أمر الله - عز وجل - بهذا فقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن} (النحل: 125)، {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف: 108).
4 - دوام النظر في التاريخ البشري بعامة، والإسلامي بخاصة، فإن هذا التاريخ حافل بالنماذج الحية من المتنطعين أو المغالين في الدين والآثار السيئة التي جناها هؤلاء من وراء التنطع أو الغلو، وهي حافلة كذلك بكيفية التعامل مع هذه الظاهرة والقضاء عليها ومن أبرز هذه النماذج: أهل الكتاب، الحركة السبئية، الحركة الشيعية.
5 - معاملة هؤلاء المتنطعين أو المغالين في الدين بروح الأبوة، والأخوة من الحنو، والرحمة، والحب، والشفقة، فنخالطهم، ونتعرف عليهم من قرب : كيف يفكرون، وكيف يشعرون، وكيف يسلكون، وكيف يتعاملون، ولا نحكم على الكثرة بحكم القلة، ولا على الواحد بما يقع منه من تصرف، أو تصرفين، وإنما بمجموع تصرفاته، فمن رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته، فهو من أهل الخير، كما يعامل الله سبحانه عباده: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} (المؤمنون:102).(3/125)
وألا نبالغ في تصوير، أو مخالفات هؤلاء، على حين نسكت عن أخطاء غيرهم من كل ما يعرف بالتفريط، أو بالتطرف اللاديني، وأن نشيع جو الحرية، ونرحب بالنقد، ونحيي روح النصيحة في الدين، ونقول ما قال عمر رضي الله عنه: مرحباً بالناصح أبد الدهر، مرحبا بالناصح غدواً وعشيا.. رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.
ونحاكيه عمليا، إذ قال له رجل: اتق الله يا أمير المؤمنين، فأنكر عليه بعض الحاضرين، ورد عليه عمر بقوله: "دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها".
وأن نتجنب اللجوء إلى القوة، والبطش لتصفية هذا الفكر، ومطاردة أهله، فإنه يختفي بالاضطهاد، ولا يموت، ويكمن كمون النار في الكبريت، ولا يزول.
6 - لفت النظر إلى الآثار والعواقب المترتبة على التنطع أو الغلو، سواء منها على العاملين، أو على العمل الإسلامي، فلعل ذلك يساعد في التخلص من هذه الآفة، ومجاهدة النفس لئلا تبتلى بها مرة أخرى.
7 - شغل أوقات الفراغ بالنافع المفيد من خلال وضع وتنفيذ برامج تعليمية وإعلامية، وترفيهية، وتدريبية، بحيث تتجاوب هذه مع الفطرة ولا تتعارض مع شرع الله - تبارك وتعالى - فإن هذا من شأنه أن يمتص الطاقات الكامنة عند هؤلاء، فلا يبقى هناك مجال لتنطع أو غلو . (208)
1 - انظر: بصائر ذوي التمييز في: لطائف الكتتاب العزيز للفيروز أبادي 3/545 - 547، والمعجم الوسيط 2/599 بتصرف كثير.
2 - انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتااب العزيز للفيروز أبادي 3/288،289، والمعجم الوسيط 2/599 بتصرف كثير.(3/126)
3 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأدب: باب ما ينهى عن التحاسد، والتدابر، وباب: {يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن{ 8/23، ومسلم في الصحيح: كتاب البر، والصلة، والآداب: باب تحريم الظن، والتجسس... 4/1985، 1986، رقم 27-31، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في الظن 5/216، 217 رقم 4917 كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، هذا وللحديث تخريج أوسع في كتابنا: (غاية البيان في شرح مختارات من السنن) 1/67 فليراجعه من أراد.
4 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االتوحيد: باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه{، وباب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله{، وباب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه 6/2694، 2725، 2741 رقم 6970، 7066، 7098، 7099، ومسلم في الصحيح: كتاب الذكر : باب الحث على ذكر الله تعالى، وباب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى الله تعالى 4/2061، 2067 رقم 2 (2675)، 19-21، وكتاب التوبة: باب في الحض على التوبة والفرح بها 4/2102 رقم 1(2675)، والترمذي في السنن: كتاب الزهد: باب ما جاء في حسن الظن بالله 4/515 رقم 2388، وكتاب الدعوات: باب في حسن الظن بالله - عز وجل- 5/542 رقم 3603، وابن ماجة في السنن: كتاب الأدب: باب فضل العمل 2/1255، 1256 رقم 3822، والدارمي في السنن: كتاب الرقاق: باب حسن الظن بالله 2/760، 761 رقم 2631، وأحمد في: المسند 2/251، 351، 391، 413، 445، 480، 482، 516، 517، 524، 534، 535، 539، 3/210، 277، 491، 4/106 كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا إلا الدارمي ورواية عن أحمد، فإنه عندهما من حديث وائلة بن الأسقع، وإلا رواية عند البخاري، وأحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وعقب الترمذي على حديثه بقوله: " هذا حديث حسن صحيح".(3/127)
5 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الجننة وصفة نعيمها وأهلها: باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت 4/2205، 2206 رقم 81، 82 (2877)، وأبو داود في السنن: كتاب الجنائز : باب ما يستحب من حسن الظن بالله عند الموت 3/484 رقم 3113، وابن ماجة في السنن: كتاب الزهد: باب التوكل واليقين 2/1395 رقم 4167، وأحمد في المسند 3/293، 325، 330، 390، 391 كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا.
6 - الحديث جزء من حديث أورده الحافظ ابن اللقيم في الوابل الصيب من الكلم الطيب، والحافظ بدر الدين العيني في عمدة الباري شرح صحيح البخاري 22/92، وعزواه إلى أبي موسى المديني قائلين: "قال أبو موسى: هذا حديث حسن جدا ".
7 - انظر في ضعف هذه الأحاديث: سلسلة الأحادديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني 1/186، 187، 3/ 291 - 293 وإن كان قد عزا الحديث الثالث: "احترسوا من الناس بسوء الظن" إلى ابن سعد في الطبقات الكبرى على أنه من أقوال الحسن البصري، ثم عقب عليه بقوله: "وسنده صحيح". وحاول رده من حيث المتن بأنه مخالف للأحاديث الكثيرة الصحيحة التي وردت بإحسان الظن بالمسلمين، والتي منها، " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا نوافقه على هذا التعليل الأخير، لأنه يمكن الجمع بين الأحاديث الكثيرة الدالة على وجوب تحسين الظن بالمسلمين وبين هذا الكلام المأثور عن الحسن البصري الدال على وجوب الاحتراس من الناس بسوء الظن، يمكن الجمع بأن الأول محمول على المسلم المعروف بالصلاح والتقوى، وحسن الخلق، ونظافة السيرة، والآخر محمول على الكافر أو على مسلم معروف بحربه لله ولرسوله، أو على مجهول الهوية أهو مسلم أو كافر ؟ على النحو الذي شرحنا في موقف الإسلام من سوء الظن، والله أعلم.(3/128)
8 - انظر في ضعف هذه الأحاديث: سلسلة الأحادديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني 1/186، 187، 3/ 291 - 293 وإن كان قد عزا الحديث الثالث: "احترسوا من الناس بسوء الظن" إلى ابن سعد في الطبقات الكبرى على أنه من أقوال الحسن البصري، ثم عقب عليه بقوله: "وسنده صحيح". وحاول رده من حيث المتن بأنه مخالف للأحاديث الكثيرة الصحيحة التي وردت بإحسان الظن بالمسلمين، والتي منها، " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا نوافقه على هذا التعليل الأخير، لأنه يمكن الجمع بين الأحاديث الكثيرة الدالة على وجوب تحسين الظن بالمسلمين وبين هذا الكلام المأثور عن الحسن البصري الدال على وجوب الاحتراس من الناس بسوء الظن، يمكن الجمع بأن الأول محمول على المسلم المعروف بالصلاح والتقوى، وحسن الخلق، ونظافة السيرة، والآخر محمول على الكافر أو على مسلم معروف بحربه لله ولرسوله، أو على مجهول الهوية أهو مسلم أو كافر ؟ على النحو الذي شرحنا في موقف الإسلام من سوء الظن، والله أعلم.(3/129)
9 - انظر في ضعف هذه الأحاديث: سلسلة الأحادديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني 1/186، 187، 3/ 291 - 293 وإن كان قد عزا الحديث الثالث: "احترسوا من الناس بسوء الظن" إلى ابن سعد في الطبقات الكبرى على أنه من أقوال الحسن البصري، ثم عقب عليه بقوله: "وسنده صحيح". وحاول رده من حيث المتن بأنه مخالف للأحاديث الكثيرة الصحيحة التي وردت بإحسان الظن بالمسلمين، والتي منها، " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا نوافقه على هذا التعليل الأخير، لأنه يمكن الجمع بين الأحاديث الكثيرة الدالة على وجوب تحسين الظن بالمسلمين وبين هذا الكلام المأثور عن الحسن البصري الدال على وجوب الاحتراس من الناس بسوء الظن، يمكن الجمع بأن الأول محمول على المسلم المعروف بالصلاح والتقوى، وحسن الخلق، ونظافة السيرة، والآخر محمول على الكافر أو على مسلم معروف بحربه لله ولرسوله، أو على مجهول الهوية أهو مسلم أو كافر ؟ على النحو الذي شرحنا في موقف الإسلام من سوء الظن، والله أعلم.(3/130)
10 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االمظالم والغصب: باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه 3/171، 172، وكتاب الشهادات: باب من أقام البينة بعد اليمين 3/235، 236 وكتاب الحيل: باب منه 9/32، وكتاب الأحكام: باب موعظة الإمام للخصوم، وباب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، وباب القضاء في كثير المال وقليله 9/86، 89، 90، 91، ومسلم في الصحيح: كتاب الأقضية: باب الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة 3/1337-1338 رقم (1713)، وأبو داود في: السنن: كتاب الأقضية: باب في قضاء القاضي إذا أخطأ 3/301، 302 رقم 3583، 3584 )، والترمذي في السنن: كتاب الأحكام: باب ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له أن يأخذه 3/624 رقم (1339)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب القضاء: باب الحكم بالظاهر، وباب ما يقطع القضاء 3/472، 482، رقم (5956، 5985)، وابن ماجه في السنن: كتاب الأحكام: باب قضية الحاكم لا تحل حراما ولا تحرم حلالا 2/777 رقم (2317، 2318)، ومالك في الموطأ: كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحق ص 509 رقم (1397)، وأحمد في المسند 6/203، 295، 291، 358، 320، كلهم من حديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعا واللفظ للبخاري، وزاد ابن ماجه رواية أخرى من حديث أ بي هريرة، وعقب عليها البوصيري في : مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 3/44 قائلا: "هذا إسناد صحيح، وله شاهد من حديث أم سلمة، رواه الستة، ورجاله رجال الصحيح" وعقب الترمذي على حديثه قائلا: "حديث أم سلمة حديث حسن صحيح".(3/131)
11 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االمغازي: باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة 5/183، وكتاب الديات: باب قوله تعالى: {ومن أحياها} 9/4، ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله 1/96 -98 رقم (96، 97)، وأبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب على ما يقاتل المشركون 3/44، 45 رقم (2643)، وأحمد في المسند 5/200، كلهم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه مرفوعا، واللفظ للبخاري.
12 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االجنائز: باب إذا أسلم الصبي فمات، هل نصلي عليه؟ وباب ما قيل في أولاد المشركين 2/118، 119، 125، وكتاب التفسير، سورة: {ألم غلبت الروم}، باب: {لا تبديل لخلق الله}: لدين الله 6/143، وكتاب القدر: باب الله أعلم بما كانوا عاملين 8/153، ومسلم في الصحيح: كتاب القدر: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة 4/2047 رقم (2658)، ومالك في الموطأ: كتاب الجنائز: باب جامع الجنائز ص 160 رقم (571)، وأحمد في المسند 2/ 233، 253، 275، 282، 315، 346، 347، 393، 410، 481، كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، واللفظ للبخاري، وعقب الترمذي على حديثه قائلا: "هذا حديث حسن صحيح"، وله شاهد عند أحمد 3/435، 4/24 من حديث الأسود بن سريع.
13 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االبيوع: باب في العطار وبيع المسك 3/82، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء 4/2026 رقم (2628) بلفظه، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.(3/132)
14 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه 1/20، وكتاب البيوع: باب الحلال بين والحرام بين 2/723، 724 رقم (1946)، ومسلم في الصحيح: كتاب المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات 9/1213 - 1221 رقم (1599)، وأبو داود في السنن: كتاب البيوع: باب في اجتناب الشبهات 3/243 رقم (3329)، والترمذي في السنن: كتاب البيوع: باب ما جاء في ترك الشبهات 3/511 رقم (1205)، والنسائي في السنن الكبرى: باب البيوع: باب اجتناب الشبهات في الكسب 4/3 رقم (6040)، وابن ماجه في السنن: كتاب الفتن: باب الوقوف عند الشبهات 2/1318، 1319 رقم (3984)، والدارمي في السنن: كتاب البيوع: باب في الحلال بين، والحرام بين 2/695 رقم (2436)، وأحمد في المسند 4/267، 269، 270، 271، 275 كلهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعا، واللفظ للبخاري.
15 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح (معلقاًً): كتاب البيوع: باب تفسير المشبهات 3/70، والترمذي في السنن: كتاب صفة القيامة: باب منه 4/576، 577 (2518) من حديث الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك..." الحديث، وعقب عليه بقوله: "وهذا حديث حسن صحيح"، والدارمي في السنن: كتاب البيوع: باب "ما يريبك إلى ما لا يريبك 2/695، 696 رقم (2437) من حديث الحسن بن علي، وأحمد في المسند 3/153 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا، والنسائي في السنن: كتاب الأشربة: باب الحث على ترك الشبهات 8/327، 328 رقم (5711) من حديث الحسين بن علي.(3/133)
16 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح كتاب اللأدب: باب التكبير والتسبيح عند التعجب 8/60، وأبو داود في السنن كتاب الصوم: باب المعتكف يدخل البيت لحاجة 2/333 رقم (2470)، وابن ماجه في السنن: كتاب الصيام: باب في المعتكف يزوره أهله في المسجد 1/566 رقم (1779)، وأحمد في المسند 6/337، كلهم من حديث صفية بنت - حيي رضي الله عنها به.
17 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االاستئذان: باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمساواة والمناجاة 8/80، ومسلم في الصحيح: كتاب السلام: باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه 4/1717، 1718 رقم (2183، 2184)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في التناجي 4/263 رقم (4851)، والترمذي في السنن: كتاب الأدب: باب ما جاء لا يتناجى اثنان دون ثالث 5/117 رقم (2825): وعقب عليه بقوله: "هذا حديث صحيح"، والدارمي في السنن: كتاب الاستئذان: باب لا يتناجى اثنان دون صاحبهما 2/282، ومالك في الموطأ: كتاب الكلام: باب ما جاء في مناجاة اثنين دون واحد ص 700 رقم (1812)، وأحمد في المسند 1/375، 425، 431، 432، 440، 460، 462، 464، 465، 9/2، 18، 32، 43، 45، 60، 62، 73، 79، 121، 123، 126، 141، 146، كلهم من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا.
18 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأدب: باب ستر المؤمن على نفسه 8/24، ومسلم في الصحيح: كتاب الزهد: باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، 4/2291 رقم (2990) كلاهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
19 - قطعة من حديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتااب الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج 1/112، 113 رقم (121) من حديث عمرو بن العاص مرفوعا بهذا اللفظ.
20 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإييمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج 1/113 رقم (122) من حديث ابن عباس مرفوعا بهذا اللفظ.
21 - الحديث سبق تخريجه.(3/134)
22 - الخبر أورده الشيخ علي الطنطاوي في أخباار عمر، نقلا عن المحب الطبري.
23 - الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن: كتاب االزهد: باب فضل الفقراء 9/1372، 1380 رقم ( 4120 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه مرفوعا بهذا اللفظ.
24 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأنبياء: باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا} 4/201، 202، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها 4/ 1976- 1978 رقم (2550)، وأحمد في المسند 7/302، 308، كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، واللفظ لمسلم .
25 - الحديث أورده ا لحافظ ابن كثير في ة السسيرة النبوية 4/600.
26 - الحديث أخرجه أبو دود في السنن: كتاب اللصلاة : باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة فصلى معهم 1/157 رقم (575)، والترمذي في السنن: كتاب الصلاة: باب ما جاء في الرجل يصلي وحده، ثم يدرك الجماعة 1/424 - 426 رقم (219). وعقب عليه بقوله: "حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح". والنسائي في السنن: كتاب الإمامة: باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده 2/112، 113 رقم (858)، والدرامي في السنن كتاب الصلاة: باب إعادة الصلوات في الجماعة بعد ما صلى في بيته 1/317، 318، وأحمد في المسند 4/160، 161 كلهم من حديث يزيد بن الأسود مرفوعا. والفرائص - كما في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/193 - : جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف تهتز عند الفزع. والرعدة - كما في النهابة أيضا 2/87 - الرجفة، والاضطراب من الخوف .
27 - انظر: إحكام الأحكام 2/57، وعنه نقل ابن حجر في فتح الباري 4/280.
28 - الحديث سبق تخريجه.
29 - نظر: المعجم الوسيط 2/691-692 بتصرف كثثير، والصحاح في اللغة والعلوم لأسامة المرعشلي وأخيه نديم ص 833 بتصرف كثير.(3/135)
30 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/140، والأذكار للنووي ص 300، وابن حجر في الفتح 10/469.
31 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب البرر والصلة والآداب: باب تحريم الغيبة 4/2001 رقم (2589)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في الغيبة 4/269 رقم (4874)، والترمذي في السنن كتاب البر والصلة: باب ما جاء في الغيبة 4/290 رقم (1934)، والدارمي في السنن: كتاب الرقاق: باب ما جاء في الغيبة 2/755 رقم (2614)، وأحمد في المسند 2/230، 384، 386، كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وعقب عليه الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح".
32 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/141، 142، والأذكار للنووي ص 301.(3/136)
33 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االوضوء: باب من الكبائر ألا يستر من بوله 1/64، 65، وكتاب الجنائز : باب الجريد على القبر، وباب عذاب القبر من الغيبة والبول 2/119، 120، 124، وكتاب الأدب: باب الغيبة، وباب النميمة من الكبائر 8/20، 21، ومسلم في الصحيح: كتاب الطهارة: باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه 1/240، 241 رقم (292)، وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة باب الاستبراء من البول 2/6 رقم (20)، والترمذي في السنن: كتاب الطهارة: باب ما جاء في التشديد في البول 1/102، 103 رقم (70)، والنسائي في السنن: كتاب الطهارة: باب التنزه من البول 1/28 رقم (31)، وكتاب الجنائز: باب وضع الجريدة على القبر 3/106 رقم (2068)، وابن ماجه في السنن: كتاب الطهارة: باب التشديد في البول 1/125 رقم (347)، والدارمي في السنن: كتاب الطهارة: باب الاتقاء من البول 1/200 رقم (739)، وأحمد في المسند 1/225 كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا، وعقب الترمذي على حديثه قائلاً: " هذا حديث حسن صحيح" كما أخرجه ابن ماجه في السنن: كتاب الطهارة وسننها: باب التشديد في البول 1/125 رقم (349) من حديث أبي بكرة مرفوعا بنحوه، ومثله أحمد في المسند 5/39، ب ل زاد رواية ثالثة 5/266 من حديث أبي أمامه ولفظه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر نحو بقيع الغرقد، قال: فكان الناس يمشون خلفه، قال: فلما سمع صوت النعال، وقر ذلك في نفسه فجلس حتى قدمهم أمامه لئلا يقع في نفسه من الكبر، فلما مر ببقيع الغرقد، إذا بقبرين قد دفنوا فيهما رجلين، قال: فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من دفنتم ها هنا اليوم؟" قالوا: يا نبي الله، فلان وفلان، قال: "إنهما ليعذبان الآن، ويفتنان في قبورهما" قالوا: يا رسول الله، فيم ذاك؟ قال: " أما أحدهما فكان لا يتنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"، وأخذ جريدة رطبة فشقها، ثم جعلها(3/137)
على القبرين، قالوا: يا نبي الله، ولم فعلت؟ قال: "ليخففن عنهما"، قالوا: يا نبي الله وحتى متى يعذبهما الله؟ قال: "غيب لا يعلمه إلا الله" قال: "ولولا تمريغ قلوبكم، أو تزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع".
34 - جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصححيح: كتاب العلم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع"، وباب ليبلغ الشاهد الغائب 1/36، 37، 38، وكتاب الحج: باب الخطبة أيام منى 2/216، وكتاب الأضاحي: باب من قال: الأضحى يوم النحر 7/129، 130، وكتاب الفتن: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، 9/63، وكتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} 9/163، وكتاب المغازي: باب حجة الوداع 5/224 من عدة أوجه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا، وكتاب الحج: باب الخطبة أيام منى 2/216، 217، وكتاب المغازي: باب حجة الوداع 5/223 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا وكتاب الحج: باب الخطبة أيام منى 2/215، 216 من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا، ومسلم في الصحيح: كتاب القسامة: باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض والأموال 3/1305-1306 رقم (1679) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا، وكتاب الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/886 - 892 رقم (1218) من حديث جابر ابن عبد الله مرفوعا، وأبو داود في السنن: كتاب المناسك (الحج): باب صفة حجة النبي صلى الله عل يه وسلم 2/182 - 186 رقم (1905) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا، والترمذي في السنن: كتاب الفتن: باب ما جاء في: دماؤكم، وأموالكم عليكم حرام 4/451 رقم (2159)، وكتاب التفسير: باب ومن سورة التوبة 5/255، 256 رقم (3087) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه مرفوعا، وعقب عليه قائلا: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب الحج، باب الخطبة يوم النحر،(3/138)
وباب فضل يوم النحر، وباب يوم الحج الأكبر 2/442 - 444 رقم (4592، 4593) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا، ورقم (4597) من حديث نبيط بن شريط الأشجعي مرفوعا، ورقم ( 4100) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه مرفوعا، ورقم (4599 ) من حديث مرة الهمداني، قال: حدثي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة قال... وساق الحديث، وابن ماجه في السنن : كتاب المناسك : باب الخطبة يوم النحر، وباب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم 5/1012 - 1017، 1022- 1027 رقم (3055) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه مرفوعا، ورقم (3057) من حديث ابن مسعود مرفوعا، وعقب عليه البوصيري في مصباح الزجاج ة 3/207 بقوله: " هذا إسناد صحيح"، ورقم (3058) من حديث ابن عمر مرفوعا، ورقم (3074) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا، والدارمي في السنن: المقدمة: باب الاقتداء بالعلماء 1/79، 80 رقم (231) من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعا، وكتاب المناسك: باب في سنة الحاج 1/473 - 478 رقم (1793) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا، وباب الخطبة يوم النحر 1/497 رقم (1852) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا، وأحمد في المسند 1/230 من حديث ابن عباس مرفوعا، 4/305، 356 من حديث نبيط بن شريط عن أبيه مرفوعا، 4/337 من حديث خريم بن عمرو مرفوعا، 5/30 من حديث العداء بن خالد ابن هوذة، 5/37، 39، 40، 41، 49، من عدة طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه مرفوعا، 5/68 من حديث أبي غادية مرفوعا، 5/72، 73 من حديث أبي حرة الرقاشي، عن عمه مرفوعا، 5/411 من حديث أبي نضرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا، 5/412 من حديث عمرو بن مرة، عن أبيه، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا.(3/139)
35 - لحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب اللأدب: باب في الغيبة 4/269، 270 رقم (4878) من حديث بقية، وأبي المغيرة قالا: حدثنا صفوان، قال: حدثي راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك مرفوعا، وعقب عليه أبو داود بقوله: "حدثناه يحيي بن عثمان عن بقية ليس فيه أنس"، ويعني بذلك أنه حديث مرسل، وأورده ابن حجر في فتح الباري 10/470 وعزاه إلى أبي داود وعقب عليه بقوله: "وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد". ومعنى: " يخمشون وجوههم "، أي يمزقونها. يقال: خمش الجلد: مزقه، لسان العرب مادة "خمش".
36 - لحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االأدب: باب في الغيبة 4/269 رقم (4876) من حديث سعيد بن زيد رفعه، وأورده ابن حجر في فتح الباري: 10/470 وعزاه إلى أبي داود، ثم عقب عليه قائلا: "وله شاهد عند البزار، وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، وعند أبي يعلي من حديث عائشة".
37 - جزء من حديث طويل سبق تخريجه ي آفة "سوءء الظن".
38 - لحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب اللأدب: باب في الغيبة 4/269 رقم (4875)، والترمذي في السنن: كتاب صفة القيامة: باب منه 4/570 رقم (2502، 2503)، وأحمد في المسند 6/189، كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا، وعقب الترمذي على حديثه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح".
39 - انظر: الأذكار للنووي ص 300.(3/140)
40 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإييمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان 1/69 رقم (49)، وأبو داود في : السنن : كتاب الصلاة : باب الخطبة يوم العبد 1/296، 297 رقم ( 1140)، والترمذي في السنن: كتاب الفتن: باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب 4/407، 408 رقم (2172)، والنسائي في السنن: كتاب الإيمان ة باب تفاضل أهل الإيمان 8/111، 112 رقم (5008، 5009)، وابن ماجه في السنن: كتاب الصلاة: باب ما جاء في صلاة العيدين 1/406 رقم (1275)، وكتاب الفتن: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/1330 رقم (4013)، وأحمد في المسند 3/10، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري t مرفوعا، وقال الترمذي عقب حديثه: "هذا حديث حسن صحيح".
41 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االبيوع: باب من أجرى أمر الأنصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع 3/103، ومسلم في الصحيح: كتاب الأقضية: باب قضية هند 3/1338، 1339 رقم (1714)، وأبو داود في السنن:كتاب البيوع والإجارات: باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده 3/289، 290 رقم (3532، 3533)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب القضاء: باب قضاء الحاكم على النائب إذا عرفه 3/481، 482 رقم (982 )، وابن ماجه في السنن: كتاب التجارات: باب ما للمرأة من مال زوجها 2/769 رقم (2293)، والدارمي في السنن: كتاب النكاح: باب في وجوب نفقة الرجل على أهله 2/598 رقم (2176) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا به، وبنحوه .(3/141)
42 - الحديث أخرجه البخاري في الصيام: كتاب االأدب: باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحشا، وباب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب 8/15، 16، 20، 21، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب مداراة من يتقي فحشه 4/ 2002، 2003 رقم (2591)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في حسن العشرة - 4/251 رقم (4791، 4792)، ومالك في الموطأ: كتاب الجامع: باب ما جاء في حسن الخلق ص 650 رقم (1630)، وأحمد في المسند 6/38، 79، 80، 158، 159، كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
43 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأدب: باب ما يجوز من الظن 8/23، 24.
44 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الطللاق: باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها 2/1114، 1119، 1120 رقم (1480)، وأبو داود في : السنن : كتاب الطلاق : باب في نفقة المبتوتة 2/285، 286 رقم ( 2284)، والنسائي في السنن: كتاب الطلاق: باب نفقة الحامل المبتوتة 6/210 رقم (3552) والترمذي في السنن: كتاب النكاح: باب ما جاء ألا يخطب الرجل على خطبة أخيه 3/ 441، 442 رقم (1135) كلهم من حديث أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس... الحديث، وعتب الترمذي على روايته بقوله: "هذا حديث صحيح".
45 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: (معلقاا): كتاب الإيمان: باب قول النبي: "الدين النصيحة"، 1/22، ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة 1/74 رقم (55)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في النصيحة 4/ 286 رقم (4944)، والترمذي في السنن: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النصيحة 4/286 رقم (1926)، والنسائي في السنن: كتاب البيعة: باب النصيحة للإمام 7/156 رقم (4197)، كلهم من حديث تميم الداري رضي الله عنه به .
46 - الحديث سبق تخريجه.(3/142)
47 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب ففرض الخمس: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه 4/115، وكتاب الأنبياء: باب منه 4/191، وكتاب المغازي: باب غزوة الطائف 5/202، وكتاب الأدب باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه 8/21، 22، وباب الصبر على الأذى 8/31، وكتاب الاستئذان: باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة، فلا بأس بالمسارة والمناجاة 8/80، ومسلم في الصحيح: كتاب الزكاة: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه 2/739 رقم (1062)، والترمذي في السنن:كتاب المناقب: باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم 5/667 رقم (3896)، وأحمد في المسند 1/380، 396، 411، 435، 436، 441، 453 كلهم من حديث عبد الله بن مسعود في t مرفوعاً به وبنحوه، وعقب عليه الترمذي بقوله: " هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد زيد في الإسناد رجل".
48 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االتفسير: سورة المنافقون: باب قوله: {إذا جاءك المنافقون} 6/189 - 191، ومسلم في الصحيح: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: باب منه 4/214 رقم (2772)، والترمذي في السنن: كتاب تفسير القرآن: باب ومن سورة المنافقون 5/387 - 389 رقم (3312، 3313، 3314)، وأحمد في المسند 4/368، 369، 373، كلهم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه مرفوعا به، وبنحوه، وعقب عليه بقوله: " هذا حديث حسن صحيح ".(3/143)
49 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االأدب: باب من كظم غظياً 4/248 رقم (4777) من حديث سهل بن معاذ عن أبيه به، مع اختلاف يسير، والترمذي في السنن: كتاب البر: باب في كظم الغيظ 4/326، 327 رقم (2021)، وكتاب صفة القيامة: باب رقم (48) 4/565، 566 رقم (2493)، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد: باب الحلم 2/1400 رقم (4186)، وأحمد في المسند 3/438، 439، 4/14، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير5/351 رقم (6394) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه به .
50 - لحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب ا لأدب: باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر 8/23، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر 4/1983 رقم (2559) وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب فيمن يهجر أخاه المسلم 4/278 رقم (4910)، والترمذي في السنن: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في الحسد 4/290 رقم (1935)، وأحمد في المسند 3/110، 165، 199، 209، 225، كلهم من حديث أنس بن مالك في رضي الله عنه به .(3/144)
51 - لحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب اللأدب ة باب في الحسد 4/276 رقم (4903) من حديث إبراهيم بن أبي أسيد، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والحسد، فان الحسد يأكل الحسنات...، الحديث، وجد إبراهيم بن أبي أسيد لم يسم، وقد ذكر البخاري إبراهيم هذا في التاريخ الكبير. وذكر له هذا الحديث، وقال: "لا يصح"، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد: باب الحسد 2/1408 رقم (4210) من حديث عيسى بن أبي عيسى الحنّاط، عن أبي الزناد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد: "والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جنة من النار، وعقب عليه البوصيري في مصباح الزجاجة 4/238، بقوله: "هذا إسناد فيه عيسى بن أبي عيسى، وهو ضعيف، والجملة ا لا ولى رواها أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه البيهقي من هذا الوجه، وروى قصة الحسد أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس به، ورواه أبو يعلي الموصلي، حدثنا أبو سعيد الأشج، وغيره، حدثنا خالد، عن عيسى... فذكره بتمامه".
52 - لحديث أخرجه البخاريي في الصحيح: كتاب االرقاق: باب حفظ اللسان 8/125، ومسلم في الصحيح: كتاب الزهد والرقائق: باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار 4/2290 رقم (2988)، والترمذي في السنن: كتاب الزهد: باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس 4/483 رقم (2314)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب الرقاق (تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف ) 10/294 رقم (14283).
53 - لحديث أخرجه أحمد في المسند 5/455 من ححديث أبي الطفيل عامر بن واثلة أن رجلا مر على قوم فسلم عليهم... الحديث، وأورده الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار 3/144، 145 وعزاه إلى أحمد قائلا (أحمد بإسناد صحيح".(3/145)
54 - لحديث أخرجه أحمد في المسند 11/452، 4033 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا بهذا اللفظ .
55 - الحديث سبق تخريجه.
56 - الحديث سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة:: " الفتور".
57 - الحديث سبق تخريجه .
58 - الحديث سبق تخريجه .
59 - الحديث سبق تخريجه .
60 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب البرر والصلة والآداب: باب تحريم الظلم 4/1997 رقم (258)، والترمذي في السنن: كتاب صفة القيامة: باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/529، 530 رقم (2418)، وأحمد في المسند 2/353، 334، 371، 372، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، واللفظ لمسلم وعقب عليه الترمذي بقوله: "هذا حديث حسن صحيح".
61 - الحديث سبق تخريجه.
62 - لأثر أورده الحافظ البيهقي في شعب الإيممان: باب في تحريم أعراض الناس 5/316 رقم (6783) عن سهل بن عبد الله .
63 - الحديث سبق تخريجه.
64 - لحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب اللجمعة: باب الخطبة على المنبر 2/11، ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب جواز الخطرة والخطوتين في الصلاة 1/386، 387، رقم (544).
65 - لحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب اللحج: باب النزول بين عرفة وجمع 2/200، ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب استحباب إدامة الحاج التلبية 2/931 رقم (1280). وانظر الأذكار للنووي ص 284.
66 - الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الطههارة: باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد 1/232 رقم (277).(3/146)
67 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب اللبر والصلة، باب ما جاء في الذب عن عرض المسلم 4/288 رقم (1931)، وأحمد في المسند 6/449، 450 كلاهما من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا، وعقب عليه الترمذي بقوله: "هذا حديث حسن" وزاد أحمد 6/461 رواية أخرى من حديث أسماء بنت يزيد إلا أن في إسناد هذه الرواية: (شهر بن حوشب) وهو وإن كان صدوقا، إلا أنه كثير الإرسال، والأوهام. انظر: تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر 1/355 ترجمة رقم (112) حرف الشين.
68 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب من رد عن مسلم غيبة 4/271 رقم (4883)، وأحمد في المسند 4/30 كلاهما من حديث جابر بن عبد الله، وأبي طلحة بن سهل الأنصاريين مرفوعاً به، بنحوه.
69 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االأدب: باب من رد عن مسلم غيبة 4/271 رقم (4883)، من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه مرفوعا، وسهل بن معاذ هذا قال عنه المنذري: ضعيف، وقال ابن حجر في : تقريب التهذيب 1/337 رقم (568): (لا بأس به إلا في روايات ربّان عنه". كما أخرجه أحمد في : المسند 3/441 من حديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعا.
70 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأدب: باب ما يكره من النميمة 8/21، ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب غلظ تحريم النميمة 1/101 رقم (105)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في القتات 4/268 رقم (4871)، والترمذي في السنن: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النمام 4/329 رقم (2026) كلهم من حديث حذيفة بن اليمان t مرفوعاً بهذا اللفظ، وبلفظ: "لا يدخل الجنة نمام" عند مسلم.
71 - انظر: الصحاح في اللغة والعلوم لنديم وأأسامة المرعشليين ص 1028، وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي 5/126، 127 بتصرف.
72 - إحياء علوم الدين للغزالي 3/152، والأذككار للنووي ص 309، وتطهير الغيبة من دنس الغيبة لابن حجر الهيثمي ص 79.(3/147)
73 - إحياء علوم الدين للغزالي 3/152، والأذككار للنووي ص 309، وتطهير الغيبة من دنس الغيبة لابن حجر الهيثمي ص 79.
74 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االصلح: باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس 3/240، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم الكذب وبيان المباح منه 4/2011 رثم (2605)، وأبو داود في السنن كتاب الأدب: باب في إصلاح ذات البين 4/280، 281 رقم (4920، 4921 )، والترمذي في السنن: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في إصلاح ذات البين 4/292 رقم (1938)، وقال عقيبة: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد في المسند 6/404 كلهم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مرفوعاً بهذا ا اللفظ وبنحوه .
75 - انظر: تطهير الغيبة من دنس الغيبة لابن حجر الهيثمي ص 80.
76 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأدب: باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وباب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب 8/15، 16، 20، 21؛ ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب مداراة من يتقى فحشه 4/2502، 2003 رقم (2591)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في حسن العشرة 4/251 رقم (4791، 4792)، ومالك في الموطأ: كتاب الجامع: باب ما جاء في حسن الخلق ص 650 رقم (1630)، وأحمد في المسند 8/36، 79، 80، 158، 159 كلهم مز حديث عائشة في رضي الله عنها مرفوعاً، ولفظه: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة"، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت: ثم ألنت له القول، قال: "يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه، أو تركه الناس اتقاء فحشه".(3/148)
77 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأدب: باب إثم القاطع 8/6، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها 4/1981 رقم (2556)، وأبو داود في السنن: كتاب الزكاة: باب في صلة الرحم 33/12 رقم (1696) والترمذي في السنن: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في صلة الرحم 4/279 رقم (1909) كلهم من "حديث جبير بن مطعم مرفوعا، وعقب الترمذي عليه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح".
78 - الحديث سبق تخريجه.
79 - الحديث سبق تخريجه.
80 - الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد: باب إثم ذي الوجهين ص 573 رقم (1310)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في ذي الوجهين 4/268 رقم (4873)، والدارمي في السنن: كتاب الرقاق: باب ما قيل في ذي الوجهين 2/770 رقم (2662) كلهم من حديث عمار بن ياسر t مرفوعا، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصحيح برقم (6372).
81 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االمناقب: باب قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} 4/217، وكتاب الأحكام: باب ما قيل في ذي الوجهين 8/21، وكتاب الأحكام: باب ما يكره من ثناء السلطان 9/89، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب ذم ذي الوجهين، وتحريم فعله 4/2011 (2526)، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في ذي الوجهين 4/ 268 رقم (4872)، والترمذي في السنن: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في ذي الوجهين 4/328 رقم (2025)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح "، ومالك في الموطأ: باب ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين ص 701 رقم (1818)، وأحمد في المسند 2/245، 307، 336، 455، 465، 495، 517، 525 كلهم من حديث أبي هريرة في t مرفوعاً بهذا اللفظ، وبنحوه .
82 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/154.
83 - انظر: بدائع السلك في طبائع الملك لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي 2/514.(3/149)
84 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االأدب: باب في الغيبة 4/275 رقم (4881) قال: حدثنا حيوة بن شريح المصري، حدثنا بقية، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن وقاص بن ربيعة، عن المستورد أنه حدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم...، الحديث، وعقب عليه المنذري بقوله: (في إسناده بقية بن الوليد، وعبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان وهما ضعيفان".
85 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/153، 154.
86 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/153، 154.
87 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/153، 154.
88 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 3/153، 154.
89 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأنبياء: باب منه 4/215 وكتاب الأدب: باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت 8/35، وأبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في الحياء 4/252 رقم (4797)، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد: باب الحياء 2/1400 رقم (4183)، وأحمد في المسند 4/121، 122 كلهم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه مرفوعا به.
90 - الحديث سبق تخريجه.
91 - الحديث سبق تخريجه.
92 - انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير اللعباد لمحمد بن يوسف الصالحي 3/ 580 - 582.
93 - انظر: الحافظ ابن حجر العسقلاني أمير اللمؤمنين في الحديث للأستاذ عبد الستار الشيخ ص 341- 345 بتصرف كثير .
94 - الحديث سبق تخريجه.
95 - انظر: الصحاح في اللغة والعلوم لأسامة وونديم المرعشليين ص 882، والمعجم الوجيز - مجمع اللغة العربية- مصر، ص 484 بتصرف يسير.(3/150)
96 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االرقاق: باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة 8/109، والترمذي في السنن: كتاب الزهد: باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما في كثير من الناس 4/550 رقم (2304)، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد: باب الحكمة 2/1396 رقم (4170)، والدارمي في السنن: كتاب الرقاق: باب في الصحة والفراغ 2/753 رقم (2607)، وأحمد في المسند 1/258، 344، كلهم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه مرفوعا.
97 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب صففة القيامة: باب في القيامة 4/612، رقم (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا به، وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح "، وأخرج نحوه من حديث ابن مسعود، إلا أن فيه السؤال عن خمس بدل أربع، وعقب عليه بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه"، ورواه الطبراني في المعجم الكبير 20/60، 61 بلفظ: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه"، وأبي البزار في المسند رقم (2437) من كشف الأستار، وهو-كما قال خلدون الأحدب في سوانح وتأملات ص 18: صحيح بشواهده، والدارمي في السنن: المقدمة، باب من كره الشهرة والمعرفة 1/142 رقم (543) من حديث أبي برزة الأسلمي، ورقم (544، 545) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا به، وبنحوه .
98 - الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الرقاق: باب نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ 4/306 من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا، وعقب عليه قائلا: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي على ذلك في: التلخيص.(3/151)
99 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب اللزهد: باب ما جاء في المبادرة بالعمل 4/478 رقم (2306) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث محرز بن هارون...".
100 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االبيوع: باب من أحبّ البسط في الرزق 3/73، وكتاب الأدب: باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم 8/6، ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة: باب صلة الرحم 4/1982 رقم (2557)، وأبو داود في السنن:كتاب الزكاة باب في صلة الرحم 2/132، 133 رقم (1693)، وأحمد في المسند 3/156، 247، 266، كلهم من حديث أنس إلا البخاري في الرواية الثانية، فإنها من حديث أبي هريرة.
101 - انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص 57، ولمزيد من البيان في تحديد معنى الإنساء يراجع: غاية البيان في شرح مختارات من السنن لكاتب هذه السطور ص 19 - 23.
102 - الحديث سبق تخريجه.
103 - انظر: فيض القدير للمناوي 6/288.
104 - انظر: فيض القدير للمناوي 6/288.
105 - انظر: مجلة الأمل التي تصدرها رابطة الششباب المسلم العربي في أمريكا الشمالية، عدد رمضان رقم 131 ص 11 - 15 نقلا عن: تذكرة دعاة الإسلام للمودودي ص 57 -59.
106 - الحديث أخرجه الطبراني في الكبير 11/1022 رقم (11177)، والطبراني في الأوسط 9/155 رقم (9456)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: كتاب البعث: باب ما جاء في الحساب 10/349 وعقب عليه بقوله: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه حسين بن الحسن الأشقر وهو ضعيف جدا وقد وثقه ابن حبان مع أنه يشتم السلف،، كلهم من حديث ابن عباس في به.
107 - انظر: الوقت عمار أو دمار لجاسم المطوع 1/45 نقلاً عن وصايا ونصائح لطالب العلم.
108 - انظر: شذرات الذهب لابن العماد 1/63.
109 - انظر: الوقت عمار أو دمار لجاسم المطوع 1/51، 52 نقلاً عن بستان العارفين.(3/152)
110 - انظر: الوقت عمار أو دمار لجاسم المطوع 1/51، 52 نقلاً عن الآداب الشرعية للمقدسي 2/267.
111 - انظر: روضة المحبين، ونزهة المشتاقين لاابن القيم ص 70.
112 - انظر: الوقت عمار أو دمار 1/32 نقلا عن الآداب الشرعية للمقدسي.
113 - انظر: الوقت عمار أو دمار 1/32 نقلا عن الآداب الشرعية للمقدسي.
114 - انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 4/131.
115 - انظر: تاريخ بغداد 2/163، وعنه نقل: خلددون الأحدب في: سوانح وتأملات ص 30.
116 - انظر: الوقت عمار أو دمار لجاسم المطوع 1/49 .
117 - انظر: الوقت عمار أو دمار لجاسم المطوع 1/49 .
118 - انظر: الوقت عمار أو دمار لجاسم المطوع 1/50، 51 نقلا عن: سوانح وتأملات في قيمة الزمن ص 34.
119 - انظر: عبد الحميد بن باديس للأستاذ مازنن صلاح مطبقاني ص 42.
120 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االجهاد: باب في الابتكار في السفر 3/35 رقم (2606) من حديث صخر بن وداعة الغامدي، وابن ماجه في السنن: كتاب التجارات: باب ما يرجى من البركة 2/752 رقم (2236) من حديث صخر الغامدي، ورقم (2237) من حديث أبي هريرة، ورقم (2238) من حديث ابن عمر، وإسناده - كما في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه للبويصري - ضعيف، لضعف عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني، والدارمي في السنن: كتاب السير: باب بارك لأمتي في بكورها 2/661 رقم (2435) من حديث صخر الغامدي، وأحمد في المسند 1/154، 155، 156 من حديث علي بن أبي طالب 3/416، 417، 432، 4/384، 390، 391 من حديث صخر الغامدي مرفوعا.
121 - انظر: تذكرة الدعاة للأستاذ البهي الخوللي ص 174، وعنه نقل للشيخ جاسم المطوع في الوقت عمار أو دمار 1/77.
122 - انظر: الفوائد لابن القيم ص 118، وعنه ننقل الشيخ جاسم المطوع في : الوقت عمار أو دمار 1/76، 77.
123 - الأثر سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة: "العزلة".(3/153)
124 - الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: بباب في مباعدة الكفار والمفسدين 7/57 رقم (9446) من حديث عبد الله بن عباس.
125 - الحديث سبق تخريجه.
126 - الحديث سبق تخريجه.
127 - انظر: البداية والنهاية لابن كثير 9/2044، وعنه نقل الشيخ جاسم المطوع في الوقت عمار أو دمار 1/80.
128 - انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 5/412 ووعنه نقل الشيخ جاسم المطوع في الوقت عمار أو دمار 1/80، 81.
129 - انظر: سوانح وتأملات في قيمة الزمن ص 366، 37 نقلا عن صيد الخاطر.
130 - انظر: الصحاح في اللغة والعلوم ص 516، والمعجم الوجيز ص 329، وبصائر ذوي التمييز 3/378.
131 - الحديث سبق تخريجه.
132 - الحديث سبق تخريجه.
133 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االأدب: باب في التشديد في الكذب 4/298 رقم (4991) قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث عن ابن عجلان، أن رجلا من موالي عبد الله ابن عامر بن ربيعة العدوي حدثه، عن عبد الله بن عامر، وساق الحديث، وأحمد في المسند 3/447 بنفس الإسناد، ومولى عبد الله مجهول.
134 - العهن هنا : هو الصوف الملون، انظر : اللنهاية في غريب الحديث والأثر 3/142.
135 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االصوم: باب صوم الصبيان 3/48، ومسلم في الصحيح: كتاب الصيام: باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه 2/798، 799 رقم (1136) كلاهما من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها مرفوعاً به وبنحوه.
136 - هذه الرواية أخرجها مسلم في الصحيح: كتااب الصيام: باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه 2/997 رقم (1136) من حديث خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ بهذا اللفظ.
137 - الحديث أورده الحافظ ابن حجر في فتح البباري شرح صحيح البخاري 4/201، وعزاه إلى ابن خزيمة في صحيحه، قائلاً: "وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وتوقف في صحته". ثم عقب عليه بقوله: "إسناده لا بأس به".(3/154)
138 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االأدب: باب من يؤمر أن يجالس 4/259، رقم (4832)، والترمذي في السنن: كتاب الزهد: باب ما جاء في صحبة المؤمن 4/519 رقم (2395) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا بهذا اللفظ، وعقب الترمذي عليه بقوله: "هذا حديث حسن إنما نعرفه من هذا الوجه".
139 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االجهاد: باب ما يتعوذ من الجبن 4/28، وكتاب التفسير: سورة النحل: باب قوله تعالى: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} 6/153، وكتاب الدعوات: باب التعوذ من فتنة المحيا والممات 8/98، وباب التعوذ من أرذل العمر 8/99، من حديث أنس بن مالك مرفوعا بهذا اللفظ وبنحوه، وباب التعوذ من المأثم والمغرم 8/98 من حديث عائشة مرفوعا بنحوه، ومسلم في الصحيح: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب التعوذ من العجز والكسل وغيره 4/2079، 2080 رقم (2706) من حديث أنس بن مالك مرفوعا، وباب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل 4/2088 رقم (2722) من حديث زيد بن أرقم مرفوعا بنحوه، وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة : باب في الاستعاذة 2/90 رقم (1540) من حديث أنس بن مالك مرفوعا به وبنحوه، والترمذي في السنن: كتاب الدعوات: باب منه 5/486 رقم (3484) من حديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن أنس بن مالك مرفوعاً، وعقب عليه بقوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، من حديث عمرو و بن أبي عمرو"، ورقم (3485) من حديث أنس أيضا، وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب الاستعاذة ة باب الاستعاذة من البخل، وباب الاستعاذة من الهم، وباب الاستعاذة من الحزن، وباب الاستعاذة من الكسل، وباب الاستعاذة من العجز 4/447 - 450 رقم (7881، 7884 - 7888، 7890، 7892، 7894) من حديث أنس ابن مالك مرفوعا به، وبنحوه، وابن ماجه في السنن: كتاب الدعاء: باب ما تعوذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/1262 رقم (3838) من(3/155)
حديث عائشة فرعا بنحوه، وأحمد في المسند 3/113، 117، 122، 201، 205، 208، 214، 231، 235، 236، 264، من حديث أنس بن مالك مرفوعا به، وبنحوه 4/371 من حديث زيد بن أرقم مرفوعا بنحوه .
140 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االدعوات: باب التعوذ من غلبة الرجال 8/96، 97 من حديث أنس بن مالك مرفوعا بهذا اللفظ، وباب الاستعاذة من الجبن والكسل 8/98 من حديث عائشة مرفوعا، وأبو داود في: السنن: كتاب الصلاة: باب في الاستعاذة 2/90 رقم (1541)، وكتاب الحروف والقراءات: باب منه 4/31 رقم (3972) من حديث أنس بلفظه، وبنحوه، مطولا، ومختصرا، والترمذي في: السنن: كتاب الدعوات: باب منه 5/486 رقم (3484)، وقد تقدمت الإشارة إليه في الحديث الذي قبله، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من الحزن 4/449 رقم (7890) من حديث أنس مرفوعا به، وأحمد في المسند 3/159، 220، 226، 240 من حديث أنس بن مالك مرفوعا.
141 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االصلاة: باب في الاستعاذة 2/93 رقم (1555) من حديث أبي سعيد الخدري، عن أبي أمامة - رجل من الأنصار- في قصة طويلة مشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم..." الحديث، إلا أن في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف.
142 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/391، وعنه نقل خلدون الأحدب في سوانح وتأملات في قيمة الزمن ص 46،47.
143 - انظر: صيد الخاطر لابن الجوزي ص 178، 1779.
144 - الأعراض: هي الآفات العارضة للإنسان، بححيث إذا سلم من آفة لم يسلم من الأخرى، وإن سلم من الجميع لم يسلم من مباغتة الأجل أو الموت، انظر: قح الباري لابن حجر 11/238.(3/156)
145 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االرقاق: باب الأمل وطوله 8/110، 111، والترمذي في السنن: كتاب القيامة: باب منه 4/548 رقم (2454)، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد: باب الأمل والأجل 2/1414 رقم (4231)، والدارمي في السنن: كتاب الرقاق: باب في الأمل والأجل 2/304، وأحمد في المسند 1/385 كلهم من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا، واللفظ للبخاري، وعقب الترمذي على روايته قائلا: "هذا حديث صحيح".
146 - انظر: صيد الخاطر لابن الجوزي ص 304.
147 - انظر: صيد الخاطر لابن الجوزي ص 304.
148 - الخبر سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة: "التفريط في عمل اليوم والليلة".
149 - الخبر سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة: "التفريط ني عمل اليوم والليلة".
150 - انظر: صور من حياة التابعين للدكتور عبدد الرحمن الباشا 1/138 - 144 بتصرف.
151 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/12.
152 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/12.
153 - الأثر أخرجه ابن المبارك في الزهد: باب التحضيض على طاعة الله - عز وجل - ص 5 بهذا اللفظ.
154 - الأثر أخرجه ابن المبارك في الزهد ص 5 ببهذا اللفظ .
155 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/392، وعنه نقل خلدون الأحدب في سوانح وتأملات ص 48.
156 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/392، وعنه نقل خلدون الأحدب في سوانح وتأملات ص 48.
157 - انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 4/392، وعنه نقل خلدون الأحدب في سوانح وتأملات ص 48.
158 - انظر: المعجم الوسيط 1/488 بتصرف، والمننهاج في شعب الإيمان: للحليمي 2/20، وفتح الباري لابن حجر 10/212، 213.
159 - الحديث أورده الحافظ ابن حجر في فتح البباري 10/213، وعزاه إلى ابن عدي في الكامل، قائلا: "وأخرج ابن عدي بسند في عن أبي هريرة رفعه... الحديث).(3/157)
160 - الحديث أورده الحافظ ابن حجر في فتح البباري 10/213، وعزاه إلى ابن عدي في الكامل، قائلا: "وأخرج ابن عدي بسند في عن أبي هريرة رفعه... الحديث).
161 - الحديث أورده الحافظ ابن حجر في فتح البباري 10/213، وعزاه إلى الطبراني عن أبي الدرداء، رفعه، وعقب عليه بقوله: "ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا، وله شاهد عن عمران بن حصين، وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد".
162 - انظر: فتح الباري 10/213.
163 - انظر: فتح الباري 10/213.
164 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب: باب الطيرة، وباب لا عدوى 7/174، 179، ومسلم في الصحيح: كتاب السلام: باب الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم 4/1747 رقم (2225) كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا به، وأبو داود في السنن: كتاب الطب: باب في : الطيرة 4/19 رقم (3921) من حديث سعد بن مالك مرفوعا، وأحمد في المسند 1/174، 180 من حديث سعد بن مالك مرفوعا، 2/153 من حديث ابن عمر مرفوعا.
165 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االطب: باب لا هامة 7/175، ومسلم في الصحيح: كتاب السلام: باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر 4/1743 رقم (2220)، وأبو داود في السنن: كتاب الطب: باب في الطيرة 4/17 رقم (3911)، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وابن ماجه في السنن: كتاب الطب: باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة 2/1171 رقم (3539) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا وقال عنه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 4/77، 78: "هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات، وأحمد في المسند 1/269، 328 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، 2/222 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعا، ولكن بلفظ: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا حسد، والعين حق"، 2/267، 327، 420، 434، 487 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا به، وبنحوه.(3/158)
166 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االطب: باب الفأل 7/175 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا بهذا اللفظ، ومسلم ني الصحيح: كتاب الطب: باب الطيرة والفال، وما يكون فيه من الشؤم 4/1746 رقم (2223، 2224)، من حديث أنس بن مالك، وأبي هريرة كليهما مرفوعا. وأبو داود في السنن: كتاب الطب: باب في الطيرة 4/18 رقم (3916) من حديث أنس بن مالك مرفوعا بلفظ: "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، والفأل الصالح الكلمة الحسنة" وكان هذه الرواية بيان لما أجمل في رواية البخاري من قوله: "ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة"، والترمذي في السنن: كتاب السير: باب ما جاء في الطيرة 138/4 رقم (1615) من حديث أنس مرفوعا، وقال عنه: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في السنن: كتاب الطب: باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة 2/1170 رقم (3537) من حديث أنس مرفوعا ومختصرا، وأحمد في المسند 2/507 من حديث أبي هريرة مرفوعا، 3/118، 130، 154، 173، 178، 251، 276، 277، 278 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا به، وبنحوه .(3/159)
167 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االطب: باب الفأل 7/175 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا بهذا اللفظ، ومسلم ني الصحيح: كتاب الطب: باب الطيرة والفال، وما يكون فيه من الشؤم 4/1746 رقم (2223، 2224)، من حديث أنس بن مالك، وأبي هريرة كليهما مرفوعا. وأبو داود في السنن: كتاب الطب: باب في الطيرة 4/18 رقم (3916) من حديث أنس بن مالك مرفوعا بلفظ: "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، والفأل الصالح الكلمة الحسنة" وكان هذه الرواية بيان لما أجمل في رواية البخاري من قوله: "ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة"، والترمذي في السنن: كتاب السير: باب ما جاء في الطيرة 138/4 رقم (1615) من حديث أنس مرفوعا، وقال عنه: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في السنن: كتاب الطب: باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة 2/1170 رقم (3537) من حديث أنس مرفوعا ومختصرا، وأحمد في المسند 2/507 من حديث أبي هريرة مرفوعا، 3/118، 130، 154، 173، 178، 251، 276، 277، 278 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا به، وبنحوه .
168 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب اللطب: باب ما جاء أن العين حق، والغسل لها 4/347 رقم (206) من حديث حابس التميمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا شيء في الهام،والعين حق" وأورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري 10/214، وعزاه إلى الترمذي ولكن بلفظ: "العين حق، وأصدق، الطيرة الفأل،، ولعله نقله من حفظه، وإلا فقد تقدم لفظ الترمذي.
169 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االطب: باب في الطيرة 4/19 رقم (3919) من حديث عروة بن عامر القرشي، ولا صحبة له تصح، فعلى هذا يكون الحديث مرسلا.
170 - انظر: فتح الباري 10/214 بتصرف.
171 - انظر: فتح الباري 10/214 بتصرف.(3/160)
172 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب اللشر: باب ما جاء في الطب 4/138 رقم (1616) من حديث أنس بن مالك مرفوعا بهذا اللفظ، وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح".
173 - الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب االطب: باب في الطيرة 4/19 رقم (3920) في حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعا بهذا اللفظ، وحسنه ابن حجر في فتح الباري 10/215.
174 - انظر: فتح الباري 10/215.
175 - انظر: فتح الباري 10/215.
176 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االأنبياء: باب منه 4/212، ومسلم في الصحيح: كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 4/1857، 1858 رقم (2388) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، واللفظ للبخاري.
177 - الحديث أخرجه أحمد في المسند 3/124 من ححديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا بهذا اللفظ.
178 - الحديث أخرجه أحمد في المسند 3/124 من ححديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا بهذا اللفظ.
179 - الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن: كتاب االفتن: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/1328 رقم (4008)، وقال عنه البوصيري في مصباح الزجاج 4/182: "هذا إسناد صحيح، وأحمد في المسند 3/30، 47، 48، 73، 91، 92 كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا، واللفظ لابن ماجه.
180 - الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن: كتاب االفتن: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/1328 رقم (4008)، وقال عنه البوصيري في مصباح الزجاج 4/182: "هذا إسناد صحيح، وأحمد في المسند 3/30، 47، 48، 73، 91، 92 كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا، واللفظ لابن ماجه.
181 - الحديث سبق تخريجه في الجزء الثاني، آفةة: "ضعف أو تلاشي الالتزام".
182 - الحديث سبق تخريجه.(3/161)
183 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب اللزهد : باب ما جاء في الصبر على البلاء 4/520 رقم (2398) وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى: كتاب الطب: باب أي الناس أشد بلاء 4/352 رقم (7481)، وابن ماجة في السنن: كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء 2/1334 رقم (4023)، وأحمد في المسند 1/172، 174، 180، 185، كلهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه به.
184 - الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب اللزهد : باب ما جاء في الصبر على البلاء 4/520 رقم (2398) وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى: كتاب الطب: باب أي الناس أشد بلاء 4/352 رقم (7481)، وابن ماجة في السنن: كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء 2/1334 رقم (4023)، وأحمد في المسند 1/172، 174، 180، 185، كلهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه به.
185 - نظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لاببن الأثير 3/169، ولسان العرب لابن منظور 15/131، 134 بتصرف كثير.
186 - انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج،، للإمام النووي 16/220 .
187 - لحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب العلمم: باب هلك المتنطعون 4/2555 رقم (2670)، وأبو داود في السنن: كتاب السنة: باب في لزوم الجماعة 4/201 رقم (4608)، وأحمد في المسند 1/386 كلهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا.
188 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع، والتبدع 1/53 من حديث عبد الله بن مسعود موقوفا عليه بهذا اللفظ.
189 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع، والتبدع 1/54 من حديث أبي قلابة موقوفا على ابن مسعود بهذا اللفظ.
190 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع، والتبدع 1/54 من حديث أبي قلابة موقوفا على ابن مسعود بهذا اللفظ.(3/162)
191 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع 1/55، 56 من حديث ابن عجلان، عن نافع مولى ابن عمر، موقوفا على عمر بهذا اللفظ.
192 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع 1/56 من حديث مسروق موقوفا على أبي بن كعب بهذا اللفظ.
193 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع 1/56 من حديث طاووس موقوفاً على معاذ بهذا اللفظ.
194 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة:: باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع 1/56 من حديث طاووس موقوفاً على معاذ بهذا اللفظ.
195 - الخبر أخرجه الدارمي في السنن: المقدمة ة باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع 1/50 من حديث حماد بن يزيد المقرئ، عن أبيه موقوفا على ابن عمر بهذا اللفظ .
196 - انظر السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للغزالي: المقدمة ص 7- 12 بتصرف كثير.
197 - انظر السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للغزالي: المقدمة ص 7- 12 بتصرف كثير.
198 - الحديث سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة:: "الفتور".
199 - الحديث سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة:: "الفتور".(3/163)
200 - الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب االعلم: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره 1/33، 34: وكتاب الصلاة: باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود، وباب من شكا إمامه إذا طوَّل 1/180، وكتاب الأدب: باب ما يجوز من النصب والشدة لأمر الله 8/33، وكتاب الأحكام: باب هل يقضي الحاكم، أو يفتي وهو غضبان 9/2، ومسلم في الصحيح: كتاب الصلاة ة باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/340، 341 رقم (466)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب العلم: باب الغضب عند الموعظة والتعليم إذا رأى العالم ما يكره 3/449 رقم (5891)، وابن ماجه في السنن: كتاب الصلاة: باب من أتم قوما فليخفف 1/315 رقم (984) كلهم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه مرفوعا.
201 - الحديث سبق تخريجه في الجزء الأول، آفة الفتور.
202 الحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد: كتاب الصلاة : باب الاقتصاد في العمل والدوام عليه 2/258، 259 من حديث ابن عباس مرفوعا بهذا اللفظ وعزاه إلى البزار قائلا: (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح).
203 - الحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد: كتاب الصلاة : باب الاقتصاد في العمل والدوام عليه 2/258، 259 من حديث ابن عباس مرفوعا بهذا اللفظ وعزاه إلى البزار قائلا: (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح).
204 - انظر: تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن ككثير 3/107.
205 - انظر: تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن ككثير 3/107.
206 - لأثر أورده الشاطبي في الاعتصام 2/183،، وعنه نقل الدكتور يوسف القرضاوي في الصحوة ا لإسلامية بين الجحود والتطرف ص 87.
207 - انظر في هذه الآفة: الصحوة الإسلامية بيين الجحود والتطرف للدكتور يوسف القرضاوي بتصرف كثير، والتطرف المنسوب إلى الإسلام للدكتور يحيى هاشم بتصرف كثير.(3/164)
208 - انظر في هذه الآفة: الصحوة الإسلامية بيين الجحود والتطرف للدكتور يوسف القرضاوي بتصرف كثير، والتطرف المنسوب إلى الإسلام للدكتور يحيى هاشم بتصرف كثير.
??
??
??
??
11(3/165)