$[1/3]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
آداب البحث والمناظرة
لفضيلة الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي
$[1/4]
تعريفه :
اعلم أولاً أن البحث في اللغة الفحص والتفتيش . ومنه قوله تعالى : { فبعث اللّه غراباً يبحث في الأرض } الآية ، والمتناظران كل منهما يفحص ويفتش عما يصحح به حجته ويبطل به حجة خصمه .
والمناظرة : مفاعلة على بابها من اقتضاء الطرفين ، وهي من النظر أو النظير ، وكلاهما معروف لغة .
والنظر في الاصطلاح : هو الفكر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن . وقد قدمنا تعريفه وتعريف الفكر في الاصطلاح .
فالمناظرة في اللغة : المقابلة بين اثنين كل منهما ينظر إلى الآخر ، أو كل منهما ينظر بمعنى يفكر والفكر هو المؤدي إلى علم أو غلبة ظن :
وهي في الاصطلاح : المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر ، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق ، فكأنها بالمعنى الاصطلاحي مشاركتهما في النظر الذي هو النظر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن ليظهر الصواب .
مشروعيتها : والأصل في مشروعيتها قوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقوله : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } وقوله : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } .
$[1/5]
حكمها : فأقل مراتب حكمها الجواز إن كانت على الوجه المطلوب ، وقال بعضهم باستحبابها . وقيل إن القدر الذي يلزم لإبطال شبه خصوم الحق فرض كفاية ، وليس ببعيد واللّه أعلم .(1/1)
موضوعه : وموضوع هذا الفن : الأبحاث الكلية التي تندرج تحتها أبحاث جزئية من حيث هي موجهة مقبولة ، أو غير مقبولة ، فالأبحاث الكلية كالمناقضة ، والنقض ، والمعارضة الكليات . والأبحاث الجزئية المندرجة تحت هذه ، كمعارضة دليل بعينه وكنقيض دليل خاص ، وقبول ذلك وعدمه ، يعرف من هذا الفن ، فكل نقل بالتخلف أو استلزام الفساد ، فهو وظيفة مقبولة ، وكل إفساد للمقدمة ، قبل إثباتها مع إقامة دليل الإفساد فهو غصب غير مقبول .
وقد علمت معنى الموضوع في المقدمة . وبه تعلم أن موضوع كل فن ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما أشرنا له الآن بالأمثلة ، فموضوع علم الطب بدن الإنسان ، وموضوع الحساب الأعداد ، وموضوع الفرائض التركات وهكذا .
وموضوع هذا الفن الأبحاث الكلية المشتملة على الأبحاث الجزئية من حيث أنها موجهة مقبولة أو غير موجهة ولا مقبولة .
( فصل )
في تقسيم الكلام إلى مفرد ومركب وبيان ما تجري فيه المناظرة وما لا تجري فيه .
اعلم أن الكلام ينقسم إلى مفرد ومركب ، وقد أوضحناهما فيما سبق في المقدمة المنطقية .
$[1/6]
ما لا تجري فيه :
والمفرد لا تجري فيه المناظرة ، وقد يجري فيه الاستفسار إن كان غريبا . والمركب الناقص كالتقييدي تجري فيه المناظرة بشرط أن يكون قيدا للقضية . والمركب التقييدي كالحيوان الناطق . والمركب الإنشائي التام كجملة الأمر والنهي والاستفهام والتمني ونحو ذلك إن جاء به المتكلم من قبل نفسه ، فإنه لا تجري فيه المناظرة .
وإن نقله عن غيره طولب بتصحيح النقل ، فإن صححه خرج من العهدة ، وهذا هو الأظهر . من الأحاديث النبوية التي يطلب من حدث بها بتصحيحها ، منها ما معناه إنشائي كما هو معلوم ، خلافا لجماعة قالوا : إن المركب الإنشائي لا يكون محلا للبحث أصلا ، ولا يكون منقولا حتى يطالب صاحبه بتصحيح النقل ، والأول هو الصواب إن شاء اللّه تعالى .
ما تجري فيه :(1/2)
وأما المركب الخبري التام وهو ما قدمنا انه هو المسمى بالتصديق ، وبالقضية ، أوضحنا معناه في المقدمة عند النحويين ، والبلاغيين ، والمنطقيين ، وما يسميه به كل منهم فهو محل البحث والمناظرة ، وعليه ترد اعتراضات المعترض ، وإجابة المجيب كما سترى تفاصيله إن شاء اللّه تعالى .
واعلم أن التعريفات ، والتقسيمات قد تجري فيها المناظرة ، فان قيل : كيف جرت فيها وهي لا تخلو أن تكون من قبيل المفرد أو المركب الناقص ؟ فالجواب أن المناظرة إنما جرت فيها من حيث أنها متضمنة مركبات خبرية تامة .
وإيضاح ذلك في . التعريف أنك لو عرفت الإنسان مثلا بأنه هو الحيوان الناطق فهذا المركب التقييدي الذي هو الحيوان الناطق الذي هو في قوة المفرد لأنه يساوي الإنسان ومساوي الفرد مفرد يتضمن مركبات خبرية تامة ، فكأنك ادعيت في ضمن ذلك التعريف الدعاوى الآتية :
$[1/7]
الأولى : أن هذا التعريف حد لا رسم .
والثانية : أنه مؤلف من الذاتيات ، لا العرضيات .
والثالثة : والرابعة : أنه مانع من دخول غير المحدود جامع لجميع أفراد المحدود . والخامسة : أنه لا يستلزم شيئا من أنواع المحال كالدور السبقي والتسلسل ، ونحو ذلك . فجريان المناظرة في التعريف باعتبار هذه القضايا الخبرية التامة التي تضمنها التعريف ، وقد تقدم جميع إيضاحها في المقدمة المنطقية .
وأما إيضاح ذلك في التقسيمات فإنك لو قسمت كليا إلى جزئياته فقلت مثلا : الجسم إما متحرك أو ساكن فكأنك ادعيت في ضمن هذا التقسيم الدعاوى الآتية :
1 - الأولى : أن هذا التقسيم حاصر لجميع أنواع المقسم ، بمعنى أنه لا يوجد جسم خال من الحركة أو السكون أو متصف بهما معا في وقت واحد .
2 - والثانية : أن الأقسام المذكورة كل واحد منها أخص مطلقا من المقسم لأنه لو لم يكن أخص منه لما صح انقسامه إليه وإلى غيره .(1/3)
3 - والثالثة : أن كل واحد من تلك الأقسام مباين للآخر فلا مساواة بين اثنين منهما ، ولا عموم مطلقا ، ولا من وجه ، ولا خصوص مطلقا ، ولا من وجه .
4 - الرابعة : أنه لا يدخل في التقسيم شيء ، مما ليس من أنواع المقسم . فجريان المناظرة في التقسيمات باعتبار هذه المركبات الخبرية التامة التي تضمنها التقسيم . وبما أوضحنا تعلم أن حاصل المناظرة في التعريف والتقسيم الاعتراض على
$[1/8]
تلك الدعاوى الضمنية كأن يدعي في التعريف أنه غير جامع مثلا . أو يدعي في التقسيم أنه غير حاصر أو أن بعض الأقسام ليس أخصر مطلقا من المقسم أو أن بعضها لا يباين بعضا ، وهكذا .
فتحصل أن محل المناظرة ثلاثة أقسام :
الأول : المركب الخبري التام ، وهو محلها الأصلي .
الثاني : التقسيم .
الثالث : التعريف ، وقد أوضحنا وجهة المناظرة فيهما آنفاً .
$[1/9]
( فصل )
في التقسيم
اعلم أولاً أن الشيء ، المنقسم يسمى ، مُقْسَماً ومورد القسمة ، والأجزاء المنقسم هو إليها تسمى أقساماً ، وكل قسم بالنسبة إلى الآخر يسمى قسيما له .
والأجزاء الداخلة في المقسم ولم تذكر في الأقسام تسمى واسطة .
التقسيم لغة : والتقسيم في اللغة جعل الشيء ، أقساماً أي أجزاء .
التقسيم في الاصطلاح : وهو في اصطلاح أهل هذا الفن ينقسم إلى نوعين :
الأول : تقسيم الكلي إلى أجزائه .
الثاني : تقسيم الكلي إلى جزئياته .
أما تقسيم الكل إلى أجزائه فهو تحصيل الحقيقة المركبة بذكر جميع أجزائها التي تتركب منها كقولك : الكرسي خشب ومسامير ، والشجرة جذع وأغصان .(1/4)
وأما تقسيم الكلي إلى جزئياته ، فضابطه ذكر أفراد الكلي التي هو قدر مشترك بينها بأداة تقسيم « كإما » و « أو » بشرط كون الأفراد متباينة أو متخالفة . كقولك : المعلوم إما موجود أو معدوم ، والعدد إما زوج أو فرد ، وقد قدمنا في المقدمة المنطقية إيضاح الكل والكلي والجزء والجزئي ، وأوضحنا الفوارق بين تقسيم الكل إلى أجزائه والكلي إلى جزئياته فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
( فصل )
واعلم أن تقسيم الكلي إلى جزئياته يشمل تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة
$[1/10]
فيقسم باعتبار تباين الأقسام وتخالفها ، إلى حقيقي واعتباري .
التقسيم الحقيقي : أما التقسيم الحقيقي فهو ما كانت الأقسام فيه متباينة في المفهوم والما صدق أعنى تباينها في العقل والخارج معا .
وإيضاحه أن يكون العقل حَدَّ لكل قسم من تلك الأقسام حقيقة تباين حقيقة ما سواه وبها يتميز عن غيره من الأقسام ، ولا يكون في الخارج شيء واحد من تلك الأقسام يمكن أن تتحقق فيه الحقائق المتباينة ، ولو باعتبارات مختلفة كتقسيم العدد إلى زوج وفرد ، والجسم إلى متحرك وساكن ، فإن الزوج يباين الفرد مفهوما وما صدقاً ، والسكون يباين الحركة مفهوما وما صدقاَ ، فتقسيم العدد إلى فرد وزوج والجسم إلى متحرك وساكن ونحو ذلك هو المسمى بالتقسيم الحقيقي .(1/5)
التقسيم الاعتباري : وأما التقسيم الاعتباري فهو ما كانت الأقسام فيه متخالفة أي متباينة في المفهوم دون الما صدق أعني تباينها في العقل وحده دون الخارج لإمكان أن يوجد في الخارج شيء واحد تتحقق فيه حقائق الأقسام المختلفة في المفهوم باعتبارات مختلفة . ومثاله ما يسمى في الاصطلاح بالنوع الإضافي ، وقد أوضحناه فيما مضى كالحيوان مثلا فإنه جنس بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد كالإنسان والفرس مثلا وهو نوع بالنسبة إلى ما فوقه كالنامي لأن الحيوان نوع من جنس النامي ، ونوعه الآخر النبات لأنه نام أي يكبر تدريجيا ، كالنامي فإنه جنس بالنسبة إلى ما تخته من الأفراد كالحيوان والنبات ونوع بالنسبة إلى ما فوقه كالجسم لأن منه نامياً وغير نام كالحجر .
فلو قسمت الحيوان فقلت : الحيوان إما جنس وإما نوع تعني بكونه جنسا إضافته إلى ما تحته ، وبكونه نوعا إضافته إلى ما فوقه ، فهذا التقسيم يسمى تقسيما اعتباريا لأنك قسمت الحيوان فيه إلى جنس ونوع باعتبارين مختلفين . والجنس والنوع في هذا المثال مختلفان في المفهوم لأن النوع يغاير مفهومه مفهوم
$[1/11]
التخالف :
وأن التخالف : هو المخالفة ، في المفهوم فقط دون الما صدق ، وقد قدمنا أنواع التباين في اصطلاح المنطقيين وأنه ينقسم إلى تباين مخالفة وتباين مقابلة ، وأوضحنا جميع أقسام كل . واصطلاحات الفنون قد تختلف في الشيء ، الواحد .
وينقسم التقسيم بالنظر إلى طريق حصر المقسم في الأقسام إلى قسمين : عقلي واستقرائي .
وإيضاحه أنه لا طريق يعرف بها الحصر المذكور إلا العقل والاستقراء ولا ثالث البتة .(1/6)
فإن كان طريق الحصر العقل فهو تقسيم عقلي ، وإن كان طريقه الاستقراء فهو تقسيم استقرائي . واعلم أن ضابط التقسيم العقلي هو تقسيم المقسم إلى الشيء ، ونقيضه ، أو إلى الشيء ، ومساوي نقيضه ، فمثال تقسيمه إلى الشيء ، ونقيضه كقولك : العدد إما زوج وإما ليس بزوج . والمعلوم إما موجودا أو ليس بموجود لما قدمنا من أن النقيضين هما السلب والإيجاب .
ومثال تقسيمه إلى الشيء ، ومساوي نقيضه قولك : العدد إما زوج وإما فرد لأن لفظة ( فرد ) مساوية لليس بزوج لأن العقل يحكم بمجرد النظر في حصر الأقسام في الشيء ، ونقيضه ، إذ لا واسطة بين النقيضين البتة ، وكذلك : الشيء ، ومساوي نقيضه فالعقل يحكم بمجرد النظر فيهما بحصر الأقسام فيهما .
وما يزعمه بعض المتكلمين من أن ما يسمونه الحال المعنوية واسطة ثبوتية بين المعدوم والموجود ، فلا هي موجودة على الحقيقة ، ولا هي معدومة على الحقيقة ، لا شك في أنه باطل وأنه من الأوهام الخيالية التي لا أساس لها من الحقيقة .
$[1/12]
ولا شك أن العقل الصحيح يحكم بالحصر القطعي في الشيء ، ونقيضه أو مساوي نقيضه كما ذكرنا .
واعلم أن التقسيم العقلي قد يتعدد فتكون الأقسام أكثر من اثنين كقوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } فإنه يتضمن تقسيمين عقليين قطعيين ، وبهما تكون الأقسام ثلاثة .
وإيضاحه أن تقول : إما أن يكون خلقهم صدر من خالق هو خالقهم أو لم يصدر من خالق أصلا ، وهذا تقسيم عقلي قطعي ، منحصر في النقيضين المذكورين ، ثم تقسم أحد القسمين تقسيما عقليا آخر فتقول ، وعلى فرض أنهم خلقهم خالق فلا يخلوا إما أن يكون ذلك الخالق هو أنفسهم ، أو ليس بأنفسهم ، وصح بالحصر العقلي انحصار الأقسام في ثلاثة :
الأول : أنهم خلقوا من غير شيء خالق لهم .
الثاني : أنهم خلقهم خالق هو أنفسهم .
الثالث : أنهم خلقهم خالق غير أنفسهم .(1/7)
ومعلوم بطلان القسمين الأولين ، وصحة الثالث كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللّه تعالى .
التقسيم الاستقرائي : وأما التقسيم الاستقرائي الذي هو ما كان حصر المقسم في أقسامه فيه بطريق الاستقراء فهو ما لا يحكم العقل فيه بحصر ولكن صاحب التقسيم استقرى الأقسام أي تتبعها حتى علم بالتتبع والاستقراء أنه لم يبق قسم في الخارج غير ما ذكر : كقولهم : العنصر : إما ماء وإما تراب ، وإما هواء ، وإما نار ، وزعموا أنهم استقصوا تتبع أقسام العنصر فلم يجدوا له في الخارج من الأقسام إلا هذه الأربعة ، مع أن العقل يجوز وجود غيرها من الأقسام .
وكقولهم : الكلمة إما اسم ، وإما فعل ، وإما حرف ، وكقولهم : المبتدأ إما ظاهر ، وإما مضمر ، وكقولهم : الخبر إما مفرد أو جملة ، أو شبه جملة ،
$[1/13]
في صورة العقلي ، بخلاف التباس العقلي بالاستقرائي فلا يضر لأن العقل فيه لا يجوز قسما آخر ، وزاد بعض أهل هذا الفن التقسيم الجعلي والقطعي ، أما الجعلي فكتقسيم المؤلف كتابا أبواب الكتاب أو فصوله إلى عشرة مثلا فالمؤلف هو الذي جعل الأقسام عشرة فهو جعلي بالنسبة إليه واستقرائي بالنسبة إلى قارئ الكتاب ، وأما القطعي فهو ما كان قطع العقل فيه بنفي قسم آخر مستند إلى دليل أو تنبيه ومثاله أن يدل على الحصر المذكور إجماع شرعي ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به فإن علة الإجبار إما البكارة وإما الجهل بالمصالح فإن قال المعترض أين دليل الحصر في الأمرين أجيب بأنه هو الإجماع على عدم التعليل بغيرهما فإسناد التقسيم المذكور إلى الإجماع صيره قطعيا ومعلوم أن التقسيم القطعي أعم من هذا التقسيم ولكن لا مشاحة في الاصطلاح .
( فصل في شروط صحة التقسيم )(1/8)
أما تقسيم الكل إلى أجزائه فيشترط لصحته شرطان : الأول أن يكون حاصرا لجميع الأجزاء التي تركب منها الكل مانعا من دخول قسم آخر ليس من أقسام المقسم ، الثاني أن يكون كل قسم مباينا لما عداه من الأقسام ومباينا أيضا للمقسم بالنظر إلى الحمل لا بالنظر إلى التحقيق ومثال ما استوفى الشرطين قولك الكرسي خشب ومسامير لأن أجزاء الكرسي منحصرة في الخشب والمسامير ولا يدخل فيها قسم آخر من غير أقسام الكرسي والمسامير مباينة للخشب وهي والخشب كلاهما مباين للكرسي بالنظر إلى الحمل إذ لا يجوز أن تقول المسامير كرسي ولا الخشب كرسي مع أنه إذا تحقق الكرسي في الخارج تحققت أجزاؤه ضرورة وهى الخشب والمسامير وذلك هو معنى قولنا لا بالنظر إلى التحقق ، وأما تقسيم الكلي إلى جزئياته فيشترط لصحته ثلاثة شروط الأول أن يكون
$[1/14]
حاصرا لجميع أقسام المقسم بمعنى كونه جامعا للأقسام العقلية كلها إن كان التقسيم عقليا وجامعا لجميع الأقسام الموجودة في الخارج إن كان استقرائيا وأن يكون مانعا من دخول قسم من غير أقسام المقسم .
الشرط الثاني أن يكون كل قسم منها أخص مطلقا من المقسم فلا يجوز أن تكون النسبة بينه وبين واحد منها المساواة أو العموم والخصوص من وجه أو العموم والخصوص المطلق إن كان القسم أعم مطلقا من المقسم فإن كان أخص منه مطلقا فهو الشرط المطلوب .
الشرط الثالث أن يكون كل قسم من الأقسام مباينا لما سواه منها فلا يصح كون بعض الأقسام مساويا لبعضها أو أعم مطلقا أو من وجه أو أخص مطلقا أو من وجه منه وقد قدمنا أن التباين في التقسيم العقلي لابد أن يكون في العقل والخارج معا وأنه في التقسيم الاعتباري يكون في العقل دون الخارج .(1/9)
ومثال التقسيم العقلي المستوفي للشروط الثلاثة قولك الممكن إما موجود أو ليس بموجود فهذا التقسيم حاصر لأقسام المقسم العقلية مانع من دخول غيرها فالمقسم في هذا المثال هو الممكن وأقسامه العقلية منحصرة في كونه موجودا أو ليس بموجود ولا يدخل فيهما قسم لغير هذا المقسم ولا يخرج عنهما قسم منه لأن العقل يحصر الأقسام في الشيء ونقيضه إذ لا واسطة بين النقيضين والموجود وما ليس بموجود كلاها أخص من الممكن لصدقه بكل واحد منهما والموجود وما ليس بموجود يباين كل منهما الآخر عقلا وخارجا ومثاله في الاستقرائي تقسيم العنصر إلى الأقسام الأربعة وهو واضح مما ذكرنا وإذا استكمل التقسيم بنوعيه الشروط المذكورة كان تقسيما صحيحا وإذا اختل شرط منها لم يكن صحيحا وورد عليه الاعتراض من جهة اختلاله ، ومثال اختلال شرط الجمع قولك الحيوان إما ناطق وإما صاهل لأن هذا التقسيم غير حاصر لأنه لم يشمل الناهق ونحوه . ومثال اختلال المنع قولك الحيوان إما أبيض وإما ناطق
$[1/15](1/10)
وإما صاهل إلخ . . . لدخول الثلج ونحوه في قسم الأبيض مع أنه ليس من أقسام الحيوان ، ومثال اختلال شرط كون كل قسم أخص مطلقا من المقسم مع مساواته له قولك الحيوان إما حساس وإما ناطق وإما صاهل . . . إلخ لأن الحساس يساوي المقسم الذي هو الحيوان في المثال المذكور . ومثاله مع كون بعض الأقسام أعم من المقسم قولك الحيوان إما نام وإما ناطق وإما صاهل . . . إلخ لأن النامي أعم من المقسم الذي هو الحيوان في هذا المثال ومثاله مع كونه أعم من وجه وأخص من وجه منه قولك الحيوان إما أبيض وإما ناطق وإما صاهل . . . إلخ لأن قسم الأبيض أعم من المقسم الذي هو الحيوان في المثال من وجه وأخص منه من وجه فيجتمعان في الحيوان الأبيض كالديك الأبيض وينفرد الحيوان عن الأبيض في الحيوان الأسود كالغراب وينفرد الأبيض عن الحيوان في الثلج والعاج ونحوهما ومثاله مع كون بعض الأقسام مباينا للمقسم قولك الحيوان إما حجر وإما ناطق وإما صاهل . . . إلخ لأن قسم الحجر يباين المقسم الذي هو الحيوان في المثال المذكور ومثال اختلال شرط مباينة بعض الأقسام بعضا مع المساواة بين اثنين منها قولك الحيوان إما ناطق وإما بشر وإما صاهل وإما ناهق . . . إلخ فإن قسم الناطق وقسم البشر متساويان في الما صدق ومثاله مع العموم والخصوص المطلق قولك الحيوان إما حساس وإما ناطق وإما صاهل . . . إلخ فإن قسم الحساس أعم مطلقا من الناطق والصاهل وهما أخص منه مطلقا لصدق الحساس بهما وبغيرهما و مثاله مع العموم والخصوص من وجه قولك الحيوان إما أسود وإما ناطق وإما صاهل . . . إلخ فإن قسم الأسود أعم من وجه من الناطق والصاهل وأخص منهما من وجه يجتمعان في الإنسان الأسود والفرس الأسود وينفرد الناطق والصاهل عن الأسود في الإنسان والفرس الأبيضين وينفرد الأسود عنهما في الغراب والفحم ونحو ذلك والقصد مطلق المثال والمثال لا يعترض بأن الأسود كما أن بينه وبينهما العموم والخصوص من وجه أنه(1/11)
كذلك في المقسم فبين الأسود والمقسم الذي هو الحيوان في المثال المذكور عموم وخصوص من
$[1/16]
وجه أيضا كما هو واضح إذ لا مانع من تداخل الأمثلة وكون المثال الواحد صالحا لشيئين فأكثر .
( فصل )
في بيان أن أوجه الاعتراض على التقسيم وبيان طرفي المناظرة في التقسيم
اعلم أولاً أنه قد اشتهر عند علماء هذا الفن أن الذي يعترض التقسيم بأحد وجوه النقض الآتية يسمى مستدلا وأن صاحب التقسيم أو الذي يبين بطلان الاعتراضات عليه يسمى مانعا عكس الاصطلاح الأصولي المعروف ولا مشاحة في الاصطلاح وقد عرفت مما قدمنا أن تقسيم الكلي إلى جزئياته تشترط لصحته ثلاثة شروط وقد قدمناها قريبا موضحة وأن تقسيم الكل إلى أجزائه له شرطان وقد قدمناهما موضحين قريبا وبينا أن الاعتراض على التقسيم إنما يتوجه بسبب اختلال أحد الشروط المذكورة وقد قدمنا أمثلة اختلالها وورود الاعتراض على التقسيم بسبب اختلال أي واحد من الشروط ومثلنا لذلك كله في تقسيم الكلي إلى جزئياته وسنذكره مع المثال هنا في تقسيم الكل إلي أجزائه وإيضاحه أنك قد علمت مما مر أن الشرطين المشترطين لصحة تقسيم الكل إلى أجزائه الأول منهما كونه جامعا مانعا والثاني كون كل قسم من أقسامه مباينا لما عداه منها ومباينا أيضا للمقسم بالنظر إلى الحمل لا بالنظر إلى التحقيق وبذلك تعلم أن الاعتراض يتوجه إليه باختلال أحد الشرطين كأن يكون غير جامع أو غير مانع أو يكون بعض أقسامه غير مباين لبعض أو غير مباين للمقسم من حيث الحمل فمثال ورود الاعتراض عليه بكونه غير جامع قولك في كرسي مركب من ذهب وخشب ومسامير هذا الكرسي ذهب ومسامير لأن ذلك لم يشمل الجزء الخشبي فهو غير جامع لجميع الأجزاء التي هي أقسامه ومثال كونه غير مانع قولك الكرسي المتحيز غير المسامير تعني الجزء الخشبي ومسامير لأن لفظ المتحيز وإن
$[1/17](1/12)
كان صادقا بالجزء الخشبي فإنه لا يمنع غير أجزاء الكرسي من الدخول كالحجر لأنه متحيز ومثال توجه الاعتراض إليه بكون بعض الأقسام غير مباين لبعضها الآخر قولك في كرسي مركب من خشب وصفائح حديد ومسامير هذا الكرسي قطع حديد تعني الصفائح وخشب ومسامير لأن قطع الحديد لا تباين المسامير لأن كل واحد منهما قطعة من حديد في الجملة وإن كانت قطع الحديد المذكورة تختلف هيآتها لأن اختلاف الهيآت لا يغير الحقيقة فلا شك في أنه يصدق على كل من الصفائح والمسامير أنه قطع من حديد ومثال توجه الاعتراض عليه بكون بعض الأقسام غير مباين للمقسم من حيث الحمل قولك الكرسي مسامير وشيء يجلس عليه تعني الجزء الخشبي لجواز الحمل في قولك الكرسي شيء يجلس عليه .
( فصل )
في الأجوبة عن الاعتراضات الموجهة إلى التقسيم
وهي راجعة إلى ما يسمونه تحرير المراد وضابطه عندهم أن يوضح صاحب التقسيم مراده الذي قصده في تقسيمه بما يدفع عنه الاعتراض وهو أربعة أنواع : الأول تحرير المراد من المقسم بأن يوضح أنه قصد به معنى لا يتوجه إليه الاعتراض وأنه غير المعنى الذي ظنه السائل ومن أمثلته أن يقول صاحب التقسيم : الكلمة إما اسم أو فعل فيعترض المستدل هذا التقسيم فيقول هو تقسيم استقرائي غير حاصر للأقسام الموجودة في الخارج لأنه لم يشمل الحرف وهو قسم من أقسام الكلمة وكل تقسيم غير جامع أي حاصر لجميع الأقسام فهو فاسد فيجيب صاحب التقسيم فيقول أمنع كونه غير حاصر بتحرير مراده ويوضح أن مراده بالمقسم الذي هو الكلمة في المثال المذكور معنى خاص وهو ما دل على معنى في نفسه والحرف لا يدل على معنى في نفسه بل في غيره وحصر أقسام المقسم حاصل على المعنى الذي قصده وبين أنه هو مراده فيندفع
$[1/18]
عنه الاعتراض بتحرير مراده في المقسم .(1/13)
النوع الثاني تحرير المراد من الأقسام ومثاله أن يقول صاحب التقسيم الإنسان إما ذكر وإما أنثى فيقول المستدل هذا تقسيم استقرائي غير جامع للأقسام الموجودة في الخارج لأنه لا يشمل الخنثى المشكل وهو قسم من أقسام الإنسان موجود في الخارج فيجيب صاحب التقسيم فيقول أمنع كونه غير جامع لأني أردت بتقسيمي الأقسام المشهورة الغالبة في الوجود ولم أرد ما يشمل القسم النادر وجوده الذي لا يكاد يخطر بالبال في أغلب الأوقات وتقسيمي حاصر على ما أوضحت من مرادي بالأقسام .
النوع الثالث تحرير المراد من التقسيم كأن يقول صاحب التقسيم العنصر إما تراب أو لا وهذا إما هواء أو لا وهذا إما ماء أو لا . وهو النار كما تقدم إيضاحه فيقول المستدل هذا تقسيم ظاهره أنه عقلي للترديد فيه بين النفي والإثبات وهو تقسيم غير جامع لأن العقل يجوز قسما خامسا وسادسا . . . إلخ .
من أقسام العنصر وكل تقسيم كان غير جامع فهو فاسد فيجيب صاحب التقسيم فيقول أمنع قولك أن كل تقسيم جوز فيه العقل قسما آخر غير مذكور فاسد لأن محل ذلك في التقسيم العقلي خاصة ، وأما التقسيم الاستقرائي فلا يبطل بمجرد تجويز العقل قسما آخر غير مذكور بل لا يبطل إلا بوجود قسم في الخارج غير مذكور في التقسيم كما تقدم إيضاحه فاندفع عنه الاعتراض بتحرير مراده من التقسيم وأن مراده التقسيم الاستقرائي الذي لا يبطل بمجرد تجويز العقل قسما آخر لا التقسيم العقلي كما ظنه المستدل ويدخل في هذا النوع أن يظن المستدل التقسيم حقيقيا فيعترض عليه بأن الأقسام ليست متباينة في المفهوم والما صدق فيجيب صاحبه بأن التقسيم اعتباري لا حقيقي ولا يشترط فيه تباين الأقسام في العقل والخارج بل يكفي فيه تخالفها وهو تباينها في العقل فقط دون الخارج كما تقدم إيضاحه وأمثلته .
$[1/19](1/14)
النوع الرابع تحرير المراد من المذهب العلمي الذي بنى عليه صاحب التقسيم تقسيمه ، ومثاله أن يقول صاحب التقسيم : المعلوم إما موجود وإما معدوم فيقول المستدل هذا تقسيم عقلي غير جامع لأن ما يسميه المتكلمون الحال سواء كانت معنوية أو نفسية قسم من أقسام المعلوم لم يذكر في التقسيم وهو واسطة ثبوتية بين الوجود والعدم فلا هي من قسم الموجود ولا هي من قسم المعدوم وكل تقسيم غير جامع فهو فاسد فيجيب صاحب التقسيم فيقول أمنع كون تقسيمي غير جامع لأني بنيت تقسيمي على مذهب من يقول إن الحال المذكورة لا أصل لها وإنما هي خيال وهمي محض وأن العقل الصحيح يحصر المعلوم في الشيء ونقيضه حصرا لا شك فيه فقد أبطل الاعتراض الوارد على تقسيمه بتحرير المراد الذي قصده من المذهب العلمي الذي بني عليه تقسيمه وقد أوضحنا في غير هذا الموضع أن الحال المذكورة خيال وهمي لا حقيقة له البتة وأن كل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعا وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعا كما لا يخفى واعلم أن ما ذكرنا من الاعتراضات على التقسيم والأجوبة عنها ينبغي أن ينظر قبله هل صاحب التقسيم ناقل له عن غيره أو لا فإن كان ناقلا عن غيره ولم يلتزم صحته لم يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل عن المصدر الذي نقل عنه من كتاب أو راو مثلا وإن كان جاء بالتقسيم من تلقاء نفسه أو نقله عن غيره والتزم صحته فإن كان في كلامه شيء غير واضح فللسائل الاستفسار عنه وعليه البيان والإيضاح وإن كانت الكلمات لا إجمال فيها ولا لبس ولا اشتراك فللسائل الاعتراض على التقسيم بالأوجه التي ذكرنا ولخصمه الجواب عنها بالأجوبة التي بينا وإن عجز عن الجواب عن أحد الاعتراضات المذكورة فعليه الانتقال إلى تقسيم آخر وإن وجد تقسيمه صحيحا لا خلل فيه وجب عليه تسليمه والاعتراف بصحته وهذا هو ترتيب المناظرة في التقسيم .
$[1/20]
( فصل )
اعلم أن التقسيم قد يكون دليلا مستقلا في التصورات(1/15)
وجزء دليل في التصديقات أما كونه دليلا مستقلا في التصورات فقد أشرنا إليه في المقدمة المنطقية في الكلام على المعرفات وبينا أن القسمة من المعرفات التي تتميز بها الحقيقة المعرفة عن غيرها ومرادنا بالقسمة التقسيم المذكور ومثلنا لذلك بتعريف العلم بالتقسيم بأن نقول الاعتقاد إما جازم أو غير جازم والجازم إما مطابق أو غير مطابق والمطابق إما ثابت لا يقبل التشكيك بحال وإما أن لا فظهر من التقسيم اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيك بحال وهو العلم كما قدمنا إيضاحه وما يحترز عنه بكل لفظ من ألفاظ التقسيم المذكورة فهذا التقسيم صار دليلا مستقلا لتصور العلم لأنه يحصل به تصور العلم بأنه اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيك بحال كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وأن الكل أكبر من الجزء .
وأما كون التقسيم جزء دليل في التصديقات فلأن الدليل المعروف عند أهل الأصول بالسبر والتقسيم وعند الجدليين بالتقسيم والترديد متركب من أصلين أحدهما التقسيم وهو حصر جميع أقسام المقسم والثاني هو سبر تلك الأقسام كلها أي اختبارها وتمييز ما يصلح منها وما لا يصلح وبه تعلم أن التقسيم صار أحد ركني هذا الدليل التصديقي وقسمه الثاني هو سبر الأقسام أي اختبارها فإذا صح التقسيم واستوفى شروطه المذكورة وصح سبرها وهو اختبار صحيحها من فاسدها وصالحها . من غيره كان الأمران المذكوران دليلا تصديقيا والتقسيم جزء منه وهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم يستعمله المنطقيون في مقاصد أخر وهو ما قدمنا أنهم يسمونه الشرطي المنفصل واعلم أنا قد بسطنا الكلام
$[1/21](1/16)
في هذا الدليل في كتابنا أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : { أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا } وبينا المراد به عند الأصوليين والجدليين والمنطقيين وأوضحنا الفرق بين ما تريد به كل طائفة منهم وبين ما تريد به الأخرى وذكرنا له أربعة أمثلة قرآنية وبينا بعض آثاره التاريخية العقائدية والأدبية ولذلك سنختصر الكلام عليه هنا فنذكر له مثالا في القرآن ومثالا في الأصول ومثالا في الجدل فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } .(1/17)
قد قدمنا أن التقسيم في هذه الآية عقلي وإنما كانت الأقسام ثلاثة لأنهما تقسيمان عقليان قطعيان لأنا نقول إما أن يكونوا خلقوا بلا خالق أصلا أو خلقهم خالق وهذا تقسيم عقلي قطعي لحصره في الشيء ونقيضه ثم نقسم القسم الثاني الذي هو قولنا أو خلقهم خالق فنقول لا يخلو ذلك الخالق من أن يكون أنفسهم أو ليس بأنفسهم وهذا أيضا تقسيم عقلي قطعي لحصره في الشيء ونقيضه فصارت الأقسام في التقسيمين ثلاثة الأول كونهم خلقوا بلا خالق أصلا الثاني أنهم خلقوا أنفسهم الثالث أنهم خلقهم خالق غير أنفسهم فهذا التقسيم العقلي الصحيح جزء الدليل التصديقي وجزء ، الآخر هو سبر هذه الأقسام الثلاثة واختيارها وتمييز الصحيح منها من الباطل وبالسبر الصحيح يتبين أن القسمين الأولين وهو أنهم خلقوا بدون خالق أو أنهم خلقوا أنفسهم باطلان غاية البطلان كما لا يخفى وأن القسم الثالث وهو أنهم خلقهم خالق صحيح لاشك فيه وهذا الخالق الذي خلقهم هو خالق السموات والأرض ومن فيهما سبحانه وتعالى علوا كبيرا فالقسم الصحيح من الأقسام حذف في الآية لدلالة المقام عليه فدل التقسيم والسبر المذكوران على أن لهم خالق هو الذي خلقهم وهو الذي يستحق عليهم أن يعبدوه وحده فكونهم خلقهم خالق تصديق وكان التقسيم جزء الدليل عليه ومن المعلوم أن الحصر والتقسيم إن كانا قطعيين كان السبر والتقسيم دليلا قطعيا كالآية التي مثلنا بها فدلالتها على أنه تعالى هو الخالق المستحق للعبادة وحده
$[1/22]
قطعية لأن الحصر والإبطال فيهما قطعيان .(1/18)
واعلم أن الأصوليين إنما يستعملون هذا الدليل في إثبات العلة بحصر أوصاف المحل وإبطال غير الصالح للتعليل فيتعين الباقي الصالح للتعليل كقول الشافعي علة تحريم الربا في البر إما الكيل وإما الطعم وإما الاقتيات والادخار مثلا ثم يستدل على بطلان وصف الكيل ووصف الاقتيات والادخار بأن ملء ، الكف من البر لا يجوز فيه الربا مع أنه غير مكيل وغير مقتات ولا مدخر لكنه مطعوم فيتعين الطعم للعلية وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال ومن أمثلته عندهم قصة الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هلكت ، واقعت أهلي في نهار رمضان . فقال له صلى الله عليه وسلم : ( أعتق رقبة ) . فنقول علة عتق الرقبة إما أن تكون كونه أعرابيا أو كون الموطوءة أهلاً لا سرية ، أو هي الجماع في نهار رمضان . ثم نرجع للأقسام بالسبر الصحيح فنجد كونه أعرابيا ليس بصالح للتعليل لأن حكم جماع الحضري في نهار رمضان كحكم جماع الأعرابي . وكون الموطوءة أهلا ليس بصالح لأن وطء أمته بالتسري في نهار رمضان كحكم وطء زوجته فيبقي الجماع في نهار رمضان فيتعين كونه هو العلة . فقولنا علة الكفارة الجماع تصديق والتقسيم جزء من دليله المذكور ومن أمثلته الجدلية التاريخية العقائدية قول عبداللّه بن محمد الأذرمي لأحمد بن أبي دآد أمام الواثق باللّه ما حاصله ومضمونه هو هذا الدليل فخلاصة ما قال له مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها وهي كون القرآن مخلوقا إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أولاً ، وهذا التقسيم عقلي صحيح لحصره في الشيء ، ونقيضه ثم نرجع للقسمين المذكورين بالسبر الصحيح فنجدك يابن أبي دآد على غير الصواب في جميع الاحتمالات فعلى تقدير أن النبي وخلفاءه ، الراشدين كانوا غير عالمين بها فلا يمكن أن تكون عالما بها وإذا فأنت تدعو الناس لما لا علم لك به ، وهذا غير صواب منك . وعلى تقدير أنهم كانوا عالمين بها ولم يدعوا(1/19)
الناس إليها فإنك يابن أبي دآد يسعك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما وسعه هو وخلفاءه ، الراشدين فأنت
$[1/23]
على غير صواب في ادعائك إلى شيء علمه النبي وأصحابه وتركوا دعوة الناس له لأنك يسعك ما وسعهم . وقد بسطنا الكلام على هذه القصة وذكرنا أنه روي عن الخطيب أن الواثق باللّه كان حاضرا لهذا الكلام وسقط من عينه ابن أبي دآد وأطلق سراح الشيخ الشامي ولم يمتحن بعد ذلك أحدا بخلق القرآن وأن هذا الدليل صار هو أول مصدر لكبح جماح فتنة القول بخلق القرآن ومن أراد بسط الكلام في هذا الدليل فلينظر كتابنا أضواء البيان في الكلام على آية مريم التي أشرنا إليها . وقد اكتفيت بهذه الكلمات القليلة المبينة أن التقسيم قد يكون جزء دليل تصديقي .
$[1/24]
فصل في التعريفات
والمتقدم الاصطلاح فيها هنا قد يختلف مع الاصطلاح المنطقي والمقدم في بعض الأحوال واعلم أن أقسام التعريف عند أهل هذا الفن أربعة الأول اللفظي وضابطه هو ما قدمنا ، من كونه تعريف لفظ بلفظ آخر مرادف له أوضح منه عند السامع كتعريف الغضنفر بالأسد وقد أوضحناه بأمثلة في المقدمة المنطقية ومعلوم أن هذا النوع من التعريف نسبي لأن شهرة أحد الرديفين تختلف باختلاف الأشخاص فتري بعضهم لا يعرف القمح إلا باسم البر وبعضهم لا يعرفه إلا باسم الحنطة وقس على ذلك .(1/20)
القسم الثاني من أقسام التعريف هو المعروف بالتعريف التنبيهي وضابطه أنه إحضار معنى في ذهن المخاطب كان معلوما عنده سابقا ولكنه قد غاب عنه علمه وقت التعريف حتى نبه عليه بالتعريف ولا يخفي أن الفرق بين اللفظي والتنبيهي اعتباري لأن الاعتبار فيه بحال المخاطب فإن كان لم يسبق له علم بمعنى الحقيقة المعرفة فالتعريف لفظي وإن كان قد سبق له بها علم ولكنها غابت عن ذهنه وأراد المعرف إحضار معناها الغائب عنه في ذهنه بالتعريف فالتعريف تنبيهي وبذلك تعرف أن التعريفين المذكورين متفقان حقيقة وما صدقا لأن الاختلاف بينهما باعتبار أمر خارج عن حقيقتهما وهو حال المخاطب من سبق علم له بالأمر وعدمه .
تنبيه : اعلم أن اللفظ الدال على الموضع يسمى عنوانا ومعناه المطابقي يسمى مفهوما وأفراده الموجودة في الخارج تسمى ما صدقا وسميت بذلك لأنها هي ما صدق عليه المفهوم .
القسم الثالث من أقسام التعريف هو التعريف الحقيقي وضابطه أنه تعريف
$[1/25]
الماهية التي لأفرادها وجود في الخارج بالحد والرسم على نحو ما قدمنا إيضاحه كتعريف الإنسان بأنه الحيوان الناطق ونحو ذلك .
القسم الرابع من أقسام التعريف هو التعريف الاسمي وهو تعريف ماهية متخيلة ولكنها لا يعلم وجودها في الخارج .(1/21)
تنبيه : اعلم أن من المقرر في فن المنطق أن من أنواع تقسيم القضايا تقسيمها إلى قضية خارجية وقضية حقيقية وإيضاح الفرق بينهما أن كل قضية اعتبر في صدق عنوانها على مفهومه الذي هو حقيقة الموضوع وجود الأفراد الخارجية في أحد الأزمنة الثلاثة فهي المسماة بالخارجية لوجود أفراد موضوعها في الخارج ، وأما إن لم يعتبر وجودها في الخارج بل اكتفي فيها بتقدير الوجود مع كونه غير واقع بالفعل فهي المسماة بالحقيقة ومثال الخارجية كل إنسان حيوان لأن العنوان الذي هو لفظ الإنسان في هذا المثال معتبر في صدقه وجود أفراده في الخارج كزيد وعمرو ومثال الحقيقة قولك العنقاء طائر عجيب الشكل طويل العنق يصطاد الصبيان وصغار البقر لأن العنقاء طائر تتخيله العرب ولا وجود لفرد من أفراده في الخارج البتة ولذلك كانوا يضربون المثل للمفقود الذي لا طمع في وجوده بحال بقولهم طارت به العنقاء ومن أمثلة الحقيقة تعريف الصَّفَر بأنه دابة في جوف الإِنسان تعض على شراسيفه إذا جاع والشراسيف أصول الأضلاع لأن الصفر شيء ، تتخيله العرب مع أنه لا وجود له في الخارج ومنه قول أعشى بأهله :
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ……ولا يعض على شرسوفه الصفر
قولهم العنقاء طائر والصفر دابة لم يعتبر في صدق عنوانه على موضوعه الوجود الخارجي بل اكتفى بتقدير الوجود لأن الطائر والدابة المذكورين لو فرض وجودهما في الخارج لصدق عليهم الاسم وقد أشرت في أُرجوزتي في فن المنطق إلى الفرق بين الخارجية والحقيقة بقولي :
$[1/26]
كل قضية على ما ذكروا …في صدق عنوان لها يعتبر
وجود موضع لها في الحال …أو المضي أو الاستقبال
فخارجية على المعهود……وحيث لا اعتبار بالوجود
بل كان بالتقدير للوجود…مع…كون الوجود خارجا قد لا يقع
فهي الحقيقة والفرق أضا …بينهما بأنه لو فرضا
الحصر للألوان في السواد …في خارج والغير ذو انفقاد
فقولك البياض لون فند ……بحسب الأول إذ لا يوجد(1/22)
وكذبه لفقده في الخارج …مع اعتبارنا الوجود الخارجي
وصادق بالاعتبار الثاني …كون البياض أحد الألوان
إذ فيه معنى كل ما لو وجدا …كان بياضا فبحيث لو بدا
وجوده يكون لونا فعلم……الصدق مع كون البياض منعدم
وصدق حصر اللون بالسواد …بحسب الأول أمر باد
وكذبه بحسب الثاني اتضح …فما أبيح افعل ودع ما لم يبح
انتهى محل الغرض من الأرجوزة المذكورة ولا يخفى أنا ذكرنا في الأبيات ثلاث كلمات كلها يمنعه كثير من علماء العربية إحداها إتباع قد بلا النافية في قولنا قد لا يقع وقد أجازه بعضهم وقال ابن مالك في خلاصته : ( والمصروف قد لا ينصرف )
الثانية تعريف لفظة غير بالألف واللام وإنما جئنا به لأن عامة المتأخرين تساهلوا فيه وجرى على ألسنتهم بكثرة ولا يخلوا من قول بجوازه وإن كان ضعيفا والنظم لضيقه أصله محل الضرورات .
الثالثة الوقف على لفظة منعدم بالسكون مع أنها منصوبة لأنها خبر المصدر الكوني وذلك لغة ربيعة فلا بأس به كما قال بعضهم :
كذا لدى ربيعة المنون ……في نصب أو في غير يسكن
$[1/27]
وبحث الحقيقيات والخارجيات من المباحث التي أشرنا في المقدمة المنطقية إلا أنا تركناها اختصارا مع مباحث كثيرة من فن المنطق وإذا عرفت الفرق بين الخارجية والحقيقية فاعلم أن ضابط التقسيم الحقيقي هنا هو ما كانت الحقيقة المعرفة فيه موضوع القضية الخارجية .(1/23)
وأن ضابط التعريف الاسمي هو ما كانت الحقيقة المعرفة فيه موضوع القضية الحقيقية وكل واحد من التعريفين المذكورين ينقسم إلى حد تام وناقص أو رسم تام وناقص وقد قدمنا إيضاح الجميع وأمثلته وشروطه في مقاصد التصورات فأَغنى ذلك عن إعادته هنا وكثير من أهل هذا الفن لا يشترطون في التعريف اللفظي الجمع ولا المنع فيجوز عندهم تعريف الأعم بالأخص وعكسه وبه قال قليل من المنطقيين وعلى عدم الاشتراط جرى اللغويون كقولهم البلوط ثمر شجر يؤكل ويدبغ بقشره فهذا غير مانع لكثرة الثمار التي تؤكل ويدبغ بقشرها غير البلوط وكقولهم العندليب طائر والورد زهر ونحو ذلك وكقولهم في تعريف الأعم بالأخص الطيب مسك ونحو ذلك ، وقد قدمنا أن المنطقيين يشترطون الجمع والمنع الذين هما الطرد والعكس كما تقدم إيضاحه وهو قول جماهير المتأخرين منهم إلا من شذ وقد يكون التعريف اللفظي بمركب يقصد به تعيين الحقيقة لا تفصيلها كقولهم في تعريف الإنسان شبح منتصب القامة عريض الأظفار يمشي على اثنين لا ريش له .
أما التعريف بما يساوي المعرَف بالفتح فهو محل اتفاق كما تقدم إيضاحه ، واعلم أن أهل هذا الفن يشترطون شروطا لحسن التعريف الحقيقي والسامي وهي عندهم شروط في الحسن لا في الصحة والمنطقيون يجعلون بعضها شرطا في الصحة لا الحسن وهو أظهر . وشروط الحسن المذكورة عند أهل هذا الفن أربعة :
الأول - السلامة من الأغلاط اللفظية كتقديم الضمير على مفسره لفظا ورتبة وكالعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل أصلا وكذلك ما يجب
$[1/28]
فيه الإدغام وعكسه وكل هذا معروف في محله وكونه شرطا للحسن صحيح .
الثاني - أن لا يكون في ألفاظ التعريف لفظ مجازي إلا مع قرينة تعين المراد .(1/24)
الثالث - أن لا يكون فيه لفظ مشترك بين معنيين فأكثر إلا مع قرينة تعين المراد وهذان قد قدمنا أنهما شرطان لصحة التعريف عند المنطقيين لا في حسنه وهو الأظهر ومحل اشتراط عدم الاشتراك المذكور عند أهل هذا الفن دون القرينة إذا لم يصح إرادة كل واحد من المعاني على سبيل البدل فإن صح إرادة جميعها على ذلك الوجه صح عندهم استعماله بدون القرينة .
الشرط الرابع - من شروط الحسن ألا يكون في التعريف لفظ غريب غير ظاهر الدلالة على معناه المراد به أو موهم لمعنى غير المعنى المراد لصاحب التعريف .
( فصل )
في أوجه الاعتراض على التعريف الحقيقي والاسمي
اعلم أن الاعتراض يتوجه إلى كل واحد منهما سواء كان حداً تاما أو ناقصا أو رسما تاما أو ناقصا باختلال شرط من شروط التعريف المتقدمة في مقاصد التصديقات وشروط الصحة عند أهل هذا الفن أربعة : فالاعتراض على التعريفين المذكور عندهم بواحد من أربعة أمور وأحرى إن كان باثنين منها فأكثر .
الأول - ألا يكون التعريف مطردا أي مانعا .
الثاني - ألا يكون منعكسا أي جامعا .
الثالث - ألا يستلزم المحال كالدور السبقي .
الرابع - أن لا يكون أظهر وأوضح من المعرَف بالفتح ، وقد أوضحنا هذا
$[1/29]
بأمثلته في المقدمة المنطقية .(1/25)
وأما التعريف اللفظي فعلى قول من لا يشترط فيه الجمع ولا المنع فلا يتوجه إليه الاعتراض بعدم الطرد أو العكس وإنما يتوجه عليه الاعتراض باستلزامه المحال كالدور السبقي أو كونه غير أظهر وأوضح من المعرف ، وأما على قول من يشترط فيه الجمع والمنع وهم المنطقيون وبعض الجدليين فإنه يتوجه إليه الاعتراض من الجهات الأربع المذكورة التي يعترض بها على الحقيقي والاسمي وقد عرفت مما مر أن الاعتراض يتوجه إلى التعريف من حيث أنه غير حسن وإن لم يكن فاسدا وذلك بتخلف شرط من شروط الحسن المذكورة ككونه مشتملا على بعض الأغلاط اللفظية وكأن يكون في ألفاظ التعريف لفظ مجازي دون قرينة تعين المراد أو لفظ مشترك بين معنيين فأكثر دون قرينة تعين المقصود ، وقد قدمنا أن هذين شرطان لصحته عند المنطقيين وهذا أظهر وكأن يكون في ألفاظ التعريف لفظ غريب غير ظاهر الدلالة على معناه المقصود أو موهم لمعنى غير المراد . وإذا عرفت أوجه الاعتراض على التعريف فلا يخفى عليك أن الطريقة المعهودة في ذلك هي أن تجعل وجه الاعتراض مقدمة صغرى من دليل المعترض وهو قياس اقتراني من الشكل الأول وتضم إليها كبرى صورتها مثلا ، وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد أو فهو غير حسن كقولك هذا التعريف الحقيقي غير مانع وكل تعريف حقيقي كان كذلك فهو فاسد ينتج هذا التعريف الحقيقي فاسد وهو المراد وهكذا ، وكقولك هذا التعريف في بعض ألفاظه غلط وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن ينتج من الشكل الأول هذا التعريف غير حسن وهكذا .
واعلم أن ترتيب المناظرة في التعريف كترتيبها في التقسيم وقد أوضحناه في الكلام على التقسيم وبه تعلم أن أول ما يبدأ به المناظر في التعريف هو أن ينظر في كلام خصمه هل هو ناقل له عن غيره أو لا وإن كان ناقلا له فهل هو ملتزم صحته أو لا فإن كان ناقلا ولم يلتزم الصحة فلا يتوجه إليه إلا المطالبة
$[1/30](1/26)
بتصحيح النقل وإن كان ملتزما صحة ما نقل أو غير ناقل عن غيره بل هو آت بالتعريف من تلقاء نفسه فإن كان في ألفاظ تعريفه لفظ غير واضح المعنى استفسر عنه وعليه البيان كأن يعرف موجب القصاص في النفس فيقول هو القتل بما يقتل غالبا كالزخيخ فلخصمه أن يقول وما مرادك بالزخيخ وعليه أن يبين أن مراده به النار وإن كانت ألفاظ تعريفه واضحة المعاني فإن كانت سالمة من أوجه الاعتراض وجب تسليمها وقبولها وإن كان فيها خلل اعترض عليه بأحد أوجه الاعتراض التي بينا وعليه أن يجيب عن الاعتراض عليه بأحد الأجوبة المقررة في هذا الفن .
( فصل )
في أجوبة صاحب التعريف
عن أوجه الاعتراض الأربعة المذكورة التي يعترض بها عندهم على التقسيم الحقيقي والاسمي حداً كان كل واحد منهما أو رسماً تاما كان كل واحد منهما أو ناقصا أما الاعتراض على التعريف بعدم الطرد أو العكس أعني بهما الجمع والمنع كما أوضحناه مرارا فالجواب عنه بتحرير المراد وهو أربعة أنواع : الأول تحرير المراد من المعرَف بالفتح ومثاله أن تعرف الماء المستوجب للماء في حديث إنما الماء من الماء بأنه المني الخارج بلذة معتادة فيقول المستدل هذا التعريف غير منعكس أعني غير جامع لجميع أقسام المعرف لأنه لم يشمل خروج المني بغير لذة معتادة كخروجه بسبب لدغ عقرب له في ذكره وكخروجه بسبب نزوله في ماء حار أو هزة دابة له ونحو ذلك وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيجيب صاحب التعريف فيقول أمنع قولك إن هذا التعريف غير جامع لأن المراد بالماء في التعريف المني الغالب نزوله و لم يرد به النادر الذي هو الخارج بدون لذة معتادة وهذا على قول من يقول إن الغسل لا يجب من خروج المني
$[1/31](1/27)
إلا إذا كان خارجا بلذة معتادة كمالك وأصحابه ومن وافقهم ومثاله في عدم المنع أن يعرف ذا الخف الذي تجوز المسابقة عليه بِجُعل بأنه الإِبل خاصة فيقول خصمه هذا التعريف غير مانع لأن ذا الخف يدخل فيه الفيل وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أمنع قولك أنه غير مانع لأني أردت بذي الخف النوع الغالب المتعارف و لم أرد الفرد النادر الذي يندر ركوبه ولا يكاد يخطر بالبال وهو القيل واعلم أن مثالنا هذا لا يعترض بدعوى كون هذه التعريفات من قبيل اللفظي وأكثرهم لا يشترطون فيه الجمع والمنع لأنا نقول هي من قبيل التعريف بالرسم لأنها عرفت بخواص لتلك الأشياء ولو سلمنا أنها لفظية فالمثال يكفي فيه وروده على قول لو غير قوي بل يكفي فيه الفرض والاحتمال كما هو معروف قال صاحب مراقي السعود :
والشأن لا يعترض المثال … إذ قد كفى الفرض والاحتمال
وكلا المثالين المذكورين جواب بتحرير المراد من المعرَف بالفتح الأول عن عدم الجمع ، والثاني عن عدم المنع وضابط تحرير المراد من المعرَف بالفتح هو تفسير صاحب التعريف الحقيقة المعرفة بمعنى يقصده هو أعم أو أخص من المعنى المتبادر منها ليكون بذلك المعرَف بالفتح مساويا للمعرِف بالكسر .
النوع الثاني تحرير المراد من بعض أجزاء التعريف وضابطه تفسير صاحب التعريف بعض أجزائه بمعنى يقصده هو أعم أو أخص من المعنى المتبادر منه ليكون المعرف والمعرف متساويين ومثاله في الاعتراض بعدم الجمع تعريف الحيوان بأنه الجسم النامي الحساس المفكر فيقول المستدل هذا التعريف غير جامع لأن قيد المفكر مخرج غير المفكر كالفرس والبغل مثلا مع دخولهما في الحيوان وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أمنع قولك أن هذا التعريف غير جامع ويفسر المفكر بأن مراده به المتحرك بالإرادة لأنه فكر في الحركة وأرادها ففعلها والمفكر على هذا التفسير شامل لجميع أنواع الحيوان
$[1/32](1/28)
فهو جواب عن عدم الجمع بتحرير المراد من بعض أجزاء التعريف ومثال الجواب عن عدم المنع بتحرير المراد من بعض أجزاء التعريف أن يقال في تعريف الإنسان هو حيوان منتصب القامة يمشي على اثنين لا ريش له فيقول المستدل هذا التعريف غير مانع من الديك مثلا إذا نزع ريشه كان حيوانا منتصب القامة يمشي على اثنين لا ريش له وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أمنع قولك أن هذا التعريف غير مانع لأني أردت بقولي لا ريش له كونه لا ينبت له ريش أصلا وهو بذلك المعنى مانع من دخول منزوع الريش من الطير .
النوع الثالث تحرير المراد من المذهب العلمي الذي بني عليه المعرف تعريفه كتعريف الورد بأنه زهر فيقول المستدل هذا التعريف غير مانع لدخول غير الورد من الأزهار وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيقول صاحب التعريف إنما بنيت تعريفي على مذهب من لا يشترط في التعريف اللفظي المنع لا على مذهب من يشترط ذلك ، وكتعريف الطيب بأنه مسك فيقول المستدل هذا غير جامع لأنه لا يشمل غير المسك من أنواع الطيب وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أيضا امنع ذلك لأني بنيته على مذهب من لا يشترط الجمع في اللفظي لا علي مذهب من يشترطه .
النوع الرابع تحرير المراد من نوع التعريف وهو يكون في اعتراض المعترض على التعريف متوهما كونه حقيقيا أو اسميا في حال كونه لفظياً أو متوهما كونه حداً تاما وهو ناقص أو كونه حقيقيا وهو اسمي وضابط هذا النوع أن يبين صاحب التعريف النوع الذي أراده من تعريفه كأن يعرف الإنسان بأنه منتصب القامة يمشي على اثنين فيظن خصمه أن هذا التعريف حقيقي وأنه رسم فيعترض عليه بأنه غير مانع من دخول الطير وكل تعريف كان كذلك فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أمنع كون هذا التعريف حقيقيا وإنما هو لفظي واللفظي لا يشترط فيه المنع وقد اتضح في الأنواع الأربعة أن تحرير المراد من المعرَف بالفتح
$[1/33](1/29)
ومن بعض أجزاء التعريف كلاهما راجع إلى منع الصغرى من دليل المعترض وأما تحرير المراد من المذهب العلمي ومن نوع التعريف فكلاهما راجع إلى منع كبراه كما لا يخفى على من فهم ما ذكرنا واعلم أن الاعتراض على التعريف يجاب عنه بأجوبة أخرى غير تحرير المراد المذكورة فإن اعترض عليه بأنه غير أظهر عن المعرَف بالفتح فالجواب بمنع ذلك استنادا إلى أن الظهور والخفاء نسبيان كأن تعرف البر تعريفا لفظيا بأنه الحنطة فيعترضه المعترض بأن الحنطة أخفى من البر وكل تعريف لم يكن فيه المعرِف بالكسر أظهر من المعرَف بالفتح فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أمنع قولك أن الحنطة أخفى من البر لأن بعض الناس أظهر عنده الحنطة من البر وهو الذي عنيت خطابه بتعريفي وإن اعترض على التعريف باستلزامه المحال كالدور السبقي فجواب صاحب التعريف بمنع الاستلزام المذكور مستندا في ذلك إلي انفكاك الجهة أو كون الدور المذكور غير محال كالدور المعي وقد تقدم بإيضاح الدور المعي ومثاله في المقدمة المنطقية فأغنى ذلك عن إعادته هنا وأما انفكاك الجهة فكتعريف الدلالة الوضعية اللفظية بأنها كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه معناه بعد العلم بوضع اللفظ فيقول المعترض هذا التعريف مستلزم للمحال وهو الدور لأنه جعل فيه فهم المعنى متوقفا على العلم بالوضع ومعلوم أن العلم بالوضع يتوقف على فهم المعنى . وكل تعريف استلزم الدور فهو فاسد فيقول صاحب التعريف أمنع كون هذا التعريف مستلزما للدور المحال لأن فهم المعنى من اللفظ متوقف على العلم بتعيين عين ذلك اللفظ لعين ذلك المعنى وأما العلم بوضع اللفظ للمعنى فهو متوقف على مطلق المعنى لا تعيينه فجهة توقف كل منهما على الآخر غير جهة توقف صاحبه عليه ومتى انفكت جهة توقف أحدهما عن جهة توقف الآخر لم يتحقق الدور .(1/30)
واعلم أن الاعتراض على التعريف إن كان من جهة اختلال بعض شروط حسنه فله أجوبة أخرى غير ما ذكرنا فإن قال المعترض هذا التعريف فيه لفظة
$[1/34]
كذا وهى غلط وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن فلصاحب التعريف عن ذلك جوابان الأول منع كون ذلك اللفظ غلطاً لجريانه على بعض المذاهب النحوية ، والثاني القول بموجبه بأن يقول سلمنا أن ذلك اللفظ غلط ولكنه لا تتوقف عليه صحة التعريف وأنا لا يلزمني إلا صحة التعريف فلم أعتد إلا بالذي لابد منه وهو صحة تعريفي وإن اعترض على التعريف بأن فيه لفظة كذا يراد بها كذا وهو معنى مجازي وليس ثم قرينة تعين المراد وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن فلصاحب التعريف عن ذلك جوابان أيضا الأول أن يدعي أن ذلك اللفظ المجازي صار حقيقة عرفية في المعنى المقصود ، والثاني أن يدعي أن ثم قرينة تبين المراد ولكن المعترض غفل عنها وإن قال هذا التعريف مشتمل على لفظ كذا وهو لفظ مشترك لوضعه لمعاني متعددة وليس هناك قرينة تعين المراد وكل تعريف كان كذلك فهو غير حسن فلصاحب التعريف عن ذلك ثلاثة أجوبة : -
الأول : أن يجيب بأن اللفظ المدعى أنه مشترك قد صار حقيقة عرفية في المعنى الذي يقصده دون غيره من المعاني .(1/31)
والثاني : أن يقول بموجبه فيقول سلمنا أنه مشترك ولكن عدم حسن استعمال المشترك في التعريف محله فيما لم تصح فيه إرادة كل معنى من معانيه وهنا تصح إرادة كل معنى من معانيه فلو تعدى اللصوص على رجل اسمه زيد في محل معين فعوروا عينه الباصرة وغوروا عينه الجارية واستلبوا عينه التي هي فضته وذهبه فقال قائل عرف لنا الشيء ، الذي تعدى عليه اللصوص في ذلك المحل المعين فقال المعرف هو عين زيد فاعترض عليه المعترض بأن العين لفظ مشترك فإنه يجيب بأن إطلاق العين في التعريف على كل واحد من الثلاثة صحيح لأن كله حق واللفظي لا يشترط فيه الجمع عند أكثر أهل هذا الفن والمشترك إن كان كذلك فلا مانع منه في التعريف وقد قدمنا أن إطلاق المجاز والمشترك دون قرينة تعين المراد في التعريفات يبطل التعريف عند المنطقيين
$[1/35]
فالسلامة من ذلك شرط صحة عندهم لا شرط في الحسن خلافا لأهل هذا الفن وقد قدمنا أن قول المنطقيين فيه أظهر . الثالث إثبات قرينة تعين المراد من المشترك ولكن المعترض لم ينتبه لها .
واعلم أن التعريف تتوجه إليه اعتراضات غير ما ذكرنا وكلها راجع في الحقيقة إلى الدعاوى الضمنية التي تضمنها التعريف كما قدمنا إيضاحه كأن يقول صاحب التعريف مثلا هذا التعريف حقيقي وهو حد تام . فإن كلامه هذا يستلزم الدعاوى الآتية : -(1/32)
الأولى : أنه بالجس والفصل القريبين ، والثانية : أن أجزاءه كلها ذاتية لا عرضية . فيعترض عليه بغير ما تقدم كأن يقول المعترض أجزاء تعريفك هذا ليست ذاتية بل هي عرضية أو بعضها عرضي وكأن يقول هذان الجزآن ليسا هما الجنس والقريبين وكأن يدعي أن لتلك الحقيقة حداً تاما غير ما ذكره لاستحالة إمكان حدين لحقيقة واحدة لأن الحد لا يكون بالفصل الذي هو المميز الذات وتعدده مستحيل لأن الفصل القريب لا يمكن تعدده لحقيقة واحدة كما هو معلوم في محله لأن تعدده يفضي إلى المستحيل وهو كون الحقيقة الواحدة في ذاتها حقيقتين متباينتين لأن كل جنس قريب إذا ذكر معه الفصل حصلت حقيقة الماهية لأنها مركبة عندهم من جنس وفصل كما تقدم إيضاحه فلو فرضنا تعدد الفصل القريب للماهية الواحدة لكان كل واحد من الفصلين مع الجنس حقيقة مستقلة غير الحقيقة الأخرى والمفروض أنها حقيقة واحدة فلا يمكن كونهما حقيقتين مختلفتين وتعدد الفصل يستلزم ذلك وما استلزم المحال فهو محال هكذا يقولون والعلم عند اللّه تعالى .
واعلم أن هذه الدعاوى المذكورة لا يقبل الاعتراض بها إلا بدليل ينتجها فلا تقبل من المعترض بدعواه المجردة عن الدليل فإن أقام الدليل على أحد أوجه الاعتراض المذكورة كان لصاحب التعريف أن يجيب عن دليله بالمنع سواء ذكر دليل المنع أو لم يذكره وسيأتي في الكلام على المنع إن شاء اللّه ما يزيد هذا
$[1/36](1/33)
إيضاحا فلو قال المعرف تعريفي الإنسان بأنه الحيوان الناطق حد تام فأجزاؤه ذاتية لأنها حد وفصل قريبان فقال المعترض لا أسلم أن الناطق مثلا ذاتي بدليل أن الضاحك غير ذاتي والناطق والضاحك لا فرق بينهما فيقول صاحب التعريف أمنع قولك أن الناطق غير ذاتي وأنه لا فرق بينه وبين الضاحك وإن شاء اقتصر على هذا المنع مجردا عن الدليل وإن شاء أقام عليه الدليل وأدلة الفرق بينهما قد قدمناها موضحة في المقدمة المنطقية ومثال إقامة الدليل على الفرق بينهما ببعض الفوارق التي قدمناها أن يقول لو رأيت إنسانا يضحك لكان لك أن تسأل عن سبب ضحكه فتقول له ما أضحكك بخلاف كون الإنسان ناطقا أي ذا قوة عاقلة مفكرة يقدر بها على إدراك العلوم والآراء فليس لك أن تقول له ما سبب كونك ناطقا كما تقدم إيضاحه .
$[1/37]
( فصل )
في تسمية طرفي المناظرة في التعريف
اعلم أن من علماء هذا الفن من يسمى ناقض التعريف المعترض عليه سائلا وموجهه المدافع عنه معللا وأكثرهم على أن ناقضه يسمى مستدلا وموجهه يسمى مانعا ولا مشاحة في الاصطلاح وهم يريدون بذلك أن الاعتراض على التعريف لا يتم بالدعوى مجردة بل لابد لمدعى فساد التعريف من إقامة الدليل على دعواه اختلال شرط من شروط صحته مثلا وبذلك يتجه كونه مستدلا ويقصدون بتسمية الآخر مانعا أن جوابه عن الاعتراض على تعريفه يكفي أن يكون بمنع مقدمة من مقدمات دليل البطلان سواء ذكر سندا لمنعه أو لم يذكره كما أشرنا إليه قريبا وبذلك يتجه كونه مانعا ونحو هذا يجري في توجيه تسمية طرفي المناظرة في التقسيم التي أشرنا لها سابقا والعلم عند اللّه تعالى .
( فصل )
في التصديق وبيان المناظرة فيه(1/34)
وقد قدمنا تعريف التصديق بإيضاح وذكرنا انقسامه إلى ضروري ونظري وبينا أمثلة ذلك في الاصطلاح المنطقي وهو عند أهل الفن ينقسم إلى تصديق بديهي وتصديق نظري ، والتصديق البديهي عندهم هو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال سواء كان محتاجا إلى تنبيه أو كان غير محتاج إليه والتصديق البديهي عندهم ينقسم بالتقسيم الأول إلى قسمين الأول البديهي الجلي والثاني البديهي الخفي والبديهي الجلي ينقسم عندهم إلى أربعة أقسام . الأول البديهي الأول وضابطه
$[1/38]
أن كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها بمجرد تصورهما أعني الموضوع والمحمول من غير احتياج إلى واسطة أصلا كقولك الواحد نصف الاثنين والكل أكبر من الجزء والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ونحو ذلك فإن مجرد تعقلك للواحد والنصف والاثنين وتعقلك للكل والعظم والجزء وتعقلك للنقيضين وللارتفاع والاجتماع يجعلك تحكم بثبوت المحمول للموضوع في الأمثلة الثلاثة المذكورة كما هو واضح من غير احتياج إلى شيء زائد .
القسم الثاني من أقسام البديهي الجلي هو ما يسمونه البديهي الجلي الفطري وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بعد تصورهما بواسطة قياس اقتراني طبيعي بمعنى أنه مركوز في طبيعة الإنسان لا يمكن أن يغيب عن ذهنه للزوم إدراكه لإدراك طرفي القضية كالحكم على الأربعة بأنها زوج لأنك إذا تصورت معنى الأربعة والزوجية لزم عقلا أن تدرك أنها عدد منقسم إلى متساويين وتدرك أن كل عدد منقسم إلى متساويين فهو زوج وصورة القياس الطبيعي المذكور أن تقول الأربعة عدد منقسم إلى متساويين وكل عدد كان كذلك فهو زوج ينتج من الشكل الأول الأربعة زوج وهذا القياس لا يغيب عن ذهنك وهذه النتيجة هي ما يسمى بالبديهي الجلي الفطري وقد قدمنا ما يزيد هذا إيضاحا في الكلام على أنواع الدلالة في مبحث اللزوم في الذهن والخارج معا .(1/35)
النوع الثالث من أنواع البديهي الجلي التجريبي وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بواسطة تجريب ومشاهدات متكررة مفيدة للعلم بأن هذا الوقوع المتكرر على نمط واحد من غير تخلف لابد له من سبب وإن لم يكن عالما بحقيقة هذا السبب وهذا القسم واضح ومن أمثلته قولك الماء يروى والخبز يشبع والنار محرقة والسقمونيا مسهل للصفراء والسكنجبيل مسكن لها وهكذا لأنها قضايا علمت بالتجريب وتكرر المشاهدة لترتب المسبب فيها على السبب فحصل الجزم بها بواسطة ذلك التكرر المذكور . الرابع من أنواع
$[1/39]
البديهي الجلي المشترك بين عامة الناس وهو نوعان الأول الحسي وهو كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها استنادا إلى إدراك الحواس الظاهرة كقولك الشمس مضيئة لأنك تدرك إضاءتها بحاسة عينك وقولك هذا الحرير لين لأنك تدرك لينه بحاسة لمسك وهذا الكلام واضح لأنك تدرك وضوحه بحاسة سمعك وهذه الأمثلة الإدراك فيها بالحواس الظاهرة والثاني من نوعيه الوجداني وهو الذي يسميه بعضهم بالمشاهدات وهو كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع استنادا إلى إدراك الحواس الباطنة كقولك اللذة عارض يعرض للإنسان والألم كذلك والفرح والخوف ونحو ذلك كذلك فإن الإنسان يدرك حصول اللذة والألم والفرح والخوف ونحو ذلك بحواسه الباطنة وأما البديهي الخفي فأشهر أنواعه اثنان : -(1/36)
الأول البديهي الخفي الحدسي وأصل الحدس الظن والتخمين وضابط البديهي الحدسي هو كل قضية يحكم فيها العقل بثبوت المحمول للموضوع استنادا إلى حدس قوي من النفس يزول معه الشك ويحصل به اليقين كقولك ارتفاع الماء في الأنهار سبب ارتفاع ماء الآبار التي ليست بعيدة من الأنهار وجرت عادة أهل هذا الفن وأهل فن المنطق بأنهم يمثلون للحدسيات بأن نور القمر مكتسب من نور الشمس قالوا لأن القرائن تقوي هذا الحدس حتى يصير يقينيا لأن نور القمر يشاهد كماله ونقصانه بحسب بعده من الشمس وقربه منها ويجزمون بناء على هذا بأن نوره مكتسب من نورها ونحن دائما نتوقى هذا المثال ونحوه تأدباً مع ظاهر القرآن في قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } وقوله : { وجعل القمر فيهن نوراً } وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحدسيات من الظنيات لا من اليقينيات وقال العلامة محمد بن الحسن البناني في شرحه لسلم الأخضري : والتحقيق أن الحدس عبارة عن الظفر عند الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة فلا حركة فيه وإلا كان فكرا فالانتقال في الحدس دفعي لا تدريجي عكس الفكر انتهى محل الغرض منه ومعنى
$[1/40](1/37)
كلامه أن الحدسيات لا يحتاج فيها إلى العلم بدليلها ثم الانتقال من علم الدليل إلى علم المدلول الذي هو الحدسيات لأنها من البديهيات لا من النظريات بل يكفي في إدراكها التأمل في الطرف المتكرر الذي هو الحد الأوسط كما تقدم إيضاحه فالحد الأوسط في المثال المتقدم كون ارتفاع ماء الأنهار سببا في ارتفاع ماء الآبار لأنك تقول ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار وكل سبب في شيء يوجد معه مسببه ينتج من الشكل الأول ارتفاع ماء الأنهار يوجد معه مسببه أي وهو ارتفاع ماء الآبار وهو المطلوب فإذا التفت إلى هذا المطلوب بالحد الوسط الذي هو كون هذا سببا في هذا حصل لك المطلوب دفعة من غير تدريج وهو معنى كان الانتقال فيه دفعيا لا تدريجيا واللّه تعالى أعلم . وقال بعضهم هو كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها بناء على محسوسات أخرى لا يحتاج العقل في ترتيب هذه عليها إلى نظر واستدلال وهو راجع لما ذكرنا .
النوع الثاني من نوعي البديهي الخفي هو البديهي المتواتر وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع استنادا إلى أخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة كقولك مدينة بغداد موجودة ودمشق موجودة وحقيقة التواتر وشروطه كل ذلك مبين في علوم الحديث وعلم الأصول فهذه الأقسام الستة هي أقسام التصديق البديهي الأربعة الأول منها من البديهي الجلي والأخيران من البديهي الخفي كما رأيت إيضاحه وهذه البديهيات الست تعرف باليقينيات ومذهب الأخضري وابن الحاجب ومن وافقهما أنها ست ولكن حذفوا منها النوع الفطري وجعلوا الحسي نوعين ما يدرك منه بالحواس الظاهرة جعلوه قسما مستقلا وسموه المحسوسات وما يدرك بالحواس الباطنة جعلوه قسما آخر مستقلا وسموه بالمشاهدات والوجدانيات وعلى ذلك درج الأخضري في سلمه في قوله :
أجلها البرهان ما ألف من …مقدمات باليقين تقترن
$[1/41]
من أوليات مشاهدات ……مجربات متواترات(1/38)
وحدسيات ومحسوسات ……فتلك جملة اليقينيات
ونبه بعض شروحه على أن الصواب هو التقسيم الذي ذكرنا وإذا عرفت أقسام التصديق البديهي وأن أربعة منها من النوع الجلي واثنين من النوع الخفي فاعلم أن النوع الآخر من نوعي التصديق هو التصديق النظري وقد قدمنا أن النظري هو ما يحتاج في إدراكه إلى تأمل وضابط التصديق النظري عند أهل هذا الفن هو كل قضية لا يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها إلا بعد النظر فيها والاستدلال عليها كقولك العالم حادث وخالقه أزلي بمعنى أنه لا أول لوجوده وقد عرفت مما مر أن التصديق ثلاثة أقسام الأول تصديق بديهي جلي والثاني تصديق بديهي خفي والثالث تصديق نظري . أما التصديق البديهي الجلي فليس محلا للمناظرة ولا يجوز لأحد اعتراضه بحال والمناقشة فيه تسمى مكابرة وهي غير مقبولة وصاحبها لا يريد الحق وإنما يريد الباطل كأن يرفع من شأن نفسه ويضع من شأن خصمه فإذا قال لك أحد الكل اكبر من الجزء والواحد نصف الاثنين أو الأربعة زوج أو الشمس مضيئة أو الماء يروي ونحو ذلك فليس لك المناقشة في شيء ، من ذلك بل يجب عليك تسليمه لأنه بديهي جلي وأما البديهي الخفي فلا يحتاج إلى دليل لأنه بديهي وإنما يحتاج إلى تنبيه . والتنبيه في الاصطلاح عندهم مركب يقصد به إزالة الخفاء لا الاستدلال ومثاله في الحدس القياس الاقتراني الذي ذكرناه في أن ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار وبينا أن البناني قال إن تأمل الحد الوسط فيه يكفي إدراك المطلوب ومثال التنبيه في المتواتر أن تقول وجود بغداد أخبر به عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وكل شيء ، أخبر به عدد كذلك فهو حق ينتج من الشكل الأول وجود بغداد حق وهذا القياس للتنبيه لا الاستدلال لأن من المعلوم أن ما أخبر به العدد المذكور فهو حق ولأن المتواترات من البديهيات ومثال الاستدلال على التصديق النظري قولك أنا مخلوق بعد أن كنت معدوما وكل
$[1/42](1/39)
مخلوق بعد أن كان معدوما فلابد له من خالق ينتج من الشكل الأول أنا لابد لي من خالق وقد علمت مما مر أن المناظرة في التصديق لا تكون إلا في نوعين لا ثالث لهما .
الأول : التصديق النظري وهو المحتاج إلى الدليل .
والثاني : التصديق البديهي الخفي وهو المحتاج إلى التنبيه وهذه تفاصيل طرق المناظرة فيهما .
اعلم أولاً أنك إذا ألقى إليك صاحب التصديق تصديقا نظريا أو تصديقا بديهيا خفيا فلكل واحد منهما حالتان : -
أما حالتا التصديق النظري فالأولى منهما أن يكون ألقاه إليك مجردا عن الدليل لأجل إيهام أنه من البديهيات التي لا تحتاج لدليل أو لغرض آخر والثانية أن يكون ألقاه إليك مقرونا بالدليل وهاتان هما حالتا البديهي الخفي لأنه تارة يلقيه إليك مجردا عن التنبيه لأجل إيهام أنه من الجليات أو لغرض آخر وتارة يلقيه إليك مقرونا بالتنبيه فالأقسام أربعة :
الأول تصور نظري مجرد عن الدليل الثاني تصور نظري مقرون بالدليل الثالث بديهي خفي مجرد عن التنبيه الرابع بديهي خفي مقرون بالتنبيه فإن كان ألقى إليك تصورا نظريا مجردا عن الدليل أو بديهيا خفيا مجردا عن التنبيه فليس لك في الاعتراض عليه إلا شيء واحد وهو المنع كأن تقول أمنع هذه الدعوى أو لا أسلم لك هذه الدعوى أو هذه الدعوى ممنوعة أو غير مسلمة ونحو ذلك ويكفيك الاقتصار على واحدة من تلك العبارات فيكون منعك هذا منعا مجردا عن السند وهو الأظهر عندي وقد قال غير واحد من أهل هذا الفن أنه لا مانع من أن تذكر مع المنع المذكور السند الذي استندت إليه في المنع فيكون منعك المذكور مقرونا بالسند والذي يظهر أن إتيانه بالسند في منع دعوى لم يقم صاحبها عليها دليلا أنه من أنواع الغصب والغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل
$[1/43](1/40)
هذا الفن وسيأتي في الكلام على الغصب أن السائل إذا عمد إلى دعوى غير مستدل عليها أو إلى مقدمة دليل لم يقم المعلل عليها دليلا فأقام دليلا على بطلان إحداهما أنه يكون غاصبا والغصب وظيفة غير مقبولة في هذا الفن ووجه كونه غاصبا ظاهر لأن الاستدلال لصاحب التصديق المحتاج إلى دليل أو تنبيه فإذا منعه السائل واستدل على منعه فقد غصب وظيفة المعلل التي هي الاستدلال واقتران المنع بسند استدلال بذلك السند على بطلان دعوى المعلل قبل أن يستدل عليها فكونه من قبيل الغصب ظاهر والظاهر أن من أجاز اقتران المنع المذكور بالسند من أهل هذا الفن يرى هذا النوع من الغصب جائزا كما لا يخفى ومثال في التصديق النظري أن تقول العالم كله حادث فيقول خصمك القائل بقدمه من الفلاسفة الضالين أمنع دعواك هذه ومثاله في البديهي الخفي أن تقول ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار فيقول خصمك أمنع هذه الدعوى أو لا أسلمها ونحو ذلك من العبارات المتقدمة وسيأتي إن شاء اللّه أوجه الجواب عن المنع المذكور مع أمثلة استدلال السائل على المنع الذي ذكرنا أنه من الغصب وإذا عرفت أن التصديق الذي لم يكن مقرونا بدليل إن كان نظريا أو بتنبيه إن كان بديهيا خفيا لا يصح الاعتراض على واحد منهما إلا بالمنع مجردا عن السند أو مع السند عند من يجيز ذلك فاعلم أن صاحب التصديق إذا ألقى إليك تصديقا نظريا مصحوبا بالدليل على صحته أو تصديقا بديهيا خفيا مصحوبا بتنبيه يزيل عنه الخفاء فلك في الاعتراض على صاحب التصديق حينئذ ثلاث طرق كل واحدة منها يجوز للسائل المناظرة بها والاعتراض على صاحب التصديق بها الطريق الأولى هي أن تمنع مقدمة معينة من مقدمات الدليل كأن تمنع صغراه فقط أو كبراه فقط وإن منعت الصغرى ومنعت الكبرى أيضا فهما منعان وهذا النوع الذي هو منع مقدمة معينة من الدليل هو أسلم وظائف السائل وأبعدها عن شائبة الغصب وهو المعروف بالمناقضة وإنما سمي مناقضة(1/41)
لاستلزامه الإبطال في بعض الموارد ويسمى أيضا بالنقض التفصيلي لتفصيل السائل في المنع
$[1/44]
بتبيين المقدمة الممنوعة ويسمى أيضاً بالمنع الحقيقي والممانعة فهذه كلها أسماء له عند أهل هذا الفن وقد قدمنا في المقدمة المنطقية أن المقدمة الصغرى في القياس الاقتراني هي المشتملة على الحد الأصغر وهو موضوع النتيجة دائما وأن المقدمة الكبرى فيه هي المشتملة على الحد الأكبر وهو محمول النتيجة دائما وأن المقدمة الكبرى في الاستثنائي هي الشرطية ، متصلة كانت أو منفصلة وأن الصغرى فيه هي الاستثنائية كما نقله ابن عرفة عن الفارابي وقد أوضحنا كل ذلك فيما تقدم وكثير من أهل هذا الفن يعبرون عن المنع بالمطالبة بالدليل والمطالبة به في الحقيقة كأنها منع ضمني وعلى كل حال فهي عندهم منع وبعضهم يعترض على تعريف المنع المذكور بالمطالبة بالدليل لأنه لا يشمل البديهي الخفي لأن صاحبه لا يطالب بدليل وإنما يطالب بتنبيه يزيل الخفاء كما عرفت مما تقدم ومثاله منع المقدمة الصغرى في هذه الطريق من طرق المناظرة في الاقتراني ما لو قال التفاح ربوي ثم أقام الدليل على هذا التصديق فقال كل تفاح مكيل وكل مكيل ربوي ينتج من الشكل الأول التفاح ربوي فيقول خصمه أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك كل تفاح مكيل ومثال منع الكبرى أن يقول الخيل السائمة تجب فيها الزكاة ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول الخيل السائمة مال وكل مال تجب فيه الزكاة ينتج من الشكل الأول الخيل السائمة تجب فيها الزكاة .(1/42)
فيقول خصمه أمنع كبرى دليلك هذا وهي قولك وكل مال تجب فيه الزكاة ومثاله في الاستثنائي أن يريد إثبات أن هذا إنسان فيقول لو كان هذا حيوانا لكان إنسانا لكنه حيوان ينتج فهو إنسان فيقول خصمه أمنع المقدمة الكبرى من دليلك هذا وهي الشرطية أعني قولك لو كان هذا حيوانا لكان إنسانا ومثال منع الصغرى في القياس الاستثنائي أن يريد إثبات أن الذرة ليست بربوية . فيقول لو كانت الذرة ربوية لكانت مكيلة لكنها غير مكيلة ينتج فهي غير ربوية فيقول خصمه أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك لكنها غير مكيلة ومثاله في التنبيه أن يقول صاحب التصديق حرمة الحمر الأهلية قطعية . ثم يقيم الدليل على ذلك
$[1/45](1/43)
فيقول : حرمتها أخبر بها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب وكل حرمة أخبر بها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب فهي قطعية ينتج من الشكل الأول حرمة الحمر الأهلية قطعية فيقول خصمه أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك أن حرمتها أخبر بها عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب واعلم أنا لا نطيل الكلام على التنبيه لقلة الفائدة فيه لأن البديهي لا يحتاج في أصل ثبوته إلى دليل وإنما يحتاج لتنبيه يزيل عنه الخفاء ولا يتوجه إليه منع حقيقي صادق في نفس الأمر إلا إذا كان صاحبه جاء به على غير وجهه كالمثال الذي ذكرنا وإنما ذكرناه على غير وجهه لنوضح مثال ورود المنع عليه والمثال لا يعترض كما تقدم وستأتي إن شاء اللّه فيما يأتي بأمثلة للتنبيه والاستدلال صحيحة يكون المنع الوارد عليها باطلا لنوضح وجه بطلانه وقد قال الجرجاني في رسالته في البحث والمناظرة ما نصه وأما التنبيه فيتوجه عليه ذلك ولا يكثر نفعه إذا لم يقصد به إثبات الدعوى فلا يقدح في ثبوته المستغني عن الإثبات بخلاف الاستدلال انتهى منها وهو واضح وبناء على ذلك سنقلل الكلام في التنبيه ونبسطه في الاستدلال وهذه الأمثلة التي ذكرنا كلها أمثلة لمنع مقدمة معينة من دليل المعلل على تصديقه مع كون المنع المذكور مجردا عن السند . ومن المعلوم أن المنع المذكور للمقدمة المعينة تارة يكون مجردا عن السند وتارة يكون مقرونا بالسند ولا ينبغي أن يكون المنع المذكور مقرونا بالسند إلا بعد إقامة المعلل عليه الدليل فإن منعه السائل بالسند قبل استدلال المعلل فهو غصب . وقد قدمنا أن الغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل هذا الفن خلافا لمن أجازه من أهل هذا الفن ، كركن الدين أبي حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي الحنفي وهو أول من ميز هذا الفن عن غيره من العلوم وجعله فنا مستقلا على الكيفية التي يتناقلها أهله وهو يجيز الغصب المذكور هو ومن تبعه وأكثر أهل(1/44)
هذا الفن على أنه وظيفة غير مقبولة وهو الصواب لأن ارتكاب الغصب يصير السائل في منزلة المعلل كعكسه ، وهذا لا ينبغي في المناظرة وقد يقول صاحب
$[1/46]
السند إنه ليس من الغصب لأنه ليس بدليل مركب تام ويجاب بأنه دليل على المنع وإن حذف بعض مقدماته فلو قلت مثلا لم لا يجوز أن يكون كذا فكأنك قلت العقل يجوز خلاف الدعوى وكل دعوى يجوز العقل خلافها فليست بصحيحة إلا احتمالا . واحتمال الصحة لا يستلزم الصحة فمنعها بطلب الدليل عليها واضح أما إن أقام المعلل الدليل على إحدى مقدمتي دليله أو عليهما فمنعها منعا مقرونا بالسند الذي هو دليل المنع فهو مقبول جائز وإذا عرفت أن منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل قد يكون مجردا عند السند كما مثلنا وقد يكون مقرونا بالسند جوازاً اتفاقاً مع إقامة صاحبها الدليل عليها وقد يكون بدون إقامته الدليل عند من يجيز ذلك فاعلم أن السند في اصطلاح أهل هذا الفن هو ما يذكره السامع معتقدا انه يستلزم نقيض الدعوى التي يوجه إليها المنع وإيضاح ذاك أنه هو المستند الذي يستند إليه المانع في إبطال الدعوى الممنوعة ويسمى المستند وربما قيل له الشاهد واعلم أن السند المذكور قد تختلف تقسيماته باختلاف الاعتبارات فينقسم بالنظر إلى صورته التي يورد عليها إلى ثلاثة أقسام : الأول السند اللمي ويسمى الجوازي . والثاني السند القطعي . والثالث السند الحَلّي بالحاء المهملة المفتوحة ثم تشديد اللام بعدها ياء النسب .
أما اللمي فهو منسوب إلى لفظ لِم المركبة من لام الجر ، وما الاستفهامية المحذوف ألفها على القاعدة المشار إليها بقول ابن مالك في الخلاصة :
وما الاستفهام إن جرت حذف……ألفها وأَولها الها إن تقف(1/45)
وإنما نسب هذا النوع من السند إلى لِم لأنها تذكر فيه ، وضابط . هذا النوع من السند أن المانع يمنع مقدمة من دليل المعلل مثلا ويستند في ذاك المنع إلى أن الدليل فإن منعه السائل بالسند قبل استدلال المعلل فهو غصب وقد قدمنا أن الغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل هذا الفن خلافا لمن أجازه من أهل هذا الفن كركن الدين أبي حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي الحنفي وهو أول من ميز هذا الفن عن غيره من العلوم وجعله فنا مستقلا على الكيفية التي يتناقلها
$[1/47]
أهله وهو يجيز الغصب المذكور هو ومن تبعه وأكثر أهل هذا الفن على أنه وظيفة غير مقبولة وهو الصواب لأن ارتكاب الغصب يصير السائل في منزلة المعلل كعكسه وهذا لا ينبغي في المناظرة ، وقد يقول صاحب السند إنه ليس من الغصب ، لأنه ليس بدليل مركب تام . ويجاب بأنه دليل على المنع ، وإن حذف بعض مقدماته . فلو قلت مثلا : لم لا يجوز أن يكون كذا ، فكأنك قلت : العقل يجوز خلاف الدعوى ، وكل دعوى يجوز العقل خلافها ، فليست بصحيحة إلا احتمالا . واحتمال الصحة لا يستلزم الصحة ، فمنعها بطلب الدليل عليها واضح ، أما إن أقام المعلل الدليل على إحدى مقدمتي دليله أو عليهما فمنعها منعا مقرونا بالسند ، الذي هو دليل المنع ، فهو مقبول جائز . وإذا عرفت أن منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل قد يكون مجدا عن السند ، كما مثلنا ، وقد يكون مقرونا بالسند جوازا اتفاقا مع إقامة صاحبها الدليل عليها ، وقد يكون بدون إقامته الدليل عند من يجيز ذلك .(1/46)
فاعلم أن السند في اصطلاح أهل هذا الفن هو ما يذكره السامع معتقدا أنه يستلزم نقيض الدعوى التي يوجه إليها المنع ، وإيضاح ذلك أنه هو المستند الذي يستند إليه المانع في إبطال الدعوى الممنوعة ، ويسمى المستند ، وربما قيل له الشاهد . واعلم أن السند المذكور قد تختلف تقسيماته باختلاف الاعتبارات ، فينقسم بالنظر إلى صورته التي يورد عليها إلى ثلاثة أقسام : الأول : السند اللمي ويسمى الجوابي ، والثاني : السند القطعي ، والثالث : السند الحلي بالحاء المهملة المفتوحة ثم تشديد اللام بعدها ياء النسب . أما اللمي فهو منسوب إلى لفظ لم المركبة من لام الجر وما الاستفهامية المحذوف ألفها على القاعدة المشار إليها يقول ابن مالك في الخلاصة : وما في الاستفهام إن جر حذف ألفها وأولها الها إن تقف وإنما ن!! هذا النوع من السند إلى لم ، لأنها تذكر فيه . وضابط هذا النوع
$[1/48](1/47)
من السند أن المانع يمنع مقدمة من دليل المعلل مثلا ، ويستند في ذلك المنع إلى أن العقل يجيز أن يكون الأمر على خلاف ما ذكره المعلل ، وإذا كان العقل يجيز خلافه ، فلا يتعين هو مع تجويز خلافه ، لأن تطرق ذلك الاحتمال سند في عدم نهوض ذلك الاستدلال ، ولهذا كان اللمي يسمى الجوازي لما ذكرنا . ومن أمثلته أن يقول المعلل صاحب التصديق : ذلك الشبح إنسان ، ثم يقيم الدليل على هذا التصديق ، فيقول : لأنه ناطق ، وكل ناطق إنسان . ينتج من الشكل الأول هو أن الشبح المذكور إنسان وهذا هو عين التصديق المدعى الذي أقيم عليه الدليل فيمنع السائل صغرى هذا القياس الاقتراني التي هي هو ، أي الشبح المذكور ناطق . ويقرن هذا المنع بالسند اللمي المقتضي جواز كون ذلك الشبح غير ناطق فيقول لا نسلم أن ذلك الشبح ناطق ، وهذا هو معنى منعه صغرى الدليل ، ثم يأتي بالسند اللمي فيقول مثلا : لم لا يكون حجرا ؟ أو يقول : لم لا يجوز أن يكون غير ضاحك ؟ أو . . لم لا يجوز أن يكون غير ناطق ؟ وتجويز كونه حجرا سند لكونه غير ناطق ، وكذلك تجويز كونه غير ضاحك سند لكونه غير ناطق ، وكونه غير ناطق واضح أنه سند لمنع كونه ناطقا كما ترى . ومن أمثلته : أن يقول المعلل صاحب التصديق : هذا الإنسان وارث لهذا الإنسان قطعا ، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول : لأنه ابنه وكل ابن وارث لأبيه . ينتج من الشكل الأول هذا الابن وارث لأبيه وهو عين التصديق المدعى الذي أقيم عليه دليل ، وهو كون هذا الإنسان الذي هو الابن وارثا لهذا الإنسان الذي هو الأب ، فيقول السائل : أمنع كبرى دليلك هذا وهي قولك : وكل ابن وارث لأبيه وهذا هو المنع ، ويقرن هذا المنع بالسند اللمي المقتضي جواز كون ذلك الابن لا يرث ذلك الأب فيقول مثلا : لم لا يجوز أن يكون الابن كافرا ؟ أو لم لا يجوز أن يكون عبدا ؟ أو لما لا يجوز أن يكون الأب كافرا ؟ أو لم لا يجوز أن يكون الأب عبدا ؟ وهكذا .(1/48)
وأما النوع الثاني : وهو السند القطعي فضابطه أن يكون السند المقرون بالمنع
$[1/49]
فيه التصريح القاطع من صاحب المنع المقترن بالسند بما ينافي دعوى المعلل التي أقام عليها الدليل من غير تعرض منه إلى بيان منشأ الغلط في الدعوى الممنوعة قائلا إن السند المذكور قد قطع العقل بصحته ، ومثاله أن يقول المعلل صاحب التصديق : ذلك الشبح ليس بإنسان ، ثم يقيم الدليل على ذلك ، فيقول : لأنه حجر ولا شيء ، من الحجر بإنسان . ينتج من الشكل الأول ذلك الشبح ليس بإنسان وهو عين التصديق الذي أقيم عليه الدليل ، فيقول السائل : أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك : لأنه أي الشبح المذكور حجر ويقرن هذا المنع بالسند القطعي فيقول كيف يكون الشبح المذكور حجرا وهو ناطق ، فقطعه بأنه ناطق ينافي دعوى المعلل التي أقام عليها الدليل وهي كون الشبح المذكور ليس بإنسان وذلك بمنعه صغرى الدليل منعا مقرونا بالسند القطعي ومن أمثلته أن يقول المعلل الحنفي صاحب التصديق : صوم رمضان يصح بنية قبل الزوال ، ثم يقيم الدليل على هذا التصديق فيقول : لأنه تكفي فيه النية قبل الزوال وكل صوم تكفي فيه النية قبل الزوال فهو صحيح ، فيقول السائل الشافعي أو المالكي أو الحنبلي أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك : لأنه تكفي فيه النية قبل الزوال ، ثم يقرن منع هذه الصغرى بالسند القطعي فيقول كيف تكفي فيه النية قبل الزوال ، وقد وقع الشروع فيه أولاً فاسدا لتجرده عن النية والأعمال بالنيات ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل . واعلم أن قصدنا دائما بالأمثلة التي اختلف فيها الأئمة مطلق المثال لفهم القاعدة وليس قصدنا مناقشة أدلة أقوالهم وترجيح الراجح منها بالدليل :
والشأن لا يعترض المثال …إذا قد كفى الفرض والاحتمال(1/49)
وأما النوع الثالث من أنواع السند الذي هو : السند الحلي وربما سموه الحل فضابطه أن يكون مراد السائل المانع تبيين منشأ غلط المعلل صاحب التصديق وتعيين موضع غلطه وإنما يورد هذا النوع الذي هو السند الحلي على مقدمة مبنية على الغلط بسبب اشتباه شيء بآخر ومثال أن يقول المعلل صاحب التصديق
$[1/50]
لا زكاة فيما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه وكل ما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه فلا زكاة فيه كالعروض فيقول السائل أمنع كبرى دليلك هذا وهي قولك وكل ما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه فلا زكاة فيه كالعروض ثم يقرنه بالسند الحلي فيقول إنما يصح ما ذكرت فيما لو كانت العروض لغير التجارة أما عروض التجارة فتجب فيها الزكاة وهي في الحقيقة واجبة في قيمتها من النقد فالمعلل قد اشتبهت عليه عروض التجارة بعروض القنية فنفى الزكاة عن الجميع ، والسائل بيّن بهذا السند الحلي منشأ غلطه وأنه اشتباه هذا بهذا وعين موضع الغلط وأنه غلط في عروض التجارة لاشتباههما عليه بعروض القنية وظنه أنهما سواء كما هو مذهب داود الظاهري ومن تبعه ومن أمثلته أن يقول المعلل ذلك الشبح ليس بإنسان ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه أي الشبح المذكور فرس ولا شيء من الفرس بإنسان ينتج من الشكل الأول ذلك الشبح ليس بإنسان فيقول السائل أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك لأنه فرس لأن محل ذلك فيما لو كان غير ناطق والحال أنه ناطق فقد اشتبه على المعلل شبح الإنسان بشبح الفرس فظن أن الإنسان فرس فأقام الدليل المذكور على ذلك فيبين السائل منشأ غلطه وأن اشتباه شبح الفرس عليه بشبح الإنسان وعين موضع غلطه وهو زعمه أن الإنسان فرس وهذا النوع الذي هو السند الحلي أكثر ما يقع بعد النقض الإجمالي الآتي تعريفه إن شاء اللّه تعالى وليس بلازم أن يذكر قبله النقض الإجمالي على كل حال ومثال المنع المقترن بسند في التنبيه أن يقول صاحب التنبيه ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار(1/50)
وكل سبب مستلزم مسببه ينتج من الشكل الأول ارتفاع ماء الأنهار مستلزم مسببه أي وهو ارتفاع ماء الآبار فيقول السائل أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار ثم يقرن منعه بالسند اللمي مثلا فيقول لم لا يجوز أن يكون ارتفاع ماء الآبار لسبب آخر غير ارتفاع ماء الأنهار وقد ذكرنا أنا نقلل الكلام على التنبيه لقلة الفائدة فيه ونبسطه على الاستدلال
$[1/51]
ومثال المنع بالسند اللمي في الاستثنائي أن يقول المعلل صاحب التصديق ذلك الشبح إنسان ثم يقيم على دعواه دليلا استثنائيا فيقول لو كان ذلك الشبح حيوانا لكان إنسانا لكنه حيوان ينتج فهو إنسان فيقول السائل أمنع كبرى دليلك هذا وهي الشرطية أعني قولك لو كان هذا حيوانا لكان إنسانا ويقرن منعه إياها بالسند اللمي فيقول لم لا يجوز أن يكون حيوانا فرسا ولم لا يجوز أن يكون حيوانا بغلا وهكذا ومثال المنع بالسند القطعي في الاستثنائي أن يقول المعلل صاحب التصديق ذلك الشبح ليس بإنسان ثم يقيم على دعواه دليلا استثنائيا فيقول لو كان ذلك الشبح إنسانا لكان حيوانا لكنه غير حيوان ينتج فهو غير إنسان فيقول السائل أمنع صغرى دليلك هذا وهي الاستثنائية أعني قولك لكنه غير حيوان كيف يكون غير حيوان والحال أنه ناطق ومثال ذلك في السند الحلي أن يقول صاحب التصديق العروض لا تجب فيها الزكاة ثم يقيم على ذلك دليلا استثنائيا فيقول لو كانت عروضا ما وجبت فيها الزكاة لكنها عروض ينتج لم تجب فيها الزكاة فيقول السائل محل ذلك لو كانت لغير التجارة إلى آخره .
تنبيهان :
الأول : اعلم أن المراد اللمي في مبحث السند ليس هو المراد باللمي في مبحث البرهان وإن كان كل واحد منهما منسوبا إلى لفظة ( لم ) . كما أوضحناه في السند اللمي وليس قسيم واحد منهما كقسيم الآخر أما قسيم اللمي في السند فقد علمت أنه القطعي والحلي .(1/51)
وأما البرهان فمن تقسيماته عندهم أنه ينقسم باعتبار كون الحد الوسط علة للنتيجة أو غير علة لها إلى قسمين : الأول : البرهان اللمي . والثاني : البرهان الإني وإنما قيل للبرهان لمي لأنك إن سألت فيه عن النتيجة بلفظة لِم كان الجواب بالحد الوسط ولذا سمي لميا وإذا كان الحد الوسط لا يمكن أن يكون جواباً للنتيجة المسؤول عنها بلم فهو البرهان الإني وإنما قيل له إني بالنسبة إلى إِنْ بالهمزة المكسورة والنون الساكنة لأنه يقال فيه إن كان كذا فهو كذا وإيضاحه بالمثال
$[1/52]
أنهم يقولون إن تعفن الأخلاط سبب في حصول الحمى فلو قلت هذا متعفن الأخلاط وكل متعفن الأخلاط فهو محموم فهو ينتج من الشكل الأول هذا محموم فإذا سألت عن هذه النتيجة بلم فقلت لم كان محموما فالجواب بالحد الأوسط وهو أن يقال لأنه متعفن الأخلاط والحد الوسط هنا الذي هو تعفن الأخلاط علة للنتيجة التي هي إصابة الحمى وأما إذا كان الحد الوسط لا يمكن أن يجاب به عن النتيجة المسئول عنها بلم لأنه ليس علتها فهو البرهان الإني كما لو قلت هذا محموم وكل محموم متعفن الأخلاط فإنه ينتج من الشكل الأول هذا متعفن الأخلاط ولو سألت عن هذه النتيجة بلم لم يصح الجواب بالحد الوسط فلو قلت لم كان متعفن الأخلاط فلا يصح أن تقول لأنه محموم لأن الحمى ليست علة لتعفن الأخلاط بل العكس وإنما قيل لنحو هذا برهان إني لأنك تقول وأنت صادق إن كان محموما فهو متعفن الأخلاط هكذا يقولون والعلم عند اللّه تعالى .(1/52)
التنبيه الثاني : اعلم أنه يجري على ألسنة أهل هذا الفن كثيرا نحو هذه العبارات كقولهم هذا الشبح ليس بضاحك ويقيمون الدليل على هذا التصديق السلبي بقولهم لأنه ليس بإنسان وكل ما ليس بإنسان ليس بضاحك فالشبح ليس بضاحك وهذا الدليل وإن أنتج المقصود الذي هو كون ذلك الشبح ليس بضاحك فإنما أنتج ذلك لخصوص المادة والدليل في حد ذاته باطل لأنه قياس اقتراني من الشكل الأول ومعلوم أنه يشترط لإنتاجه أن تكون صغراه موجبة وهذا الدليل المذكور صغراه سالبة وهي قولهم لأنه ليس بإنسان ولا يجوز الاستدلال بالشكل الأول في حال كون صغراه سالبة لاختلال شرط الإنتاج كما تقدم إيضاحه وإن أنتج المقصود في بعض الحالات لخصوص المادة فتنبه لذلك والخطب سهل لأن المثال يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره كما تقدم واعلم أن السند قد يقسم تقسيما آخر باعتبار آخر فهو ينقسم باعتبار نسبته إلى نقيض الدعوى الممنوعة في نفس الأمر لا بالنظر إلى اعتقاد المانع إلى ستة أقسام وسيأتي تفصيلها
$[1/53](1/53)
بأمثلتها واعلم أولاً أن ثلاثة من هذه الأقسام الستة هي محل المناظرة المقصود لأن السائل ينفعه الإتيان بها في إبطال دعوى المعلل والمعلل ينفعه الاشتغال بالرد عليها لأن إبطالها سبب لاستقامة دليله وواحد منها لا ينفع السائل إتيانه ولكن ينفع المعلل إبطاله واثنان منها لا فائدة فيهما للمعلل ولا للسائل فلا حاجة للإتيان بهما أصلا ولكنه قد يأتي بهما يظن فيهما فائدة والأمر بخلاف ما يظن وإذا علمت ذلك فالأول من الأقسام الستة المذكورة هو ما يكون فيه السند نفس نقيض الدعوى الممنوعة ومثاله أن يقول المعلل هذا إنسان ثم يستدل على هذا التصديق فيقول لأنه ناطق وكل ناطق إنسان ينتج هذا إنسان فيقول السائل امنع صغرى دليلك هذا وهي قولك لأنه ناطق ويجعل هذا المنع مقرونا بالسند اللمي فيقول لم لا يجوز أن يكون غير ناطق فالصغرى الممنوعة هو ناطق والسند جواز كونه غير ناطق وغير الناطق هو عين نقيض الناطق وهذا القسم من الأقسام الثلاثة التي ينفع السائل الإتيان بها وينفع المعلل إبطالها لما قدمنا من أن إثبات النقيض يلزمه نفي نقيضه كعكسه كما أوضحناه في القياس الشرطي المنفصل المركب من حقيقة مانعة جمع وخلو القسم الثاني منها هو ما يكون فيه السند مساويا لنقيض الدعوى الممنوعة ، ومثاله أن يقول المعلل هذه الدنانير زوج ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنها منقسمة إلى قسمين متساويين وكل منقسم إلى متساويين فهو زوج ينتج من الشكل الأول هي زوج فيقول السائل أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك أنها منقسمة إلى متساويين ثم يجعل هذا المنع مقرونا بالسند القطعي فيقول كيف تكون منقسمة إلى متساويين والحال أنها فرد فالصغرى الممنوعة هي كونها منقسمة إلى متساويين والسند الذي هو هي فرد مساو لنقيض كونها منقسمة إلى متساويين لأن نقيضه هي ليست منقسمة إلى متساويين والفرد مساو لهذا النقيض لأن كل ما لم ينقسم إلى متساويين فهو فرد كعكسه وهذا القسم أيضا ينفع السائل(1/54)
الإتيان به وينفع المعلل إبطاله لما أوضحناه في القياس الشرطي المنفصل المركب من الحقيقة المانعة للجمع والخلو
$[1/54]
معا والاستثنائية لأنا قدمنا أنها لا تتركب إلا من النقيضين أو من قضية ومساوي نقيضها ومساوي النقيض حكمه كحكم النقيض فثبوت مساوي النقيض يدل على نفي نقيضه كعكسه كما تقدم إيضاحه في القياس الشرطي المنفصل فإذا أثبت المانع مساوي نقيض الدعوى الممنوعة فقد أثبت بطلانها قطعا لأن إثبات مساوي النقيض يدل على انتفاء نقيضه الآخر وإبطال المعلل له ينفعه في عدم بطلان دليله كما هو واضح .(1/55)
القسم الثالث منها : هو ما يكون السند فيه أخص مطلقا من نقيض الدعوى الممنوعة ومثاله أن يقول ذلك الشبح ضاحك ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه إنسان وكل إنسان ضاحك ينتج من الشكل الأول هو أي الشبح المذكور ضاحك فيقول السائل أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك إن ذلك الشبح إنسان ثم يجعل هذا المنع مقرونا بالسند اللمي فيقول لا يجوز أن يكون فرسا فالمقدمة الممنوعة كون ذلك الشبح إنسانا ونقيضها ليس هو بإنسان والسند هنا هو جواز كونه فرسا وكونه فرسا أخص من نقيض كونه إنسانا لأن نقيضه ، غير إنسان ، وغير الإنسان صادق بالفرس ، وغيره فنقيض الدعوى الممنوعة أعم مطلقا والسند أخص منه مطلقا كما ترى وهذا القسم الثالث أيضا ينفع السائل الإتيان به لأن إثبات ما هو أخص من نقيض الدعوى يستلزم إثبات نقيض الدعوى ضرورة لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم فإذا أثبت السائل ما هو أخص من نقيض الدعوى لزم ثبوت نقيض الدعوى وإذا لزم ثبوت نقيضها تحقق انتفاؤها لاستحالة اجتماع النقيضين وقد أوضحنا أن ثبوت ما هو أخص من النقيض يستلزم ثبوت النقيض ، وثبوت النقيض يستلزم انتفاء نقيضه الآخر في الكلام علي القياس المركب من مانعة الجمع المجوزة للخلو ، لأنها لا تتركب إلا من قضية وأخص من نقيضها وثبوت كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر لما أوضحنا من أن ثبوت الأخص من النقيض يستلزم ثبوت النقيض إلى آخره .
$[1/55](1/56)
القسم الرابع منها : هو ما يكون السند فيه أعم من نقيض الدعوى الممنوعة ومثاله أن يقول المعلل : هذا الشبح حجر ، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول : لأنه غير ناطق وكل غير ناطق فهو حجر ينتج من الشكل الأول ، هو أي ذلك الشبح حجر فيقول السائل : أمنع صغري دليلك هذا وهي قولك لأنه غير ناطق ، ثم يجعل هذا المنع مقرونا بالسند القطعي فيقول : كيف يكون غير ناطق والحال أنه حيوان فالمقدمة الممنوعة هي غير ناطق ونقيضها هو ناطق والسند هو حيوان والحيوان الذي هو السند أعم مطلقا من الناطق الذي هو نقيض الدعوى الممنوعة . وهذا القسم الرابع لا ينتفع به السائل لأن إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص ولكن المعلل إذا نفى ذلك السند الذي هو أعم من نقيض الدعوى لزم انتفاء نقيض الدعوى لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص وانتفاء نقيض الدعوى يلزمه صحتها لأن النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في مبحث الضربين المنتجين من القياس الشرطي المتصل .(1/57)
القسم الخامس منها : هو ما يكون فيه السند أعم من نقيض الدعوى من وجه وأخص منه من وجه ومثاله أن يقول المعلل هذا الشبح متنفس ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول : لأنه إنسان وكل إنسان متنفس ينتج هو أي ذلك الشبح متنفس فيقول السائل : امنع صغرى دليلك هذا وهي قولك لأنه إنسان ثم يجعل هذا المنع مقرونا بالسند اللمي فيقول لم لا يجوز أن يكون أبيض فالمقدمة الممنوعة هي كونه إنسانا ونقيضيها ليس بإنسان والسند جواز كونه أبيض والأبيض وغير الإنسان بينهما عموم وخصوص من وجه يجتمعان في الثلج والعاج فكلاهما أبيض وكلاهما غير إنسان وينفرد غير الإنسان عن الأبيض في الغراب والفحم فكلاهما غير إنسان وليس واحد منهما بأبيض وينفرد الأبيض عن غير الإنسان في الإنسان الأبيض فهو إنسان أبيض وليس غير إنسان وهذا القسم لا فائدة في إثباته ولا نفيه للمعلل ولا للمستدل لأن الأعمين من وجه لا يقتضي وجود أحدهما نفي الآخر ولا عدمه ولا جوده فلا فائدة في الإتيان به في المناظرة أصلا .
$[1/56]
القسم السادس منها : هو ما يكون فيه السند مباينا لنقيض الدعوى الممنوعة ومثال أن يقول المعلل : هذا الشبح غير مفكر ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه غير إنسان وكل غير إنسان فهو غير مفكر ينتج من الشكل الأول هو أي ذلك الشبح غير مفكر فيقول : السائل أمنع صغرى دليلك هذا وهي قولك : لأنه غير إنسان ثم يجعل هذا المنع مقرونا بالسند فيقول محل كونه غير إنسان إذا كان حجرا فالمقدمة الممنوعة هي غير إنسان ونقيضها هو إنسان والسند هو إذا كان حجرا وكونه إنسانا وكونه حجرا متباينا لأن النسبة بين الإنسان والحجر التباين كما تقدم إيضاحه وهذا القسم السادس لا فائدة البتة في الإتيان به للمعلل ولا للمستدل كما لا يخفي .(1/58)
تنبيه : اعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الستة التي ذكرنا يجوز أن يؤتى به على الأوجه الثلاثة المتقدمة التي هي اللمي والقطعي والحلي ، وقد أوردنا من الأمثلة ما فيه كفاية .
( فصل )
في الأجوبة عن المنع
اعلم أن للمعلل وظائف في جوابه عن المنع الذي منع به السائل إحدى مقدمات دليله أو دعواه المجردة عن الدليل الأول من ذلك أن يقيم دليلا ينتج نفس الدعوى التي منعها السائل أو ينتج دعوى أخرى تساويها أو ينتج دعوى أخرى أخص منها مطلقا لأن إثبات مساوي الشيء إثبات له وإثبات الأخص يستلزم إثبات الأعم كما تقدم إيضاحه وهذا الجواب يصلح للرد على المنع المجرد والمصحوب بالسند جميعا ومثال إقامته الدليل على الدعوى المجردة التي منعها السائل أن يقول العالم حادث فيقول خصمه القائل بقدم العالم من الفلاسفة : أمنع دعواك هذه التي نص العالم حادث فيقيم المعلل الدليل عليها جوابا لمنع
$[1/57](1/59)
السائل فيقول العالم متغير بالانعدام ونحوه وكل متغير كذلك فهو حادث ينتج من الشكل الأول العالم حادث وهو عين الدعوى الممنوعة ومثال إنتاج الدليل ما يساوي الدعوى الممنوعة أن يقول كل ذرة من العالم فرض أنها لم تسبق بعدم فهي أزلية ، ولا شيء ، من الأزلي الوجودي بمنعدم ينتج من الشكل الأول لا شيء من ذرات العالم المفروض أنها لم تسبق بعدم بمنعدمة وهذه النتيجة كاذبة لأن جميع ذرات العالم تنعدم شيئا فشيئا كما هو مشاهد وإنما كذبت النتيجة لكون الصغرى مستحيلة ، ولكن قوله كل ذرة من العالم فرض أنها لم تسبق بعدم فهي أزلية لاستحالة وجود ذرة منه لم تسبق بعدم حتى تكون أزلية ، ومن المعلوم أن الأزلي الوجودي لا يعقل انعدامه إذ لو كان انعدامه جائزا لكان محتاجا في وجوده الأول إلى مخصص يخصص وجوده ويرجحه على عدمه المساوية عقلا أزلا فيكون حادثا لترجيح المخصص المذكور وجوده على عدمه والفرض أنه أزلي واستحالة الصغرى التي هي كل ذرة من العالم فرض أنها لم تسبق بعدم ، فهي أزلية يلزمها صحة نقيضها وهي كل ذرة من ذرات العالم مسبوقة بعدم لتساوي ذراته لذاتها فهذه النتيجة مثال لإنتاج الدليل مساوي الدعوى الممنوعة لأنها مساوية لقولك : العالم حادث ومثال إنتاج الدليل ما هو أخص من الدعوى الممنوعة أن تكون مناقشة المتناظرين في موجهة بالإمكان فيمنع السائل جهتها التي هي الإمكان فيقيم المعلل الدليل على صحة توجيهها بالإطلاق لأن الإطلاق أخص من الإمكان فثبوت الإطلاق يلزمه ضرورة ثبوت الإمكان كما قال العلامة الشيخ المختار بن بونا الشنقيطي :
ونسبة ممكنة محققه ……ثبوت صدق عند صدق المطلقة(1/60)
وإيضاح هذا الكلام لمن لا يعرف مبحث الجهات في فن المنطق أن الموجهة بالإمكان هي ما لا يستحيل عقلا ثبوت موضوعها لمحمولها وإن كان غير ثابت له بالفعل ولا نطيل هنا الكلام بالفرق بين الإمكان العام والإمكان الخاص والموجهة بالإطلاق في الاصطلاح هي القضية التي اتصف موضوعها بمحمولها
$[1/58]
بالفعل إيجابا أو سلبا فقولك أبو لهب مؤمن بالإمكان الخاص صادق لأن اتصافه بالإيمان ليس بمستحيل عقلا ولو كان مستحيلا عقلا لما كلف به بخلاف ما لو قلت أبو لهب مؤمن بالإطلاق أي بالفعل فهو كذب بل كفر لتكذيبه نص القرآن العظيم . وإذا علمت ذلك علمت أن ثبوت الإطلاق يستلزم ثبوت الإمكان بلا عكس .
$[1/59]
موضع المناظرة
في رؤية اللّه تعالى(1/61)
وإذا علمت ذلك فاعلم أن المناظرة بين أهل السنة والجماعة القائلين برؤية اللّه جل وعلا بالأبصار يوم القيامة وبين المعتزلة المانعين لذلك إنما هي في جهة الإمكان إنما فالمعتزلة يقولون : إنها مستحيلة ولا تدخل في الإمكان أصلا . وأهل السنة يقولون : هي ممكنة وطلب موسى لها في قوله : { رب أني أنظر إليك } دليل على إمكانها لأن نبي اللّه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يجهل المستحيل في حق اللّه تعالى ولا يلتبس عليه بالممكن حتى يسأله ، وإذا علمت أن المناظرة في الإمكان علمت أن المعلل إذا أقام دليلا ينتج الإطلاق الذي هو الوقوع الفعلي الذي هو أخص قطعا من الإمكان فكأنه أقام الدليل على الإمكان لأن وجود الأخص يستلزم وجود الأعم وإذا علمت ذلك فاعلم أن صورة استدلاله على ذلك أن يقول اللّه أثبت في كتابه وقوع الرؤية بالفعل في قول : { وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة } فصح بنظرها إلى ربها بالفعل يوم القيامة وكل ما أثبته اللّه في كتابه فهو حق صحيح ينتج من الشكل الأول الرؤية حق صحيح ، وهذه النتيجة أخص من الدعوى الممنوعة التي هي الإمكان فافهمه لأنه لا يقع بالفعل إلا ما هو ممكن الوقوع ومن المعلوم بالضرورة أن المستحيل وقوعه عقلا لا يقع بالفعل ، كما لا يخفي ومناقشة استدلال المعتزلة ببعض الآيات كقوله تعالى : { لا تدكه الأبصار } وقوله : { لن تراني } ونحو ذلك قد بينا بطلانها في غير هذا الموضع ومقصودنا هنا مطلق المثال .
الوجه الثاني : من وظائف المعلل في جوابه عن منع السائل إحدى مقدمات دليله أو دعواه المجردة هو أن يبطل السند الذي استند إليه السائل في المنع المذكور
$[1/60](1/62)
وهذا الجواب خاص بالمنع المقترن بالسند لأن إبطاله السند يستلزم بطلان المنع لأن المنع مساو السند في نظر المانع دائما وإن كان في نفس الأمر قد يكون بخلاف ذلك كما بيناه في الأقسام الستة المذكورة آنفا وإبطال أحد المتساويين إبطال لمساويه الآخر كما هو معلوم وإذا ثبت بإبطال السند إبطال المنع فقد تحقق ثبوت نقيضه وهو الدعوى الممنوعة كما لا يخفى لأن النقيضين لا يرتفعان ومن أمثلة ذلك أن يقول المعلل صاحب التصديق : هذا الشبح إنسان ثم يقيم دليله على ذلك فيقول : لأنه ناطق وكل ناطق إنسان فيمنع السائل صغرى دليله بسند لمي فيقول : لا أسلم أن هذا الشبح ناطق لم لا يجوز أن يكون حجرا أو لا يجوز أن يكون غير ضاحك أو لم لا يجوز أن يكون غير ناطق ونحو ذلك فيقول المعلل : هذه التجويزات العقلية التي استندت إليها في منع صغرى دليلي كلها باطلة ولا يجوز شيء منها عقلا لأن ذلك الشبح كاتب قطعا وكل كاتب لا يجوز فيه شيء مما ذكرت عقلا ينتج من الشكل الأول ذلك الشبح لا يجوز فيه شيء مما ذكرت عقلا وإذا بطل هذا السند الجوازي بطل المنع كما تقدم إيضاحه قريبا .(1/63)
الوجه الثالث : من وظائف المعلل في جوابه عن المنع المذكور هو تحرير المراد من المدعَى باسم المفعول الممنوع كأن يقول المعلل : لا تجب الزكاة في العروض فيقول السائل : لا أسلم دعواك هذه فيجيب عن هذا المنع بتحرير المراد من المدعى فيقول : مرادي بالعروض التي لا تجب فيها الزكاة عروض القنية التي هي محل وفاق ولا أقصد عروض التجارة التي يقول جماهير أهل العلم بوجوب زكاتها فقد أجاب عن منع دعواه بتحريره مراده مما ادعاه وكذلك الجواب عن المنع المذكور بتحرير المراد من المقدمة الممنوعة كأنه يقول المعلل : هذا حيوان وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ ينتج من الشكل الأول هذا يحرك فكه الأسفل عند المضغ فيقول السائل أمنع كبرى دليلك هذا وهي قولك وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ لأن التمساح حيوان لا يحرك فكه الأسفل
$[1/61]
عند المضغ وإنما يحرك فكه الأعلى فيجيب المعلل عن منع هذه المقدمة بتحرير المراد منها فيقول : مرادي بقولي وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ أفراد الحيوان الظاهرة المشهورة المتعارفة عند العامة ولا أ قصد الفرد النادر الذي لا يكاد يخطر بالبال لقلة ملابسة أغلبية الناس له ملابسة تؤدي إلى معرفة شيء عنه فقد أجاب عن منع كبرى دليله بتحرير مراده منها .(1/64)
الوجه الرابع : من وظائف المعلل في جوابه عن المنع المذكور هو تحرير المراد من المذهب العلمي الذي يبني عليه الممنوع ومثاله أن يقول المعلل : تغريب الزاني البكر سنة زيادة على قوله تعالى : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وكل زيادة على النص فهي نسخ له ينتج من الشكل الأول تغريب الزاني البكر سنة نسخ لقوله : { فاجلدوا كل واحد منهما } الآية ومراده أن الآية متواترة وأحاديث التغريب أخبار آحاد والمتواتر عنده لا ينسخ بالآحاد فيمنع عنده التغريب لذلك فيقول السائل امنع كبرى دليلك هذا وهي قولك وكل زيادة على النص نسخ لأن محل ذاك فيما إذا نفت الزيادة شيئا أثبته النص أو أثبتت شيئا نفاه فإن كانت لم تنف ما أثبته النص ولم تثبت ما نفاه فإنها ليست بنسخ لأنها إنما رفعت البراءة الأصلية فقط ورفعها ليس بنسخ فيجيب المعلل عن منع كبرى دليله هذا بتحرير مراده من المذهب العلمي الذي بنى عليه الممنوع فيقول إني بنيت قولي : وكل زيادة على النص فهي نسخ على مذهب الإمام أبو حنيفة رحمه اللّه ولم أبنه على رأي من خالفه فقد أجاب عن منع كبرى دليله بتحرير المراد من المذهب العلمي الذي بناها عليه فهذه هي أجوبة المعلل عن المنع المجرد عن السند والمقرون به .
واعلم أنه لا ينفعه أن يمنع صحة ورود المنع ولا أن يمنع السند القطعي ولا أن يمنع صلاحية السند للاستناد إليه ولا ينفعه الاشتغال بالاعتراض على عبارة المنع بدعوى أنها مخالفة لقوانين العربية فإن اشتغل بشيء من ذلك ولم يجب بأحد الأجوبة التي بينا فقد أفحم ووجب انتقال الكلام إلى بحث آخر .
$[1/62]
( فصل )
في الغصب(1/65)
اعلم أن كل ما صح للسائل أن يمنعه فإن استدلاله عليه من الغصب . وإيضاحه أنا قد بينا فيما سبق أن كلا من المدعي الذي لم يقم عليه المعلل دليلا ومقدمة الدليل التي لم يقم عليها دليلا يجوز للسائل أن يمنعهما ويطلب الدليل على صحتهما فإن أقام السائل دليلا على بطلان واحد منهما قبل أن يقيم المعلل عليه دليلا فهو غاصب والغصب وظيفة غير مقبولة عند جماهير أهل هذا الفن .
والحاصل أن الغصب هو استدلال السائل على بطلان تصديق نظري لم يقم صاحبه عليه دليلا أو استدلاله على بطلان تصديق بديهي خفي لم يقم صاحبه عليه تنبيها .
( فصل )
في المكابرة
وهي في الاصطلاح المنازعة بين الخصمين لا لإظهار الصواب بل لإظهار الفضل والغلبة ومن أمثلتها أن يقول المعلل صاحب التصديق الكل أكبر من الجزء والواحد نصف الاثنين والأربعة زوج ، فيقول السائل : أمنع هذه الدعاوي أو واحدة منها فإن قال ذلك فهو مكابر والمكابرة وظيفة مردودة لا تسمع ولا تقبل كما لا يخفى ، ومن المكابرة منع التصديق النظري الذي أقام المعلل عليه دليلا صحيحا لا يمكن تطرق الخلل إليه بوجه من الوجوه وقد بينا سابقا أن
$[1/63]
التصديق النظري المجرد عن الدليل والتصديق البديهي الخفي المجرد عن التنبيه لا يجوز الاعتراض على واحد منهما إلا بالمنع فقط ، وأن التصديق النظري المصحوب بالدليل من المعلل والتصديق البديهي الخفي المصحوب بالتنبيه يجوز الاعتراض على كل واحد منهما بثلاث طرق كلها يصح الاعتراض بها وهي :
1 - المناقضة : وتسمى بالنقض التفصيلي والمنع الحقيقي والممانعة وهي منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل وهذه الطريق هي التي قدمنا الكلام عليها مستوفى ، وأوجه الجواب عن المنع فيها .
2 - الطريق الثانية : - النقض .
3 - الطريق الثالثة : المعارضة وسنوضح إن شاء اللّه تعالى الكلام على هاتين الطريقتين كما أوضحناه على الأولى التي هي المناقضة .
$[1/64]
( فصل )
في النقض وأحكامه(1/66)
يسمى النقض الإجمالي : اعلم أولاً أن النقض في اصطلاح أهل هذا الفن هو ادعاء السائل بطلان دليل المعلل مع إقامته الدليل على دعواه بطلانه وذلك إما بتخلف المدلول عن الدليل بمعنى أن الدليل يكون موجوداً والمدلول ليس بموجود فيكون الدليل جاريا على مدعى آخر غير المدعي الذي أقامه عليه المعلل أو بسبب استلزامه المحال كالدور السبقي والتسلسل المحال ونحو ذلك ولهم فيه تعاريف غير هذا وسيتضح لك ذلك في الكلام عليه في تطبيقه على القادح المسمى بالنقض عند أهل الأصول .
واعلم أن النقض لا يقبل إلا مقترنا بشاهد والمراد بالشاهد المذكور هو الدليل على صحة النقض فإن لم يذكر السائل مع النقيض الشاهد المذكور لم يقبل منه وقد عرفت من تعريفه أن الشاهد المذكور نوعان :
الأول : تخلف المدلول عن الدليل ، والثاني استلزامه المحال . فمثال تخلف المدلول عن الدليل أن يقول المعلل : المعتقد مذهب الفلاسفة في قدم العالم : العالم قديم ثم يقيم على ذلك الدليل في زعمه فيقول : لأنه أثر القديم وكل ما هو أثر القديم ، فهو قديم ينتج من الشكل الأول هو أي العالم قديم : فيقول السائل : هذا الدليل باطل لأنه يوجد مع عدم وجود مدلوله وقد يوجد مع مدعي آخر مقطوع بأنه غير حق كأن يقول الحوادث اليومية المتجددة في الدنيا حينا بعد حين أثر لقديم وكل ما هو أثر القديم فهو قديم ينتج من الشكل الأول الحوادث اليومية المتجددة في الدنيا حينا بعد حين قديمة مع أن حدوثها مشاهد مدرك بالحواس فهو يقيني ومقدمة الدليل المذكور الصغرى وهي كونها أثر القديم صحيحة فتعين أن قوله
$[1/65]
وكل ما هو أثر القديم فهو قديم باطل لأنه منقوض بالحوادث اليومية المتجددة بمرأى منا ومسمع ، ولا يلزم في النقض تعيين المقدمة التي منها الفساد وإنما عيناها في هذا المثال لأجل الإيضاح .(1/67)
والحاصل أنه يقول له دليلك الذي هو قولك وكل ما هو أثر القديم فهو قديم منقوض لأن الحوادث اليومية أثر القديم وليست بقديمة وإيضاح الإبطال بهذا النوع من النقض أن المدلول لازم للدليل وتخلف اللزوم عن الملزوم لا يمكن فلا يكون تخلف المدلول عن الدليل إلا لفساد فيه وسيأتي إن شاء اللّه تعالى كثير من أمثلة هذا النوع من النقض في تطبيقه على القادح المعروف في الأصول بالنقض .
ومثال النوع الثاني : من نوعي النقض وهو استلزام دليل المعلل المحال فقد مثل له بعضهم بأن يقول المعلل : الحد له تعريف ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول : لأنه تعريف وكل تعريف له تعريف ينتج من الشكل الأول الحد له تعريف فيقول السائل : هذا الدليل منقوض لاستلزامه المحال وهو التسلسل إلى غير نهاية لأن قولك وكل تعريف له تعريف يقتضي أنه كلما أتى بتعريف لزمه تعريفه بتعريف آخر إلى غير نهاية وهذا محال .
ووجه النقيض باستلزامه المحال أن الأمور المتحققة في الواقع لا تستلزم المحال . فاستلزام الدليل للمحال لا يكون إلا لعدم صحته في الواقع . ووجه استحالة التسلسل فيما ذكر أن كل تعريف من حيث هو معروف باسم المفعول محتاج إلى تعريف آخر وهكذا فإن احتاج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا إلى غير نهاية استحالت المعرفة ولم تمكن بوجه من الوجوه لأن التعريف الذي به حصولها محتاج إلى تعريف وهذا محتاج أيضا إليه إلى ما لا نهاية فلا تعقل معرفة تعريف منها بحال . ومثل بعضهم لاستحالته بالدور السبقي بأن يقول المعلل : الإنسان ابن بشر وكل ابن بشر بشر ينتج الإنسان بشر فيقول السائل : هذا منقوض
$[1/66](1/68)
باستلزامه المحال لأن لفظة بشر في الصغرى يتوقف إدراكها على لفظة بشر في الكبرى كعكسه فكل واحد منها يتوقف إدراكه على إدراك الآخر فيستحيل فهم المعنى لو فرض أنه لا طريق له يعرف بها إلا ما قاله المعلل في دليله ولا يخفى ما في هذا المثال وقد مثلنا للدور السبقي في المعرفات في المقدمة المنطقية وقد قدمنا أن المثال لا يعترض لأنه يكفي فيه الفرض والاحتمال .
أقسام النقض
واعلم أن النقض في اصطلاحهم ينقسم إلى قسمين الأول النقض الحقيقي والثاني النقض الشبيهي والأول الذي هو النقض الحقيقي ينقسم إلى قسمين أحدهما النقض المشهور والثاني النقض المكسور فتحصل أن أقسام النقض ثلاثة :
1 - الأول نقض مشهور .
2 - الثاني نقض مكسور .
3 - الثالث نقض شبيهي .
أما النقض الحقيقي المشهور فهو ما عرفناه آنفا ومثلنا له وضابطه أن السائل إذا أراد الاعتراض على دليل المعلل بالنقض جاء بدليل المعلل على نفس الهيئة التي أورده عليها صاحبه ولم يحذف منه شيئا فان حذف بعض الأوصاف وأجرى النقض على دليل المعلل في حال كونه حاذفاً بعض الأوصاف فهو النقض المكسور وتارة يكون الوصف المحذوف له فائدة بحيث أنه لو لم يحذفه لما صح له النقض وتارة يكون الوصف المحذوف لا فائدة فيه فوجوده كعدمه بالنسبة إلى صحة النقض وعدمها ومثال النقض المكسور بحذف بعض الأوصاف التي لها فائدة في عدم توجه النقض أن يقول المعلل : هذا يجب قتله قصاصا ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول : لأنه قاتل كفؤا عمدا عدوانا وكل قاتل كفؤا عمدا عدوانا يجب قتله قصاصا ينتج من الشكل الأول هذا يجب قتله قصاصا فيقول السائل دليلك هذا منقوض لأنه يوجد دون مدلوله فإن ولي الدم إذا مكنه
$[1/67](1/69)
السلطان من قاتل وليه فإنه يقتله عمدا وهذا القتل العمد لا قصاص فيه فقد وجد دليلك وهو القتل العمد لكفء مع تخلف القصاص وإنما كان هذا النوع من النقض المكسور لأنه حذف في نقضه بعض أوصاف دليل المعلل التي لها فائدة في عدم توجه النقض ولو لم يحذفها لما توجه نقضه وذلك هو الوصف بكون القتل عدواناً لأن قتل ولي الدم للجاني قصاصا ليس عدوانا وهذا النوع من النقض المكسور مردود غير مقبول فلا يجوز ارتكابه في المناظرة لكن السائل إذا ارتكبه أجاب عنه المعلل ببيان ما تركه السائل مع بيان أنه لو لم يتركه لما صح توجه نقضه إلى المعلل أما إن كان الوصف المحذوف لا فائدة فيه فحذفه لا بأس به ولا يؤثر في توجه النقض ومثال أن يقول المعلل : المعتقد مذهب الفلاسفة العالم قديم ثم يقيم دليله الباطل على ذلك فيقول : لأنه أثر القديم ومستند في وجوده إليه وكل ما هو كذلك فهو قديم ينتج من الشكل الأول العالم قديم فيقول السائل : دليلك هذا منقوض بالحوادث اليومية كما تقدم إيضاحه ويذكر دليله ويحذف لفظ ومستند في وجوده إليه لأن كونه مستندا في وجوده إليه لا فائدة في ذكره ولا ضرر في حذفه لأن كونه أثر القديم يغني عنه كما لا يخفى وهذا النوع من النقض المكسور مقبول لأن حذف ما لا فائدة فيه وذكره سيان ولا يخفى أن النقض الحقيقي الذي ذكرناه بأمثلته موردة دليل المعلل .(1/70)
وأما النقض الشبيهي فضابطه إبطال الدعوى بشهادة فساد مخصوص ككونها مخالفة لإجماع العلماء أو منافية لمذهب المعلل وهذا مورده الدعوى كما هو واضح ومثال كونها مخالفة لإجماع العلماء أن يقول المعلل : هذا العامل يعمل في مقابلة أن يعطي مالا لا يدري أيوجد ذلك المال أولاً يوجد أصلا وعلى تقدير وجوده فلا يدري أيكون قليلا أو كثيرا وهذا عين المعاوضة بما فيه غرر وكل عامل يعمل كذلك فمعاوضته فاسدة ينتج من الشكل الأول هذا العامل معاوضته فاسدة فيقول السائل : هذا الدليل منقوض بإجماع العلماء على تخلف مدلوله
$[1/68]
عنه في صورة شركة المضاربة المعروفة بالقراض فقد أجمع جميع العلماء فيها على أن الرجل يجوز له أن يدفع للعامل ما لا يعمل فيه بالتجارة على أن يكون للعامل نصف الربح أو ربعه أو ثلثه مثلا حسبما اتفقا عليه مع بقاء رأس المال ملكا لصاحبه ولا شيء للعامل في مقابلة عمله إلا ما يحصل من الربح مع أن الربح يجوز أن يحصل أو لا يحصل وعلى تقدير حصوله يجوز أن يكون قليلا أو كثيرا فقد أجمع العلماء على وجود ما استدل به المعلل على المنع مع إجماعهم على تخلف الحكم الذي هو المنع عنه في هذه الصورة فهذا نقض شبيهي لأن إبطال الدعوى فيه كان بشهادة فساد مخصوص وهو مخالفتها لإجماع العلماء في صورة النقض وإن أمكن صدقها في غيرها .(1/71)
واعلم أن الاعتراض بالنقض في قوة دليل مركب يحذف بعض مقدماته وصورته أن يقول مثلا : هذا الدليل تخلف عنه مدلوله وكل دليل كان كذلك فهو فاسد فهذا الدليل فاسدا أو يقول هذا الدليل مستلزم للمحال وكل دليل كان كذلك فهو فاسد فهذا الدليل فاسد فمثال كونها منافية لمذهب العلل قول الشافعي ومالك وغيرهما إن الزانية لا يحرم نكاحها واستدلوا على ذلك بأن قوله تعالى { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } الآية منسوخ بقوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } الآية ومعلوم أن هذا الناسخ المزعوم الذي هو آية { وأنكحوا الأيامى منكم } أعم من المنسوخ في محل النزاع وهو آية { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } لأن لفظ الأيامى صادق بالعفائف والزواني والذكور والإناث ومعلوم أن مذهب الشافعي ومالك أن الخاص لا ينسخ بالعام لأن الخاص عندهما يقضي على العام فيخصص عمومه سواء تأخر نزوله عنه أو تقدم كما هو مقرر في أُصولهما فيقول المعلل كالشافعي مثلا دليل تحريم نكاح الزانية الذي هو خاص منسوخ بدليل إباحته الذي هو عام وكل دليلين نسخ أحدهما الآخر فالحكم للناسخ منهما ينتج من الشكل الأول الحكم هنا لدليل الإباحة العام لأنه هو الناسخ فيقول السائل هذا الدليل منقوض لأن
$[1/69]
الناسخ فيه أعم من المنسوخ وذلك ينافي مذهبك لأنه لا يجوز فيه نسخ خاص بعام فقد نقض عليه دليله بتخلف الحكم عنه بمقتضى مذهب المعلل لأن ثبوت حكمه معه مناف لمذهب المعلل .
( فصل )
في الأجوبة عن النقض(1/72)
اعلم أنه لا يخفى على من فهم حقيقة النقض أن الجواب عنه في هذا الفن إما بمنع وجود تمام دليل الدعوى فيقول دليلها غير موجود على التمام ولو كان موجودا كذلك لما تخلف مدلوله عنه الثاني أن يمنع تخلف المدلول فيقول المدلول موجود غير متخلف وإما يمنع استلزام المحال أو يمنع كونه محالا أما الجوابان الأولان فسيأتي إيضاحهما بأمثلتهما إن شاء اللّه تعالى إيضاحا شافيا في الكلام على تطبيق النقض في القادح الأصولي المعروف بالنقض .
وأما الجواب عن النقض باستلزام الدليل المحال الذي هو منع استلزامه المحال فمن أمثلته أن يقول المعلل مثلا هذا الأمر الذي شرعت فيه ينبغي ابتداؤه بالبسملة ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه أمر ذو بال وكل أمر ذي بال ينبغي ابتداؤه بالبسملة ينتج من الشكل الأول هذا الأمر ينبغي ابتداؤه بالبسملة فيقول السائل هذا الدليل منقوض باستلزامه المحال وهو التسلسل لأن نفس البسملة أمر ذو بال ينبغي أن يصدر بالبسملة وهذه البسملة أيضا أمر ذو بال ينبغي تصديره بالبسملة وهكذا إلى غير نهاية وهو تسلسل ممنوع واستلزام الدليل له نقض له فيجيب المعلل عن هذا النقض بمنع استلزام الدليل للمحال ويستند في ذلك إلى المنع إلى أن البسملة نفسها مستثناة من حكم الدليل فيقول امنع استلزام هذا الدليل المحال لأن محل ذلك فيما لو كانت البسملة نفسها مع كونها
$[1/70](1/73)
من الأمور ذوات البال داخلة في عموم كل أمر ذي بال لكنها غير داخلة فيه بل مستثناة منه ومثال منع كونه محالا أن يقول المعلل : هذان الأمران يتوقف إدراك كل واحد منهما على إدراك الآخر وكل شيئين توقف إدراك كل واحد منهما على إدراك الآخر استحال إدراك أي واحد منهما لاستلزام ذلك للدور المحال فيقول السائل : دليلك هذا منقوض بالجوهر والعرض فإنهما أمران يتوقف إدراك كل واحد منهما على إدراك الآخر مع إمكان إدراكهما معا كما هو مشاهد والدور الذي استلزمه دليلك ليس محالا لأنه دور معي والمحال إنما هو الدور السبقي . وللمعلل بعد ورود النقض على دليله أن يثبت مدعاه بدليل آخر فيكون ذلك إفحاما من وجه وإظهارا للصواب من وجه .
( فصل )
في المعارضة
وهي الطريق الثالثة من الطرق الثلاث التي تقدم الكلام عليها . اعلم أولاً أن جميع طرق الاعتراض راجعة إلى شيئين وهما المنع والمعارضة وبعضهم ردها كلها إلى شيء واحد وهو المنع كما قال صاحب مراقي السعود :
وللمعارضة والمنع معا …أو الأخير الاعتراض راجعا
واعلم أن المعارضة في الاصطلاح هي إقامة الخصم الدليل المنتج نقيض الدعوى التي استدل عليها خصمه وأثبتها بدليله أو المنتج ما يساوي نقيضها أو ما هو أخص من نقيضها لأن إقامته الدليل المنتج أحد الأمور الثلاثة يلزمه إبطال دعوى خصمه لأنه إن ثبت نقيضها أو مساوي نقيضها أو أخص من نقيضها بدليل المعارض فقد تحقق بطلانها لاستحالة اجتماع النقيضين واستحالة اجتماع الشيء ، ومساوي نقيضه واستحالة اجتماع الشيء ، والأخص من نقيضه
$[1/71](1/74)
كما تقدم إيضاحه ومثال المعارضة بإثبات النقيض أن يقول المعلل : المعتقد مذهب الفلاسفة الباطل في قدم العالم . العالم قديم ثم يقيم الدليل في زعمه الباطل على دعواه فيقول لأنه أثر القديم وكل ما هو أثر القديم فهو قديم فهذا دليل على الدعوى نصبه المعلل لإثبات دعواه ينتج في زعمه العالم قديم فيقول السائل العالم غير قديم ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول : لأنه متغير بالانعدام ونحوه من أنواع التغير وكل ما هو كذلك فليس بقديم ينتج هو أي العالم ليس بقديم وهذه النتيجة عين نقيض دعوى المستدل التي نصب عليها دليله وهي قول العالم قديم لأن نقيض القديم ليس بقديم ومثال إنتاجه مساوي نقيض الدعوى التي استدل عليها المعلل أن يقال في هذا المثال الأخير العالم متغير بالانعدام ونحوه من أنواع التغير وكل ما هو كذلك فهو حادث ينتج العالم حادث والحادث مساو لنقيض القديم لأن نقيض القديم ليس بقديم والحادث مساو لليس بقديم كما لا يخفى ، ومثال إنتاجه ما هو أخص من نقيض الدعوى التي استدل عليها المعلل أن يقول المعلل المعتزلي المعتقد استحالة رؤية اللّه بالأبصار يوم القيامة ، رؤية اللّه بالأبصار يلزمها كثير من أنواع مشابهة الخلق وكل ما هو كذلك فهو مستحيل في حقه تعالى فينتج له دليله هذا الباطل باطلاً ، وهو قوله رؤية اللّه تعالى بالأبصار مستحيلة يعني لا تمكن عقلا فيقول السائل : المعارض رؤية اللّه تعالى بالأبصار يوم القيامة أخبر اللّه في كتابه ورسول في الأحاديث الصحيحة بأنها واقعة بالفعل وكل ما هو كذلك فهو حق صحيح ينتج رؤية اللّه تعالى بالفعل يوم القيامة حق صحيح وهذه النتيجة التي هي وقوع الرؤية بالفعل أخص من إمكانها الذي هو نقيض دعوى الخصم التي هي استحالتها كما قدمنا إيضاحه .
تقسيمات المعارضة
واعلم أن المعارضة عند أهل هذا الفن تختلف تقسيماتها باختلاف الاعتبارات
$[1/72](1/75)
فتنقسم باعتبار ما توجه إليه إلى قسمين : الأول يسمى المعارضة في الدليل ، والثاني يسمى المعارضة في العلة وتنقسم باعتبار مقارنة دليل المعارض بدليل المعلل إلى ثلاثة أقسام :
الأول المعارضة على سبيل القلب ، والثاني المعارضة بالمثل ، والثالث المعارضة بالغير ، وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة يكون معارضة في الدليل ويكون معارضة في العلة فالأقسام ستة من ضرب اثنين في ثلاثة .
واعلم أن أنواع المعارضة في العلة والمعارضة في الدليل سنوضحها إن شاء اللّه إيضاحا تاما في التطبيق على القادح المسمى في الأصول بالمعارضة ، ولذلك سنختصر القول فيهما هنا وبالمثال يتضح معنى ما ذكرناه .
المعارضة في العلة والمعارضة في الدليل
اعلم أنه لو قال المعلل مثلا العالم حادث فهذا التصديق دعوى فإن أقام الدليل على هذه الدعوى فقال لأنه متغير وكل متغير حادث ينتج العالم حادث فهذا دليل على هذه الدعوى ومشتمل على مقدمتين كل واحدة منهما في ذاتها دعوى فلو أراد المعلل أن يقيم دليلا على صغرى دليله هذا مثلا التي هي العالم متغير فقال لأنه لا يخلو عن الأكوان وكل ما لا يخلو عن الأكوان فهو متغير ينتج هو أي العالم متغير والأكوان في اصطلاح المتكلمين هي الحركة والسكون والافتراق والاجتماع فقد عرفت من هذا الكلام أنه ثلاث طبقات الطبقة الأولى الدعوى الأصلية التي هي العالم حادث والثانية هي الدليل على هذه الدعوى الذي هو لأنه متغير وكل متغير حادث والثالثة إقامة الدليل على صغرى هذا الدليل التي هي العالم متغير بأن يقول لأنه لا يخلو عن الأكوان وكل ما لا يخلو عنها فهو متغير فلو أقام السائل الدليل على إبطال الدعوى الأصلية وهي هنا
$[1/73](1/76)
العالم حادث فأثبت بدليله نقيضها أو مساوي نقيضها أو أخص من نقيضها سمي ذلك معارضة في الدليل لأنه عارض دليل إثباتها بدليل إبطالها ، وتسمى أيضا معارضة في المدعي ومعارضة في الحكم وإذا أقام السائل الدليل على إبطال المقدمة الصغرى سمي دليل الدعوى الأصلية التي هي في المثال المذكور العالم متغير وكان ذلك بعد إقامة المعلل الدليل على صحتها بقوله لأنه لا يخلو عن الأكوان إلخ . . . فأثبت بدليله نقيض تلك الصغرى أو ما يساويه أو ما هو أخص منه بعد الاستدلال عليها فإن ذلك يسمى معارضة في العلة ويقال له أيضا معارضة في المقدمة .
والحاصل أن المعارضة إن وجهت إلى الدعوى الأصلية المدلل عليها فهي المعارضة في الدليل ، وإن وجهت إلى إحدى مقدمات دليل الدعوى الأصلية فهي المعارضة في العلة وقد عرفت مما مر أن المعارضة لا توجه إلى إحدى مقدمات الدليل إلا إذا كانت تلك المقدمة قد استدل عليها لأنها إن لم تكن قد استدل عليها لا يتوجه إليها إلا المنع وتعد معارضتها حينئذ غصبا كما تقدم إيضاحه ، وقد علمت مما مر أن كل واحد من هذين القسمين ينقسم إلى ثلاثة أقسام : وهي المعارضة على سبيل القلب والمعارضة بالمثل والمعارضة بالغير وسنوضح إن شاء اللّه تعالى المعارضة على سبيل القلب وغيرها مع أمثلة متعددة فقهية في تطبيق المعارضة على القادح المعروف في الأصول بالمعارضة ولذلك سنختصر الكلام عليها هنا .
المعارضة على سبيل القلب
أما النوع الأول : الذي هو المعارضة على سبيل القلب فهو معارضة دليل المعلل بعين دليله وإيضاحه أن يقول له دليلك هذا ينتج نقيض دعواك فهو حجة عليك لا لك وسميت معارضة بالقلب لأنه قلب عليه دليله بعينه حجة عليه لا له ومعلوم
$[1/74](1/77)
أن ذلك يلزمه اتحاد الدليلين دليل المعلل ودليل المعارض شكلا وضربا مع اتحادهما في الحد الوسط إن كانا اقترانيين واتحادهما وضعا ورفعا مع اتحادهما في الجزء المكرر إن كانا استثنائيين ومثل له بعضهم بأن يقول المعلل المعتزلي المانع رؤية اللّه تعالى رؤية اللّه غير جائزة عقلاً ثم يقيم الدليل على ذلك في زعمه فيقول لأنها منفية بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وكل ما كان كذلك فليس بجائز عقلا ينتج في زعمه هي ليست بجائزة عقلا فيقول السائل المعارض رؤية اللّه جائزة عقلا لأنها منفية بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلا ينتج فهي جائزة عقلا فقد عارضه بنفي دليله وأثبت به نقيض دعواه ولا يخفى أن لكل من السائل والمعلل ملاحظة في الدليل غير ملاحظة الآخر فباختلاف ملاحظة السائل لملاحظة المعلل أمكنه أن يقلب عليه دليله ويستحيل قلب دليله عليه لا له مع اتحاد ملاحظاتهما لأن الدليل الواحد لا ينتج النقيضين من جهة واحدة كما لا يخفى لكنه قد ينتج نتيجتين متناقضتين باعتبارين مختلفين وإيضاحه في المثال المذكور أن المعتزلي لاحظ أن قوله لا تدركه الأبصار مقتضى لنفي رؤية الأبصار له مطلقا ولكن خصمه الذي قلب عليه دليله لاحظ في الآية ملاحظة أخرى وهي أن الآية إنما نفت الإدراك المشعر بالإحاطة فهي تدل على أن مطلق الرؤية بدون الإحاطة جائز عقلا ومن أمثلته الفقهية الآتية قول الشافعي : أن مسح الرأس في الوضوء يكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم المسح ولو كان الممسوح شعرات قليلة من الرأس ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه مسح وكل مسح يكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم المسح فيعارضه الحنفي القائل بأن أقل ما يجزي ، مسحه من الرأس في الوضوء الربع فيقول الحنفي المعارض مسح الرأس ركن من أركان الوضوء وكل ركن من أركان الوضوء لا يكفي فيه أقل ما يطلق عليه الاسم كغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين فلا يكفي(1/78)
في شيء من ذلك غسل أقل ما يطلق عليه اسم الغسل فيقلب الشافعي عليه دليله علي سبيل المعارضة بالقلب
$[1/75]
فيقول مسح الرأس ركن من أركان الوضوء وكل ركن من أركان الوضوء لا يكفي فيه الربع كالوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين فإنه لا يكفي في شيء من ذلك غسل الربع فتراه قلب عليه دليله وأبطل دعواه . أن الربع يجزئ دون أقل ما يطلق عليه الاسم بعين دليله .
المعارضة بالمثل
وأما النوع الثاني : وهو المعارضة بالمثل فضابطه أن يتحد دليل المعارض مع دليل المعلل في الصورة مع الاختلاف في المادة وذلك بأن يكون الدليلان من شكل واحد ككونهما معا من الشكل مع اختلافهما في الحد الوسط وغيره كالمقدمتين الصغرى والكبرى وكأن يكون الدليلان معا من الشرطي المتصل المستثنى فيه نقيض الثاني فيهما معا مثلا .
$[1/76]
المعارضة بالغير(1/79)
وأما النوع الثالث : وهو المعارضة بالغير فضابطه أن تختلف صورة دليل المعارض وصورة دليل المعلل كأن يكون دليل أحدهما من الشكل الأول ودليل الآخر من الشكل الثاني والثالث مثلا وكأن يكون دليل أحدهما اقترانيا ودليل الآخر استثنائيا ومثالهما معا بتقديم المعارضة بالغير ثم المعارضة بالمثل أن يقول المعلل المشترط للنية في الوضوء كالمالكي والشافعي والحنبلي . النية شرط في الوضوء ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأن الوضوء طهارة هي قربة غير معقولة المعنى وكل ما كان كذلك تجب فيه النية ينتج الوضوء تجب فيه النية فيقول السائل كالحنفي لو كانت الطهارة التي هي الوضوء تشترط فيها النية لكانت النية تشترط في طهارة الخبث التي هي إزالة النجاسة عن البدن والثوب مثلا لكنها لا تشترط في طهارة الخبث إجماعا ينتج فهي لا تشترط في طهارة الحدث لما قدمنا من أن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم فدليل المعلل من القياس الاقتراني ودليل المعارض من القياس الاستثنائي فهذه معارضة بالغير فيعارض المعلل الأول دليل المعارض بقياس استثنائي من نوعه فيقول لو كانت طهارة الحدث كطهارة الخبث لكان موجبها في محل موجبها لكن موجبها ليس في محل موجبها ينتج فهي ليست كطهارة الخبث وكونها ليست مثلها مبطل لدليل المعارض لأن مبناه على تماثلهما ومعنى كون موجبها بصيغة اسم المفعول في محل موجبها باسم الفاعل أن موجب طهارة الخبث في محل موجبها لأن الشيء الذي أوجبها هو التلبس بالخبث الذي هو النجاسة وموجبها هو الغسل لأن الخبث أوجب الغسل ولا يلزم إلا غسل عين المحل الذي فيها النجاسة فإن كانت النجاسة في اليد لم يلزم إلا غسل اليد ولا يلزم غسل الرجل فموجبها بالفتح وهو الغسل في محل موجبها بالكسر وهو الخبث بخلاف طهارة الحدث فإن موجبها بالفتح ليس
$[1/77](1/80)
في محل موجبها بالكسر فلو خرجت ريح منه فخروجها موجب للوضوء فالوضوء موجب باسم المفعول الذي ربما عبرنا عنه بالفتح وخروج الريح موجب للوضوء باسم الفاعل الذي ربما عبرنا عنه بالكسر ومحل الموجب بالكسر الدبر لأنه هو الذي خرجت منه الريح والموجب الذي هو الوضوء ليس في محل الدبر بل هو في الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين فكون موجب طهارة الخبث في محل موجبها يدل على أنها معقولة المعنى فلا تشترط لها النية وكون موجب طهارة الحدث في غير محل موجبها يدل على أنها ليست معقولة المعنى فشرط لها النية .
ومعارضة الدليل الثاني بالدليل الثالث في هذه الأمثلة مثال للمعارضة بالمثل لأن الدليل في كل منهما قياس استثنائي متصل استثنى فيه نقيض الثاني فأنتج نقيض المقدم كما ترى ومن أمثلة المعارضة بالمثل ما قدمناه من قول معتقد قدم العالم . العالم أثر القديم وكل ما هو أثر القديم فهو قديم ينتج في زعمه العالم قديم فيعارضه السائل بالمثل فيقول العالم متغير وكل متغير حادث ينتج العالم حادث فكل واحد من دليل المعلل ودليل المعارض اقتراني من الشكل الأول وإن اختلف فيهما الحد الوسط والمقدمتان كما أوضحناه .
( فصل )
في أجوبة المعلل عن المعارضة
اعلم أن السائل إذا عارض دليل المعلل بنوع من أنواع المعارضة التي بينا فللمعلل أن يجيب عن تلك المعارضة بواحد من ثلاثة أجوبة :
الأول : منها أن يمنع بعض مقدمات دليل المعارض التي لم يقم عليها المعارض دليلا بأن يطلب منه إثبات المقدمة بالدليل الدال على صحتها على نحو ما قدمنا
$[1/78]
في المنع .
الثاني : أن يبطل دليل المعارض بالنقض بأن يقول أن مدلوله متخلف عنه أو أنه مستلزم للمحال وقد قدمنا أنه يقال له النقض الإجمالي .(1/81)
والثالث : أن يثبت دعواه بدليل آخر غير الدليل الذي أورد السائل عليه المعارضة والأظهر أن هذا الأخير مقبول وأنه يفيد المعلل بجواز أن يكون هذا الدليل الأخير الذي أقامه المعلل بعد المعارضة أقوي من دليل المعارض ولأن دليله الأخير يقوي دليله الأول وقد يكون مجموعهما أقوى من دليل المعارض وإن كان دليل المعارض أقوى من كل واحد منهما بانفراده :
لا تخاصم بواحد أهل بيت …فضعيفان يغلبان قويا
خلافا لقوم من أهل هذا الفن منعوا هذا الوجه الأخير لأنه انتقال من حجة إلى حجة أخرى بعد إبطال الحجة الأولى والأول أظهر كما ذكرنا والعلم عند اللّه تعالى . ومثال منع بعض مقدمات دليل المعارض أن يقول المعلل العالم حادث ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه متغير بالانعدام والاجتماع والافتراق ونحو ذلك وكل ما كان كذلك فهو حادث ينتج هو أي العالم حادث فيعارضه الفلسفي الضال القائل بقدم العالم فيقول العالم قديم ثم يقيم الدليل على ذلك في زعمه الفاسد فيقول لأن وجود الخالق القديم علة في وجود العالم وكل شيء علة وجوده قديمه فهو قديم ينتج العالم قديم فيجيب المعلل عن دليل المعارض هذا بمنع الصغرى فيقول أمنع قولك وجود الخالق القديم علة لوجود العالم وأقم دليلا على ذلك ولن يقيمه أبدا ومثال إبطال دليل المعارض بالنقض هو ما قدمنا من أن المعلل السني يقول العالم حادث ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول لأنه متغير بالانعدام والاقتران والاجتماع ونحو ذلك وكل ما هو كذلك فهو حادث فالعالم حادث فيعارضه السائل الفلسفي فيقول العالم قديم ثم يقيم الدليل في زعمه الباطل على ذلك فيقول لأنه أثر القديم وكل ما هو أثر القديم فهو قديم فيجيب
$[1/79](1/82)
المعلل عن دليل المعارض هذا بالنقض الإجمالي فيقول هذا الدليل منقوض بالحوادث اليومية المشاهد تجددها لأنها أثر القديم وليست بقديمه فالدليل منقوض بتخلف مدلوله عنه كما تقدم إيضاحه ومثال إقامة المعلل دليلا آخر بعد المعارضة أن يقول المعلل السني العالم حادث لأنه متغير بأنواع التغير التي ذكرنا وكل ما كان كذلك فهو حادث فالعالم حادث فيقول المعارض الفلسفي الضال العالم قديم لأنه أثر القديم وكل ما هو أثر القديم فهو قديم فالعالم قديم فينتقل المعلل إلى دليل آخر يثبت به حدوث العالم غير دليله الأول فيقول كل العالم مخلوق لدخوله في عموم قول تعالى : { اللّه خالق كل شيء } وكل مخلوق فهو حادث ينتج كل العالم حادث .
تنبيه : اعلم أن ما يصدق عليه اسم المؤثر عند أهل الحق وأهل الباطل محصور في ثلاثة أقسام :
الأول : المؤثر بالاختيار وهذا هو المؤثر الحق وهو خالق السماوات والأرض جل وعلا إذ لا يقع أي شيء كائنا ما كان إلا بقدرته ومشيئته .
والثاني : المؤثر بالطبيعة عند الطبائعيين .
والثالث : المؤثر بالعلة وبرهان الحصر في الثلاثة أن المؤثر من حيث هو إما أن يصح منه ترك التأثير وإما لا فإن كان يصح منه ترك التأثير فهو المؤثر بالاختيار ووجه ذلك واضح لأنه لما صح منه التأثير وترك التأثير فقد اختار التأثير على تركه وإن كان لا يصح منه ترك التأثير فإما أن يتوقف تأثيره على وجود الشرط وانتفاء المانع وإما ألا يتوقف على شيء من ذلك فإن توقف تأثيره على وجود الشرط وانتفاء المانع فهو الذي يسمونه المؤثر بالطبيعة وهو عندهم كتأثير النار بالإحراق فإنها لا يصح منها تركه مع توقفه على وجود الشرط وهو إثارتها وإبرازها من كمونها الأصلي في الزناد مثلا وانتفاء المانع بأن يكون الملاقي لها قابلا للتأثير بالاحتراق لا إن كان من شأنه إبطالها وإطفاؤها كالماء وإن كان
$[1/80](1/83)
لا يتوقف تأثيره على وجود شرط ولا انتفاء مانع فهو الذي يسمونه المؤثر بالعلة وهو عندهم كتأثير حركة الإصبع في حركة الخاتم والفلاسفة يزعمون أن تأثير الخالق في خلقه بالعلة والمعلول لا يتأخر عن علته ومن هنا زعموا أن العالم قديم قبحهم اللّه ما أشد عماهم وطمس بصائرهم والحق الذي لا شك فيه أن المؤثر في الحقيقة هو المؤثر بالاختيار وهو خالق السماوات والأرض ومن فيهما وما بينهما وهو المسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ومن أعظم البراهين القرآنية على ذلك أن القرآن دل على أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام جعل هو والحطب في النار فأحرقت الحطب حتى صار رمادا من حرها في نفس الوقت التي هي فيه برد وسلام على إبراهيم لأن المؤثر الحق شاء تأثيرها في الحطب ولم يشأ تأثيرها في إبراهيم بل قال لها : { يا نار كوني بردا وسلاماً على إبراهيم } وقد بينا حكم الأسباب واستعمالها والتوكل على اللّه في سورة مريم وفي غيرها في كتابنا أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن والعلم عند اللّه تعالى .(1/84)
تنبيه : اعلم أنا مثلنا للدليل على حدوث العالم بالأمثلة التي رأيت ومرادنا فهم قواعد الأدلة مع علمنا بكثرة مناقشة الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام واختلاف طرقهم في إثبات حدوث العالم عقلا ومناقشة القائلين بقدم الهيولى التي هي مواد الأشياء وأصولها في حدوث العالم وكذلك مناقشة أرسطاطاليس وأتباعه في ذلك بادعاء قدم الأفلاك فلم نطل هنا الكلام بمناقشاتهم وبيان الباطل منها وكلامنا في هذه المذكرة مع المسلمين وكل مسلم يقنعه إقناعاً كاملاً أن تقول له كل العالم مخلوق لدخوله في عموم قوله تعالى : { اللّه خالق كل شيء } وكل مخلوق فهو حادث ينتج كل العالم حادث مع أن قوله تعالى : { اللّه خالق كل شيء } يغني عن دليل مركب يدل على ذلك فلو اقتضت الحال أن يكون كلامنا مع غير المسلمين لاضطررنا إلى بيان فساد الفاسد من تلك المناظرات وتصحيح الصحيح منها عن طريق المناظرة الصحيحة
$[1/81]
المستند فيه العقل إلى الوحي الصحيح ولا يتسع هذا المقام لذلك ونرجو اللّه التوفيق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل .
( فصل )
في ترتيب المناظرة في التصديق
حسبما تقدم متفرقا في هذه المذكرة لأن جمعه في محل واحد بعد تفرقه يعين طالب العلم على إدراكه بسرعة .
اعلم أولاً أنك إذا ألقي إليك تصديق ويقال له هنا الدعوى والمدعى فانظر في ألفاظه أولاً فإن كان في بعض ألفاظه إجمال أو غرابة فلك حينئذ الاستفسار وهو طلب تفسير اللفظ الذي فيه إجمال وغرابة أي تعيين المراد به .
ومثال ما فيه إجمال ما لو قال تؤخذ المين بالعين فإن لفظ العين فيه إجمال لصدقه على الباصرة والجارية وغيرهما .(1/85)
ومثال ما فيه غرابة أن يقول : من قتل بالزخيخ قتل به فالزخيخ وهو النار لفظ فيه غرابة وعلى المستفسر إثبات الإجمال والغرابة ويكفيه في إثبات الإجمال بيان احتمالين في اللفظ كما لو قال : يجب أخذ العين بالعين فقال المستفسر : ما مرادك بالعين فقال المعلل : ليس في كلامي إجمال حتى تستفسر عنه فيثبت المستفسر الإجمال بأن العين تطلق على الباصرة والجارية والنقد وغير ذلك وإذا أثبت المستفسر الاحتمال فجواب المعلل صاحب التصديق بأحد أمرين الأول منع تعدد الاحتمال كما لو قال المعلل يجوز لك أن تمنع الشرب من عينك فيقول المستفسر : ما مرادك بالعين فيقول المعلل : ليس في كلامي إجمال لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا فيقول المستفسر : أليس لفظ العين في كلامك مشتركا بين الباصرة والجارية وغيرهما فيقول المعلل : لفظ الشرب في كلامي قرينة تعين أن
$[1/82]
مرادي العين الجارية لا الباصرة ولا غيرها فلا يحتمل كلامي إلا معنى واحدا هو العين الجارية .(1/86)
الثاني ترجيح الاحتمال الذي قصده على غيره من الاحتمالات كأن يقول المعلل ذلك الشبح أسد فيقول المستفسر ما مرادك بالأسد فيقول لا إجمال في كلامي فيقول الآخر أليس الأسد يطلق على الحيوان المفترس وعلى الرجل الشجاع فيقول الآخر هو في الحيوان المفترس أظهر منه في الرجل الشجاع عند التجرد من القرائن وحمل اللفظ على الأظهر لازم لرجحانه على غيره وإذا كان المعلل معترفا بالغرابة أو الإجمال لزمه بيان مراده من كلامه وإذا كان لفظ صاحب التصديق ظاهر المعنى واضح الكلمات لا إجمال فيه ولا غرابة أو كان فيه إجمال أو غرابة وبينه صاحبه حتى صار واضح المعنى لا إشكال فيه من غرابة أو إجمال فعليه بعد هذه الخطوة أن ينظر في كلام المعلل صاحب التصديق هل هو ناقل لذلك التصديق عن غيره من كتاب أو راو أو هو آت به من تلقاء نفسه وفي حال كونه ناقلا له عن غيره هل هو ملتزم صحته أو ليس ملتزما لها فإن كان ناقلا ولم يلتزم صحة ما نقل فليس له أن يوجه إليه شيئا إلا المطالبة بتصحيح النقل ويلزمه حينئذ تصحيح نقله بإثباته ذلك بطريق من طرق الإثبات . وأما إن كان جاء بالتصديق من عند نفسه أو نقله والتزم صحته فعلى السائل أن يفعل كما يأتي وهو أن ينظر في ذلك التصديق هل هو بديهي أو نظري وإذا كان بديهيا فهل هو جلي أو خفي فإن وجد التصديق بديهيا جليا فعليه تسليمه والإذعان له وإن منعه فهو مكابر وإن وجد التصديق نظريا أو بديهيا خفيا فلينظر هل أقام صاحب التصديق البديهي الخفي عليه تنبيها أو لم يقمه عليه وهل أقام صاحب التصديق النظري عليه دليلا أو لم يقمه فإن كان صاحب النظري لم يقم عليه دليلا وصاحب البديهي الخفي لم يقم عليه تنبيها بل كلهما دعوى مجردة فليس للسائل إلا شيء واحد وهو منع الدعوى المذكورة وطلب الدليل عليها أو التنبيه وعلى صاحب الدعوى أن يأتي بالدليل في النظري أو التنبيه في البديهي الخفي فإن كان صاحب التصديق الذي هو الدعوى قد أقام عليه(1/87)
$[1/83]
دليلا إن كان نظريا أو تنبيها إن كان بديهيا خفيا فللسائل حينئذ أن يعترض بإحدى الوظائف الثلاث الموضحة سابقا وهي المنع وهو المناقضة والنقيض التفصيلي والنقض ويقال له النقض الإجمالي والمعارضة وقد تقدم إيضاح الجميع وأقسامه وأمثلته وعلى صاحب الدعوى بعد ورود أحد هذه الاعتراضات أن يجيب عنه وقد بينا أوجه جوابه عن كل واحد منها . والعلم عند اللّه تعالى .
( فصل )
في النقل
اعلم أن النقل هو أن تذكر كلاما لغيرك مع بيانك إسناده لمن نقلته عنه كقولك - قال مالك والشافعي إن النية شرط في صحة الوضوء وقال أبو حنيفة بعكس ذلك وسواء كان ذلك الكلام المنقول تصديقا كما مثلنا أو تعريفا أو تقسيما أو غير ذلك فإن التزم الناقل صحة ما نقل كأن يقول - وما قاله مالك والشافعي هو الصحيح في المثال المذكور أو عكس ذلك فهو مدع وهذا الذي قال دعوى فيجري فيه جميع ما ذكرناه في التصديق . وإن كان لم يلتزم صحة ما نقل فإن كان بديهيا أو مسلما عند الخصم أو معتبرا من ضروريات مذهبه لم يتوجه إليه شيء من الاعتراضات ولزم خصمه القبول والتسليم وإن كان ليس كذلك فلا يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل بطريق يثبت بها صحة ذلك النقل - وقد يسمى طلب تصحيح النقل منع الدعوى . وقد قدمنا في أول الكلام في البحث والمناظرة أن الصواب مطالبته تصحيح النقل خلافا لمن زعم أن النقل ليس محلا للمناظرة أصلا واختلف أهل هذا الفن في تصحيح النقل على القول به هل هو واجب أو مستحسن فقيل يجب وقيل يستحسن وقيل إن كان السائل جاهلا بصحة النقل وجب طلب تصحيحه وإن كان عالما بان النقل صحيح وأن الناقل صادق في نقله لم يجز له طلب التصحيح
$[1/84]
وهذا ظاهر .
( فصل )
في العبارة(1/88)
اعلم أن العبارة في اصطلاح أهل هذا الفن هي مطلق اللفظ الصادر من المتكلم سواء كان تعريفا أو تقسيما أو تصديقا أو دليلا أو غير ذلك . واعلم أن المناظرة تجري في العبارة فيتوجه على العبارة الإبطال بسبب أنها تخالف قاعدة من قواعد اللغة العربية كأن يقول السائل في قول ذي الرمة :
أمن دمنة جرت بها ذيلها الصبا… …لصيداه مهلا ماء عينيك سافح
أنه خطأ لمخالفته القاعدة العربية وهي أن مفسر الضمير يكون مذكورا قبل الضمير وهنا جاء بالضمير الذي هو ضمير الغائبة الواحدة في لفظة ذيلها قبل مفسره وهو لفظة الصبا لأن الأصل جرت الصبا ذيلها بها فيقول المجيب : هذا ليس مخالفا للقاعدة العربية لأن الفاعل وإن تأخر لفظا فهو متقدم رتبة فكأنه مذكور قبل الضمير لتقدمه في الرتبة كما قال ابن مالك في الخلاصة :
وشاع نحو خاف ربه عمر ……وشذ نحو أن نوره الشجر
وكأن يقول السائل في قول أبي الطيب المتنبي :
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ……ثم انثنيت وما شفيت نسيسا
أنه خطأ لأن فيه نداء اسم الإشارة في قوله - هذي برزت - بحرف محذوف ونداء أسماء الإشارة وأسماء الأجناس بأدوات محذوفة مخالف للقاعدة العربية فيقول المجيب - نداء أسماء الإشارة وأسماء الأجناس بحرف محذوف هو مذهب الكوفيين والمتنبي كوفي - كما قال ابن مالك في الخلاصة :
$[1/85]
وذاك في اسم الجنس والمشار له… ……قل ومن يمنعه فانصرعا ذله
وكأن ينصب المبتدأ بلكن المخففة فيبطله السائل بأنها إن خففت أهملت والنصب بها مخففة مخالف للقاعدة العربية - فيقول المجيب - هو جار على مذهب يونس وهو من أئمة العربية - كما قال الشيخ المختار بن بونة في ألفيته الحمراء :
لكن إن خففتها فأهملا ……ويونس مجوز أن تعملا(1/89)
وعن يونس أنه حكى ذلك عن العرب وبه قال الأخفش - وكأن يصوغ فعلي التعجب أو صيغة التفضيل من أفعل الرباعية - فيقول السائل : هذه العبارة غلط لمخالفتها القاعدة العربية وهي أن فعلي التعجب وصيغة التفضيل لا يصاغ شيء منهما إلا من الثلاثي - فيقول المجيب : ظاهر كلام سيبويه جواز صوغ كل ذلك من أفعل وهو مذهب أبي إسحاق وقال به ابن عصفور إن كانت همزة أفعل لغير النقل من اللزوم إلى التعدي مثلا - وكأن يقول - هذا يضرُب هذا بضم الراء في يضرب وهذا يكتِب بكسر التاء في يكتب - فيقول السائل العبارة خطأ لأن المشهور المستفيض عن العرب كسر راء يضرب وضم تاء يكتب - فيقول المجيب - ضم راء يضرب وكسر تاء يكتب جوازه جار على مذهب الإمام أبي الحسن بن عصفور وهو من أئمة اللغة العربية - وأمثال هذا كثيرة جدا . والظاهر أن مطلق السماع الذي يحفظ ولا يقاس عليه لا يصح للمجيب الجواب به على معترض العبارة كما لو جزم المضارع بلن أو بلو أو نصبه بلم أو أثبت نون الرفع مع الجازم أو الغاصب ونحو ذلك - كأن يقول هذه العبارة خطأ لأنك نصبت المضارع بلم - فيقول المجيب - ذلك مسموع عن العرب كقول الشاعر :
في أي يومي من الموت أفر ……أيوم لم يقدر أم يوم قدر
وقول الآخر :
في كل ما هم أمضى عزمه قدما …ولم يشاور في الأمر الذي فعلا
$[1/86]
وعليه القراءة الشاذة - ألم نشرح بالنصب وهو قول ابن الشجري - أو هذه العبارة خطأ لأنك جزمت فيها المضارع بأن أو بلن أو بلو - فيقول المجيب - : كل ذلك مسموع عن العرب - أما جزم المضارع بأن يفتح الهمزة وتخفيف النون فكقوله :
إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا ……تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب
وقد أجازه بعض الكوفيين . ونقله اللحياني عن بعض بني صباح من ضبه . وجزمه بلن كقول كثير :
أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم…… فلن تحل للعينين بعدك منظر
وقول الآخر :
لن يخب الآن من رجائك…… من حرك دون بابك الحلقة
وجزمه بلو كقول الآخر :(1/90)
تامت فؤادك لو يجزنك ما فعلت … إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
وقول الآخر :
لو يشأ طاربه ذو ميعه…… لاحق الآطال نهد ذو خصل
والظاهر أن المحل الذي يكون للمعلل فيه الجواب عن اعتراض العبارة لابد أن يكون مستندا فيه لقول إمام كما ذكرنا عن يونس وابن عصفور أو طائفة كما ذكرنا عن الكوفيين أو كونه مطردا أو لغة لبعض القبائل أو موافقا لقراءة سبعية مثلا - ومثال ما هو موافق للغة بعض العرب إهمال إن ورفع المضارع بعدها حملا على ما المصدرية كقوله :
أن تقرأن على أسماء ويحكما ……منى السلام ولا تشعرا أحدا
وإهمال لم ورفع المضارع بعدها حملا على ما النافية كقوله :
$[1/87]
لولا فوارس من نعم وأسرتهم…… يوم الصليقاء لم يوفون بالجار
ومثال الموافق لقراءة سبعية . العطف على ضمير خفض من غير إعادة الخافض كقراءة حمزة : { واتقوا اللّه الذي تساءلون به والأرحام } بخفض الأرحام معطوفا على الضمير المخفوض - وكالفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعول المضاف كقراءة ابن عامر : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاءهم } ببناء زين للمفعول ونصب أولادهم وخفض شركائهم على أن لفظة قتل مضاف وشركائهم مضاف إليه وأولادهم منصوب هو مفعول المضاف وقد حال بين المضاف والمضاف إليه :
فمثل هذه الأشياء يصح بها للمعلل الجواب عن فساد العبارة بمخالفتها للقواعد العربية - والظاهر أن مطلق السماع لا يصح أن يكون جوابا وأمثلة النوعين كثيرة جدا في كلام العرب ولكن لا نطيل الكلام بذلك زيادة على ما ذكرنا .
( فصل )
في المصادرة(1/91)
وهي في اصطلاح أهل هذا الفن جعل نتيجة الدليل هي إحدى مقدمات الدليل بتغيير في اللفظ يكون سبب لتوهم المغايرة بين النتيجة والمقدمة . كأن يقول - هذا أسد وكل أسد ليث - ينتج هذا ليث - وهذه النتيجة هي نفس الصغرى التي هي - هذا أسد إذ لا فرق بين - هذا أسد وهذا ليث لترادف الليث والأسد - وكأن يقول - هذه نقلة وكل نقلة حركة - ينتج هذه حركة - وهذه النتيجة هي صغرى الدليل التي هي هذه نقلة - لترادف النقلة والحركة - وينبغي اجتناب المصادرة في المناظرة لما فيها من الإبهام الذي
$[1/88]
بينا والمكابرة قد قدمنا معناها وأنها غير مقبولة .
( فصل )
في المعاندة
وهي في اصطلاح أهل هذا الفن المنازعة بين شخصين لا يفهم أحدهما كلام الآخر وهو يعلم فساد كلامه الذي تكلم به .
( فصل )
في المجادلة
وهي في اصطلاحهم المنازعة لا لإظهار الحق بل لإلزام الخصم وبعض أهل العلم يفصل في المجادلة فإن كان قصده بها ظهور الحق فهي كما ذكرنا آنفا - ويدل على التفصيل المذكور قوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } كما قدمنا الإشارة إليه ولا مشاحة في الاصطلاح .
( فصل )
في الجواب الجدلي
وهو عندهم ما يذكره المجيب وهو يعتقد بطلانه سواء كان باطلا في نفس الأمر أو غير باطل - والمنطقيون يقولون إن المراد بالحجة الجدلية إفحام الخصم أو إقناع القاصر عن الدليل كما هو معروف - والاستفسار قد قدمنا إيضاحه وأوجه الجواب فيه .
$[1/89]
( فصل )
في انتهاء المتانظرين
لا يخفى أنه لابد في المناقشة أن تنتهي بعجز أحدهما عن دفع دليل الآخر - فان كان العاجز هو السائل سمي ملزماً ، سمي عجزه إلزاماً - وإن كان العاجز هو المعلل سمي مفحماً وسمي عجزه إفحاماً .
$[1/90]
( فصل )
في آداب المتناظرين التي ينبغي أن يلتزماها :(1/92)
1 - فمنها : أن يتحرزا عن إطالة الكلام في غير فائدة وعن اختصاره اختصارا يخل بفهم المقصود من الكلام .
2 - ومنها : أن يتجنبا غرابة الألفاظ وإجمالها .
3 - ومنها : أن يكون كلامهما ملائما للموضوع ليس فيه خروج عما هما بصدده .
4 - ومنها : أن لا يستهزئ أحدهما بالآخر ويسخر منه .
5 - ومنها : أن يقصد كل منهما ظهور الحق ولو على يد خصمه .
6 - ومنها : ألا يتعرض أحدهما لكلام الآخر حتى يفهم مراده من كلامه .
7 - ومنها : أن ينتظر كل واحد منهما صاحبه حتى يفرغ من كلامه ولا يقطع عليه كلامه قبل أن يتمه .
8 - ومنها : أن يتجنب المناظرة مع من هو من أهل المهابة العظيمة والاحترام العظيم كيلا تدهشه وتذهله جلالة خصمه عن القيام بحجته كما ينبغي .
9 - ومنها : ألا يحتسب خصمه حقيرا قليل الشأن لأن ذلك يؤديه إلى عدم الجد والاجتهاد في القيام بحجته فيكون ذلك سببا لغلبة الخصم الضعيف له وغلبة القرن الحقير أشنع من غلبة القرن العظيم كما قال الشاعر :
ولو أني بليت بهاشمي ……خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن ……تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
وعن حاتم الطائي لما لطمته عجوز قبيحة قال : لو ذات سوار لطمتني .
$[1/91]
( فصل )
في آيات قرآنية تستلزم طرق المناظرة المصطلح عليها
اعلم أولاً أن العلامة الشيخ محمد بن الحسن البناني قال في شرحه لسلم الأخضري - ذكروا أن الأشكال الثلاثة موجودة - أي بالقوة في القرآن العظيم .
محاجة إبراهيم عليه السلام للنمرود(1/93)
أما الأول : ففي احتجاج إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام على انفراد اللّه تعالى بالربوبية ونفيها عن النمرود حيث ادعاها وقال للخليل - من ربك ؟ فقال ربي الذي يحيي ويميت فأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال : أنا أحي وأميت فهذا أمته وهذا أحييته - فانتقل له الخليل إلى ما يتعلق به كسب المخلوق فقال : إن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر وانحسمت شبهته فقوله : { إن اللّه يأتي بالشمس } الآية : في قوة قوله : أنت لا تقدر أن تأتي بالشمس من المغرب وكل من لا يقدر على ذلك فليس برب : ينتج أنت لست برب . فالصغرى يمكن أن تؤخذ من قوله . فأت بها من المغرب لأنه أمر تعجيز ، وتؤخذ أيضا من شاهد حال النمرود - لعنه اللّه - ولا يسعه إنكارها . والكبرى عكس نقيض قضية مفهومة من قوله : إن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب : وهي ربي يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب . أي كما أتى بها من المشرق . فيعكس
$[1/92]
بعض النقيض الموافق إلى الكبرى والنمرود أيضا يسلمها فلهذا بهت . والظاهر أن قولهم في الصغرى : أنت لا تقدر موجبة معدولة ليكون الوسط مكررا : وقولهم في الكبرى : وكل من لا يقدر محصلة سالبة . وإن لم تسور بالسور المتعارف للكلية السالبة لأن المعتبر المعنى لا اللفظ ولو جعل عاجز مكان لا يقدر . ويقال في الكبرى ولا شيء من العاجز برب لكان أولى ثم يصح سوق الدليل استثنائيا فيقال : لو كنت يا نمرود ربي لقدرت على الإتيان بالشمس من المغرب ، لكنك لا تقدر عليه ينتج فلست بربي : ويمكن أن يساق من الشكل الثاني بأن يقال : ما أنت قادر على أن تأتي بالشمس من المغرب وربي قادر على أن يأتي بها : ينتج فلست بربي . فليس المقصود حصر المستنبط من الآية في الشكل الأول وكأنهم رأوه أظهر من غيره .(1/94)
وأما الشكل الثاني : ففي استدلال إبراهيم الخليل أيضا عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام بالأفول على نفي الربوبية عن الكواكب والقمر والشمس في قول تعالى : { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } الآية لان قوله : { فلما أفل قال لا أحب الآفلين } في قوة قول هذه آفلة وربي ليس بآفل : ينتج من الشكل الثاني هذه ليست بربي ، فالصغرى من قوله فلما أفل والكبرى من قوله لا أحب الآفلين . إذ المعنى لا أحب عبادتهم لأن الرب وهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا يأفل أبدا . ويمكن سوقه من الشكل الأول وهو أسهل بأن يقال هذه آفلة ولا شيء من الآفل بربي . ينتج هذه ليست بربي .
ويمكن سوقه من الاستثنائي بأن يقال : لو كانت هذه ربي ما أفلت لكنها أفلت ينتج فليست بربي ، ويمكن سوقه من الشكل الرابع بأن يقال الآفل ليس بربي وهذه آفلة : ينتج ربي ليس بهذه وينعكس إلى هذه ليست بربي ، لكن الشكل الرابع لبعده عن الطبع لا يصار إليه مع تأتي غيره .
$[1/93]
إلزام اليهود إنزال الكتاب
وأما الشكل الثالث : ففي رد اللّه على اليهود في قولهم ما أنزل اللّه على بشر من شيء توصلا منهم إلى إنكار نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم يقولون : هو بشر و لاشيء من البشر أنزل عليه الكتاب : وصغرى المقدمتين حق وكبراهما باطلة وهم يزعمون صدقها فينتج لهم . هو صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه الكتاب فرد اللّه عز وجل عليهم بقوله سبحانه : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } .(1/95)
ونظمه من الشكل الثالث . موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بشر ، موسى أنزل عليه الكتاب . وكلتا المقدمتين حق وهم يسلمون ذلك : ينتج من الشكل الثالث بعض البشر أنزل عليه الكتاب لأن الثالث لا ينتج إلا جزئية وهذه النتيجة جزئية موجبة تنافي السالبة الكلية التي جعلوها كبرى يعني قولهم : ما أنزل اللّه على بشر من شيء فبطل بذلك إنكارهم لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ، ثم قال البناني رحمه اللّه : قال السعد : الحد الوسط في الشكل الأول والرابع ليس بمتكرر لأنه إذا وقع محمولا فالمراد به المفهوم وإذا وقع موضوعا فالمراد به الذات : قلت : إن أريد بكون المحمول هو المفهوم وأن ذات الموضوع عين مفهوم المحمول ففساده ظاهر ، وإن أريد أنه يصدق عليه مفهوم المحمول فتكرر الحد الوسط في الشكلين ظاهر ، انتهى كلام البناني بطوله وجله واضح عند من فهم المقدمة المنطقية التي كتبنا قبل الشروع في البحث والمناظرة . وفي كلامه إشكالات تحتاج إلى جواب وفيه بعض الاصطلاحات التي لم نوضحها في المقدمة المنطقية .
اعلم أولاً أن ما ذكر من تكرار الحد الوسط في الأول والرابع باعتبار أن مفهوم المحمول صادق على ذات الموضوع واضح لا إشكال فيه كما قدمنا إيضاحه في المقدمة المنطقية في اختلاف المراد بالمحمول والموضوع في الحكم ، ومن الأسئلة
$[1/94](1/96)
المذكورة أن الدليل الذي بين نظمه من الشكل الثالث . بصورة موسى بشر . موسى أنزل عليه الكتاب ينتج من الشكل الثالث بعض البشر أنزل عليه كتاب وهي جزئية موجبة نقيض السالبة الكلية التي هي قولهم : ما أنزل اللّه على بشر من شيء فهو إبطال دليل بإثبات نقيضه على نحو الطرق المعروفة في المناظرة ، يتوجه إليه السؤال بأن يقال : قد تقدم في شروط إنتاج الشكل الثالث أن تكون إحدى مقدمتيه كلية وهذا الشكل الثالث الذي نقض به دليل اليهود ليست إحدى مقدمتيه كلية لأن مقدمتيه كلتيهما شخصيتان لأن موضوع كل واحدة منهما شخص وهو موسى عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام .
والجواب هو أن كل ما تشترط فيه الكلية تنتج فيه الشخصية لاتحاد الكلية والشخصية في أن الحكم بالمحمول شامل لجميع أفراد الموضوع . أما في الكلية فحصر الأفراد بالسور الكلي ، وأما في الشخصية المخصوصة فالحصر بأصل الوضع فالحصر واقع في كل واحدة منهما وهذا الجواب يجاب به عما في كلامه من الإتيان بالشخصية في موضع الكلية في بعض الأدلة التي ساق .(1/97)
واعلم أن البناني رحمه اللّه لما قال إن قول إبراهيم : { إن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } في قوة أنت لا تقدر على أن تأتي بالشمس من المغرب وكل من لا يقدر على ذلك فليس ربي : ينتج من الشكل الأول أنت لست بربي وبيَّن كيف أخذت صحة المقدمتين من الآية ، وشاهد الحال احتاج إلى أن يجيب عن سؤال وارد على كل واحدة من المقدمتين . أما الصغرى وهي قوله : أنت لا تقدر أن تأتي بالشمس إلخ . . . فيقال فيه : هذه صغرى قياس من الشكل الأول وصغراه يشترط لإنتاجه أن تكون موجبة فأجاب أن النفي في قوله : أنت لا تقدر من قبيل العدول لا من قبيل السلب فهي موجبة معدولة لا محصلة سالبة ، وبكونها موجبة معدولة صح شرط الإنتاج ، وقوله : كل من لا يقدر محصلة سالبة وإن لم تسور بالسور المتعارف للكلية السالبة لأن السور المتعارف لها أن يقال مثلا : ولا شيء ممن لا يقدر على ذلك بربي .
$[1/95]
بيان العدول في الاصطلاح
واعلم أن ضابط العدول في الاصطلاح هو اقتران السلب بالمحمول بأن يكون السلب بعد الرابطة وهي في الاصطلاح اللفظ الدال على ثبوت المحمول للموضوع ولما كانت اللغة العربية غير محتاجة إلى الرابطة للاكتفاء عنها بالاشتقاق والإضافة ومطلق الإسناد - نحو زيد أخوك - اصطلحوا على أن يجعلوا الرابطة هي ضمير الفصل فكل سلب كان مقترنا بالمحمول بعد ضمير الفصل فهو العدول وما سوى ذلك يسمى بالتحصيل .
فمثال المعدولة الموجبة زيد هو ليس عالما ، ومثال السالبة المحصلة - زيد ليس هو عالما - ومثال المحصلة الموجبة - زيد عالم - ومثال المعدولة السالبة - ليس زيد هو ليس عالما - .
فالمعدولة السالبة يرجع معناها إلى معنى المحصلة الموجبة لأن نفي النفي فيها إثبات فيئول للمحصلة الموجبة والسالبة المحصلة والموجبة المعدولة يتعذر الفرق بينهما . فالسالبة المحصلة كقولك : زيد هو ليس عالما : والمعدولة الموجبة كقولك : زيد ليس هو عالما .(1/98)
وحاصل الفرق بينهما في اللفظ أن السلب في المعدولة بعد الضمير وفي المحصلة قبله . والأقدمون من علماء المنطق يفرقون بينهما بأن الموجبة المعدولة تقتضي وجود الموضوع . والسالبة المحصلة لا تقتضي وجود الموضوع . وقد أوضحت في أرجوزتي في فن المنطق أن هذا الفرق بينهما الذي اعتمده الأقدمون من المنطقيين فرق باطل وأن الموجبة لا تقتضي وجود الموضوع كالسالبة وذلك في قولي في الأرجوزة المذكورة :
والفرق بين السالب المحصل ……وذي عدول موجب لم يعقل
وبعضهم بينهما قد فرقا ……ونور وجه الفرق لي ما أشرقا
$[1/ 96]
والفرق باقتضاء موجب فقط……وجود موضوع ببحث قد سقط
إذ كل محمول لديهم عدمي ……أو بين ذي الوجود مع ذي العدم
مشترك فحمله إذا على ……موضوعة المعدوم قطعاً قبلا
ألا ترى في قولنا المعدوم……ممكن أو مذكور أو مفهوم
فهذه موجبة لن يوجدا……موضوعها فما اقتضته أبدا
بل ربما لزم أن ينعدما……موضوع بعض الموجبات فاعلما
فالمستحيل ذو انعدام موجب ……وعدم الموضوع فيه يجب
وبحر زئبق كذاك ممكن……منعدم موجبه لا تؤذن
بكون موضوع لها موجودا……فبطل اقتضاؤها الوجودا
فبان من ذا للذكي الحاذق ……الباذق انعدام وجه الفارق
والحق في ذاك هو التفصيل……فيم له عدول أو تحصيل
فكل ما منها اقتضت قياما ……وصف بموضوع لها إذا ما
يكون وصفها وجوديا فقد……صح اقتضاؤها وجوده فقد
لأن منع وصف ما قد عدما ……بصفة ذات وجود علما
مثال ما ذكرت زيد قائم ……أو جالس أو أبيض أو عالم
إذ البياض والجلوس والقيام……ممتنع وجودها من ذي انعدام
إذ يستحيل أن يقوم العرض ……بنفسه بدون جرم يعرض
وغير ما ذكرته لا يقتضي……وجوده موجبا أولاً فارتض
كمثل زيد ممكن أو معلوم……فالحكم فيه صادق في المعدوم(1/99)
والحاصل أن الأمثلة التي ذكرها البناني تستلزم إبطال حجة الخصم الضال بما فيه بالقوة ، الطرق المعروفة في المناظرة . فالنمرود مثلا ادعى الربوبية لنفسه وأقام على ذلك دليلا في زعمه فقتل رجلا وترك آخر وقال : أنا أحي وأميت : أي وكل من يحيى ويميت فهو الرب ينتج له على زعمه الفاسد . أنا الرب . فأبطل إبراهيم هذه الدعوى الباطلة التي هي كفر بواح بدليل مقتضاه أنت عاجز
$[1/97]
عن الإتيان بالشمس من المغرب وكل عاجز عن ذلك فليس برب ينتج أنت لست برب . فعارض دليله بدليل صحيح أنتج نقيض دعواه فصح بطلانها بإثبات نقيضها كما تقدم إيضاحه .
وأن قومه زعموا ربوبية الشمس والقمر والكواكب واستدلوا على ذلك بأدلتهم الفاسدة فأقام إبراهيم الدليل المنتج نقيض دعواهم وحاصله هذه آفلة ولا شيء من الآفل برب ينتج هذه ليس واحد منها برب . وهو نقيض دعواهم وبإثبات نقيضها يتحقق بطلانها ولا شك أن حجة إبراهيم هذه مركبة من مقدمتين الأولى أفولها في قوله في كل واحد منها - فلما أفل - والثاني عدم ربوبية الآفل في قوله : لا أحب الآفلين . واستنتاج هذه الدعوى المبطلة دعوى الخصم سماه اللّه حجة وأضافها إلى نفسه وذكر امتنانه على إبراهيم بذلك في قوله بعد ذكر المناظرة المذكورة { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } والتحقيق أن المناظرة المذكورة داخلة في الحجة المذكورة خلافا لمن زعم أن الحجة مختصة بقوله : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه ما لم ينزل به عليكم سلطانا } الآية بل التحقيق أنها شاملة لاستنتاج بطلان دعواهم الكفرية من مقدمات صحيحة تنتج نتيجة حقا وهي أنه لا رب إلا اللّه وحده .
التنويه بالحجج المنطقية الصحيحة(1/100)
وهذه الحجة التي هي استنتاج النتائج الصحيحة من المقدمات الصحيحة المفضية بطلان الحجج الكفرية نوه اللّه بها وأضافها لنفسه بصيغة التعظيم في قوله : { وتلك حجتنا } وذكر امتنانه بها على إبراهيم وأشار إلى أن من آتاه اللّه ذلك النوع من الحجة أنه يكون فيه رفع درجته وذلك في قوله : { تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء } الآية ويدخل في عموم الآية رفع درجة إبراهيم بما آتاه ربه من الحجة القاطعة على قومه ولا شك
$[1/98]
أن اليهود لما قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء أنهم يقصدون بذلك نفي إنزال الكتاب على نبينا صلى الله عليه وسلم فحذفوا الصغرى والنتيجة كما أوضحناه في كلام البناني وكانت عمدة دليلهم الكبرى التي هي كلية سالبة . التي هي قولهم ما أنزل اللّه على بشر من شيء وأن قوله تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ينتج نقيض دعواهم لأن موسى بشر وقد أنزل عليه كتاب هو التوراة فيلزم من ذلك أن بعض البشر وهو موسى أنزل عليه كتاب هو التوراة فهذه جزئية موجبة هي نقيض السالبة الكلية التي احتجوا بها وإنتاج الدليل نقيض حجة الخصم يتحقق بطلانها لاستحالة اجتماع النقيضين قال الأخضري في سلمه :
وإن تكن سالبة كلية ……نقيضها موجبة جزئية
وقال في نحو جواز حذف اليهود المقدمة الصغرى والنتيجة من دليلهم :
والحذف في بعض المقدمات ……أو النتيجة بعلم آتي
مناظرة لإثبات وحدانية اللّه(1/101)
ومن الآيات المتضمنة لإبطال الحجج الكفرية على طريق المناظرة المعروفة قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا } لأن الكفار قبحهم اللّه ادعوا آلهة كثيرة مع اللّه وعبدوها معه واستدلوا على تعدد الآلهة بشبه كفرية واهية هي في زعمهم أدلة منها قول بعضهم أن العالم أكثر شئونا من أن يمكن أن يقوم بجميع شئونه إله واحد فلا يمكن أن يقوم بذلك مع كثرته إلا آلهة كثيرة ومنها قول بعضهم إن عبادة الآلهة معه قربة إليه مشروعة كما قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى ولأجل شبههم الواهية استبعدوا كل الاستبعاد أن يكون الإله واحدا فقالوا فيما ذكر اللّه عنهم أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء
$[1/99](1/102)
عجاب فأقام اللّه جل وعلا الدليل القاطع الذي يلقم كل مخالف حجرا على أنه هو الإله وحده جل وعلا ولا يمكن بحال أن تكون معه آلهة أخرى فقال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا } فهذه شرطية متصلة لزومية استثناء نقيض تاليها محذوف لظهوره أي لكنهما لم تفسدا ينتج لم يكن فيهما آلهة إلا اللّه وهذه النتيجة القطيعة لهذا القياس الشرطي المتصل التي هي لم يكن فيهما آلهة غير اللّه نقيض دعواهم تعدد الآلهة وقد عرفت مما أوضحنا في البحث والمناظرة أنه إذا قام الدليل القاطع على نقيض الدعوى تحقق بطلان تلك الدعوى بسبب ثبوت نقيضها لاستحالة اجتماع النقيضين ووجه صحة الربط بين المقدم والتالي في قول : { لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا } أوضحه تعالى بقوله : { ما اتخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض سبحان اللّه عما يصفون } وأشار له بقوله تعالى : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } على أصح التفسيرين ولأجل أن القرآن بين أن موجب فساد السموات والأرض على فرض المحال الذي تعدد الآلهة هو استقلال كل إله دون الآخر بما خلق وغلبة بعضهم لبعض ونحو هذا لا يمكن أن يقوم عليه نظام السموات والأرض وتنتظم معه شئون العالم بل هو مستلزم لفساد السموات والأرض وضياع من فيهما ولما بين إبطال دعواهم الكفرية بالدليل القاطع نزه نفسه وذلك فيه تأكيد لصحة إنتاج الدليل المذكور بطلان دعوى الكفار وذلك في قول : { لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا فسبحان اللّه رب العرش عما يصفون } { فسبحان اللّه رب العرش } الآية تنزيه منه جل وعلا لنفسه عن دعوى الكفار بعد إبطالها بالدليل القطعي وكقوله : { ما اتخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان اللّه عما يصفون } فقوله أيضا : { سبحان اللّه } الآية تنزيه عن دعواهم الكفرية بعد(1/103)
إقامة الدليل على إبطالها فهذه الأدلة القاطعة هي المعروفة في الاصطلاح بالقياس الشرطي
$[1/100]
المتصل المستثنى فيه نقيض التالي فينتج نقيض المقدم كما تقدم إيضاحه والدليل في القرآن على نحو الشرطية المتصلة اللزومية كما ترى .
صور القياس الاقتراني في القرآن
ومن أمثلة إتيان ما يشبه صور القياس الاقتراني في القرآن قوله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا باللّه وأخلصوا دينهم للّه فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي اللّه المؤمنين أجرا عظيما } لأن قوله : { فأولئك مع المؤمنين } في قوة صغرى الدليل وكونهم معهم يستلزم أنهم شركاؤهم فيما يؤتيهم اللّه وقوله : { وسوف يؤتي اللّه المؤمنين أجرا عظيما } في قوة كبرى الدليل المذكور ينتج أن { الذين تابوا وأصلحوا } الآية سوف يؤتيهم اللّه أجرا عظيما وقد قدمنا في المقدمة المنطقية أن نتائج القياس المنطقي حق لا شك فيها إذا أقيمت أدلتها على الوجه الصحيح وأنها لا يعتريها خلل إلا من جهة خطأ الذي يحتج بها وأوضحنا وجه ذلك وفي القرآن العظيم أدلة كثيرة تستلزم إبطال شبه الضالين وهي في قوة المناظرة بالطرق المعروفة وقصدنا التمثيل بآيات منها كما ذكرنا تنبيها بها على غيرها .
$[1/101]
تطبيق المناظرة على القوادح في الأصول
تطبيق قواعد البحث والمناظرة التي كنا نوضحها على الاعتراضات المعروفة في فن الأصول بالقوادح . اعلم أنا نريد أولاً أن نطبقها في الأدلة الثلاثة المذكورة في البحث والمناظرة وهي النقض الإجمالي والمناقضة التي هي المنع وتسمى بالنقض التفصيلي والمعارضة بأقسامها . واعلم أنا سنقدم أمام هذا البحث ثلاثة تنبيهات لابد لطالب العلم منها :
التنبيه الأول :
في ( القياس الفقهي والقياس المنطقي )(1/104)
اعلم أن قياس التمثيل الذي هو القياس الأصولي المعروف بقياس الفقهاء وهو أحد أدلة الفقه الأربعة التي هي : الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند غير الحنابلة لا فرق بينه وبين القياس المنطقي في الحقيقة لأنك كلما جعلت الفرع فيه حداً أصغر والأصل حداً اكبر والعلة حداً أوسط كان قياسا اقترانيا من الشكل الأول فلو قلت مثلا الذرة يحرم فيها الربا قياسا على البُر بجامع الكيل كما يقوله الحنفي والحنبلي أو بجامع الطعم كما يقوله الشافعي أو بجامع الاقتيات والادخار قيل وغلبة العيش كما يقول المالكي فهذا قياس تمثيل وهو القياس الأصولي . والفرع فيه الذرة والأصل فيه البُر والعلة الكيل أو الطعم أو الاقتيات
$[1/102]
والادخار فإن جعلت الذرة في هذا القياس حداً أصغر والبُر حداً اكبر والكيل مثلا حداً أوسط كان قياسا اقترانيا من الشكل الأول وكيفية نظمه أن يقول الذرة مكيلة وكل مكيل يحرم فيه الربا ينتج من الشكل الأول الذرة يحرم فيها الربا وكذلك لو قلت الذرة مطعومة وكل مطعوم يحرم فيه الربا فإنه ينتج الذرة يحرم فيها الربا وكذلك لو قلت الذرة مقتاتة مدخرة وكل مقتات مدخر يحرم فيه الربا ، ينتج أيضا من الشكل الأول الذرة يحرم فيها الربا ، وهكذا فهو مطرد في كل قياس أصولي فإنه راجع إلى القياس المنطقي الاقتراني المعروف بالحملي والشمولي على نحو ما ذكرنا وبه تعلم أن تفريق المنطقيين بين قياس التمثيلي وقياس الشمول زاعمين أن الأول لا يفيد القطع والثاني يفيده غلط منهم لأن مرجعهما في الحقيقة إلى شيء واحد وكون النتيجة قطعية أو غير قطعية راجع في كل منهما إلى المقدمات التي تركب منها الدليل فإن كانت قطعية فالنتيجة !! وإلا فلا . وبه تعلم أن قول الأخضري في سلمه :
ولا يفيد القطع بالدليل …… قياس الاستقراء والتمثيل(1/105)
غلط منه كما غلط فيه عامة المنطقيين وإذا علمت أن كل قياس أصولي فهو راجع بالطريقة التي ذكرنا إلى قياس منطقي اقتراني من الشكل الأول فاعلم أن في تطبيق القوادح على البحث !! المناظرة إذا جئنا بالدليل في صورة قياس تمثيلي فإنما فعلنا ذلك لأنه في قوة قياس منطقي كما أوضحناه .
والقياس المنطقي هو الدليل الذي يوجه إليه الاعتراض في البحث والمناظرة .
النقض في المنطق ليس نقضا في الأصول
التنبيه الثاني : هو ما قدمنا من أن فن الأصول إذا جاءت فيه كلية موجبة مثلا في كتاب أو سنة ثم جاءت في نص آخر جزئية سالبة مناقضة لها أن ذلك لا يعد تناقضا في فن الأصول بل تكون السالبة الجزئية مخصصة لعموم الموجبة
$[1/103]
الكلية كما أوضحنا في المقدمة المنطقية مع أمثلة قرآنية وإنما يعد تناقضا مستلزما لبطلان إحداهما في فن المنطق .
فن المناظرة كفن المنطق(1/106)
واعلم أن فن البحث والمناظرة كذلك لما ذكرنا مرارا من أن إنتاج نقيض الدعوى أو مساوي نقيضها أو أخص من نقيضها مستلزم بطلانها كما أوضحناه مرارا وبهذا تعلم أنه ما كل دليل مبطل دليلا في البحث والمناظرة يبطله في الأصول لأن تخصيص أحدهما بالآخر في فن الأصول مانع من التناقض المستلزم بطلان أحدهما في المنطق والبحث والمناظرة ، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك منها أن قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } في كلية موجبة هي كل مطلقة تتربص بنفسها ثلاثة قروء وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة } الآية في قوة جزئية سالبة مناقضة للكلية الموجبة المذكورة وهي ليس بعض المطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء وهن المطلقات قبل الدخول لأنهن لا عدة عليهن إلى آخر الأمثلة القرآنية التي قدمنا فهذه الموجبة الكلية لا تنقضها هذه السالبة الجزئية في الأصول بل تكون مخصصة لعمومها والتخصيص هو قصر العام على بعض أفراده بدليل كما هو مقرر في الأصول ومعلوم أن الجزئية السالبة هي بعينها نقيض الموجبة الكلية كما قال الأخضري في سلمه :
فإن تكن موجبة كلية…… نقيضها سالبة جزئية
التفصيل بين فن البحث وفن المنطق وفن الأصول
أما في فن المنطق وفن البحث والمناظرة فإثبات السالبة الجزئية يقتضي إبطال
$[1/104]
الموجبة الكلية لأن إثبات النقيض يستلزم نفي نقيضه الآخر كما أوضحناه مرارا ومرادنا بهذا التفصيل بين فن الأصول وفن البحث والمناظرة والمنطق أن تعلم أن ما كل ما يبطل الدليل في البحث والمناظرة يبطله في الأصول بل قد يبطله في البحث والمناظرة لمناقضته له ويكون مخصصا له في فن الأصول لا مبطلا له فافهم ذلك وبالاختلاف المذكور قد تختلف الأجوبة عن الاعتراض في الأصول عن الأجوبة في البحث والمناظرة .(1/107)
التنبيه الثالث : اعلم أن الذي جاء مسمى باسمه من القواعد الأصولية فما ذكرنا في طرق البحث والمناظرة ثلاثة قوادح فقط هي التي ذكرت أسماؤها في البحث والمناظرة مطابقة لأسمائها في مبحث القوادح في الأصول :
وهي النقض والمنع المعروف بالمناقضة والمعارضة .
وغير هذه الثلاثة من القوادح لم نذكر له اسما فيما ذكرنا في البحث والمناظرة وسنتكلم أولاً على الثلاثة المسماة في الفنين ثم نذكر ما تيسر من تطبيق ما لم يسم في البحث والمناظرة من القوادح على ما سمي منها .
الفصل الأول في النقض
وقد عرفت مما ذكرنا تعريفه ومثاله في البحث والمناظرة والمراد به في الأصول أخص من المراد به في البحث والمناظرة :
وضابط النقض في اصطلاح الأصوليين هو وجود الوصف الذي هو العلة مع تخلف حكم العلة عنها وهو في الأصول أنواع :
الأول : منها هو ما أجمع العلماء على أنه ليس نقضا للعلة ولا مبطلا لها وإنما هو تخصيص لعمومها وشمولها لجميع أفراد حكمها الذي تستوجبه وهذا النوع هو ما علم بدليل خاص من كتاب أو سنة انه مستثنى من قاعدة القياس
$[1/105]
كترخيصه صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا وهو بيع رطب بتمر يابس على كل التفسيرات وعلة المنع موجودة في بيع العرايا بالإجماع واردة على علة كل معلل فلو قال المعترض كون بيع الرطب بالتمر اليابس الذي هو المزابنة ليس علة لتحريم البيع لأنه يقدح فيه القادح المسمى بالنقض في بيع العرايا فهو بيع تمر يابس برطب والمزابنة التي هي علة المنع موجودة فيه مع أن حكمها متخلف عنها وهو منع البيع لأن ذلك البيع جائز في العرايا ووجود العلة مع تخلف حكمها عنها نقض لها فهي باطلة .
تخصيص العلة ليس بنقض(1/108)
فالجواب أن هذا النوع ليس نقضا للعلة بإجماع العلماء وإنما هو تخصيص لحكمها فالعرايا التي استثناها الشارع وأجاز فيها بيع الرطب بالتمر مخصصة لعموم تحريم كل ما فيه المزابنة فيخرج ما أخرجه الدليل المخصص وتبقى العلة معتبرة في غيره مقتضية لتحريم البيع فيه كالشأن في كل مخصص ومن هذا النوع إيجاب دية الخطأ على العاقلة مع أن جناية الجاني الشخص علة لوجوب الضمان عليه هو دون غيره فالعلة هنا موجودة وهي أن جناية الجاني علة لاختصاصه بالضمان دون غيره وحكمها متخلف عنها لأن الضمان هنا في جنايته على غيره وليس هذا نقضا للعلة لاستثنائه من قاعدة القياس ومن هذا النوع إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة مع أن علة إيجاب المثل في المثليات موجودة وهي التماثل وقد تخلف حكمها هنا عنها وهو تخصيص لحكم العلة لا نقض لها وهذا النوع لا خلاف فيه أنه تخصيص لحكم العلة لا نقض لها وهذا من فوائد ما نبهنا عليه غير مرة أنه ليس كل ما يبطل الدليل في البحث والمناظرة والمنطق يبطله في الأصول لأن مقتضى قواعد البحث والمناظرة بطلان العلل المذكورة بالنقض الذي هو تخلف مدلولها عنها كما تقدم إيضاحه وهي في فن الأصول علل صحيحة
$[1/106]
خصصت بأدلة منفصلة كتخصيص العام بقصره على بعض أفراده بدليل .
تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط
النوع الثاني : تخلف الحكم عن علته :(1/109)
لوجود مانع من تأثير العلة أو فقد شرط تأثيرها . فوجود المانع كقتل الوالد ولده عمدا عدوانا فعلة القصاص التي هي القتل عمدا عدوانا موجودة في قتل الوالد ولده ولكن حكمها وهو القصاص متخلف عنها في هذه الصورة لوجود مانع من تأثير العلة في حكمها وهو هنا الأبوة وكولد المغرور الذي غُرَّ بمملوكة فقيل له إنها حرة فتزوجها فولده منها حر مع أن رق الأم علة لرق ولدها ولكن هذه العلة التي هي رق الأم تخلف عنها حكمها وهو رق الولد في مسألة الغرور لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في حكمها الذي هو رق ولدها .
ومثال تخلف الحكم عن علته لفقد شرط تأثيرها فيه بسرقة السارق أقل من نصاب السرقة وكونه لم يخرجه من حرز فالسرقة التي هي علة القطع موجودة ولكن شرط تأثيرها في حكمها وهو كون المسروق نصابا وكونه مخرجا من حرز مفقود هنا فتخلف الحكم الذي هو قطع اليد هنا عن علته التي هي السرقة لأجل فقد شرط تأثير العلة في حكمها كما ترى ومن هذا القبيل عدم الإحصان بالنسبة إلى الرجم لأن الزنى علة للرجم ولكن يشترط لتأثير هذه العلة التي هي الزنا في حكمها الذي هو الرجم الإحصان فتخلف الرجم عنها في غير المحصن إنما هو لفقد شرط تأثيرها في حكمها .
النوع الثالث : تخلف حكمها عنها لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا ومثل
$[1/107](1/110)
له بعضهم بقوله تعالى : { ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } . فصرح أنه لو لم يكتب الجلاء على بني النضير لعذبهم في الدنيا إلى آخر ما ذكر ثم بين علة ذلك بقوله : { ذلك بأنهم شاقوا اللّه ورسوله } الآية قالوا فهذه العلة التي هي مشاقة اللّه ورسول قد توجد في قوم يشاقون اللّه ورسول مع تخلف حكمها عنها وهو أن ينزل بهم ما نزل ببني النضير للعلة المذكورة وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقا لا نفض لها وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول :
منها وجود الوصف دون……الحكم …سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح……بل هو تخصيص وذا يصحح
إلى آخر ما ذكر من الأقوال كما أوضحناه في غير هذا الموضع وإذا علمت أن تخلف حكم العلة عنها هو المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالنقض وأنهم مختلفون فيه هل هو قادح في العلة أو مخصص لها مع تفاصيل معروفة في فن الأصول فاعلم أنه على القول بأن النقض تخصيص لعموم حكم العلة لا نقض لها فلا إشكال فيه ولا يحتاج إلى جواب لعدم القدح به على هذا القول .
الجواب على النقض
وعلى أنه قادح فالجواب عنه من خمسة أوجه :
الأول : منها منع وجود الوصف الذي هو علة الحكم في صورة النقض فيصير تخلف الحكم لعدم وجود علته فلا نقض إذاً ومثاله أن يقال فيما لو رمى الوالد ولده بحديدة مثلا فقتله ، قتل عمد عدوان وهو علة القصاص وقد تخلف حكمها عنها في هذه الصورة وهو القصاص لأن الوالد لا يقتل بولده مع وجود علة الحكم التي هي القتل عمدا عدوانا فيقول المالكي ومن وافقه : العلة غير موجودة في هذه الصورة فعدم
$[1/108](1/111)
القصاص فيها لعدم وجود العلة ففيها دليل على صحة انعكاس العلة الذي هو عدم الحكم عند عدمها بل رمي الوالد لولده بحديدة أو نحوها يحتمل أن يقصد به التأديب لقرينة شدة شفقة الأب ولا يقصد به القتل فلم يتحقق وجود العلة التي هي القتل العمد العدوان في هذه الصورة ومرادنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال .
الثاني : من الأجوبة عن النقض منع تخلف الحكم عن العلة : بأن يقول الحكم موجود لوجود علته ومثاله ما لو أضجع الوالد ولده فذبحه أو شق بطنه أو قطع رأسه ونحو ذلك مما لا يحتمل التأديب بحال بل لا يحتمل إلا قصد القتل عمدا عدوانا فإن المالكية ومن وافقهم يقولون بوجوب القصاص من الأب في نحو هذه الصورة فلو قال المعترض عليهم في هذه الصورة قتل عمد عدوان وهذه هي علة القصاص وقد تخلف حكمها عنها الذي هو القصاص وذلك نقض لها فإن المالكية يجيبون عن هذا النقض بمنع تخلف الحكم فيقولون الحكم غير متخلف هنا والقصاص واجب من الأب في هذه الصورة ومن الأمثلة أيضا حرية ولد المغرور لأن المستدل يجيب بأن الحكم موجود وهو رق الولد لوجود علته التي هي رق أمه ولكن ذلك الرقيق فداه أبوه بقيمته وهذا عند من يقول بلزوم القيمة كما جنح إليه ابن قدامة في روضة الناظر والمالكية الذين يقولون بوجوب القصاص من الأب في القتل الذي لا يحتمل إلا قصد إزهاق الروح كما مثلنا له يقولون قولكم الوالد سبب في وجود الولد فلا يصح أن يكون الولد سببا في إعدامه منتقض بما لو زنى الأب بابنته فإنه يرجم إجماعا فقد كان سببا في وجودها وكانت سببا في إعدامه وجناية الزنى ليست أعظم من جناية القتل وشرط صحة الجواب بهذا ألا يكون انتقاد الحكم في صورة النقض مذهب المستدل فالذي يرى عدم القصاص من الأب في الصورة المذكورة لا يمكنه أن يجيب عن النقض المذكور بوجود الحكم الذي هو القصاص ، لأنه يرى عدم وجوبه وكذلك الذي يرى عدم لزوم القيمة في ولد المغرور فلا يمكنه
$[1/109](1/112)
الجواب بهذا .
الثالث : من أوجه الجواب عن النقض بيان وجود مانع من تأثير العلة في الحكم أو فقد شرط تأثيرها فيه وقد بيناهما قريبا بمثالهما .
الرابع : من أوجه الجواب عن النقض هو كون الصورة الوارد فيها النقض مستثناة من القاعدة الكلية بالنص كما قدمنا أمثلته ببيع العرايا وصاع التمر في لبن المصراة وتحمل العاقلة الدية .
الخامس : من الأجوبة عن النقض هو أن تكون المصلحة المشتملة عليها العلة معارضة بمفسدة أرجح منها أو مساوية لها كأن يقال في أكل المضطر الميتة قذارة الميتة علة لحرمة أكلها والعلة التي هي قذارتها موجودة في هذه الصورة مع أن الحكم الذي هو منع الأكل متخلف عنها فيجاب عن هذا بأن مصلحة تجنب المستقذرات معارضة في هذه الصورة بمفسدة هي أرجح منها وهي هلاك المضطر إن لم يأكل الميتة فقذارة الميتة علة لمنع الأكل ولكنها هنا عورضت بما هو أقوى منها .
تنبيه : اعلم أنما قدمنا مما يسميه أهل البحث والمناظرة بالنقض المكسور وأوضحناه بأمثلة وبينا المقبول منه والمردود له شبه في الجملة بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالكسر .
القادح بالكسر عند أهل الأصول
واعلم أن ضابط القادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالكسر هو أن يبين المعترض خللا في بعض أجزاء العلة وذلك بثلاثة أمور :
الأول : بيانه وجود الحكم دون حكمته .
الثاني : عكسه وهو وجود الحكمة دون حكمها .
$[1/110]
والثالث : إبطال المعترض بعض أجزاء العلة المركبة ويكون الباقي من الأجزاء بعد الجزء الذي أبطله ليس صالحا للتعليل بشرط عجز المستدل عن الإتيان ببدل صالح للتعليل في مكان الجزء الذي أبطله المعترض .
الحكمة في اصطلاح أهل الأصول
واعلم أولاً أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول هي جلب المصلحة أو تكميلها أو دفع المفسدة أو تقليلها وضابطها أنها هي التي صار الوصف علة من أجلها كما قال في تعريفها صاحب مراقي السعود :(1/113)
وهي التي من أجلها الوصف جرى …علة حكم عند كل من درى
فتحريم الخمر مثلا هو الحكم والإسكار هو علة التحريم والمحافظة على العقل هي الحكمة لأنها هي التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم المسكر وهكذا . وإذا عرفت ذلك فاعلم أن وجود الحكم بدون حكمته قد قال بعض أهل العلم أنه كسر قادح في العلة لتخلف حكمتها التي صارت من أجلها علة وقال بعضهم إنه ليس بقادح ووجه قول من قال إنه قادح ظاهر لتخلف الحكمة التي هي أساس العلة التي صارت من أجله علة ومن قال إنه ليس بقادح قال إنه لا يكون إلا في المعلل بالمظان والمعلل بالمظان لا يتخلف فيه الحكم بتخلف الحكمة نظرا إلى إناطة الحكم بالمظنة لا بنفس الحكمة وأشار إلى هذا الخلاف صاحب مراقي السعود بقول :
وفي ثبوت الحكم عند الانتفا ……للظن والنفي خلاف عرفا
$[1/111]
الفروع المبنية على المعلل بالمظان
والفروع المبنية على هذه القاعدة منها ما يرجح فيه بعض العلماء ثبوت الحكم بناء على أن هذا النوع من الكسر ليس بقادح ومنها ما يرجح بعضهم انتفاء الحكم فيه لانتفاء حكمته بناء على أن هذا النوع من الكسر قادح .(1/114)
ومن الفروع المبنية على ذلك استبراء الصغيرة لأن تجدد ملك الأمة علة لاستبرائها وحكمة الاستبراء هي تحقق براءة الرحم من الحمل وهي متحققة في الصغيرة بدون الاستبراء وكمن مسكنه على البحر ونزل منه في سفينة قطعت به مسافة القصر في لحظة فهل يجوز له قصر الصلاة والفطر في رمضان لوجود علة ذلك وهي السفر أو لا يجوز له ذلك نظرا إلى تخلف الحكمة التي هي رفع المشقة إذ لا مشقة على المذكور أصلا ومنها شرع الاستنجاء من خروج حصاة منه لا بلل معها ووجوب الغسل على النفساء من وضع الولد جافا لا دم معه ومنها عدم نقض الوضوء بمس الذكر إذا لم توجد اللذة في اللمس بباطن الكف أو الأصابع ومنها نقض الوضوء بالقبلة على الفم إذا لم توجد اللذة ومنها ما لو قال لامرأته أنت طالق مع آخر جزء من الحيض فإنه طلاق صادف الحيض وهو علة لتحريم الطلاق ولكن يستعقب العدة فلا تطويل فيه فالحكمة الموجبة للمنع التي هي التطويل منتفية هنا . ومنها ما لو قال أنت طالق مع آخر جزء من الطهر فإنه عكس الصورة المذكورة قبله فعلى قول من قال أن تخلف الحكمة عن الحكم قادح في العلة فلا يجب عنده قصر الصلاة والإفطار في رمضان لمن لم تلحقه مشقة أصلا ولا يجب عنده الغسل بخروج الولد جافا من الدم ولا ينقض عنده الوضوء بدون اللذة في لمس ذكر أو تقبيل ولا يمنع عنده الطلاق مع آخر جزء من الحيض لأنه تطويل وإن كان نفس الطلاق واقعا في آخر جزء من الطهر ومن قال أن هذا النوع من الكسر غير قادح فإنه يلزم على قوله استبراء الصغيرة وجواز القصر والإفطار لمن لم تلحقه مشقة بسفره والوضوء
$[1/112]
من حصاة لا بلل معها ونقض الوضوء باللمس وإن لم توجد اللذة إلى آخر ما ذكرنا من المسائل المبنية على الخلاف في هذه المسألة .(1/115)
والحاصل أن من قال من أهل العلم إن الحكم منتف في المسائل المذكورة لانتفاء علته فهو قول منه بأن هذا النوع من الكسر قادح وعلى قوله فلا إشكال لأن العلة إذا بطلت بالكسر المذكور لم يوجد حكمها لعدم وجود علته ومن قال من أهل العلم إن الحكم فيها باق مع تخلف الحكمة فلقوله توجيهان : أحدهما أنه قائل بأن هذا النوع من الكسر ليس بقادح .
والثاني إنه قادح ويجيب عن عدم القدح به في المسائل المذكورة بأنها إنما علق الحكم بها بمظنة وجود الحكمة والمعروف أن المعلل بالمظان لا يتخلف الحكم فيه بتخلف الحكمة لأن الحكم فيه منوط بالمظنة لا بنفس الحكمة وأشار بعض أهل العلم إلى هذا بقوله :
إن علل الحكم بعلة غلب ……وجودها اكتفي بذا عن الطلب
لها بكل صورة . . . إلخ .
وعلى هذا فالمانع من القدح بهذا النوع من الكسر إناطة الحكم بمظنة الحكمة لا بنفس الحكمة وذلك لأن نفس الحكمة ربما لا يمكن انضباطها في بعض الأحوال كما لو علق حكم قصر الصلاة وجواز الإفطار في رمضان مثلا بحصول المشقة فإن هذه الحكمة لا تنضبط لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة فأنيط الحكم بسفر أربعة برد مثلا لأنه مظنة المشقة ومن هنا لم ينظر إلا للمظنة وألغى نفس الحكمة عند من يقول بذلك فأجاز الفطر والقصر لمن سافر أربعة برد وإن لم تلحقه مشقة لأن سفرها مظنة المشقة وهو حاصل فاكتفي بمظنة الحكمة عن نفس الحكمة .
واعلم أن هذه المسائل التي ذكرنا أنها مفرعة على هذه المسألة مختلف فيها بين أهل العلم فمن أثبت الحكم مع تخلف الحكمة فهو إما قائل بأن ذلك الكسر
$[1/113]
غير قادح أو أنه قادح منع من اعتباره إناطة الحكم بالمظنة .
ومن نفي فيها الحكم لتخلف حكمته فهو قائل بأن الكسر المذكور قادح كما أوضحناه قريبا .(1/116)
وأما تخلف الحكم عن حكمته فهو أحد أنواع الكسر والأظهر أن هذا النوع من الكسر غير قادح وجزم بذلك ابن قدامة في روضة الناظر واختاره ابن الحاجب في بعض المواضع في مختصره الأصولي ومثل له بقول الحنفي في المسافر العاصي بسفره .
مسافر فيترخص بسفره كغير العاصي فإذا قيل له ولم لأنه قلت أن السفر علة للترخيص قال بالمناسبة لما فيه من المشقة المقتضية للترخيص لأنه تخفيف وهو نفع للمترخص فيعترض عليه بصنعة شاقة في الحضر كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قرب النار في ظهيرة القيظ في القطر الحار فهاهنا قد وجدت الحكمة وهي المشقة و لم يوجد الحكم الذي هو قصر الصلاة وإباحة الفطر مثلا . والجواب عن هذا الكسر بتخلف الحكم مع وجود الحكمة أن الشرع إنما اعتبر مشقة السفر فالعلة في الترخص المذكور السفر وحكمتها رفع المشقة والتخفيف على المسافر فأصل العلة لم يوجد في هذا الكسر وإنما وجدت فيه الحكمة فقط فلم يقع كسر في العلة لعدم وجودها أصلا في صورة الكسر المذكور وسفر العاصي بسفره علة للترخيص والمانع من تأثيرها عند من يقول بذلك أن الترخيص تخفيف والتخفيف على العاصي إعانة له على معصيته واللّه جل وعلا يقول : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . ومن أنواع الكسر إبطال المعترض جزءاً من المعني المعلل به ونقصه ما تبقى من أجزاء ذلك المعنى المعلل به فعلم أن هذا النوع من الكسر لا يكون إلا في العلل المركبة من وصفين فأكثر والقدح بهذا النوع مقيد بعجز المستدل على الإتيان ببدل من الوصف الذي أبطله المعترض فإن ذكر بدلا صالحا لأن يكون علة الحكم . ألغي الكسر
$[1/114]
واستقام الدليل ، وإبطال الجزء بأن يبين المعترض أنه ملغي بوجود الحكم عند انتفائه والمراد بنقض الباقي عدم تأثيره في الحكم وله صورتان :(1/117)
الأولى : أن يأتي المستدل ببدل الوصف المسقط عن الاعتبار كأن يقول في وجوب أداء صلاة الخوف هي صلاة يجب قضاؤها لو لم تفعل فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن فإنها كما يجب قضاؤها لو لم تفعل يجب أداؤها فوجوب القضاء هو العلة ووجوب الأداء هو الحكم المعلل بتلك العلة فيقول المعترض خصوص الصلاة في دليلك ملغي ويبين ذلك بأن الحج واجب الأداء كالقضاء فيبدل المستدل خصوص الصلاة الذي أبطله المعترض بوصف عام وهو العبادة فيقول هي عبادة يجب قضاؤها لو لم تفعل إلى آخره . فينقض عليه المعترض هذا البدل أيضا بصوم الحائض فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم .
الصورة الثانية : ألا يبدل المستدل الوصف الذي أبطله المعترض فلا يبقى للمستدل علة في المثال المذكور إلا قول يجب قضاؤها فينقضه المعترض بأن يقول ليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه بدليل صوم الحائض في رمضان فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم ومثال الإتيان ببدل صالح للتعليل أن يقول مشترط النية في الوضوء طهارة واجبة فتشترط لها النية كغيرها من الواجبات فيقول المعترض خصوص الطهارة ملغي لأنه لا أثر له في وجوب النية لأن طهارة الخبث طهارة لا تشترط لها النية إجماعا فيبدل لفظ الطهارة الذي أبطله المعترض بغيره فيقول الوضوء قربة غير معقولة المعنى لأن موجبها في غير محل موجبها فتشترط لها النية كسائر القرب التي هي ليست معقولة المعنى وقصدنا المثال لا مناقشة أدلة الأقوال وقد بينا فيما مضى أنا إن جئنا بالدليل على صورة القياس الأصولي كهذه الأمثلة التي ذكرنا آنفا فإننا إنما نفعل ذلك لأنه في قوة قياس منطقي اقتراني يجعل الفرع حداً أصغر والأصل حداً أكبر والعلة حداً أوسط كما أوضحناه سابقا بأمثلته وقد تكلمنا فيما مضى على قادحين
$[1/115](1/118)
من القوادح في الدليل عند أهل الأصول . الأول النقض وبينا أن النقض في اصطلاح أهل الأصول وداخل في المراد بالنقض في فن البحث والمناظرة لأنه في فن البحث والمناظرة صادق بتخلف كل مدلول عن دليله وكل استلزام للحال كما تقدم إيضاحه وفي اصطلاح أهل الأصول لا يطلق إلا على تخلف مدلول خاص عن دليله وهو تخلف الحكم عن علته في حال كونها موجودة لأن العلة دليل الحكم ووجودها بدونه وجود للدليل بدون مدلوله وأوضحنا كلام أهل الأصول فيه والأجوبة عنه .
الثاني الكسر وإنما ذكرناه هنا في اصطلاح أهل الأصول وبينا صورة الجواب عنه على القول بأنه قادح لأنه له شبه بالنقض المكسور في البحث والمناظرة لأن النقض المكسور يحذف فيه السائل بعض أجزاء الدليل والكسر في فن الأصول يبطل فيه المعترض بعض أجزاء العلة كما تقدم قريبا .
(فصل )
في تطبيق الاعتراض المسمى بالمناقضة
وهو المنع الحقيقي على القادح المسمى في الأصول بالمنع وقد علمت مما مر أن هذا الاعتراض يسمى بالمنع الحقيقي ويسمى بالمناقضة والنقد التفصيلي إلى آخر أسمائه التي قدمناها وقد علمت أنه في فن البحث والمناظرة يتوجه إلى الدعوى المجردة وإلى الدليل بمنع مقدمة معينة من مقدماته كمنع الصغرى فقط أو الكبرى فقط ومنعهما معا يعد متعين وأنه قد يكون مجردا عن السند وقد يكون مقرونا بالسند كما تقدم إيضاحه وأما القادح المسمى بالمنع في اصطلاح أهل الأصول فمواقعه أربعة :
الأول : منع حكم الأصل .
$[1/116]
الثاني : منع وجود ما يدعيه علة في الأصل .
الثالث : منع كونه علة الحكم .
الرابع : منع وجوده في الفرع .(1/119)
ومثال منع حكم الأصل قول الحنبلي جلد الميتة نجس فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب فيقول الحنفي لا نسلم حكم الأصل وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ بل هو يطهر به عندي ومثال منع وجود ما يدعيه علة في الأصل قول الشافعي والحنبلي من قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم تزوجها لم يلزمه طلاق قياسا على قول فلانة التي أتزوجها طالق بجامع أن كلا منهما تعليق طلاق أجنبية فالأصل المقيس عليه فلانة التي أتزوجها طالق والفرع المقيس إن تزوجت فلانة فهي طالق والحكم هو عدم لزوم الطلاق بعد التزوج والعلة عند صاحب الدليل هي تعليق طلاق الأجنبية فيقول المعترض كالمالكي والحنفي الوصف الذي تدعي أنه علة الحكم وهو تعليق طلاق الأجنبية ليس موجودا أصلا في الأصل المقيس عليه لأن الأصل الذي هو فلانة التي أتزوجها طالق تنجيز طلاق أجنبية وهي لا يتنجز عليها الطلاق والتعليق الذي زعمته علة ليس موجودا أصلا ولذا ليس في الصيغة أداة تعليق في الأصل وهذا النوع الذي هو منع وجود ما يدعيه علة في الأصل هو المعروف بمركب الوصف . والحاصل في حكم هذه المسألة أن الأئمة الأربعة وغيرهم من فقهاء الأمصار متفقون أن الطلاق لا يقع إلا بعد النكاح لأن اللّه رتبه عليه بثم في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } الآية فإن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم تزوجها فالمالكي والحنفي يقولان بلزوم الطلاق لأنه ما وقع إلا بعد النكاح فقد راعيا وقت نفوذ الطلاق وهي وقت نفوذه زوجة والشافعي والحنبلي يقولان بعدم لزوم الطلاق لأنهما نظرا إلى وقت صدور الصيغة منه وهي وقت صدور صيغة الطلاق المعلق على التزويج أجنبية .
أما تنجيز طلاق الأجنبية فهو لغو بلا خلاف وأما منع كون الوصف علة
$[1/117](1/120)
فهو أن يعترف المعترض بوجود الوصف في الأصل المقيس عليه ولكنه يمنع كونه هو العلة كأن يقول الشافعي وصف الكيل موجود في البُر ولكنه ليس هو علة تحريم الربا فيه فإن ادعى الخصم له علة أخرى كقول الشافعي في هذا المثال بل علة الربا فيه الطعم فهو المعروف في اصطلاح أهل الأصول بمركب الأصل وقد عرف صاحب مراقي السعود مركب الأصل وهو مركب الوصف بقوله :
وإن يكن لعلتين اختلفا ……تركب الأصل لدى من سلفا
مركب الوصف إذا الخصم منع ……وجوده الوصف في الأصل المتبع
ومثال منع وجود الوصف الذي هو العلة في الفرع قول الجمهور تقطع يد النباش لأنه سرق الكفن من حرز مثله قياسا على السارق المخرج من الحرز كسرقته الدراهم من الصندوق المقفول فيقول المعترض كالحنفي وجود العلة التي هي السرقة ممنوع في الفرع الذي هو النباش لأن النباش ليس بسارق بل آخذ مال عارض للضياع كالملتقط .
الخلاف في انقطاع المستدل بتوجيه المنع على الحكم
واعلم أنه اختلف في توجيه المنع على حكم الأصل هل ينقطع به المستدل أولاً وأظهر القولين أنه لا ينقطع بمجرد منع حكم الأصل وممن اختار ذلك ابن الحاجب وابن قدامة في روضة الناظر وقالا إنه له إقامة الدليل على حكم الأصل الذي منعه المعترض وقال بعضهم ينقطع بذلك ووجهوا قولهم بأنه لو جاز للمستدل إقامة الدليل على حكم الأصل الذي منعه المعترض لانتشر الكلام وانتقلا من مسألة إلى أخرى وقد يفضي ذلك إلى التسلسل والأول أظهر واختار الغزالي اتباع عرف البلد فإن كان عرفهم في المناظرة انقطاعه بمجرد منع حكم الأصل انقطع به وإلا فلا لأنه أمر اصطلاحي ليس بعقلي ولا شرعي وقال
$[1/118](1/121)
أبو إسحاق الشيرازي لا يسمع منه حكم الأصل فلا يلزمه الاستدلال عليه قال ابن الحاجب وهو بعيد . وقد صدق في ذلك وإذا علمت أن الأظهر عدم انقطاعه بذلك فاعلم أن جواب المستدل عن منع حكم الأصل ، هو إثباته حكم بدليل . والجواب عن منعه وجود الوصف في الأصل هو إثبات وجوده فيه بما هو طريق ثبوت مثله لأن الوصف قد يكون حسيا فيثبته بالحسي وقد يكون عقليا فيثبته بالعقل وقد يكون شرعيا ، فيثبته بالشرع ومثال الثلاثة المذكورة ما لو قال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فلو قيل لا نسلم أنه قتل أجاب عنه بأن القتل ثابت بالحس الذي هو رؤيته بالحاسة ولو قيل لا نسلم أنه عمد فالجواب بأن العقل علم أنه عمد بالقرائن والأمارات المحتفة به التي لا تترك لبسا في أنه عمد وإن قيل لا نسلم أنه عدوان فالجواب بأن الشرع حرمه وجعله من العدوان والجواب عن منع كونه علة بإثبات كونه علة كما لو قال المالكي للشافعي أمنع كون الطعم علة الربا في البُر فيثبت الشافعي كونه علة كأن يقول مثلا ملء كف من البُر فيه الربا وهو غير مكيل ولا مقتات ولا مدخر لقلته ولكنه مطعوم فعلم استقلال الطعم بالعلية دون الأوصاف الأخرى وكأن يقول الشافعي في المثال المذكور حديث معمر بن عبد اللّه عند مسلم قال كنت أسمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( والطعام مثلا بمثل ) الحديث يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن الطعم هو علة الربا في المطعومات وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال والجواب عن منع وجود العلة في الفرع هو إثبات وجودها فيه كقول الجمهور الحرز في السرقة يتنوع بتنوع المسروق فالإصطبل مثلا حرز للدواب وليس حرزا للدنانير والصندوق حرز للدنانير وليس حرزا للدواب وبذلك التنوع يعلم أن القبر حرز للكفن لأنه حرز مثله فالعلة التي هي السرقة موجودة في الفرع الذي هو النباش وقد علمت أن المنع في الأصول كالمنع في البحث والمناظرة لأن صاحب البحث والمناظرة يقول أمنع(1/122)
مقدمة هذا الدليل مثلا والمعترض في الأصول يقول أمنع حكم الأصل مثلا أو وجود العلة فيه أو كونها علة أو وجودها في الفرع وقد
$[1/119]
علمت مما مر أن القياس الأصولي راجع للقياس المنطقي بالطريق التي أوضحناها سابقا مرارا فإذا رددت قياس الأصول إلى القياس المنطقي علمت أن مواقع المنع الأربعة في القياس الأصولي راجعة إلى منع مقدمات الدليل المنطقي فلو قال الشافعي مثلا يحرم الربا في التفاح قياسا على البُر بجامع الطعم فقال المالكي أو الحنفي أو الحنبلي امنع كون العلة هي الطعم فهذا أحد مواقع المنع الأربعة في الأصول وهو منع كون الوصف علة وهذا المنع في الحقيقة راجع إلى منع الكبرى في القياس المنطقي لأنك لو رددته إلى القياس المنطقي فقلت التفاح مطعوم وكل مطعوم ربوي ينتج من الشكل الأول التفاح ربوي فيقول المالكي أو الحنفي مثلا أمنع المقدمة الكبرى وهي قولك وكل مطعوم ربوي لأن علة الربا في المطعومات ليست هي الطعم بل هي الكيل أو الاقتيات والادخار وقس على هذا المثال باقيها فإن المقام لا يقتضي بسط أمثلة الجميع .
$[1/120]
( فصل )
في المعارضة وأقسامها(1/123)
اعلم أن ما يسمى في البحث والمناظرة بالمعارضة على سبيل القلب هو بعينه القادح المسمى في الأصول بالقلب وضابطه عند الأصوليين لن يثبت المعترض نقيض حكم المستدل بعين دليل المستدل فيقلب دليله عليه لا له والمستدل في الأصول هو المعلل في البحث والمناظرة والمعترض في الأصول هو السائل في البحث والمناظرة فتذكر اختلاف الاصطلاحين لئلا يلتبس عليك المقصود بغيره . وإذا علمت ذلك فاعلم أن القلب عند أهل الأصول قسمان : أحدهما : ما صحح فيه المعترض مذهبه وذلك التصحيح فيه إبطال مذهب خصمه سواء كان مذهب الخصم المستدل مصرحا به في دليله أو لا ومثال ما كان مصرحا به فيه قول الشافعي في بيع الفضولي عقد في حق الغير بلا ولاية عليه فلا يصح قياسا على شراء الفضولي فإنه لا يصح لمن سماه فيقول المعترض كالمالكي والحنفي عقد فيصح كشراء الفضولي فإنه يصح لمن سماه إذا رضي ذلك المسمى له والإلزام الفضولي فهو صحيح على كل حال ومثال غير المصرح به فيه قول من يشترط الصوم في الاعتكاف كالمالكي الاعتكاف لبث فلا يكون قربة بنفسه كوقوف عرفة أي فإنه قربة بضميمة الإحرام إليه فكذلك الاعتكاف إنما يكون قربة بضميمة عبادة إليه وهي الصوم في الاعتكاف المتنازع فيه ومذهبه وهو اشتراط الصوم في الاعتكاف غير مصرح به في دليله فيقول المعترض كالشافعي الاعتكاف لبث فلا يشترط فيه الصوم كوقوف عرفة أي فإنه لا يشترط فيه الصوم .
القسم الثاني : من قسمي القلب هو ما كان لإبطال مذهب الخصم من غير
$[1/121](1/124)
تعرض لتصحيح مذهب المعترض سواء كان الإبطال المذكور مدلولا عليه بالمطابقة أو الالتزام ومثال كون الإبطال مدلولا بالمطابقة قول الحنفي في مسح الرأس عضو وضوء فلا يكفي في مسحه أقل ما يطلق عليه اسم المسح قياسا على الوجه فإنه لا يكفي في غسله ذلك فيقول المعترض كالشافعي عضو وضوء فلا يقدر بالربع كالوجه فإن غسله لا يتقدر بالربع ، ومثال الإبطال بالالتزام قول الحنفي في جواز بيع الغائب عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح فإنه يصح مع الجهل بالزوجة أي عدم رؤيتها فيقول المعترض كالمالكي فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح فقد أبطل مذهب الحنفي بالالتزام لأن ثبوت خيار الرؤية لازم عنده شرطا للصحة وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فجمع هذه الأمثلة فيها إبطال لمذهب المستدل بعين دليله وهو القلب وقد علمت أن القلب نوع خاص من أنواع المعارضة والجواب عنه كالجواب عن المعارضة إلا أنه يستثنى من ذلك منع وجود الوصف فلا يصح في القلب لاتفاق الخصمين عليه ، كما يتضح من الأمثلة المذكورة وأما ما يسمونه قلب المساواة فضابطه أنه ثبوت حكمين للأصل المقيس عليه وأحد الحكمين منتف عن الفرع المقيس اتفاقا والحكم الآخر هو محل الخلاف هل هو ثابت للفرع أو لا ؟ فيلحق المستدل الفرع المختلف فيه بالأصل المقيس عليه فيقول المعترض التساوي بين الحكمين في الفرع واجب كاستوائهما في الأصل ومثاله قول الحنفي في الوضوء والغسل طهارة بالمائع فلا تجب فيها النية قياسا على غسل النجاسة لا تجب فيه النية بخلاف غير المائع كالتيمم فإنه تجب فيه النية فيقول المعترض كالمالكي والشافعي فيستوي جامد هذه الطهارة ومائعها كالنجاسة فإنها يستوي جامدها ومائعها في الحكم الذي هو عدم وجوب النية وقد وجبت النية في التيمم فتجب في الغسل والوضوء فأحد حكمي الأصل عدم وجوب النية في الطهارة في الجامد وهو منتف عن الفرع اتفاقا لوجوب النية فيه والآخر عدم وجوب النية في الطهارة(1/125)
بالمائع وهو المختلف فيه فيثبته المستدل في الفرع فيقول المعترض فتجب التسوية
$[1/122]
بين الحكمين في الفرع كما وجبت بينهما في الأصل .
الخلاف في قبول قلب المساواة
واعلم أن قلب المساواة هذا الذي ذكرنا اختلف في قبوله فمنع بعضهم قبوله وممن منعه القاضي أبو بكر الباقلاني من المالكية وحجة من قال بأنه لا يقبل هي أن وجه استدلال المعترض القالب غير وجه استدلال المستدل إذ وجه استدلال المستدل في المثال المذكور كون الجامع الطهارة بالماء ووجه استدلال المعترض كونه مطلق الطهارة وقال الباجي : لا يصح قلب القلب لأن القلب نقض للعلة والنقض لا ينقض ، وقال بعض المالكية والشافعية يصح قلب القلب لأن القلب معارضة في الحكم والمعارضة تعارض فيصار إلى الترجيح ، فعلى أن القلب معارضة لا يتم القدح به بمجرده بل حتى يعجز المستدل عن الترجيح . وعلى أنه نقض يقدح بمجرده والصواب أنه معارضة كما بيناه بإيضاح خلافا لصاحب المراقي والباجي ، ولذا قال صاحب مراقي السعود أن القدح بالقلب لا يعترض في قوله :
والقلب إثبات الذي الحكم نقض …بالوصف والقدح به لا يعترض
المعارضة بغير القلب
وأما المعارضة بغير القلب فهي قسمان :
معارضة في الأصل ، ومعارضة في الفرع .
وبعض أهل الأصول يسميها الفرق بين الأصل والفرع ، وقد علمت مما مر أن ضابط المعارضة أنها هي إقامة الدليل على خلاف ما أقام الخصم عليه دليله
$[1/123]
وهي ترد على جميع الأدلة قياسا كانت أو غيره والأصوليون الذين يقولون أنها قسمان : معارضة في الأصل ومعارضة في الفرع إنما يريدون المعارضة في القياس خاصة .
المعارضة في الأصل(1/126)
أما المعارضة في الأصل فضابطها عندهم أن يبدي المعترض وصفا آخر صالحا للتعليل كأن يقول الشافعي علة الربا في البُر الطعم فيعارضه الحنفي والحنبلي بإبداء وصف آخر صالح للتعليل وهو الكيل ولا يخفى أن هذا النوع من المعارضة مبني على القول بمنع تعدد العلل المستنبطة لأنه على القول بجواز تعددها فلا مانع من أن تكون علة المستدل وعلة المعترض صحيحتين والعلل المستنبطة مختلف في جواز تعددها ولذلك اختلف في قبول القدح بهذا النوع من المعارضة أما العلل المنصوصة فلا خلاف في جواز تعددها كالبول والغائط والتقبيل والنوم لنقض الوضوء وكالجماع والإنزال والنقاء من الحيض لوجوب الغسل ولا يرد عليها هذا النوع من المعارضة وأشار لما ذكرنا صاحب مراقي السعود بقوله :
وعلة منصوصة تعدد…… في ذات الاستنباط خلف يعهد
المعارضة في الفرع
وضابط النوع الثاني من نوعي المعارضة وهو المعارضة في الفرع هو إبداء المعترض وصفا مانعا من الحكم في الفرع منتفيا عن الأصل كقياس الهبة على البيع في منع الغرر فيقول المعترض البيع عقد معاوضة والمعاوضة مكايسة يخل بها الغرر والهبة محض إحسان فلا يخل بها الغرر فإن لم يحصل شيء لم يتضرر الموهوب له فكون الهبة محض إحسان معارضة في الفرع ليست موجودة في
$[1/124]
الأصل مانعة من إلحاقه به وكقول الحنفي يقتل المسلم بالذمي كغير المسلم يجامع القتل العمد العدوان ، فيقول المعترض الإسلام في الفرع مانع من القود .
واعلم أن المعارضة في الأصل كما تكون بإبداء المعترض وصفا آخر صالحا للتعليل تكون أيضا بإبداء وصف صالح لأن يكون جزءا من العلة غير مستقل بنفسه كما لو قال المالكي والشافعي مثلا القتل بالمثقل يجب فيه القصاص لأنه فتل عمد عدوان فيعارضه الحنفي بإبداء جزء صالح للتعليل وهو كون القتل المذكور بمحدد كالسيف والرمح مثلا .
الجواب عن المعارضة(1/127)
واعلم أن للمستدل أن يجيب عن المعارضة بأجوبة متعددة فيجيب عن المعارضة في الأصل بعدة طرق :
الأولى : أن بين المستدل أن مثل الحكم المتنازع فيه ثبت بدون الوصف الذي أبداه المعترض فيستقل بالعلية ما ذكره المستدل ومثاله قول الشافعي علة تحريم الربا في البُر الطعم فيعارضه الحنفي مثلا بوصف الكيل فيقول الشافعي إن ملء الكف من البُر ينتفي عنه الكيل لقلته ومنع الربا موجود فيه فيستقل الطعم بالعلية والقصد المثال لا مناقشة أدلة الأقوال .
الثانية : أن يبين المستدل إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق ففي الحديث الصحيح ( من أعتق شركا له في عبد ) الحديث ، فيقول المستدل الأمة كالعبد في سراية العتق الواردة في الحديث بجامع الرق فيقول المعترض إن في الأصل وصفا مانعا من إلحاق الفرع به وهو الذكورة لأن عتق الذكر تلزمه مصالح كالشهادة والجهاد وجميع المناصب المختصة بالرجال لا توجد في الفرع الذي هو الأمة فيجيب المستدل عن هذا
$[1/125]
الاعتراض بأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يترتب عليها شيء من أحكام العتق كما هو معلوم في الشرع .(1/128)
الثالثة : أن يبين أن العلة التي عارضها خصمه ثابتة بنص أو إيماء وتنبيه . ومثاله في الإيماء والتنبيه قول الشافعي العلة في تحريم الربا الطعم فيعارضه المالكي بالاقتيات والادخار فيقول الشافعي إن كون الطعم هو العلة ثبت بمسلك الإيماء والتنبيه في حديث معمر بن عبد اللّه في صحيح مسلم : كنت أسمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( الطعام بالطعام مثلا بمثل ) فترتيب اشتراط المثلية على وصف الطعم يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن العلة الطعم والقصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال ومثاله فيما هو كالنص أن يقول الحنبلي مثلا علة تحريم الربا في البُر الكيل فيعارضه المالكي بوصف الاقتيات والادخار فيقول الحنبلي إن كون العلة الكيل ثبت مقتضاه بالنص ففي حديث حيان بن عبيد اللّه عند الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه بعد أن ذكر الستة المنصوص على تحريم الربا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وكذلك كل ما يكال أو يوزن ) وقد بينا في كتابنا أضواء البيان أن هذا الحديث ثابت وناقشنا من ضعفه وهو كالنص الواضح على أن معرفة القدر بالكيل والوزن هي علة الربا وفى الصحيحين بعد ذكر الربويات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وكذلك الميزان ) بعد ذكر الكيل في الحديث .(1/129)
الطريقة الرابعة : أن يبين رجحان ما ذكره على ما أبداه المعترض ومثاله قول المالكي والحنفي إن علة كفارة الجماع في نهار رمضان انتهاك حرمة رمضان فتجب الكفارة عندهما في الأكل والشرب عمدا كالجماع فيعارضه الشافعي والحنبلي بخصوص وصف الجماع الذي رتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم حكم الكفارة فيجيب المالكي والحنفي بأن الوصف المتعدي إلى غيره أرجح من الوصف القاصر الذي لم يتعد إلى غيره لأن التعدية من المرجحات وكون العلة هي انتهاك حرمة رمضان يتعدى بها الحكم من الجماع إلى الأكل والشرب بجامع انتهاك حرمة رمضان فتجب الكفارة في الجميع وكون العلة خصوص الجماع تكون
$[1/126]
به قاصرة على محلها فلا يتعدى حكمها إلى شيء مع أن العلة القاصرة مختلف في التعليل بها أصلا كما هو معلوم في محله والقصد مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال .
الطريقة الخامسة : منع وجود الوصف الذي عارض به المعترض مثل أن يعارض الاقتيات والادخار بالكيل فيقول المستدل لا نسلم أنه مكيل لأن العبرة بعادة زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في زمنه صلى الله عليه وسلم غير مكيل .
الطريقة السادسة : مطالبة المعترض بكون الوصف الذي عارض به مؤثر في الحكم وهذا إنما يسمع من المستدل إذا كان مثبتا للعلة بالمناسبة أو الشبه حتى يحتاج المعارض في معارضته إلى بيان مناسبة أو شبه بخلاف ما إذا كان مثبتا للعلة بالسبر والتقسيم فلا يرد عليه هذا الاعتراض بناء على عدم اشتراط المناسبة في الوصف المبقي في السبر والظاهر أن الوصف المدار في الدوران كذلك .
الطريقة السابعة : بيان عدم انضباط الوصف المعارض به كأن يقول السفر علة قصر الصلاة وجواز الإفطار في رمضان فيعارضه المعترض بوصف المشقة فيجيب المستدل بأن المشقة لا تنضبط لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة ومنها غير ذلك تركناه اختصارا لأن فيما ذكرنا كفاية .(1/130)
واعلم أنا ذكرنا فيما مضي تطبيق ستة أسئلة من الأسئلة التي ترد على المستدل في فن الأصول واحد منها ليس بقادح في نفس الأمر وهو الاستفسار وخمسة من القوادح وهى : النقض . والكسر . والمنع . والقلب . والمعارضة .
وإن كان القلب نوعا من المعارضة لأن الأصوليين يعدونه قادحا مستقلا ويعدون المعارضة قادحا آخر مستقلا . والمعارضة بالقلب التي ذكرنا واضح تطبيقها على المعارضة على سبيل القلب في البحث والمناظرة .
وأما النوعان الآخران من المعارضة اللذان هما المعارضة في الأصل والمعارضة
$[1/127](1/131)
في الفرع فيصح تطبيقهما على المعارضة بالمثل والمعارضة بالغير في البحث والمناظرة وإيضاح ذلك أن يقول المستدل هذا مكيل وكل مكيل يحرم فيه الربا يعني لأن علة تحريم الربا الكيل والغرض منع تعدد العلل المستنبطة كما تقدم ينتج هذا يحرم فيه الربا ولازم هذا التعليل أن المطعوم إن كان غير مكيل لا يحرم فيه الربا لمنع تعدد العلل المستنبطة فيعارضه الشافعي مثلا معارضة بالمثل فيقول التفاح مطعوم وكل مطعوم يحرم فيه الربا وإن كان غير مكيل ينتج التفاح يحرم فيه الربا ولازم هذا التعليل أنه لا يحرم في غير المطعوم لمنع تعدد العلل المستنبطة وهو مناقض لما دل عليه دليل الأول فمقتضى دليل الأول أنه يحرم في الكيل ولا يحرم في مطعوم غير مكيل ومقتضى دليل الثاني أنه يحرم في كل مطعوم وإن كان غير مكيل ولا يحرم في مكيل غير مطعوم فكل من الدليلين قياس اقتراني وكلاهما يستلزم نقيض الآخر لما ذكرنا أن هذا النوع من المعارضة مبني على منع تعدد العلل المستنبطة فوجود علة يلزمه نفي غيرها كما أوضحنا بالأمثلة ويصح أن يكون من المعارضة بالغير كأن يقول الحنفي الذرة مكيلة وكل مكيل ربوي ينتج الذرة ربوية وهذا الدليل اقتراني فيعارضه الشافعي معارضة بالغير بدليل استثنائي فيقول لو كان كل مكيل ربويا أي والغرض أنه لا ربوي غير المكيل لمنع تعدد العلل المستنبطة لكان ملء الكف من البُر غير ربوي لأنه غير مكيل لقلته لكنه ربوي ينتج ما كل مكيل ربويا وهو إبطال بالمعارضة بالغير .
$[1/128]
( فصل )
في السؤال الرابع
وهو فساد الاعتبار .(1/132)
وضابطه عند الأصوليين أن يكون دليل المستدل مخالفا لنص أو إجماع فمخالفته للنص كقياس لبن المصراة على غيره من المثليات في وجوب رد المثل فإنه فاسد الاعتبار لمخالفته نص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أن فيه صاعا من تمر وكالقول بمنع السلف في الحيوان لعدم انضباطه قياسا على غيره من المختلطات فيعترض بأنه مخالف لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه استسلف بكرا ورد رباعيا وقال : ( إن خير الناس أحسنهم قضاء ) ومثلوا لمخالفته الإجماع بقول الحنفي لا يغسل الرجل زوجته الميتة لحرمة النظر إليها قياسا على الأجنبية فيعترض بأن عليا غسل فاطمة رضي اللّه عنهما ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فصار إجماعا سكوتيا وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال ولا تخفى علينا مناقشة الحنفية فما ذكر .
الجواب عن القدح بفساد الاعتبار
والجواب عن فساد الاعتبار من وجهين أحدهما : أن يبين أن النص لم يعارض دليله والثاني أن يبين أن دليله أولى بالتقديم من نص المعارض ومثلوا للأول بأن يقال شرط الصوم تبييت النية في رمضان فلا تصح نيته في النهار قياسا على القضاء فيقول الحنفي هذا فاسد الاعتبار بمخالفته لقوله تعالى : { والصائمين والصائمات } إلى قوله : { أعد اللّه لهم مغفرة وأجرا عظيما } فإنه يدل
$[1/129]
على ثبوت الأجر العظيم لمن صام وذلك مستلزم للصحة فيقول المستدل الآية لا تعارض دليلا ولا تدل على الصحة لأن عمومها مخصص بحديث ( إنما الأعمال بالنيات ) لأن أول الشروع في الصوم تجرد عن النية فلم يصح . وحديث ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ) .(1/133)
ومثلوا للثاني : بأن يقال قياس العبد على الأمة في تشطير حد الزنا بالرق فاسد الاعتبار لمخالفة عموم { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } لأنهم يقولون هذا القياس مقدم على عموم ذلك النص ومخصص له لأنه أخص في محل النزاع منه والمخصص الحقيقي هو مستند القياس وهو الآية التي دلت على تشطير حد الزنا بالرق في الأمة وهي قوله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وهو الجلد فهذه الآية دلت على تشطير حد الزنى بالرق لأن علة تشطيره في الأمة الرق بلا نزاع فعلم لأن الرق هو مناط التشطير ولا فرق بين الذكور والإناث في الحدود . ولا يخفى أن فساد الاعتبار معارضة لدليل المستدل بنص أو إجماع وهي تصح أن تكون بالمثل وتكون بالغير كما لا يخفي على من فهم ما تقدم وقال ابن قدامة في روضة الناظر إن فساد الاعتبار من المعارضة في الفرع وأوضحناه في غير هذا الموضع .
( فصل )
في السؤال الثامن
وهو القادح المسمى في الأصول فساد الوضع . وضابطه أن يكون الدليل على غير الهيأة الصالحة لأخذ الحكم منه كأن يكون صالحا لضد الحكم أو نقيضه كأخذ التوسيع من التضييق والتخفيف من التغليظ والنفي من الإثبات أو الإثبات
$[1/130](1/134)
من النفي ومثلوا لأخذ التوسيع من التضييق بقول الحنفي الزكاة واجبة على وجه الإرفاق لدفع حاجة المسكين فكانت على التراخي كالدية على العاقلة فالتراخي الموسع ينافي دفع الحاجة المضيق ، ومثلوا لأخذ التخفيف من التغليظ بقول الحنفي القتل العمد العدوان جناية عظيمة فلا تجب فيه الكفارة كالردة فعظم الجناية يناسب تغليظ الحكم لا تخفيفه بعدم الكفارة ومثلوا لأخذ الإثبات من النفي بقول من يرى صحة انعقاد البيع في المحقرات وغيرها بالمعاطاة كالمالكية . بيع لم توجد فيه الصيغة فينعقد فإن انتفاء الصيغة يناسب عدم الانعقاد لا الانعقاد ومثلوا لأخذ النفي من الإثبات بقول الشافعي في معاطاة المحقرات لم يوجد فيها سوى الرضى فلا ينعقد بها البيع كغير المحقرات فالرضى الذي هو مناط البيع يناسب الانعقاد لا عدمه .
الجواب عن القدح بفساد الوضع
والجواب عن القدح بفساد الوضع بأحد أمرين : الأول : أن يمنع قول الخصم أنه يقتضي نقيض الحكم كأن يقول الحنفي قولكم إن القتل عمدا يقتضي نقيض نفي الكفارة الذي هو وجوبها مدفوع بأن جناية القتل لشدة عظمها تستدعي أمرا أغلظ من الكفارة وهو القصاص فليس مرادي بنفي الكفارة التخفيف بل التغليظ بما هو أعظم من الكفارة .
والثاني : أن يبين أن ما ذكره يقتضيه دليله من جهة أخري كقول الحنفي في مسألة الزكاة المتقدمة إنما قلت بالتراضي لمناسبته للرفق بالمالك فالمستدل نظر إلى الرفق بالمالك والمعترض نظر إلى حاجة المسكين وكأن يقول المالكي قولي في المعاطاة بيع لم توجد فيه الصيغة إلخ . . لم أبن فيه قولي بالانعقاد على عدم الصيغة وإنما بنيته على أن المعاطاة تدل على الرضى والرضى من الطرفين يناسب لانعقاد البيع ، وكأن يقول الشافعي قولي بيع لم يوجد فيه سوى الرضى فلا ينعقد
$[1/131](1/135)
لم أبن فيه مذهبي على وجود الرضى وإنما بنيته على عدم الصيغة والمعاملات تنعقد بالصيغة ومن صور فساد الوضع عندهم كون الوصف الجامع ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم أو ضده أعني الحكم في قياس المستدل ومثالهم المشهور لهذا تركناه لأن فيه عندنا نظرا ونراه غلطا ومثل له بعضهم بأن يقال في التيمم مسح فيسن فيه التكرار كالاستنجاء فيقول المعترض المسح لا يناسب التكرار لأنه ثبت اعتباره في كراهة التكرار في المسح على الخف والجواب عن هذا النوع منه ببيان وجود المانع في أصل المعترض فيقال في المثال المذكور إنما كره التكرار في الخف لأنه يعرض الخف للتلف واقتضاء المسح للتكرار باق .(1/136)
تنبيه : اعلم أن فساد الوضع يشتبه بأمور لكنه يخالفها من بعض الوجوه فمن ذلك أنه يشبه النقض لأن الوصف المعلل به فيه لما كان صالحا لنقيض الحكم لزم من ذلك انتفاء الحكم فإن كانت العلة تقتضي التغليظ مثلا واستدل بها المستدل على التخفيف فلا يخفى أن القادح بفساد الاعتبار يريد أن الحكم الذي هو التخفيف منتف مع وجود العلة المقتضية للتغليظ لصلاحها لنقيضه إلا أن في فساد الوضع زيادة وهو أن الوصف هو الذي يثبت النقيض لأن العلة المقتضية للتغليظ مثلا هي بعينها التي أثبت بها المستدل التخفيف المنافي للتغليظ وأما النقض فلا يتعرض فيه لذلك بل يكفي فيه ثبوت منافي الحكم مع الوصف فلو قصد به ذلك لكان هو النقض . وفساد الوضع أيضا يشبه القلب من حيث إنه إثبات ما ينافي الحكم بعض علة المستدل إلا أنه يفارقه في شيء ، وهو أن صاحب القلب يثبت ما ينافي الحكم بأصل المستدل وهذا يثبته بأصل آخر فلو ذكره بأصله لكان هو القلب وفساد الوضع أيضا يشبه القدح في المناسبة من حيث إن موجه القدح به ناف لمناسبة الوصف للحكم لمناسبة الوصف لنقيض الحكم إلا أنه لا يقصد هنا بيان عدم مناسبة الوصف للحكم بل بناء نقيض الحكم عليه في أصل آخر فلو بين مناسبته لنقيض الحكم بلا أصل لكان قدحا في المناسبة فتحصل مما ذكرنا أن ثبوت المنافي مع الوصف نقض فإن زيد ثبوته بالوصف
$[1/132](1/137)
فهو فساد الوضع وإن زيد كونه به وبأصل المستدل فقلب وبدون ثبوته معه فالمناسبة . ومعلوم أن القدح بالمناسبة لا يكون إلا إذا كانت وجهة نظر كل من الخصمين متحدة فإن اختلفت فلا قدح بعدم المناسبة كنظر الحنفي إلى الرفق بالمالك في قوله بالتراضي في الزكاة ونظر غيره إلى حاجة المسكين في قوله بوجوب الزكاة على الفور ونحو ذلك والظاهر أن فساد الوضع بالنسبة إلى البحث والمناظرة يمكن رجوعه إلى النقض لأن النقض في البحث والمناظرة شامل لكل تخلف للمدلول عن دليله وما يدل على التغليظ يتخلف عنه الحكم بالتخفيف إلى آخر الأقسام ويمكن رجوعه إلى المعارضة لأن المقتضى للتغليظ مثلا المستدل به على التخفيف معارض بأن التخفيف يستلزم عدم مقتضى التغليظ فكأن المعارض يقول دليلك هذا مقتضى للتغليظ ولا شيء من مقتضى التغليظ يقتضي التخفيف ينتج دليلك هذا لا يقتضي التخفيف هذه النتيجة نقيض الدعوى المستدل عليها .
القادح بالتقسيم
فصل في السؤال التاسع وهو القادح المعروف في الأصول بالتقسيم وهو قادح عند الجمهور في الدليل ومنع قوم القدح به .
وضابط التقسيم هو أن يحتمل لفظ مورد في الدليل معنيين أو أكثر بحيث يكون مترددا بين تلك المعاني والمعترض يمنع وجود علة الحكم في واحد من تلك الاحتمالات كأن يقول مشترط النية في الوضوء الطهارة قربة فتشترط فيها النية كغيرها من القرب فيقول المعترض كالحنفي الطهارة تنقسم إلى النظافة من الخبث وإلى الأفعال المعروفة المخصوصة التي هي الوضوء شرعا . والأول ممنوع كونه من القرب التي هي علة وجوب النية ومن أمثلته أن يستدل على ثبوت الملك للمشتري في زمن الخيار بوجود سبب الملك وهو البيع فيقول المعترض :
$[1/133]
البيع الذي هو سبب الملك ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : مطلق البيع الصادق بما فيه شرط .(1/138)
والثاني : البيع الذي لا يشترط فيه والأول ممنوع كونه علة للملك . والثاني مسلم ولكنه مفقود في محل النزاع ويشترط لصحة التقسيم شرطان :
الأول : أن يكون ما ذكره المستدل منقسما إلى ما يمنع وغيره فلو زاد المعترض وصفا لم يذكره المستدل لم يقبل منه .
والثاني : أن يكون التقسيم حاصرا لجميع الأقسام فإن لم يحصرها فللمستدل أن يتبين أن مورده غير ما عينه المعترض بالذكر . ووجه قبول القدح بالتقسيم أن اللفظ إذا احتمل أمرين :
أحدهما باطل فهو محتمل البطلان فلا تنهض به حجة .
ووجه رد القدح به أن احتمال البطلان لا يبطل الدليل .
الجواب عن القدح بالتقسيم
والجواب عن القدح بالتقسيم كالجواب عن الاستفسار المتقدم وهو أن يبين أن لفظه لا يحتمل إلا ذلك المعنى أو أنه أظهر فيه وقد أوضحناه بأمثلة في الكلام على الاستفسار وتطبيق هذا القادح على الاعتراض في البحث والمناظرة هو أن التقسيم منع ولكنه منع خاص لأنه منع لا يأتي إلا بعد تقسيم ووجهه أن يقول دليلك هذا منقسم إلى ما يحقق بطلانه وإلى غيره وكل دليل كان كذلك فلا تنهض به حجة ينتج دليلك لا تنهض به حجة فالصغرى تضمنت تقسيما والكبرى تضمنت منعا بعد التقسيم .
$[1/134]
القادح بعدم التأثير
( فصل )
في السؤال العاشر
وهو القادح المعروف في الأصول بعدم التأثير ، أي عدم تأثير الوصف في الحكم . وضابطه أن يذكر في الدليل ما يستغني عنه وهو أربعة أقسام وبعضهم يجعله ثلاثة بإسقاط الرابع الآتي :
الأول من أقسامه : هو المسمى بعدم التأثير في الوصف وضابطه أن يكون الوصف طرديا لا مناسبة فيه أصلا كقول الحنفي في صلاة الصبح ، صلاة لا تقصر فلا يقدم أذانها على الوقت كالمغرب فعدم القصر طردي في تقديم الأذان لأن الصلوات التي تقصر لا يقدم أذانها على الوقت .
وحاصل هذا القسم منع كون الوصف علة لكونه طرديا وهو أحد أقسام المنع المتقدمة .(1/139)
الثاني من أقسامه : هو المسمى بعدم التأثير في الأصل . وضابطه إبداء المعترض علة لحكم الأصل غير علة المستدل بشرط كون المعترض يرى منع تعدد العلة لحكم واحد أما إن كان يرى جواز ذلك فلا يصح قدحه بهذا القسم لجواز صحة كلتا العلتين :
ومثاله أن يقال في بيع الغائب بيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء فيقول المعترض لا أثر لكون غير مرئي في الأصل فإن العجز عن التسليم كاف في عدم الصحة وعدمها واقع مع الرؤية وهذا القسم راجع إلى المعارضة في الأصل كما تقدم إيضاحه .
$[1/135]
القسم الثالث من أقسامه : هو المسمى بعدم التأثير في الحكم وهو ثلاثة أضرب :
الأول : منها ألا يكون لذكره فائدة أصلا ومثلوا له بقول الحنفي في المرتدين مشركون أتلفوا مالا بدار الحرب فلا ضمان عليهم كالحربي ، ودار الحرب عندهم لا أثر لذكرها في الأصل ولا في الفرع لأن من أوجب الضمان ومن نفاه لم يفرق أحد منهم بين دار الحرب وغيرها . وهذا راجع إلى القسم الأول وهو منع كون الوصف علة لكونه طرديا فالمعترض يطالب المستدل بتأثير كون الإتلاف في دار الحرب والذي عليه المحققون فساد العلة بذلك . وذهب بعضهم إلى صحة التمسك به ولا يخفى ما فيه .
الضرب الثاني : أن يكون لذكر الوصف فائدة ضرورية كقول معتبر العدد في الاستجمار بالأحجار عبادة متعلقة بالأحجار لم تتقدمها معصية فاعتبر فيها العدد قياسا على رمي الجمار فقوله لم تتقدمها معصية عديم التأثير في الأصل والفرع لكنه مضطر إلى ذكره يحترز به عن الرجم لأنه عبادة متعلقة بالأحجار ولم يعتبر فيها العدد لكنها تقدمتها معصية هي الزنى بعد الإحصان .(1/140)
الضرب الثالث : أن يكون لذكر الوصف فائدة غير ضرورية كأن يقول الجمعة صلاة مفروضة فلا تفتقر في إقامتها إلى أذان الإمام الأعظم كالظهر فقول مفروضة لو حذف لما ضر لكنه ذكر الفائدة تقريب الفرع من الأصل بتقوية الشبه بينهما إذ الفرض أشبه بالفرض منه لغيره ومنع قوم رد ما ذكر لفائدة وله اتجاه .
القسم الرابع من أقسامه : هو المسمى بعدم التأثير في الفرع كأن يقال في تزويج المرأة نفسها بغير إذن وليها فلا يصح كما لو زوجت من غير كفء فيقول المعترض كون غير كفء لا أثر له لأن النزاع واقع في تزويجها من كفء ومن غير كفء وحكمهما سواء فلا أثر له ومرجعه إلى المعارضة بوصف آخر وهو تزويج فقط ولهذا حذف بعضهم هذا القسم الرابع لأنه راجع إلى منع التأثير
$[1/136]
في الأصل وقد عرفت مما ذكرنا أن أقسام القادح المسمى بعدم التأثير راجعة إلى شيئين لا ثالث لهما : أحدهما منع كون الوصف علة لكونه طرديا . والثاني المعارضة بإبداء وصف آخر صالح للتعليل وتطبيق المنع والمعارضة في هذا القادح على ما مر في البحث والمناظرة واضح .
واعلم أن القدح بهذا القادح المسمى في الأصول بعدم التأثير يشترط في القدح به أن يكون القياس قياس علة فلا يقدح به في قياس الشبه . ولا في الطرد على القول باعتباره ويشترط فيه أيضا أن تكون العلة مستنبطة مختلفا فيها فلا يقدح به في علة منصوصة ولا مستنبطة مجمع عليها .
واعلم أن القادح المسمى في الأصول بالمطالبة والقادح المسمى بالتركيب تركنا ذكرهما لأنهما داخلان في أقسام المنع التي أوضحناها فذكرهما تكرار محض مع ذكر أقسام المنع لأن المطالبة هي بعينها منع كون الوصف وقد أوضحناهما وبينا أنهما من أقسام المنع .
القول بالموجب(1/141)
فصل في السؤال الحادي عشر وهو القادح المسمى في الأصول بالقول بالموجب وضابطه تسليم المعترض دليل الخصم مع بقاء النزاع وذلك يجعل الدليل الذي سلمه ليس هو محل النزاع فلا يلزم من صحته وتسليمه صحة مذهب المستدل به كقوله تعالى : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } الآية فابن أُبي في هذه الآية الكريمة استدل على أنه يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة بأن الأعز قادر على إخراج الأذل واللّه جل وعلا سلم له هذا الدليل مبيناُ أنه لا ينفعه في محل النزاع لأنه هو الأذل المقدور على إخراجه وذلك في قوله تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } الآية . واعلم أن القول بالموجب عند الأصوليين يقع على أربعة أوجه :
$[1/137](1/142)
الوجه الأول : أن يرد لخلل في طرف النفي وذلك أن يستنتج المستدل من الدليل إبطال أمر يتوهم منه أنه مبني مذهبه فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه وأكثر القول بالموجب من هذا النوع كأن يقال في وجوب القصاص بالمثقل التفاوت في الوسيلة من آلات القتل وغيره لا يمنع القصاص كالمتوسل إليه من قتل أو قطع أو غيرهما لا يمنع التفاوت فيه القصاص فتفاوت الآلات ككونه بسيف أو رمح أو غيرهما وتفاوت القتل ككونه بحز عنق أو قطع عضو وتفاوت القطع ككونه بحز المفصل من جهة واحدة أو من جهتين أو بغير ذلك فيقول المعترض كالحنفي سلمنا أن التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص ولكن لا يلزم من إبطال مانع انتفاء جميع الموانع ووجود جميع الشروط بعد قيام المقتضى وثبوت القصاص متوقف على جميع ذلك فقول المستدل لا يمنع القصاص نفي ولأجل ما وقع فيه من الخلل ورد القول بالموجب فكأن الحنفي يقول للمستدل ما توهمت أنه مبني مذهبي في القصاص في القتل بالمثقل ليس هو مبناه فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبي بل مبنى مذهبي شيء آخر لم تتعرض له في اعتراضك ومعلوم أن موجب منع الحنفي القصاص في القتل بالمثقل عدم تحقق العلة التي هي قصد القتل فهو عنده من الخطأ شبه العمد إذ لا يلزم من قصده ضربه بالمثقل قصده إزهاق روحه عنه .
الوجه الثاني : أن يقع على ثبوت : وضابطه أن يستنتج المستدل من الدليل ما يتوهم منه أنه محل النزاع أو ملازمه ولا يكون كذلك . كأن يقال في القصاص في القتل بالمثقل قتل بما يقتل غالبا لا ينافي القصاص فيجب فيه القصاص قياسا على الإحراق بالنار فيقول المعترض كالحنفي سلمنا عدم المنافاة بين القتل بمثقل وبين ثبوت القصاص ولكن لم قلت إن القتل بمثقل يستلزم القصاص وذلك هو محل النزاع ولم يستلزمه دليلك وهو العلة التي هي قوله قتل بما يقتل غالبا لا ينافي القصاص فقوله يجب فيه القصاص ثبوت ولأجل ما ورد فيه من الخلل عنده وقع عليه القول بالموجب المذكور .
$[1/138](1/143)
الوجه الثالث : أن يقع لشمول لفظ المستدل صورة متفقا عليها فيحمله المعترض على تلك الصورة ويبقى النزاع فيما عداها كقول الحنفي في وجوب زكاة الخيل حيوان يسابق عليه فتجب فيه الزكاة كالإبل فيقول المعترض أقول به إذا كانت الخيل للتجارة وهذا أضعف أنواعه لأن المستدل يقول عنيت وجوب الزكاة في رقابها .
الوجه الرابع : أن يقع لأجل سكوت المستدل عن مقدمة غير مشهورة مخافة منع الخصم لها لو صرح بها كقول مشترط النية في الوضوء والغسل كل ما هو قربة تشترط فيه النية كالصلاة ويسكت عن المقدمة الصغرى التي هي : الوضوء والغسل قربة فيقول المعترض كالحنفي : أسلم أن كل ما هو قربة تشترط فيها النية ولا يلزم من ذلك اشتراطها في الوضوء والغسل فلو صرح المستدل بالصغرى فمنعها المعترض خرج عن القول بالموجب وبعضهم يقول في هذا المثال السكوت عن مقدمة مشهورة . ووجه الأول أن المشهورة كالمذكورة فكأنها غير مسكوت عنها لشهرتها .
وهذا النوع من القول بالموجب إنما ورد على السكوت عنها . ووجه قول من قال عن مقدمة مشهورة هو أن الشهرة هي سبب جواز الحذف لأن حذف غير المشهور قد يؤدي إلى عدم فهم الكلام .
واعلم بأن بعض أهل الأصول يقول أن القول بالموجب والقلب كلاهما معارضة في الحكم . وقد ذكرنا أنه الصواب في القلب سابقا وجعلهما الفخر الرازي من القوادح في العلة وأظهر القولين أنه إن قال هذا الذي نفيت ليس مبنى مذهبي أنه يصدق في ذلك فإن استنتج من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه فقال المعترض ليس هو محل النزاع ولا ملازماً له فجوابه عن هذا أن يثبت أنه هو محل النزاع أو ملازم له بطريق من طرق الإثبات والحق أن القول بالموجب يرد على جميع الأدلة قياسا كان الدليل أو غيره فقول الرازي
$[1/139](1/144)
أنه من القوادح في العلة لا يظهر كل الظهور لأنه أعم من ذلك وتطبيق القول بالموجب على الاعتراض في البحث والمناظرة أنه شبيه بالنقض لأن المعترض يقول دليلك مسلم ولكن الحكم الذي هو مدلوله متخلف عنه وتخلف المدلول عن الدليل نقض في البحث والمناظرة ولكنه عندهم مبطل للدليل لأن تخلف المدلول عندهم مبطل للدليل كما تقدم إيضاحه والقول بالموجب يتخلف فيه المدلول في دعوى المعترض عن الدليل مع اعتراف المعترض بتسليم نفس الدليل ومن هنا خالف النقض وإن أشبهه من حيث تخلف المدلول عن الدليل في كل منهما والأقرب أنه من نوع المعارضة لأن المعترض يعارض دليل الخصم بدليل آخر يقتضي أن دليله في محل النزاع ولو قيل أنه نوع خاص من المنع وهو منع بعد تسليم دليل المستدل . وهذا المنع منع لكون دليله في محل النزاع لكان له وجه والعلم عند اللّه تعالى : وهذا الذي بيناه هنا القول بالموجب في اصطلاح أهل الأصول ولم نتعرض للقول بالموجب في اصطلاح البلاغيين . وهو عندهم نوع من البديع المعنوي . وقد أوضحناه بأمثلته في رسالتنا في منع المجاز في القرآن .
فصل في السؤال الثاني عشر…
القدح في إفضاء الحكم إلى المصلحة
وهو القادح المعروف في الأصول بالقدح في إفضاء الحكم إلى المصلحة المقصودة من شرع الحكم . وضابطه الاعتراض بأن المصلحة التي شرع من أجلها الحكم لم يفض إليها الحكم . ومثاله أن يقال : في علة مصاهرة المحارم على التأبيد : أنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب ووجه المناسبة أنه يفضي إلى رفع الفجور لأن تأبيد التحريم يقطع الطمع وقطع الطمع في النكاح يجعل المحرمة بالمصاهرة لا تتوق النفس إليها لأنها بذلك تصير كالأخت والأم فلا ينظر إليها نظرة شهوة ولا يكون بينه وبينها ما يدعو إلى الريبة فيقول المعترض هذا الحكم
$[1/140]
لم يفض إلى المصلحة المقصودة لأن قطع الطمع في النكاح أدعى إلى الفجور لأن النفس حريصة على ما منعت منه كما قال الشاعر :(1/145)
منعت شيئا فأكثرت الولوع به ……أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وقوة داعية الشهوة مع اليأس من حلية النكاح مظنة الفجور والجواب عن هذا الاعتراض ببيان إفضاء الحكم إلى المصلحة . كأن يقول في هذه المسألة : تأبيد التحريم يمنع عادة من مقدمات الهم والنظر وبالدوام يصير كالأمر الطبيعي فلا يبقى المحل مشتهى كالأمهات والأخوات كما هو مشاهد ولا شك أن اليأس له أثر كبير في صدود النفس عما يئست منه كما قال بعض المتأخرين من أدباء قطر شنقيط وهو خال والدي شقيق أمه :
فكن يائسا منها ففي اليأس راحة… وإن رسيس الشوق يطرده اليأس
وهكذا يصح مثالا لا شاهدا لتأخر قائله ، وكون اليأس يريح من الطمع أمر معروف مشهور في شعر العرب ومنه قول امرئ القيس :
أبيني لنا إن الصريمة راحة ……من الأمر ذي المخلوجة المتلبس
فإن معنى بيته أنها إن صرحت له بالصريمة والقطيعة استراح من الطمع الذي لا يدري صاحبه أيحصل على شيء أم لا . ووجه تطبيق هذا القادح في البحث والمناظرة ظاهر لأنه منعٌ ، إذ المعترض يمنع فيه حصول المصلحة المقصودة بتشريع الحكم . وقد قدمنا لك أن جميع القوادح راجعة إلى المنع والمعارضة . وبعضهم يقول : أنها كلها راجعة إلى المنع .
$[1/141]
( فصل )
في السؤال الثالث عشر…
القادح بكون الوصف خفياً(1/146)
وهو القادح المعروف في الأصول بكون الوصف خفيا غير ظاهر كقول المالكية في انعقاد البيع بالمعاطاة دون صيغة دالة عليه . هذا البيع حصل فيه الرضا وكل بيع كان كذلك فهو صحيح . فهذا البيع صحيح ، وكأن يقال : هذا القتل عمد عدوان وكل قتل كان كذلك يجب فيه القصاص فهذا القتل يجب فيه القصاص . فيقول المعترض : الرضا في العقود والقصد في الأفعال مثلا ، كلاهما أمر خفي لأنه شيء كامن في باطن الشخص فقد يظن عامدا وهو ليس كذلك . وقد يظن راضيا وهو ليس كذلك . فالجواب عن هذا القادح ضبطه بصفة ظاهرة كضبط الرضا بصيغ العقود وضبط العمد بفعل يدل عليه عادة كاستعمال السلاح كالسيف والرمح في القتل . والقصد مطلق المثال وهذا القادح راجع إلى المنع كما لا يخفى لأنه منع فيه ظهور الوصف .
( فصل )
في السؤال الرابع عشر…
القدح بكون الوصف غير منضبط
وهو القادح المعروف في الأصول بكون الوصف غير منضبط كأن يقول : العلة في قصر الصلاة رفع المشقة والعلة في حد القذف مثلا الزجر عن أعراض الناس . فيقول المعترض : المشقة لا تنضبط لاختلافها باختلاف الأشخاص
$[1/142]
والأحوال والأزمنة والزجر لا ينضبط لاختلافه أيضا باختلاف الأشخاص ، وقد يجاب عن هذا بإناطة المشقة بالمظنة كالسفر وهو منضبط وإناطة الزجر بالحدود مثلا وهي منضبطة وقد يجاب عن عدم الانضباط بأن العرف قد يصيره منضبطا للرجوع للعرف في المسائل التي تختلف باختلاف الأحوال ، وله اتجاه فالعرف مثلا قد يحدد المشقة التي يجوز بسببها الجلوس في الصلاة . وهكذا وهذا القدح راجع إلى المنع كما لا يخفى .
( فصل )
في السؤال الخامس عشر
القادح بمخالفة حكم الفرع لحكم الأصل(1/147)
وهو القادح المعروف في الأصول بمخالفة حكم الفرع لحكم الأصل كأن يقول المستدل : لا يجوز أن يكون الصداق المعقود عليه النكاح عبدا آبقا أو بعيرا شاردا قياسا على البيع في منع ذلك بجامع العلة التي هي منع المعاوضة بما فيه غرر : فيقول المعترض : الحكم في الفرع مخالف للحكم في الأصل حقيقة وإن ساواه بدليلك صورة والمطلوب مساواته له حقيقة ، فما هو مطلوبك ؟ ليس ما أفاده دليلك والدليل إذا نصب في غير محل النزاع كان فاسدا كما تقدم إيضاحه في القول بالموجب لأن المقصود من الدليل إثبات محل النزاع ، وإيضاحه أن عدم الصحة في البيع حرمة الانتفاع بالمبيع وفي النكاح حرمة التلذذ بالمنكوحة فاختلفا . والجواب عن هذا القادح هو أن البطلان شيء واحد وهو عدم ترتيب المقصود من العقد عليه وإنما اختلف المحل بكونه بيعا ونكاحا . واختلاف المحل لا يستلزم اختلاف ما حل فيه بل اختلاف المحل شرط في القياس ضرورة . فكيف يجعل شرطه مانعا منه ؟ فيلزم امتناعه أَبدا . وهذا القادح راجع إلى المنع
$[1/143]
لأن المعترض يمنع إفادة دليل المستدل مطلوبه لأنه في غير محل النزاع في دعوى الخصم وهما مفترقان من حيث أن هذا لا يسلم دليل خصمه والقول بالموجب يسلم فيه دليل خصمه ثم يمنع كونه في محل النزاع ، وقد اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرناها من القوادح لأن ما تركناه راجع إلى ما ذكرنا بل قد أوضحنا أنها كلها راجعة إلى المنع والمعارضة أو المنع فقط وأشرنا إلى تطبيقها في البحث والمناظرة عند الكلام على كل قادح .
$[1/144]
مناظرة المتكلمين في آيات الصفات(1/148)
فصل في إيضاح طرق مناظرة المتكلمين في الأدلة التي جاءوا بها ونفوا بها بعض صفات اللّه الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة . ويكفينا في هذا البحث تطبيقه في مثال واحد لأن جميع الصفات حكمها واحد فإيضاح مثال واحد منها مستلزم لإيضاح جميعها لأنها كلها من باب واحد لأن الموصوف بها جل وعلا واحد وهو منزه كل التنزيه عن مشابهة الخلق في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم فإيضاح مثال واحد منها إيضاح لها كلها وذلك المثال الذي نذكره في هذا الموضوع هو استواء اللّه جل وعلا على عرشه . فهو سبحانه جل وعلا أثنى على نفسه في سبع آيات من كتابه بأنه استوى على العرش فهي صفة ثابتة ثبوتا قطعيا بسبعة أدلة قرآنية صريحة وهذه الصفة الكريمة المقدسة التي كرر اللّه في كتابه ثناءه بها على نفسه ينفيها من أصلها كثير من المتعلمين والذين ينفونها قصدهم حسن وهو تنزيه اللّه عن مشابهة خلقه ولكن هذا القصد الحسن تلزمه الإساءة الكبرى والجناية العظمى من ثلاث جهات كل واحدة منها أكبر من أختها فهم ينطبق عليهم بيت الإمام الشافعي رحمه اللّه :
رام نفعا فضر من غير قصد… ومن البِر ما يكون عقوقا
وسيأتي إيضاح تلك الإساءة الكبرى من الجهات الثلاث المذكورة في الخاتمة في المقارنة بين مذهب السلف وما يسمونه مذهب الخلف إن شاء اللّه تعالى .
فالمتكلمون النافون لبعض صفات اللّه جل وعلا الثابتة له في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ينفون استواءه على عرشه فيقولون : لم يستو على العرش وهذه الدعوى المخالفة لصريح القرآن في سبعة مواضع منه ينتجونها من قياس منطقي
$[1/145](1/149)
استثنائي وقد يجعلونه اقترانيا وسنذكر قياسهم المذكور ونبين وجه بطلانه في الاستثنائي والاقتراني : أما صورة الاستثنائي فإنهم يقولون : لو كان مستويا على العرش لكان مشابها للمخلوقات لأن الاستواء على المخلوق من صفات المخلوق لكنه غير مشابه للمخلوقات ، ينتج عندهم هو ليس مستويا على العرش . وهذه النتيجة من أعظم الافتراء على اللّه وأشنع الكذب لأنها تكذب سبع آيات من القرآن العظيم .
إبطال أدلة المتكلمين
وإيضاح إبطال هذا الدليل الذي أنتج هذا الباطل الأعظم من أوجه متعددة :
الوجه الأول : منع كبراه وهي الشرطية فنقول : قولكم لو كان مستويا على العرش لكان مشابها للمخلوق . شرطية متصلة كاذبة لأن الربط بين مقدمها وتاليها غير صحيح ومدار صدق الشرطية على صدق الربط كما قدمنا إيضاحه . فإذا كان الربط بين المقدم والتالي غير صحيح كما هنا كانت الشرطية غير صحيحة ولذلك أنتجت نقيض آيات القرآن والتالي في هذه الشرطية أخص من المقدم والحكم بالأخص على الأعم لا يصدق إلا جزئيا سلبا كان أو إيجابا وسواء كان الحكم معلقاً كما في الشرطيات أو غير معلق كما في الحمليات بل هو تعالى مستوى على عرشه كما قال مع التنزيه التام عن مشابهة المخلوق في استوائه لأن استوائه كسائر صفاته وكذاته في تنزيه الجميع عن مشابهة الخلق فدعوى أن استواءه على عرشه تلزمه مشابهة المخلوق دعوى كاذبة كذبا لا يماثله كذب في الشناعة ومما يوضح هذا أنه لو قال معطل آخر : لو كان سميعا بصيرا لكان مشابها للمخلوق الذي يسمع ويبصر لكنه ليس مشابها للمخلوق ينتج له فليس سميعا ولا بصيرا وهذا القياس كالذي قبله لأن كلا منهما قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة واستثنائية استثنى فيه المستدل به نقيض التالي فأنتج له في زعمه
$[1/146](1/150)
الباطل نقيض المقدم ولو كان الربط صحيحا لكان الإنتاج صحيحا لكن الربط باطل فالإنتاج باطل فلو قال من يثبت السمع والبصر : قولك لو كان سميعا بصيرا لكان مشابها للمخلوق الذي يسمع ويبصر شرطية كاذبة الربط لأن كونه سميعاً بصيرا لا تلزمه مشابهة الخلق لتنزيه سمعه وبصره عن مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم . لقال له خصمه : وكذلك قولك لو كان مستويا على العرش لكان مشابها للمخلوق شرطية كاذبة الربط لأن استواءه على عرشه لا تلزمه مشابهة الخلق لتنزيه استوائه عن مشابهة استواء الخلق لألزمه وألقمه حجرا إذ لا فرق البتة بين الاستواء وبين السمع والبصر في أن كل ما وصف به اللّه منها منزه كل التنزيه عن مشابهة صفات الخلق وما وصف به المخلوق لائق بالمخلوق ولا يليق بالخالق البتة . والفرق بين الصفة والصفة كالفرق بين الذات والذات . والصفات كلها من باب واحد وكذلك الصفات والذات فما أضيف من جميع ذلك للمخلوق فهو حق وهو مناسب لذات المخلوق وما وصف به منها الخالق لائق بذات الخالق منزه عن مشابهة صفات المخلوق . فتبين أن القياس الشرطي المذكور الذي نفوا به صفة الاستواء كاذب الكبرى وهي شرطية والنتيجة تكذب لكذب كل واحدة من المقدمتين . وتبين أن صاحبه يلزمه مثله في كل ما يقربه من الصفات كما مثلنا له بالسمع والبصر آنفا .
الوجه الثاني : من أوجه إبطاله أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته سبع آيات من القرآن العظيم وكل ما خالف القرآن فهو باطل لأن نقيض الحق باطل بلا شك .(1/151)
الوجه الثالث : معارضته بدليل حق ليس فيه شائبة كذب المعارضة المعروفة بالمعارضة بالمثل . كأن يقال لو كان غير مستو على عرشه لما مدح نفسه باستوائه على عرشه في سبع آيات من كتابه لكنه مدح نفسه باستوائه على عرشه في سبع آيات من كتابه . ينتج هو مستو على عرشه كما قال : وهذا قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية استثنى فيه نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم إنتاجا صحيحا موافقا للوحي لصحة الربط بين مقدم الشرطية فيه وتاليها
$[1/147](1/152)
فهي معارضة بالمثل أنتجت الحق الصحيح المطابق لكلام رب العالمين الذي هو نقيض الباطل الذي أنتجه الدليل الباطل . فتحصل أن قول نافي الاستواء : لو كان مستويا على العرش لكان مشابها للخلق باطل من جهات كثيرة منها على طرق المناظرة منع كبرى الدليل ومنها معارضته بمثله ومنها نقضه في الجملة باستلزام مثله المحال لأن مثله مستلزم نفي السمع والبصر بنفس الدليل المذكور ونفيهما محال . وكل دليل أدى إلى المحال فهو محال وذلك في فن البحث والمناظرة من صور النقض الإجمالي كما تقدم إيضاحه لكنه هنا ليس نقضا محضا ولكنه يشبهه شبهاً قوياً من حيث إن المحال يستلزمه مماثل الدليل لا نفس الدليل . فبان أن استواءه جل وعلا على عرشه لا تلزمه مشابهة المخلوق البتة بل هو تعالى قد استوى على عرشه كما قال : من غير مشابهة ولا مماثلة لاستواء المخلوق . والاعتراف بهذا يلزم الخصم لزوما لا تخلص له منه لاعترافه بنظيره في كونه تعالى سميعاً بصيرا قادرا مريدا إلخ وأنه لم يلزم من ذلك مشابهة المخلوقات التي تسمع وتبصر وتقدر وتريد . وكلهم يعترفون بأنه موجود والمخلوق موجود ولم تلزم من ذلك المشابهة والجميع من باب واحد والفرق بين صفة وصفة من ذلك لا وجه له البتة ولا يقوم عليه دليل أبدا كما لا يخفى - وتبين أن قولهم لو كان مستويا على العرش لشابه الخلق شرطية كاذبة وأنها لا تصدق إلا جزئية كما لو سورت بسور جزئي فقيل فيها : قد يكون إذا كان الشيء ، مستويا على مخلوق كان مشابها للمخلوق لأن الاستواء على المخلوق قسمان قسم تلزمه مشابهة المخلوق وهو استواء المخلوق وقسم لا يلزمه ذلك وهو استواء الخالق جل وعلا لأنه لا يشبهه استواء المخلوق بوجه من الوجوه كما أن سائر صفاته جل وعلا لا تشبه شيئا من صفات المخلوقين وكما أن ذاته جل وعلا لا تشبه شيئا من ذواتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا :(1/153)
ووجه جعلهم الدليل المنتج لنقيض القرآن اقترانيا . هو أن يقول نافي الاستواء : قولكم هو مستو على عرشه لو جعلناه مقدمة صغرى وضممنا إليها
$[1/148]
مقدمة صادقة كبرى فإن النتيجة تكون كاذبة فانحصر الكذب اللازم من كذب النتيجة في الصغرى وهو قولكم : هو مستو على عرشه . وإيضاحه أنهم يقولون : هو مستو على العرش وكل مستو على مخلوق عرشا كان أو غيره فهو مشابه للمخلوق ينتج عندهم هو مشابه للمخلوق سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فيقولون : هذه النتيجة كاذبة بالضرورة والقول بها كفر بواح - والعياذ باللّه - وكذبها لم ينشأ إلا من عدم صحة الصغرى التي هي قولكم : هو مستو على العرش لأن الكبرى صادقة .(1/154)
والجواب عن هذا بالمنع وهو منع صدق الكبرى ومنع كذب الصغرى وبيان أن الحق الذي لا شك فيه هو أن الكبرى التي جاءوا بها وهي قولهم : وكل مستو على مخلوق فهو مشابه للمخلوق كاذبة ومن أجل كذبها جاءت النتيجة كاذبة مناقضة لسبع آيات من القرآن . وهذه الكبرى لا تصدق أيضا إلا جزئية كما لو سورت بسور جزئي كأن يقال : بعض المستوى على المخلوق مشابه للمخلوق لأن محمولها أخص من موضوعها فلا يصدق الحكم عليه به إلا جزئيا فقولهم : وكل مستو على مخلوق مشابه للمخلوق كلية موجبة مسورة بسور كلي إيجابي وهي كاذبة السور . والمسورة تكذب لكذب سورها كما تكذب الموجهة لكذب جهتها . وقد بينا أن الاستواء عل المخلوق قسمان أحدهما لا تلزمه مشابهة المخلوق بوجه من الوجوه وهو استواء الخالق جل وعلا كما تقدم إيضاحه : والدليل على أن الصغرى التي ادعوا كذبها أنها هي الصادقة أن اللّه صرح بها في سبع آيات من كتابه . واللّه جل وعلا يقول : { ومن أصدق من اللّه حديثا } ويقول : { ومن أصدق من اللّه قيلا } ولا شك أنه لا أحد أصدق من اللّه . والصغرى صرح اللّه في كتابه العزيز بصدقها في سبعة مواضع منه . فتبين أن الكاذبة هي الكبرى التي جاءوا بها ومن شدة كذبها صارت النتيجة كفر بواحا - والعياذ باللّه - فزعموا للكاذبة الصدق وادعوا على الصادقة الكذب ولأجل هذا الافتراء جاءت النتيجة كاذبة . وبإيضاح
$[1/149](1/155)
كذب الكبرى المذكورة تعلم أن كل قياس اقتراني جاءوا به في الموضوع . فبعض مقدماته كاذب يقينا لأن النتيجة كفر وهي لا تكون كاذبة إلا بسبب كذب إحدى مقدمات الدليل ومثال كذب الكبرى هو ما رأيته . ومثال كذب الصغرى قولهم : الاستواء على العرش تلزمه مشابهة الخلق وكل ما كان كذب فهو ممنوع ينتج لهم الباطل وهو الاستواء ممنوع . وكذب هذه النتيجة لكذب الصغرى التي هي قولهم : الاستواء على العرش تلزمه مشابهة الخلق . وبنحو هذا نعرف كيف يستدلون بالأدلة الباطلة وينتجون بها ما يناقض القرآن . وإبطال جعلهم الدليل اقترانيا من جهات متعددة أيضا . منها المنع كما أوضحناه آنفا . ومنها كون دليلهم فاسد الاعتبار لمخالفته لسبع آيات من القرآن العظيم . ومنها معارضته بالمثل كأن يقال : استواء اللّه على عرشه أثبته في كتابه وكل ما أثبته اللّه في كتابه فهو حق لا شك فيه . ينتج من الشكل الأول . استواء اللّه على عرشه حق لا شك فيه فهذا قياس اقتراني صحيح المقدمتين وصحيح صورة التركيب ولذلك أنتج الحق المطابق للوحي السماوي فهو ينقض القياس الاقتراني الذي نفوا به صفة الاستواء بطريق المعارضة بالمثل لأن كلا منهما اقتراني من الشكل الأول . وكأن يقال استواء اللّه على عرشه صرح في كتابه بالثناء على نفسه به وكل ما كان كذلك فلا يلزمه محذور ولا باطل ينتج من الشكل الأول . استواء اللّه على عرشه لا يلزمه محذور ولا باطل . وهذا أيضا دليل اقتراني صحيح مطابق للقرآن . وهكذا . فهذا النوع من إبطال هذه الأدلة الفاسدة مطرد في جميع أدلتهم التي نفوا بها بعض صفات اللّه الثابتة بالوحي .
بيان عقيدة السلف
فصل في بيان عقيدة السلف الصحيحة الصافية من شوائب التشبيه والتعطيل وقد أردنا أن نوضحها هنا باختصار بأسلوب عربي خال من اصطلاح أهل
$[1/150](1/156)
المنطق وأهل البحث والمناظرة لينفع اللّه بذلك من أراد هدايته من خلقه : اعلم أن المعتقد الصحيح المنجي عند اللّه في آيات الصفات هو ما كان عليه السلف الصالح رضي اللّه عنهم وهو مقتضى نصوص القرآن العظيم .
مبنى العقيدة على أُسس ثلاث
وهو مبني على ثلاثة أسس كلها صرح اللّه بها في كتابه عن نفسه وصرح بها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة . ولا يصف اللّه أعلم باللّه من اللّه : { أأنتم أعلم أم اللّه ؟ } ولا يصف اللّه بعد اللّه أعلم باللّه من رسوله صلى الله عليه وسلم قال في حقه : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } والأول من الأسس الثلاثة المذكورة . هو تنزيه خالق السماوات والأرض جل وعلا من مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وهذا الأساس الأعظم للعقيدة الصحيحة صرح اللّه به في قوله : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وقوله : { هل تعلم له سمياً } وقوله : { فلا تضربوا للّه الأمثال } ومن وفقه اللّه لفهم هذا الأساس الأعظم ونزه خالقه عن مشابهة الخلق تنزيها تاما جازما به قلبه فإن قلبه يكون طاهرا من أقذار التشبيه وتكون عقيدته مبنية على أساس صحيح وهو تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه في ضوء قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } ونحوها من الآيات فإذا استحكم هذا الأساس الأعظم في قلب المؤمن كان استحكامه فيه سببا لتوفيقه للأساس الثاني من الأسس الثلاثة التي ذكرنا . ونعني بالأساس الثاني المذكور تصديق اللّه فيما أثنى به على نفسه . وتصديق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما أثنى على ربه والإيمان بتلك الصفات الثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه .
فهذان أساسان عظيمان الأول تنزيه اللّه تعالى عن مشابهة خلقه والثاني الإيمان
$[1/151](1/157)
بصفاته الثابتة في الوحي الصحيح إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه بعيدا كل البعد عن مشابهة الخلق وكيف يخطر في ذهن المؤمن العاقل مشابهة الخلق لخالقهم ؟ فالصنعة لا تشبه صانعها بحال وهذان الأساسان أوضحهما اللّه في محكم كتابه إيضاحا لا يترك في الحق لبسا ولا شبهة وذلك في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } لأن قوله : { وهو السميع البصير } بعد قوله : { ليس كمثله شيء } فيه سر أعظم وتعليم أكبر في أوضح عبارة وأوجزها لا يترك في الحق لبسا . وإيضاح ذلك أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر صفتان يتصف بهما جميع الحيوانات - ولله المثل الأعلى - فكأن اللّه يقول : يا عبدي لا يخطر في عقلك أن سمعي وبصري يشابهان أسماع المخلوقين وأبصارهم حتى تقول : إن هذا النص يوهم غير اللائق فتؤوله أو تنفيه بل أثبت لي سمعي وبصري كما أثبت بهما على نفسي إثباتا مبنيا على أساس التنزيه ولا حظ في ذلك قوله قبله : { ليس كمثله شيء } وهذا تعليم قرآني لا يترك في الحق لبسا ولا شبهة فأول الآية الكريمة الذي هو { ليس كمثله شيء } تنزيه تام من غير تعطيل وآخرها وهو قوله : { وهو السميع البصير } إيمان بالصفات من غير تشبيه ولا تمثيل فيجب علينا أن نعتقد ما دل عليه أولها من التنزيه وما دل عليه آخرها من إثبات الصفات والإيمان بها على أساس ذلك التنزيه فلا نتنطع بين يدي خالقنا وننفي عنه صفة الكمال التي أثنى بها على نفسه ولا نشبه خالقنا بخلقه بل نجمع بين التنزيه أولاً والإيمان بالصفات ثانياً حسبما دلت عليه آية { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
والأساس الثالث هو أن تعلم أن العقول البشرية عاجزة عن إدراك كيفية اتصاف اللّه جل وعلا بتلك الصفات لأن قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً } صريح في أن إحاطة علم البشر به جل وعلا منفية نفيا باتا قرآنيا .
$[1/152](1/158)
وهذه الأسس الثلاثة التي بينا أنها هي معتقد السلف الصالح وهي تنزيهه جل وعلا عن مشابهة خلقه والإيمان بما وصف به نفسه إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه وكذلك ما وصفه به رسول صلى الله عليه وسلم وقطع الطمع عن الإحاطة بالكيفية دل عليها كلها القرآن العظيم وهو أصل الهدى ومنبع اليقين وكلها طرق سلامة محققة لا شك فيها لأنها كلها تمسك بالقرآن العظيم ومن تمسك به فقد تمسك بالعروة الوثقى . ولا يؤمن أن اللّه جل وعلا يوم القيامة يسأل الجميع فيقول لهم : ماذا كنتم تقولون ؟ فيما أثنيت به على نفسي من الصفات أو أثنى علي به رسولي صلى الله عليه وسلم : أكنتم تنفون ؟ وتدعون أن ظاهره خبيث غير لائق : أو كنتم تنزهونني ؟ وتصدقونني فيما أثنيت به على نفسي أو أثنى علي به رسولي صلى الله عليه وسلم .
$[1/153]
تحقق السلامة لمن تمسك بتلك الأسس
ولا شك أن من مات على العقيدة التي ذكرنا ولقي اللّه يوم القيامة على ذلك أنه آمن من كل عذاب ومن كل توبيخ وتقريع يأتيه من قبل واحد من تلك الأسس الثلاثة المذكورة في ضوء القرآن العظيم فلا يقول له اللّه لم كنت تنزهني في دار الدنيا عن مشابهة خلقي لا واللّه لا يقول له ذلك أبدا لأن ذلك الأساس طريق سلامة محققة كما ترى . ولا يقول له اللّه لم كنت في دار الدنيا تصدقني فيما أثنيت به على نفسي وتصدق رسولي فيما أثنى به علي وتؤمن بتلك الصفات إيمانا مبنيا على أساس التنزيه لا واللّه لا يقول له ذلك لأن هذا الأساس الثاني طريق سلامة محققة ولا يقول له اللّه لم كنت في دار الدنيا تقول إن البشر لا يحيطون بي علما فهذه الأسس الثلاثة التي هي مذهب السلف كلها طريق سلامة محققة وأدلتها ساطعة أنوارها من كتاب اللّه جل وعلا .
الجواب عن الكيف
تنبيهان :(1/159)
الأول : اعلم انه إن قال معطل متنطع نحن لا نعقل كيفية استواء مثلا منزهة عن مشابهة كيفية استواء الخلق فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة عن مشابهة كيفيات استواء الخلق لنعتقدها لأنا لم تدرك عقولنا كيفية استواء منزهة عن ذلك فالجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن يقال هل عرفت كيفية الذات الكريمة المقدسة المتصفة
$[1/154]
بتلك الصفات فلابد أن يقول لا فإن قال لا قلنا له معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات لأن الصفات تختلف باختلاف موصوفاتها فكل صفة بحسب موصوفها ألا ترى ولله المثل الأعلى أن لفظة رأس مثلا إذا أضفتها إلى الإنسان فقلت رأس الإنسان ، وأضفتها إلى الوادي فقلت رأس الوادي ، وأضفتها إلى الجبل فقلت رأس الجبل ، وأضفتها إلى المال فقلت رأس المال أن لفظة الرأس لفظة واحدة وأنها اختلفت حقائقها اختلافا عظيما بحسب اختلاف إضافاتها وهذا في اختلاف الإضافات إلى مخلوقات حقيرة فما بالك بالاختلاف الواقع بين ما أضيف إلى الخالق وما أضيف إلى خلقه فالفرق بين ذلك كالفرق بين ذات الخالق وذوات المخلوقين .
الوجه الثاني : هو أن تقول هل عرفت كيفية منزهة عن مشابهة الخلق في السمع والبصر مثلا فلابد أن يقولوا أيضا لا . ولكنا نعلم أن سمع اللّه وبصره منزهان عن مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم فإن قالوا ذلك قلنا ونحن نقول مثل ذلك في الاستواء وسائر الصفات الثابتة بالوحي الصحيح .
اللغة والاستواء
التنبيه الثاني : اعلم أنه إن قال معطل متنطع أن القرآن العظيم نزل بلغة العرب والاستواء في لغتهم هو هذا الذي نشاهده في استواء المخلوقين فإثباته للّه يستلزم التشبيه بالخلق بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن . فالجواب من وجهين أيضا :(1/160)
الوجه الأول : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يعلمون كل العلم من معاني لغتهم أن بين الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق والمحيي والمحيَى والمميت والمُمات إلى آخره فوارق عظيمة هائلة مستلزمة للاختلاف التام بين صفات الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق . وأن أصل اللغة يقتضي أن تكون صفة كل منهما مناسبة لحاله
$[1/155]
فعظمة صفة الخالق كعظمة ذاته وانحطاط صفة المخلوق عنها كانحطاط ذاته عن عظمة ذاته وما كان يلتبس ذلك على عوام المسلمين في زمنه صلى الله عليه وسلم فما كان يخطر في عقولهم مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه بل يعلمون أن صفة الخالق لائقة به وصفة المخلوق لائقة به والفرق بينهما كالفرق بين الذات والذات .(1/161)
الوجه الثاني : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يعرفون للسمع والبصر مثلا كيفية إلا هذا المعنى المشاهد في المخلوقين بالحاسة التي هي جارحة فيلزم قولكم أن يكون إثبات السمع والبصر ونحوهما من الصفات يستلزم التشبيه بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن فإن قالوا لا يلزم من كون الوضع العربي يراد فيه بمعنى السمع والبصر ما هو مشاهد في المخلوقات أن يكون سمع اللّه وبصره مشابهين لأسماع الخلق وأبصارهم لتنزيه صفاته عن مشابهة صفاتهم قلنا وكذلك نقول في الاستواء ونحوه ولا وجه البتة للفرق بين السمع والبصر وبين الاستواء والمشاهد من الجميع في المخلوقات لا يليق باللّه جل وعلا والذي اتصف اللّه به من الجميع منزه عن مشابهة صفات الخلق كتنزيه سائر صفاته وذاته عن مشابهة صفات الخلق وذواتهم ولا يخفى أنه جل وعلا وصف نفسه بالقدرة فقال : { إن اللّه على شيء قدير } ووصف بعض المخلوقين بالقدرة فقال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } . ووصف نفسه بالسمع والبصر فقال : { إن اللّه سميع بصير } ووصف بعض المخلوقين بالسمع والبصر في قوله : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } ووصف نفسه بالحياة فقال : { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية { وتوكل على الحي الذي لا يموت } ووصف بعض خلقه بالحياة فقال : { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } { وجعلنا من الماء كل شيء حي } . { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } . وأمثال هذا كثيرة جدا في القرآن كما أوضحناه في غير هذا الموضع ووصف نفسه
$[1/156](1/162)
بالاستواء على العرش في سبع آيات من كتابه ووصف بعض خلقه بالاستواء أيضا كقوله : { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } وكقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } الآية وقوله : { واستوت على الجودي } . فاستواؤه وقدرته وسمعه وبصره وحياته وسائر صفاته منزهة عن مشابهة صفات المخلوقين . واستواء المخلوقين وسمعهم وبصرهم وقدرتهم وإرادتهم كل ذلك مناسب لحالهم وبين صفاته تعالى وصفاتهم في الجميع كالفرق بين ذاته وذواتهم . فافهم ما ذكرنا وتمسك بنور الوحي الذي أوضحنا فالسلامة محققة في اتباع الوحي وليست محققة في شيء غيره ولم يضمن اللّه لإنسان أن يكون غير ضال في الدنيا ولا شقي في الآخرة إلا متبع هداه الذي هو القرآن كما في قوله تعالى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } .
$[1/157]
خاتمة في المقارنة بين مذهب السلف
وما يسمونه مذهب الخلف
قد علمت مما ذكرنا أن مذهب السلف مبني على ثلاثة أسس :
الأول : منها تنزيه اللّه جل وعلا عن مشابهة خلقه في ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم .
والثاني : الإيمان بما ثبت في الوحي الصحيح من صفات اللّه على أساس ذلك التنزيه .(1/163)
الثالث : العجز عن الإحاطة لقوله : { ولا يحيطون به علماً } فالسلفي إذا سمع قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } امتلأ قلبه من الإجلال والإعظام والتقديس والتنزيه لتلك الصفة التي أثنى اللّه بها على نفسه وهي أنه استوى على عرشه فيجزم قلبه جزما باتا بأن ذلك الاستواء الذي مدح اللّه به نفسه الكريمة المقدسة بالغ من غايات الكمال والجلال والتنزيه ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فيكون معتقد المضمون قوله : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولم يكن له كفواً أحد } إلى غير ذلك من الآيات وبهذا التنزيه الكريم يتيسر له الإيمان بما وصف اللّه به نفسه من صفة الاستواء لأنه إذا حمل الاستواء على ذلك المعنى اللائق المنزه عن مشابهة استواء المخلوقين سهل عليه الإيمان به وتصديق اللّه في ثنائه به على نفسه على نحو : { ليس كمثله شيء و هو السميع البصير } فالسلفي منزه أولاً ومؤمن بالصفات ومثبت لها على أساس التنزيه ثانياً عالم بعجزه عن إدراك كيفية الاتصاف لأن إحاطة العلم البشري باللّه منفية نفيا باتا قرآنيا كما تقدم إيضاحه فهو بتنزيهه طاهر القلب من أقذار التشبيه وبإيمانه
$[1/158]
بالصفات على أساس التنزيه طاهر القلب من أقذار التعطيل فمذهبه طريق سلامة محققة لا لبس فيها ولا شك في كونها حقا لأن كل مذهبه تمسك بنصوص القرآن العظيم .
أخطاء مذهب الخلف
أما ما يسمونه مذهب الخلف فهو مستلزم ثلاث بلايات كل واحدة منها أكبر من أختها استلزاما لا ينفك :(1/164)
والأولى من البلايا الثلاث : أنه إذا سمع قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } قال إن ظاهر هذا الاستواء الذي مدح اللّه به نفسه في سبع آيات من كتابه هو مشابهة استواء المخلوقين وهذه بلية عظمى لان صاحبها يتهجم على نصوص القرآن العظيم ويفتري عليها أن ظاهرها المتبادر منها هو مشابهة استواء الخلق وكل كلام كان ظاهره المتبادر منه مشابهة الخالق للخلق فهو كلام ظاهره قذر نجس لأنه ليس كلام أقذر ولا أنجس ظاهرا من كلام ظاهره تشبيه الخالق بالخلق سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فكأنهم يقولون للّه : هذا الذي مدحت به نفسك ظاهره المتبادر منه الذم والتنقيص لأنه لا ذم ولا تنقيص أعظم من دعوى مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } لم يقل حرفا واحدا من ذلك ولم يبين شيئا مما زعموه مع أنه صلوات اللّه وسلامه عليه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولاسيما فيما صفات اللّه ولا سيما في ظاهره المتبادر منه الكفر باللّه بتشبيهه بخلقه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . فالافتراء على اللّه بأنه أثنى على نفسه بما ظاهره المتبادر منه التشبيه بالخلق والافتراء على نصوص القرآن بأن ظاهرها المتبادر منها التشبيه هو البلية الأولى من بلايا مذهب الخلف ، حاشا للّه جل وعلا وحاشا نصوص كتابه مما افتروه .
$[1/159](1/165)
والبلية الثانية من البلايا الثلاث : اللازمة لمذهب الخلف : هي أنهم لما قرروا أن ظاهر صفة الاستواء مثلا المتبادر منها مشابهة الخلق قالوا إنها يجب نفيها بالكلية لأجل الصرف عن هذا الظاهر الخبيث في زعمهم ومن تنطع بين يدي اللّه فنفى عنه صفته التي أثنى بها على نفسه في سبع آيات من كتابه فهو أجرؤ من خاص الأسد بأضعاف ولا شك أنه واقع في بلية عظمى لأن التجرؤ على اللّه ونفي ما مدح به نفسه بادعاء أنه غير لائق أو ليس بالهين كما ترى فافتروا على الصفة أولاً أن ظاهرها غير لائق فصاروا مشبهين صفة الخالق الواردة في الوحي بصفة مخلوق شر تشبيه وبسبب ذلك التشبيه المفترى فواصفه الاستواء من أصلها من غير اعتماد على كتاب ولا سنة ونفيهم للاستواء الذي أثنى اللّه به على نفسه في سبع آيات من كتابه هو البلية الثانية اللازمة للمذهب الخلفي ولا شك أن التجرؤ على نفي ما مدح اللّه به نفسه مدحا متكررا في القرآن العظيم أنه بلية عظمى وجناية كبرى .
والبلية الثالثة من البلايا : اللازمة لمذهب الخلف : هي أنهم لما ادعوا على صفة الاستواء أن ظاهرها غير لائق ثم نفوها من أصلها بسبب ذلك زعموا أن معنى { استوى على العرش } استولى عليه فجاءوا بالاستيلاء من تلقاء أنفسهم ونفوا الاستواء الثابت في القرآن وضربوا لذلك مثلا بقول الراجز :
قد استوى بشر على العراق ……من غير سيف ودم مهراق
فقالوا قد استوى بشر على العراق معناه قد استولى عليه وإذا فمعنى ثم استوى على العرش ثم استولى عليه .
ونحن نقول في هذا : أيها المستدل ببيت الرجز هذا على أن الاستواء معناه الاستيلاء ، ألم تخش اللّه ، ألم تستحي من خالق السموات والأرض جل وعلا استحياء يمنعك من أن تشبه استيلاءه على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر على العراق وهل يعقل في الدنيا تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء اللّه على عرشه
$[1/160]
باستيلاء بشر بن مروان على العراق .(1/166)
فاعلم أيها الخلفي أن هذا التشبيه الذي جئت به في الاستيلاء الذي زعمت والبيت الذي استدللت به إنك به أنت أعظم المشبهين نصيبا في التشبيه لصفات الخالق بصفات خلقه وبأي دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو عقل سوغت لنفسك أن تشبه استيلاء اللّه على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر بن مروان على العراق . ثم اعلم أيها الخلفي أن الاستيلاء الذي جئت به من تلقاء نفسك من غير اعتماد على وحي سماوي أنه أشد الصفات توغلا في التشبيه لأن فيه تشبيهه تعالى في استيلائه على عرشه بكل مخلوق قهر مخلوقا فغلبه واستولى عليه وهذا يستلزم من أنواع التشبيه بحورا لا سواحل لها ولا شك أنك ستضطر أيها الخلفي إلى أن تقول هذا الاستيلاء الذي فسرت به استواء منزه عن مشابهة استيلاء المخلوقين . ونحن نسألك ونطلب منك الجواب بالحق الخالي من التعصبات التي تعمي العقلاء وتصمهم أيهما أحق بالتنزيه عن مشابهة صفات الخلق الاستواء الذي أثنى اللّه به على نفسه في سبع آيات من كتابه وأنزل به الروح الأمين على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى متعبدا بلفظه كل حرف منه عشر حسنات لقارئه ويقرأ به في الصلاة ومن أنكر أنه من القرآن كفر بإجماع المسلمين ، أم الأحق بالتنزيه عن مشابهة صفات المخلوقين هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم من غير أن يدل عليه كتاب ولا سنة البتة بوجه من الوجوه والظاهر أنك ستضطر إلى أن تقول إن كلام رب العالمين أحق بالتنزيه من كلام جاء به ناس من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى دليل من نقل ولا عقل إلا إذا كنت مكابرا والمكابر لا داعي للكلام معه .
وهذا الذي ذكرنا في الاستواء جار في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة كما قدمنا أن إيضاح مثال واحد منها كاف في إيضاح الجميع .
{ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ }
$[1/161]
خاتمة حسنة(1/167)
وفي الختام نوصي أنفسنا وإخواننا المسلمين بتقوى اللّه تعالى وعدم التهجم على اللّه تعالى وعلى كتابه بالدعاوى الباطلة والتمسك بنور الوحي الصحيح في المعتقد وغيره لأن السلامة متحققة في اتباع الوحي وليست متحققة في شيء غيره :
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ……ولكنها الأهواء عمت فأعمت
وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن مذهب السلف أسلم وأحكم وأعلم وقولهم مذهب السلف أسلم إقرار منهم بذلك لأن لفظ أسلم صيغة تفضيل من السلامة وما كان يفضل غيره ويفوقه في السلامة فهو أحكم منه وأعلم .
وبه يظهر أن قولهم ومذهب الخلف أحكم وأعلم ليس بصحيح .
بل الأحكم الأعلم هو الأسلم كما لا يخفى .
وهنا انتهى ما أردنا تلخيصه وجمعه والحمد للّه رب العالمين .
وكان الفراغ منه في اليوم الرابع عشر من جمادى الأولى من سنة 1388هـ بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ونرجو اللّه جل وعلا أن يرزقنا الإخلاص في جميع أعمالنا ويجيرنا من فساد القصد في الأعمال إنه سميع مجيب قريب وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
$[1/162]
فهرست
الصفحة……الموضوع
3……تعريف الفن
4……تقسيم الكلام إلى مفرد ومركب وما تجري فيه المناظرة .
8…… فصل في التقسيم .
8……تقسيم الكلام إلى جزئياته .
9……التقسيم الحقيقي .
9……التقسيم الاعتباري .
11……التقسيم العقلي .
12……التقسيم الاستقرائي .
14…… شروط صحة التقسيم .
17…… أوجه الاعتراض على التقسيم .
18…… الأجوبة عليها .
21…… قد يكون التقسيم دليلا مستقلا في التصورات .
25…… التعريفات .
29…… أوجه الاعتراض على التعريف الحقيقي والاسمي .
31…… أجوبة صاحب التعريف .
38 ……تسمية طرفي المناظرة في التعريف .
38…… التصديق وبيان المناظرة فيه .
$[1/163]
60……موضع المناظرة في رؤية اللّه تعالى .
63…… الغضب .
63…… المكابرة .
65…… النقض وأقسامه .
67…… أقسام النقض .
70…… الأجوبة عن النقض .
71…… المعارضة .
72…… تقسيمات المعارضة .(1/168)
73…… المعارضة في العلة ، والمعارضة في الدليل .
74…… المعارضة على سبيل القلب .
76…… المعارضة بالمثل .
77…… المعارضة بالغير .
78 …… أجوبة المعلل عن المعارضة .
82…… ترتيب المناظرة في التصديق .
84…… النقل ، العبارة .
88…… المصادرة .
89…… المعاندة ، المجادلة ، الجواب الجدلي ، انتهاء المناظرة .
91…… آداب المتناظرين .
92…… آيات قرآنية تستلزم طرق المناظرة .
94…… إلزام اليهود إنزال الكتاب .
96…… العدول في الاصطلاح .
101…… صور القياس الاقتراني في القرآن .
102…… تطبيق المناظرة على القوادح في الأصول .
…… تطبيق في القياس الفقهي والقياس المنطقي .
103…… النقض في المنطق ليس نقضا في الأصول .
104…… فن المناظرة كفن المنطق .
$[1/164]
104……التفصيل بين البحث . وفن المنطق . وفن الأصول .
105…… النقض .
106…… تخصيص العلة ليس بنقض .
108…… الجواب على النقض .
110… … القادح بالكسر عند أهل الأصول .
111…… الحكمة في اصطلاح أهل الأصول .
112…… الفروع المبنية على المعلل بالمظان .
116…… تطبيق اعتراض المسمى بالمناقضة .
118…… الخلاف في انقطاع المستدل بتوجيه المنع على الحكم .
123…… الخلاف في قبول قلب المساواة .
…… المعارضة بغير القلب .
124…… المعارضة في الفرع .
125…… الجواب عن المعارضة .
129…… فساد الاعتبار .
…… الجواب عن القدح بفساد الاعتبار .
130…… فساد الوضع .
131…… الجواب عن القدح بفساد الوضع .
133…… القادح بالتقسيم .
134…… الجواب عن القادح بالتقسيم .
135…… القادح بعدم التأثير .
137…… القول بالموجب .
140…… القدح في إفضاء الحكم إلى المصلحة .
142…… القادح يكون الوصف خفيا .
143…… القدح بمخالفة حكم الفرع لحكم الأصل .
145…… مناظرة المتكلمين في آيات الصفات .
146…… الرد على المتكلمين .
$[1/165]
150……بيان عقيدة السلف الصحيحة .
151…… مبنى العقيدة على أسس ثلاث .
154…… الجواب عن الكيف .
155…… اللغة والاستواء .(1/169)
159…… أخطاء مذهب الخلف .
162…… خاتمة حسنة .(1/170)