آثار الذنوب على الأفراد والشعوب
عبد الهادي بن حسن وهبي
المقدمة
إِنَّ الحَمدَ لِلّاهِ نَحمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ وَنَستَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللّاهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِن سَيِّئَاتِ أَعمَالِنَا، مَن يَهدِهِ اللّاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَن لَا اله إِلَّا اللّاهُ، وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعدُ: فَإنَّ خَيرَ الكَلامِ كَلامُ اللّاهِ، وَخَيرَ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
وَبَعدُ: «اقشَعَرَّتِ الأَرضُ وَأَظلَمَتِ السَّمَاءُ، وَظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ مِن ظُلمِ الفَجَرَةِ، وَذَهَبَتِ البَرَكَاتُ، وَقَلَّتِ الخَيرَاتُ، وَتَكَدَّرَتِ الحَيَاةُ مِن فِسقِ الظَلَمَةِ، وَبَكَى ضَوءُ النَّهَارِ وَظُلمَةُ اللَّيلِ مِنَ الأَعْمَالِ الخَبِيثَةِ وَالأَفعَالِ الفَظِيعَةِ، وَشَكَا الكِرَامُ الكَاتِبُونَ إِلَى رَبِّهِم مِن كَثرَةِ الفَوَاحِشِ وَغَلَبَةِ المُنكَرَاتِ وَالقَبَائِحِ! قَسَتِ القُلُوبُ وَكَثُرَتِ الذُّنُوبُ وَانصَرَفَ الخَلقُ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ، فَعَظُمَ بِذَلِكَ المُصَابُ وَاستَحكَمَ الدَّاءُ وَعَزَّ الدَّوَاءُ. وَهَذَا - وَاللّاهِ - مُنذِرٌ بِسَيلِ عَذَابٍ قَدِ انعَقَدَ غَمَامُهُ، وَمُؤذِنٌ بِلَيلِ بَلَاءٍ قَدِ ادلَهَمَّ ظَلَامُهُ»(1)بِمَا كَسَبَتْ أَيدِي العِبَادِ.
«
__________
(1) ... «الفوائد» (ص 88 - 89)، لابن قيِّم الجوزيَّة [مكتبة المؤيَّد - الرياض].(1/1)
إِنَّ المَعَاصِي تُخَرِّبُ الدِّيَارَ العَامِرَةَ، وَتَسلُبُ النِّعَمَ البَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ. فَكَم لَهَا مِنَ العُقُوبَاتِ وَالعَوَاقِبِ الوَخِيمَةِ؟! وَكَم لَهَا مِنَ الآثَارِ وَالأَوصَافِ الذَّمِيمَةِ؟! وَكَم أَزَالَت مِن نِعمَةٍ وَأَحَلَّت مِن مِحنَةٍ وَنِقمَةٍ؟!»(1).
وَهَل فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلَّا وَسَبَبُهُ ارتِكَابُ القَبَائِحِ وَالمُوبِقَاتِ، وَاجتِرَاحُ المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ؟ فَالذُّنُوبُ هِيَ أَسَاسُ البَلَاءِ وَأَصلُ الوَبَاءِ.
«فَمَا الَّذِي أَخرَجَ الأَبَوَينِ مِنَ الجَنَّةِ، دَارِ اللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ وَالبَهجَةِ وَالسُّرُورِ، إِلَى دَارِ الآلَامِ وَالأَحزَانِ وَالمَصَائِبِ؟
وَمَا الَّذِي أَخرَجَ إِبلِيسَ مِن مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقبَحَ صُورَةٍ وَأَشنَعَهَا، وَبَاطِنَهُ أَقبَحَ مِن صُورَتِهِ وَأَشنَعَ، وَبُدِّلَ بِالقُربِ بُعدًا، وَبِالرَّحمَةِ لَعنَةً، وَبِالجَمَالِ قُبحًا، وَبِالجَنَّةِ نَارًا تَلَظَّى، وَبِالإِيمَانِ كُفرًا؟
وَمَا الَّذِي أَغرَقَ أَهلَ الأَرضِ كُلَّهُم حَتَّى عَلَا المَاءُ فَوْقَ رُؤُوسِ الجِبَالِ؟
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ عَلَى قَومِ عَادٍ حَتَّى أَلقَتهُم مَوتَى عَلَى وَجهِ الأَرضِ كَأَنَّهُم أَعجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وَدَمَّرَت مَا مَرَّت عَلَيْهِ مِن دِيَارِهِم وَحُرُوثِهِم وَزُرُوعِهِم وَدَوَابِّهِم حَتَّى صَارُوا عِبرَةً لِلأُمَمِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ؟
وَمَا الَّذِي أَرسَلَ عَلَى قَومِ ثَمُودَ الصَّيحَةَ حَتَّى قُطِّعَت قُلُوبُهُم فِي أَجوَافِهِم وَمَاتُوا عَن آخِرِهِم؟
__________
(1) ... «المجموعة الكاملة» (6/118)، للعلَّامة السعدي رحمه الله.(1/2)
وَمَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ حَتَّى سَمِعَتِ المَلَائِكَةُ نَبِيحَ كِلَابِهِم، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيهِم، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَأَهلَكَهُم جَمِيعًا، ثُمَّ أَتبَعَهُم حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمطَرَهَا عَلَيهِم، فَجَمَعَ عَلَيْهِم مِنَ العُقُوبَاتِ مَا لَمْ يَجمَعهُ عَلَى أُمَّةٍ غَيرِهِم، وَلِإِخوَانِهِم أَمثَالُهَا، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ؟
وَمَا الَّذِي أَرسَلَ عَلَى قَومِ شُعَيبٍ سَحَابَ العَذَابِ كَالظُّلَلِ، فَلَمَّا صَارَ فَوْقَ رُؤُوسِهِم أَمطَرَ عَلَيْهِم نَارًا تَلَظَّى؟
وَمَا الَّذِي أَغرَقَ فِرعَونَ وَقَومَهُ فِي البَحرِ ثُمَّ نُقِلَت أَروَاحُهُم إِلَى جَهَنَّمَ، وَالأَجسَادُ لِلغَرَقِ، وَالأَروَاحُ لِلحَرْقِ؟
وَمَا الَّذِي خَسَفَ بِقَارُونَ وَدَارِهِ وَمَالِهِ وَأَهلِهِ؟
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ القُرُونَ مِن بَعدِ نُوحٍ بِأَنوَاعِ العُقُوبَاتِ وَدَمَّرَهَا تَدمِيرًا؟»(1).
سُبحَانَ اللّاهِ وَبِحَمدِهِ. غَرَقٌ وَحَرِيقٌ وَرِيحٌ عَقِيمٌ. {ما تذر من شيءٍ أتت عليه إلا جعلته كالرميم} [الذاريات: 24]. وَصَيحَةٌ وَاحِدَةٌ تَجعَلُ العُصَاةَ كَالهَشِيمِ. وَخَسفٌ مُرَوِّعٌ يَجعَلُ عَالِيَ الأَرضِ سَافِلَهَا. وَمَطَرٌ بِالحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ. وَسَحَابٌ يُمطِرُ نَارًا تَلَظَّى. أَفَلَا يَعتَبِرُ اللَّاحِقُونَ بِالمَاضِينَ؟!
مَا هِيَ آثَارُ الذُّنُوبِ عَلَى الأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ؟ هَذَا أَوَانُ الحَدِيثِ عَنْهَا فَأَلْقِ سَمْعَكَ وَأَحْضِر قَلْبَكَ. وَكُن مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
الراجي عفو ربه
عبد الهادي بن حسن وهبي(2)
__________
(1) ... «الداء والدواء» (ص 65 - 67).
(2) ... بيروت - لبنان. ص.ب 6093/13 شوران.
هاتف 626787/03 - فاكس 791051/01
موقع الإنترنت: moc.jaressa.www.
البريد الإلكتروني: ten.jaressa@jaressa.(1/3)
آثار الذنوب على الأفراد والشعوب
إِنَّ أَضرَارَ المَعَاصِي، وَشُؤمَ الذُنُوبِ عَظِيمٌ وَخَطِيرٌ؛ وَلَهَا «مِنَ الآثَارِ القَبِيحَةِ المَذمُومَةِ، وَالمُضِرَّةِ بِالقَلبِ وَالبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، مَا لَا يَعلَمُهُ إِلَّا اللّاهُ»(1). فَمِنهَا:
أَوَّلًا: حِرمَانُ العِلمِ: فَالعِلمُ نُورٌ يَقذِفُهُ اللّاهُ فِي القَلبِ، وَالمَعصِيَةُ تُطفِئُ ذَلِكَ النُّورَ، فَكَم هِيَ المَعَارِفُ الَّتِي تَعَلَّمنَاهَا ثُمَّ تَاهَت فِي سَرَادِيبِ النِّسيَانِ، كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ المَعَاصِي.
فَكَمْ مِنْ حَافِظٍ لِكِتَابِ اللّاهِ أُنسِيَهُ حِينَ تَعَلَّقَ قَلبُهُ بِمَعصِيَةٍ، وَكَم مِن مُجِدٍّ فِي الدَّعوَةِ إِلَى اللّاهِ حُرِمَ بَرَكَةَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ.
شَكَوتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفظِي ... ... فَأَرشَدَنِي إِلَى تَركِ المَعَاصِي
وَقَالَ: اعلَم بِأَنَّ العِلمَ فَضلٌ ... ... وَفَضلُ اللّاهِ لَا يُؤتَاهُ عَاصٍ
قَالَ شَيخُ الإِسلَامِ رحمه الله: «وَاللّاهُ سُبحَانَهُ جَعَلَ مِمَّا يُعَاقِبُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الذُّنُوبِ: سَلبَ الهُدَى وَالعِلمِ النَّافِعِ»(2).
وَلَمَّا كَانَ أَهلُ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ أَتقَى لِلّاهِ، وَأَبعَدَ عَنِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ مَن بَعدَهُم كَانَ دُونَهُم فِي تَحقِيقِ العِلمِ وَإِصَابَةِ الحَقِّ.
قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ رحمه الله: «مَا مِنْ أَحَدٍ تَعَلَّمَ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ، إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ؛ وَذَلِكَ بَأَنَّ اللّاهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير}، وَنِسْيَانُ القُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ»(3).
__________
(1) ... «الداء والدواء» (ص 85).
(2) ... «مجموع الفتاوى» (14/152).
(3) ... رواه ابن المبارك في «الزهد» (رقم: 85)، وقال الشيخ أبو إسحاق الحويني في تعليقه على «فضائل القرآن» لابن كثير (ص 222): «سنده جيد».(1/4)
ثَانِيًا: حِرمَانُ الرِّزقِ: كَمَا أَنَّ التَّقوَى مَجلَبَةٌ لِلرِّزقِ، فَتَركُ التَّقوَى مَجلَبَةٌ لِلفَقرِ. فَمَا استُجلِبَ رِزقُ اللّاهِ بِمِثلِ تَركِ المَعَاصِي، وَأَمَّا مَا نَرَاهُ مِن وَاقِعِ الكُفَّارِ أَوِ الفَاسِقِينَ مِن سَعَةِ رِزقٍ فَإِنَّمَا هِيَ استِدرَاجٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيتَ اللّاهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ استِدرَاجٌ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44](1). أَي: بِمَا أُعطُوا مِنَ الصِّحَّةِ، وَالعَافِيَةِ، وَالغِنَى، وَالأَموَالِ، وَالرَّاحَةِ، فَرَحَ بَطَرٍ وَأَشَرٍ، حَتَّى إِذَا حَصَلَ فِيهِم ذَلِكَ أَخَذَهُمُ اللّاهُ، وَهُوَ الآخِذُ بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إن أخذه أليم شديد} [هود: 201]. وَمَعنَى البَغتَةِ: الفَجأَةُ. وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يُؤخَذُ بِهِ الإِنسَانُ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالعَذَابِ قَبلَ نُزُولِهِ يَكُونُ مُتَجَلِّدًا مُستَعِدًّا. أَمَّا إِذَا بَغَتَهُ قَبلَ استِعدَادٍ لَهُ فَهَذَا أَشَدُّ وَأَنكَى(2).
__________
(1) ... رواه أحمد (4/145)، وصححه لغيره الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (413).
(2) ... «العَذب النَّمِير» (1/258 - 259)، بتصرف يسير.(1/5)
فَإِنَّ المَقصُودَ بِالرِّزقِ مَا قَلَّ وَكَفَى، لَا مَا كَثُرَ وَأَلهَى. كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى، خَيرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلهَى»(1). فَكَم مِمَّن يَملِكُ الآلَافَ المُؤَلَّفَةَ وَهِيَ تُشقِيهِ وَلَا تُسعِدُهُ. فَهُوَ لََا يَنفَكُّ مِنْ ثَلَاثٍ:
هَمٌّ لَازِمٌ.
وَتَعَبٌ دَائِمٌ.
وَحَسرَةٌ لَا تَنقَضِي.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ شَيئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا طَمَحَت نَفسُهُ إِلَى مَا فَوقَهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَو كَانَ لِابنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَملَأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللّاهُ عَلَى مَنْ تَابَ»(2).
وَكَم مِن رَجُلٍ أَحوَالُهُ مَستُورَةٌ هُوَ قَرِيرُ العَينِ، هَانِئُ البَالِ.
عَن عُبَيدِ اللّاهِ بنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن أَصبَحَ مِنكُم آمِنًا فِي سِربِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»(3).
قَالَ الحُطَيْئَةُ:
وَلَستُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمعَ مَالٍ ... ... ... وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ
وَتَقوَى اللّاهِ خَيرُ الزَّادِ ذُخرًا ... ... ... وَعِندَ اللّاهِ لِلأَتْقَى مَزِيدُ
__________
(1) ... قطعة من حديث: رواه أحمد (5/197)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح الترغيب والترهيب» (1760).
(2) ... رواه البخاري (6436)، ومسلم (1049).
(3) ... رواه الترمذي (2346)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (2/543).(1/6)
ثَالِثًا: تَعسِيرُ الأُمُورِ عَلَى العَاصِي فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغلَقًا دُونَهُ أَو مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللّاهَ جَعَلَ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا، فَمَن عَطَّلَ التَّقوَى جَعَلَ لَهُ مِن أَمرِهِ عُسرًا.
وَيَالِلّاهِ العَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ العَبْدُ أَبوَابَ الخَيرِ، وَأَبوَابَ المَصَالِحِ مَسدُودَةً عَنْهُ، وَطُرُقَهَا مُتَعَسِّرَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ لَايَعلَمُ مِن أَيْنَ أُتِيَ؟
فَيَا مُستَفتِحًا بَابَ المَعَاشِ بِغَيرِ مِفتَاحِ التَّقوَى! كَيْفَ تُوَسِّعُ طَرِيقَ الخَطَايَا، وَتَشكُو ضِيقَ الرِّزقِ؟!
قَالَ اللّاهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2 - 3].
«فَقَد ضَمِنَ اللّاهُ لِلمُتَّقِينَ أَن يَجعَلَ لَهُم مَخرَجًا مِمَّا يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَأَن يَرزُقَهُم مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُل ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقوَى خَلَلًا، فَليَستَغفِرِ اللّاهَ، وَليَتُب إِلَيهِ»(1).
إِذَا كُنْتَ تَتَّقِي اللّاهَ فَثِق أَنَّ اللّاهَ سَيَجعَلُ لَكَ مَخرَجًا مِنْ كُلِّ ضِيقٍ، وَاعتَمِد ذَ الِكَ لِأَنَّهُ قَولُ مَنْ يَقُولُ لِلشَّيءِ: كُن! فَيَكُونَ.
وَلِلّاهِ دَرُّ القَائِلِ:
بِتَقْوَى الاله نَجَا مَنْ نَجَا ... ... وَفَازَ وَصَارَ إِلَى مَا رَجَا
وَمَن يَتَّقِ اللّاهَ يَجْعَلْ لَهُ كَمَا ... ... قَالَ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجَا
«
__________
(1) ... «شرح العقيدة الطحاويَّة» (ص 269)، لابن أبي العز الحنفي [المكتب الإسلامي - بيروت].(1/7)
فَشُهُودُ العَبدِ نَقْصَ حَالِهِ إِذَا عَصَى رَبَّهُ، وَانسِدَادَ الأَبوَابِ فِي وَجهِهِ، وَتَوَعُّرَ المَسَالِكِ عَلَيهِ، حَتَّى يَعلَمَ مِنْ أَينَ أُتِيَ؟ وَوُقُوعُهُ عَلَى السَّبَبِ المُوجِبِ لِذَلِكَ، مِمَّا يُقَوِّي إِيمَانَهُ»(1).
رَابِعًا: حِرمَانُ الطَّاعَةِ. فَإِنَّ شُؤمَ الذُّنُوبِ يُورِثُ الحِرمَانَ، وَيَعْقِبُ الخُذلَانَ. فَيَا عَجَبًا كَيفَ يُوَفَّقُ لِلطَّاعَةِ مَن هُوَ فِي شُؤمِ المَعصِيَةِ؟ وَكُلَّمَا ازدَادَ العَبْدُ طَاعَةً وَقُربًا كُلَّمَا يُسِّرَ لَهُ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَأَضْحَت أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِن أَيِّ شَيْءٍ. حَتَّى يَعِزَّ عَلَى العَبْدِ مُفَارَقَتُهَا، فَلَوْ قِيلَ لِلعَبْدِ المُحسِنِ: صَلِّ الفَجْرَ فِي البَيْتِ مَا وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَلَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الحُوتُ إِذَا فَارَقَ المَاءَ، حَتَّى يُعَاوِدَ الطَّاعَةَ فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ وَََتَقَرَّ عَيْنُهُ، وَلَو عَطَّلَ المُجْرِمُ المَعْصِيَةَ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَضَاقَ صَدْرُهُ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا؛ حَتَّى تَصِيرَ المَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً، وَصِفَاتٍ لَازِمَةً، وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً. حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الفُسَّاقِ لَيُوَاقِعُ المَعْصِيَةَ مِن غَيْرِ لَذَّةٍ يَجِدُهَا وَلَا دَاعِيَةٍ إِلَيْهَا، إِلَّا لِمَا يَجِدُ مِنَ الأَلَمِ بِمُفَارَقَتِهَا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ شَيْخُ القَوْمِ الحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَكَأْسٌ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... ... ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
__________
(1) ... «مدارج السالكين» (1/323)، و«تهذيب المدارج» (1/362) - بتصرُّف -.(1/8)
عِنْدَمَا شَرِبَ الكَأْسَ الأُولَى وَجَدَ لَذَّةً، وَالآنَ هُوَ يَشْرَبُ لِيَدْفَعَ الأَلَمَ الَّذِي يُعَانِي مِنْهُ. فَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ فِي بِحَارِ الهُمُومِ وَالغُمُومِ، وَالأَحْزَانِ وَالآلَامِ وَالحَسَرَاتِ.
وَقَالَ:
دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... ... وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ
وَقَالَ الآخَرُ:
وَكَانَتْ دَوَائِي وَهِيَ دَائِي بِعَيْنِهِ ... ... كَمَا يَتَدَاوَى شَارِبُ الخَمْرِ بِالخَمْرِ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إِلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنِ الطَّاعَةِ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الحِرْمَانِ.
خَامِسًا: الذُّنُوبُ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا، فَكَانَ مِنَ الغَافِلِينَ.
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: عَنْ رَسُولِ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فإِذَا هُوَ نَزَعَ واسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللّاهُ: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14]»(1).
صُقِلَ قَلْبُهُ: حَتَّى يَصِيرَ كَالمِرْآةِ المَصْقُولَةِ فِي جِلَائِهَا وَصَفَائِهَا، فَيَمْتَلِئَ نُورًا.
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ ... ... فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ وَانْجَلى(2)
__________
(1) ... أخرجه الترمذي (3334)، وحسنه الألباني رحمه الله فِي «صحيح الجامع» (1670).
(2) ... «تفسير القرطبي» (91/260).(1/9)
وَهَذَا مِثَالٌ لِأَحَدِ الذُّنُوبِ يَضْرِبُهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِنَحْذَرَ مِنَ التَّمَادِي فِي المَعْصِيَةِ، لِأَنَّهَا تُسَبِّبُ الغَفْلَةَ وَالخَتْمَ عَلَى القَلْبِ، فَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللّاهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ»(1).
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبْدَانَ الغَافِلِينَ قُبُورٌ لِقُلُوبِهِم، وَقُلُوبُهُم فِيهَا كَالأَمْوَاتِ فِي القُبُورِ، كَمَا قِيلَ:
فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللّاهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمُ ... ... وَأَجْسَامُهُم قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ
سَادِسًا: وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ: مَا يَحِلُّ بِالأَرْضِ مِنَ الخَسْفِ وَالزَّلَازِل، وَاللّاهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [العنكبوت: 04] أَي: مَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِيَظْلِمَهُم لِكَمَالِ عَدْلِهِ، وَغِنَاهُ التَّامِّ عَنْ جَمِيعِ الخَلْقِ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُم يَظْلِمُونَ: مَنَعُوهَا حَقَّهَا الَّذِي هِيَ بِصَدَدِهِ، فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِعِبَادَةِ اللّاهِ وَحْدَهُ. فَهَؤُلَاءِ وَضَعُوهَا فِي غَيْر مَوْضِعِهَا وَشَغَلُوهَا بِالشَّهَوَاتِ وَالمَعَاصِي، فَضَرُّوهَا غَايَةَ الضَّرَرِ، مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُم يَنْفَعُونَهَا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا حَدَثَ لِلأُمَمِ السَّابِقَةِ: مِنَ الخَسْفِ وَالمَسْخِ وَالغَرَقِ، يُمْكِنُ أَن يَحْدُثَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، إِذَا سَلَكُوا مَسَالِكَهُم وَانْتَهَجُوا مَنَاهِجَهُم.
__________
(1) ... رواه مسلم (865).(1/10)
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَقَذْفٌ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الخُمُورُ»(1).
«وَلَقَدْ ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ فِي زَمَنِنَا الحَاضِرِ ظُهُورًا فَاحِشًا، مَا ظَهَرَت مِثْلَهُ قَطُّ: ظُهُورًا مَسْمُوعًا بِالآذَانِ وَمَشْهُودًا بِالعَيَانِ، فِي كِلِّ وَقْتٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ: فِي البَيْتِ وَالسُّوقِ وَالدُّكَّانِ»(2).
أَلَيْسَ مَا يُشَاهَدُ فِي الفَضَائِيَّاتِ وَغَيْرِهَا، مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ الفَوَاحِشِ المَذْكُورَةِ وَالدَّعْوَةِ لَهَا وَتَزْيِينِهَا، تَصْدِيقًا لِهَذَا الحَدِيثِ العَظِيمِ؟! فَلْنَتَّقِ اللّاهَ وَلْنُطَهِّر بُيُوتَنَا مِنْ هَذِهِ القَنَوَاتِ المُنْحَرِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِنَا الخَسْفُ وَالمَسْخُ وَالقَذْفُ؟!
لَا نَدْرِي كَيْفَ يَأْمَنُ العُصَاةُ فِي عَصْرِنَا، مَعَ مَا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ أَفْعَالٍ سَيِّئَةٍ؟! وَقَدْ أَخْبَرَ اللّاهُ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ أَمْثَالِهِم فَقَالَ: {أفأمن الذين مكروا السيئات} - أَي القبيحات قبحًا شديدًا - {أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النحل: 45].
__________
(1) ... رواه الترمذي (2212)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (2/479).
(2) ... «الضياء اللامع من الخطب الجوامع» (ص 635)، للعلَّامة العثيمين رحمه الله.(1/11)
فَلْيَسْتَحِ المُجْرِمُ مِنْ رَبِّهِ، أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللّاهِ عَلَيْهِ نَازِلَةً فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ، وَمَعَاصِيهِ صَاعِدَةً إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ، وَلْيَعْلَم أَنَّ اللّاهَ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، وَأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ العَاصِي، أَخَذَهُ أَخذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فَلْيَتُب إِلَى اللّاهِ، وَلْيَرْجِعْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
سَابِعًا: الِاخْتِلَافُ وَالتَّمَزُّقُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا تَوَادَّ اثنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا»(1).
وَلَم يَذْكُر رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم نَوْعَ الذَّنْبِ، بَلْ أَيُّ ذَنْبٍ يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُتَحَابِّينَ!! وَكَذَلِكَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
__________
(1) ... رواه أحمد (2/68 رقم 5357)، وصححه الألباني رحمه الله بمجموع طرقه في «الصحيحة» (637).(1/12)
وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ بَعْضَ الجُزْئِيَّاتِ مِنَ العِبَادَةِ أَوِ السُّنَّةِ الوَاجِبَةِ أَوِ الشَّكْلِيَّاتِ - كَمَا يُسَمُّونَهَا - لَا تَسْتَوْجِبُ مِثْلَ هَذِهِ العُقُوبَةِ، وَلَكِنْ تَأَمَّلُوا الحَدِيثَ التَّالِيَ: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُم (ثلاثًا)، وَاللّاهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُم أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللّاهُ بَيْنَ قُلُوبِكُم» قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ، وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ(1).
فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ شَدِيدَةٌ - وَهِيَ اخْتِلَافُ القُلُوبِ - يُحَذِّرُنَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَيُخَوِّفُنَا مِنْهَا نَتِيجَةً لِعَدَمِ إِقَامَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنَ الذُّنُوبِ؟!
وَالعَجَبُ مِمَّنْ يُهَوِّنُ مِنْ شَأْنِ هَذِهِ السُّنَّةِ العَمَلِيَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا.
ثَامِنًا: الهَزَائِمُ العَسْكَرِيَّةُ: فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ كَانَتْ بِدَايَةُ المَعْرَكَةِ لِصَالِحِ المُسْلِمِينَ، وَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةُ إِخْوَانَهُمْ يَتَقَاسَمُونَ الغَنَائِمَ تَرَكَ مُعَظَمُهُمُ الجَبَلَ، فَكَانَ مَا كَانَ وَحَصَلَ مَا حَصَلَ وَكَانَتِ الهَزِيمَةُ.
__________
(1) ... رواه أبو داود (662)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (1/196).(1/13)
قَالَ تَعَالَى لِخِيَارِ خَلْقِهِ وَأَصْحَابِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {أولما أصابتكم مصيبة} - حِينَ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ مِنْهُم نَحْوُ سَبْعِينَ - {قد أصبتم مثليها} - مِنَ المُشْرِكِينَ، فَقَتَلْتُمْ سَبْعِينَ مِنْ كِبَارِهِمْ، وَأَسَرْتُم سَبْعِينَ - {قلتم أنى هذا} - أَيْ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا وَهُزِمْنَا؟ - {قل هو من عند أنفسكم} - حِينَ تَنَازَعْتُم وَعَصَيْتُم - {إن الله على كل شيء قدير} [آل عمران: 165].
تَبَيَّنَ لَنَا مِمَّا سَبَقَ: أَنَّ النَّصْرَ قَدْ يَنْقَلِبُ إِلَى هَزِيمَةٍ إِذَا حَصَلَتِ المَعْصِيَةُ، وَمِمَّا هُوَ جَدِيرٌ بِالمُلَاحَظَةِ؛ أَنَّ صُفُوفَ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ كَانَتْ تَضُمُّ إِلَيْهَا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَخَيْرَ الأَنَامِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ صَحَابَةَ رَسُولِ اللّاهِ رضي الله عنهم، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نُزُولِ العُقُوبَةِ بِسَبَبِ وُقُوعِ بَعْضِهِم فِي المَعْصِيَةِ؛ فَكَيْفَ بِصُفُوفِ المُسْلِمِينَ اليَوْمَ، وَقَدْ كَثُرَ الخَبَثُ، وَظَهَرَتْ أَلْوَانُ الفَسَادِ فِي كَثِيرٍ مِنَ البِلَادِ؟!
«إِنَّ الطَّمَعَ فِي النَّصْرِ بِدُونِ وُجُودِ أَسْبَابِهِ، طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ إِنَّهُ كَالطَّمَعِ فِي الأَوْلَادِ بِدُونِ نِكَاحٍ، وَكَالطَّمَعِ فِي الأَشجَارِ بِدُونِ غَرْسٍ، أَوْ فِي رِبْحِ التِّجَارَةِ بِدُونِ اتِّجَارٍ»(1).
__________
(1) ... «الضياء اللامع» (ص 327).(1/14)
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الأَمْرِ، مَا لَمْ تَعْصُوا اللّاهَ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ؛ بَعَثَ إِلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا القَضِيبُ» - لِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ -، ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ، فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِدُ(1).
يَلْحَى: أَي يَقْشُرُ، وَالصَّلْدُ: هُوَ الأَمْلَسُ.
وَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدِ اسْتَمَرَّتِ الخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ عِدَّةَ قُرُونٍ، ثُمَّ دَالَتْ دَوْلَتُهُم، بِعِصْيَانِهِم لِرَبِّهِم، وَاتِّبَاعِهِم لِأَهْوَائِهِم، فَسَلَّطَ اللّاهُ عَلَيْهِم مِنَ الأَعَاجِمِ مَنْ أَخَذَ الحُكْمَ مِنْ أَيْدِيهِم، وَذَلَّ المُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِم، إِلَّا مَا شَاءَ اللّاهُ. وَلِذَلِكَ فَعَلَى المُسْلِمِينَ - إِذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِي سَعْيِهِم لِإِعَادَةِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ - أَنْ يَتُوبُوا إِلَى رَبِّهِم، وَيَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِم، وَيَتَّبِعُوا أَحْكَامَ شَرِيعَتِهِم(2).
__________
(1) ... رواه أحمد (1/458 رقم: 4380)، وصححه الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (1552).
(2) ... «السلسلة الصحيحة» (4/70).(1/15)
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفيرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُسُ، وَفُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعضُهُم إِلَى بَعْضٍ، رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي؛ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللّاهُ فِيهِ الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟! قَالَ: «وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ، مَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلَى اللّاهِ! إِذَا هُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ؛ بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ المُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى»(1).
وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا يُلْقِي الأَضْوَاءَ الكَاشِفَةَ عَلَى الأَسْبَابِ، وَالخُطُوبِ الكَامِنَةِ وَرَاءَ نَكْبَةِ أُمَّتِنَا الإِسْلَامِيَّةِ، فَلَمَّا تَرَكْنَا أَمْرَ رَبِّنَا صُرْنَا إِلَى مَا صُرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الفِرْقَةِ وَالشَّتَاتِ وَالذُّلِّ وَالهَوَانِ(2).
تَاسِعًا: المَعَاصِي سَبَبٌ لِهَوَانِ العَبْدِ عَلَى رَبِّهِ. وَمَتَى هَانَ العَبْدُ عَلَى اللّاهِ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ، كما قَالَ تَعَالَى: {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18]؛ وَمَنْ ذَا يُكرِمُ مَنْ أَهَانَهُ اللّاهُ؟! وَإِذَا هَانَ العَبدُ عَلَى اللّاهِ، انقَطَعَت عَنهُ أَسبَابُ الخَيرِ، وَاتَّصَلَت بِهِ أَسبَابُ الشَّرِّ.
إِذَا كَانَ هَذا فِعلَ عَبدٍ بِنَفسِهِ ... ... فَمَن ذَا لهُ مِن بَعدِ ذَلِكَ يُكرِمُ(3)
«فَلَا إِكرَامَ أَعلَى مِنْ إِكرَامِ اللّاهِ العَبدَ عَلَى شُكرِهِ، وَلا إِهَانَةَ أَوضَعُ مِنْ إِهَانَتِهِ عَلَى كُفرِهِ»(4).
«
__________
(1) ... رواه أحمد في «الزهد» (ص 176)، بسند صحيح.
(2) ... انظر: «أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب» (ص 62)، للصواف.
(3) ... «الداء وَالدواء» (ص 123).
(4) ... «فتح الحميد في شرح التوحيد» (4/1818).(1/16)
فَإِذَا كُنتَ تُرِيدُ أَن تَكُونَ كَرِيمًا عِندَ اللّاهِ وَذَا مَنزِلَةٍ عِنْدَهُ، فَعَلَيْكَ بِالتَّقوَى. فَكُلَّمَا كَانَ الإِنسَانُ لِلّاهِ أَتقَى، كَانَ عِنْدَهُ أَكْرَمَ»(1).
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله خبير بما تعملون} [الحجرات: 31].
قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «فَالنَّاسُ رَجُلانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللّاهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللّاهِ»(2).
أَسأَلُ اللّاهَ أَن يَجعَلَنِي وَإِيَّاكُم مِنَ المُتَّقِينَ.
عَاشِرًا: دَاءُ الأُمَمِ!! فَمَا دَاءُ الأُمَمِ؟!
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «دَبَّ إِلَيْكُم دَاءُ الأُمَمِ [قَبْلَكُم]: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ؛ هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحلِقُ الشَّعرَ؛ وَلَكِن تَحْلِقُ الدِّينَ... »(3).
الحَالِقَةُ: الخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ: أَيْ: تُهْلِكَ وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ، كَمَا يَسْتَأْصِلُ المُوسُ الشَّعْرَ.
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللّاهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ، مِثلُ البَغيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»(4).
«
__________
(1) ... «شرح رياض الصالحين» (1/523)، للعلَّامة العثيمين رحمه الله [مدار الوطن للنشر - الرياض].
(2) ... أخرجه الترمذي (3270)، وَصححه العلامة الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (3/334).
(3) ... رواه الترمذي (2510)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (2/607).
(4) ... رواه أبو داود (4902)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (3/202).(1/17)
وَقَد سَبَقَتْ سُنَّةُ اللّاهِ: أَنَّهُ لَو بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ، جَعَلَ البَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا»(1).
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْمًا عَلَى جَبَلٍ ... ... لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّاهِ، وَمَا دَاءُ الأُمَمِ؟ قَالَ: «الأَشَرُ وَالبَطَرُ، وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ»(2).
الأَشَرُ: أَي كُفْرُ النِّعْمَةِ.
البَطَرُ: الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَشِدَّةُ المَرَحِ وَالفَرَحِ، وَطُولُ الغِنَى.
وَالتَّكَاثُرُ: جَمْعُ المَالِ.
وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ: أَي تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الغَيْرِ.
حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ: أَي مُجَاوَزَةُ الحَدِّ؛ وَهُوَ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا أَسَاسُ الآفَاتِ، وَرَأْسُ الخَطِيئَاتِ، وَأَصْلُ الفِتَنِ، وَعَنْهُ تَنْشَأُ الشُّرُورُ.
وَهَذِهِ الذُّنُوبُ وَالعُقُوبَاتُ السَّبْعَةُ - الَّتِي سَمَّاهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: دَاءَ الأُمَمِ - مَوْجُودَةٌ عِنْدَ عَدَدٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى وَصَلَ الأَمْرُ إِلَى المَحَاكِمِ بَيْنَ الأَخِ وَأَخِيهِ، وَالأَبِ مَعَ أَبْنَائِهِ بِسَبَبِهَا أَو غَيْرِهَا. وَاللّاهُ المُستَعَانُ.
«
__________
(1) ... «بدائع الفوائد» (2/766) [دار عالم الفوائد - مكة المكرمة].
(2) ... رواه الحاكم (4/168 رقم 7311)، وحسنه الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (680).(1/18)
المَصَائِبُ تَتَفَاوَتُ، فَأَعْظَمُهَا المُصِيبَةُ فِي الدِّينِ، نَعُوذُ بِاللّاهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الإِنْسَانُ»(1).
اللّاهُمَّ لَا تَجْعَل مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا.
الحَادِي عَشَرَ: المَعَاصِي مُمْحِقَةٌ بَرَكَةَ العُمُرِ، وَبَرَكَةَ الرِّزقِ، وَبَرَكَةَ العِلْمِ، وَبَرَكَةَ العَمَلِ، وَبَرَكَةَ الطَّاعَةِ.
وَبِالجُمْلَةِ تَمْحَقُ بَرَكَةَ الدِّينِ وَالدُّنيَا، فَلا تَجِدُ أَقَلَّ بَرَكَةً فِي عُمُرِهِ وَدِينِهِ وَدُنيَاهُ مِمَّنْ عَصَى اللّاهَ، وَمَا مُحِقَتِ البَرَكَةُ مِنَ الأَرْضِ إِلَّا بِمَعَاصِي الخَلْقِ. وَتَرْكُ المَعَاصِي وَالمُحَرَّمَاتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ البَرَكَاتِ: مِنَ الخَيْرَاتِ وَالأَنْعَامِ وَالأَرْزَاقِ، وَالأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الآفَاتِ. قَالَ اللّاهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96]. فَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِدْرَارًا، وَأَنْبَتَ لَهُم مِنَ الأَرْضِ، مَا بِهِ يَعِيشُونَ، وَتَعِيشُ بَهَائِمُهُم، فِي أَخْصَبِ عَيْشٍ، وَأَغْزَرِ رِزْقٍ، مِنْ غَيْرِ عَنَاءٍ وَلَا تَعَبٍ، وَلَا كَدٍّ وَلَا نَصَبٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا} [الجن: 16]، أَي: مَاءً هَنِيئًا مَرِيئًا.
__________
(1) ... «تسلية أهل المصائب» (ص 27)، بتصرُّف يسير.(1/19)
عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ، فَقَالَ: «هَلُمُّوا إِلَيَّ» فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا، فَقَالَ: «هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم نَفَثَ فِي رُوعِي: أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا؛ فَاتَّقُوا اللّاهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزقِ: أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللّاهِ، فَإِنَّ اللّاهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»(1).
وَلَيسَت سَعَةُ الرِّزْقِ وَالعَمَلِ بِكَثْرَتِهِ، وَلَكِنْ سَعَةُ الرِّزْقِ بَالبَرَكَةِ فِيهِ. وَلَا طُولُ العُمُرِ بِكَثْرَةِ الشُّهُورِ وَالأَعوَامِ، وَلَكِن مَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ لِلّاهِ وَبِاللّاهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا فِي حَيَاتِهِ.
«وَإِنَّمَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ اللّاهِ سَبَبًا لِمَحْقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالأَجَلِ، لِأَنَّ الشَّيطَانَ مُوَكَّلٌ بِهَا وَبِأَصْحَابِهَا؛ فَسُلْطَانُهُ عَلَيهِم، وَكُلُّ شَيءٍ يَتَّصِلُ بِهِ الشَّيطَانُ وَيُقَارِنُهُ فَبَرَكَتُهُ مَمْحُوقَةٌ، وَكُلُّ شَيءٍ لَا يَكُونُ لِلّاهِ فَبَرَكَتُهُ مَنْزُوعَةٌ»(2).
«
__________
(1) ... رواه البزار «كشف الأستار» (1253)، وقال الألباني رحمه الله في «صحيح الترغيب والترهيب» (1702): «حسن صحيح».
(2) ... «الداء والدواء» (ص 131 - 132).(1/20)
فَكُلُّ زَمَانٍ شَغَلَهُ المُؤمِنُ بِطَاعَةِ اللّاهِ، فَهُوَ زَمَانٌ مُبَارَكٌ عَلَيهِ؛ وَكُلُّ زَمَانٍ شَغَلَهُ العَبْدُ بِمَعْصِيَةِ اللّاهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَشْؤُومٌ عَلَيهِ. فَالشُّؤمُ فِي الحَقِيقَةِ: هُوَ مَعْصِيَةُ اللّاهِ تَعَالَى»(1). وَاليُمْنُ وَالبَرَكَةُ: هُوَ طَاعَةُ اللّاهِ وَتَقْوَاهُ.
وَفِي الجُمْلَةِ: فَلَا شُؤْمَ إِلَّا المَعَاصِي وَالذُّنُوبُ؛ فَإِنَّهَا تُسْخِطُ اللّاهَ عَزَّ وَجَلَّ.
عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِيَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشرِ كَلِمَاتٍ، وَذَكَرَ مِنهَا: «إيَّاكَ وَالمَعْصِيَةَ؛ فَإِنَّ بالمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ»(2).
فَإِذَا سَخِطَ اللّاهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدِهِ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ عَن عَبْدِهِ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
عِبَادَ اللّاهِ: احذَرُوا الذُّنُوبَ، فَإِنَّهَا مَشْؤُومَةٌ، عَوَاقِبُهَا ذَمِيمَةٌ، وَعُقُوبَاتُهَا أَلِيمَةٌ، وَالقُلُوبُ المُحِبَّةُ لَهَا سَقِيمَةٌ، وَالنُّفُوسُ المَائِلَةُ إِلَيْهَا غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا غَنِيمَةٌ، وَالعَافِيَةُ مِنْهَا مَحْمُودَةٌ، وَالبَلِيَّةُ بِهَا، لَا سِيَّمَا بَعْدَ نُزُولِ الشَّيْبِ، دَاهِيَةٌ عَظِيمَةٌ.
طَاعَةُ اللّاهِ خَيرُ مَا اكتَسَبَ العَبدُ ... ... فَكُن طَائِعًا لِلّاهِ لَا تَعصِيَنَّهُ
مَا هَلَاكُ النُّفُوسِ إِلَّا المَعَاصِي ... ... فَاجتَنِب مَا نَهَاكَ لَا تَقرَبَنَّهُ
إِنَّ شَيئًا هَلَاك نَفسِكَ فِيهِ ... ... ... يَنبَغِي أَن تَصُونَ نَفسَكَ عَنْهُ
__________
(1) ... «لطائف المعارف» (ص 151).
(2) ... رواه أحمد (5/238)، وحسنه لغيره الألباني رحمه الله في «صحيح الترغيب والترهيب» (570).(1/21)
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا كَرِهَ اللّاهُ مِنكَ شَيئًا، فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ»(1).
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللّاهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ! صِفْهُم لَنَا، جَلِّهِم لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُم وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُم إِخْوَانُكُم وَمِنْ جِلْدَتِكُم، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُم أَقْوَامٌ، إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللّاهِ، انْتَهَكُوهَا»(2).
قَالَ القَحْطَانِيُّ رحمه الله:
وَإِذَا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلمَةٍ ... ... ... وَالنَّفسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغيَانِ
فَاستَحْيِ مِن نَظرِ الاله وَقُلْ لَهَا ... ... إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي(3)
__________
(1) ... رواه ابن حبان (403)، وحسنه لغيره الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (1055).
(2) ... رواه ابن ماجه (4245)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح الترغيب والترهيب» (2346).
(3) ... «نونية القحطاني» (ص 90).(1/22)
الثَّانِي عَشَرَ: المَعْصِيَةُ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ؛ فَإِنَّ العِزَّ كُلَّ العِزِّ فِي طَاعَةِ اللّاهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {? ? ? ? ? ? ??} [فاطر: 01]؛ «أَي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ وَيطلُبُهَا فَليَطلُبهَا مِنَ اللّاهِ، فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَميعًا لَيسَ لِغَيرِهِ مِنْهَا شَيءٌ، فَتَشمَلُ الآيَةُ كُلَّ مَنْ طَلَبَ العِزَّةَ، وَيَكُونُ المقصُودُ بِهَا التَّنبِيهَ لِذَوِي الأَقدَارِ وَالهِمَمِ مِنْ أَينَ تُنَالُ العِزَّةُ وَتُستَحَقُّ، وَمِنْ أَيِّ جَهَةٍ تُطلَبُ؟»(1)فَمَن «كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ، فَليَطلُبهَا بِطَاعَةِ اللّاهِ وَذِكرِهِ، مِنَ الكَلِم ِالطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ»(2).
«فَإِنَّ المُطِيعَ لِلَّهِ عَزِيزٌ، وَإِن كَانَ فَقِيرًا لَيسَ لَهُ أَعوَانٌ»(3). وَكُلَّمَا كَانَت هَذِهِ الصِّفَةُ فِيهِ أَكْمَلَ، كَانَ أَشَدَّ عِزَّةً وَأَكمَلَ رِفعَةً.
وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ! النَّاسُ يَتَعَرَّفُونَ إِلى مُلُوكِهِم وَكُبَرَائِهِم، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيهِم لِيَنالُوا بِهِمُ العِزَّةَ وَالرِّفعَةَ، فَتَعَرَّف أَنتَ إِلى اللّاهِ، وَتَوَدَّد إِلَيهِ: تَنَلْ بِذَلِكَ غَايَةَ العِزِّ وَالرِّفعَةِ.
وَفي دُعَاءِ القُنُوتِ: «إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَن وَالَيتَ، وَلَا يَعِزُّ مَن عَادَيتَ»، وَمَنْ أَطَاعَ اللّاهَ فَقَد وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَلَهُ مِنَ العِزِّ بِحَسَبِ طَاعَتِهِ، وَمَن عَصَاهُ فَقَد عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ، وَلَهُ مِنَ الذُّلِّ بِحَسَبِ مَعصِيَتِهِ(4).
__________
(1) ... «الداء وَالدواء» (ص 277).
(2) ... «المجموعة الكاملة» (3/258).
(3) ... «الداء والدواء» (ص 277).
(4) ... «الداء والدواء» (ص 277).(1/23)
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلأَنصَارِ: «يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ! أَلَم تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللّاهُ؟» قَالُوا: صَدَقَ اللّاهُ وَرَسُولُهُ(1).
وَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لأَبِي عُبَيدَةَ بنِ الجَرَّاحِ رضي الله عنهما: «إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَومٍ فَأَعَزَّنَا اللّاهُ بِالإِسلَامِ، فَمَهمَا نَطلُبِ العِزَّ بِغَيرِ مَا أَعَزَّنَا اللّاهُ بِهِ، أَذَلَّنَا اللّاهُ»(2).
فَصَاحِبُ الطَّاعَةِ عَزِيزٌ، بِعِزَّةِ اللّاهِ، قَوِيٌّ، وَلَو لَمْ يَكُن لَهُ أَنصَارٌ إِلَّا اللّاهُ، مَحمُودٌ فِي أُمُورِهِ، حَسَنُ العَاقِبَةِ. وَصَاحِبُ المَعصِيَةِ ذَلِيلٌ، فَلا عِزَّ لَهُ، وَلَا قَائِمَةَ تَقُومُ لَهُ. وَلِذَلِكَ يَقُولُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَن خَالَفَ أَمرِي»(3).
«وَمُخَالَفَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ بِالمَعَاصِي، فَلَهُ نَصِيبٌ مِنَ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ. وَأَهْلُ هَذَا النَّوْعِ خَالَفُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، مِن أَجْلِ دَاعِي الشَّهَوَاتِ.
وَالنَّوعُ الثَّانِي: مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ مِنْ أَجْلِ الشُّبُهاتِ، وَهُم أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَالبِدَعِ، فَكُلُّهُم لَهُم نَصِيبٌ مِنَ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، بِحَسَبِ مُخَالَفَتِهِم لِأَوَامِرِهِ»(4).
قَالَ الشَّاعِرُ:
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ... ... ... وَقَد يُورِثُ الذُّلَّ إِدمَانُهَا
وَتَركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ ... ... ... وَخَيرٌ لِنِفسِكَ عِصيَانُهَا
__________
(1) ... رواه أحمد (3/57)، وَإسناده صحيح.
(2) ... رواه الحاكم (1/61 - 62)، بسندٍ صحيحٍ.
(3) ... قطعة من حديث رواه أحمد (2/50)، وَصححه الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع» (2831).
(4) ... انظر: «الحكم الجديرة بالإذاعة» (ص31 - 32)، لابن رجب رحمه الله.(1/24)
حَيَاةُ الأَبْدَانِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَحَيَاةُ القُلُوبِ بِالذِّكْرِ وَتَرْكِ الذُّنُوبِ.
وَالعَاقِلُ مِنَ النَّاسِ مَنْ عَرَفَ مَوَاطِنَ العِزَّةِ فَتَحَرَّاهَا، وَمَوَاطِنَ الذُلِّ فَتَوَقَّاهَا.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله:
وَهُوَ المُعِزُّ لِأَهلِ طَاعَتِهِ وَذَا ... ... ... عِزٌّ حَقِيقِيٌّ بِلَا بُطلَانِ
وَهُوَ المُذِلُّ لِمَنْ يَشَاءُ بِذِلَّةِ الـ ... ... ... ـدَّارَينِ ذُلَّ شَقًا وَذُلَّ هَوَانِ(1)
وَهَذَا الذُّلُّ وَالهَوَانُ الَّذِي أَصَابَ أُمَّتَنَا، لَا يُرْفَعُ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللّاهِ تَعَالَى.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِيْنَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللّاهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوْا إِلَى دِيْنِكُمْ»(2).
فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِيْنَةِ» إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعٍ مِنَ المُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ، ذَاتِ التَّحَايُلِ عَلَى الشَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ» إِشَارَةٌ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا، وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامِهَا.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ» وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ شَغَلَهُ الحَرْثُ وَالزَّرْعُ عَنِ القِيَامِ بِالوَاجِبَاتِ، وَالتَّشَاغُلِ بِهَا عَنِ الدِّينِ.
__________
(1) ... «الكافية الشافية» (ص 213) [دار ابن الجوزي - الدمَّام].
(2) ... رواه أبو داود (3462)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (2/365).(1/25)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ - وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الحَرْثِ - فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ؛ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللّاهُ الذُّلَّ»(1).
وَهَذَا الحَدِيثُ تَرْجَمَ لَهُ البُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: «بَابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الِاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ، أَوْ مُجَاوَزَةِ الحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ».
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ» هُوَ ثَمَرَةُ الخُلُودِ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} [التوبة: 38].
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «سَلَّطَ اللّاهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوْا إِلَى دِيْنِكُمْ» فِيهِ إِشَارَةٌ صَرِيحَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الدِّينِ طَرِيقُنَا إِلَى رَفْعِ الذُّلِّ، وَالدِّينُ الَّذِي يَرفَعُ الذُّلَّ هُوَ الأَمْرُ الأَوَّلُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ.
__________
(1) ... رواه البخاري (2321).(1/26)
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ - وَنَحْنُ جُلُوسٌ عَلَى بِسَاطٍ -: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ». قَالُوا: كَيْفَ نَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللّاهِ؟ قَالَ: فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى البِسَاطِ؛ فَأَمْسَكَ بِهِ، قَالَ: «تَفْعَلُونَ هَكَذَا»، وَذَكَرَ لَهُم رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا: «أَنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ» فَلَمْ يَسْمَعْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: مَا قَالَ؟ قَالَ: يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ». قَالُوا: فَكَيْفَ لَنَا يَا رَسُولَ اللّاهِ؟ أَوْكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الأَوَّلِ»(1).
فَالذُّلُّ قَد نَزَلَ بِنَا، وَالهَوَانُ قَد أَحَاطَ بِخِيَامِنَا، وَالعَذَابُ قَد أَحْدَقَ بِسَاحَتِنَا، فَلَا يَرْفَعُ اللّاهُ كُلَّ ذَلِكَ عَنَّا حَتَّى نَعُودَ إِلَى دِينِنَا.
إِذًا لَا بُدَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ العَوْدَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى الدِّينِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ: فِي العَقِيدَةِ، وَفِي العِبَادَةِ، وَفِي السُّلُوكِ، وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ.
قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله: «لَنْ يَصْلُحَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا».
__________
(1) ... رواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (4811)، وصححه الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (3165).(1/27)
الثَّالِثُ عَشَرَ: ذَهَابُ الحَيَاءِ الَّذِي «هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الأَخْلَاقِ وَأَجَلِّهَا، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا». قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلَامِ الحَيَاءُ»(1).
«وهُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ القَلْبِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ، وَذَهَابُهُ ذَهَابُ الخَيْرِ أَجْمَعِهِ»(2).
فَإِنَّ حَيَاةَ القَلْبِ هِيَ المَانِعَةُ مِنَ القَبَائِحِ الَّتِي تُفْسِدُ القَلْبَ. فَإِنَّ الحَيَّ يَظْهَرُ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالقَبِيحِ، وَلَهُ إِرَادَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ، بِخِلَافِ الوَقِحِ الَّذِي لَيْسَ بِحَيِيٍّ فَلَا حَيَاءَ مَعَهُ، وَلَا إِيمَانَ يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ(3). فَلَا يَحُسُّ بِمَا يُؤْلِمُهُ مِنَ القَبَائِحِ.
لِذَلِكَ تَرَاهُ يَرْضَى بِتَبَرُّجِ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَمُخَالَطَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَدُخُولِهَا عَلَيْهِم وَدُخُولِهِم عَلَيْهَا، حَتَّى عَظُمَ الشَّرُّ وَعَظُمَ البَلَاءُ. وَمِنْ تِلْكَ البَلايَا: الأَجْهِزَةُ الخَبِيثَةُ الَّتِي يُدْخِلُهَا المُسْلِمُ بَيْتَهُ، فَإِنَّهَا تُرَبِّي زَوجَتَهُ وَبَنَاتَهُ عَلَى ذَهَابِ الحَيَاءِ.
يَعْكُفُ عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، عَلَى مُشَاهَدَةِ المَحَطَّاتِ المَاجِنَةِ، وَاسْتِمَاعِ الأَصْوَاتِ الفَاجِرَةِ، الَّتِي تَعْمَلُ فِي القُلُوبِ أَعْظَمَ مِنَ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ، دُونَ حَسِيبٍ أَو رَقِيبٍ.
__________
(1) ... رواه ابن ماجه (4181)، وصححه لغيره الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (940).
(2) ... «الداء والدواء» (ص 110).
(3) ... «مجموع الفتاوى» (10/109 - 110).(1/28)
فَيَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَعْظَمَهَا؟ وَخَسَارَةٍ مَا أَكْبَرَهَا؟ بُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَصَادَ بِهَا الشَّيْطَانُ الخَلْقَ الكَثِيرَ، وَالجَمَّ الغَفَيرَ.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَع مَا شِئْتَ»(1).
وَالمَعْنَى: أَنَّ الرَّادِعَ عَنِ القَبِيحِ إنَّمَا هُوَ الحَيَاءُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَحِ فَإِنَّهُ يَصْنَعُ مَا شَاءَ.
فَالحَيَاءُ هُوَ الحَائِلُ بَيْنَ الإِقْدَامِ عَلَى المَعْصِيَةِ وَالإِمْسَاكِ عَنْهَا، وَأَنَّهُ كَالسَّدِّ إِذَا تَحَطَّمَ انْهَمَرَ المَاءُ يُغْرِقُُ كُلَّ شَيْءٍ، فَالَّذِي لَا حَيَاءَ لَهُ لَا سَدَّ عِنْدَهُ، فَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنَ الإِقْدَامِ عَلَى المَعْصِيَةِ لِيَفْعَلَهَا، وَلَا يَرَى بِهَا بَأْسًا.
وَقَالَ القَائِلُ:
وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي ... ... وَبَيْنَ رُكُوبِهَا إِلَّا الحَيَاءُ
فَكَانَ هُوَ الدَّوَاءَ لَهَا وَلَكِن ... ... إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ
وَلِلّاهِ دَرُّ القَائِلِ:
إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاللّاهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ ... ... وَلَا الدُّنيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَى بِخَيرٍ ... ... وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
يَبْقَى العُودُ غَضًّا طَرِيًّا مَا بَقِيَتِ القِشْرَةُ الخَضْرَاءُ، فَإِنْ سَقَطَتْ فَقَد آذَنَتْ حَيَاتُهُ بِالضُّمُورِ.
__________
(1) ... رواه البخاري (6120).(1/29)
الرَّابِعُ عَشَرَ: وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ الحَاضِرَةَ، وَتَقْطَعُ النِّعَمَ الوَاصِلَةَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، فَتُزِيلُ الحَاصِلَ، وَتَمْنَعُ الوَاصِلَ؛ فَكَم أَزَالَتْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَكَم جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ، وَكَم أَحَلَّتْ مِنْ مَذَلَّةٍ وَبَلِيَّةٍ؟!
فَمَا زَالَت عَنِ العَبدِ نِعمَةٌ إِلَّا بِذَنبٍ، وَلَا حَلَّت بِهِ نِقمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، فَإِنَّ نِعَمَ اللّاهِ مَا حُفِظَ مَوْجُودُهَا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ مَفْقُودُهَا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللّاهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللّاهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا وَآفَةً: سَبَبًا يَجْلِبُهُ، وَآفَةً تُبْطِلُهُ؛ فَجَعَلَ أَسْبَابَ نِعَمِهِ الجَالِبَةَ لَهَا طَاعَتَهُ، وَآفَاتِهَا المَانِعَةَ مِنْهَا مَعْصِيَتَهُ؛ فَإِذَا أَرَادَ اللّاهُ حِفْظَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ أَلْهَمَهُ رِعَايَتَهَا بِطَاعَتِهِ فِيهَا، وَإِذَا أَرَادَ زَوَالَهَا عَنْهُ خَذَلَهُ حَتَّى عَصَاهُ بِهَا. وَمِنَ العَجَبِ عِلْمُ العَبْدِ بِذَلِكَ مُشَاهَدَةً فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَسَمَاعًا لِمَا غَابَ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ أُزِيلَتْ نِعَمُ اللّاهِ عَنْهُم بِمَعَاصِيهِ، وَهُوَ مُقيمٌ عَلَى مَعْصِيَةِ اللّاهِ.
وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جَارٍ عَلَى النَّاسِ لَا عَلَيْهِ، وَوَاصِلٌ إِلَى الخَلْقِ لَا إِلَيْهِ. فَأَيُّ جَهْلٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا؟! وَأَيُّ ظُلْمٍ لِلنَّفْسِ فَوْقَ هَذَا؟!
«فَمَا حَصَلَ لِلعَبْدِ حَالٌ مَكْرُوهَةٌ قَطُّ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللّاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ»(1).
قَالَ تَعَالَى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} [الشورى: 30].
__________
(1) ... «مدارج السالكين» (1/321)، و«تهذيب المدارج» (1/360).(1/30)
يَعْنِي: مَا أصَابَ العِبَادَ مِنْ مُصِيبَةٍ، فِي أَبْدَانِهِم، وَأَمْوَالِهِم، وَأَوْلَادِهِم، وَفَيمَا يُحِبُّونَ، وَيَكُونُ عَزِيزًا عَلَيْهِم، إِلَّا بِسَبِبِ مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِم مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ مَا يَعْفُو اللّاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ.
«فَمَا سُلِّطَ عَلَى العَبْدِ مَنْ يُؤْذِيهِ إِلَّا بِذَنْبٍ يَعْلَمُهُ أَو لَا يَعْلَمُهُ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ العَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ، أَضْعَافُ مَا يَعلَمُهُ مِنْهَا، وَمَا يَنْسَاهُ مِمَّا عَمِلَهُ وَعَلِمَهُ؛ أَضْعَافُ مَا يَذْكُرُهُ»(1).
وَقَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اختَلَجَ عِرقٌ، وَلَا عَينٌ إِلَّا بِذَنبٍ، وَمَا يَدفَعُ اللّاهُ [عَنهُ] أَكثَرُ»(2).
فَيَعْفُو سُبْحَانَهُ عَن كَثِيرٍ مِنْ إِجْرَامِكُم، فَلَا يُعَاقِبُكُم بِهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَو عَاقَبَ عِبَادَهُ بِإِجْرَامِهِم، مَا بَقِيَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45].
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ اللّاهَ يُؤَاخِذُنِي وَعِيسَى بِذُنُوبِنَا، لَعَذَّبَنَا وَلَا يَظْلِمُنَا شَيْئًا» قَالَ: وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيْهَا(3).
__________
(1) ... «بدائع الفوائد» (2/770).
(2) ... رواه الطبراني في «الصغير» (1053)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع» (5521).
(3) ... رواه ابن حبان (659)، وصححه الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (3200).(1/31)
وَأَعْظَمُ مَا تَقَعُ المَصَائِبُ، وَالقَحْطُ، وَمَنْعُ الغَيْثُ، وَتَسَلُّطُ العَدُوِّ، إِذَا وَقَعَ خَلَلٌ بِالتَّقْوَى، مِنْ تَرْكِ الطَّاعَاتِ، وَارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرَّعدُ: 11]. وَقَالَ: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الأَنفَال: 35]. أَخبَرَ اللّاهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعمَتَهُ الَّتِي أَنعَمَ بِهَا عَلَى قَوْمٍ مِنْ عَافِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَأَمْنٍ وَعِزَّةٍ وَرَخَاءٍ وَهَنَاءٍ، وَلَا يَسْلُبُهُم إِيَّاهَا إِلَّا إِذَا بَدَّلُوا أَحْوَالَهُمُ الجَمِيلَةَ بِأَحْوَالٍ قَبِيحَةٍ، حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم، فَيُغَيِّرُوا طَاعَةَ اللّاهِ بِمَعصِيَتِهِ، وَشُكرَهُ بِكُفرِهِ، وَأَسبَابَ رِضَاهُ بِأَسبَابِ سَخَطِهِ، فَإِذَا غَيَّرُوا غُيِّرَ عَلَيِهِم، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلعَبِيدِ.
«وَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ وَأَمثَالُهَا فِي القُرآنِ يَجِبُ الِاعتِبَارُ بِهَا، وَأَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَتَسَبَّبُ فِي تَغيِيرِ نِعْمَةِ اللّاهِ عَنْهُ بِتَغْيِيرِهِ مَا فِي نَفْسِهِ، بَل يَدُومُ عَلَى طَاعَةِ اللّاهِ وَتَقْوَاهُ؛ لِأنَّهُ إِذَا تَنَكَّرَ لِرَبِّهِ قَد يُغَيِّرُ نِعْمَتَهُ عَنْهُ، وَيَنْقُلُهُ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى النِّقْمَةِ، وَمِنَ السَّلَامَةِ إِلَى العَذَابِ»(1).
العَجَبُ مِمَّن يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ مِنَ اللّاهِ، ثُمَّ لَا يَستَحِي مِنَ الاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نَهَاهُ!
وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ:
أَنَالَكَ رِزقَهُ لِتَقُومَ فِيهِ ... ... بِطَاعَتِهِ وَتَشكُرَ بَعضَ حَقِّهِ
__________
(1) ... «العذب النمير» (5/ 122 - 123).(1/32)
فَلَم تَشكُر لِنِعمَتِهِ وَلَكِن ... ... قَوِيتَ عَلَى مَعَاصِيهِ بِرِزقِهِ
وَمَنْ كَثُرَت عَلَيهِ النِّعَمُ فَلَيُقَيِّدهَا بِالشُّكرِ، وَإِلَّا ذَهَبَت. والمُسْتَعِينُ بِالنِّعَمِ عَلَى المَعَاصِي مُسْتَوْجِبٌ السَّلْبَ. وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ اللّاهَ عَلَى نِعَمِهِ، فَقَدِ اسْتَدْعَى زَوَالَهَا.
«فَمَا حُفِظَتْ نِعْمَةُ اللّاهِ بِشَيْءٍ قَطُّ مِثْلِ طَاعَتِهِ، وَلَا حَصَلَتْ فِيهَا الزِّيَادَةُ بِمِثْلِ شُكْرِهِ، وَلَا زَالَتْ عَنِ العَبْدِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ لِرَبِّهِ، فَإِنَّهَا نَارُ النِّعَمِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا، كَمَا تَعْمَلُ النَّارُ فِي الحَطَبِ اليَابِسِ»(1).
إِذَا كُنتَ فِي نِعمَةٍ فَارعَهَا ... ... فَإِنَّ المعَاصِي تُزِيلُ النِّعَم
وَحَافِظ عَلَيهَا بِشُكرِ الإِلَه ... ... فُشكرُ الإِلَهِ يُزِيلُ النِّقَم
وَلَو لَم يَكُن مِن فَضلِ الشُّكرِ إِلَّا أَنَّ النِّعَمَ بِهِ مَوصُولَةٌ، وَالمَزِيدَ لَهَا مُرتَبِطٌ بِهِ؛ لَكَانَ كَافِيًا، فَهُوَ حَافِظٌ لِلْمَوجُودِ مِنَ النِّعَمِ، جَالِبٌ لِلمَفقُودِ مِنْهَا بِالمَزِيدِ. فَهُوَ قَيدٌ لِلمَوْجُودِ وَصَيْدٌ لِلمَفْقُودِ، يَعْنِي: تُقَيَّدُ بِهِ النِّعَمُ الحَاضِرَةُ، وتُستَجْلَبُ بِهِ النِّعَمُ المَرْجُوَّةُ. فَإِنَّ النِّعَمَ إِذَا شُكِرَتْ دَرَّتْ وَتَزَايَدَتْ وَقَرَّتْ، وَإِذَا كُفِرَتْ تَنَاقَصَتْ وَانْمَحَقَتْ وَفَرَّتْ، قَالَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7]، نِعمَةً إِلى نِعمَةٍ تَفَضُّلًا مِنَ الكَرِيمِ المَنَّانِ.
فَالشُّكرُ جَلَّابٌ لِلنِّعَمِ، دَافِعٌ لِلنِّقَمِ، وَمُوْجِبٌ المَزِيدَ.
فَلَنْ يَنْقَطِعَ المَزِيدُ مِنَ اللّاهِ تَعَالَى، حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكرُ مِنَ العَبدِ.
__________
(1) ... «بدائع الفوائد» (2/712).(1/33)
فَاحذَرُوا المَعَاصِي كُلَّهَا، فَإِنَّ ارتِكَابَهَا سَبَبٌ لِزَوَالِ النِّعَمِ، وَلِحُلُولِ المَصَائِبِ وَالنِّقَمِ، وَعَلَيْكُم بِالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَةِ اللّاهِ تَعَالَى، فَإِنَّّ الطَّاعَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ البَرَكَاتِ، وَتَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ، وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ، وَدَفْعِ النَّقَمَاتِ، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَإِعْطَاءِ الطَّلَبَاتِ، وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ، فَمَا استُجْلِبَت نِعْمَةٌ، وَلَا استُدْفِعَت نِقْمَةٌ، بِمِثْلِ طَاعَةِ اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ.
اللّاهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
الخَامِسُ عَشَرَ: وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي: أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الفَسَادِ فِي المِيَاهِ وَالهَوَاءِ، وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالمَسَاكِنِ.
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]، وَالفَسَادُ: المَعَاصِي وَآثَارُهَا فِي الأَرْضِ.
«وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ عَمَّا يَحِلُّ بِأَرْجَاءِ العَالَمِ اليَوْمَ: مِنَ الزَّلَازِلِ وَالفَيَضَانَاتِ، وَالأَعَاصِيرِ المُدَمِّرَةِ الَّتِي تَجْتَاحُ الأُلُوفَ مِنَ السُّكَّانِ، وَتُهلِكُ المَبَالِغَ الطَّائِلَةَ مِنَ الأَموَالِ، وَتُدَمِّرُ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ مِنَ المَسَاكِنِ. وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ فِي الثِّمَارِ: مَا يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ الآفَاتِ الَّتِي تَقْضِي عَلَيْهَا، أَو تُنْقِصُ مَحَاصِيلَهَا»(1).
__________
(1) ... «مختارات من الخطب المنبرية» (ص 253)، للعلَّامَة الفوزان.(1/34)
وَأَنْتُم تَرَوْنَ كَثْرَةَ حُدُوثِ الآفَاتِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، آفَاتٌ مُتَلَازِمَاتٌ، آخِذٌ بَعْضُهَا بِرِقَابِ بَعْضٍ، يُتْبِعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَكُلَّمَا أَحْدَثَ النَّاسُ ظُلْمًا وَشَرًّا وَفُجُورًَا وَإِعْرَاضًا - عَمَّا أَوْجَبَ اللّاهُ عَلَيْهِم وَتَعَبَّدَهُم بِهِ -، أَحْدَثَ لَهُم رَبُّهُم تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ الآفَاتِ وَالعِلَلِ: فِي أَغْذِيَتِهِم وَأَهْوِيَتِهِم، وَفَوَاكِهِهِم وَمِيَاهِهِم، وَأَبْدَانِهِم وَخُلُقِهِم وَصُوَرِهِم، وَتَتَابُعِ الأَمْرَاضِ وَالعُقُوبَاتِ. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ جَزَاءً لِلنَّاسِ لِمَا ارْتَكَبُوهُ: مِنْ خَبَائِثََ وَسَيِّئَاتٍ، وَمَظَالِمَ، وَمُحَرَّمَاتٍ، وَبِدَعٍ، وَنَشْرِ الرَّذِيلَةِ، وَأَكْلِ الحَرَامِ، وَعَمَلِ الزِّنَا وَالخَبَائِثِ، وَتَرْوِيجِ الفَسَادِ، وَرَفْضِ أَوَامِرِ اللّاهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ وَأَهْلِهِ. {لعلهم يرجعون} عَنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَثَّرَتْ لَهُم مِنَ الفَسَادِ مَا أَثَّرَتْ. فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُم، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُم. فَسُبْحَانَ مَنْ أَنْعَمَ بِبَلَائِهِ، وَتَفَضَّلَ بِعُقُوبَتِهِ، وَإِلَّا فَلَو أَذَاقَهُم جَمِيعَ مَا كَسَبُوا، مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
السَّادِسُ عَشَرَ: زَوَالُ الأَمْنِ وَالِاطْمِئْنَانِ عَنِ الأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَاتِ: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل: 112].(1/35)
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللّاهُ لِكُلِّ قَرْيَةٍ أَو بَلْدَةٍ، كَانَتِ الخَيْرَاتُ تَأْتِيهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ: فِي رَغْدَةٍ مِنَ العَيْشِ، وَسَعَةٍ وَمَعَ أَمْنٍ؛ وَلَكِنَّهَا لَمَّا تَنَكَّرَت لِنِعَمِ اللّاهِ وَآلَائِهِ، وَخَالَفَتْ أَمْرَهُ وَاقْتَرَفَتِ المَعَاصِي، فَحَلَّ بِهَا مِنَ الجُوعِ وَالخَوْفِ: مَا اللّاهُ بِهِ عَلِيمٌ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ، وَمِنْهَا زَمَنُنَا هَذَا: مَا حَلَّ وَيَحِلُّ بِبُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَالَّتِي حَصَلَ لَهَا مِنَ العِصْيَانِ وَالطُّغْيَانِ مَا حَصَلَ، فَحَلَّ بِدَارِهِم مَا حَلَّ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللّاهِ فِي خَلْقِهِ {وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [العنكبوت: 40].
فَنُحَذِّرُكُم وَأَنْفُسَنَا، عِقَابَ اللّاهِ وَسَطْوَتَهُ، فَإِنَّ أَخْذَهُ لِمَنْ ضَيَّعَ أَمْرَهُ ثَقِيلٌ، وَعَذَابَهُ الدُّنْيَوِيَّ وَالأُخْرَوِيَّ لِمَنْ عَصَاهُ وَبِيلٌ، فَإِنَّ الخَلْقَ أَهْوَنُ شَيْءٍ عَلَى اللّاهِ، إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ.
وَقَدْ فَصَّلَ اللّاهُ فِي كِتَابِهِ، مِمَّا أَوْقَعَ لِمَنْ ضَيَّعَ أَمْرَهُ: مَا فِيهِ عِبْرةٌ لِأُولِي الِاعْتِبَارِ، وَتَبْصِرَةٌ لِذَوِي الأَبْصَارِ.(1/36)
السَّابِعُ عَشَرَ: أَنَّهَا تُوْجِبُ القَطِيعَةَ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِذَا وَقَعَتِ القَطِيعَةُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَسْبَابُ الخَيْرِ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ الشَّرِّ، فَأَيُّ فَلَاحٍ وَأَيُّ رَخَاءٍ، وَأَيُّ عَيْشٍ لِمَنِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَسْبَابُ الخَيْرِ، وَقُطِعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ؟! الَّذِي لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ الشَّرِّ، وَوَصَلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ: فَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ، وَتَخَلَّى عَنْهُ وَلِيُّهُ؟! فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا فِي هَذَا الِانْقِطَاعِ وَالِاتِّصَالِ: مِنْ أَنْوَاعِ الآلَامِ وَأَنْوَاعِ العَذَابِ.
وَالعَجَبُ أَنَّ العَبْدَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ اللّاهِ، وَهُوَ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، بَل هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ عَلَى مَدَى الأَنْفَاسِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَاقَتُهُ تَامَّةٌ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَخَلِّفٌ عَنْهُ، مُعْرِضٌ عَنْهُ، وَفِيمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ رَاغِبٌ. يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِمَعْصِيَتِهِ، مَعَ شِدَّةِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، هَذَا وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَوْقِفُهُ!!(1/37)
الثَّامِنُ عَشَرَ: وَمِنْ عُقُوبَاتِ المَعَاصِي وَالآثَامِ: أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي القُلُوبِ، كَتَأْثِيرِ الأَمْرَاضِ فِي الأَبْدَانِ، كَالحُمَّى وَالأَوْجَاعِ، بَلِ الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ القُلُوبِ وَدَاؤُهَا، بِمَنْزِلَةِ الحَطَبِ الَّذِي يُمِدُّ النَّارَ وَيُوقِدُهَا، وَلَا دَوَاءَ لِأَمْرَاضِ القُلُوبِ إِلَّا بِتَرْكِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ أَجْمَعَ السَّائِرُونَ إِلَى اللّاهِ أَنَّ القُلُوبَ لَا تُعْطَى مُنَاهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى مَوْلَاهَا، وَلَا تَصِلُ إِلَى مَوْلَاهَا حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، إِلَّا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا، وَهَوَاهَا: مَرَضُهَا، وَشِفَاؤُهَا: مُخَالَفَتُهُ. وَمَتَى اسْتَحْكَمَتْ قَتَلَتْ، وَلَا بُدَّ. فَهِيَ كَطَعَامٍ لَذِيذٍ شَهِيٍّ لَكِنَّهُ مَسْمُومٌ، إِذَا تَنَاوَلَهُ الآكِلُ لَذَّ لَهُ أَكْلُهُ وَطَابَ لَهُ مَسَاغُهُ، وَبَعْدَ قَلِيلٍ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ، يَتَمَتَّعُ بِهِ صَاحِبُهُ لَحَظَاتٍ وَفِيهِ الهَلَاكُ. فَهَكَذَا المَعَاصِي وَالذُّنُوبُ، وَلَا بُدَّ. فَالذُّنُوبُ جِرَاحَاتٌ، وَرُبَّ جَرْحٍ وَقَعَ فِي مَقْتَلٍ.
وَلَا تَقْرَبِ الأَمْرَ الحَرَامَ فَإِنَّمَا ... ... حَلَاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا(1)
__________
(1) ... «روضة المحبين» (ص 440).(1/38)
وَانْظُرُوا بِعَيْنِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ: لَو أَنَّ طَبِيبًا مُشْرِكًا، عَفَاكَ عَن تَنَاوُلِ الفَاكِهَةِ، لِأَجْلِ مَرَضٍ مِنْ أَمْرَاضِ الجَسَدِ لَأَطَعْتَهُ، فَتَعْتَزِمُ عَزْمًا جَازِمًا أَن لَا تَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الفَاكِهَةِ مَا دُمتَ فِي مَرَضِكَ، فَتَلجَأُ إِلَى الحِمْيَةِ، فَمَا بَالُكَ لَا تَتْرُكُ مَا نَهَاكَ عَنْهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَصْدَقُ القَائِلِينَ؟! لِأَجْلِ مَرَضِ القَلْبِ: الَّذِي إِذَا لَمْ تُشْفَ مِنْهُ، فَأَنْتَ مِنَ الهَالِكِينَ.
وَلِلّاهِ دَرُّ القَائِلِ:
جِسْمُكَ بِالحِمْيَةِ حَصَّنْتَهُ ... ... مَخَافَةً مِن أَلَمٍ طَارِي
وَكَانَ أَولَى بِكَ أَن تَحْتَمِيَ ... ... مِنَ المَعَاصِي خَشْيَةَ النَّارِ
فَكَيْفَ تَسْلُكُ سَبِيلَ المَعَاصِي، وَكُلُّهَا مَعَاطِبُ وَمَهَالِكُ، وَآفَاتٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَا تَحْتَمِي مِنْهَا؟!
فَيَا مَنْ خَلَطَ فِي مَرَضِهِ وَمَا احْتَمَى، وَلَا صَبَرَ عَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ! أَلَا تَنكِرُ قُرْبَ الهَلَاكِ؟! فَالدَّاءُ مُتَرَامٍ إِلَى الفَسَادِ. فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ المَرِيضُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ، بَعْدَ الحِمْيَةِ مِنْ أَسْبَابِ الدَّاءِ.
فَمَنِ امْتَثَلَ الأَوَامِرَ، وَاسْتَعْمَلَ الحِمْيَةَ بِاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَاسْتَفْرَغَ التَّخْلِيطَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا.
«وَلَوْ تَفَطَّنَ العَاقِلُ اللَّبِيبُ لِهَذَا حَقَّ التَّفَطُّنِ، لَأَعْطَاهُ حَقَّهُ مِنَ الحَذَرِ وَالجِدِّ فِي الهَرَبِ»(1).
__________
(1) ... «بدائع الفوائد» (2/712).(1/39)
التَّاسِعُ عَشَرَ: أَنَّ العَاصِي دَائِمًا فِي أَسْرِ شَيْطَانِهِ، وَسِجْنِ شَهَوَاتِهِ، وَقُيُودِ هَوَاهُ؛ فَهُوَ أَسِيرٌ مَسْجُونٌ مُقَيَّدٌ، وَلَا أَسِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَسِيرٍ أَسَرَهُ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ، وَلَا سِجْنَ أَضْيَقُ مِنْ سِجْنِ الهَوَى، وَلَا قَيْدَ أَصْعَبُ مِنْ قَيْدِ الشَّهْوَةِ. وَالمَحْبُوسُ مَنْ حَبَسَ قَلْبَهُ عَن رَبِّهِ، وَالمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ. فَكَيْفَ يَسِيرُ إِلَى اللّاهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ: قَلْبٌ مَأْسُورٌ مَسْجُونٌ مُقَيَّدٌ؟! وَكَيْفَ يَخْطُو خُطْوَةً وَاحِدَةً؟!
العِشْرُونَ: ظُلْمَةٌ فِي القَلْبِ. «فَالقَبَائِحُ تُسَوِّدُ القَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ»(1). وَ«إِذَا أَظْلَمَ القَلْبُ، أَقْبَلَتْ سَحَائِبُ البَلاءِ وَالشَّرِّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ»(2)، فَلَا يَجِدُ لَذَّةً لِطَاعَةٍ وَلَا حَلَاوَةً. فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ، ثُمَّ تَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ حَتَّى تَظْهَرَ فِي العَيْن، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الوَجْهَ، وَتَصِيرَ سَوَادًا فِي الوَجْهِ، حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ المَوْتِ، ظَهَرَتْ فِي البَرْزَخِ، فَامْتَلَأَ القَبْرُ ظُلْمَةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذِهِ القُبُورَ مَمْلُوَءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللّاهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُم بِصَلَاتِي عَلَيْهِم»(3)؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ المَعَادِ: وَحُشِرَ العِبَادُ، وَعَلَتِ الظُّلْمَةُ الوُجُوهَ عُلُوًّا ظَاهِرًا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، حَتَّى يَصِيرَ الوَجْهُ أَسْوَدَ مِثْلَ الحُمَمَةِ (أَي: الفَحْمَةِ).
__________
(1) ... «تهذيب المدارج» (1/465).
(2) ... «الجواب الكافي» (ص 260)، بتصرُّف يسير.
(3) ... رواه مسلم (956).(1/40)
فَتَتَابُعُ الذُّنُوبِ عَظِيمُ التَّأْثِيرِ فِي سَوَادِ القَلْبِ، وَهُوَ كَتَتَابُعِ قَطَرَاتِ المَاءِ عَلَى الحَجَرِ، فَإِنَّهُ يُحْدِثُ فِيْهِ حُفْرَةً لَا مَحَالَةَ، مَعَ لِينِ المَاءِ وَصَلَابَةِ الحَجَرِ.
وَتَأَمَّلِ الحَدِيثَ التَّالِيَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ»(1). لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ المَعْصِيَةِ فِي الحَجَرِ، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ شُؤْمِ الذُّنُوبِ فِي القُلُوبِ.
وَمَنْ أَرَادَ تَنْوِيرَ القَلْبِ، فَلْيَلْزَمِ التَّوْبَةَ إِلَى الرَّبِّ. فَمَا اسْتَنَارَتِ القُلُوبُ، بِمِثْلِ تَرْكِ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ.
__________
(1) ... رواه الترمذي (877)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (1/452).(1/41)
الحَادِي وَالعِشْرُونَ: وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ: مَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَقْبَلَ عَلَينَا رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا مَعشَرَ المُهَاجِرِينَ خَمسٌ إِذَا ابْتُلِيتُم بِهِنَّ، وَأَعُوذُ باللّاهِ أَنْ تُدرِكُوهُنَّ: لَم تَظهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَومٍ قَطُّ حَتَّى يُعلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوجَاعُ الَّتِي لَم تَكُن مَضَت فِي أَسلافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا؛ وَلَم يَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المَؤُونَةِ وَجَورِ السُّلطَانِ عَلَيهِم؛ وَلَم يَمنَعُوا زَكَاةَ أَموَالِهِم، إِلَّا مُنِعُوا القَطرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَولَا البَهَائِمُ لَم يُمطَرُوا؛ وَلَم يَنقُضُوا عَهدَ اللّاهِ وَعَهدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللّاهُ عَلَيهِم عَدُوًّا مِن غَيرِهِم، فَأَخَذُوا بَعضَ مَا فِي أَيدِيهِم؛ وَمَا لَم تَحكُم أَئِمَّتُهُم بِكِتَابِ اللّاهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنزَلَ اللّاهُ، إِلَّا جَعَلَ اللّاهُ بَأسَهُم بَينَهُم»(1).
وَالبَصِيرُ العَاقِلُ: يَرَى مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ العُقُوبَاتِ فِي هَذَا الحَدِيثِ عَيَانًا، لِأَنَّ مُوجِبَاتِهَا قَد وَقَعَتْ، فَإِنَّا لِلّاهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَظُهُورُ الفَاحِشَةِ يُوجِبُ الأَوْبِئَةَ وَالأَمْرَاضَ العَامَّةَ، وَالأَوْجَاعَ وَالأَمْرَاضَ الفَتَّاكَةَ، وَالآفَاتِ القَاتِلَةَ، الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً: كَمَرَضِ نَقْصِ المَنَاعَةِ المُكْتَسَبَةِ «الإيدز»، وَالزُّهْرِي، وَالسَّرَطَانِ، وَالكُولِيرَا، وَالسِّلِّ، وَالسَّكْتَةِ القَلْبَيَّةِ.
فَالطَّاعُونُ قَدْ فَشَا، بِمَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ قَبْلُ.
__________
(1) ... رواه ابن ماجه (4019)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن ابن ماجه» (3262).(1/42)
وَفِي الجَدْبِ، وَشِدَّةُ المَؤُونَةِ وَجَوْرُ السُّلْطَانِ، مِنْ نَقْصِ الأَمْوَالِ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، جَزَاءً لِبَخْسِهِمُ النَّاسَ حُقُوقَهُم وَأَمْوَالَهُم، بِنَقْصِ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الذَّنْبِ مِنَ الوَعِيدِ، وَالإِخْبَارِ بِمَا أَحَلَّ اللّاهُ بِفَاعِلِيهِ، مِنْ سَالِفِ الأُمَمِ، مَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ وَإِنَّمَا حُرِّمَ ذَلِكَ وَغَلُظَ تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَأَكْلِ المَالِ.
وَمَنْعُ الزَّكَاةِ لَهَا خُصُوصِيَّةٌ فِي مَنْعِ القَطْرِ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّ مَنْعَهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَهِيَ قَرِينَةُ الصَّلَاةِ فِي كِتَابِ اللّاهِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، مِنَ الأَمْوَالِ الخَفِيَّةِ: إِمَّا بُخْلًا - وَالعِيَاذُ بِاللّاهِ -، أَو جَهْلًا بِبَعْضِ تَفَاصِيلِ الوَاجِبِ مِنَ الشُّرُوطِ، كَالنِّصَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: «وَلَولَا البَهَائِمُ لَم يُمْطَرُوا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُنْزِلُهُ اللّاهُ تَعَالَى مِنَ المَطَرِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، رَحْمَةً لِلْبَهَائِمِ الَّتِي لَا جُرْمَ لَهَا.
وَأَمَّا تَسْلِيطُ الأَعْدَاءِ: فَحَدِّث وَلَا حَرَجَ.
وَالتَّنَازُعُ وَالشِّقَاقُ وَالبَغْضَاءُ، وَالبَأْسُ الشَّدِيدُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ: أَصْبَحَ هُوَ القَاعِدَةَ فِي التَّعَامُلِ.(1/43)
وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ: تَحْذِيرٌ لِلأَئِمَّةِ مِنْ تَرْكِ العَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِ اللّاهِ، وَهُوَ دِينُهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ هَذِهِ العُقُوبَةَ، وَهِيَ: إِغْرَاءُ اللّاهِ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، وَجَعْلُهُ تَعَالَى بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، بِهَا انْثِلَالُ عَرْشِ الدِّيَانَاتِ، وَانْحِلَالُ نِظَامِ الوِلَايَاتِ، وَتَفَرُّقُ الجَمَاعَاتِ، وَانْتِهَاكُ المُحَرَّمَاتِ، وَتَسْلِيطُ أَهْلِ الكُفْرِ وَالضَّلَالَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14].
وَمِنَ المُؤْسِفِ جِدًّا؛ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الحَدِيثِ مُتَحَقِّقًا فِينَا تَمَامًا، ظَاهِرًا فِي مُجْتَمَعِنَا بِأَجْلَى المَظَاهِرِ. فَلَعَلَّ المُسْلِمِينَ يَتَفَطَّنُونَ لِمَا نَزَلَ بِهِم، فَيَرْعَوُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ عَذَابِهِم وَذُلِّهِم وَخِزْيِهِم، وَيَتَأَدَّبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمُ الحَقِّ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، حَتَّى يَرْفَعَ اللّاهُ عَنْهُم عِقَابَهُ وَخِزْيَهُ.(1/44)
الثَّانِي وَالعِشْرُونَ: تَدَاعِي الأُمَمِ عَلَيْنَا: عَن ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَن تَدَاعَى عَلَيْكُم، كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصعَتِهَا» فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِن قِلَّةٍ نَحْنُ يَومَئِذٍ؟ قَالَ: «بَل أَنتُم يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، ولاكِنَّكُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ؛ وَلَيَنزِعَنَّ اللّاهُ مِن صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنكُم، وَلَيَقذِفَنَّ اللّاهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهْنَ» فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، وَمَا الوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ»(1).
قَدْ تَجَلَّى هَذَا الحَدِيثُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ - بِأَقْوَى مَظَاهِرِهِ وَأَجْلَى صُوَرِهِ -: فِي الفِتْنَةِ العُظْمَى الَّتِي ضَرَبَتِ المُسْلِمِينَ؛ فَفَرَّّقَتْ كَلِمَتَهُم، وَأَوْهَنَتْ عَزْمَهُم، وَشَتَّتَتْ صُفُوفَهُم.
فَقَد تَدَاعَتْ عَلَيْنَا الأُمَمُ: بِأَنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُم بَعْضًا لِمُقَاتَلَتِكُم وَكَسْرِ شَوْكَتِكُم، وَسَلْبِ مَا مَلَكْتُمُوهُ مِنَ الدِّيَارِ وَالأَمْوَالِ.
كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا الَّتِي يَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا: بِلَا مَانِعٍ وَلَا مُنَازِعٍ، فَيَأْكُلُونَهَا عَفَوًا وَصَفْوًا؛ كَذَلِكَ يَأْخُذُونَ مَا فِي أَيْدِيكُم: بِلَا تَعَبٍ يَنَالُهُم، أَو ضَرَرٍ يَلْحَقُهُم، أَو بَأْسٍ يَمْنَعُهُم.
وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّدَاعِي لِأَجْلِ قِلَّةٍ: نَحْنُ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، بَل نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا.
«
__________
(1) ... رواه أبو داود (7924)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (3/25).(1/45)
ولاكِنَّكُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ»: مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ زَبَدٍ وَوَسَخٍ، شَبَّهَهُم بِهِ لِقِلَّةِ شَجَاعَتِهِم وَدَنَاءَةِ قَدْرِهِم، قَالَ تَعَالَى: {فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاءً فبعداً للقوم الظالمين} [المؤمنون: 41].
لِمَاذَا تَدَاعَت عَلَيْنَا الأُمَمُ؟ وَلِمَاذَا لَا يُلْقُونَ لَنَا وَزْنًا وَلَا قِيمَةً؟! لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى قُلُوبِنَا: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ: لِمَاذَا لَا نُصَلِّي الفَجْرَ فِي المَسْجِدِ؟ رَكَنَّا إِلَى الدُّنْيَا، وَخَلَدْنَا إِلَى النَّوْمِ وَالكَسَلِ. وَمَنْ لَازَمَ المَنَامَ، لَمْ يَرَ إِلَّا الأَحْلَامَ؛ وَمَنْ لَازَمَ الرُّقَادَ، فَاتَهُ المُرَادُ.
الثَّالِثُ وَالعِشْرُونَ: وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تُنْسِي العَبْدَ نَفْسَهُ، فَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ أَهْمَلَهَا وَأَفْسَدَهَا وَأَهْلَكَهَا. وَهَذَا أَهْلَكُ الهَلَاكِ، الَّذِي لَا يُرْجَى مَعَهُ نَجَاةٌ. قَالَ اللّاهُ العَظِيمُ: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} [الحشر: 19]، {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67].
فَمَنْ نَسِيَ رَبَّهُ، عَاقَبَهُ عُقُوبَتَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَنْسَاهُ نَفْسَهُ.
وَنِسْيَانُهُ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ: هُوَ إِهْمَالُهُ وَتَرْكُهُ، وَتَخَلِّيهِ عَنْهُ وَإِضَاعَتُهُ، وَهُوَ سَبَبُ شَقَاءِ العَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.(1/46)
وَأَمَّا إِنْسَاؤُهُ نَفْسَهُ: فَهُوَ إِعْرَاضُهُ عَن مَصَالِحِهَا وَأَسْبَابِ سَعَادَتِهَا وَفَلَاحِهَا وَصَلَاحِهَا، كَمَنْ لَهُ زَرْعٌ أَو بُسْتَانٌ أَو مَاشِيَةٌ أَو مَالٌ أَو غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا صَلَاحُهُ وَفَلَاحُهُ بِتَعَاهُدِهِ وَالقِيَامِ عَلَيْهِ، فَأَهْمَلَهُ وَنَسِيَهُ، وَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، وَضَيَّعَ مَصَالِحَهُ؛ فَإِنَّهُ يَفسُدُ وَلَا بُدَّ.
وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَنَقْصَهَا وَآفَاتِهَا، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ إِزَالَتُهَا وَإِصْلَاحُهَا.
وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ أَمْرَاضَ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَآلَامَهَا، فَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مُدَاوَاتُهَا، وَلَا السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ عِلَلِهَا وَأَمْرَاضِهَا الَّتِي تَؤُولُ بِهِ إِلَى الفَسَادِ وَالهَلَاكِ، فَهُوَ مَرِيضٌ مُثْخَنٌ بِالمَرَضِ، وَمَرَضُهُ مُتَرَامٍ بِهِ إِلَى التَّلَفِ، وَلَا يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مُدَاوَاتُهُ: وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ العُقُوبَةِ؛ فَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ وَضَيَّعَهَا، وَنَسِيَ مَصَالِحَهَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَسْبَابَ سَعَادَتِهَا وَصَلَاحِهَا وَفَلَاحِهَا، وَحَيَاتِهَا الأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ المُقِيمِ؟!
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا المَوْضِعَ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ هَذَا الخَلْقِ قَد نَسُوا أَنْفُسَهُم حَقِيقَةً، وَضَيَّعُوهَا وَأَضَاعُوا حَظَّهَا مِنَ اللّاهِ. نَسُوا حَظَّهُم مِنَ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَاشْتَغَلُوا بِأَسْبَابِ التِّجَارَةِ الخَاسِرَةِ.
* * *
الخاتمة
الحَمْدُ لِلّاهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ.(1/47)
هَذِهِ هِيَ الذُّنُوبُ، سُمٌّ يَسْرِي فِي الأَبْدَانِ فَيُهْلِكُهَا، وَفِي البُلْدَانِ فَيُفْسِدُهَا، أَضْرَارُهَا عَظِيمَةٌ، وَعَوَاقِبُهَا وَخِيمَةٌ.
فَلَا شَيْءَ أَفْسَدُ لِلدِّينِ، وَأَشَدُّ تَقْوِيضًا لِبُنْيَانِهِ مِنْهَا، فَهِيَ تَفْتِكُ بِهِ فَتْكَ الذِّئْبِ بِالغَنَمِ، وَتَنْخُرُ فِيهِ نَخْرَ السُّوسِ فِي الحَبِّ، وَتَسْرِي فِي كَيَانِهِ سَرَيَانَ السَّرَطَانِ فِي الدَّمِ، أَوِ النَّارِ فِي الهَشِيمِ.
هَذِهِ آثَارُهَا فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الآخِرَةِ فَيَكْفِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127]، نَسْأَلُ اللّاهَ السَّلَامَةَ وَالعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
فَالوَاجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُم: الإِقْبَالُ عَلَى اللّاهِ، بِالتَّوْبَةِ إِلَى رَبِّنَا تَوْبَةً نَصُوحًا. قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31].
بِنَدَمٍ خَالِصٍ صَحِيحٍ، وَعَزْمٍ أَكِيدٍ، وَعَمَلٍ رَشِيدٍ، بِأَنْ نُغَيِّرَ حَيَاتَنَا الآثِمَةَ إِلَى الحَيَاةِ الصَّالِحَةِ فِي زَمَنِ الإِمْكَانِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَالسِّرِّ وَالجَهْرِ.
نَسْأَلُ اللّاهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الثَّبَاتَ عَلَى الإِسْلَامِ إِلَى المَمَاتِ، وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا. إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ لِلّاهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
* * *
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
المُقَدِّمَة ... 5
آثَارُ الذُّنُوب عَلَى الأَفْرَادِ وَالشُّعُوب ... 11
أَوَّلًا: حِرمَانُ العِلمِ ... 11
ثَانِيًا: حِرمَانُ الرِّزقِ ... 13
ثَالِثًا: تَعسِيرُ الأُمُورِ ... 16
رَابِعًا: حِرمَانُ الطَّاعَةِ ... 18
خَامِسًا: الخَتْمُ عَلَى القُلُوبِ ... 20(1/48)
سَادِسًا: الخَسْفُ وَالزَّلَازِلُ ... 21
سَابِعًا: الِاخْتِلَافُ وَالتَّمَزُّقُ ... 24
ثَامِنًا: الهَزَائِمُ العَسْكَرِيَّةُ ... 26
تَاسِعًا: المَعَاصِي سَبَبٌ لِهَوَانِ العَبْدِ عَلَى رَبِّهِ ... 30
عَاشِرًا: كَوْنُهَا دَاءَ الأُمَمِ ... 31
الحَادِي عَشَرَ: مَحْقُ بَرَكَةِ العُمُرِ ... 34
الثَّانِي عَشَرَ: الذُّلُّ وَالهَوَانُ ... 39
الثَّالِثُ عَشَرَ: ذَهَابُ الحَيَاءِ ... 47
الرَّابِعُ عَشَرَ: إِزَالَةُ النِّعَمِ الحَاضِرَةِ ... 50
الخَامِسُ عَشَرَ: إِحْدَاثُ الفَسَاد فِي المِيَاهِ وَالهَوَاءِ ... 57
السَّادِسُ عَشَرَ: زَوَالُ الأَمْنِ وَالِاطْمِئْنَانِ ... 59
السَّابِعُ عَشَرَ: القَطِيعَةُ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ ... 61
الثَّامِنُ عَشَرَ: قُوَّةُ تَأثِيرِهَا فِي القُلُوبِ ... 62
التَّاسِعُ عَشَرَ: أَسْرُهَا لِصَاحِبِهَا وَتَقْيِيدُهُ ... 64
العِشْرُونَ: الظُّلْمَةُ فِي القَلْبِ ... 65
الحَادِي وَالعِشْرُونَ: فُشُوُّ الأَوْجَاع وَتَسَلُّطُ الأَعْدَاءِ ... 67
الثَّانِي وَالعِشْرُونَ: تَدَاعِي الأُمَمِ عَلَيْنَا ... 71
الثَّالِثُ وَالعِشْرُونَ: إِنْسَاءُ العَبْدِ نَفْسَهُ ... 73
الخَاتِمَةُ ... 77
* * *(1/49)