خطبة ( آفات وآداب الجوال )
أما بعد .. عباد الله .. حديثنا اليوم عن جهاز عجيب ، امتلأت به جيوبنا ، وأصبح جزءاً لا يتجزء من حياتنا ، فيه منافع وحاجات ، ومآثم وآفات .
إنه شاهد على فضل الله تبارك وتعالى على الناس ، فهو الذي علمهم ما يجهلهم ، وسخر لهم ما ينفعهم .. (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) .. (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه) .. وهو الذي ركب فيهم وسائل تحصيل العلوم والمعارف ، من الأسماع والأبصار والعقول؛ فبها يسمعون ويبصرون ، ويفكرون ويستنبطون .
ذلكم أيها الأحبة هو جهاز الجوال ، ذلكم الجهاز الصغير الذي لا يفارقنا .. تُجرَى من خلاله الاتصالات ، ويَختزنُ ما لا يُحصَى من المحفوظات ، ويلتقطُ الثابتَ والمتحركَ من الصور ، وفيه من المنافع ما يعِزّ على الحصر .
وقد أصبح جهاز الجوال في هذا الزمان بأيدي الناس كلهم ، غنيِهم وفقيرِهم ، كبيرِهم وصغيرِهم ، حتى إنك ترى الأطفال الصغار يجبرون آباءهم على شراء جوالٍ لهم ، ولو كان مجردَ لعبة .
عباد الله .. لست في هذا المقام بصدد ذكر منافع الجوال ، فإنها أشهر من أن تحصر ، فهو كما قيل: رفيقُ الوَحدة ، وأداةُ الإنقاذ والنجدة ، وهو رسول أمين ، ينقل الأفكار والمشاعر ، يطفئ ظمأ الأم الملهوفة لتسمع صوت ابنها المغترب أو ابنتها المتزوجة .. في لحظات ، يصل الإنسان به رحمه ، ويتواصل مع أحبابه في شتى بقاع الدنيا ، ويسعف المصاب والمريض ويدفع المنكر والجريمة والحريق ، وغير ذلك من المنافع العظيمة التي لا نحتاج إلى الإطالة بذكرها . وإنما نحن بحاجةٍ ماسةٍ للوقاية والعلاج من بعض المفاسد والآفات التي يمكن أن يسببها هذا الجهاز ، وذكرِ بعض الآداب والضوابط ، التي تكفُل استخدامه بما يحقق الانتفاع به دون إيذاء للآخرين .(1/1)
عباد الله .. الحديث عن آفات الجوال الدينية والأخلاقية والاجتماعية والأمنية ، حديثٌ طويل ، وحسبنا بعض الإشارات التي يفهمها اللبيب .
فمن آفاته الدينية والأخلاقية، ما يَحدث بسببه من المعاكسات بين الشباب والفتيات ، واستخدامِ تقنية البلوتوث لتناقل الكلام والأرقام ، ومواعيد الحب والغرام بين الجنسين .
والقضية عند البنات أشد ، فقد جاء في أحد البحوث: أن المعاكسات الهاتفية تنتشر عند الإناث بدرجة تفوق الذكور.
اخرج إلى شوارعنا ، لترى فتيات في عمر الزهور ، يتنقلن من شارع إلى آخر ، قد تزيّن بالملبوسات الفاتنة ، والعطورات الجذابة ، والجوالات والبلوتوث الذي صار يُغني عن الأوراق ! ثم بعد ذلك يُقال :كيف قبض على فلانة مع فلان في استراحة !! كيف ظهرت صورة فلانة مع فلان في الجوّالات أو الإنترنت !! .
والمقام هنا يضيق عن ذكر المآسي والجرائم التي وقعت بسبب المعاكسات .. وقد أجريت عدة بحوث في السجون ودور الملاحظة وسجن النساء ، ووقفت على قضايا كثيرة ، كانت بدايتها مكالمةٌ بالجوالِ عفوية ، وقصةُ حبٍ وهمية ، ونهايتها جريمةٌ أخلاقية ، تدمع لها العين ، ويندى لها الجبين .
عباد الله .. ومن آفات الجوال : أنه أصبح وسيلة سهلة للكذب ، فكم من الناس يقول لصاحبه أنه في مكان كذا وأن بينهما مسافات وأميال ، وربما كانت المسافة بينه وبين صاحبه ، عرضَ الحائط الذي يفصل بينهما !
ومنها: استخدام بعض الناس له في الغيبة والنميمة وإفساد البيوت .
ومن الآفات: إيذاء المصلين في المساجد بأصوات الجوال ، فإن بعض المصلين يدخل المسجد ، وهو يرى على الأبواب عبارات (أغلق الجوال) ، فلا يغلقه ، فاذا دخل الناس في صلاتهم ، انبعثت الأصوات المزعجة من الجوال ، فذهبت بخشوعهم ، وآذتهم في عبادتهم .. وأشنع من هذا أن تنبعث النغمات الموسيقية بل الغنائية من بعض الجوالات .(1/2)
أين تعظيم شعائر الله ، وبيوت الله يا عباد الله .. إذا كانت بعض المطاعم الراقية في باريس تمنع دخول الجوّالات لمنع الإزعاج ، فكيف ُتنتهك حرمات مساجدنا بالجوالات الموسيقية .
بل إنه ربما رنَّ جوالُ أحدِهم في الصلاة فأخرجه ; فإذا بالفنانة الفاجرة على واجهة الجهاز ، تطل على المصلين بصورتها الكالحة داخل المسجد .
ألهذه الدرجة تعلقت قلوبنا بهؤلاء الساقطين؟ الذين لا يشك عاقل أنهم يصدون عن سبيل الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي حرم اللهِ في المسجد الحرام ، يطول عجبك ممن يطوف حول الكعبة ، والجوال في يده ، يتحدث به مع فلان ، ويضحك مع علان ، وكأنه في نزهة ، فأين العبادة يا عبد الله؟.
وللجوال عباد الله ، آفاتٌ أخرى اقتصادية: فقد أصبح هماً كبيراً لكثير من الآباء، بسبب الفواتير المتراكمة على الأبناء.
جاء في أحد البحوث أن الهاتف الجوال يستهلك ربع رواتب الشباب ، وكانت المعاكساتُ أحدَ أسباب هذه المشكلة .
وأقول أيها الأحبة: إنك والله لتعجب عندما تعلم أن بعض الناس قد تراكمت عليه الديون بسبب استدانته لسداد فواتير الجوال .
بل الأعجب من ذلك ما نسمعه من أن بعض الناس أصبح يدور في المساجد ويسأل الناس ، فإذا سألت عن حاله علمت أنه ضيّع ماله بسبب فواتير الجوال .
وللجوال أيضاً آفات أمنية: فقد استخدمه أهل الإفساد من المفجرين ، أو المروجين وعصابات المخدرات ، في تنقلاتهم وتنفيذ أعمالهم الفاسدة .
وهناك أيضاً أضرار مرورية: فكم سمعنا عن الحوادث التي وقعت بسبب استخدام السائق للجوال وهو يقود سيارته .
ومن أضرار الجوال ما يقع في الرسائل من مخالفات شرعية ، وهذا موضوع يطول الحديث فيه ، فالمتابع لهذه الرسائل أنها أنها أصبحت مكاناً للكلام الساقط ، أو التافه الذي لا ينفع .. بل اشتد الأمر الى أن وصلت الى الصور الفاضحة التي ترسل عبر هذه الرسائل .(1/3)
وفي الجانب الشرعي ، يتناقل بعض الناس رسائل قد يكون ظاهرها الخير، لكنها تشتمل على بعض المحظورات الشرعية.
فمن المحظورات: الدعوة إلى أمر محدث ليس له أصل في الشريعة ، كأن تحث الرسالة على ذكر أو عبادة ليس لها أصل شرعي ، ثم تقول الرسالة: أرسلها إلى كذا من الناس يحصل لك كذا .. انشر تؤجر .. وقد تكون العبادة مشروعة على وجه الإطلاق فتقيَّدها الرسالة بزمان معين ، وهذا كله من المحدثات .
ومن المحظورات: ما يكون في بعض الرسائل من التسرع في نقل الأخبار بلا تثبت وروية ، كما نقل بعضهم خبر رؤية هلال رمضان في العام الماضي ، وصلى على إثره بعض الناس ، ثم أعلن رسمياً عدم دخول الشهر .. ومن ذلك ما يتناقله بعض الناس دون تثبت من أنه وقع أمر في المكان الفلاني أو الجهة الفلانية أو من العالم الفلاني أو المسؤول الفلاني دون مصدر موثوق ، مما يثير البلبلة والفتنة ، وأخبار المجاهيل هذه -وإن احتملت الصحة- لا تبرأ بها الذمة ، فلا يجوز نشرها قبل التثبت منها ، وقد قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ، وثبت عند أحمد وأبي داود بسند صحيح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بئس مطية الرجل زعموا) .
عباد الله .. وإن من أضرار الجوال الوخيمة التي عمت وطمت: نشر الفاحشة بين الناس ، فبالجوال كُشفت العورات ، وهُتك ستر الغافلات ، وأُشيعت الفواحش والمنكرات .. وبه نُشر الفساد ، وتُسُلط على أعراض العباد .. كم من امرأةٍ عفيفة طعنت في عفافها من صديقةٍ أو زميلةٍ نشرت سوءتها على ملأٍ من الناس ؟ وكم من أسرةٍ مجتمعة فرقتها صورةٌ أشيعت هنا وهناك ؟ وكم من ممارسات مخزية ، وأفعال لا إنسانية ، وجرائم لا أخلاقية ، صُوِّرت بكاميرات الجوال ، ونُشرت بين الكبار والأطفال .(1/4)
وإن الحادثة التي وقعت قريباً في نفق المشاة بطريق النهضة ليست عنا ببعيد ، حينما قام بعض الشباب بالتحرش ببعض الفتيات ، وتصوير هذه المشاهد المخزية بكاميرا الجوال ، حتى عمت وطمت بين الناس .
كم من شبابنا وللأسف ، ممن أدمنوا النظر إلى المشاهد الخليعة والصور القبيحة ، ولم يكتفوا بحفظها والنظر إليها -مع في ذلك من إسخاط الرب جل جلاله ، وقتل الغيرة والمروءة- بل راح كثير منهم يشيعونها في المسلمين ، ويتناقلونها مع أصحابهم وأقرانهم ، ويهدونها إلى من يعرفون ومن لا يعرفون ؛ ولا يدركون مغبة ما يفعلون!! فويل لهم مما يكسبون .
إنها جناية عظيمة ، يجنيها الشاب على نفسه وعلى صحيفة حسناته حين يحتفظ بالصور الإباحية ، ثابتةً كانت أو متحركة ، وينشرها بين أقرانه ، ولا يدربي المسكين أنه سيحمل كل هذه الأوزارِ على ظهره .
تصوروا أيها الإخوة أن أحد الشباب أرسل صورة واحدة فقط لصاحبه ، فأرسلها الثاني لغيره وهكذا ، وصلت الرسالة في يوم أو يومين إلى مئة أو مئتين ، وفي أسبوع إلى ألف أو ألفين ، وتزداد الآثام بمرور الأيام ، حتى تصل إلى عشرات الآلاف .. كل هؤلاااااء يحمل وزرَهم جميعاً مرسلُ الرسالة الأول ، من غير أن ينقصَ شيء من أوزارهم .. قال الله تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) ، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) .
وقد يرسل الشاب مادة إباحية إلى زميله ؛ فيرتكبُ زميله بسببها الزنى ، أو عملَ قوم لوط ، أو يمارسُ العادة المحرمة ، فيكون وزرُه عليه وعلى صاحبه .(1/5)
كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أبي هريرة المتفق عليه :( كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ، وهذا الشاب مجاهر بعصيانه ، وبقدر نشره لهذه المواد المحرمة تكون مجاهرته ، فإن مات وهو مصر على المجاهرة ؛ فهو بعيد عن العافية ، جدير بالمؤاخذة ، عياذاً بالله .
عباد الله .. إن من يشيع هذه الموادَ الفاسدةَ معرضٌ للعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) ، فإذا كان هذا الوعيد الشديد في حق من يحب إشاعة الفاحشة ، فكيف بمن يتولّى بنفسه أشاعتها بهذه الأجهزة .
فيا من تلطخ بهذا الإثم المبين ، بادر بتوبةٍ نصوحٍ قبل أن يدهمَك الموتُ وأنت على هذه الحال السيئة .. فإن لم تتب فلا أقل من أن تستترَ بستر الله تعالى ، ولا تكونَ عوناً للشيطان على شباب المسلمين وفتياتهم .
وقد روى مالكٌ والحاكم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله ) رواه مالك مرسلاً ووصله الحاكم وصححه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .(1/6)
عباد الله .. إننا بحاجة إلى غيرة صادقة تحفظ حدود الله أن تنتهك ، وتقنن تسليم الجوالات للفتيات لئلا تقضيَ على الحياء والعفة .. نحن بحاجة إلى غيرة توقف التبرج والسفور عند حده .. فلا نرى ملابس فاتنة و لاعباءات متبرجة ، ولا بنطالات ضيقة ، ولا انفلاتا في دخول النساء إلى الأسواق والمنتزهات .. نحن بحاجة إلى غيرة تحولُ دون تصوير النساء العفيفات، وتوجبُ الحذر والاحتياط في ذهاب النساء إلى التجمعات ، كالأعراس والملاهي النسائية ونحوها ، وتضعُ تعليماتٍ وإجراءاتٍ صارمةً لمتابعة الداخلين إلى هذه الأماكن ، فقد نشر قبل فترة أن هيئة الأمر بالمعروف في الدمام ضبطت مائة ألف قرص سيدي لحفلات أعراسٍ مصورةٍ في مختلف مناطق المملكة ، نسأل الله تعالى أن يهتك ستر من قام بتصويرها .
ومن الناس من يتساهل في تصوير محارمه بالجوال مما يعرضها للوقوع بيد غيره ممن قد لا يتقي اللهَ في نشرها بين الناس ، وقد يقوم صاحب الجوال بمسحها ظناً منه أنها انتهت ، وهي في الواقع لا تزال محفوظة في الذاكرة يسترجعها أصحاب الخبرة بسهولة . نسأل الله تعالى أن يسترنا وعوراتنا ، ويجعلَ تحت الستر حياءً وعفةً في نفوسنا ، إنه حيي ستير، وبالإجابة جدير، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر ، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر ، والصلاة والسلام على سيد البشر ، وشفيعهم في المحشر ، وعلى آله وصحبه السادة الغرر .
أمابعد .. عباد الله .. وللجوال آداب وأخلاق ، فإنه مهما ظهرت هذه الأجهزة الحديثة ، وتغير الزمان ، فإن خلق المسلم وأدبَه ثابتان لا يتغيران . فمن آداب الجوال:(1/7)
أن يبدأ المتحدث بالسلام ، فالكثير منا نسي تحية الإسلام واستبدلها بكلمة (الو) ، فما الذي يضره لو أتبعها بقوله السلام عليكم؟. ومن الأمور المحرمة أن بعض الشباب يبدأ حديثه مع صاحبه بالسب واللعن ، وهذا العمل لا يجوز ، ولو كان على سبيل المزاح . الأدب الثاني:
أن لا يسيءَ الظن أو يغضبَ إذا لم يرد عليه صاحبه ، وأن يلتمس له عذراً في عدم الرد .
عدم الاتصال في أوقات الراحة والنوم .
التأكد من صحة الرقم ،تجنباً لإزعاج الآخرين .
عدم التمادي في الاتصال إذا لم يرد عليك ، فإن بعض الناس إذا لم ترد عليه كرر الاتصال عدة مرات مما يسبب الإيذاء والإزعاج .
الاختصار وعدم الإطالة عند استعارة الجوال من الآخرين .
إذا كان في الجهاز مكبرُ صوت ، فلا تسمع الاخرين حديث المتصل إلا بإذنه ، لأنه لا يعلم بذلك .
أن تلتزم المرأة بالضوابط الشرعية في التحدث بالهاتف: بأن لا تتحدث مع الرجال الأجانب إلا لحاجة ، وأن لا تخضع بالقول كأن ترقق صوتها أو تتغنج ، أو تستخدم بعض العبارات المنفتحة المائعة .
إغلاق الهاتف الجوال في المساجد والمقابر والاجتماعات ونحوها .
عدم وضع الجوال على النغمات الموسيقية المحرمة .. ولكن ، هل له أن يضعه على القرآن أو الأذان؟ الأقرب أن هذا الفعل غير مشروع ، وهو في القرآن أشد كراهية ، لإفضائه إلى امتهان القرآن في دورات المياه ونحوها ، والانصراف عن القرآن ، وقطع الآية والكلمة قبل انتهائها ، وغير ذلك من المفاسد .. وأما الأذان فلأنه عبادة مؤقتة شرعت للإعلام بدخول وقت الصلاة ، ولهذا كره أهل العلم أن يؤذِّن الإنسان عبثاً في غير وقت الأذان ، ولأنه قد يسبب التلبيس على من يسمعه بدخول وقت الصلاة .(1/8)
فاتقوا الله عباد الله .. واشكروا نعمة ربكم بأن سخر لكم هذه الأجهزة ، وتعاهدوا أبناءكم وبناتكم بالرعاية والرقابة ، والنصح والتوجيه ، وبيان مخاطر سوء استخدام هذه الأجهزة .. جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين ، وحمانا وذرياتنا من سبل المفسدين ، إنه أرحم الراحمين ، وهو يتولى الصالحين .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(1/9)
خطبة (آمال الأمة المؤتمر الإسلامي )
أما بعد .. عباد الله .. كيف كنا بالأمس ، وكيف أصبحنا اليوم؟
حينما انتصر المسلمون على الروم في وقعة اليرموك المشهورة ، وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المنهزم ، والمرارة تعصر قلبه ، والغيظ يملأ صدره: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن، قال: فما بالكم إذًا تنهزمون؟! فأجابه عظيم من عظماء قومه: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويتناصفون بينهم.
ولقد صدق ملك الروم وهو كذوب. إن تلكم السجايا العظيمة والخصال الكريمة كانت وراء ذلك العز والمجد التليد،.
هذه الخصال الرفيعة هي التي صنعت ملحمة الجهاد الكبرى، ورسمت ملامح النصر الباهرة، وأقامت حضارة الإسلام العالمية ، وانتقلت بأسلافنا تلك النقلة الضخمة، من عتبات اللات والعزى إلى منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ؛ حيث الأرواح المتطلعة إلى السماء والنفوس السابحة في العلياء .. ولكن .
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونَ
وآلَمني وآلم كلَّ حر سؤال الدهر: أين المسلمونَ؟
نعم ، أين المسلمون اليوم؟ أين تاريخهم ومجدهم؟.
لقد دار الزمان ، فتغيرت الحال، وهوت الأمة من العلياء ؛ لتستقر في الغبراء .
لقد أصبح المسلمون اليوم مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأصبح زمام القافلة بيد أعدائها الذين تسلطوا على أبنائها وثرواتها .
كم صَرَّفَتنا يد كنا نُصَرِّفها وبات يملكنا شعب ملَكناه
عباد الله .. بالأمس الأول ، اُختتمت في مكة المكرمة أعمالُ القمة الاستثنائية لمنظمة المؤتمر الإسلامي تحت شعار "الدفاع عن الإسلام" ، حيث اجتمع قادةُ الأمة الإسلامية ووزراؤها لمناقشة أوضاع الأمة ، والسعي للخروج بها من النفق المظلم الذي تتخبط فيه .(2/1)
هذه القمة التي تميزت بأن نخبة من العلماء والفقهاء قاموا بإعداد جدول أعمالها، بما يشمل التحديات التي تواجه الأمة ، والرؤية المستقبلية حول طرق التعامل معها .
نعم .. اجتمع القادة والمسؤولون ، وأنظار ما يزيد على مليار وثلاثمائة مليون من المسلمين محدقةٌ نحوهم ، يلتمسون بارقة أمل في الأفق ، بعد سيل من الرزايا والمشكلات ، التي حلَّت بهم وبإخوانهم .
إن الناظر في حال الأمة الإسلامية ، يدرك تماماً ما هي عليه من الضعف والتخلف ، المسلمون اليوم أعظم أهل الأرض ضيقاً في العيش ، وأشدهم مكابدة للحياة ، وأكثرهم تعرضاً للحروب الظالمة ، كما هو الحال في فلسطين المباركة التي تئن تحت مرارة المأساة، وآلام المعاناة، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى ، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، وتصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، والجنائز المتوالية، والبيوتات المهدَّمة، والمساجد المنتهَكة . وقل مثل ذلك في أماكن شتى من العالم الإسلامي.
وإذا كان هذا ما يصنعه أعداؤنا ، فإن ما يصنعه بعض أبنائنا وحكوماتنا وبني جلدتنا أعظم ، فيالعظم المفارقة ، وصدق الله إذ يقول: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) .
عباد الله .. إن الواجب على كل غيور على الأمة أن يشخص الداء قبل أن يصف الدواء ، وأن يكشف عن السبب الذي أوصل الأمة إلى هذه الحال.(2/2)
ولقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم داء الأمة اليوم ، وأجاب عن هذا السبب ببيان شافٍ ووافي ، حينما قال:" يا معشر المهاجرين ، خمسٌ إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها إلا فَشَا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَتْ في أسلافهم الذين مَضَوا .. ولم ينقصوا المكيال والميزان ، إلا أُخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم .. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْر من السماء ، ولولا البهائمُ لم يُمطروا .. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم،فأخذوا بعض ما في أيديهم .. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله ، إلا جعل الله بأسهم بينهم" .رواه ابن ماجه وحسَّنه الألباني .
إن الواجب على الأمة أن تعلم أن ما أصابها فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب ملك الملوك، وتفريطها في الحكم بشريعته، واحترام أحكامها ومعالمها، والوقوف عند حدودها، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد ومسيرة التغريب التي نخرت في الأمة وشبابها وفتياتها، بعد أن خان المستأمَن، وفرط المستحفَظ، وغش المستودَع، في أعظم وديعة وأغلى أمانة، وهي حفظ الدين وتحصين مجتمعات المسلمين من عاديات التغريب وحملات التخريب.(2/3)
إن أعداء الأمة لا يألون جهداً في تطويع العالم الإسلامي بتبعية الحياة الغربية، يساندهم في ذلك فسّاق مستغربون، ومنافقون علمانيون، تارةً بتأويل نصوص الوحيين ولوي أعناقها، وتارةً بالنيل من علماء الإسلام، وتارة بالنيل من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغمزهم ولمزهم والتطاول عليهم، واتهامهم بما ليس فيهم، وتارةً بالدعوة إلى الاختلاط، وتحرير المرأة .. يلبسون ثياب الإصلاح على أفئدة عشعش فيها النفاق ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ.
إن أعداء الأمة لم يتقدموا عليها إلا بتأخرها ، ولم يتسلطوا عليها إلا بتخاذلها ، وبعدها عن منهج ربها، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ، وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ.
وقد روى أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي هريرة: ((توشك أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قَصْعَتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟! قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن))، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
والناظر في أحوال المسلمين اليوم ، يجد أن هذه السمة هي الغالبة على أكثر الناس، ووالله لا يمكّن الله للمسلمين في الأرض حتى يصلحوا من حالهم ويرجعوا إلى دينهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ .(2/4)
إن كثيرًا من المسلمين اليوم قد مالوا عن الجادَّة، وأصبحوا لا يحملون من الإسلام إلا اسمه، تراهم يدّعون الإسلام والإيمان وهم أبعد الناس عن ذلك؛ احتفالات بالموالد وأعياد الكفار وبناء على القبور وحج للأضرحة واحتكام إلى غير شرع الله، عقائدهم تغرق في أوحال الخرافة، وتصرخ من تفاقم البدعة.
تهالك على المادة، وطمع في المغانم، وإقبال على الدنيا، ونسيان للآخرة، وحين تنزل بهم نازلة أو تحل بهم مصيبة فعند القبور الملتجى وإليها المشتكى عياذًا بالله.
أما تحكيم غير شرع الله ، فإن كثيراً ممن يزعم الإيمان يعدونه مظهرًا من مظاهر التقدم والمدنية، وبابًا إلى الحضارة والانفتاح والعولمة.
وقد قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا.
قال ابن كثير: "هذا إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، وهذه الآية ذامة لمن عَدَل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا" اهـ.
ويقول ابن القيم: "لمّا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليها واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما ، عرض لهم فسادٌ في فِطَرهم وظلمةٌ في قلوبهم وكَدَرٌ في أفهامهم ومَحْقٌ في عقولهم، فإذا رأيت هذه الأمور قد أقبلت وراياتها قد نُصبت وجيوشها قد رُكبت فبطن الأرض ـ والله ـ خير من ظهرها، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس" اهـ .(2/5)
أقول ما تسمعون وأستغفر الله وأتوب إليه إليه إنه هو الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ....
عباد الله .. وبعد أن شخصنا الداء ، لعلنا نتساءل بعد هذا: ما الحل؟ كيف تخرج الأمة من هذه الأوضاع المزرية؟. ما السبيل إلى النصر والتمكين؟ .
فأقول وبالله التوفيق: لقد وعد الله عباده بالنصر والتمكين إذا هم نصروه واتبعوا دينه ، فصححوا عقائدهم وأصلحوا أحوالهم بالرجوع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم : ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا ، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ .
إن سلفنا الصالح حينما حققوا شرائط هذه الآيات تحقق لهم مضمونها وما وُعدوا فيها. حينما حققوا التوحيد الصافي والإيمان الخالص ونصرة الله بإقامة شرعه صَدَقهم الله وعده، فنصرهم وثبت أقدامهم ومكّن لهم واستخلفهم في الأرض وأبدلهم من بعد خوفهم أمنًا. كانوا لا يرهبون الأعداء، ولا يخافون من قواهم المادية، يقابلون عَددهم بالشجاعة، وعُددهم بالإيمان والثقة بنصر الله ، وحينئذ تتهاوى أمام ذلك كله كل الأرقام والحسابات والمعادلات المادية والبشرية، إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ.(2/6)
عباد الله .. إذا أردنا الرفعة والنصر والتمكين ، فلنَعُد لربنا، ولنكن صادقين في عودتنا، صادقين في عقيدتنا، صادقين في عبادتنا، صادقين في تعاملنا.
إننا إن فعلنا ذلك مكّن الله لنا كما مكّن للذين من قبلنا، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغًا لّقَوْمٍ عَابِدِينَ ، إِنَّ الأرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ .
عباد الله .. إن مسيرة الإصلاح تبدأ بإصلاح الذات ، فليَقُم كل واحد منكم بواجبه في مسيرة الأمة الإصلاحية، بإصلاح نفسه ، ثم إصلاحِ الأهل والقرابات، ثم سائرِ الفئات والطبقات .
كما يجب على قادة الأمة ومفكروها المبادرةُ بوضع خطة عمل للنهوض بالأمة ، تعالج أعظم ثلاث مصائب تنخر في جسد الأمة ؛ الجهل ، والفقر ، والمرض ، فهذه الثلاث ، باتت سيوفاً مُسْلَطَةً على رقاب شعوب عالمنا الإسلامي ، علاوة على ما فاقم هذه الرزايا من تسلط قوى الشر والاحتلال والاعتداء على مجتمعات المسلمين بغزوها فكرياً وعسكرياً واقتصادياً .
إن الشعوب الإسلامية اليوم لتتلهف لإصلاح التعليم المنحرف والإعلام العابث، الذي عانت من انحرافاته منذ انجلاء حقبة الاستعمار .
لقد سئمت الشعوب الإسلامية استجرار الأنظمة المستوردة المخالفة لشريعة الرحمن ، فلماذا الإصرار على مخالفة إرادتها ؟. وإلى متى يحال بين الشعوب الإسلامية وبين دين الله الحق ، تلك وهي متعطشة متلهفة لأحكامه ؟.(2/7)
عباد الله .. إنّ على العلماء والدعاة والمصلحين دور كبير ، وواجب عظيم في نشرِ العلم، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، بهمَّة لا تعرف الفتور، وعزيمة لا تعرف العجْز، وقوة لا تعرف الضعف، وحكمة وحنكة لا تعرف التهور ، وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(2/8)
خطبة ( أهوال يوم القيامة )
الحمد لله العفو الكريم ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، جعل الحياة الدنيا داراً للابتلاء والاختبار ، ومحلاً للعمل والاعتبار ، وجعل الآخرة دارين ، داراً لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار ، وداراً لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار ، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار . أما بعد .
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور .
عباد الله .. أسألكم وأسأل نفسيَ الخاطئة: لماذا فسدت أحوالنا ، وكثرت ذنوبنا ، وقست قلوبنا ، وضعفت نفوسنا؟ .
ذلكم أيها الأحبة .. لما نقص إيماننا بمعادنا ، وضعف يقيننا بلقاء ربنا ، وغلب رجاؤنا على خوفنا ، فآثرنا الدنيا على الأخرى ، ونسينا الطامة الكبرى .. يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور .. ويعلم المفرط أنه ما كان إلا في غرور .
عباد الله .. الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان .. وسبب لرسوخ القلب في العرفان .. وكثيرًا ما يَقْرِن الله تعالى بين الإيمانِ به والإيمانِ باليوم الآخر ، (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) ، (يؤمنون بالله واليوم الآخر) ، (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) .
ذلكم أن من لم يؤمن بالمآب ، والجزاء والحساب ، والثواب والعقاب ، فلا يمكن أن يؤمن بالله رب الأرباب .
عباد الله .. لا تغرنكم الحياة الدنيا ، فإنه (كل من عليها فان) ، كلُّ حيٍ سيفنى ، وكلُّ جديدٍ سيبلى .. وما هي إلا لحظةٌ واحدة ، تخرج فيها الروح إلى بارئها ، فإذا العبد في عداد الأموات .(3/1)
ذهب العمر وفات .. يا أسير الشهوات .. ومضى وقتك في سهو ولهو وسبات .. بينما أنت على غيك حتى قيل مات .
نعم والله ، ذهبت الشهوات ، ومضت الملهيات ، وبقيت التبعات .. وطويت صحيفة العبد على الحسنات أو السيئات .
والموت ليس نهاية الحياة .. بل هو بداية رحلة طويلة إلى الدار الآخرة .. ومن مات قامت قيامته .
فإذا مات العبد ، نزل أولَ منازل الآخرة ، القبر ، روضةٌ من رياض الجنة أو حفرةٌُ من حفر النار .. ينزل فيها العبد وحيداً فريداً لا أنيس له ولا رفيق إلا عمله الصالح .
ولا تزال الأرض تستودع ما يُدفَن فيها من الأموات ، حتى يشاءَ الله أن تقوم الساعة ، فيأمرَ إسرافيلَ عليه السلامُ بالنفخ في الصور ، فإذا نَفَخَ إسرافيلُ في الصور النفخةَ الأولى نفخةَ الصعق ، صَعِقَ الناس وماتوا ، وانتهت الدنيا بأكملها .. كل ما تراه سيفنى .. لن تبقى القوى البشرية ، ولا قدراتهم التكنلوجية ، ولا وكالاتهم الفضائية ، ولا مراكبهم وأقمارهم الصناعية .
حتى إذا مات الأحياء كلهم ، ولم يبق إلا الله جل جلاله ، نادى سبحانه:لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ .
فلا يجيبه أحد ، فيرد تعالى على نفسه: (لله الواحد القهار) .
أين ملوك الأرض؟ أين الجيوش الجرارة؟ أين الدول العظمى المتجبرة؟ لا شيء إلا الله .. (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه عما يشركون) .
ويرسل الله المطر بين النفختين ، فيَنْبُتُ الناس من عَجْب الذَّنَب كما يَنْبُتُ البَقْل ، وكلُّ إنسان يفنى ولا يبقى منه إلا عَجْب الذَّنَب، وهو العظم الصلب المستدير الذي في أصل العَجُز والذَّنَب، إلا الأنبياء؛ فقد حرّم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم .
فإذا نبتت أجساد الخلق ، نفخ إسرافيلُ في الصور النفخةَ الثانية ، نفخةَ البعث ، فتتطاير الأرواح وتعود إلى الأجساد ، فإذا هم قيام ينظرون ، ينفضون التراب عن رؤوسهم .(3/2)
وأول من يبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وهو أول من تنشق عنه الأرض ، كما جاء في الصحيحين .
ثم يخرج الناس جميعًا من قبورهم حفاة عراة غُرْلاً أي: غير مختونين، فيحشرون على أرضٍ غيرِ هذه الأرض: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وبرزوا لله الواحد القهار) .
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاءَ عَفْرَاءَ كقُرْصَة النَّقِي [يعني كالخبزة المصنوعة من الدقيق النقي] ليس فيها عَلَمٌ لأحد)) [أي علامة بناء أو أثر] .
ويجتمع الناس في ذلك الموقف العظيم على صعيد واحد ، فيغشاهم من الكرب ما يغشاهم، ويصيبهم الرعب والفزع، يشيب الولدان، وتشخص الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر.
الشمس كورت ، لُفّت وذهب ضوءها .. النجوم انكدرت وتناثرت .. الجبال نسفت وسيّرت فأصبحت كالقطن المنفوش .. العشار عطلت .. الأموال تُركت .. التجارات والعقارات والأسهم نُسيت .. السماء كشطت ومسحت وأزيلت .. البحار سجرت .. وإلى كتل من الجحيم تحولت .. الجحيم سعرت وأوقدت ، والجنة أزلفت وقُرِّبت .
(يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) .
إنه يوم القيامة ، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة ، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين .. يومٌ عظيم وخَطْبٌ جَسِيم، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم .(3/3)
وتدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل ، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله جل جلاله ، يوم لا ظل إلا ظله .
ويُكرِم اللهُ أنبياءَه في عَرَصَات القيامة بالحوض المورود ، ولكل نبيٍ حوض، وحوضُ نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمُها وأفضلُها، طوله شهر وعرضه شهر، يَصُب فيه مِيزَابان من نهر الكوثر في الجنة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وريحُه أطيبُ من ريح المسك، آنيتُه كنجوم السماء عددًا ووصفًا ولمعانًا، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا.. يَرده المؤمنون بالله ورسوله ، المتبعون لشريعته، ويُطرد عنه الذين استنكفوا واستكبروا عن اتباعه.
فإذا اشتد الكرب بالناس في المحشر ، ذهبوا إلى آدم وأولي العزم من الرسل: نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ؛ ليشفعوا لهم إلى ربهم ليفصل بينهم، فكلهم يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري .. حتى إذا يئس الخلائق من شفاعتهم أتوا إلى خاتمِ النبيينَ وأفضلِ المرسلين وسيدِ ولد آدم أجمعين ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فسألوه الشفاعة إلى ربهم ، فيقول: أنا لها ، أنا لها، فيذهب فيستأذن على ربه ، ثم يخر ساجداً تحت العرش ، ويفتح الله عليه من محامده والثناء عليه ، ثم يشفِّعه في خلقه .
وتنزل ملائكة السماء الدنيا فيحيطون بالناس، ثم ملائكة السماء الثانية من ورائهم حتى السابعة، ثم يجيء الله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته على عرشه ليفصل بين العباد ، ويحمل عرشه يومئذٍ ثمانيةٌ من الملائكة.(3/4)
ويُنصب الميزان فتوزن به أعمال العباد، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) .
وتُنشر دواوين الخلق وهي صحائف الأعمال التي كتبها الملائكة الحافظون، فيُعطَى كلُ إنسانٍ كتابَه مفتوحًا: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) . فأما المؤمن فيأخذ كتابه بيمينه ويقول: (هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) ، يعني تيقنتُ الحساب وعملتُ له . وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره إذلالاً وتقريعًا ويقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) .
ويحاسب الله الخلائق من الإنس والجن إلا من استثناهم ، ممن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب .
ويخلو الله بعبده المؤمن، ويضع عليه سِتره فلا يسمعه أحد، ولا يراه أحد، ويقرّره بذنوبه: عملت كذا، وعملت كذا، فيقرّ ويعترف، ثم يقول الله: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم .(3/5)
وأما الكفار فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين . ويختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم ألسنتهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم وجلودهم بما كانوا يعملون، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
عباد الله .. وفي آخر مشاهد القيامة ، يُنصب الصراط على مَتْن جهنم، وهو جسرٌ دَحْضٌ مَزلَّة، أدقُّ من الشعر ، وأحدُّ من السيف، عليه كَلالِيبُ تخطِف الناس .. ويُعطى المؤمنون نورَهم فيعبرون، ويُطفأ نورُ المنافقين فيسقطون ، ويكون مرور الناس على الصراط ، على قدر أعمالهم ومسارعتهم إلى طاعة الله في الدنيا، فمنهم من يمر كلَمْح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ثم كالريح، ثم كالفرس الجواد، ثم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو، ثم من يمشي، ثم من يزحف، ومنهم من تَخْطَفه الكَلالِيبُ فتلقيه في النار ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله المحيي المميت ، المبديء المعيد ، الفعال لما يريد ، والصلاة والسلام على صحب الحوض المورود واللواء المعقود ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .(3/6)
عباد الله .. من أراد صلاح قلبه ، واستقامة أمره ، فليستحضر لقاء ربه ، ووقوفه بين يديه .
فيا أخي الحبيب .. تصور نفسك في القيامة ، وأنت واقف بين الخلائق ، ثم نودي باسمك: أين فلان ابن فلان؟ هلم إلى العرض على الله، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب قدمك ، وتنتفض جوارحك من شدة الخوف .. وتصور وقوفَك بين يدي جبار السموات والأرض، وقلبك مملوء من الرعب، وطرفك خائف، وأنت خاشع ذليل. قد أمسكت صحيفة عملك بيدك، فيها الدقيق والجليل، فقرأتها بلسان كليل، وقلب منكسر، وداخَلَكَ الخجل والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسنا وعليك ساتراً . فبالله عليك، بأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك؟ وبأي قدم تقف بين يديه؟ وبأي طرف تنظر إليه؟
كيف بك إذا قال لك: يا عبدي، ما أجللتني، أما استحييت مني؟! استخففت بنظري إليك؟! ألم أحسن إليك؟! ألم أنعم عليك؟! ما غرك بي؟ (ما غرك بربك الكريم) .
أخي الحبيب .. تذكر أهل الإيمان والعمل الصالح حين يخرجون من قبورهم وقد ابيضت وجوههم بآثار الحسنات، ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .. تذكر عندما يقول الرب تبارك وتعالى بحقهم : يا ملائكتي، خذوا بعبادي إلى جنات النعيم، خذوهم إلى الرضوان العظيم، فأصبحوا بحمد الله في عيشة راضية، وفتحت لهم الجنان، وطاف حولهم الحور والولدان، وذهب عنهم النكد والنصب، وزال العناء والتعب.(3/7)
وتذكر أخي في المقابل تلك النفس الظالمة المعرضة عن دين الله ، عندما يقول الله تبارك وتعالى بحقها: يا ملائكتي، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني، فسيقت تلك النفس الآثمة الظالمة إلى نارٍ تلظى ، وجحيمٍ تَغَيَّظ وتَزْفِر، وقد تمنت تلك النفس أن لو رجعت إلى الدنيا لتتوبَ إلى الله وتعملَ صالحاً، وهيهات هيهات أن ترجع، فكبكبت على رأسها وجبينها، وهوت إلى أسفلِ الدركات ، وتقلبت بين الحسرات والزفرات . فلا إله إلا الله ، ما أعظمَ الفرقَ بين هؤلاء وأولئك ، وصدق الله تعالى إذ يقول: (إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم) .
فاتقوا الله عباد الله .. واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهو لا يظلمون .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(3/8)
خطبة ( أسباب انقطاع المطر)
أما بعد ، (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) .
عباد الله .. تأخرُ نزولِ المطر في هذه الأيام ، هو حديث كثيرٍ من الناس ، في الأماكن والقرى التي تعتمد على الأمطار ، يشكون قلة الماء بعد أن كانت الأودية والعيون نابضة بالماء, ويشكون جدب الأرض بعد أن كانت الأرض مخضرة, يشكون ذلك, وحُق لهم أن يشكوا ؛ فإن الماء من أعظم نعم الله تعالى, وهو أساس الحياة ، كما قال عز وجل: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) .
وكثيراً ما يمتن الله تعالى على عباده بنعمة إنزال الماء من السماء ، (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون) ، (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) .
ولا يعرف حقيقة الاستبشار إلا من تعلق قلبه بالأمطار, كما هي حال العرب التي وصفهها الله تعالى .
ثم قال سبحانه: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) انظر إلى آثار رحمة الله في النفوس القانطة، وفي الأرض الهامدة الخاشعة ، (إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) .
عباد الله .. ولنا أن نتساءل: ما سبب تأخر نزول الأمطار؟ ما سبب القحطِ وجدبِ الأرض؟(4/1)
أخرج ابن ماجه والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا معشر المهاجرين ، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ، ولم يَنْقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) .
وقد جاء في هذا الحديث أمران بهما يمنع القطر من السماء, و يحصل الجدب والقحط في الأرض .
الأمر الأول: لم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين, والأخذ بالسنين أحد أنواع البلاء والعذاب, كما قال تعالى عن عذاب آل فرعون في الدنيا: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون) .
ما هو نقص المكيال والميزان؟ نقص المكيال والميزان هو التطفيف, فإن كان الأمر له استوفى حقه بالكامل, وإن كان الأمر لغيره بخسه حقه .
وهذا الأمر من أسباب شدة المؤنة لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجَوْر السلطان)) ولا يقف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في نقص المكيال والميزان عند هذا الحد, بل يتعدى إلى ما يحصل في زماننا من سرقات أموال المسلمين, والتزوير والاختلاس ، وغش الناس في معاملاتهم ، فإذا دخلت السوق وجدت البائع يَغُش المشتري ، فيجعل الرديء من السلعة في الأسفل, ويجعل الحسن في الأعلى، والله المستعان.(4/2)
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء) .. هذا هو السبب الثاني لتأخر نزول الغيث من السماء , يكنزون الأموال ولا يخرجون حق الله فيها, وإن أخرجوا, أخرجوا دون ما أمر الله به, فترى بعضهم أمواله بالملايين ويخرج بضعة آلاف ظنًا منه أن هذه تغني عن الزكاة ولا يتحرى في زكاة ماله .
لم يا عبد الله .. لم هذا البخل؟ لم هذا الكنز للمال؟ أما سمعت قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم( .
أتعرف ما هذا العذاب الأليم؟ (يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) .
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - :( ولولا البهائم لم يُمَطروا ) ، أي ولو نزلت قطرات المطر, وغيث السماء ما كان ذلك إلا للبهائم, ولولا البهائم لم ينزل الله المطر , فالمطر ليس لهؤلاء العصاة المصّرين على معاصيهم, الذين لا يقلعون عنها, إنما هو رحمة بالبهائم العجماوات . وقد تهلك البهائم بسبب معاصي بني آدم .
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه : "إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم".
قال مجاهد:"إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنن تقول: من شؤم معصية بني آدم ".
عباد الله .. ليس سبب تأخر الأمطار هو مجرد رياحٍ تأتي من الشمال أو الجنوب أو تغيرٍ في الأحوال المناخية, بل السبب الحقيقي لتأخر الأمطار هو هذه الأسباب التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام, وإذا ما أقلع الناس عن هذه الأمور واستغفروا الله بقلوب صادقة ، كانوا على رجاء الرحمة ونزول الغيث, كما قال سبحانه وتعالى على لسان نوح عليه السلام: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا ما لكم لا ترجون لله وقارًا) .(4/3)
وقال تعالى على لسان هود عليه السلام: (ويا قوم استغفروا الله ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) , يا قوم استغفروا الله وتوبوا إليه من المعاصي كلها من الشرك والبدع وما يتعلق بهما من أكل الربا, ليس الاستغفار باللسان, إنما الاستغفار بالفعال, توبوا إليه, أقلعوا عن المعصية, ومع الإقلاع استغفروا الله عز وجل, عندها يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم, وإن لم تفعلوا فسيبقى الحال على ما ترون .. ولا تنتظروا إن لم تقلعوا عن معاصيكم وتستغفروا ربكم أن ينزل عليكم المطر بمجرد قولكم: اللهم أغثنا .
إخوة الإيمان .. إن من أسباب نزول الغيث من السماء: أن نستغفر الله سبحانه وتعالى ونتوب إليه, وأن نتضرع إليه أفرادًا وجماعات ، إذ هو القائل تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاستغفار والتوبة إنه على كل شيء قدير.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل, وأفاض عليهم النعمة ، وكتب على نفسه الرحمة ، وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, والصلاة والسلام على نبينا محمد ، إمام المتقين وقائد الغُرّ الميامين ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .(4/4)
أخرج الإمام مسلم في صحيحه, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما رجل ـ أي فيمن كان قبلنا ـ بفلاة من الأرض إذ سمع صوتًا في سحابة يقول: اسق حديقة فلان ، قال: فانقطعت قطعة من السحاب حتى إذا أتت على حَرّة فإذا شَرْجة من تلك الشِّراج فاستوعبت الماء كله ، فتتبع الماء فرأى الماء يأتي إلى رجل في حديقته يدير الماء بمسحاته فقال الرجل: يا عبد الله, ما اسمك؟ قال: اسمي فلان للاسم الذي سمع في السحاب, فقال: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان فماذا تفعل؟ قال الرجل: أما إذا قلت هذا فإني آخذ ما يخرج منها فأتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثه ، وأرجع ثلثًا إلى الأرض)) .
انظروا عباد الله ، كيف يخص الله عز وجل بالكرامة من يشكر نعمته عليه , الرجل يقسم الرزق الذي يرزقه الله إلى ثلاثة أثلاث, ثلت يتصدق به, ثلث يأكله هو وعياله, وثلث يرجعه إلى الأرض .
ما الذي يضر العباد إن فعلوا مثل ذلك الرجل؟ ما الذي يضرنا إذا أخرجنا من أموالنا شيئًا وإن كان قليلاً في كل شهر أو في كل يوم, أليس ذلك من موجبات رحمة الله تعالى؟ أليس ذلك من موجبات نزول الغيث من السماء؟
بلى والله .. فاتقوا الله عباد الله ، واستغفروا ربكم وتوبوا إليه ، ينشر لكم من رحمته ، وينزل عليكم من رزقه ، إنه قريب مجيب .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(4/5)
خطبة ( استقبال رمضان )
أما بعد .. عباد الله .. مدرسة ستفتح أبوابها بعد أيام قليلة .. فهل ترى نحيا فندرك هذه المدرسة ونلتحق بها؟ وإذا التحقنا بها هل نخرج منها مع الفائزين أو الخاسرين؟ .
إنها مدرسة رمضان .. مدرسة التقوى والقرآن .. وموسم الرحمة والغفران .. والعتق من النيران .
أيام معدودة وتستقبِل الأمّة هذا الزائرَ المحبوب بفرحٍ غامِر ، وسرورٍ ظاهرٍ .
يا رَمَضان، إنّ يومَ إقبالك لهوَ يومٌ تتفتح له قلوبُنا وصدورُنا، وتمتليء فيه نفوسنا غبطةً وأمَلاً، نستبشر بعودةِ فضائِك الطاهر الذي تسبَح به أرواحُنا بعد جفافِها وركودِها، نستبشر بساعةِ صلحٍ مع الطاعاتِ بعدَ طول إعراضِنا وإباقنا، أعاننا الله على بِرِّك ورفدِك، فكم تاقت لك الأرواحُ وهفَت لشدوِ أذانِك الآذانُ وهمَت سحائبُك الندِيّة هتّانةً بالرّحمة والغفران .
عبادَ الله، مَن مِنَ المسلمين لا يعرِف فضلَ هذا الشهرِ وقدرَه، فهو سيِّد الشهور وخيرُها، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، من صامه وقامه غفِر له ما تقدَّم من ذنبِه، فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهر، وقد ثبت في الصحيحَين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن صام رمَضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه .
إن بلوغ رمضان نعمة عظيمة ، وفضل كبير من الله تعالى ، حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان .(5/1)
فعن طلحة بن عبيدالله أن رجلين من بلى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشدَ اجتهادا من الآخر ، فغزا المجتهد منهما فاستشهد ، ثم مكث الآخر بعده سنة ، ثم توفي ، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة ، إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس ، فعجبوا لذلك ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثوه الحديث ، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله ، هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ، ودخل هذا الآخر الجنة قبله!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى . قال: وأدرك رمضان ، فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ، قالوا: بلى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض . رواه ابن ماجه وصححه الألباني .
الله أكبر .. إنه رمضان شهرُ المرابح ، زائرٌ زاهر، وشهر عاطِر، فضلُه ظاهر، بالخيراتِ زاخر، فحُثّوا حزمَ جزمِكم، وأروا الله خيرًا مِن أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جازَ مَن جاز، واعلَموا أنّ من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِد في غيره. أخرجه مسلم[1].
رمضان .. شهرُ القبول والسّعود ، والعتقِ والجود ، والترقّي والصّعود، فيا خسارة أهلِ الرّقود والصّدود، فعن أنس رضي الله عنه قال النبيّ : ((قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقرّبت إليه ذِراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)) أخرجه البخاري .(5/2)
هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا الشّيطان كبّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إذا جاء رمضانُ فتِّحت أبوابُ الجنة، وغلقت أبواب النّار، وصفِّدت الشياطين)) متّفق عليه، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كانت أوّلُ ليلة مِن رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبوابُ النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة)) أخرجه ابن ماجه.
أيها الأحبة .. قرُب منا رمضان فكم قريب لنا فقدناه، وكم عزيز علينا دفنّاه، وكم حبيب لنا في اللحد أضجعناه. فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا، يا مَن غدا على زلاّته متندِّمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا، ويُنيلَ التّائبين فضلَه تكرُّمًا .
يا من أوردَ نفسَه مشارعَ البوَار، وأسامَها في مسارح الخَسار، وأقامَها في المعَاصي والأوزار، وجعلها على شَفا جُرفٍ هار، كم في كتابك من زَلل، كم في عملِك من خلَل، كم ضيّعتَ واجبًا وفرضًا، كم نقضتَ عهدًا محكمًا نقضًا، كم أتيتَ حرامًا صريحًا محضًا، فبادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم والاستغفار، فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار.(5/3)
يا أسيرَ المعاصي، يا سجينَ المخازي، هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتَق فيه الجاني، ويتجَاوَز عن العاصي، فبادِر الفرصَة، وحاذِر الفوتَة، ولا تكن ممّن أبى، وخرج رمضان ولم ينَل فيه الغفرانَ والمُنى، صعد رسول الله المنبَر فقال: ((آمينَ آمينَ آمين))، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : ((إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان .
يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة .. هذا موسم تفتح فيه الجنان وتغلق فيه أبواب النيران.
عباد الله .. كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب هنا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فليتحق بالصفوة.
أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والبصائر؟! أما لنا فيهم أسوة؟!
حينَما يستقبِل المسلم موسمًا يرجو غنيمَتَه فإنّه يجب عليه ابتداءً تفقُّدُ نفسِه ومراجعةُ عملِه ، حتى لا يتلبَّس بشيءٍ من الحوائِلِ والموانِعِ التي تحول بينَه وبين قبولِ العمَل ، أو تُلحِق النقصَ فيه؛ إذ ما الفائِدة من تشميرٍ مهدورٍ أجرُه وعمَلٍ يرجَى ثوابه فيلحقُ وِزره؟! فعلى العبد الصائم أن يتفقه في دينِ الله ، ويجتنب الذنوبِ والمعاصي ومحبِطات الأعمال ، ويحرص على إعفافُ الجوارح .(5/4)
قال ابن رجب رحمه الله: "واعلَم أنه لا يتِمّ التقربُ إلى الله بتركِ هذه الشهواتِ المباحَة أصلاً في غيرِ حالِ الصيام إلاَّ بعد التقرُّب إليه بتركِ ما حرّم الله في كلّ حالٍ كالكذب والظلمِ والعدوان على الناس في دمائِهم وأموالهم وأعراضهم". الخ كلامه رحمه الله .
وإذا كان الأمر كذلك ، فليحذر الصائم مما أعدّه أهلُ الانحلال ودعاةُ الفساد والضّلال، من برامج مضِلّة ، ومشاهدَ مخِلّة، قومٌ مفسدون لا يبَالون ذمًّا، ومضلون لا يخافون لَومًا، ومجرِمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا ، عدوانًا وظلمًا، جرَّعوا الشباب مسمومَ الشّراب، وما زادوهم غيرَ تتبيب، وتدميرٍ وتخريب .
يا هؤلاء .. إن رمضان خيرُ الشّهور، فحذارِ حذار من انتهاكِ حرمتِه، وتدنيس شرفِه، وانتقاصِ مكانتِه، يقول رسول الهدى : ((من لم يَدَع قولَ الزّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه)) أخرجه البخاري[6].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .
عباد الله .. هذا هو رمضانُ .. شهرُ تزكيةِ النفوس وتربيتِها ، أعظم القرُبات فيه : الصومُ الذي افترضه الله تعالى تحقيقًا للتّقوى .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) .. والتّقوى حساسيّةٌ في الضمير ، وصَفاء في الشعورِ ، وشفافيّة في النفس ، ومراقبةٌ لله تعالى، فالصّوم ينمِّي الشعورَ بالمراقبة ، ويزكِّي النفس بالطاعة.(5/5)
أمَّا ثواب الصائمين فذاك أمرٌ مردُّه إلى الكريم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((قال الله عزّ وجلّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلاَّ الصّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إني امرُؤ صائم. والذي نفس محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عندهما: ((يدع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي)) ، وفي صحيح مسلم أنّ النبيّ قال: ((ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر)).
فاتقوا الله عباد الله .. واحرصوا على النية الصالحة والعزم الجاد على الاجتهاد في طاعة الله في رمضان .. وحري بأفراد الأسرة ، والقرابة ، والجيران ، وزملاء المهنة ، أن يتواصوا بالحق ، ويتعاونوا على أعمال البر والتقوى في هذا الموسم المبارك ، أسأل الله تعالى أن يمن علينا ببلوغه ويحسن عملنا فيه .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
اللهم أيقظنا من سبات الغفلات قبل الممات، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه حتى نلقاك وأنت راض عنا غيرُ غضبان .
اللهم بلغنا رمضان ، وأعنا على صيامه وقيامه وإتمامه، ووفقنا للقيام بحقك فيه وفي غيره، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك ، صوابًا على سنة نبيك .(5/6)
خطبة (اعصار عمان والدفاع عن الهيئة)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله هو وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه ولا مبدل لحكمه، وهو على كل شيء قدير .. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الرحمة المهداة البشري والنذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. لا زلنا نتابع بخوف وترقب، ماتناقلته وسائل الإعلام عن الإعصار الهائل المسمى (إعصار جونو) الذي طاف ببعض دول الخليج مبتدئا بسلطنة عمان ، ولا يزال هذا الإعصار حتى الآن يسير إلى جيرانها، الذين هم ليسوا منا ببعيد .
إعصار وعواصف، ورياح شديدة، مصحوبة بغيوم كثيفة، وأمطار غزيرة، سالت بها الأرض بشعابها ووديانها وشوارعها .. سيول جارفة ورياح هادرة، سحقت كل من في طريقها، وعطلت حركة الشوارع، وحاصرت السكان في منازلهم.
شُلت حركة النقل، فأُغلقت المواني والمطارات، وغَمرت المياه الطرقات، وسددتها الأشجار المتساقطة، وتهاوت كثير من أعمدة الكهرباء، وفي عمان أُعلن يوم أمس عن وفاة اثني عشر، فضلاً عن المفقودين والمصابين .
يقول أحد الأخوة العمانيين: رياح ما رأينا مثلها، وأمطار شديدة، الماء يدخل من النوافذ، والمنطقة التي بجانبنا غرقت بمعنى الكلمة، الماء وصل ربع البيوت، والوديان تسيل والأشجار تساقطت والأمر مخيف جدا.. وفي بعض البيوت وصل الماء إلى الطابق الثاني والناس تستغيث .. البيوت والسيارات أصبحت كاللعب في الوديان .. وفي بعض المناطق الساحلية وصل الماء إلى اليابسة ودخل البيوت، وارتفعت الأمواج بارتفاع أعمدة الكهرباء، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولنا ـ يا عباد الله ـ مع هذا الحادث محطات تأمل واعتبار، ووقفات تفكر وادكار:(6/1)
الوقفة الأولى: بيان عجز الإنسان وضعفه، وتمام قوة الله وقدرته، فإن الله سبحانه عزيز ذو انتقام، قوي عزيز، شديد المحال، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .. وهذه الرياح جند من جنود الله تعالى، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة -بإذن ربها-، دمرت المدن وهدمت المباني، واقتلعت الأشجار، وصارت عذابا على من حلت بدارهم .
الوقفة الثانية: إن مما ينبغي الحذر منه: نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة! كما يسميها بعضهم: (غضب الطبيعة)!! حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها. قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- : "ونحن لا ننكر أن يكون لها أسباب حسية، ولكن: من الذي أوجد هذه الأسباب الحسية؟؟ إن الأسباب الحسية لا تكون إلا بأمر الله عز وجل" . انتهى كلامه رحمه الله تعالى0
الوقفة الثالثة: إن في هذا الإعصار موعظة وعبرة، تستوجب الخوف من غضب الله وفجاءة سخطه، (وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) .
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الريح والغيم؛ عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر . فإذا مطرت، سر به، وذهب عنه ذلك. قالت عائشة : فسألته ، فقال : ( إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ) رواه مسلم.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال : ( اللهم ! إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به ) رواه مسلم.
إنها النذر، ولكن أين المعتبرون؟، إنها الآيات، ولكن أين المؤمنون؟
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَاكَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
الوقفة الرابعة: كيف السبيل إلى النجاة؟(6/2)
إنه لا سبيل إلى النجاة من هذه الكوارث والقوارع، إلى باللجوء إلى الله ، وتجديد التوبة والاستغفار، وسلوك سبيل الإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فقد أخبر الله تعالى أنّ البلادَ الّتي يؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن الفساد، بلادٌ محميّة من عذاب الله،ومأمونةٌ بفضل الله، {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ اْلقُرُوْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوْا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اْلفَسَادِ فِيْ اْلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّنْ أنَجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مَا أُتْرِفُوْا فِيْهِ وَكَانُوْا مُجْرِمِيْنَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اْلقُرَىْ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُوْنَ } .
وروى الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام الأمان، والقائمون به يدفعون الكوارث والعقوبات العامة عن الأمة .
وإن من فضل الله علينا وعلى ولاة أمرنا وفقهم الله، اهتمامَهم بهذه الشعيرة العظيمة، فخصصوا لها جهازاً حكومياً يقوم بها نيابة عن المسلمين، وهو جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه قد ساءنا وكدر خواطرنا، ما يكتبه بعض كتاب الصحف والانترنت من تصيد أخطاء رجال الحسبة، ثم تضخيم هذه الأخطاء، وتحويل الخطأ إلى قصة، والقصة إلى رأي عام .
وإنك والله لتعجب من تضخيمهم لقضية فردية مات فيها أحد مروجي المخدرات في الرياض بعد مداهمته من إحدى فرق الهيئة، وقضية أخرى في تبوك .. فطاروا بها منذ أول وقوعها، وضخموها مع أن لم ينته التحقيق فيها، كما بين ذلك ولاة الأمر وفقهم الله .(6/3)
وللحقيقة نقول: ليست هذه بأول مرة .. فإن العاقل المنصف يدرك ما يتعرض له جهاز الهيئة من تعدي وظلم من بعض الكتاب ورؤساء تحرير بعض الصحف، من مُطالبٍ بإلغاء الهيئة ، أو التضييق عليها ، وغيرها من المطالبات التي لو قالها أحد في جهاز حكومي آخر لعده الناس ضرباً من الجنون .
وينسى أو يتناسى هذا الصنف من الكتاب إنجازات الهيئة ، وجهودها العظام ، مع قلة الإمكانيات ، وصعوبة العمل ، وضعف المحفزات .
يقول الدكتور الحارثي عضو مجلس الشورى : التقارير مليئة بالإنجازات التي يقوم بها رجال الهيئة وذلك على مستوى محاربة الكثير من ظواهر الفساد ، ابتداءً من المخدرات مروراً بالدعارة والخمور وعدداً آخر من الموبقات .. وأحيانا نقول في المجلس ونحن نناقش تقاريرهم لو لم يكن هؤلاء موجودين إذن كيف يكون حال البلد؟ . اهـ
وإذا كنا نتساءل لماذا يتعامل بعض الكتاب مع جهاز الهيئة بهذا التناقض والتعسف؟
فإني بكل صراحة أقول: إن من أهم أسباب تخبط هؤلاء سببين:
السبب الأول : الانحراف الفكري، فإن بعض أهل العلمنة لديه شبهات أصلاً في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنها تخلف ورجعية تصادم حرية الرأي، فيجد هؤلاء في أخطاء الهيئة سبيلاً للنيل من هذه الشعيرة والقائمين بها .
وربما تأثر بعض هؤلاء المنحرفين بالتقارير المشبوهة لبعض اللجان والمؤسسات الدولية المغرضة كتقرير (راند) الأخير الذي يدعو إلى إلغاء الشرطة الدينية في المملكة (أي الهيئة) لأنها تقف حجر عثرة لمشاريعهم الإفسادية في المنطقة .. وكم هو محزن أن يتلقى هذه الدعوة بعض من يعيش بيننا ويتكلم بألسنتنا ويكتب في صحفنا، ويُثير الدهماء والسذج من خلال البحث عن الأخطاء وتكبيرها وتضخيمها .(6/4)
السبب الثاني: الانحراف الأخلاقي، فإنه من المعلوم أن جهاز الهيئة يقف في وجه شهوات بعض الناس ، ويحول دون عبثهم ومجونهم، فلا غرابة أن يهيج هؤلاء ويثوروا ضد من يحول بينهم وبين شهواتهم .. وهؤلاء لا يرجى منهم أن يحبوا الهيئة، أو يرحبوا بعملها، كما أنه لا يرجى من اللص أن يشكر الشرطة، أو يحب القاضي، أو يمدح السجان .
كنت بالأمس مع أحد المشائخ الفضلاء، وهو حالياً رئيس لأحد مراكز الهيئة، وكان يخبرني أن رجلاً قبضت عليه إحدى فرق الهيئة في قضية سيئة، وكان يقول: أقبل رجليك يا شيخ واستروا علي .
لم أعجب أن الشيخ وفقه الله لم يخبرني باسم الرجل لأني أعرف حرص رجال الحسبة الشديد على الستر وسرية العمل، لكن عجبي لم ينقطع عندما قال لي إن هذا الرجل يعمل الآن رئيساً لتحرير إحدى الصحف التي تنشر بعض المقالات ضد الهيئة .
نسأل الله أن يهدي ضالنا، وأن يكفينا شر شرارنا، إنه على كل شيء قدير .
... الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى ... والصلاة والسلام ...
عباد الله .. نحن ندرك تماماً إن هذا الأمن والنقاء الذي تعيشه بلادنا، ونتفيأ ضلاله، ونتمتع به، يقف خلفه جهد وإخلاص من رجال الأمن البواسل، ورجال الهيئة الفواضل.
وإننا والله لنشعر بالأمن حينما ندخل نحن وأهلنا السوق، أو نوصل بناتنا إلى المدارس، فنجد حماة الفضيلة في هذه الأماكن ، يحفظون الأعراض ، ويصونون الحرمات عن عبث السفهاء، وتطاول الأشقياء .
فلله درهم .. كم فوتوا الفرصة على ذئاب يريدون اغتيال عفة الفتاة .. وكم من قضايا أخلاقية عالجوها بالحكمة والستر على الأعراض والعورات ، فحُفظت بيوت كادت أن تنهار .
ولله درهم .. كم من ليلة ننامها نحن ملء جفوننا ورجال الهيئة يسهرون الليالي يراقبون أوكار الجريمة والفساد .(6/5)
قبل ثلاثة أيام دخلت مركز هيئة العليا، فإذا بهم وفقهم الله قد ضبطوا مصنعاً للخمر فيه كميات هائلة من الخمور التي يستهدف بها شبابنا وبيوتنا .. فكان أحد أعضاء المركز يقول لي: إن بعض الأعضاء الميدانيين لا يعرف النوم في الليل منذ زمن، بسبب سهر الليالي .
ومع هذا فإننا نعلم أن العاملين في أي جهة حكومية ليسوا معصومين من الأخطاء .. وهذه الأخطاء التي تقع من منسوبي الهيئة أو الشرطة أو المرور أو الدفاع المدني أو الإسعاف أوغيرها يجب أن نتعامل معها بموضوعية وعدل، بأن نتثبت أولاً من وقوع الخطأ ، فإن ثبت فإنه ينسب لصاحبه، ويعاقب بقدر خطئه، ولا يكون هذا الخطأ ذريعة لتضخيم الأخطاء، أو الطعن في الجهاز الحكومي، أو الاستهانة به وتهميشه، كما وقع من بعض الناس .
فليتّق الله عزّ وجلّ كل من زلت به القدم، وليعلم أن الكلمة أمانة، وأنّه سيقف بين يدي الله تعالى ليحاسبه على ما تكلم به لسانه أو كتبت يداه، {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} .
وما من كاتب إلا سيفنى ويبقي الله ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
اللهم صل على محمد ...(6/6)
خطبة (إعصار كاترينا ومجاعة النيجر)
الحمد لله الملك الجبار العزيز الغفار وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المختار ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار ، ومن تبعه بإحسان ما تعقب الليل والنهار .
أما بعد .. فأوصيكم ونفسيَ الخاطئةَ بتقوى الله تعالى، فهي العاصم من القواصم، وهي المنجية من المهالك ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.
عباد الله .. شهدت الأيام الماضية أحداثاً عظيمة ، جديرةً بالتذكر والاعتبار ، بدءاً بكارثة كاترينا الأمريكية ، وانتهاءً بمجاعة النيجر المسلمة .
أما الحادثة الأولى فقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أسوء كارثة طبيعية في التاريخ الأمريكي ، حينما ضرب إعصار كاترينا ولاية لويزيانا ومدينة نيو أور لينز وعدداً من الولايات والمدن الأخرى .
مات بسبب الإعصار قرابة العشرة آلاف ، وشرد مئات الآلاف ، وقدرت الأضرار الاقتصادية بنحو مئة مليار دولار ، حتى صرح وزير الأمن الداخلي أن الإعصار كان أشبه بإلقاء قنبلة ذرية على نيو اورلينز .
لقد رأى العالم هذه المشاهد العظيمة: إعصار هائل مدمر .. رياح سرعتها تفوق المائتي كيلو متر في الساعة ، أغرقت المنتجعات والأراضي .. وألقت بالأنقاض في الهواء ، وأطاحت بنوافذ الفنادق العالية ، ولجأ الناس إلى صالة لوزيانا العملاقة ، التي يسمونها (سوبر دووم) القبة العظيمة ، فقلع الله سقفها ومزقته الرياح .. وحُصِر الآلاف وتقطعت بهم السبل بسبب المياه الجارفة والرياح العاتية ، وغَمَرت المياهُ الطرقات ، وسدتها الأشجار المتساقطة ، وتهاوت خطوط الكهرباء ، وقَتِل بعض الناس بسبب سقوط الأشجار فوق رؤوسهم ، وانتشرت الجثث في المدينة ، وقذف الإعصار بعضها إلى الشاطئ .(7/1)
أصبحت شوارع المدينة شبيهةً بالثلج من تهشم الزجاج ، وقامت الطائرات بإلقاء أكياس الرمل لكي تعمل السدود ، لكنها سرعان ما انهارت وجرفتها المياه .
وتسقط منصات حفر النفط من مراسيها في الخليج الذي يصدر ربع النفط الأمريكي ، ليحرمهم الله إنتاج ستمائة وخمسين ألف برميل يومياً .
أصبح ثمانون بالمائة من مدينة نيو أورليانز التي يسكنها أربعة ملايين إنسان تحت المياه، وتسعون بالمائة من المباني في المناطق الساحلية اختفت تماما .
ولا يزال مئات الآلاف ينتظرون إجلاءهم من المناطق المنكوبة . وذكر الجيش الأميركي أنه قد يقوم بنشر مزيد من القوات عبر تسريع عودة بعض الوحدات من العراق ، نسأل الله أن يشغلهم بأنفسهم عن بلاد المسلمين .
ولنا مع هذه الحادثة عدة وقفات:
الوقفة الأولى ) ويريكم آياته:
إن من أعظم دروس هذه الكارثة التذكير بتمام قدرة الله وجبروته .
إنها رسالة إلى العالم بأن الله سريع الحساب ، شديد الانتقام، قوي قهار، وهو الكبير المتعال، هو الجبار الذي خضعت السموات والأرض لقدرته وإرادته ، هو الواحد القهار الذي قهر كل مخلوقاته ، الكبرياء رداؤه ، والعظمة إزاره ، {إن بطش ربك لشديد} .
إنها رسالة بأنه سبحانه قادر على أن يُهلك دول الكفر والطغيان في لمح البصر .. وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر .
لقد رأى العالم آيات الله القاهرة في تسونامي ، ثم انتقلت الآيات إلى دولة تزعم أنها أقوى دولة على وجه الأرض، بعتادها الحربي, وسلاحها النووي, واقتصادها الربوي ، ليرى العالم ضعفها وعجزها ، أمام جزء قليل من عقاب الله ، وجندي واحد من جنود الله ، فإذا هي تمد يدها لتتسول العالم ، وتستعطف الشعوب .(7/2)
إنها سنة الله التي لا تتبدل ، ألم يخبرنا الله عن قوم هود الذين غرتهم قوتهم (فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة) ، قال الجبار جل جلاله: (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ، فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) .
الوقفة الثانية ) بما كسبت أيدي الناس:
عباد الله .. لماذا تقع هذه الكوارث؟ أهي عقوبات إلهية؟ أم هي مجرد أحداثٍ كونيةٍ وكوارثَ طبيعية؟
لقد انشغلت وسائل الأعلام بالأخبار والأرقام دون أن تعرج على هذه المسألة التي جاء جوابها صريحاً ومتكرراً في كتاب الله العظيم (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) .. (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) .. نعم إنه الكفر بالله، والتمرد على شرعه، وانتهاك حدوده ، والظلم والتجبر على عباده .
فما الذي أغرق قوم نوح؟ وأرسل على ثمود الصيحة؟ ورفع قرى قوم لوط فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها بحجارة من سجيل؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل؟ فأمطر عليهم نارا تلظى وصواعق تحرقهم ؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه ؟ وخسف بقارون وداره؟
{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا} .
إنه الكفر بالله العظيم ، قال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} ، أي نازلة شديدة تنزل عليهم بأمر عظيم ، قال: {أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} .
فلما نزلت القارعة فهل رجعوا إلى الله؟ كلا، بل ازدادوا كفرا ، قالوا: إننا نقف عاجزين أمام غضب الطبيعة، لا يزالون يكفرون بالله وينسبون العمل للطبيعة .(7/3)
عباد الله .. إن كارثة كاترينا قدر كوني وعقوبة من الله جلّ وعلاّ؛ لكفر تلك الدولة أولاً ، ثم لطغيانها وجبروتها وظلمها .. بل هي راعية الظلم والطغيان والجبروت في هذا العصر .
من الذي أذاق شعوب العالم الدمار والويلات ؟
من الذي يقف وراء الدولة المسخ إسرائيل ، ويدعمها ضد إخواننا المستضعفين في فلسطين ؟ ...
من الذي أباد المسلمين ودمر منازلهم فوق رؤوسهم في أفغانستان ، وفي العراق ، وغيرها؟
من الذي دنس جنوده كتاب الله؟
من الذي حبس الأبرياء في سجون هي الأشد ظلماً وقهراً للإنسانية؟
إن في هذه الكارثة درس عظيم لأمريكا وغيرها من الدول ، أن الظلم ظلمات ، وأن الله بالمرصاد .
يا كاترينا .. أخبرينا .. هل أنت دعوة المصلين .. أم أنت آهات الثكالى .. أم أنت دموع الأيتام .. أم أنت أنين المظلومين ؟.
إن في كاترينا تثبيت لقلوب الموحدين والمظلومين من شعوب أمتنا الإسلامية ، وتطمين لهم بأن الله ناصرهم على عدوهم, ومنتقم لهم ممن ظلمهم ، فإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) ، ((وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )) .
الوقفة الثالثة) وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً :
هذه المدينة التي نزل بها العذاب (نيو اورلينز) من أهم المدن الأمريكية التى تنتشر فيها بيوت الدعارة والمخدرات والملاهي الليلية التي تتعرى فيها النساء ، وهي من أخطر المدن الأمريكية بسبب انتشار الجرائم ، وهي المدينة الوحيدة ذات الصيت التي يقصدها الكثير من الشواذ جنسيا وغيرهم للإحتفال بـ "ماردي قراس" الذي تتعرى فيه النساء والرجال .
وإن من سنن الله تعالى أنه متى ما فشت الفواحش والمنكرات في قوم عمهم بالعذاب .(7/4)
نعم .. إن هذه الآيات الكونية تجعل المؤمن متصلاً بالله ذاكراً له شاكرا لنعمه مستجيرا به خوفا من نقمته وسخطه ، نسأل الله أن يعيذنا برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته.
الوقفة الرابعة ) وظهرت أخلاقهم:
فعلى الصعيد الأخلاقي للشعب الأمريكي ، أظهرت هذه الكارثة عوار مباديء القوم ، وسقوط حضارتهم ، حضارةِ الحرية والبهيمية ، فقد رأى العالم أعمال النهب والسرقة التي وقعت في المدينة ، حتى أعلن عمدة مدينة نيو أروليانز أن أعمال النهب طالت المستشفيات والفنادق ، وملاجئ العجزة .
فيا لله .. كم خسر العالم بانحطاط المسلمين ، وكم هو بحاجة إلى أخلاق الإسلام وسمو مبادئه التي تعلو على الأنظمة والقوانين .
الوقفة الخامسة ) موقف المسلم مما نزل بأمريكا :
هذه مسألة هامة كثر الكلام فيها : هل يفرح المسلم لما أصابهم ؟ أو يحزن لمصابهم؟
يجب علينا أولاً أن نؤمن أن ما وقع من قضاء الله وعدله ، وأن الله قد ينزل الكوارث والنوازل بالكفار جزاء كفرهم وظلمهم ، وانتقاماً لعباده المؤمنين ، ويومئذ يفرح المؤمنون.
ولعلي أسوق كلاماً نفيساً في هذه المسألة للشيخ العلامة محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في كتابه الشرح الممتع حينما تحدث عن قنوت النوازل ، قال الشيخ: (أما إن نزلت بالكفار نازلة فذلك مما يشكر الله عليه ، وليس مما يدعا برفعه) اهـ .
نعم .. نحن نفرح لما أصاب الدولة المعتدية الظالمة ، نفرح بمثل هذه العاصفة التي أذلتهم وفضحتهم وأضعفت قواهم واقتصادهم حتى يعرفوا قدرة الله عليهم ، ولعل الله استجاب لصرخات المظلومين من المسلمين الذين لم يفتأوا يدعون على من ظلمهم .(7/5)
وأما من مات من الكفار من الشيوخ والنساء والأطفال فيجب أن نعلم أن ديننا دين الرحمة ، لا يتشرف إلى موت هؤلاء ، ولهذا نهينا عن قتالهم حتى في حال الحرب . ولكن ، يجب أن لا يغيب عنا أن الله تعالى إذا أنزل العقوبة بالأمم الكافرة لم يستثن منها أحداً ، فإن كفرهم بالله العظيم كافٍ في أن يعمهم الله بالعقوبة ، فلا تأس على القوم الكافرين .
وقد كان النَّبِيّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على أهل الكفر: "اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتك عَلَى مُضَر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف " .
وهو صلى الله عليه وسلم حينما يدعو عليهم بالكوارث والمجاعات يعلم أن فيهم النساء والأطفال ، بل سئل صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث الصعب بن جَثّامة - رضي الله عنه - عن الديار من ديار المشركين يُبَيَّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم [يعني يقتلون تبعاً] فقال:"هم منهم". هذا لفظ البخاري، وعند مسلم:"هم من آبائهم".
وقال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) [وفي قراءة أمّرنا مترفيها أي جعلناهم رؤساء وقادة] قال:(ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) .
فالهلاك عام وإن كانت الجناية جناية القادة أو المترفين ، ويوضح هذا المعنى ما جاء في البخاري عن زينب أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث .
ومعنى ذلك أن الصالحين قد يهلكون في بلاد المسلمين إذا كثر الخبث فكيف ببلاد الكافرين؟
إذن ، ليس للأمريكيين ولا لغيرهم أمان من الله حتى يدخلوا في دين الله .
أما من مات من إخواننا المسلمين في هذه الكارثة فإننا والله نحزن لمصابهم ، ونسأل الله أن يجعل ما أصابهم كفارة لهم ، وأن يتقبلهم في الشهداء، وقد جاءت النصوص أن من مات بسبب هذه العقوبات يبعث على نيته, فلا تعارض أبداً بين نزول العقوبات بالكفار , وإصابة بعض المسلمين بها .(7/6)
ونقول لكل الأمريكيين : إن ديننا دين الرحمة والإنسانية ، لكن قلوبنا لم يبق فيها مساحةٌ للحزن على موتاكم ، فمساحة الحزن على ضحايا المسلمين بفعل جرائمكم استحوذت كل مكان في قلوبنا .. ولم يبق في مآقينا دموع نذرفها على ضحاياكم ، فقد جفت مآقينا ونحن نذرف الدموع مراراً على ضحاياكم في بلاد المسلمين .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ، إنه كان غفاراً .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .... أما بعد .
عباد الله .. أما قضيتنا الثانية في هذه الخطبة ، فهي مأساة جديدة وجرح يتفجّر .. إنها النيجر المسلمة, التي يعيش ثلثا سكانها المسلمين تحت خط الفقر .
النيجر دوله مسلمة ، وعضو في منظمة المؤتمر الإسلامي ، وتقع في الجزء الغربي من وسط قارة أفريقيا ، وتحدّها من الشمال ليبيا والجزائر، ويسكنها قرابة الإثني عشر مليون نسمة ، 95% إلى 98% منهم مسلمون .
ترتيب النيجر بين الدول الفقيرة هو 173 من أصل 174 دولة ، أي أنها ثاني أفقر دولة في العالم ، وقد قطعت علاقاتها نهائياً مع الكيان الصهيوني منذ عام 1973ميلادي حتى اليوم، ونسأل الله أن لا يجعل هذه المجاعة سبباً لتغير مواقفها تجاه أعداء الله اليهود .
كيف حدثت المجاعة؟ بدأت الكارثة بالجفاف الذي حل بالنيجر على مدى السنوات الأخيرة الماضية ، ثم كان توقف المطر عن الهطول منذ العام الماضي، ثم استفحلت القضية باجتياح الجراد الهائل للمحاصيل الغذائية المتبقية للأهالي .
بلغ إجمالي القرى المتضررة قرابة الثلاثة آلاف قرية يسكنها حوالي ثلاثة ملايين إنسان تم تسجيلهم ضمن المعرضين لأزمة غذائية حادة .. من بينهم 800 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون المجاعة ، منهم 150 ألف طفل في حالة خطيرة .(7/7)
وقد بدأت بعض الدول بتقديم المساعدات ، وإرسال شحنات من المواد الغذائية إلى هناك، كماليزيا والإمارات العربية المتحدة ، وقدمت هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية في السعودية، مساعدات إغاثية عاجلة ، إلا أن ما وصل حتى الآن لا يكفي للحد من الكارثة .
في كل دقيقة تمر ، يرتفع عدد الموتى ، ويزداد هزال الأطفال، ويتساقطون أمام أعين والديهم، دون أن يتمكن أحد من إنقاذهم .
أصبح طعامَ الناس ورقُ الشجر، هذا إن وجد, حتى أن بعض النساء تتبع أسراب النمل الأبيض وتفتش بيوته ، لتحصل على مخزونه من الحبوب .
وعرض موقع لجنة مسلمي أفريقيا صورة محزنة للطفلة حسنة البالغة من العمر شهران ، سارت بها أمها مسافة عشرين كيلو متر حتى وصلت بعد جهد جهيد إلى مركز اللجنة الإغاثي ، الذي سارع إلى تقديم الغذاء والدواء للطفلة البريئة ، ولكن هيهات، لقد ماتت الطفلة بعد أربع ساعات.
ونساء النيجر المسلمات يحملن أطفالهم المرضى بالحصبة ونقص التغذية لمراكز النصارى في العاصمة مشياً على الأقٌدام لأكثر من 20 كيلومتراً تحت حرارة تتجاوز الخمسين درجة مئوية لعلاج من بقي منهم على قيد الحياة.
وتابعت مراسلة التلفزيون البريطاني عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص تقاسمت فأراً التقطه أحد أفرادها في الصحراء، وكان غذاءها لذلك اليوم .
وعلى الصعيد الاجتماعي تسببت المجاعة وهجرة أولياء الأمور إلى المدن للبحث عن الطعام في استغلال أصحاب النفوس الضعيفة هذه الأحوال للتجارة في أعراض النساء اللواتي لا حول لهن ولا قوة سوى الخضوع لهم للحصول على بضعة فرنكات ترجع بها المرأة في نهاية الأسبوع لأطفالها التي تركتهم مع الجيران .
الواجب تجاه هذه الأزمة:
وبعد عباد الله .. فما الواجب علينا تجاه هذه الكارثة؟
إن من حق إخواننا علينا عدة أمور:
أولها) التعريف بأحوالهم ونصرة قضيتهم في المجالس والمنتديات والاجتماعات ووسائل الإعلام .(7/8)
وإن من المؤسف حقاً أن تنشغل وسائل إعلامنا المختلفة بكارثة كاترينا ، وتغفل أوتتغافل عن الكارثة الأهم والأعظم التي تقع لإخواننا في الدين في النيجر .
ثانياً) مد يد العون لإخواننا وإنقاذهم من الهلكة .
وقد وصلت بعض الجمعيات الخيرية الإسلامية إلى هناك ، ومن أبرزها جمعية العون المباشر ولجنة مسلمي أفريقيا التي يقوم عليها رائد العمل الخيري في أفريقيا لأكثر من عشرين عاماً الدكتور المبارك عبد الرحمن السميط وفقه الله .
وإننا من هذا المنبر المبارك كلنا أمل في ولاة أمرنا وفقهم الله وهم السباقون دائماً لإغاثة المسلمين أن يفتحوا باب التبرع لإخواننا ، ويتيحوا لجمعياتنا الخيرية إقامة حملات التبرع لإنقاذ النفوس المسلمة من الموت ، وحمايتها من المنظمات التنصيرية .
وأذكر كلمة لشيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله بعد وقوع المجاعة في أفريقيا، قال فيها : تعلمون بارك الله فيكم ما حل بالكثير من إخوانكم المسلمين في أفريقيا وفي السودان بوجه خاص منذ سنوات من جفاف وقحط لاحتباس الأمطار عنهم مما جعل المنظمات التبشيرية تتحرك نحوهم باسم الإنسانية مع أن لها أهدافا أخرى خفيةً ومعلنة ، وهي دعوة المسلمين هناك إلى التحول عن دينهم إلى النصرانية ، استغلالا لحاجتهم وعوزهم وجوعهم . [أقول وما أشبه الليلة بالبارحة]
قال الشيخ: وأنتم أيها المسلمون أولى الناس بمد يد العون إليهم . لأنكم تسمعون وتقرأون كما أسمع وأقرأ عن أخبار جفافِ وهلاكِ المحاصيلِ والحيوانات ، وعن عدد الذين يموتون جوعا كل يوم من الرجال والأطفال والنساء ، وأغلبهم من المسلمين ، وهؤلاء إخوة لنا في الدين وجيران لنا في الأوطان .
ثم قال الشيخ : فيا أيها المسلمون استجيبوا لنداء ربكم ، وابذلوا من أموالكم في سبيله ، واشكروا نعم الله عليكم بأداء حقها ، ومن حقها إنقاذ الأنفس المؤمنة ، وهو حق لو تعلمون عظيم" اهـ(7/9)
فيا أمة الجسد الواحد .. نحن والله في نعمة عظيمة فما بالنا لا نشكرها ، ونهب لإنقاذ الأنفس المسلمة من الموت .
عباد الله .. هل من يد تمتد لتمسح دمعة صبي جائع؟
هل من همّة تتقد لتنقذ شرف مسلمة تسد رمق أولادها ببيع عرضها .
هل من قلب رحيم يحنو على شيخ ترك أسرته ، يلتمس كِسرة خبز أو حَفنة أرز يسد بها جوع أبناءه، فما يفاجأ عند عودته إلا وأبناؤه يموتون بين يديه من الجوع؟
أين عمر بن الخطاب يحمل لهم أكياس الدقيق, وأين عمر بن عبد العزيز يرسل إليهم بالزكوات والصدقات, بل أين المسلمون؟
أين الدول التي تهافتت لتقديم المساعدات لضحايا كاترينا بالملايين؟ دولة خليجية صغيرة تتبرع بمائة مليون دولار ، وأخرى بخمسمائة مليون دولار ، يا هؤلاء ، أين أنتم من الموحدين المصلين الذين يموتون يومياً بسبب المجاعة .
ماذا نقول إذا سَئَلَنا ربنا عن إخواننا؟ .
غفرانك ربنا .. لقد قتلتنا التخمة ، وغصت نفاياتنا بأنواع الأطعمة ، وأصبح الإسراف والتبذير والتفاخر وكفر النعمة هو شأن بعضنا ، ولو حدثته عن هذه المجاعة لتمعر وجهه وتقلصت معدته وأمسك عن الإنفاق ، وتعذر بقلة الموارد أو خشيةِ عدم وصول التبرع لمستحقيه ، إلا من رحم الله .
نعم .. أطلت عليكم في هذه الخطبة ، على خلاف العادة ، لكن الأمر عظيم ، والخطب جسيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثالثاً وأخيراً) إن من حق إخواننا علينا الدعاءَ لهم بأن يرفع الله عنهم البلاء ، ويكشف عنهم اللأواء .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ، برحمتك نستغيث لإخواننا .. اللهم إنه قد عظم الخطب واشتد الكرب بإخواننا في النيجر ، وأنت رب المستضعفين ، وأكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين ، اللهم أطعم جائعهم ، واكس عاريهم ، واحمل حافيهم ، واشف مريضهم ، وعاف مبتلاهم ، برحمتك يا أرحم الراحمين .(7/10)
اللهم يا فارج الهم ، ويا كاشف الغم ، مجيب دعوة المضطرين ، وجابر كسر المنكسرين ، اللهم اكشف البلاء عن إخواننا ، اللهم أغث بلادهم بالأمطار ، وأنبت لهم الزرع ، وأدر لهم الضرع ، وافتح عليهم من بركات السماء والأرض يا رب العالمين .
اللهم رحماك بالشيوخ الركع ، والأطفال الرضع ، والبهائم الرتع .(7/11)
خطبة ( اغتصاب العراقيات من أفراد الحكومة )
أما بعد ..
ومع أنباء الدم المسلم النازف على تراب الأقصى، وأخبار الجرح الغائر على أرض العراق، فجع المسلمون في العالم، خلال الأسبوع المنصرم، بتكرر حالات اغتصاب المسلمات في العراق .
شاهدنا على شاشات القنوات العراقية صابرين الجنابي، وهي تروي على الملأ قصة الاعتداء البهيمي على عفتها وشرفها , وتتحدث بلسان كل امرأة عفيفة شريفة طالتها يد الغدر والخيانة , وأخرسها خوف الفضيحة والعار .
وما إن اختفت صورة هذه المرأة المكلومة , حتى أشاح رئيس الوزراء العراقي المالكي بوجهه القبيح الكالح ليقول بأنًّ ما ادعته صابرين كذب وافتراء , وأنه صدرت بحقها ثلاث مذكرات اعتقال من قبل الأجهزة الأمنية، ويأمر الرئيس بمكافأةِ أبطال ذلك المشهد البهيمي القذر، بمنحهم مبلغ مليون دينار عراقي وإجازة شهر بسبب ما زعم أنهم ضباط أكفاء حاولت المتهمة تشويهه سمعتهم .
وفي المقابل، يؤكد سليم الجبوري الناطق باسم (جبهة التوافق العراقية السنية) وقوع الحادثة بأدلة وتقارير طبية من مستشفى ابن سينا، كما أكد مستشار نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي لحقوق الإنسان أن تقريراً طبياً مستقلاً من مستشفى يخضع لإشراف القوات الأمريكية أيد (مبدئياً) ادعاءات السيدة.
وبعيداً عن الجدل في قضية صابرين .. هل هي القضية الوحيدة حتى يقال إنها ربما تكون ملفقة؟
الجواب بالتأكيد، لا .
قبل يومين، أكد رئيس ديوان الوقف السني في العراق، أن عشرات النساء وبعض أئمة المساجد من السنة تعرضوا للاغتصاب في الفترة الماضية ، وأن حادثة صابرين الجنابي ليست الوحيدة، وقال: قابلت نساءَ سنيات، وأقسمن بالقرآن أنهن تعرضن للاغتصاب، لكنهن لا يستطعن التصريح بذلك لوسائل الإعلام تحاشيا للفضيحة .(8/1)
وعن قضية صابرين، قال: لا يعقل أن تظهر سيدة في وسائل الإعلام، لتعلن أنها اغتصبت. هي الوحيدة التي وافقت على ذلك بعد إلحاح كبير وبعد أن غيّرنا اسمها .
وأضاف "كنت أبارك الخطة الأمنية لو بدأت بتطهير الشرطة والجيش من العناصر السيئة التي تغلغلت في هذه الأجهزة".
وفي استمرار للجرائم البشعة النكراء, أقدم جنود قوات حفظ النظام على اغتصاب امرأة سنية بعد اختطافها من منزلها في "حي العامل" ببغداد.
وقالت "هيئة علماء المسلمين" في العراق إن القوات الحكومية العراقية قامت في سياق ما تسمى بـ"الخطة الأمنية الجديدة" بالهجوم على المنطقة المحيطة بجامع "أبي بكر الصديق" في حي العامل ببغداد صباح يوم الأحد، واعتدت على الأهالي وسرقت ما غلا ثمنه وخف وزنه من ممتلكاتهم.
وفي خطوة يندى لها جبين الإنسانية وتقشعر لها الأبدان قامت هذه القوات باختطاف امرأة متزوجة, وتم إطلاق سراحها بعد أربع ساعات من الاختطاف؛ إثر مداهمة قوات الاحتلال الأمريكي لموقع القوات الخاطفة بعد مطالبات الأهالي.
وتبيّن أن المرأة قد تعرضت لاغتصاب جماعي من قِبل قوات (حفظ النظام)، مما جعلها في حالة خطيرة بين الحياة والموت.
وقبل ثلاثة أيام، كشفت مصادر عراقية عن حادث اغتصاب جديد تعرضت له سيدة في مدينة تلعفر على يد خمسة من الجنود العراقيون الصفويين، وقد ظهرت المرأة في القنوات الفضائية وتحدثت عن هذه الحادثة البشعة .
فيا لله لأعراض المسلمات التي اغتصبت .. ويا لله لأمة كاملة اغتصب الأعداء عزتها وكرامتها .
صرخت تنادينا و لكنا نيام *صرخت تنادينا و يصفعها اللئام
هتكواكرامتها وغالواعرضها * فمضت تصيح أمابكم بعض الكرام
أوليس تجمعنا شريعة أحمدٍ *أوليس فيكم من يعيد لنا احترام
أواه كم ذقت الأسى ياإخوتى*ولكم سقيت من المهانة والسِقام
لو كنتمُ فى قريتى لرأيتمُ* أمرا غريبا ليس يوفيه الكلام(8/2)
نعم .. هذا ما علماناه، وماخفي فهو أعظم, وما سكتت عنه نساء مسلمات عفيفات أكثر .
ألا لعنة الله على هؤلاء الفجرة الذي لا يردعهم دين ولا ملة .. ونسأل الله أن ينتقم للمؤمنات ممن أهانهن واعتدى عليهن .. اللهم إنهم لايعجزونك فعاجلهم بعقوبتك , واشدد عليهم وطأتك , وارفع عنهم عافيتك , وأحلًّ بهم نقمتك .. اللهم افضحهم على رؤوس الأشهاد , واجعل الذل والصغار عليهم إلى يوم التناد .. اللهم اضرب المحتل البغيض بالرافضي الخبيث، واجعلهم وقودا للنار التي أشعلوا في بلاد المسلمين ياقوي ياعزيز .
وإن كان لنا من عزاء ورجاء، فإن عزاءنا ورجاءنا ليس بالمالكي وحكومته، بل والله بالعدالة الربانية، من رب المكلومين , والمظلومين , والمستضعفين ، نسأل الله أن يرينا هؤلاء المجرمين كالفئران يداسون بالاقدام .. وما هي من الظالمين ببعيد .
عباد الله .. ليس غريباً أن يقوم الروافض بمثل هذه الأعمال .. فهكذا هم أبناء المتعة حين تكون القوة في أيديهم, وهذه هي لغة الحوار عندهم , وبهذا المنطق البهيمي يتعاملون مع نساء أهل السنة .
وليس غريباً من الحكومة الموالية للاحتلال، أن تقف مع المجرم ضد الضحية، وهي التي وقفت مع المحتل ضد شعبها ولا سيما أهل السنة، حتى أصبحت أداة من أدواته الخبيثة .
ليس غريباً، أن يكون كما يقال: حاميها حراميها ، فقد أثبتت التقارير والتصريحات دخول الميليشيات الرافضية، كجيش المهدي وقوات بدر، في سلك قوات الشرطة وقوات حفظ النظام، بل رأينا أفراد هذه الميليشيات في استعراض مسجل، أمام قادة الميليشات وهم بلباس القوات الحكومية . نسأل الله أن يكف بأسهم، ويرد كيدهم في نحورهم .
عباد الله، وأمام هذه الأحداث المحزنة، يحق للمسلم الحر الأبي أن يتساءل؟
إلى متى؟ إلى متى وأمتنا تسير في ظلمات التيه، وتتجرع العلقم المر الكريه؟.
ماذا قدمنا لإخواننا في فلسطين والعراق وغيرها من البلاد؟(8/3)
أليس المسلمون بنيان واحد، وجسد واحد، كما مثل - صلى الله عليه وسلم - ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟ هل خدرت أعضاء الجسد الواحد حتى لا تكاد تحس بالآفات والقوارع التي لا تزال تنزل بالجسد حيناً بعد حين؟
وبعض الناس يقول: ماذا بيدي؟ وماذا أعمل؟ هل تريد مني النفرة إلى فلسطين أو العراق، وجهاد الكفار؟
سبحان الله .. وهل انتهت القضية إلى هذين الخيارين.. إما الجهاد، وإما الرقاد .
يا أخي، لا شك أن الجهاد هو ذروة سنام الدين، وسبيل عز المؤمنين، ودرجات المجاهدين وكراماتهم عند ربهم أمر لا يحصر بكلام، وحق على أهل فلسطين والعراق وقد احتلت بلادهم، أن يجاهدوا في سبيل الله، وأن يقاتلوا أعداء الله، نسأل الله أن ينصرهم ويسدد رأيهم ورميهم .
ومع هذا، فنحن لا نطالبك الآن بالنفرة إلى الجهاد، لأن الجهاد منوط بالاستطاعة والنظر إلى المصالح والمفاسد، حتى يكون الجهاد حقاً عزاً لأهل الإسلام، وإعلاء لكلمة الله، وتحقيقاً لمصالح الأمة .
الذي نطالبك به، أن لا تكون سبباً في هزيمة الأمة، وتأخر النصر .
وحتى لا تكون كذلك، أوصيك بهذه الوصايا السريعة:
1- حاول جاهدا الآن وفورا الإقلاع عن المعاصي التي ترتكبها ، واسأل الله عز وجل أن يعينك على الإقلاع عنها.
2- حافظ على الصلاة جماعة في المسجد خمس مرات في اليوم .. وخاصة صلاة الفجر .
3- احرص على تربية أولادك تربية إيمانية حقة ليكونوا مثل أولاد الصحابة ويكونوا جيلا أفضل من جيلنا.
4- اؤمر أصحابك وأهلك بالمعروف بالموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، وذكرهم أن الأمة في حاجة إليهم.
5- احرص على الإخلاص في عملك .. سواء كان دراسة أو صناعة أو زراعة، وتَعَلَّمْ فقهَ أي شيء تعمله، فليتعلم الزارع فقه الزراعة، وليتعلم التاجر فقه التجارة، وليتعلم الطالب فقه طلب العلم، فالأمة بحاجة إلى كل هذه الأعمال.(8/4)
6- شارك في الدعوة إلى الله ونشر الخير بأي وسيلة تستطيعها، فالأمة التي ينتشر فيها الخير جديرة بالنصر والتمكين .
7- أكثر من الدعاء أن يثبتك الله على هذا الطريق وتضرع إلى الله عز وجل، ولا تنس إخوانك في فلسطين والعراق وفي كل مكان بالدعاء الصالح، فهو أقل الواجب في مواساتهم .
8- ثق في نصرة الله عز وجل لعباده المؤمنين الصادقين .. ولا تيأس ولا تقنط من طول الطريق ومشقته .
استقم على طاعة ربك، واثبت إلى دينك، وادع إلى ربك، واصبر وصابر ورابط واتق الله ، تفلح بإذن الله، كما قال الله: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الأحد الصمد ، لم يلد ... المصطفين أحمد .. تعبد
عباد الله .. هل بقي لعاقل أدنى شك، من أن سبب استمرار مآسينا، ونزول المصائب بأمتنا، هو ُبعد الأمة عن حقيقة دينها والالتزام بشرائعه وأوامره .
لقد كان أجدادنا المسلمون إذا تسلط عليهم أعداؤهم، أخذوا يفتشون في أنفسهم ويبحثون عن سبب هذه الهزيمة التي حلت عليهم ، فإذا وجدوا في أنفسهم مخالفة لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سارعوا بتغييرها والتحول عنها، وسرعان ما ينصرهم الله مع أنهم كانوا أقل من أعدائهم عدداً وعدة ، كما قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) .
ينبغي أن يشعر المسلمون أنهم مسؤولون عن استمرار مآسي الأمة من هذا الجانب لأنهم بتقصيرهم واستمرارهم في الذنوب وتركهم الجدَّ في الدعوة إلى الله والإصلاح يكونون سبباً في ضعف الأمة وعجزها عن حماية أبنائها .
لما تركنا الهدى حلت بنا مِحنٌ/وهَاج للظلم والإفساد طوفانُ(8/5)
فإلى متى يا أبناء الإسلام؟ إلى متى تستمر غفلتنا ويستمر لهونا وسط ألمنا.. إلى متى ونحن نرى المعاصي ظاهرة في كل مكان في مجتمعاتنا.. في المنازل والأسواق, في الجرائد والمجلات, في الشاشات والإذاعات, في المؤسسات والمعاملات, بل في شتى جوانب حياتنا.
ألم ندرك بعد ونتيقن أن ذلك هو أساس ذلنا وضعفنا وهواننا؟.
ألا فلنعُد إلى ربنا، قبل أن تأتينا الطامات، وتحل علينا العقوبات!!
دم المصلين في المحراب ينهمر*والمستغيثون لا رجع ولا أثر
يا أُمةالحق إن الجُرحَ متسع*فهل تُرى من نزيف الجرح نعتبرُ
ماذا سوى عودةٌ لله صادقةٌ*عسى ُتغير هذي الحال والصورُ
إن عودة المسلمين إلى الالتزام بدينهم، هو السبيل إلى نصر الأمة وتمكينها في الأرض, ونجاتها وفوزها يوم القيامة .. قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} .. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
وإذا وجدت أن المسلمين يجتمعون لصلاة الفجر في المسجد كما يجتمعون لصلاة الجمعة، وأنه قد فشا فيهم العلم وساد الدين .. فاعلم أن النصر قاب قوسين أو أدنى بإذن الله .. والعاقبة للمتقين .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد(8/6)
خطبة ( اغتنام رمضان )
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أنّ الدّنيا حُلوة خضِرة ، جَميلة نضرة، نعيمٌ لولا أنّه عديم، ومحمودٌ لولا أنّه مفقود، وغِناء لولا أنّ مصيره الفنَاء، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيمُ عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبدٍ مسؤول .
معاشر الصائمين .. أيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعوها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه؟ وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ ثم إلى دار الحساب.
أيّها المسلمون، مواسمُ الخيرات ، أيّامٌ معدودات، مصيرها الزوال والفوَات، فاقصُروا عن التّقصير في الشّهر القصير، وقوموا بشعائره التعبّدية وواجباتِه الشرعيّة وسننِه المرويّة وآدابه المرعيّة، ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطر))، و((فصلُ ما بين صيامِنا وصيام أهلِ الكتاب أكلةُ السحر)) ، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله يُفطِر قبل أن يصلّي على رُطبات، فإن لم تكن رطبات فتمَيرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسواتٍ من ماء، وكان إذا أفطَر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبتَ الأجر إن شاء الله)). و((من أكلَ أو شرب ناسيًا فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه ربُّه وسقاه)) ، ولا كفّارة عليه ولا قضاء، و((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، و((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه))، و((من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة)) ، و((مَن فطَّر صائِمًا كان له مثلُ أجره، غيرَ أنّه لا ينقُص من أجرِ الصائم شيء)) ، و((عمرةٌ في رمضان تعدِل حجّةً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم)).(9/1)
أيها الصائم .. ليكن لك في شهر الصوم عملٌ وتهجُّد وقرآن ، وابتعِد عن خوارق الصوم ومفسداته، وإياك أن تقع في أعراض المسلمين، واحفظ لسانك وسمعك وبصرك عمَّا حرم الله، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماري في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً". ومن بُلي بجاهل فلا يقابله بمثل سوأته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الصيام جُنةٌ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفَث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فيلقل: إني صائم)) رواه البخاري .
معاشر الصائمين .. ورمضان شهر القرآن ، فيه أنزل، وفيه تدارسه نبي الهدى مع جبريل عليه السلام، كان يعارضه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، عارضه مرتين.
ولذلك، انكب السلف الصالح على كتاب ربهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، لا يملون تكراره، ولا يسأمون أخباره، كان بعض السلف يختم في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وكان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين، وكان الشافعي يختم في رمضان ستون ختمة، وكان مالك إذا دخل رمضان، نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
فاقتدوا رحمكم الله بسلفكم الصالح، اجعلوا للقرآن حظاً وافراً من أوقاتكم، أحيوا به الليل، وتغنوا به في النهار، فإنه شفيع لكم يوم العرض على الله، كما في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)).
منع القرآن بوعده ووعيده ...
مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه ...
فهماً تذل له الرقاب وتخضع(9/2)
وإذا أحسنتم بالقول فأحسنوا بالفعل، ليجتمع لكم مزية اللسان وثمرة الإحسان، والمال لا يذهب بالجود والصدقة، بل هو قرضٌ حسن مضمون عند الكريم، (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ، يضاعفه في الدنيا بركةً وسعادة، ويجازيه في الآخرة نعيماً مقيماً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) متفق عليه.
فتحسَّسوا دورَ الفقراء والمساكين، ومساكن الأرامل والأيتام، ففي ذلك تفريجُ كربة لك، ودفعُ بلاء عنك، وإشباعُ جائعٍ، وفرحةٌ لصغير، وإعفافٌ لأسرة، وإغناءٌ عن السؤال، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمَ الناس وأجودَهم، إن أنفق أجزل، وإن منح أغدق، وإن أعطى أعطى عطاءَ من لا يخشى الفاقة، وكان يستقبل رمضان بفيض من الجود، ويكون أجودَ بالخير من الريح المرسلة . فأكثِر من البذل والإنفاق ، فإن المال لا يبقيه حِرصٌ وشحّ، ولا يذهبه بذل وإنفاق .
فيا مَن أفاء الله عليه من الموسرينَ، إنَّ الله هو الذي يعطِي ويمنَع ، ويخفِض ويرفَع، وهو الذي استخلَفَكم فيما رزقَكم لينظرَ كيف تعملون، والمؤمِنُ في ظِلِّ صدقته يومَ القيامة، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، ولن يُعدَم الموسِر محتاجًا يعرِفه بنفسِه أو جهاتٍ موثوقَةٍ تعينُه على الإنفاق .
أسأل الله تعالى أن يقينا شح أنفسنا ، ويجعلنا من المفلحين ، إنه جواد كريم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله ، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ، والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه ، محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد .(9/3)
معاشر الصائمين ، إنّ مقصودَ الصيام تربيةُ النّفس على طاعةِ الله ، وتزكيتُها بالصّبر ، واستعلاؤها على الشّهوات . ووقتَ رمضان أثمن مِن أن يضيعَ أمام مشاهدَ هابطة، لو لم يكن فيها إلاّ إضاعةُ الوقت الثّمين لكان ذلك كافيًا في ذمّها، كيف وقنواتها في سِباق محمومٍ مع الشّيطان في نشرِ الفساد والفتنة والصّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة؟! فهل أنتم منتهون؟!
بعض المفتونين ، يجوب العالم شرقًا وغربًا ، يدير "الريموت" على أجساد العرايا ، ونحور الصبايا ، يفسد صيامه بالنظر الحرام، وباللهو الحرام، وبالفعل الحرام.
سبحان الله .. حتى في رمضان .. يا هؤلاء .. لماذا لا نبدل السيئة بالحسنة؟! لماذا لا نغتسل بماء التوبة النصوح من حَمْأَة الخطايا؟! لماذا لا نجعل هذا الشهر الكريم بداية لأن نهجر هذه القاذورات، لاسِيّما ونفوسنا مهيأة للخيرات؟!
أخي الصائم .. اجعل شهرَ صومك جهاداً متواصلاً ضدَّ شهوات النفس، وانقطاعاً إلى الله بالعبادة والطاعة ، فهو موسم التوبة والإنابة، وباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح.
فيا من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي ، متى تتوب إن لم تتب في شهر رمضان؟! ومتى تعود إن لم تعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرُق بابَه، وأكثر من استغفاره .
معاشر الصائمين .. في الأسحار نفحات ورحماتٌ حينَ التّنزُّل الإلهيّ، فعليكم بالدّعاء والاستغفار، فرُبّ دعوةٍ يكتب لك بها الفوز الأبديّ، وعند الفطر أيضًا دعوةٌ لا ترَدّ ، فاستكثِروا مِن الدّعوات الطيّبات في شهر النّفحات، ادعوا لأنفسكم وذويكم، وتوسَّلوا إلى الله بألوانِ الطّاعة، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة، أن ينصرَ إخوانَكم المستضعفين والمشرَّدين، والمنكوبين والمأسورين، والمضطَهدين في كلّ مكان، فالأمّة تمرّ بأعتى ظروفها وأقسى أزمانها. اللهم أنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حولَ ولا قوة إلا بك .(9/4)
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما صليت على إبراهيم ..... الخ(9/5)
خطبة (الأسئلة المكشوفة)
أما بعد .. اتقوا الله عباد الله.. واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله .. (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقلْبٍ سَلِيمٍ) .. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضرًا وما عمِلتْ مِنْ سُوءٍ تودُّ لوْ أنّ بيْنها وبيْنهُ أمدًا بعِيدًا).
عباد الله .. عنوان هذه الخطبة (الأسئلة المكشوفة).
ونحن نعيش مع أبنائنا وبناتنا فترة الامتحانات الدراسية .. أتحدث إليكم اليوم عن أستاذ له قصة عجيبة .
قام هذا الأستاذ بتوزيع الأسئلة على تلاميذه قبل الامتحان بزمن طويل، وأخبرهم أن هذه الأسئلة سوف تأتيهم في الاختبار، وأنها سبعة أسئلة، ثلاثة في الفترة الأولى، وأربعة في الفترة الثانية، وأقسم للطلاب بالله أن هذه هي الأسئلة، ولن يحصل فيها تغيير أو تبديل .
ولما كان الأستاذ أخبرهم قبل الاختبار بفترة طويلة انقسم الطلاب إلى قسمين: القسم الأول كذبوه، والقسم الثاني صدقوه، والذين صدقوا انقسموا أيضاً إلى قسمين، قسم حفظوها وطبقوها فنجحوا في الفترة الأولى، وهم ينتظرون الفترة الثانية، وقسم قالوا:، إذا قرب الامتحان حفظناها وذاكرناها، فأدركهم الامتحان وهم على غير استعداد .
هل تعرفون هذا الأستاذ؟
نعم، سأكشف لكم اسم هذا الأستاذ، وسأخبركم بأسئلته السبعة .. إني أجزم أنكم كلَّكم تعرفون هذا الأستاذ، إنه الأستاذ الكبير والمعلم الجليل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - ، هو الذي أنذرنا الامتحان، وأخبرنا بالأسئلة وما أخذ عليها أجرًا، كما قال الله تعالى عنه: (قُلْ لا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا) .. ووزّع الأسئلة وما كتم منها شيئاً ، كما أمره ربه سبحانه: (يا أيُّها الرّسُولُ بلِّغْ ما أُنزِل إِليْك مِنْ ربِّك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) .(10/1)
أما الأسئلة .. فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام ، أن كل إنسان يُسأَل سبعةَ أسئلة، على فترتين، ثلاثةَ أسئلة في القبر، وأربعةَ أسئلة يوم القيامة .
أسئلة القبر ثلاثة، من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟
أسئلة يسيرة فوق الأرض، لكنها عسيرة تحت الأرض .. فوق الأرض، الجواب سهل، يعرفه الصغير قبل الكبير .. أما تحت الأرض، في ظلماتِ القبور ووحشتِها ، وضيقِها وهولِ مطلعها، فهناك تطيش العقول، إلا من رحم الله، (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) .
لنتذكر أيها الأحبة ، يوم أن نرى أبناءَنا وبناتِنا، يدخل الواحدُ منهم قاعةَ الامتحان وحده، فلا يدخل معه أبوه ولا أخوه ، ولا قريبه ولا حبيبه .. لا ينفعه في الإجابة مالُه ولا جاهُه ولا صورتُه .. لنتذكر تلك القاعةَ المظلمةَ التي نُمتحَن فيها بعد موتنا ، حينما يدخل كلُّ واحدٍ منا تلك الحفرة الضيقة الموحشة، ويتركه أهله وأحبابه فيها، وسرعان ما ينفضون أيديهم وثيابهم ، ويعودون إلى دنياهم، ويبقى العبد المسكين ، وحيداً فريداً ، فيضمه القبر، وينزل عليه الملكان فيسألانه ويمتحنانه، من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ .. أما الكافر أو الفاجر ، فيقول: هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء، أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيقُ عليه قبُره حتى تختلفَ عليه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، منتنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة .(10/2)
وأما إن كان العبد مؤمنًا صالحًا، تقيًا مصليًا، فإنه إذا قيل له: من ربك؟ فإنه يقول بلسانه: ربي الله، إي والله، لسان حاله: ربي الله العظيم، الحليم الكريم، الذي أنعم علي بنعمة الإسلام والإيمان والقرآن، وحفظني من الشرك والضلال، ووفقني للخير والهداية، وجنبني الشر والغواية، ولولاه جل وعلا لكنت ضالاً شقيًا .. ربي الله الذي طالما تلذذت في الدنيا بمناجاته .. ربي الله الذي أحببته فأنست بطاعته .. ربي الله الذي حبست نفسي عن شهواتها وغيّها ابتغاء مرضاته.. ربي الله الذي سجدت له يوم سجد الكفار لأصنامهم وأوثانهم، وجئته اليوم وأنا أفقر ما أكون إليه، راجيًا رحمتَه، طالبًا مغفرتَه .
نعم، ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأكرم به من نبي، كنت أسمع أمره فأئتمر، وأسمع نهيه فأنزجر.. فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من طيبها ورَوحها، ويُفسح له في قبره مَد بصره، ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه، حسنُ الثياب، طيبُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.(10/3)
هكذا تكون الفترة الأولى للامتحان بأسئلتها الثلاثة، حتى يأذن الله لإسرافيل بالنفخ في الصور النفخةَ الأولى، فيَصْعَق أهلُ الأرض والسماء، إلا من شاء الله .. حتى إذا تكاملت عدة الأموات، ولم يبق إلا اللهُ جل جلاله، أذن سبحانه لإسرافيل أن ينفخ في الصور النفخةَ الثانية، فإذا هم قيام ينظرون .. يقوم الناس لرب العالمين ، في يومٍ تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، يومَ يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يومَ يتذكر الإنسان ما سعى، وبرّزت الجحيم لمن يرى، يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، يقف الناس فيه على أقدامهم حفاة عراة غرلاً، انقطعت فيه الأنساب، وانتهت فيه الأحساب، وكلهم أذلة بين يدي ربّ الأرباب .. إنه يوم الدين، وما أدراك ما يوم الدين؟! يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله .
يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي .(10/4)
فيذهبون إلى نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكلهم يقول: إنّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله .. حتى ينتهون إلى سيد ولد آدم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فيقول: أنا لها، فينطلق فيأتي تحت العرش، فيقع ساجدًا لربه، ثم يفتحُ الله عليه، ويلهمُه من محامدِه وحسنِ الثناء عليه، ما لم يفتحه لأحدٍ قبله، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فيرفع رأسه فيقول: يا رب أمتي أمتي، ويشفع في فصل القضاء بين العباد .
ثم يحين السؤال في ذلك اليوم العظيم، (فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون) .
ومن السؤال أن يُسألَ العبدُ أربعةَ أسئلة .. أخبر عنها المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟).
أسئلة عظيمة رهيبة، سوف نُسأل عنها بين يدي الله الواحد القهار، أسئلةٌ مكشوفةٌ واضحةٌ أمام الجميع، ولكنَّ السعيدَ من يوفق للعمل على ضوئها، ليوفق إلى حسن الإجابة عنها.
السؤال الأول: عن العمر، أعمارنا وأوقاتنا ، في أي شيء أفنيناها؟، هل استثمرنا هذه الأوقات في ما يكون لنا ذخراً عند ربنا؟ وأين نحن من قول الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) .
والسؤال الثاني أيضاً عن العمر، لكنه عن خلاصةِ العمر وثمرتِه، وهي فترةُ الشباب .. أين شبابنا من هذا السؤال ، وهل يستوي ، شاب نشأ في طاعة الله، وشاب اتبع هواه ، وأعرض عن ذكر مولاه .
وأما السؤال الثالث، فهو عن العلم الذي نتعلمه، هل نعمل به في حياتنا، ونؤدي حقه بتعليم غيرنا، أم أننا نستكثر من حجج الله علينا ، فلا نعمل بما علمنا .(10/5)
وأما السؤال الأخير فهم عن المال، وهو مكون من فقرتين: الفقرةُ الأولى: من أين اكتسبت المال؟ أمن الحلال؟ أم من الحرام، من ربا أو رشوة ، أو غش أوتدليس .. أما الفقرةُ الثانية من السؤال: فيم أنفقت المال؟ هل عصيت الله بمالك؟ أو اشتريت الحرام لك أو لأولادك؟ هل أسرفت في المال وأنفقته في غير محله؟ .. من الآن اعد للسؤال جواباً ، وللجواب صواباً .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى ...
عباد الله .. كلنا يشاهد آثار الامتحانات على حياتنا .. لقد أُعلِنت حالة الطوارئ في البيوت، استعدادًا وتجهيزًا وترتيبًا، وهذا أمر لا لومَ فيه ولا عتب، بل هو مما يُحمَد الناس عليه، ولاسيما إذا صلحت فيه النية لطلب العلم تعلمًا وتعليمًا، لكننا نقول: لا بد أن يذكرنا هذا الاستعداد بالاستعداد للامتحان الأعظم والاختبار الأجل في يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين .
إن المؤمن الصادق يتذكر بامتحان الدنيا ، امتحان الآخرة، وشتان ما بين الامتحانين، فإن امتحان الدنيا يمكنك فيه التعويض، في الفصل الثاني، أو في الدور الثاني، أو السنة التي بعدها، ولكن يوم القيامة الخسارة أعظم وأجل، إنها خسارة النفس والأهل، (قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
أيها الآباء، وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، أعينوهم على امتحاناتهم، ووفروا لهم الأجواء المناسبة، وقبل ذلك علِّموهم أن النجاح الأكبر بقصْر النفس على ما يرضِي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله .. واعلموا بارك الله فيكم أنكم عن أبنائكم وبناتكم مسؤولون، فإياك أيها الأب، أن يأتي ابنك يحاجّك بين يدي الله، فيقول: يا رب، سل أبي لِم ضيعني وأهمل تربيتي .(10/6)
أيها الآباء والأمهات والمربون .. إن الأمة بحاجة ماسة إلى جيل قوي، قد ربي تربية إيمانية نبوية ، وتسلح بالعلم في شتى مجالاته، قد عرف الغاية من وجوده، واستثمر أوقاته فيما فيه الخير لدينه وبلاده.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...
اللهم إنّا نسألك أن تجعلنا من الفائزين الناجين يوم القُدُوم عليك يا أكرم الأكرمين، اللّهمّ إنّا نسألك التوفيق لأبنائنا وبناتنا ، اللّهمّ لا تضيِّع تعبهم، ولا تبدِّد جهدهم، اللّهم ذكِّرهم ما نسوا، وعلِّمهم ما جهلوا، ووفِّقهم لخيري الدنيا والآخرة، يا أكرم الأكرمين.(10/7)
خطبة ( الأمن وأحداث جدة )
الحمد لله الولي الحميد .. أمر بالشكر ووعد بالمزيد .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يريد ويفعل ما يريد .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد العبيد .. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم المزيد .. أما بعد .
فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم .
عباد الله .. أمام الأحداث المؤسفة التي تقع في بلادنا المباركة ، وكان آخرها ما وقع قبل أيام في مدينة جدة ، أذكر نفسي وإياكم بنعمة جليلة .. هذه النعمة هي مطلب كل أمة ، وغاية كل دولة ، من أجلها جندت الجنود ، وفي سبيلها قامت الصراعات والحروب .
إنها نعمة الأمن .. التي كانت أولَ دعوةٍ لأبينا إبراهيم ، حينما قال: (رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وارزق أهله من الثمرات) .. فقدّم إبراهيم نعمة الأمن ، على نعمة الطعام والغذاء ، لعظمها وخطر زوالها .
ووالله ، إن أشهى المأكولات ، وأطيبَ الثمرات ، لا تُستساغ مع ذهابِ الأمن ونزولِ الخوف والهلع .
إنه لا غناء لمخلوق عن الأمن ، مهما عز في الأرض ، أو كسب مالاً أو شرفاً أو رفعة .
إن نعمة الأمن ، هي منة الله على هذه الأمة ، قال تعالى: ((وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ )) ، وقال عز وجل: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ويتخطف الناس من حولهم)).
إن نعمة الأمن ، تشكل مع العافية والرزق ، الملكَ الحقيقيَ للدنيا .. كما عند الترمذي وابن ماجه بسند حسن ، عن عبيد الله بن محصنٍ الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أصبح منكم آمنا في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا ) .(11/1)
إن الديار التي يفقد فيها الأمن صحراءٌ قاحلة ، وإن كانت ذاتِ جناتٍ وارفةِ الظلال.. وإن البلاد التي تنعم بالأمن تهدأ فيها النفوس وتطمئن فيها القلوب وإن كانت قاحلةً جرداء.
في رحاب الأمن ، يأمن الناس على أموالهم ومحارمهم وأعراضهم .. وفي ظلال الأمن ، يعبدون ربهم ويقيمون شريعته ويدعون إلى سبيله .
في رحابِ الأمن وظلِه تعم الطمأنينةُ النفوس ، ويسودها الهدوء ، وترفرف عليها السعادة ، وتؤدي الواجبات باطمئنان ، من غير خوفِ هضمٍ ولا حرمان .
لو انفرط عقد الأمن ساعة لرأيت كيف تعم الفوضى وتتعطل المصالح ويكثر الهرج وتأمل فيمن حولك من البلاد ستجد الواقع ناطقاً ، واسأل العراق وغيرَ العراق تجدْه على هذه الحقيقة شاهداً .
إن أمراً هذا شأنه ، ونعمةً هذا أثرها ، لجديرةٌ بأن نبذِل في سبيلها كلَّ رخيص ونفيس ، وأن تُستثمَرَ الطاقات وتُسخَرَ الجهودُ والإمكانات ، في سبيل الحفاظ عليها وتعزيزها .
عباد الله .. الأمن والإيمان قرينان ، فلا يتحقق الأمن إلا بالإيمان .. (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) .
وإذا تخلى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم أحاطت بهم المخاوف ، وانتشرت بينهم الجرائم ، وهذه هي سنة الله في خلقه (( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون)).
في دول الغرب فشِلت كل الوسائل التقنية الحديثة والأجهزة الدقيقة التي تحصي الثواني واللحظات ، وأفلست كل نظم الأرض وحيل البشر .
إن الأمن لا يدرك بالبطش والجبروت والاستبداد والقهر ، ولو كان الأمر كذلك لكان الروس وأضرابهم أنعم الناس بالأمن .. وهو في المقابل لا يدرك بالتساهل والتسامح مع المجرمين والمفسدين إلى حد الفوضى وإلا لكانت بلاد الغرب أكثر بلاد العالم أمناً .(11/2)
إن الأمن الذي نعيشه ونتفيؤ ظلاله ، إنما هو منحة ربانية ، ومنة إلهية ، مربوطة بأسبابها ومقوماتها ، والتي من أعظمها ، إقامة شرع الله ، وتنفيذ حدوده ، وتحقيق عقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها.
عباد الله .. كيف نحافظ على نعمة الأمن؟
لا بد أن ندرك أن نعمة الأمن لا توجد إلا بوجود مقوماتها ، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها ، والتي من أعظمها توحيد الله والإيمان به ، والتخلص من خوارم العقيدة ، ومجانبة البدع والخرافات .
وحتى نحافظ على الأمن في البلاد ، لا بد من تربية الأمة رجالها ونسائها على طاعة الله والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته .. إن النفوس المطيعة لا تحتاج إلى رقابة القانون وسلطة الدولة لكي تردعها عن الجرائم ، لأن رقابة الله والوازع الإيماني في قلب المؤمن يقظ لا يغادره في جميع الأحوال .
ونحافظ على الأمن ، بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الفردي والشعبي والرسمي ، فهو صمام أمان المجتمع ، وبه يحصل العز والتمكين : ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)) .
ونحافظ على الأمن بالعدل في كل جوانب الحياة ، فالراعي مع رعيته ، والأب مع أهله وزوجاته ، والمعلم مع طلابه ، والرئيس مع مرؤوسه ، والكفيل مع عماله ، ومتى تحقق العدل دام الأمن بإذن الله .
ونحافظ على الأمن بتهيئة المحاضن التربوية للشباب ودعم كل المؤسسات العاملة في تربية الناشئة من حلقات القرآن والمراكز الصيفية والمخيمات الدعوية .
ونحافظ على الأمن ، بمعالجة أسباب انحراف الأبناء ، بسبب ما تعيشه بعض البيوت من فقر ، أو نزاعات وشقاق ، وما ينتج عنها من حالات طلاق وتشرد .(11/3)
ونحافظ على الأمن والاستقرار، حينما يقوم العلماء والمربون بدورهم في احتواء الشباب ومعالجة الأحداث وتقريب وجهات النظر وتهدئة الانفعالات ، وفتح قنوات الحوار الهادف الهادئ مع الشباب لترشيد حماسهم وتوجيه انفعالهم وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمة لا في هدمها .
إن الأمن الوطني لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من دعوات التغريب ودعايات الفساد والإفساد ، وتحصين أفكارهم من التيارات المشبوهة التي تسمم العقول وتحرف السلوك .
ولا بد أن يحذر الشاب الغيور من تعجل الأمور ، أو الحكم على المواقف والأحداث دون الرجوع إلى العلماء الراسخين الصادقين .
أحبابي الشباب .. إن من الحكمة الواجبة ، أن نتجنب العاطفة الهوجاء ، وردود الأفعال المتهورة، متسلحين بالعلم والحلم والصبر ، مشتغلين ببناء النفس ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن لا نقحم أنفسنا في أمور لا تحمد عقباها ، ولا تعلم شرعيتها وجدواها .
نسأل الله تعالى أن يكشف الغمة ، ويصلح الأمة ، وأن يعز دينه ويعلي كلمته، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى ...
عباد الله .. إن الحديث عن أعمال البغي والفساد في الأرض ، من تفجيرات ، وإطلاقٍ للنار ، واستهانةٍ بالأرواح ، وإتلافٍ للممتلكات ، وترويعٍ للآمنين .. وما يسبقها من انحراف فكري ، أوفكر تكفيري ؛ إن الحديث عن هذه الأعمال والأفكار، حديثٌ عن فتنة عمياء ، فتنت بها طائفة شاذة من شبابنا وأبنائنا وللأسف .
ولئن كانت هذه الفتنة قد خبت نارها مؤخراً برهة من الزمن ، فإنها لا تزال موجودة ، كما وقع هذا الأسبوع في جدة، مما يوجب التحذير منها ، وبيان الواجب تجاهها .
إن كل غيور يتساءل أمام هذه الفتنة: إلى متى هذا النزيف؟ إلى متى سيظل الجرح يثعبُ دمًا طاهرًا بريئًا، معصومًا محرمًا؟(11/4)
إنه على الرغم من الجهود الجبارة التي يقوم بها رجال الأمن وفقهم الله في التصدي لهذا الفكر الضال وأعمالِه الإفسادية التي أضرت بالدنيا والدين ، إلا أننا نقول: الأمن مسؤولية الجميع .. وإن من العار أن يقف الواحد منا مكتوف اليد ، وكأنَّ الأمرَ لا يعنيه، والخطرَ لا يهمه!، ولسان حاله: إن للبيت رباً يحميه!. وإنَّ أجهزة الأمن هي المسؤولة فقط.
إن الإبلاغَ عن كل ما يَريب ، ومناصحةَ كل أخ أو قريب ، أمانةٌ في عنق كل مسلم .. وأنَّ الإنكار على كل فكرةٍ باطلة أو قولٍ منحرف ، ليس من قبيل الترف الدعوي أو التزلف السلطاني كما يتوهم البعض ، بل هو من فروض الأعيان على كل قادر من طلبة العلم والدعاة والمربين .
وإذا كانت النار قد أحرقت في السابق طرفًا من ثيابنا ، فإننا والله نخشى إن تخاذلنا أن تأتي على البقية الباقية منها .
إنَّه حقٌ على رُبَّانِ السفينةِ من ولاة الأمر، وحقٌ على غيرهم من رجال الأمن ، ورجالِ التربيةِ وقادةِ الفكرِ، أنْ لا يفتروا عن التصدي لهذه الظواهرِ ، فالمسلمون نصَحةٌ، ومِنَ جُملِ الإيمانِ أنْ يُحبَّ المرءُ لأخيهِ ما يُحبُّهُ لنفسِه، وينبغي أنْ تُحفظَ طاقاتُ الشباب وتُوجَّهَ ملكاتُهم فيما ينفعهم في دنياهم وأخراهم .
أحبابي الشباب .. لوحة الأمن الجميلة التي نعيشها ، نرسمها نحن بأيدينا، ونصنعها بأنفسنا -بعد توفيق ربنا- حينما نتخلق بالوعي، ونستشعر عظمَ هذه النعمة وخطورةَ فقدها.
لوحة الأمن ، نصنعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل بعيداً عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية .
لوحة الأمن ، نصنعها حينما نحفظ حدود الله ، ونتقي محارم الله ، ونشكر نعم الله ، (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(11/5)
خطبة ( الإحسان إلى الخلق )
أما بعد .. عباد الله .. (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) .
يذكر أن رجلاً نزل هو وولده واديًا، انشغل الرجل بعمله ، وأخذ الولد الصغير يلهو بكلمات وأصوات، فوجئ الولد أن لهذه الأصوات صدًى يعود إليه، فظن أن هناك من يكلمه أو يرد عليه، فقال: من أنت؟ فعاد الصدى: من أنت؟ قال الولد: أفصح لي عن شخصك؟ فرد عليه: أفصح لي عن شخصك؟ فقال الولد غاضبًا: أنت رجل جبان وتخفي عني، فرجعت إليه العبارة نفسها، فقال الولد: إن صاحب الصوت يستهزئ به ويسخَر منه، فانفعل وخرج عن طوره، وبدأ يسبّ ويلعن، وكلّما سب أو لعن رجَعت عليه مثلها. جاء الوالد ووجد ولده منهارًا مضطربًا، فسأله عن السبب، فأخبره الخبر، فقال له: هوّن عليك يا بني، وأراد أن يعلّمه درسًا عمليًا، فصاح بأعلى صوته: أنت رجل طيّب، فرجع إليه الصوت: أنت رجل طيب، ثم قال: أحسن الله إليك، فكان الردّ: أحسن الله إليك، وكلّما قال كلامًا حسنًا كان الرد بمثله. سأل الولد والده بدهشة واستغراب: لماذا يتعامل معك بطريقة مؤدّبة ولا يسمعك إلا كلامًا حسنًا؟! فقال له الأب: يا بني، هذا الصوت الذي سمعته هو صدَى عملك، فلو أحسنتَ المنطِق لأحسن الردّ، ولكنك أسأت فكان الجزاء من جنس العمل .
أيها الأحبة .. أتحدث إليكم اليوم عن صفة نبيلة ، وخصلة جليلة ، يحبها الله ، ويحب أهلها .
إنها الإحسان ، يا أهل الإحسان ، (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) .
إذا أحسن المسلم إلى الآخرين في هذه الدنيا ، كانت النتيجة إحسانَ الله إليه في الدنيا والآخرة .
إن أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراتِه عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة.(12/1)
جرب يا أخي .. إذا طاف بك طائف من هم أو ألمّ بك غم فامنح غيرك معروفًا وأسدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة، أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعن منكوبًا، عد مريضًا، أطعم جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك .
أما الثمرة في الآخرة ، فتأمل معي هذه القصة العجيبة ، فقد ثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ .(12/2)
ومن عجائب أخبار السلف الصالح ما روى أهل السير عن أحمدَ بنِ مسكين أحدِ علماءِ القرن الثالث الهجري في البصرة، قال:"امتحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلي رُقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه يطير فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة .(12/3)
يقول أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد مُلِأَت سجلاتُ الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كُتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وُسِّعَتْ أبدانُهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسّمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنةٍ شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس، كالرياءِ والغرورِ وحبِ المحمدة عند الناس، فلم يسلمُ لي شيء، وهلكتُ عن حجتي وسمعتُ صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أُحسِنُ بمائةِ دينارٍ ضربةً واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا ، فوُضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وُضعت دموع المرأة المسكينة التي بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجُح، ولا تزال ترجُح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا .
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .
عباد الله .. الإحسان كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، وقد ثبت في الحديث أن شَربة ماء قدمتها امرأة بغي زانية ، لكلب عقور أثمرت دخول جنة عرضها السموات والأرض؛ لأن صاحب الثواب غَفور شكور ، غنيّ حميد ، جواد كريم، فلا تحتقر أخي المحسن إحسانك وجودك وعطاءك مهما قل .(12/4)
أخي الحبيب، هل تريد أن تُنَفّس كربتُك ويزولَ همُك؟ فرج كربات للمساكين .. هل تريد التيسير على نفسك؟ يسر على المعسرين .. هل تريد أن يستر الله عليك؟ استر عباد الله . والجزاء من جنس العمل.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه" .
ومن القصص العجيبة ما ذكره الشيخ عطية سالم رحمه الله المدرس بالحرم النبوي أن امرأة في المدينة كان لها جيران من النسوة العجائز، وكانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها ، وفي أحد الأيام وقع لها حادث حينما كانت تسير في ضواحي المدينة المنورة، فسقطت في حفرة متصلة بمجرى الماء، فسحبها الماء تحت الأرض، وقدر الله لها أن تمسك بحجر في هذا المجرى، ومكثت عالقة بهذا الحجر تحت الأرض أربعة أيام، وبعد هذه الأيام ، مرّ رجل بالمكان فسمع صوت استغاثة ضعيف، فلما عرف مصدر الصوت، نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟! فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كلَّ يوم . والجزاء من جنس العمل.(12/5)
عبد الله .. تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة .. واعلم أن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين .. وأن الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافقت إخلاصًا من المتصدق وحاجة عند الفقير، والبحث عن صاحب الحاجة اليوم عزيز، إذ اختلط الحابل بالنابل، وأفسد الكاذب على الصادق . فينبغي للمتصدق أن يتحرّى في صدقته المحتاجين دون المحتالين .
وقد يقول قائل ويسأل سائل: أين نجد هؤلاء المحتاجين؟! وكيف السبيل إليهم؟! فأقول: اجتهد في البحث تجدهم ، ومن يتحر الخير يوفق إليه .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي له ما في السماوات ومافي الأرض .. ...
معاشر المؤمنين، إن طرق البذل والإنفاق سبقنا إليها العظماء من الموفّقين، وعلى رأسهم سيد المرسلين الذي قال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار)) رواه البخاري.
كان لا يتأخر عن تفريج كربات أصحابه، فكم قضى لهم من ديون، وكم خفف عنهم من آلام، وكم واسى لهم من يتيم، وفوق ذلك مات ودرعه مرهونة بأبي هو وأمي .
يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ، بل ربما أنفق غنمًا بين جبلين .
هو البحر من أي النواحي أتيته فلُجَّتُه المعروف والجود ساحله
تراه اذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تعوّد بسط الكف حتى لو انه اراد انقباضا لم تطعه انامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله
ثم جاء أصحابه رضي الله عنهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء ، والإحسان والسخاء، الصديق يقدّم ماله كله لله، والفاروق يقدم نصف ماله لله، وعثمان يشترى الجنة من الرسول مرتين: مرة حين حفر بئر رُوْمَة، ومرة حين جهز جيش العسرة .(12/6)
عبد الله .. لا تبخل على نفسك، وقدم لها ما يسرّك . واعلم أن السفر طويل، والزاد قليل، والذنب عظيم، والعذاب شديد، والميزان دقيق، والصراط منصوب على متن جهنم، ونحن سائرون عليه، فإمّا ناج أو هالك، فأنفق ينفقِ الله عليك، أحسن يحسنِ الله لك، فرج يفرج الله عنك، فالجزاء من جنس العمل.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
اللهم يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك. اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك. اللهم هب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمّن أغنيته عنا، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على محمد ...(12/7)
خطبة ( الارهاب ومعرض الكتاب )
أما بعد ..
كنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية عن جريمة مقتل المقيمين الفرنسيين قرب المدينة ، وأشرنا إلى ما عدد من المفاسد العظيمة التي تضمنتها هذه الجريمة من سفك للدم الحرام، وتنفير عن دين الإسلام ، وتشويه لسمعة هذه البلاد المباركة التي هي عقر دار الإسلام، ومعقل التوحيد .
وإن الواجب على كل مسلم ، أن يبرأ من هذه الأعمال، وأن يحذر من مغبة الوقوع فيها أو المشاركة أو التستر عليها، وأن يبادر بالإبلاغ عن أي أمر يتعلق بها في حالة معرفته
نسأل الله تعالى أن يطيح بمن ارتكب هذه الجريمة أياً كان ، وأن يمكن ولاة الأمر منه عاجلاً غير آجل، وأن يجنبنا وبلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن .
سؤال هام، نحاول الإجابة عنه في هذه الخطبة: ما الأساس الذي كيف دخلت هذه الأعمال إلى بلادنا،
يجب أن نعلم عباد الله ، أنه ما من عملية تفجير أو قتل أو تدمير تقع في الميدان، إلا ويسبقها عملية تفخيخ وتفجير في الأذهان .. القضية قضية فكر مغسول، وعقل معلول .
إن فكر الغلو، الداعي إلى الخروج على ولاة الأمر ، والتخوض في دماء المسلمين ، وإثارة الفتن الداخلية ، فكر بالغ الخطورة، ولاسيما أن كثيراً مما يقع بسبب هذا الفكر من مفاسد يقع - عند من يتبناه - بنوع من التأويل الذي يظنونه اجتهاداً مشروعاً وطريقاً لدخول الجنة .
إن المسؤولية علينا جميعا، كبيرة جداً ، في وقاية عقول أبنائنا وشبابنا من التيارات الفكرية المنحرفة، ومحاربة هذه الأفكار الدخيلة بالفكر السليم المبني على المعتقد القويم، والمنهج السليم ، والثقافة الصحيحة .(13/1)
عباد الله .. ونحن نتحدث عن الأثر الكبير للفكر والثقافة أقول: لقد استبشرنا كثيراً عندما سمعنا بإقامة المعرض الدولي للكتاب في مدينة الرياض .. استبشرنا لأننا نعلم أن التعلم والقراءة والثقافة هي أساس بناء الأمم وتقدم الشعوب .. استبشرنا ونحن نرى شبابنا ينهلون من المعارف المختلفة، ويحطمون تحت أرجلهم مقولة : إن العرب أمة لا تقرأ .
ولكن ، وبكل أسف، سرعان ما انقلب فرحنا إلى حزن.
لقد انفتح الباب على مصراعيه، ورأينا والله في المعرض هذه السنة، ولأول مرة، كتباً سيئة لم يسمح بها في المعارض السابقة، بل ولا يسمح بها في بعض الدول المتحررة .
وقد صرح أحد القائمين على المعرض للصحف بأنه لا توجد أي رقابة على كتب هذا العام .. وفي كلام لمسؤول آخر، قال: إن المعرض سيكون خالياً من الرقابة، سوى على الكتب التي تسيء للدين والوطن .
وأقول: ليتنا طبقنا هذا الكلام واقعياً وعملياً، على كتب لا تسيء للدين فحسب بل تطعن في الدين، وفي الذات الإلهية، والشريعة المحمدية .
لقد اشتمل المعرض على كثير من المخالفات الشرعية ، وجاء مصادماً لخصوصية هذه البلاد .. وفتح القائمون عليه الباب دون رقابة لدور نشر سيئة، تروج للرذيلة ، وتنشر ما يعارض العقيدة، ويدعو للأديان المحرفة، أو المذاهب والفرق الضالة، أو الانحراف الفكري والأخلاقي ككتب الحداثة والجنس .
وقد رأيت بعض هذه الكتب بعيني قبل أمس، خلال زيارتي للمعرض .. ولا أريد تسمية هذه الكتب ، وأحذر كل غيور من إشاعتها إلا للمسؤولين والمصلحين، حتى لا نروج للمنكر من حيث لا نشعر .(13/2)
وقد ثبت عند الدارمي في مقدمة سننه بسند حسنه الألباني عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِنُسْخَةٍ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَسَكَتَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى، فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي، لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لَاتَّبَعَنِي .
تأملوا يا رعاكم الله، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغضب من ورقة واحدة من أوراق التوراة يراها تُقرأ !! ومن الذي يقرأها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..فاروق هذه الأمة .. فكيف بأوراق بل كتب كاملة من التوراة والإنجيل والكتب المنحرفة ، تتداول بين الصغار والكبار، وتعرض على عقول الناشئة .
وإن من الواجب المتأكد، حمايةَ عقول الناشئة والشباب من الأفكار المنحرفة والكتب المشبوهة .(13/3)
وجزى الله سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، حينما حذر في خطبة الجمعة الماضية من دور النشر، التي تبيع الكتب التي تضر بعقائد الشباب وتشككهم في دينهم، وبيّن سماحته أنه لا يجوز اقتناء وبيع الكتب التي يغلب عليها التشكيك بعقائد الإسلام، وإن ما يشتريه الشباب من كتب تحتوي على أفكار ضالة أو منحرفة تؤثر عليهم، وتمثل ضررا على الأمة .
نسأل الله أن يحفظنا وأبناءنا وأهلينا من الفتن، ويعصمنا من الزلل، ويثبتنا على دينه، حتى نلقاه مؤمنين موحدين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد ، الإله الصمد ،الذي لم يلد ...
عباد الله .. روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا .
وعيد شديد .. يشمل كل من دعا إلى ضلالة سواء بكلام أو كتاب .. سواء كان بنفسه، أو مشاركاً لغيره بالإعانة أو الدعوة أو التسهيل .
ومن هنا ندرك الخطأ الفادح بل الجرم العظيم لمن دعا هذه الدور السيئة، وروج لمثل تلك الكتب الضالة ، وإنه والله لايشفع لهم ظنهم الخاطئ ووهمهم الكاذب بتوفير أجواء الحرية والانفتاح للثقافة في البلاد .
يا هؤلاء .. هداكم الله .. هل تدركون مقدار الجناية العظيمة التي ارتكبتموها بحق هذه البلاد وأهلها؟
كيف نسعى إلى الحد من ظاهرة الغلو والتكفير، وكتب الإباضية التي تكفر المسلم بمجرد المعصية تباع في المعرض؟.(13/4)
وكيف ندعو إلى الحد من الجريمة الخلقية ومظاهر العنف والاختطاف، وهذه روايات الزنا والفجور والعلاقات المحرمة والخيانات الزوجية تباع في المعرض؟ .
وكيف نحمي التوحيد والعقيدة ، وهذه كتب الإلحاد والزندقة، وكتب الفرق الضالة من الرافضة والصوفية وغيرهم ، شاهرة ظاهرة؟ .
على كل مسؤول في وزارة الثقافة والإعلام أو في غيرها، أن يتقي الله في كل ما يجري في ولايته، وعلى المسؤولين عن المعرض أن يعيدوا النظر في سياسة المعرض فلا يفتحوا الباب على مصراعيه في الكتب والمكتبات، وأن ينتقوا من دور النشر ويمنعوا من الكتب ما يضر بالعقائد والأخلاق، ويتفق مع سياسة هذه البلاد المباركة وخصوصيتها .
لا بد أن نعلم جميعاً ، إن الانفتاح غير المنضبط، الذي رأيناه في هذا المعرض، نذير شؤم وبلاء على ديننا وبلادنا، وعلى وحدة مجتمعنا المتماسك على عقيدة واحدة وتحت راية واحدة مما يوجب الحذر، وإغلاق منافذ الشر، قبل استفحال الخطر .
وإنا لنسأل الله تعالى أن يوفق ولاة أمرنا، وعلى رأسهم إمامنا خادم الحرمين وفقه الله للحفاظِ على الملة وحماية والعقيدة، وعدمِ السماح بتكرار وقوع هذا الأمر في مثل هذه المعارض، ومحاسبةِ كل من تسول له نفسه إفساد أفكار المسلمين، وهدم أخلاقهم .
نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا ، ولا يفتننا في ديننا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(13/5)
خطبة ( الاستعجال )
إن الحمد لله ...
عباد الله .. أتحدث إليكم اليوم عن صفة مذمومة .. لكنها من صفاتنا كلنا .. لا يسلم منها أحد منا .
صفةٌ تقف وراءها نفس مندفعة أو انفعال متهور، قتل الأبرياء من آثارها، والطلاق من ثمارها، واليأس من أضرارها، وترك الدعاء من مظاهرها، والتعالم من نتائجها.
إنها صفة العجلة أو الاستعجال .
صفة فطر الله الإنسان عليها، لكنه حذره منها .. قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} .
العجلة، صفة الإنسان الذي يسابق القضاء، إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن ويكل الأمر لله فيرضى ويسلم ولا يتعجل .
ومن عجلة الإنسان، أنه ربما يستعجل في سؤال الله ما يضره كما يستعجل في سؤال الخير، ولو استجاب له ربه لهلك بدعائه، ولهذا قال سبحانه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
ومن آفات العجلة أنها تورث أمراضاً وآثاراً نفسية كالقلق، والارتباك والنسيان، والخوف من المجهول ، بخلاف الحكيم المتأني فإنه يكون ساكناً متئداً وسهلاً ليناً يضع الأمور في مواضعها .
ولهذا قال ابن القيم: لا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول، وجاء في الحديث: «التأني من الله والعجلة من الشيطان » رواه الترمذي وأبو يعلى وحسنه الألباني.
والعجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة: أم الندامات، وإن الزلل مع العجل .(14/1)
وإذا كانت العجلة في أصلها مذمومة ومنقصة، فإن نقيضها وهو التواني والكسل والتردد والتخاذل كلها رذائل لا تليق بحكيم، والإسلام يدعو إلى المبادرة والمسابقة والمسارعة في أعمال الآخرة، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} .. {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . وفي الحديث «بادروا بالأعمال سبعاً » .
أما الاستعجال المذموم فصوره كثيرة:
منها: الاستعجال في تصديق الأخبار قبل التثبت من صحتها.. أو في إصدار الأحكام مدحاً أو ذماً دون دراية وتريث وتبين .
قال أبو حاتم: (العجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، ويعزِم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم) اهـ .
ولا ننسى أيها الإخوة ما وقع في الأيام القريبة الماضية، من مسارعة بعض الألسنة والأقلام المنحرفة للنيل من جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وإن تعجب من صنيع هؤلاء الكتاب المنحرفين، فإن الأعجب منه، مسارعة بعض الناس لتصديقهم والحكم على الأمور قبل التثبت منها .. وصدق الله (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) .
إن من الآفات الخطيرة في حياتنا، الاستعجال في الحكم على الأشخاص أو الجهات، فما أن نسمع أن فلاناً فد أخطأ، إلا ونسارع لاتهامه وربما استباحة عرضه دون تثبت .
ومن الاستعجال المذموم كذلك الاستعجال في الحكم على المواقف والأشخاص .. ربما يستعجل الشرطي في الأخذ على يد المتهم، أو رجل المرور في التعامل مع المخالف، أو رجل الهيئة في الحكم على الموقف أو الشخص، فعلى هؤلاء جميعاً أن يتثبتوا وأن لا يتعجلوا الأحكام قبل تبينها .
وهذه قاعدة هامة تفيدنا في حياتنا وتعاملنا مع غيرنا .(14/2)
أذكر أنني قبل سنوات .. كنت أسير مع بعض الإخوة من .. وفجأة انحرفت سيارة إحدى العائلات أمامنا بسرعة ، وانقلبت على جانب الطريق .
توقفنا بسرعة .. وأركبنا المصابين معنا في السيارة وانطلقنا إلى أقرب مركز إسعاف .. وبينما نحن في الطريق، التفتُّ إلى الرجل الذي يركب على باب الراكب فإذا به يخرج بكت الدخان من جيبه .. فقلت في نفسي: هذا وقت تدخين، وهممت أن أسارع إلى الإنكار على الرجل، وأحمد الله أن الرجل كان أسرع مني .. أخرج الرجل بكت الدخان، وبدأ يحطمه بيديه ، ثم رماه من النافذة ، وبدأ يطلق كلمات التوبة والاستغفار، ويحمد الله الذي نجاه من الموت، وأصبح بعدها من الصالحين الحريصين على الخير ودروس العلم .
إذن، لا تعجل في الحكم على ما تشاهد قبل أن تتبين الأمر .
- ومن صور الاستعجال المذموم، استعجال بعض الدعاة والمصلحين في إصلاح الناس وتغيير واقعهم .
روى البخاري وغيره عن خباب بن الأرت رضى الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرود له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، لا تدعو لنا، فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأشماط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
إن كثيراً من الشباب المتحمس يبدأ في الدعوة باندفاع، مع قلة ما يواجه المبتدئ غالباً من عقبات، فإذا ما توغل وحصل له نوع من أنواع الابتلاء من عدم استجابة الناس، أو عدم زوال المنكرات، بدأ يتململ ويتذمر وربما يتوقف عن مواصلة الطريق، أو يتصرف تصرفات رعناء من واقع الضغط النفسي .(14/3)
ينبغي أن يعلم أرباب الاستعجال أن لله في خلقه سنناً لا تتبدل وأن لكل شيء أجلاً مسمى، وأن الله لا يعجل كعجلة أحد من الناس، وأن لكل ثمرة أواناً تنضج فيه فيحسن عندئذ قطافها .
وعلى الداعية والمصلح أن يعلم أن ليس مطالباً بالنتائج أو تحقيق النصر الإسلام فهذا أمره لله، لكنه مطالب ببذل الجهد فحسب{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} .
- ومن الاستعجال المذموم، الاستعجال عند الدعاء ففي الحديث : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي» .فكن على حذر أن تقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فتمل الدعاء وتركن إلى اليأس والقنوط وأنت على خير ما دمت تدعو ربك .
- ومن الاستعجال المذموم، الاستعجال في طلب العلم، حينما ترى طلاب العلم قد أصيبوا بداء العجلة وسقوط الهمم ونفاذ الصبر على طلب العلم والجلوس عند ركب العلماء وملازمتهم، حتى أصبح بعض الطلاب اليوم لا يقدرون على إكمال متن علمي، وجل همهم المختصرات والوجبات العلمية السريعة.. ناهيك عما ينتج عن هذا الأمر من استعجال الإمامة والتصدر للفتوى والاجتهاد .
وقد قيل: العلم ثلاثة أشبار، من دخل الشبر الأول تكبر، ومن دخل الشبر الثاني تواضع، ومن دخل إلى الشبر الثالث علم أنه لم يعلم .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واجعل ما نتعلمه حجة لنا لا حجة علينا . أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ....(14/4)
عباد الله .. ونحن نتحدث عن آفة الاستعجال ، فإن من أمرّ صور الاستعجال المذموم وأنكاها، تلك الحماسة المتهورة والعواطف غير المنضبطة، التي تسفك بها الدماء، ويقتل فيها الأبرياء، ويزعزع الأمن، وإن ما شهدته بلادنا من أحداث مؤسفة ومواجهات أليمة، هو صورة من ذلك الاستعجال المذموم لفئة من الشباب الذين ربما توهم أحدهم أن التمكين في الأرض وبسط سلطان الدين هو قاب قوسين أو أدنى بهذه الأعمال الفاسدة .
- ومن آفات الاستعجال في حياتنا .. استعجال بعض الناس للشهوة المحرمة .. وإيثارهم الدنيا العاجلة على الآخرة الآجلة كما قال الله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) .. وقال تعالى: (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى) .
وتلك والله آفة خطيرة، يكفي أن تعلم يا ابن آدم، أن الذي أخرج أباك آدم من الجنة، أنه استعجل الأكل من الشجرة التي نهي عنها، فأكل منها هو وزوجه فأخرجهما الله من الجنة .
فيا أيها الشاب، لا تستعجل شهوتك، إذا حدثتكَ نفسُكَ أن تُذهبَ دِينَك وتُرِيقَ ماءَ حياتِك وعفتِكَ بلذةٍ مُحرمةٍ فتذكرْ أنَّكَ بذلكَ تحرم نفسكَ ما هو خيرٌ وأبقى وأتقى وأنقى، إنَّهُنَّ الحورُ العين اللاتي لو اطلعت إحدَاهُنَّ على أهلِّ الأرضِ لملأت ما بينهما ريحًا ونورًا، ولَنَصِيفُها على رأسها خيرٌ من الدُنيا وما فيها. مهورهن العِفة والصبرِ على المغرياتِ، ولقاؤهن في جنةٌ عرضها الأرض والسماوات، فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(14/5)
خطبة ( الإسراء والمعراج )
أما بعد .. ها هو الداعية الأول - صلى الله عليه وسلم - في مكة ، يدعو قومه إلى الله تعالى .. سنوات مأساوية ، مليئة بالعواصف العاتية من التعذيب والإيذاء ، والبغضاء والافتراء .. مزّق شمل أتباعه ، وسامهم أهل مكة سوء العذاب ، ثم كان العام العاشر من البعثة العام الحزن الذي فقد فيه - صلى الله عليه وسلم - عمه أبا طالب الذي كان ينافح عنه ويدفع عنه أذى قريش ، وبعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام أو شهرين يفجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بموت رفيقة دربه السيدة خديجة رضي الله عنها ، وهي من في مؤازرتها له وقوفها إلى جانبه في أشد المواقف على مدى خمسة وعشرين عاماً .
يتلفت عليه الصلاة والسلام في مكة فلا يجد من ينصره ليبلغ رسالة ربه ، فيخرج إلى الطائف ، ويعرض دعوته على ثقيف ، فيردون عليه بأقبح رد ، وآذوه ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، وأغروا به سفهاءهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان.
وينصرف - صلى الله عليه وسلم - من الطائف محزوناً مهموماً ، يمشي ولا يشعر بنفسه ، حتى استفاق في قرن الثعالب فأخذ يناجي ربه بالدعاء المشهور: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس . أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو ينزل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك .
ثم يعود - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ، فلم يستطع دخولها إلا تحت جوار المطعم بن عدي وهو رجل مشرك .(15/1)
في ظل هذه الأجواء الكالحة ، والظروف الحرجة ، وبعد مضي ثنتي عشرة سنة من البعثة ، يشاء الله ، اللطيف بعباده أن يسلي رسوله ، ويثبته على الحق ، فيمن عليه برحلة تاريخية لم ينل شرفها قبله نبي مرسل ولا ملك مقرب .
رحلة مباركة طيبة ، بدأت بأقدس بقاع الأرض ، وانتهت بأعلى طبقات السماء .
قال سبحانه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
إنها رحلة الإسراء والمعراج . فكيف كانت هذه الرحلة؟ وما الدروس المستفادة منها ؟
أما الإسراء: فهي الرحلة أرضية من مكة إلى بيت المقدس.
وأما المعراج: فهي الرحلة السماوية من بيت المقدس إلى السماوات العلا ثم إلى سدرة المنتهى ثم اللقاء بجبار السماوات والأرض سبحانه.
وكانت أولى محطات هذه الرحلة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان نائماً في الحجر في الكعبة ، إذ أتاه آت فشقّ ما بين نحره إلى أسفل بطنه، ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا، ثم أتي بدابة بيضاء، يقال لها: البراق، يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركب هو وجبريل حتى أتيا بيت المقدس، فدخل المسجد فلقي الأنبياء جميعًا، فصلى بهم ركعتين، كلهم يصلي خلف محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خرج رسول من المسجد الأقصى، فجاءه جبريل بإناء فيه خمر وإناء من لبن، فاختار اللبن فقال له جبريل: اخترتَ الفطرة .(15/2)
ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح له فوجد آدم فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ففتح له، فرأى فيها النبي عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهم، فرحبا به فدعوا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فإذا هو بيوسف وقد أعطي شطر الحسن، فرحب به ودعا له بخير، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فإذا هو بإدريس عليه السلام، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فإذا هو بهارون فرحب به ودعا له، ثم عرج به إلى السماء السادسة فإذا هو بموسى فرحب به ودعا له بالخير، ثم عرج به إلى السماء السابعة فإذا هو بإبراهيم عليه السلام مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهو بيت يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذُهب به إلى سدرة المنتهى، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إليه الله تعالى ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزل إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أُمتك لا يطيقون ذلك، فرجع فوضع الله تعالى عنه خمساً، وما زال يراجعه حتى استقرت على خمس فرائض في اليوم والليلة، قال الله: يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة. فنزل - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إلى موسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه ، ثم نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي .
ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فراشه قبل الصبح .(15/3)
أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وجلس كما كان يجلس في الحجر، فمر عليه أبو جهل فقال: ما عندك يا محمد؟ فقال : ((لقد أسري بي الليلة إلى المسجد الأقصى، قال: وأصبحت بيننا؟! قال: نعم، قال: لو دعوت لك قريشا تخبرهم بما أخبرتني به؟ قال: نعم، فنادى أبو جهل في الناس فاجتمعوا، فقال : لقد أسرى بي الليلة إلى المسجد الأقصى، قالوا: وأصبحت بيننا؟ قال: نعم، فارتد أناس، وأخذوا يضربون على رؤوسهم تعجبا. ثم قالوا: يا محمد! لقد جئنا بيت المقدس وخبرناه، فهل تستطيع إذا سألناك عنه أن تجيبنا؟ قال: نعم، فجعلوا يسألونه فيجيبهم، فسألوه عن أشياء لم يثبتها، فكرب كربة شديدة، ما كرب مثلها قط، وإذا برب العزة سبحانه الذي يقول للشيء كن فيكون، يرفع المسجد الأقصى، ويجعل النبي ينظر إليه، فجعل ينظر إلى المسجد الأقصى بعينيه، ويسألونه فيجيبهم، فقالوا: أما الوصف فقد صدقك، وأما الخبر فقد كذّب .
هكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج ، وفي هذه الرحلة العظيمة دروس وعبر ، لعلنا نقف على شيء منها ، الدرس الأول:
أن الإيمان برحلة الإسراء والمعراج جزء من عقيدة المسلم ، ذلكم أنه إحدى المعجزات التي أيد الله بها نبيه عليه الصلاة والسلام، والإيمان بالمعجزة جزء من العقيدة الإسلامية، وهو امتحان لإيمان المؤمنين وارتياب المنافقين . ولهذا ارتد من ارتد عن الدين لضعف إيمانهم وقلة يقينهم، وفاز بالصدق والصديقية أبو بكر رضي الله عنه فسمي صديقاً، لإيمانه وتصديقه الجازم بمعجزة الإسراء والمعراج، وهكذا الصحابة الكرام ممن امتحن الله قلوبهم بالتقوى، ففازوا بالإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة .
لطف الله تعالى بعباده ، ونصرته لأوليائه والدعاة إلى سبيله ، فقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد أن اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأذى ؛ تكريماًُ من الله تعالى لهم ، وتجديداً لعزيمتهم وثباتهم على الدين ، وثقتهم بالله رب العالمين .(15/4)
أن الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي كان بيد بني إسرائيل فيه إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيرث قيادة الأمة، وسترث أمته هذه البلاد، وفي عروج الله بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات العلى، ورفعه مكانا عليا فوق جميع البشر، بشارة بأن الله سيرفع كلمته ويظهر دينه على الدين كله .
ومنها: أن في صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء جميعا ، واقتدائهم به وهم في عالم البرزخ ، إشارة إلى أنهم لو كانوا أحياء في الدنيا لم يكن في وسعهم إلا اتباعه ، وكأن الأنبياء عليهم السلام بصلاتهم خلفه يقولون لمن لم يتبعه من اليهود والنصارى وغيرهم ، إننا لو كنا أحياءً لاتبعناه، فما بالكم لا تتبعونه وهو بين أظهركم .
أن في هذه الحادثة دلالة على عظم شأن الصلاة ، فقد اختصها الله من بين العبادات بأن تفرض في السماء عندما كلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدون واسطة .
لقد شرعت الصلاة عباد الله لتكون معراجا ترقى بالناس كلما تدنت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، وأكثر الناس اليوم لا يصلون الصلوات التي شرعها الله، فصلاتهم لا حياة فيها ولا روح، إنما هي مجرد حركات جوفاء، لأن علامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الوقوع في الخطايا، وأن تخجله من الاستمرار والبقاء عليها إن هو ألم بشيء منها .. وإن من لطف الله تعالى بعباده أن خفف عنهم الخمسين صلاة على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - وبمشورة موسى عليه السلام حتى بلغت خمس صلوات في اليوم والليلة، فلله الحمد لله والمنة أن خفف عنا، وأثبت لنا أجر الخمسين، والويل لمن نقص من هذه الخمس ، فلم يأت بها كاملة في أوقاتها ، وفي بيوت الله كما أمر الله .
نسأل الله أن يعيننا على أداء الصلوات ، والمحافظة عليها ...
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى ...
أما بعد ، فالدرس السادس والأخير من دروس الإسراء والمعراج:(15/5)
أن في هذه الرحلة تذكير للمسلمين بالأمانة العظيمة ، أعني ديار الإسراء والمعراج أرض الأقصى المباركة التي ربطها الله برباط العقيدة ، فهي أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، نسأل الله أن يطهرها من اليهود الغاصبين .
فقد غدا المسجد الأقصى المبارك مستباحاً ـ يا مسلمون ـ من قبل عصابات المتطرفين والمستوطنين اليهود، الذين سمحت لهم سلطات الاحتلال بالدخول إليه بالقوة وفي ظل حماية الشرطة الإسرائيلية، التي حولت المسجد الأقصى المبارك إلى ثكنة عسكرية؟ في الوقت الذي تمنع فيه سلطات الاحتلال أبناء المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى، وتعرقل الإعمار ومواد الصيانة اللازمة، مما يؤدي إلى إمكانية الانهيار في مرافق المسجد كما حصل قبل فترة بجدار المتحف الإسلامي الغربي الواقع في المسجد الأقصى .
عباد الله، كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرة النبي إلى المدينة، وقد اختلف المؤرخون في تحديد السنة والشهر الذي وقعت فيه هذه المعجزة العظيمة، فقيل سنة خمس من البعثة ، وقيل في رجب من السنة العاشرة ، وقيل في رمضان من السنة الثانية عشرة ، وقيل في محرم أو ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة ، وليس على واحد من هذه الأقوال دليل صحيح يعتمد عليه .
كما أنه يجب أن تعلموا عباد الله أنه ليس في ليلة الإسراء فضل خاص، فلا تخص بقيام ولا احتفال، ولا بغير ذلك؛ فإن هذا كله من البدع، وكل بدعة ضلالة.
وبهذا يتبين خطأ الذين يحتفلون في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر، فوالله لو كان ذلك خيرًا لسبقنا إليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان .
فاتقوا الله عباد الله، فإن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن الله مع الجماعة.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(15/6)
خطبة ( الاعداد لرمضان )
أما بعد .. عباد الله .. عن أي ضيف أتحدث اليوم؟
أيام تتكرر .. وشهور تتوالى .. وسنين تتعاقب .. ولا يزال هذا الضيف العزيز ينشر عبيره في الأيام .. وفي الشهور والأعوام .
وفي مدينة سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - ، كانت البشرى تُزَفُّ لأولئك الأطهار ، من الصحابة الأخيار ، رضي الله عنهم ، يزفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (أتاكم رمضان ، شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ! وتغلق فيه أبوب الجحيم ! وتغل فيه مردة الشياطين ! لله فيه ليلة خير من ألف شهر ! من حُرِم خيرها فقد حُرِم) رواه النسائي والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الترغيب .
قال ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضُهم بعضاً بشهر رمضان . كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟
إنها البشارة التي عمل لها العاملون.. وشمر لها المشمرون.. وفرح بقدومها المؤمنون .. فأين فرحتك ؟! وأين شوقك ؟! وأنت ترى الأيام تدنو منك رويداً رويداً ، لتضع بين يديك فرحة كل مسلم .
أخي الحبيب ، استحضر في قلبك الآن أحب الناس إليك , وقد غاب عنك أحد عشر شهراً , ثم بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل... كيف تكون فرحتك بقدومه , واستبشارك بقربه , وبشاشتك للقائه؟
إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان أن تتأهب له قبل الاستهلال , بنفس بقدومه مستبشرة ، ولرؤية الهلال منتظرة , وأن تستشرف لنظره ، استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره , وهذا من تعظيم شعائر الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} .(16/1)
نعم ، يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويسبشرون , ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه , ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات , وزيادة الحسنات , وهجر السيئات , وأولئك يبشَّرون بقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} .
لماذا؟ لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشارَ بها فرع عن محبة الله عز وجل , قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .
إنني أعتذر إليكم أيها الأحبة، وأنا أتحدث اليوم عن رمضان.
لا أعتذر لأني قد بكّرت وقد بقي في شعبان جمعة أخرى ، بل أعتذر لأننا اليوم متأخرون في الحديث والاستعداد لاستقبال هذا الضيف الكريم ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الصوم في شعبان استعداداً وتههيئة للنفس قبل رمضان .
ولو قيل لأحدنا: إن أحد الكبراء أو الأمراء سيزورك في بيتك ، لرأيته يستعد لاستقباله وإكرامه قبل أيام وأيام ، فكيف بشهر فيه من الفضائل والمحاسن ما يعجز عنه الحصر والبيان .
إنه شهر الصبر والإحسان.. شهر الرحمة والغفران .. شهر الدعاء والقرآن .. شهر التوبة والعتق من النيران .. قلوب المتقين إليه تحن ، ومن ألم فراقه تئن .
كان الصالحون يدعون الله زماناً طويلاً ليبلغهم أيام شهر رمضان .
قال معلى بن الفضل (رحمه الله) : كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبل منهم .
وقال يحيى بن أبي كثير (رحمه الله : (كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان ، وسلم لي رمضان ، وتسلمه مني متقبلاً.
فادع يا أخي بدعائهم .. وافرح كفرحهم .. عسى الله أن يشملك بنفحات رمضان .. فيغفرَ الله لك ذنبك ، وتخرجَ من رمضان وقد أُعتِقتَ من النار.(16/2)
أخي المسلم: أما خطر ببالك يوماً فضلُ مَن أدرك رمضان؟! أما تفكرت يوماً في عظم ثواب العمل في هذا الشهر المبارك؟! تأمل معي هذه القصة العجيبة .
روى الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - أن رجلين من بلى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان إسلامهما جميعا ، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر ، فغزا المجتهد منهما فاستُشهد ، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي . قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة ، إذا أنا بهما ، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخِر منهما ، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد ، فأصبح طلحة يحدث به الناس ، فعجبوا لذلك ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثوه الحديث ، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله ، هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استُشهد ، ودخل هذا الآخِرُ الجنةَ قبله!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى ، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض.
الله أكبر ، إن بلوغَ رمضانَ نعمةٌ عظيمة ، وفضلٌ كبير من الله تعالى ، حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان .(16/3)
لقد بيَّن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - اختلاف سعي الناس في الاستعداد لرمضان , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان , وذلك لما يُعِدُّ المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يُعِدُّ فيه المنافقون من غَفلات الناس وعوراتهم , هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر ، وفي رواية ونقمة للفاجر) والحديث في سنده اختلاف وقد أخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه , وصححه أحمد شاكر.
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (وما يُعِدُّ فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم) يعني أن المنافقين يستعدون في شهر رمضان للإيذاء بالمسلمين في دنياهم وتتبع عوراتهم أثناء غفلتهم ، وكأن ذلك غنيمة اغتنموها ، وهي في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم والحرمان من النعيم , وما أدق هذا الوصف في حق بعض أهل الفن والإعلام الذين يغتنمون موسم الطاعة لصد الناس عن سبيل ربهم , وفتنتهم عن طاعة الله عز وجل .
وإذا كان دعاة الباطل واللهو والفجور تتعاظم هِمَمُهُم في الإعداد لغواية الخلق في هذا الشهر ، بما يذيعونه بين الناس من مسلسلات ورقص ومجون وغناء، فحريٌ بأهل الإيمان أن ينافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البر والتقوى .
باع قوم من السلف جاريةً لهم لأحد الناس ، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان – كما يصنع كثير من الناس اليوم – فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: " لماذا تصنعون ذلك؟ " ، قالوا: " لاستقبال شهر رمضان " ، فقالت: " وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عندِ قومٍ ، السَّنَةُ عندَهم كأنها كلَّها رمضان ، لا حاجة لي فيكم ، رُدُّوني إليهم " ، ورجعت إلى سيدها الأول .(16/4)
عباد الله .. كم من رمضان مر علينا ونحن غافلون؟ ووالله لا ندري أندركه هذا العام ، أم تتخطفنا دونه المنون .
ما أحوجنا إلى تهيئة النفوس ، بمحاسبتها وإصلاحها قبل بلوغ رمضان .. ولا نكون ممن يدركون رمضان ، وقد تلطخوا بالمعاصي والذنوب ! فلا يؤثر فيهم صيامه ! ولا يهزهم قيامه ! ويخرجون منه كما دخلوا فيه .
وإذا كان رمضان شهر النفحات والرحمات والروحانيات ، فإن الإصرار على المعاصي والذنوب يحجب كل هذه المعاني الجميلة .
عبد الله .. إن للمعاصي آثار بليغة في قسوة القلوب ، وحرمانه من مادة حياته .. فإن كنت قد سودت قلبك ، ولطخت صفحاتِ حياتك بأدران المعاصي .. فها هو رمضان ، موسمٌ عظيم ، يمنحك صفحة بيضاء ، تغسل بها قلبك ، وتجدد فيها حياتك ، فهيء قلبك من الآن .
إياك أن تجعل أيام رمضان كأيامك العادية ، بل اجعلها غرةً بيضاءَ في جبين أيام عمرك .
قال جابر بن عبدالله (رضي الله عنهما): (إذا صمت فليصم سمعك ، وبصرك ، ولسانك ، عن الكذب ، والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ، ويوم فطرك سواء) .
عبد الله .. إذا كنت قبل رمضان كسولاً عن شهود الصلوات في المساجد .. فاعقد العزم في رمضان على عمارة بيوت الله ، عسى الله تعالى أن يوفقك لذلك حتى الممات .
وإذا كنت أخي شحيحاً بالمال ، فاجعل رمضان موسماً للبذل والجود .. فهو شهر الجود والإحسان .
وإذا كنت غافلاً عن ذكر الله تعالى ، فاجعل رمضان أيام ذكر ودعاء ، وتلاوة لكتاب ربك تعالى ، فهو شهر القرآن.
قال الحسن البصري (رحمة الله) : إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه ، وكانت المحاسبة من همته .
أسأل الله تعالى أن يبلغنا وإياكم رمضان ، وأن يحسن عملنا فيه ، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال ، ويتقبلها منا بقبول حسن ، إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً ...(16/5)
عباد الله .. ماذا أعددنا ونحن على أيام من هذا الشهر العظيم ، هل أعددنا نية وعزماً صادقاً بين يديه؟ هل بحثنا عن قلوبنا ، لنعرف عزمها وصدقها فيه؟
إن الإمساك ونية الصوم يأتي بها كل صائم ، أما نية إخلاص الصوم ، وصدق العبادة ، فهي التي لا يحققها إلا القلة من الموفقين .. (وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .
لا يستوي من لا يتجاوز اهتمامه وتفكيره في استقبال رمضان شراء الحاجيات وتكديس الأطعمة الرمضانية ، ومن يجعل جل اهتمامه غذاء الروح والتفكير في تطهير وتزكية النفس والإقبال على الله تعالى في هذا الشهر المبارك .
لسان حاله: كيف أستفيد من هذا الموسم؟ كيف أستعد وأخطط لأن أكون من العتقاء من النار ، من الذين تشتاق لهم الجنة ، من الذين يغفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم .
إن الإعداد للعمل علامة التوفيق وأمارة الصدق في القصد، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}، والطاعة لابد أن يُمهَّد لها بوظائف شرعية كثيرة حتى تؤتي أكلها ويُجتني جناها، وخاصة في شهر رمضان حيث الأعمال الصالحة المتعددة .
ولهذا نقول: من الآن ، اصدق عزمك على فعل الطاعات .. وأن تجعل من رمضان صفحةً بيضاءَ نقية ، مليئةً بالأعمال الصالحة .. صافيةً من شوائب المعاصي .
ونحن نتحدث عن الإعداد والتخطيط المسبق للاستفادة من رمضان، أذكر نفسي وإياكم بخمسة أمور :
أولاً: بادرْ إلى التوبة الصادقة , المستوفية لشروطها , وأكثر من الاستغفار .
ثانياً: تعلَّمْ ما لابد منه من فقه الصيام وأحكامه وآدابه, والعبادات فيه كالاعتكاف والعمرة وزكاة الفطر وغيرها .(16/6)
ثالثاً: اعقد العزم الصادق والهمة العالية على استغلال رمضان بالأعمال الصالحة , قال تعالى: {فإذا عزم الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}, وقال جلا وعلا: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةًَ} ، وتحر أفضل الأعمال فيه وأعظمها أجراً .
رابعاً: استحضر أن رمضان كما وصفه الله عزَّ وجلَّ أيام معدودات ، فهو موسم فاضل ، ولكنه سريع الرحيل .. واستحضر أيضاً أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة سرعان ما تذهب بعد أيام ، ويبقى الأجر ، وشَرْحُ الصدر بإذن الله ، أما المفرط فإن ساعاتِ لهوه وغفلته تذهب سريعاً ، ولكن تبقى تبعاتها وأوزارها .
خامساً وأخيراً : التخطيط والترتيب لبرنامج يومي للأعمال الصالحة كقراءة القرآن ، والجلوس في المسجد ، والجلوس مع الأهل ، والصدقة ، والقيام ، والعمرة ، والاعتكاف ، والدعوة وغيرها من الأعمال ، فلا يدخل عليك الشهر وأنت في شَتات ، فتحرمَ كثيراً من الخيرات والبركات .
أسأل الله أن يبلغنا وإياكم رمضان ، اللهم بلغنا رمضان وأحسن عملنا فيه ، إنك أجود مسؤول وخير مأمول .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(16/7)
خطبة (الاعلام في رمضان وطاش )
أما بعد ..
عباد الله .. يفرح المؤمنون الصادقون بإقبال شهر الصيام والقيام ، ولا تسعهم الأرض وقد بلغهم الله أيامه .. كيف لا وهو موسم الخيرات ، ونزول الرحمات ، وغفران السيئات .. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب السماء ، وغُلِّقت أبواب جهنم ، و سُلْسِلَت الشياطين " وفي رواية (وصفدت الشياطين) .
إنها فرحة رمضان ، ولكن ، هل بعد هذا الفرح من ترح؟ هل في بيوتنا من يغتال فرحتنا بشهرنا ؟ هل من شياطين لم تصفد تحوم حولنا؟ .
إن الفرحة برمضان سرعان ما تغتال بتلك المخازي والمهازل التي دأبت القنوات العربية على بثها طيلة الشهر الكريم دون خوف أو وجل من الله تعالى .
ما إن يَهِلُ هلالُ رمضان ؛ حتى تتسابق القنوات الفضائية بتقديم رصيدها الإعلامي من البرامج والمسلسلات والأفلام .. حالةٌ محمومة يتسابق فيها المفسدون بشتَّى أجناسهم وطبقاتهم ؛ لتوظيف الناس وإشغالهم لمتابعة برامجهم الساقطة ، مع تحريك الغرائز ، وبث الشبهات ، ودسِّ السمِّ في العسل .
في رمضان، تظهر إحدى الفنانات بعد الإفطار ، فتسألها مقدمة البرنامج : كيف وصلت إلى ما وصلت له من مجد؟! فتقول: أنا هربت من أسرتي وعمري اثنا عشر عاماً، ومارست حياتي ! حتى وصلت إلى الشهرة .
وفي برنامج آخر في شهر رمضان سئلت إحدى الفنانات عن زواجاتها ؟ فقالت أربع مرات رسمياً ، أمَّا العرفي فكثير لا أعرف له عدداً .. ولما سئلت: هل العيب في الرجال؟ ، قالت بكل جرأة: لا العيب في نظام الزواج لأنَّه نظام بالٍ ومتخلِّف عفاه الزمن .
وإذا نظرت في ما يسمى بالمسلسلات الدينية أو التاريخية ، وجدت فنَّانين وفنَّانات ، عُرف عنهم الفسق وقلَّة الحياء ، يقومون بتمثيل أدوار خير الناس من الصحابة أو التابعين ، في تشويه صارخ لتاريخ قدوات الأمة من سلفها وعلمائها .(17/1)
أما قنوات الرقص والغناء (الفيديو كليب) فحدث عن الرقص الماجن والكلام الفاحش والقبلات المحرمة ، مع ما يصاحبها من الشريط المتحرك برسائل الشباب والفتيات ، وما فيها من الكلمات الداعية للفاحشة ، ، ولمزيد الاستخفاف تموج الشاشة في زاويتها بعبارة (رمضان كريم أو رمضان مبارك) أين الكرم وأين البركة؟ .
كل هذا يحدث في رمضان .. دون خوف أو حياء من الديان .. سبحان الله .. لقد كان الفسقة القدماء يحجمون عن غيهم ، ويدارون الناس ، ويستحيون من إظهار المعصية في شهر رمضان ، كما قال أبو نواس:
منع الصوم عقاراً وذوي اللهو فغارا
وبقينا في سجونِ الـ صوم للهم أسارى
غير أنَّا سنداري فيه ما ليس يدارى
وأمَّا فسَّاق هذا الزمن فقد نُزع منهم الحياء ، بل إنهم يتحيَّنون فرصة قدوم شهر رمضان لإغواء الناس .
لقد تفننت القنوات الفضائية في إغواء المشاهد, وإرغامه على البقاء ذليلاً أمام شاشاتها؛ بفضل الإخراج المتطور في صوته وصورته ، المنحط في هدفه وفكرته إلا ما رحم الله .
أفلام عارية، وتمثيليات فاضحة ، وبرامج مشبوهة ، والمصيبة أن المشاهد الكريم يتلقى هذا الإسفاف والهدم للدين والخلق بكل رحابة صدر ، ولربما تمايلوا نشوة وطرباً , وضحكاً وفرحاً بهذه المشاهد .. وبعد السهر على القنوات الفاجرة يجتمع هؤلاء الغافلون أمام موائد السحور استعداداً لصيام يوم جديد ، ووالله ما أحرى هؤلاء المحرومين بقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) .
أي زور وأي جهل فوق هذا يا مسلمون؟ ولمصلحة من تقتل فرحة رمضان ، وتنتهك حرمته؟ .
ما الفائدة من عرض قصص الحب والغزل ، ومشاهد العري والسفور ، في شهر رمضان؟(17/2)
هل يريد أرباب هذه القنوات والبرامج الفاضحة أن يفرغوا رمضان من محتواه الحقيقي ليتحوَّل إلى موسم للفجور؟ .. وصدق الله :( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً).
عباد الله ، وإذا كان هذا هو حال الكثير من البرامج في قنواتنا العربية التي تعرض في بيوت المسلمين ، فإن الأمر يزداد خطراً في بعض البرامج الطائشة ، وبالأخص البرنامج سيء الذكر التي يشاهده وللأسف الكثير من الناس .
هذا البرنامج الذي لم يقف عند حد الإغراء والإغواء الأخلاقي ؛ بل تجاوزه إلى السخرية المباشرة من ثوابت العقيدة وشرائع الإسلام .
لقد جاء في بيان علمائنا الكبار في فتوى اللجنة الدائمة تحريم إنتاج هذا المسلسل وبيعه وترويجه وعرضه على المسلمين لاشتماله على الاستهزاء ببعض أُمور الدين والسُّخرية مِمَّن يعملُ بها , واشتمالُه على ما يُعارض الشرع الْمُطهَّر , ونشر الرذيلة , وطمس معالم الفضيلة , وإشاعة الفساد , ومحبَّة المنكرات والاستئناس بها ... إلى آخر ما ورد في البيان .
حتى طلع علينا الطائشون هذا العام بأسلوب استهتاري ماكر مخذول ، جمع مقدميه بين خروقات الفهم ، وسَوءات الحكم حول موضوع الإرهاب .
إن موضوع الإرهاب والإفساد لا يختلف عليه أحد ، وقد تكلم العلماء والخطباء والدعاة في المملكة العربية السعودية عن إدانة العمليات الإرهابية والتفجيرية في بلاد الحرمين الطاهرة ، التي نفديها بدمائنا وأرواحنا ، ولا نقبل أن يتعدى فيها على مسلم موحد ، أو كافر معاهد أومستأمن .. ولكن الذي جرى في البرنامج كالعادة هو إثارة الإشاعات والأكاذيب ، والاستهزاء بالمراكز الصيفية والرحلات الطلابية ، وبرامجها القيمة النافعة ، مع قلب الحقائق بطريقة لا يقبلها مسؤول عاقل ، ولا متابع منصف .(17/3)
بلادنا المباركة .. مهبط الرسالة .. وقبلة المسلمين .. وما وقع فيها من أعمال تفجير وتدمير ، عمل شاذ ، وصوت نشاز ، وإن لبس من قام به عباءة الدين ، فالدين وأهل الدين منه براء .. أما أن يعمم الحكم بالإرهاب على الدين وأهله، فذلك هو ما ينعق به دعاة الفتنة والفرقة وأعداء الملة الذين لا يقل خطرهم عن خطر أصحاب العنف والتفجير .
ثم إننا نتساءل: ما الفائدة من عرض هذه الحلقة بهذا الأسلوب البذيء الماكر، البعيد عن الحقيقة .
هل أعطى هؤلاء صورة حقيقية للفئة الضالة وتحذير المجتمع منهم ، أم أنهم دسّوا السّم بالعسل والهزل بالجدّ فضاعوا وأضاعوا؟
ومع هذا ، فهذه ليست أول مرّة يقدّمون فيها حلقات وشخصيات تكرّس مفهوم أن صاحب (اللحية) شخص ساذج وغبيّ وبخيل وكذاب وجشع ومتزمت وإرهابي ، بينما يظهر (الليبرالي) بقالب نظيف ومثقف ووسيم .
إنهم يهزؤون بقيم ديننا وعادات مجتمعنا بطريقة لا تمتّ إلى الفن بصلة ولا إلى النقد برابط .
معاشر الصائمين .. ونحن نتحدث عن هذا البرنامج وغيره من برامج القنوات الفاسدة ، نقول: أيها المشاهدون أما تخشون على دينكم وأنتم تشاهدون؟ وربما تضحكون ممن يسخر ويستهزيء بالله ورسوله وشعائر دينه..!!!
ألم يُفْتِ علماؤنا الكبار بتحريم مشاهدة هذا المسلسل فرميتم بها عرض الحائط؟ ما لكم كيف تحكمون؟
أيها المشاهد .. لو استهزأ هؤلاء الطائشون بوالدك أو أسرتك ، كيف ستكون ردة فعلك؟ فكيف بك الآن وأنت تراهم يستهزؤن بدينك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ؟
هل تعلم أنك مشارك لهم في الإثم بمجرد المشاهدة؟(17/4)
جاء في حديث المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك ، وكانوا على أصل الإيمان ، فقال أحدهم: والله ما رأينا مثل قرأنا هؤلاء أكبر بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء ، فسمعهم أحد الصحابة فانطلق ليخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد الوحي قد سبقه : {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} .
فعدّ الله تعالى الاستهزاء بالقراء وأهل الدين إذا كان بسبب تدينهم استهزاء الله ورسوله .. ثم حكم على المستهزئين بالكفر (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) .
لو تأملت في الحديث لوجدت أن الذي استهزأ بالقراء شخص واحد ، والبقية مستمعون راضون ، فقال الله عنهم جميعا (قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) .. ويبين هذا المعنى بوضوح قول الله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} .
فلماذا يا أخي تشاهدهم؟ هل تريد أن تكون مثلهم؟
اتق الله يا أخي في دينك .. وتذكر أنك في شهر رمضان فلاتفسد صيامك بمثل هذه المحرمات، واعلم أن من علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، فلا تتبع الصيام بالآثام.
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله .. إنه على الرغم من جرأة وتعدي هؤلاء ، فإنه لا بد من التماس الحكمة في الإنكار والموعظة الحسنة ، والحذر من مقابلة الخطأ بالخطأ ، أو الخروج عن دائرة التوجيه في مكانه الصحيح .(17/5)
لا نريد أن ننجرف وراء التكفير أو إصدار الأحكام في الأشخاص فنحن دعاة ولسنا بقضاة . وواجبنا الإنكار بالحسنى ، ومناصحة المسؤولين ، غيرةً على الدين ، وتحذيراً من تشويه الحقائق ، وبث الفرقة في بلادنا المباركة .
إن الواجب على العلماء والأمراء وكلِّ من له قدرة بذلَ الوسع في منع هذا البرنامج ، والضغط على تلك القناة وإن كانت غير حكومية لمنعه , كما أنه لا بد من حماية الدين والعقيدة ضد أي استهزاء وإحالة مَن استهزئ بشيء من الدين للمحاكم الشرعية ليلقى الجزاء الرادع ، فالأمر جد خطير .
وبعد ذلك تبقى مسؤولية المربين والمربيات وقادة الفكر وصُنَّاع الثقافة في التحذير من هذه الفتنة ، كما أنها مسئولية العقلاء والعاقلات ليحموا أنفسهم وأهليهم من أن يكونوا صيداً لهؤلاء المفسدين .
وأخيراً ، نقول لكل من شارك في هذا البرنامج وفي تلك القناة : اتقوا ربكم ، لقد نشأتم في أرض التوحيد ، وعرفتم الدين..!! ومع هذا ففي كل سنة يزداد شركم حتى تجرأتم على الطعن في الدين ، والسخرية بالمسلمين .. فراجعوا أنفسكم قبل فوات الآوان ، وإلا فانتظروا مغبة عملكم ، ونهاية دعاء المسلمين عليكم ، وما ربك بغافلٍ عما تعملون.
نسأل الله أن يهدي العاملين في هذا البرنامج ، اللهم أهدهم وافتح على قلوبهم ، وإن كان في سابق علمك أنهم لا يتوبون ولا يهتدون ، فاكفنا شرهم ، وعجل بعقابهم ، واجعلهم عبرة لكل من سار على مثل طريقهم .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(17/6)
خطبة ( الإمام احمد )
أما بعد ..
عباد الله، إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعبرا .
وإذا كانت أمتنا الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة ، فإن سجلها الحافل ازدان بكوكبة من الأئمة العظام والعلماء الأفذاذ الكرام، هم عقد جيدها وتاج رأسها .
العلماء ، شموس في الفضل ساطعة، ونجوم في العلم لامعة، أنوار الهدى ، ومصابيح الدجى ، تضيء بمنهجها المتلألئ وعلمها المشرق، غياهب الظُلَم، وتبددها بأنوارِ العلوم والحكم.
في تاريخ الإسلام علماء ربانيون وأئمة مهديون، وإن ارتباط الأجيال اللاحقة والناشئة المعاصرة بسلفهم من العلماء الأفذاذ ، لهو من أهم الأمور الملحة في هذا الزمان .. ينتفعون بسيرتهم ويسيرون على منهجهم ويقتبسون من نور علمهم وفضلهم في أعقاب زمن حيث كثرت في الفتن وطمت فيه المحن ، واستحكمت فيه الأزمات ، وعمت فيه الخلافات .
ولهذا قال بعض أهل العلم: سِيَر الرجال أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه ، غير أن لا عصمة لأحدٍ من سائر الناس، والتعصب للرجال مذموم، وخير الهدي هدي من لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى .
عن من سأحدثكم اليوم؟
أحدثكم اليوم عن أحد الأئمة الأعلام ، جبلٌ أشمّ وبدرٌ أتم ، وحبرٌ بحر وطودٌ شامخ، يعدّ بجدارة إمامَ القرن الثالث الهجري، فريد عصره ونادرة دهره، قَلَ أن يجود الزمن بمثله، إنه أئمة في شخص إمام ، وأمة في رجل.
قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله: "خرجت من العراق فما خلفت فيها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أتقى لله منه"، وقال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: "عالم العصر، وزاهد الدهر، ومحدث الدنيا، وعَلَمُ السنة، وباذل نفسه في المحنة، قَلَّ أن ترى العيون مثله، كان رأسًا في العلم والعمل والتمسّك بالأثر، ذا عقلٍ رزين وصدقٍ متين وإخلاصٍ مكين، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع، وهو أجل من أنه يمدح بكلِمِي أو أن أفوه بذكره بفمي".اهـ(18/1)
إنه يا رعاكم الله إمام أهل السنة الإمام المفضل والعالم المبجل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، من عرفته الدنيا وذاع ذكره وشاع صيته في الآفاق، إمامًا عالمًا فقيهًا محدثًا مجاهدًا صابرًا لا يخاف في الله لومة لائم، يتحمل المحن في سبيل الله والذب عن سنة رسول الله، ويقارع الباطل بحكمة نادرة، لا تزعزعه الأهواء، ولا تميد به العواصف .. حتى قال عنه الإمام يحيى بن معين: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد، لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ولا على طريقة أحمد".
عباد الله .. على ثرى بغداد ، وفي سنة مائة وأربعة وستين للهجرة ولد الإمام أحمد، ومن أصلٍ عربيٍ أصيلٍ انحدر نسبه رحمه الله، وعلى عصامية اليتم تربى ودرج في صباه ، مما ساعد على سمو نفسه وعلو همته .. توفي والده وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه، ونشأ وترعرع في بغداد .
لم تكن بغداد في ذلك الوقت كما هي في هذا الزمان والله المستعان، كانت بغداد حاضرة العالم الإسلامي ، ومهد العلوم والحضارة، تموج بأنواع الفنون والمعارف، وقد تميز عصر الإمام أحمد بنضوج الفقه وظهور المدارس الفقهية، وتميز أيضاً بعدم استقرار الحالة السياسية وكثرة الفتن ، فكان توجه الإمام رحمه الله إلى تحصيل العلم ولزوم السنة، فلم يحرض على فتنة، ولم يواجه ذا سلطان، مع قوة في الحق وحبٍ للخلق ، وذبٍ عن السنة وتحذيرٍ من البدعة.
أقبل الإمام الرقيق النحيل ، ذو اللون الأسمر ، ينهل من العلم، فحفظ القرآن، ثم أقبل على الحديث والأثر، حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث، وما كتابه العظيم (المسند) إلا دليلٌ على طول باعه في علم السنة، جمعه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، واستغرق في جمعه أكثر من خمس عشرة سنة، أما في الفقه فكان رحمه الله حريصاً على فقه السنة، والعناية بالدليل والأثر، والأخذ بفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.(18/2)
رحل الإمام أحمد في طلب العلم إلى كثيرٍ من البلدان، حتى قال عنه ابن كثير: "لقد طاف في البلاد والآفاق ليسمع من المشايخ، وكانت له همة عالية في الطلب والتحصيل، فما ترك لحظة من لحظات شبابه وكهولته إلا حَرِص فيها على سماع حديث أو تصحيح رواية، وما قصته في سماعه من عبد الرزاق بن همام الصنعاني في مكة وسفره معه إلى بلاده مع بعد الشقة وانقطاع النفقة إلاّ دليلٌ على علو الهمة ومضاء العزيمة، حتى عده الأئمة حافظ زمانه .. قال ابن المديني: "ليس في أصحابنا أحفظ منه"، وقيل لأبي زرعة: من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ قال: أحمد بن حنبل؛ حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر جملاً وأكثر، كلها يحفظها عن ظهر قلب.
ومع هذا العلم الجمّ فقد كان الإمام أحمد يخاف على نفسه البروز والشهرة والتصدر، فلم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره، وما ذاك إلا مراعاة لسن النضج والاستيثاق من العلم.
وكان من شدة ورعه رحمه الله أنه لا يحدث إلا من كتاب، خشية الزلل، مع قوة حافظته وشدة عارضته، ولا يسمح بتدوين فتاواه، قيل: إنه لسعة علمه أجاب عن ستين ألف مسألة بـ"قال الله وقال رسوله" وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.
كانت حياته حياة زهد وقناعة ،لم يكن يقبل هدايا الخلفاء والسلاطين، وكان يأكل من عمل يده ، وإذا اشتدت به الحاجة كان يؤجر نفسه للحمل في الطريق .
عباد الله .. إن من أهمّ الصفحات في حياة الإمام أحمد رحمه الله، منهجَه في العقيدة والتزامَه نهج الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة في التوحيد والصفات ونزول القرآن، حتى أوذي وامتحن، فصبر وصابر ولم يتزحزح عن قول الحق، حتى أعز الله به الإسلام والسنة ، يقول علي بن المديني: "لقد أعز الإسلام برجلين: بأبي بكر يوم الفتنة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".(18/3)
ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع، بل كان عالمًا عاملاً، مصلحًا مجاهدًا، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، يلتزم مسالك الرفق والحكمة، ملتزمٌ بالطاعة، موافقٌ للجماعة، بعيد النظر في الإصلاح .
يقول ابن عمه حنبل بن إسحاق: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله ـ يعني: الإمام أحمد رحمه الله ـ وقالوا له: يا أبا عبد الله، إن الأمر قد تفاقم وفشا ـ يعنون: إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ـ ولا نرضى بإمارته وسلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، لا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفِكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريحَ ضَرٌ ويُستراحَ من فاجر .
وتمضي الأيام ، ويضرب الإمام أحمد أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ، والصبر أمام الفتن، وذلك في فتنة القول بخلق القرآن، عندما استطاع المعتزلة الوصول إلى الخليفة المأمون، وأقنعوه بتبنيها وإكراه العلماء والناس عليها .
كان الجلادون يتناوبون على الإمام أحمد، كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين ،تأخر وتقدم الآخر .. والخليفة يقول: قل بخلق القرآن، فيقول الإمام أحمد: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
وفي أحد الأيام جردوه من ثيابه ، وكانوا يضربونه حتى يغمى عليه ،فيفيق ،ثم يعيدون الكرة عليه، حتى قال عن نفسه: فذهب عقلي عند ذلك .. ثم نقل بعد ذلك إلى بيته ،وهو لا يقدر على السير من شدة ما نزل به .
لقد أوذي وسجن، وضرب وأهين، فلم يتغير له رأي، ولم تلِن له قناة، ولم يتزحزح عن الحق ، مسطراً أعظم الدروس للعلماء والمصلحين في كل زمانٍ ومكان .(18/4)
لم يتأثر بالأهوال التي حاطت به ، ولا بالمؤامرات التي أحيكت ضده .. ولم يبال بالسياط التي كانت تلهب ظهره، ولا بالحديد الذي كبل فيه، ولا بالسجن الذي أودع به، فكل ذلك هين ما دام في سبيل الله، وصيانة كتابه من عبث العابثين واعتقادات المبطلين .
وضع الله له القبول في قلوب العباد ،وطار ذكره في الآفاق ،ودعا له المسلمون وتقربوا إلى الله بحبه ، وهو مع هذا في تواضع جم ، يخاف على نفسه من الاستدراج .
عباد الله .. تلكم هي مقامات العظماء ، ومناهج العلماء الأتقياء .. وهي القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لنا ولأبنائنا .. نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الاقتداء بهم، والتأسي بأخلاقهم، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى ...
عباد الله .. وفي صفحات أخرى من حياة هذا الإمام الهمام، تشرق صفحة العبادة وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة، وفي صفحة أخرى يتجلى الخلق الرفيع والسجايا الحميدة، زهدٌ وحياء، تواضعٌ وورع، تعففٌ وجود، بذلٌ وكرم، حبٌ للفقراء والمساكين، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور .
قال ابنه عبد الله: "كان أبي أحرصَ الناس على الوِحدة، لم يره أحدٌ إلا في المسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ولا يدع أحدًا يتبعه". اهـ
كان الإمام أحمد كثير العفو عمن يسيء إليه. أساء إليه رجل، ثم عاد إليه نادماً، وقال له معتذراً: يا أبا عبد الله، إن الذي كان مني على غير تعمد ،فأنا أحب أن تجعلني في حل، فقال الإمام أحمد: مازالت قدماي من مكانها حتى جعلتك في حل .(18/5)
وحينما نقلب صفحة أخرى من حياة هذا الإمام نرى التميز في الجانب الأسري وتربية الأولاد، فلم تشغله هموم العلم والدعوة والإصلاح والجهاد عن أسرته وحسن العشرة لأهله وزوجه، يقول الإمام أحمد رحمه الله: تزوجت أم صالح فأقامت معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة .. وخلف الإمام أحمد وراءه أبناء بررة، وعلماء سفرة، كانوا من ثمرات هذا البيت الصالح .
وفي صفحة أخرى من سجل هذا الإمام الجليل، يظهر إنصافه للمخالف، وسلامة صدره للمسلمين، وتقديره لأهل العلم وإن اختلف معهم، ولما عتب عليه بعضهم وأرادوا إثارة الخلاف بينه وبين الشافعي قال: مه، ما رأت عيناي مثل الشافعي، وقال: إني لأدعُو الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة.
وفي الصفحة الأخيرة من حياة هذا الأمام .. في سنة مائتين وإحدى وأربعين ، وبعد حياة حافلة بالخير والعطاء، أصيب الإمام أحمد بالحمّى، وحضرته الوفاة، يقول ابنه عبد الله: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده، فجعل يُغشى عليه ثم يُفيق، ثم يفتح عينيه ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة ثانية وثالثة، فلما كانت الثالثة قلت له: يا أبتِ، إنك قلت كذا وكذا، فقال: ما تدري، هذا إبليس قائم حذائي عاضٌّ على أنامله يقول: فُتَّني يا أحمد، وأنا أقول: لا بعد حتى أموت. قال صالح: فجعل أبي يحرك لسانه بالشهادة حتى توفي رحمه الله وله سبعٌ وسبعون سنة وأيام.
وانتشر الخبر في بغداد، فصاح الناس ،وعلت الأصوات بالبكاء ،حتى كأن الدنيا قد ارتجت ،وامتلأت الشوارع بالناس .
ثم كان يوم الجنائز .. فشهدت جنازته جمعًا غفيراً ، قيل: إنه لم يُشهد مثله في الجاهلية والإسلام، حتى بلغ من حضر جنازة الإمام أحمد ،سبعمائةَ ألف من الرجال ، وستين ألف من النساء ،هذا سوى من كان على السفن في الماء، حتى قيل: إن بعض غير المسلمين أسلموا ذلك اليوم لما رأوا جنازة الإمام أحمد .(18/6)
وصدق الإمام أحمد رحمه الله عندما كان يقول في حياته: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز .
تلكم أيها الأحبة صفحاتٌ ناصعة، وإشارات سريعة من حياة هذا الإمام الجليل، نقف معها وفاءً لعلمائنا، وأداءً لبعض حقهم علينا، وربطًا للناس بسيرهم التي ورثوها من المنهج النبوي واستقوها من معين الكتاب والسنة في بعدٍ عن التعصب المذهبي والمسلك التحزبي، وفي مجانبة لمسالك الغلو في الأئمة والجفاء لهم والحط من مكانتهم، فليس الحديث عن عالم حطًّا من مكانة غيره من العلماء، فأبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله وسائر الأئمة لهم حظهم الوافر في خدمة الإسلام وأهله، فرحمهم الله جميعاً ورضي عنهم .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(18/7)
خطبة ( الامتحانات الدراسية)
أما بعد .. عباد الله .. في هذه الأيام تشتعل العزائم ، وتتوقد الهمم ، وتتضافر الجهود؛ استعدادًا للامتحانات الدراسية .
تتهيأ المدارس والمؤسسات العلمية بجميع مرافقها وأعضائها، ويهتم الآباء بتوجيه أبنائهم وتشجيعهم، وينشط الطلاب للمذاكرة سهرًا وجدًا واجتهادًا.
العقول الخاوية تصبح بالامتحانات واعية، والنفوس الباردة تصير بالامتحانات جادة، والهمم الفاترة تتحول لتكون عالية صامدة .. إن الامتحانات تحدث نقلة في حياة الناس عجيبة؛ فتجد أكثر الناس مهتمين بها، معظمين لها، حريصين عليها.
لقد آمن الجميع أنه اجتياز طريقٍ للمستقبل، أو ضمان الوظيفة، أو نافذة للرزق، أوكسب السمعة وحسن الصيت.
في الامتحانات يدخل طلابٌ المساجد، لم يكونوا يعرفونها من قبل، مظهرين النسك والخير والضراعة لله، ابتغاء النجاح والتفوق، وهذه فرصة مهمة للمعلمين والمربين ، أن يستثمروا إقبال هؤلاء ويحرصوا على تعليقهم بالله، وربط مستقبلهم بتوفيق الله ورعايته وتأييده، وأنهم فقراءُ إليه، محتاجون لفضله وإنعامه .
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأوّل ما يقضي عليه اجتهادهُ
ومن جانب آخر ، هناك فئات أخرى من الطلاب ، لا تزال تهجر المساجد، ولا تبالي بأهمية التوكّل على الله وسؤاله التوفيق والنجاح.
وهؤلاء في أمسّ الحاجة إلى النصح والتذكير بأهمية الصلاة واللجوء إلى الله، فمنه يُستمد النجاح والتفوق ، وهو أهل الفضل والمن تبارك وتعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ .
أيها الإخوة، إن المتأمّل لفترة الامتحانات يدرك لها فوائدَ كثيرةً غيرَ النجاحِ والشهادةِ، والتحررِ من الدراسةِ ورَهَقِ المذاكرة، فمن فوائدها: إقبال التلاميذ على المساجد، ودعاؤهم الله كثيرا بالنجاح والتوفيق، وفي ذلك تربية إيمانية لا تخفى، جدير بنا أن نستثمرها وننميها.(19/1)
ومن فوائدها: استيقاظ الهمم والعقول، واكتشاف الطاقات عن مظاهر من العمل والنبوغ والصمود؛ من أجل نيل رمز النجاح ووسام التفوق.
ومن فوائدها: العزوفُ عن اللعب واللهو، وتركُ حياة الكسل والنوم والبطالة، وتربيةُ الإنسان على الدأبَ والصبر ومقاومة شدائد الحياة.
ومنها: إيقان الجميع بأن لكل ثمرة ولذة نصَباً وجُهداً، وأن الأمنيات لا تنال بالأحلام والتخيلات، وإنما بالهمم العالية والنفوس الدائبة .
وما نيلُ المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
فمن استطاب الراحة واستلذَّ بالنوم وارتاح للفراغ لم يصعد عَلما ولم يحقّق أملا .. يقول أحد الأدباء الفضلاء: "لو أن هممَ أبنائنا للعلم كهمهم في الامتحانات ، لأخرجت الأمة علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوعٍ عالما، بل في كل شهرٍ فحسب".
عباد الله ، إن قضية الامتحانات مع أهميتها ، لا تعدو أن تكون قضيةً دنيوية، فلا ينبغي إعطاؤها أكثر من حجمها، أو التهويلُ من شأنها على حساب قضايا جليلة في حياة الناس، ولا يليق بمؤمن بالله واليوم الآخر أن تنسيه الدنيا الدارَ الحقيقية وهي الدار الآخرة ، وقد كان من دعاء النبي المأثور: ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)).
إن الواجب علينا كمسلمين أن نعتدل في نظرتنا للامتحانات، وأن نوصي أبناءنا والتلاميذ بالجد والاجتهاد فيها، دون إغفال جوانب الإصلاح والتربية، التي هي مقصود المدارس والمؤسسات التعليمية.
نحن لا نريد أن ترتفع المعدلات والدرجات مع انخفاض التديّن والأخلاق في حياة هؤلاء الناجحين . ولربَّ حائزٍٍ على تقدير عالٍ ويوضع في لوحة الشرف وهو لا يمتّ للخير والخلق بصلة.
كم من ممتحن لم يدخل الامتحان حتى وافاه الأجل، وكم من ناجح متفوّق حُرِم لذة التفوّق ولم يرَ الشهادة .. والنجاح الحقيقي هو النجاح في امتحان يوم القيامة، حينما تسودّ وجوه وتبيض وجوه، وتعلو أنفس وتسقط أنفس، فهنالك الحياة الحقيقية والفرح الدائم.(19/2)
أيها الإخوة .. وأمام رهبة الامتحانات وقلق الطلاب منها ، يجب علينا تعميق الإيمان في النفوس ، وزرع الثقة والطمأنينة فيها، وتربية الأبناء على التوكل على الله وسؤاله الفتح والتوفيق والنجاح، فإنه المنعم المتفضل سبحانه وتعالى، بيده مفاتيح الفرج ومنابع اليسر والرزق .. ما ذكر تعالى في عسر إلا يسَّره، ولا كربة إلا فرَّجها، ولا مخافة إلا أمنها، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ .
وكان كثير من الأئمة إذا تعسّرت عليه الأمور أو أشكلت عليه المسائل يكثر الدعاء والذكر والاستغفار إلى من هو على كل شيء قدير، فما هو إلا وقت يسير فينحل الإشكال وتزول الملمة وينقشع الهم .
إخواني الكرام، إن النجاح في الحياة وتحقيق الأماني مرهون بالهمة العالية والكفاح الدائب، ومن شروطه ترك الكسل ومجانبة البطالين وهجر الراحة والرفاهية، قال الإمام يحيى بن أبي كثير رحمه الله: "لا يُستطاع العلم براحة الجسد".
خرج أحد العلماء وهو القفَّال الشافعي يطلب العلم وعمره أربعون سنة، بينما هو في الطريق جاءته نفسه فقالت له: كيف تطلب العلم وأنت في هذا السن؟! متى تحفظ؟! ومتى تعلّم الناس؟! فرجع، فمرّ بصاحب ساقية يسقي على البقر، وكان الرّشاء ـ أي: الحبل ـ يقطع الصخر من كثرة ما مرّ، فقال: أطلبه وأتضجّر من طلبه!
اطلبْ ولا تضجرْ من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول الْمدى على صليب الصخر قد أثَّرا
وكان هذا الموقف عظةً له، واصل من خلاله طلب العلم، وجدَّ واجتهد، حتى بلغ المنزل، وصار من أئمة الشافعية ومن العلماء الكبار رحمه الله.
فهنيئا لمن أخذ بأسباب علو الهمة وكبر النفس، فرُزق نفسًا تواقة، تطلب العلا وتأنف من الأقذاء، وتتجرأ على الصعاب والمضايق، إنها لقمّة الفرح والسعادة وقد قيل: "بقدر ما تتعنّى تنال ما تتمنَّى".(19/3)
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ، وينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا علماً ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
أيها الإخوة والأبناء الطلاب ، اعلموا بارك الله فيكم أن العلم نور يقذفه الله في القلب، وأن المعصية تطفئ ذلك النور ، فتركُ الصلاة ، أو التخلف عنها في الجماعة ، أو تأخيرها بالنوم عنها بحجّة الإرهاق والتعب مع الاختبارات ، كل ذلك من الآثام والمعاصي التي تطفئ نور العلم .
حافظوا على الصلوات الخمس في أوقاتها، وسلوا الله العون والتوفيق ، وستجدونه بإذن الله تعالى .
استعينوا بالله تعالى ثم بالجد والاجتهاد، وإياكم والغش فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غشنا فليس منا)).
أيها الإخوة والأبناء .. في أيام الاختبارات تكثر التجمعات الطلابية خارج المدارس، وتزداد جلسات الشباب على الأرصفة وفي الأحياء والبوفيهات وغيرها ، وهذه التجمعات قد يستغلها ضعفاء النفوس للتغرير بكم ودعوتكم إلى سيئ الأخلاق، أو التعرف على بعض أصدقاء السوء، أودعوتكم إلى تعاطي الدخان وغيره، أوممارسة التفحيط والعبث بالسيارات، أو التجوال حول مدارس البنات.
ورجال الأمن ورجال الهيئة وفقهم الله ، يشتكون من كثرة المصائب والحوادث والمعاصي في هذه الأيام القليلة .
فيا أيها الطلاب والطالبات، احذروا رفقاء السوء، وعليكم بالعودةِ للبيوت ، والخلودِ للراحة بعد الامتحان .
وأخيراً إلى كل معلم ومعلمة .. ارحموا هؤلاء الطلاب؛ فالراحمون يرحمهم الله ، واحذروا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والانتقامَ للنفس والتشفيَ لها وتصفيةَ الحسابات مع من أساء إليكم .. ثم اغتنموا ساعات المراقبة في صالات الامتحان بذكر الله تعالى والاستغفار والصلاة على النبي .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(19/4)
خطبة ( الأمن في الأوطان )
أما بعد .. ما الذي سيخرج به المتأمل للعالم اليوم؟
مخاوف ومزعجات ، وقتل وجوع، وأمراض نفسية وأسرية واجتماعية، يحيط بها هلع على وجوه الكثير من الناس من جراء ما يهدد وجودهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك دينهم، ويصاحبها حملة ماكرة خبيثة مضللة من الكفار، وأذنابهم المنافقين، بالتلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس في معنى الأمن ووسائله، ومعنى الإرهاب وطرائقه. وجاءوا بزخرف من القول ليصرفوا الناس عن الأسباب الحقيقية للمخاوف وذهاب الأمن. وجاءوا بأسباب أملتها عليهم أهواؤهم ومصالحهم؛ فجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً. وهكذا شأن شياطين الجن والإنس الذين أخبرنا الله عز وجل عنهم بقوله: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) .
عباد الله .. عندما يذكر الأمن ومتعلقاته عند كثير من الناس اليوم، فإنما يفهمون منه الأمن على النفوس، وعلى الأموال والأعراض من الاعتداء ويقصرونه على هذه الأمور فحسب، مع أن الأمن بمفهومه الشامل أشمل وأعم من هذا الفهم القاصر، فالأمن على الدين والعقيدة يحتل في الأهمية المرتبة الأولى ثم يليه الأمن على الأنفس ثم العقول ثم الأعراض ثم الأموال.
هذه هي الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها ، ولا يتحقق الأمن في هذه الدنيا إلا إذا أمن الناس فيها .
عباد الله .. وحتى نصل إلى الأمن الحقيقي الذي ينشده كل مسلم، يجب علينا أن نعرف أعداء الأمن والسلام ونحذرهم.
وقد تحدثت في الخطبة الماضية عن أهل الأهواء الضالين، من التكفيريين والتفجيريين والمفسدين .. الذين يستحلون دماء المسلمين، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون .
وأشير في هذه الخطبة إلى أفرح الناس بأعمال هؤلاءالضالين، وهم أعداء الدين من الكفار والمنافقين .(20/1)
أما الكفار فمعلوم عداؤهم وحربهم للأمن والسلام ، ولهم وسائل ماكرة كثيرة ، منها أسلوب الغزو العسكري والإرهاب والقتل والتشريد والأسر وهتك الأعراض، وسلب الأموال. وهذا أمر واضح لا يشك فيه عاقل. والتاريخ وواقعنا المعاصر شاهد على ذلك.
يتواطأ معهم في ذلك المنافقون، بتوليهم للكفار، ونصرتهم لهم، وفرحهم بانتصارهم على المسلمين. قال الله عز وجل: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) ، وقال تعالى: (بشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) .
*ومن أساليب مكر الكفار والمنافقين: الغزو الفكري للعقيدة والعقول والأخلاق ، وهذا الأسلوب قد يكون أخطر من الأسلوب العسكري ، لأن العداء العسكري بالتقتيل والتشريد، والاحتلال العسكري للبلاد يستنهض الهمم، وينبه الغافلين، ويوقظ النائمين. أما الغزو الفكري العقدي على العقول والأخلاق، فيسري في الناس، وهم في غفلة عن ذلك، وبخاصة إذا اشتغل أكثر الناس بدنياهم ولهوهم وشهواتهم.
إنهم حرب على الإسلام بوصفهم له أنه عقيدة وجدانية بين العبد وربه في صلاته ومسجده وأذكاره وتسبيحاته، وأن لا دخل له في توجيه دفة الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. كما أنهم حرب على عقيدة الولاء والبراء بوصفها تثير العداء بين بني الإنسان .. وهم حرب على شعيرة الجهاد بوصفها عدوان وكراهية وإرهاب وإكراه!! وهو حسب مكرهم وتضليلهم يتعارض مع سماحة الإسلام ورحمته!!(20/2)
*ومن أساليب مكرهم: العدوان على أمن الأخلاق والأعراض بإثارة الشهوات، ونشر الرذيلة، وإفساد الأخلاق بما يقوم به الكفرة والمنافقون في وسائلهم الإعلامية المختلفة من مجلة وصحيفة ومذياع وتلفاز وقنوات فضائية وشبكات عنكبوتية، من نشر للعهر والفساد والإباحية التي تلهب الشهوة في نفوس المتعاطين معها، وتقود إلى الخبث والزنا، وفساد الأسر والبيوت والأعراض .
*ومن عدوانهم على أمن الأخلاق والأعراض ، تلك الحملة الشعواء على المرأة ولباسها وحجابها وعملها والدعوة إلى تحررها، والتمرد على قوامة زوجها إلى آخر هذه الصيحات العدوانية التي يريد أصحابها أن تكون المرأة سلعة رخيصة بيد الرجل يتمتع بها حيث شاء، كما يريدون أن يخلو البيت المسلم من مربية الأجيال، بحيث تترك أولادها وزوجها بلا سكن ولا رعاية، لتعمل مع الرجل الأجنبي خارج بيتها.
*ومن عدوانهم على أمن الأخلاق والأعراض ، تلك الهجمة الشرسة من الكفار والمنافقين على أهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تحجيمهم وتشويه سمعتهم ، ولا يخفى ما في ذلك من حقد دفين وغيظ شديد في قلوب المفسدين تجاه المصلحين، فيعادونهم ويضعون العقبات في طرقهم ويسعون لتشويه سمعتهم .
قاتلهم الله أنى يؤفكون، وحمى الله البلاد مما يكيدون ويوعون، والله المستعان على ما يصفون، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله ، من هم أولى الناس بالأمن؟
سؤال ذكره الله تعالى في كتابه، (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم مؤمنين) .. ثم أجاب سبحانه وتعالى عن السؤال بقوله: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) .(20/3)
إن الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة لا يكونان إلا لمن آمن بالله ووحده وأطاعه، ولم يلبس إيمانه بظلم. والناس يتفاوتون في الأمن والاهتداء، بقدر تفاوتهم في تحقيق الإيمان والخلوص من الظلم .
فإن خلص الإيمان من الشرك الأكبر الذي هو أعظم الظلم، وخلص من ظلم العباد، وخلص من ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك من الكبائر والمعاصي وذلك باجتنابها أو التوبة الصادقة منها قبل الموت؛ فإن هذا الصنف من الناس يحصلون على الأمن التام في الدنيا وعند الموت وبعد الموت في البرزخ ويوم القيامة. وهم الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ،وبقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) .
عباد الله .. ونحن نستشعر ضرورة الأمن في الحياة الدنيا، ونسعى لتحصيله لأنفسنا وأهلينا وأموالنا، ونؤكد على المحافظة عليه ، والإبلاغ عن كل ما يعكر صفوه؛ علينا أن لا ننسى الأمن في الآخرة ، بدءاً بالأمن في القبر والسلامة من فتنته، ومروراً بالأمن يوم الفزع الأكبر ، وانتهاءً بالأمن من عذاب جهنم بدخول الجنة دار الأمن والسلام .(20/4)
فهل يا ترى ننعم بالأمن الحقيقي والسلام السرمدي يوم يبعث الله من في القبور ويحصل ما في الصدور (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) ، فريق في الجنة آمنون سالمون منعمون أبد الآباد، وفريق في السعير معذبون مكروبون يحيون فيها ولا يموتون ، وما هم منها بمخرجين أبد الآباد. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .
اللهم صل على محمد ...(20/5)
خطبة (الانتصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - ضد الصحيفة الدنمركية)
الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل الهداية، وأزاح عن بصائرنا ظلمة الغواية، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
(يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) .
أما بعد .. حديثنا اليوم عن رجل عظيم ، بحبه تمتليء القلوب ، ولرؤيته تشتاق النفوس، وبسيرته تلين الأفئدة ..
كيف لا وهو الذي هدانا الله به من الضلالة ، وعلمنا من الجهالة ، وبصّرنا من العمى ، وأخرجنا بدعوته من الظلمات إلى النور .
كيف لا وقد اصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم وأحبهم إليه .
إنه الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - .. خاتم الأنبياء ، وصفوة الأولياء ، صاحب المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود . إمام المتقين ، وسيد ولد آدم أجمعين .
لا يسلم العبد إلا بالشهادة له بالرسالة بعد الشهادة لله بالتوحيد ، ولا يؤمن العبد حتى يكونَ أحبَ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ، اختاره الله وزكاه وقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) .
ومع هذه المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة ، يأبى أعداء الله ورسولِه إلا أن يتعرضوا لمقامه الشريف بالقدح والافتراء ، وكان من آخر هذه الجرائم ، ما نشرته إحدى الصحفِ الدنمركية من رسوم كاريكاتيريةٍ مسيئةٍ لجنابه الكريم - صلى الله عليه وسلم - .(21/1)
وكنت قد تابعت هذه القضية منذ مدة ، ثم وقفت على هذه الرسوم على موقع الصحيفة الدنماركية المشؤومة ، وكنا نظن أن الأمر خطأ عارض من الصحيفة ، لكن الوضع ازداد سوءاً بموقف حكومة الدانمرك المتعنت ، ثم تعدى في الأسبوع الماضي إلى دولة أخرى ، حيث قامت إحدى صحف النرويج بإعادة نشر الكاريكاتيرات الاثني عشر في أول أيام عيد الأضحى المبارك ، في توقيت واضح لتعمد الإساءة وإلحاق الأذى بمشاعر المسلمين الذين يحتفلون بهذه المناسبة العظيمة .
بدأت القضية في الدانيمرك ، الدولةٌ الأوروبيةٌ الصغيرة التي يسكنها خمسة ملايين نسمة ، منهم مائتي ألف مسلم .
حيث أعلن رئيس تحرير صحيفة (ايلاندز بوستن) ، الصحيفةِ اليوميةِ الكبرى في البلاد ، أعلن عن مسابقةٍ للرسامين الدانيماركيين لتقديم رسوم عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وتلقت الصحيفة العديد من الرسوم ، ونشرت منها اثني عشر رسماً ، ثم كتب رئيس التحرير يقول: إن الصحيفة تتحدى المسلمين وقراراتهم بمنع نشر رسومٍ لنبيهم .
رسوم مأفونة ، تفوح منها رائحة العنصرية والكراهية للإسلام ووصمه بالإرهاب ، ففي إحد الرسوم يظهر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كإرهابيٍ يلوّح بسيفه ، ومعه سيداتٌ يرتدين العباءة السوداء والنقاب .. وفي رسم آخر يظهر النبي مرتدياً عمامةً على هيئةِ قنبلةٍ سوداء ، مكتوبٌ عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله ، في تحدٍ صارخ لمشاعرِ أكثرَ من مائتي ألف مسلم في الدنمارك ، وأكثرَ من مليار وثلاثمائة مليون مسلم في العالم .(21/2)
وقد هب إخواننا المسلمون في الدنمرك إلى إنكار الحدث ، فكُتبت المقالات ووُجهت الخطابات إلى الصحيفة والحكومة ، وتظاهر أكثر من خمسة آلاف مسلم ، في مظاهراتٍ ضخمةٍ في شوارعَ كوبنهاجن، اتجهت إلى مقر الصحيفة ومقر رئاسة الوزراء ، ولم تتوقف المظاهرات إلا بعد أن توجه أحدَ عشرَ سفيراً مسلما إلى رئاسة الوزراء يحتجون لدى رئيس الوزراء ، فرفض اللقاءَ بهم ، ثم صرح بأنه يدرك بأن ما فعلته الصحيفة يعدّ إثارةً لمشاعر المسلمين ، لكنه لن يتخذ أي إجراء ، لأنه لا حدود لحرية الصحافة ، وكأنه يقول: نحن ماضون على هذا المنهج .
هكذا بكل جرأةٍ وصفاقة، وتجاهلٍ لجميعِ دساتيرِ العالم ومواثيقِه ، والتي تؤكد على احترام الرسلِ والشرائعِ السماوية ، والأديانِ ، كلِ الأديان إلا الإسلام في ميزانهم .
وعندما سمع رئيس التحرير ما قاله رئيس وزراء بلاده قال: إن المسلمين يحلمون بأن أنطق بكلمة الاعتذار أو الأسف .
ألا شل الله يمينك يا عدو الله ، وأخرس لسانك ، وأعمى بصرك ، وأنزل عليك غضبه وسخطه أنت ورئيسُ وزرائك ورساموك الذين رسموا هذه الرسوم ، وكلُ من تولى كِبْر هذه الجريمة .
عباد الله ،ماذا بقي لنا من العزة والكرامة؟ قتلوا الشيوخ فسكتنا ، وذبحوا الأطفال فصمتنا ، وهتكوا الأعراض فأُلجمنا ، ولم يبق إلا سبُ نبينا..ومِنْ مَنْ؟ من هذه الدولة الصغيرة!! فيا لَله ..حتى الأراذلُ والأصاغرُ رفعوا رؤوسهم علينا ، وتجرؤوا على نبينا ، نشكو إلى الله أحوالنا وهواننا .(21/3)
هكذا يفعل النصارى الحاقدون مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - ..ثم ينادي بعضنا بأن لا نقول للكافر ..يا كافر ..بل نقول له الآخر ، احتراماً لمشاعره ، ومراعاة لنفسيته!! فهل احترم هؤلاء نبيَّنا؟ ثم يطالب آخرون بحذف الولاء والبراء من مناهجنا الدراسية ، فلا نبغض أعداء الله ، ولا نظهر العداوة لهم ، لأننا في عصر الصفح والتسامح بين الأديان ، وربنا سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَق) .
ويقول سبحانه:(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) ، (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) .
إن هؤلاء الذين يشتغلون بالوقيعة في محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إنما يقعون في من علّم البشرية تعظيم أنبياء الله وتوقير رسله: (لا نفرق بين أحد من رسله) .
إن الذي يصفونه بأنه السفّاحُ والقاتل ، هو نبيُ الرحمة الذي علّم البشرية: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) ، الذي علم البشرية الرحمةَ والعدل ، حتى في حال الحرب والقتال ، فقال: (لا تغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً) قال هذا في وقت سادت فيه البربرية والوحشية حيث لا هيئاتٍ ولا مواثيقَ ولا قوانينَ عالمية .
لقد ظل - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشرة سنة ، أوذي فيها أشد العذاب هو وأصحابه ، فما تذمّر ولا تضجّر .. ثم نصره الله وفتح له الأرض فما تغير ولا تكبّر .. لم ينتصر لنفسه - صلى الله عليه وسلم - من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه .. كما قال أبو سفيان - رضي الله عنه - بعد أن أسلم :
لعمرك إني يومَ أحمل رايةً ... ... لتَغْلِبَ خيلُ اللات خيلَ محمدِ
لكالمدلجِ الحيرانِ أظلمَ ليلُه ... ... فهذا أواني حين أُهدَى وأهتدي(21/4)
هداني هادٍ غيرُ نفسي ودلّني ... ... على الله من طردته كل مَطْرَدِ
وما حَمَلَتْ من ناقةٍ فوق ظهرها ... أبرَّ وأوفى ذمةً من محمدِ
هكذا كان - صلى الله عليه وسلم - .. سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه .. وإن تعلقَ هؤلاء الأقزام بهذه التهم لدليلٌ على إفلاسهم ؛ وإلا فلو أرادوا الحق والسلام ، فليتحدثوا عن القتل وسفك الدماء الذي مارسته الكنيسة ومحاكم التفتيش ضد المسلمين واليهودِ في الحروب الصليبية ؟
أين كلامهم عن القتل وسفك دماء المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وغيرها؟
أين كلامهم عن سفك الدماء الذي يمارسه اليهود ضد الأطفالِ والنساءِ في فلسطين؟
عباد الله .. يخطئ من يظن أنّ في هؤلاء النصارى من هو محايد أوصديق للمسلمين أو العرب !! فما هي في الحقيقة إلا مصالح وسياسات متقلبة .
في الماضي ، روجَّ الإعلام العربي أنّ فرنسا صديقةٌ حميمةٌ للعرب والمسلمين ؛ فإذا بها اليوم ترفع راية التمييز العنصري ضد المسلمين وتطرد من أراضيها المغتربين العرب ، وتحرم بناتهم الحجاب الإسلامي, وتطرد المحجبات من مدارسها وجامعاتها !!
الملة النصرانية واحدة , والحكومات الصليبية واحدة ، والإسلام هو العدو الأول عند جميع هذه الحكومات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي .. حتى صرح الرئيس الأمريكي بأنها حرب صليبية جديدة ، وأن الربّ قد أمره بغزو الطلبة في أفغانستان, واحتلال العراق واستباحة شعبه .
أنّها حرب مفروضة علينا شئنا أم أبينا ما دمنا مسلمين ، (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) .
إنها عداوة ضرورية لا بد منها ما دمنا موحّدين ، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .(21/5)
إن هؤلاء هم من يصنع الإرهاب ، ويقذف بالنار إلى صهاريج الوقود ، فالنيل من جناب النبوة استفزاز لكل مسلم، ومقام محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - دونه مُهَج النفوس، وفداه الأمهات والآباء، وإن جمرة الغضب التي يوقدها هؤلاء في قلب كل مسلم لا يمكن التنبؤ بالحريق الذي ستشعله ، والله المستعان.
لقد فعل هؤلاء النصارى ما لم يفعله نصارى الأمس ، فحينما بعث رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى قيصر ملك الروم ، لم يُسْلِم ، لكنَّه أكرم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأكرم رسوله ، فثَبَتَ ملكُه ، واستمر في الأجيال اللاحقة .
وكان ملوك النصارى يعظِّمون كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل .
وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن سيف الدين المنصوري أرسله الملك المنصور قلاوون إلى ملك الفرنج ، فأطلعه الملك على صندوق مُصفَّح بذهب ، فأخرج منه مِقلمةَ ذهب ، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثرُ حروفِه ، وقد التصقت عليه خِرقَةُ حرير ، فقال : هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ، ما زلنا نتوارثه إلى الآن ، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظُه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمُه عن النصارى ليدوم الملك فينا.
وفي مسند الإمام أحمد ، لما قرأ جعفر بن أبي طالب أول سورة مريم على الملك النصراني ، النجاشي ، ملك الحبشة ، بكى النجاشيُ حتى أَخْضَلَ لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا واللهِ والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة .
قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) .(21/6)
وبعد عباد الله .. فإننا مع ما أصابنا من الهم والحزن ، نوقن أن مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عزيز ، وأن الله ناصره ، ومعلٍ ذكره ، ورافعٌ شأنه .
محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هو أطهر البشرية جمعاء ، ولن يضيره هذا الكذب والافتراء .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم ، يشتمون مُذَمَّمَاً ، ويلعنون مُذَمَّمَاً ، وأنا مُحَمَّدٌ ! " .
قال ابن حجر رحمه الله : قوله (يشتمون مُذَمَّمَاً) : كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح ، فيعدلون إلى ضده ، فيقولون : مُذَمَّم ، وإذا ذكروه بسوء قالوا : فَعَلَ الله بمذمم . ومُذَمَّم ليس هو اسمه عليه الصلاة والسلام ، ولا يُعرف به ، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفاً إلى غيره.
ونحن نقول : وهكذا تلك الرسوم فإنها قطعاً لا تمثل رسول الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، لا في خَلْقه ، ولا في خُلُقه.
أما خَلقْه - صلى الله عليه وسلم - : فوجهه الطهر والضياء ، والقداسة والبهاء ، وجهه أعظم ضياءً من القمر المسفر ليلة البدر ، وجه محمد يفيض سماحةً وبشراً وسروراً ، له طلعةٌ آسرة ، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً .
وأما خُلُقه - صلى الله عليه وسلم - : فقد كان سمحاً كريماً ، رؤوفاً رحيماً ، ما كان عابساً ولا مكشراً ، وما ضرب أحداً في حياته ، ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثماً ، وما انتقم لنفسه ، إلا أن تُنتهك حرمةُ الله فينتقمُ لله بها .(21/7)
وإننا نوقن بأن الله منتقمٌ لرسوله ، ومعذبٌ لمن آذاه في الدنيا والآخرة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .. (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) .. (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) .
وقال سبحانه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) إنَّ مبغضَك يا محمد ، ومبغضَ ما جئتَ به من الهدى والحق (هُوَ الأَبْتَرُ) : هو الأقل الأذل المنقطع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمُْكِنِ الناسُ أن يُقيموا عليه الحد" . انتهى كلامه .
ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يَتُبْ إلا ولا بد أن يصيبه الله بقارعة ، كما هو حال بني إسرائيل الذين كفروا بالله ، وقتلوا الأنبياء بغير حق .
إنها سنة الله .. وإن الأيام بيننا وبين أولئك المبطلين المستهزئين ، لننظر من تكونُ له العاقبة ، ومن الذي يضِلُّ سعيه ، وينكشفُ كذبه ، ويظهرُ افتراؤه .
عباد الله .. إن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوسنا أعلى من قُبّة الفَلَك ، ولن ينالَ منها مثلُ هذا الفعل الجبان .. لن يضرِّ السحابَ نُباحُ الكلاب ، ولن يضرَ السماءَ أن تمتد لها يد شلاء .. والذي يبصق على السماء ، عليه أن يمسح وجهه إذا بصق .. ولكنّ الذي يعنينا ، هو واجبُنا تجاه مقام النبوة، والانتصارُ لجناب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والذبُّ عن مقامه الشريف.(21/8)
فإلى كل مؤمن بالله ورسوله، إلى كل قلب يخفق حباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، إلى كل مهجة تتحرق شوقاً إليه ، إلى كل مسلم يعلم أنه لولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنا حيارى في الظلمات، ولولا رسول الله لكنا فحماً في نار جهنم .. هذا نداء لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعلان الاستنكار لهذا التواقح الفاحش والتسفل البذيء ، والاحتجاجِ الرسمي والشعبي والفردي ، ومقاطعةِ بضائع تلك الدولة التي أقرت هذه الجريمة ، حتى تعرفَ لنبينا - صلى الله عليه وسلم - قدره ، وتصونَ مقامه من كيد الحاقدين وعبث المستهترين .
يا أمة محمد .. من ينتصر لمحمد الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ضحى بكل ما يملك من أجل أن يصلنا هذا الدين؟ أوذي من أجلنا؟ وبُصق على وجهه الشريف من أجلنا؟ وطُرد من أرضه من أجلنا؟ أنعجز بعد هذا أن نقاطع منتجات المتطاولين على جنابه الشريف؟ أنعجز أن نطعنَهم في اقتصادِهم ، شِرْيانِ حياتهم ، وسِرِّ قوتهِم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني .
نسأل الله أن يبرم لنا ولأمتنا أمر رشد يعز ... والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
يا أمة محمد ..لئنْ تخاذل رجالنا عن نصرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ..فلقد سطر التاريخ صوراً مشرقة ، ومواقفَ باهرة ، لنساءٍ نافحن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فهذه أم عمارة رضي الله عنها كانت تقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ، يميناً وشمالا ، و تذود عنه سيوف الأعداء ونبالهم ، حتى أصيبت بعدة جراح ، فأين رجال الأمة ، الذين هم أولى بالدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(21/9)
أليس لنا أسوة في الصحابي الجليل عبدِ الله بنِ عبدِ الله بن أبي بن سلول ، في موقفه الحازم من أبيه ، عندما آذى والدُه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بكلامٍ قبيحٍ قال فيه: "والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .. فعلم ولده عبد الله بذلك فقال لوالده: والله لا تفلت حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزيز!! فلم يسمح لوالده بدخول المدينة حتى اعتذر من كلامه ، فأنزل الله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .
الله أكبر ..هكذا يغضب الرجال ، وينتصر الأبطال لنبي الله ، إنه لم يجامل والده ، ولم يداهنه من أجل قرابته ، ولم يتنازل عن الدفاع عن رسول الله من أجل مصالحه .. إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب .. يقول حسان بن ثابت:
هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه ... ... وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولست له بكفءٍ ... ... فشرُكما لخيرِكما الفداءُ
هجوت مباركاً براً حنيفاً ... ... أمينَ الله شيمتُه الوفاءُ
أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ... ... ويمدحُه وينصرُه سواءُ ؟
فإن أبي ووالدَه وعرضي ... ... لعرضِ محمدٍ منكم وقاءُ
وإن مما يخفف المصاب ، ويسر كل غيور ، ما قامت به الجالية المسلمة في الدنمارك من استنكار الحدث والمطالبة باتخاذ إجراءات صارمة بحق تلك الصحيفة ، كما لا ننسى موقفَ بعض سفراء الدول العربية والإسلامية هناك ، وموقفَ العديد من المنظمات الإسلامية كمنظمة المؤتمر الإسلامي والتي أصدرت بياناً بمقاطعة المشروع الثقافي "صور من الشرق الأوسط" والذي سيقيمه المركز الدانمركي للثقافة والتطوير ، وتموله جزئيا الحكومة الدانمركية .(21/10)
كما أصدر مجمع الفقه الإسلامي بجدة بياناً يرد فيه على الرسومات التي نشرت في الصحيفتين الدنماركية والنرويجية.
وصرّح المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة أن الدانمارك اذا استمرت في تجاهلها لمشاعر الملايين من المسلمين فإن المنظمة ستحث الدول الإسلامية الأعضاء بها على ضرورة قطع علاقتها الاقتصادية والسياسية مع الدانمارك، وكشف عن أنه سيتم رفعُ دعوى ضد الصحيفة.
أما على مستوى الأفراد ، فقد قام الكثير من محبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتواصي بالحق والتذكيرِ بهذه القضية من خلال المجالس وعبر رسائل الجوال ، والتعريفِ ببضائع تلك الدولة ومقاطعتِها .. وأنشأ بعض الأخيار مواقع على شبكة الإنترنت للدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يزال الخير في أمة محمد ومحبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والباب مفتوح لكل مسلم يستطيع أن يبعث استنكاره باللغة الإنجليزية لتلك الجريدة أو الجهات المسؤولة في تلك الدولة لوقف مثل هذه الأعمال ، والاعتذار منها علناً ، ومنع تكرارها .
هذا ، ولا يزال المسلمون ينتظرون مواقفَ رسميةً حازمةً من الدول العربية والإسلامية ، حماية لجناب المصطفى الشريف ومقامه الرفيع ، بآبائنا هو وأمهاتنا - صلى الله عليه وسلم - .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
الله انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين .
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في الجنة .(21/11)
خطبة ( التفحيط والتهور بالسيارة )
الحمد لله الذي خلق فسوى .. وقدر فهدى .. وأمات وأحيا .. وأغنى وأقنى .. الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .
والصلاة والسلام على عبده المصطفى .. ورسوله المجتبى .. وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى .. أما بعد.
السيارة نعمة من نعم الله ، وأي نعمة .. فكم قضت من حاجة .. وكم أسعفت من مريض .. وكم أغاثت من ملهوف .. ناهيك عن الطاعات والقربات من سير إلى المساجد .. أو حج وعمرة .. أو بر والدين .. أو صلة رحم .. أو عيادة مريض .
ولقد أشار الله إلى هذه النعمة المتجددة .. أعني نعمة وسائل النقل .. قبل ألف وأربعمائة سنة فقال سبحانه كما في سورة النحل ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم . والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون ) .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله : " ويخلق ما لا تعلمون مما يكون بعد نزول القرآن ، من الأشياء التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو ، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم " انتهى كلامه .
إنها نعمة عظيمة .. تستوجب شكرَ المنعم سبحانه .. وتسخيرَها فيما يحبه ويرضاه .
لكننا في هذا الزمان رأينا والله .. كيف يحوّل بعض الناس هذه النعمة إلى نقمة .. ورأينا الشباب .. وبالأرواح يغامرون .. وبالأبرياء يضحون .. وللأموال يبددون .
وقد ازدادت الحوادث المروية في المملكة خلال عشر سنوات فقط بنسبة أربعمائة بالمائة .. وخلال ثلاث وعشرين سنة بلغ عدد المصابين في حوادث المرور بالمملكة أكثرَ من نصف مليون مصاب .. توفي منهم ستون ألفَ إنسان .
وتتحدث الإحصائيات عن أكثرَ من أربعةُ آلاف ومائتي حالة وفاة سنوياً بالمملكة .. وألف ومئتي إعاقةٍ دائمة .. وثمانية آلاف إعاقةٍ مؤقتةٍ سنوياً .
إنها أرقام مخيفة .. يقف وراءها ظواهر سيئة كالسرعة وقطع الإشارة والتفحيط وغيرها .(22/1)
وإذا تحدثنا عن ظاهرة التفحيط والتهور بالسيارة .. فإننا نتحدث عن ظاهرة مرعبة .. لكنها عند بعض شبابنا مجرد لعبة .
شاب متهور .. يقوم بحركات قاتلة .. يصوب سيارته إلى مجموعة من الجماهير .. التي اصطفت يميناً وشمالاً .
وهناك مواقف وأوقات تزداد فيها ظاهرة التفحيط .. كالمباريات .. والتجمعات .. وأوقات الامتحانات .. حيث ينتشر الطلاب بعد الامتحان ما بين مفحط ومتفرج .
لقد فتن كثير من شبابنا بهذه الظاهرة .. فأصبحوا وللأسف يتفننون في أنواع الحركات المميتة .. من تربيع وتخميس .. وسلسلة واستفهام .. بل وحركة الموت التي يأتي فيها المتحدي من جهته بأقصى سرعة ، ثم يقابل المتحدي الآخر وجهاً لوجه .. والجبان هو من ينحرف عن الآخر .
وقد يكون كل منهما شجاعاً فتقع الكارثة .. كما ذكر لي أحد المسؤولين في المرور ، وقال : كان آخر ضحايا هذه الحركة شابين .. توفي أحدهما في الحال .. ونقل الآخر إلى الإنعاش .
أيها الأحبة .. للتفحيط والتهور آثارٌ وأضرارٌ خطيرة على الشاب والأسرة والمجتمع ، أول هذه الأضرار: قتل النفس .. الموت وكفى به ضرراً .
فالمفحط وهو يقوم بهذه اللعبة .. يغامر بروحِه التي يحيا بها ..وحواسِّه التي يشعر بها ..وأطرافِه التي يتحرك بها .
ظاهرة التفحيط .. كم أزهقت من روح .. وكم فجرت من جروح ..إنها مسرحية الانتحار .. فكيف يرضى العاقل أن يقتل نفسه .. أو يَشُلَّ جسده .(22/2)
وفي زيارة لمستشفى النقاهة .. وقفت على شابين من ضحايا التفحيط ، مصابين بالشلل النصفي .. أدخل الغرفة .. فإذا بالمنظر المؤلم .. على السرير الأيمن ، شاب .. عمره يوم أن دخل المستشفى عشرون عاماً .. ثم أمضى بعد الحادث أحد عشر عاماً على السرير .. قد انثنت أطرافه .. وانحرفت رقبته .. وشلت حركته .. فلم يبق له من الحركة سوى نظرةٍ بالعين .. والتفاتةٍ يسيرة بالعنق .. نظر إلي .. فتغيرت ملامح وجهه .. كأنه يريد أن يعبر لي عن شعوره .. لكنه لا يستطيع الكلام .. حاولت أن أتكلم معه .. فعجزت أن أخرج كلمة واحدة .. لم أجد إلا أن أرفع أصبعي إلى السماء .. لعلي أذكره رحمة رب العالمين .. الذي لا يضيع أجر الصابرين .
ثم التفت إلى السرير الآخر .. وإذا بالمصيبة الأخرى .. شاب دخل المستشفى وعمره أربعة وعشرون عاماً .. أمضى في المستشفى بعد الحادث ثماني سنوات .. كان بجوار هذا الشاب أحد الممرضين ، معه وعاء فيه طعام سائل ، وهو يقوم برفع السائل بالملعقة .. فإذا وصلت إلى فم الشاب المسكين حرك شفتيه ليشرب .. ثم ينتظر الملعقة الأخرى .
نقول لكل شاب: هذه أحوالهم .. فإن لم تتعظ وترتدع .. فزرهم .. فليس من رأى كمن سمع .
ومن أضرار التفحيط والتهور بالسيارة التعدي على الآخرين .. بإتلاف أرواحهم .. وتحطيم أبدانهم .. وترويعهم في طرقاتهم .
كم من رجال ونساء .. وأطفال أبرياء .. تحولوا إلى أشلاء بسبب تهور المفحطين .
رأينا شاباً ركب مع أحد المفحطين في أحد شوارع الرياض .. وبدأ التفحيط .. وبسبب السرعة الرهيبة اختل توازن السيارة .. فصارت تزحف على جنبها مسافة طويلة .. ثم اتجهت إلى الرصيف وارتطمت بقوة بالعمود .. وكانت الضربة من جهة الراكب الذي التف عليه الحديد .. فكان يصرخ ويستنجد بالناس .. أغيثوني .. أخرجوني .. ثم بقي شيئاً من الوقت ثم مات .(22/3)
أيها الأحبة .. أعرف امرأة عمرها ما يقارب الثلاثين عاماً .. لا تشعر بمن حولها .. لم يبق لها من الحياة إلا النفس والأكل عبر أنبوبٍ في أنفها ، وفتحةٍ في حلقها .. هي على هذه الحالة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً .. بعد أن سحقتها سيارة أحد المفحطين بعد خروجها من المدرسة وعمرها آنذاك ثلاثة عشر عاماً .
هذا ، وللتفحيط أضرار أخرى ، تتمثل في الخسائر المادية في الممتلكات العامة والخاصة بسبب الحوادث .
كما أن التفحيط مفتاح لجرائم متعددة .. من سرقات .. وأخلاقيات .. ومسكرات ومخدرات .
ما إن يدخل الشاب عالم التفحيط .. إلا ويتعرف على مجموعة من المنحرفين الذين يفتحون له أبواب الشرور.
ومن الأضرار أيضاً : معاناة أسرة المفحط ، فقد تسبب كثير من المفحطين في معاناة آبائهم وأمهاتهم وأفراد أسرتهم .. إما بسبب كونه مطلوباً للجهات الأمنية .. أو بسبب مراقبة المنزل .. أو بسبب الحوادث المترتبة على قيامه بالتفحيط .. أو بسبب السمعة السيئة التي تلحق الأسرة بفعله .
ومنها: اختناق السير وتعطيل الحركة المرورية .. ووجود التجمعات الشبابية التي تكون سبباً في الفوضى ، والتعدي على الناس والممتلكات .
عباد الله .. لا يشك من كان له أدنى رائحة من العلم الشرعي أن التفحيط محرم في الشريعة الإسلامية .. وأن مرتكبه متوعد بالعقوبة جزاء إيذائه إخوانه المسلمين .
قال تعالى ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وأثماً مبيناً )
وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) .
وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد بحرمة التفحيط ، نظراً لما يترتب على ارتكابه من قتلٍ للأنفس وإتلافٍ للأموال وإزعاجٍ للآخرين وتعطيلٍ لحركة السير .(22/4)
عباد الله .. وإذا نظرنا إلى الأسباب والدوافع التي تقف وراء التفحيط والتهور في قيادة السيارة، نجد أن أبرز هذه الأسباب ما يلي:
ضعف الإيمان .. حب الظهور والشهرة .. الفراغ القاتل .. تقليد ومحاكاة رفقة السوء .. ضعف رقابة الأسرة ، وغفلة كثير من الآباء عن أبنائهم ، أو شراء السيارة للصغار منهم.
وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ..... يؤمرون) .
نفعني الله وبكم بهدي كتابه ةسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
أيها الأحبة .. ولنا أن نتساءل بعد هذا ، ما هي أهم الحلول للتصدي لظاهرة التفحيط والتهور في قيادة السيارة؟
لعلي أذكر ببعض الأمور التي يمكن القيام بها لعلاج هذه الظاهرة :
أولاً ) لابد من رفع الوعي بين الشباب .. والتذكير بأضرار هذه الظاهرة .
يا أيها المفحط ، ويا أيها المتهور .. إلى متى وأنت تغامر بروحك وأرواح الآخرين .
ألم تسمع نداء ربك ، وهو ينهاك عن قتل نفسك؟ (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) أيسرك أن تلقى الله وقد قتلت نفسك بهذا الفعل؟.
والمصيبة أن بعض الشباب يموتون في بعض حوادث التفحيط على ترك الصلاة .. يموتون على المعصية .. يموتون على الأغاني المحرمة . نعوذ بالله من سوء الخاتمة .
ثانياً ) في العلاج ، التفحيط ظاهرة جماهيرية في الغالب .. فالشباب المتجمهرون المتفرجون .. عليهم جزء من المسؤولية والإثم فيما يحدث من المآسي بسبب التفحيط .
أخي الشاب .. إنك بتجمهرك تغري المفحط بالاستمرارِ في التفحيط من جهة .. وتعرض نفسك للتلف من جهة أخرى ثالثاً ) على الآباء دور كبير في التصدي لهذه الظاهرة .. في حسنِ تربيتهم .. ومراقبتِهم سلوك أبنائهم .. وعدمِ تمكين الصغار منهم من قيادة السيارة .(22/5)
رابعاً ) على الجهات الأمنية دور كبير في التصدي لهذه الظاهرة .. فوصيتنا إليهم بذل المزيد من الجهود المباركة .. وتكثيف التواجد في الساحات والاجتماعات ..وعدم التساهل في تطبيق العقوبات .
وهم على كل حال بشر ، ليسوا بمعصومين ، وعملهم عرضة للنقص أو الخطأ ، كغيرهم من الموظفين .. لكنهم في الجملة يقومون بأعمال جليلة من أجل سلامتنا وسلامة أبنائنا وأسرنا .. فلا بد أن نقف نتعاون معهم ، ونقف معهم صفاًُ واحداً .
خامساً ) ولمدارسنا دور كبير في التصدي لهذه الظاهرة .. برفع الوعي بين أبنائنا .. ومتابعة وتقويم السلوكيات التي تصدر ممن يقومون بهذه الظاهرة .. والتعاون مع الجهات المختصة للقضاء عليها .
سادساً ) لابد من احتواء أوقات الشباب .. وامتصاص طاقاتهم في النشاطات النافعة ، أو البرامج الترفيهية البريئة .. عبر المراكز والمخيمات والملاعب وغيرها .
نسأل الله أن يصلح الحال ، والله المستعان .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(22/6)
خطبة (حالنا والذنوب وشروط التوبة)
الحمد لله العزيز الوهاب ، غافر الذنب، و قابل التوب، شديد العقاب .. بفضله يفتح للمستغفرين الأبواب .. وبرحمته ييسر للتائبين الأسباب .. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .. أسئلة كثيرة يدلي بها الكثير من الناس أوالشباب: أنا لا أصلي ، أنا مدمن ، أنا عندي بعض المنكرات: فواحش، سماع محرم ، نظر محرم .. قد أثقلتني الذنوب ، فكيف أتوب؟
حال هؤلاء ، كالغريق ينتظر من يأخذ بيده، وكالتائه يبحث عن طريقه ، ويلتمس بصيصاً من أمل، وشعاعاً من نور.
وكلنا كذلك ، فإن التوبةَ فريضةُ كلِ مسلم ، لا يخاطب بها أصحاب الكبائر والموبقات ، تاركو الصلوات ، متعاطو الجرائم والفواحش والمخدرات، بل الصالحون والمهتدون مطالبون دائماً بتجديد التوبة إلى الله .
فقد خاطب الله تعالى بها الصحابة في المدينة ، بعد تضحياتهم ، وهجرتهم في الله ، وجهادهم في سبيل الله، فقال: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
وهاهو إمام التائبين وسيد المستغفرين - صلى الله عليه وسلم - ، يقول كما في صحيح مسلم عن الأغر بن يسار - رضي الله عنه -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة" .
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني .
عباد الله .. كلنا مذنبون مخطئون.. نقبل على الله تارة ، وندبر أخرى، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :{كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} رواه الترمذي ، وحسنه الألباني .(23/1)
حياتنا كلها تدور على مقاومةِ الذنوب ومدافعتِها، ولو لم نكن كذلك لذهب الله بنا وأتى بغيرنا ليذنبوا فيغفرَ لهم .
إذن ، الفرق بين الناس ، ليس في السلامة من الذنوب ، بل في حالهم وتعاملهم معها .
والذنوب كالأمراض ، منها المرض العارض ، ومنها الشديد ، ومنها المزمن الذي يحتاج لعلاج قوي .
ومن المهم أن يشخص الإنسان حالته، ويضع المشكلة في حجمها الحقيقي حتى يعرف علاجها .
وقد ذكر ابن القيم أربع مراتب للناس مع الذنوب:
1- المرتبة الأولى) مرتبة الخوف والحزن بعد المعصية:
بحيث أن العبد بمجرد أن يذنب ، ينتفض قلبه ، وينظر إلى ما كان من انخلاعه عن الإعتصام بالله حين إيتان الذنب ، كيف أن الله خذله ، وخلى بينه وبين نفسه ، ومنع عصمته عنه ، مع تيقنه نظر ربه إليه ، واطلاعه عليه .
صاحب هذه المرتبة قريب من الرجوع والنجاة .
ومن ذلك ما وقع لبعض الصحابة .. في صحيح مسلم عن أبي أمامة قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ مرة أخرى فَسَكَتَ عَنْهُ ، ثم َأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحِقَ به الرَّجُلُ فأعاد عليه ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . َقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ.
2- المرتبة الثانية : مرتبة الفرح بالذنب :(23/2)
فإنه متى تكرر الذنب ، واشتدت الغفلة ، تحول خوف العاصي وحزنه إلى فرح عند ظفره بشهوته المحرمة ، وهذا الفرح دليل على شدة الرغبة في المعصية ، والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها ، والجهل بقدر من عصاه سبحانه .
ومن كان كذلك ، فليتهم إيمانه ، ولبيك على موت قلبه ، وليحذر من أن يوافي ربه على ذلك .
3- المرتبة الثالثة : مرتبة الإصرار على الذنب :
فإن تكرار الذنب يقود العاصي ولا بد إلى الإصرار ، والإصرار على المعصية ذنب عظيم ، لعله أعظم من الذنب الأول بكثير . ولهذا قيل: لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
4- المرتبة الرابعة : مرتبة المجاهرة وإشاعة المعصية:
وهذه المرتبة من أخطر المراتب ، وصاحبها متوعد بعدم المعافاة ، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( كل أمتي معافى إلا المجاهرين) .
كيف يجاهر بالذنب ، وهو يتيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه ، فإن آمن بنظره إليه ، وأقدم على المجاهرة فهو قلة حياء مع الله . وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه ، فذلك كفر ، وانسلاخ من الإسلام بالكلية .
ولهذا كان المجاهر دائر بين الأمرين : بين قلة الحياء ، وبين الكفر والانسلاخ من الدين عياذاً بالله .
وقد روى مالكٌ مرسلاً ووصله الحاكم وصححه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع والحاكم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله).
عباد الله .. التوبة عبادة عظيمة لا تكون صحيحة مقبولة ، إلا بالقيام بحقيقتها وتحقيق شروطها .
وللتوبة شروط لا بد منها حتى تكون صحيحة مقبولة، والمشهور عند أهل العلم أربعة شروط:(23/3)
شرط حالي وهو الإقلاع عن المعصية: فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة. أما إن عاود الذنب بعد التوبة الصحيحة، فلا تبطل توبته المتقدمة، ولكنه يحتاج الى توبة جديدة وهكذا.
شرط ماضي وهو الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي: ولا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي، لذا لا يعد نادماً من يتحدث بمعاصيه السابقة ويفتخر بذلك ويتباهى بها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : {الندم توبة} . رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني . يعني الندم على المعصية خوفاً من الله ، وليس ندماً على ما أنفق من الأموال أو ما أصابه من الأمراض بسبب المعصية.
والله سبحانه يحب من عبده الندم وانكسار القلب والتملق .
فإذا وقعت في الذنب فانكسر لربك واندم ، وقل: يارب : لم يكن مني ما كان عن استهانة بحقك ، ولا جهلاً به ، ولا إنكاراً لاطلاعك ، ولا استهانة بوعيدك ؛ وإنما كان من غلبة الهوى ، وطمعاً في مغفرتك ، واتكالاً على عفوك ، وحسنَ ظن بك ، ورجاءً لكرمك ، وطمعاً في سعة حلمك ورحمتك ، وغرني بك الغرور ، والنفس الأمارة بالسوء ، وسترك المرخي علي ، وأعانني جهلي ، ولا سبيل إلى الاعتصام لي إلا بك ، اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ... وهكذا من الدعوات الطيبات .
شرط مستقبل وهو العزم على عدم العودة: فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع الى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل .
ردّ المظالم إلى أهلها: فإن كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين وجب عليه أن يرد الحقوق إلى أصحابها ؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : {من كانت عنده مظلمة لأحد من عرض أو شئ فليتحلله منه اليوم ، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه} رواه البخاري .(23/4)
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وبسنة سيد المرسلين ، ورزقنا توبة نصوحاً قبل الموت ، إنه جواد كريم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين ، وغافر ذنب المستغفرين ، وجابر كسر المنكسرين .. وصلى الله وسلم على سيد المتقين ، وإمام المستغفرين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
عباد الله .. وحتى تكون التوبة صحيحة مقبولة ، لا بد أن يتحقق فيها شرطان آخران ، يضافان لشروط التوبة الأربعة المتقدمة :
1- الأول: الإخلاص لله تعالى: فيكون الباعث على التوبة حب الله وتعظيمه ورجاؤه ، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تقرباً الى مخلوق، ولا قصداً في عرض من أعراض الدنيا الزائلة، ولهذا قال سبحانه: (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين) .
وإذا أخلص العبد لربه وصدق في طلب التوبة أعانه الله وأمده بالقوة، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصده عن التوبة.. ومن لم يكن مخلصاً لله لم يوفق للتوبة ، وإن وفق لها في أول الأمر فإنه سرعان ما ينتكس .
قال ابن تيمية: " فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قَطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذّ، ولا أمتع، ولا أطيب .
قال الله تعالى في حق يوسف :(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ، فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله" الخ كلامه رحمه الله .
2- الثاني: أن تصدر التوبة في زمن قبولها: وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها، ففي حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} رواه أحمد والترمذي بسند حسن .(23/5)
وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} رواه مسلم .
سبحان الله .. الله العظيم الغني عنك ، يدعوك أيها العبد المسكين ، بالليل والنهار ، لا يريد أن تتأخر عنه ، فبادر بالتوبة ، بادر قبل فوات الأوان .. ولا تكن ممن يسوّفون التوبة ، ويقول قائلهم: دعونا نتمتع بالحياة ، وعندما نبلغ سن كذا نتوب ، وهذه والله حيلة من حيل الشيطان .
فالحذر الحذر من التسويف وطول الأمل ، فإن طول الأمل يفسد العمل .
وختاماً .. هل هناك وسائلُ وخطواتٌ عملية ، تعيننا على التوبة إلى الله والرجوع إليه؟
نعم ، هناك وسائلُ عديدةٌ ومفيدة ، نقف على شيء منها في خطبة قادمة بإذن الله تعالى .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً خالصة لوجهك الكريم .. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين .(23/6)
خطبة ( وسائل عملية للتوبة )
أما بعد .. عباد الله .. كيف نتوب إلى الله؟
تقدم في الجمعة الماضية الكلام على مقام التوبة ، وبيان حالنا مع الذنوب ، وذكر شروط التوبة .
وها نحن اليوم نكمل الكلام بذكر بعض الطرق والوسائل العملية التي تعيننا على التخلص من الذنوب ، وتحقيق التوبة إلى الله . الوسيلة الأولى:
تعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته :
وهذا الامر هو روح التوحيد والإيمان ، أن تعرف الله بأسمائه وصفاته لا معرفة نظرية فقط ، بل معرفة قلب خاشع محب معظم لربه جل وعلا ، وهيه المعرفة لها عدة مشاهد يشهدها القلب ، اكتفي بذكر ثلاثة مشاهد منها:
الأول) مشهد الإطلاع والإجلال: وهو إجلال الله تبارك وتعالى أن تعصيه وهو يراك ويسمعك .
فتستشعر عظمة الله ورقابته .. وتستحي من الملائكة الذين سخرهم الله لحفظك؛ وتستحيي من الملكين الذين لا يفارقانك ، يسجلان طاعاتك ومعاصيك .
الثاني) مشهد المحبة: فإذا كنت تحب الله فلا تعصه ، فإن المحب لمن يحب مطيع .
الثالث) مشهد الغضب: وهو شهود غضب الله وانتقامه ، فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب واذا غضب لم يقم لغضبه شيء فضلا عن هذا العبد الضعيف 0
وتأمل ما أعده الله من أنواع العذاب في القبر والقيامة والنار ، كيف أن الله يعذّب الزاني ، وشاربَ الخمر والمخدرات ، وآكلَ الربا ، والنمام ، وغيرَهم .
العلم : فإن الإنسان إنما يقع في الذنب لأحد أمرين: الجهل أو الهوى .
وشفاء الجاهل العلم النافع الذي يرسخ في القلب فيثمر العمل الصالح .
يدخل في العلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته كما تقدم ، ويدخل فيه العلم بشؤم المعصية .
ويدخل فيه أيضاً العلم بفضل التوبة ، وأنها سبب محبة الله للعيد وفرحه به ، ودخوله جنته .
جاهد نفسك ، واصبر عن المعصية .
فإن قلت كما يقول بعض الشباب: صعب ، لا أستطيع ، أنا تعودت على هذا الشي .(24/1)
فأقول لك: لا بد أن تصبر، وتذكر أن الصبر في الدنيا أهون من العذاب في الآخرة .
استشعار ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة وما يحدث له بها من كل اسم مذموم:
ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان الذى أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن) .
قال بعض الصحابة: ينزع منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة فإن تاب رجع اليه .
استشعار العوض : وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) .
تدبر القرآن والعمل به : فإن القرآن روح القلوب ، وهو شفاؤها من جميع الشهوات والشبهات .
سد جميع الطرق التي توقعك في المنكر ، كالرفقة ، أو الوحدة ، أو المجلات السيئة، أو الأفلام الخليعة ، أو الفضائيات الخبيثة ، أو الدخول إلى الانترنت ، وغيرها من وسائل وطرق المنكر .
أيها الأحبة .. كلنا ضعفاء أمام الشهوات إلا من عصم الله تعالى، ولكن مشكلة الكثير منا: أنه يترك الفريسة بجوار الوحش، ويسكب الوقود على النار؛ ثم يصرخ مستغيثا أدركوني أغيثوني!!
البيئة الصالحة المعينة ، فالمرء ضعيف بنفسه ، قوي بإخوانه .. ولهذا أرشد العالم قاتل المائة في الحديث الصحيح أن يترك بلده ويسافر إلى بلد آخر فيه قوم يعبدون الله تعالى.
فنقول: فر من رفيق السوء ، غيّر رقم هاتفك، وغيّر منزلك إن استطعت، بل غيّر الطريق الذي كنت تمر منه .
استحضار نعم الله تعالى .. وكم لله علينا من نعمة ، (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أمن في الأوطان ، وصحة في الأبدان ، وأنس بالأهل والولدان ، وأطعمة متعددة ، وأشربة متنوعة . نسأل الله شكر نعمته .
إخوتي في الله .. من منا زار المستشفيات ، وفكر في أهل البلاء والشقاء .(24/2)
كم منا ممن يتمتع بالصحة ، ويرفل في ثياب العافية ، وهو مقيم على معصية الله تعالى .
عبد الله .. كيف تعصي الله وإحسانه إليك على مدى الأنفاس ، أعطاك السمع والبصر والفؤاد ، وأرسل إليك رسوله ، وأنزل إليك كتابه ، وأعانك بمدد من جنده الكرام ، يثبتوك ويحرسونك ويحاربون عدوك ، ويطردونه عنك ، وأنت تأبى إلا مظاهرته عليهم ، وموالاته دونهم .
أمرك الله بشكره ، لا لحاجته إليك ، ولكن لتنال به المزيد من فضله ، فجعلت كفر نعمه والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنك .
دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته ، ثم فتحه لك فما ولجته !
أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته ، فعصيت الرسول .
ومع هذا فلم يؤيسك من رحمته ، بل قال : متى جئتني قبلتك ، إن أتيتني ليلاً ، قبلتك ، وإن أتيتني نهاراً قبلتك, ومن أعظم مني جوداً وكرماً؟ .. عبادي يبارزونني بالعظائم ، وأنا أكلؤكم على فرشهم ، إني والجن والانس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غير ، وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي ، وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي ، وهم أفقر شيء إلي .
اتباع السيئة بالحسنة .. كما قال تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) .
إن فعل المحرمات لا يسوغ ترك الطاعات .
ولهذا نقول: متى ما ابتلاك الشيطان بشيء من السيئات ، فادمغه بسيل من الحسنات ، من الصلاة والدعاء والذكر والصدقة وغيرها من الأعمال ، (إن الحسنات يذهبن السيئات) .
وتأملوا أحبتي في الله في قصة هذه المرأة ، والتي جاءت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" بينما كلب يُطيف برَكيَّة (أي بئر) كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها (أي خفها) واستقت له به، فسقته إياه، فَغُفر لها به " .(24/3)
انظروا يا إخواني ، ما الذي قام بقلب هذه المرأة الزانية ، من الرحمة ، مع عدم الآلة التي تسقي بها الماء، وعدم وجود المعين على السقي، وعدم وجود من ترائيه بعملها ، فغَرَّرَت المرأة الضعيفة بنفسها في نزول البئر، وملأت الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضه للتلف، ثم حملت الخف بفمها وهو ملآن ، ثم تواضعت لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً .
قال ابن القيم: فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فَغُفر لها .
وقد روى الترمذي والنسائي بسند حسن قصة أبي اليَسَر كعبِ بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه وأصل القصة في الصحيحين .(24/4)
كان هذا الصحابي يبيع التمر في المدينة ، فجاءته امرأة حسناء جميلة تشتري منه التمر ، وكان زوجها قد خرج غازياً في سبيل الله ، فوسوس له الشيطان وزين له الوقوع بالمرأة ، فقال لها: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ . فدخلت معه في البيت ، فأخذ يقبلها ، ويباشرها دون أن يصل إلى الجماع .نعم لقد وقع هذا الصحابي في هذه المعصية في موطن من مواطن الضعف ، فما الذي حدث؟ضاقت به الدنيا ، وعظم به الأمر ، فذهب أولاً إلى أَبي بَكْرٍ ، وأخبره بما وقع له ، فقال أبو بكر: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا ، لكن أبا اليسر لم يصبر ، فذهب إلى عمر ، فقال له عمر: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا ، لكنه لم يصبر حتى أتى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَر ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ: أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا؟ .في هذه اللحظة ، تقطع قلب أبي اليسر ، حَتَّى إنه تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ ، بل إنه ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . ثم أَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَوِيلًا ، وأنزل رأسه إلى صدره ، حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ (وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) .. قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على أبي اليسر ، ففرح بها فرحاً شديداً .. ثم قَالَ بعض الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية(24/5)
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .
عباد الله . الوسيلة الحادية عشرة
تذكر الموت ، والموت يأتي بغتة .. الخوف من سوء الخاتمة .. تذكر أنك قد تؤخر التوبة فتموت وأنت على المعصية ، فتبعث على رؤوس الخلائق، وأنت على تلك المعصية .
فسارع أخي الحبيب إلى التوبة، وتب قبل أن يعاجلك الموت فلا تجد مهلة للتوبة .
اجلس يا أخي مع نفسك ، وتفكر في حالك ، وقل: يا نفس توبي قبل أن تموتي ؛ أما تعلمين أن الموتَ موعدك؟! والقبرَ بيتك؟ والترابَ فراشك؟ والدودَ أنيسك؟ .. أما تخافين أن يأتيك ملك الموت وأنت على المعصية قائمة؟
زيارة القبور . كما هي سنته - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكركم الآخرة ) ، فإذا تسلط عليك الشيطان ، وهاجت نفسك الأمارة بالسوء ، فافزع إلى المقابر ، وقف بتلك المنازل ، وتذكر أنك يوما ستسكن في تلك القبور. وستكون وحدك؛ لا أحد معك سوى عملك؛ فإما أن يكون عملا صالحا يؤنسك وينير قبرك، فيكون روضة من رياض الجنة؛ وإما أن يكون عملا سيئا ، تشتد معه ظلمة قبرك ، ويضيق عليك ، ويكون حفرة من حفر النار.
تذكر القيامة وأهوال الآخرة . كما جاء في القرآن ، وفي السنة الصحيحة ، وهو مبسوط في كتب الرقائق والمحاضرات الوعظية .
الدعاء والانكسار بين يدي الله .. ولو كنت باقٍ على المعصية ، ولو عظمت منك الذنوب .
فقد ثبت عند الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي ، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) .(24/6)
إذا تبت ثم رجعت فلا تيأس ، لا تترك التوبة أبداً ، لا تقل إني تبت ثم رجعت فلا أمل في التوبة ، بل تب ولو رجعت للذنب مراراً ، حتى يكون الشيطان هو المدحور .
ومع هذا فإني أحذرك وأخاف عليك من العودة إلى الذنب ، فإنك لا تأمن أن يسبقك الأجل ، وينزل بك الموت قبل أن تتوب ، ولا تأمن أيضاً أن تدمن الذنب ، فيُطبع على قلبه ، فلا ينبعث للتوبة .
عباد الله .. التوبة سفينة النجاة ، هي سفينة نوح ومن بعده من الرسل ، وكلما دنت السفينة من المذنبين ناداهم الربان: "ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" .. فمن ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق .
نسأل الله تعالى أن يعجل بتوباتنا قبل مماتنا ، ونسأله أن يمن علينا بتوبة نصوحك خالصة لوجهه الكريم .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(24/7)
خطبة ( معرفة الله بالتوحيد )
أما بعد . فهذه هي الخطبة الأولى التي تقام في هذا الجامع غفر الله لبانيه ، ومن أسهم في بنائه أو القيام عليه .
ووالله لا أجد أمراً أستفتح به هذه الخطبة الأولى أعظمَ من الفريضة الأولى .
إنها أول الفرائض ، وأهم الواجبات ، وأعظم الحقوق ، كيف لا وهي حق الله تعالى على عباده .
هذه الفريضة هي معرفة الله .. معرفة الله بالتوحيد .
توحيد الله هو أول الأمر وآخره .
هو أول الأمر ، لأن الله تعالى لا يقبل من عبد صرفاً ولا عدلاً حتى يحقق التوحيد ، وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن :"فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله" وفي رواية :"إلا أن يوحدوا الله" .
والتوحيد آخر الأمر كما في حديث معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من كان آخرُ كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" أبوداود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني .
توحيد الله هو دين الرسل ، من أولهم وهو نوح عليه السلام ، إلى آخرهم وخاتَمهم وهو محمد .
قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) .
وما هو التوحيد؟ إذا أردنا معرفة التوحيد باختصار ، فالتوحيد نوعان : توحيد علمي ، وتوحيد عملي .
أما التوحيد العلمي فيشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
وملخص توحيد الربوبية : إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والملك والتدبير وغيرِ ذلك من أفعاله سبحانه .
وأدلة هذا التوحيد في هذا الكون لا تعد ولا تحصى ، في الآفاق من حولنا ، وفي أنفسنا وذواتنا .
(وفي الأرض آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون).(25/1)
فالله تعالى هو الرب الخلاق ، الملك الرزاق .. خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وفطر السماوات والأرض ، وسخر الشمس والقمر ، وجعل الظلمات والنور ، وهو الذي يرسل الرياح ، ويُنْزِل المطر ، ويخرج النبات ، ويدبر الأمر ويفصل الآيات (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين).
ومن تأمّل هذه الآياتِ ، امتلأ قلبه إجلالاً وتعظيماً لله سبحانه .. فأعرف النّاس بالله هو أشدّهم له تعظيمًا وإجلالاً: فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
وأما توحيد الأسماء والصفات فملخصه : إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات إثباتاً يليق بجلال الله تعالى ، دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
وهذا التوحيد أعني توحيدَ الأسماء والصفات هو روح الإيمان ، فإنه متى ما عرف العبد أسماء الله وصفاتِه ، وعلم ما تدل عليه من المعاني العظيمة ، وتعبد الله بهذه الأسماء والصفات ، ودعاه بها ؛ انفتح لقلبه باب التوحيد الخالص والإيمان الكامل .
أخي : هل عرفنا الله؟ هل ذكرناه بقلوبنا قبل أن نذكره بألسنتا؟ .
إنه الله الذي لا إله إلا هو .. المتوحد بالجلال بكمال الجمال .. المتفرد بتصريف الأمور على التفصيل والإجمال .
إنه الله العليم الذي أحاط علمه بجميع المعلومات .. وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، عالم الغيب والشهادة ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، إن ذلك على الله يسير .
العزيز الذي لا مغالب له ، الجبار الذي له الجبروت والعظمة ، المتكبر الذي لا ينبغي الكبرياء إلا له .
القهار الذي قصم بسلطان قهره كلَّ مخلوق وقهره .(25/2)
الغفار الذي لو أتاه العبد بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيه لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة .
إنه الله الحليم ، الذي لا يعاجل أهل معصيته بالعقاب ، بل يعافيهم ويمهلهم ليتوبوا فيتوب عليهم إنه هو التواب .
إنه الله الكريم ، الذي لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد فسألوه ، فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر .. يقابل الإساءة بالإحسان ، والذنب بالغفران ، ويقبل التوبة ويعفو عن التقصير .
إنه الله المجيب لدعوة الداعي إذا دعاه ، في أي مكان كان ، وفي أي زمان ، لا يشغله سمع عن سمع ، ولا تختلف عليه المطالب ، ولا تشتبه عليه الأصوات ، فيكشف الغم ، ويذهب الهم ، ويفرج الكرب ، ويستر العيب .
إنه الله الجليل الأكبر الخالق الباريء والمصور
باري البرايا منشيء الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق
الأول المبدي بلا ابتداء والآخر الباقي بلا انتهاء
الأحد الفرد القدير الأزلي الصمد البر المهيمن العلي
علوَّ قهر وعلوَّ الشان جل عن الأضداد والأعوان
كذا له العلو اوالفوقية على عباده بلا كيفية
ومع ذا مطلع إليهمو بعلمه مهيمن عليهم
وهو الذي يرى دبيب الذر في الظلمات فوق صم الصخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي
عباد الله .. إن معرفة الله بجلاله وعظمته توصل العبد إلى درجة الإحسان ، وتورث القلب الشعورَ الحيّ بمعيّته سبحانه.
ها هو رسول الله عندما لجأ هو وصاحبه إلى الغار, واقترب الأعداء منهم حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى, قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أنّ أحدَهم نظر إلى قدميه لرآنا، فيردّ عليه رسول الله بكلّ ثِقة وإيمان : (( يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين ، الله ثالثهما؟!)) .(25/3)
ومِن قبله يقِف موسى وجنودُه عند شاطئ البَحر فيقول قوم موسى : إنّ فرعونَ من ورائنا والبحرَ من أمامنا, فأين الخلاص؟! (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ، فيردّ نبيّ الله موسى عليه السلام باستشعارٍ لعظمة الله وثِقة كاملةٍ بموعود الله: كلا ، إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ) ،فكان بعدَها النّصر والتّمكين .
أما النوع الثاني من التوحيد وهو التوحيد العملي ، فالمراد به توحيد الألوهية ، أي العبادة .
وعنوان هذا التوحيد : تلك الكلمة العظيمة التي قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وأرسلت بها الرسل وأنزلت الكتب ، ونصبت الموازين ، ووضعت الدواوين ، وقام بها سوق الجنة والنار ، وانقسمت بها الخليقة إلى مؤمنين وكفار ، وأبرار وفجار .
تلكم الكلمة هي كلمة التوحيد : لا إله إلا الله .
ركن الدين وأساسه ، وأصل الأمر ورأسه . أفضل الحسنات وأجلُّ القربات .
هي العروة الوثقى ، وكلمة التقوى .. لو وُزنت لا إله إلا الله بالسماوات والأرض لرجحت بهن عند الله ، ففي المسند بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي أنه قال: ((إن نوحاً قال لابنه: آمرُك بـ"لا إله إلا الله" فإن السماواتِ السبعَ والأرضين لو وضعت في كفة ، ووضعت "لا إله إلا الله" في كفة لرجحت بهن "لا إله إلا الله"، ولو أن السماواتِ السبعَ كنَّ حلقة مبهمة لقصمتهنَّ "لا إله إلا الله")) (1).
__________
(1) أخرجه أحمد (2/169)، وكذا البخاري في الأدب المفرد (548) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (154)، وقال الهيثمي في المجمع (4/219-220): "رواه أحمد ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في الصحيحة (134).(25/4)
(لا إله إلا الله) تخرق الحجبَ حتى تصل إلى الله جل وعلا، ليس بينها وبينه حجاب ، ففي الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصاً ، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضيَ إلى العرش ما اجتُنبت الكبائر))(1).
وهي مفتاح الجنة ، ففي الصحيحين من حديث عِتبان أن النبي قال: ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) .
أخوة الإيمان .. وهل المراد بهذه الكلمة العظيمة التلفظ بها فقط؟
لا .. قيل لوهب بن منبِّه رحمه الله: أليس مفتاح الجنة "لا إله إلا الله"؟! قال: "بلى، لكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيتَ بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يفتح ".
ولما قيل للحسن البصري رحمه الله : إن ناساً يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة!! قال: "من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة" .
وفي أحد الأيام التقى الحسن رحمه الله بالفرزدق الشاعر المعروف وهو يدفن امرأته ، فقال له الحسن: "ما أعددت لهذا اليوم؟" قال الفرزدق: شهادةَ أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: "نِعم العدّة، لكن لـ"لا إله إلا الله" شروط، فإياك وقذفَ المحصنات .
إذن .. كيف نؤدي حق هذه الكلمة؟
اعلم أيها المبارك أنك عندما تقول : (لا إله إلا الله) ، فإنك تقصد أمرين عظيمين :
الأولُ: ضبطُ الاعتقاد ، فتعتقد بقلبك أنه لا معبود بحق إلا الله ، وتصحح اعتقادك وفكرك بناء على هذه القاعدة .
الثاني: ضبطُ العمل والسلوك بما يقتضيه التوحيد .
ولهذا ، يذكر أهل العلم لكلمة لا إله إلا الله سبعةَ شروط وردت في النصوص الشرعية .
وبشروط سبعة قد قيدت ... وفي نصوص الوحي حقا وردت
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات (5390)، وكذا النسائي في عمل اليوم والليلة (833) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5648).(25/5)
فإنه لم ينتفع قائلها بالنطق إلا حيث يستكملها
العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه
فأول الشروط: العلم المنافي للجهل ، العلم بمعنى لا إله إلا الله ، وهو: لا معبود بحق إلا الله . والثاني: اليقين المنافي للشك، والثالث: الإخلاص المنافي للشرك، والرابع: الصدق المنافي للكذب، والخامس: القبول المنافي للرد، والسادس: الانقياد المنافي للترك، والسابع: المحبة المنافية للبغض .
وباجتماع هذه الشروط يستقيم القلب ، ويتعلق بربه ، مؤتمراً بأوامره، منتهياً عن نواهيه، واقفاً عند حدوده ، فلا استنصارَ إلا بالله، ولا توكلَ إلا على الله، و لا رغبةَ ولا رهبةَ، ولا خوفَ و لا رجاءَ إلا بالله ومن الله .
قال الإمام ابن القيم:"وليس التوحيدُ مجردَ إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله ، وأن الله رب كل شيء ومليكه ، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون !! بل التوحيد يتضمن من محبة الله ، والخضوع له ، والذل له ، وكمال الانقياد لطاعته ، وإخلاص العبادة له ، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال ، والمنع والعطاء ، والحب والبغض ؛ ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها" اهـ .
أيها المؤمنون .. من حقق التوحيد كان الله تعالى أعظم شيء في قلبه ، وكلُ شيء دون الله هباء، فلا تروعه سطوة قوي، ولا تخدعه ثروة غني .. لأنهم لا شيء أمام قدرة الله .
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلنا الله وإياكم ممن حقق التوحيد ، إنه على كل شيء شهيد .
... ... الخطبة الثانية(25/6)
الحمد لله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
إخوة الإيمان .. إذا كان هذا هو شأن التوحيد ، فإنه يحق لعين الموحد أن تدمع ، ولفؤاده أن يتفطر ، وهو يرى فئاماً من أبناء هذه الأمة يقعون في أنواع شتى من الشرك المنافي للتوحيد أو كماله .
ففي بعض البلدان الإسلامية فئام من الناس ، قد تعلقوا بأصحاب القبور، والتجؤوا إليهم، وتضرعوا أمام أعتابهم، فقبلوها وتمسحوا بها، وطافوا بها ، وأوقفوا الأموال الطائلة عليها ، واستغاثوا بأهلها في الشدائد والكروب .
وإذا أنكرت على هؤلاء قاموا عليك ، واتهموك بأنك تتنقص الأنبياء ، ولا تحب الأولياء .
سبحان الله .. وهل كان شرك الأولين ، قومِ نوح ومن بعدهم إلا بدعاء الأولياء والتعلق بهم من دون الله؟.
ومما يهدم التوحيد في النفوس ما يقع في بعض الكتابات أو البرامج من الطعن في الدين وأحكامه ، والاستهزاء بالله وكتابه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال الله (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) .
ثم انظر إلى من فتنوا بالسحرة الدجالين ، والمشعوذين الأفاكين ، الذين تطاولوا على الغيب فيما يسمى بمجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان ، أو معرفة الأبراج.
وقد قال رسول الله : ((من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [رواه الأربعة والحاكم] .
ثم انظر إلى ما يقع فيه بعض المسلمين من تعليق التمائم والحروز، يعلقونها على أجسادهم وعلى عيالهم ، بدعوى أنها تدفع الشر، وتُذهب العين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].(25/7)
وعلى إحدى القنوات الفضائية تخرج لنا امرأة دجالة تضع أمامها جهاز الحاسوب ، في برنامج مباشر لتتلقى اتصالات المشاهدين والمشاهدات .
ثم تسأل المتصل بعض الأسئلة : أين ولدت ؟ في أي يوم ولدت؟ في أي ساعة؟ .
ثم تبدأ هذه الدجالة بتجاوز الخطوط الحمراء لتدخل عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، أنتَ سيحدث لك كذا وكذا، وأنتِ انتبهي الشهر القادم لأنه سيحدث لك كذا .
(قل لايعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) .
هكذا تطعن العقيدة في قلوب الموحدين . والمصيبة أن هذه البرامج تجد رواجاً عند بعض المسلمين .
نقول هذا الكلام ، والأمة اليوم تعيش واقعاً مريراً ، جراء تسلط الأعداء من اليهود والنصارى ، وإراقة دماء المسلمين ، واستباحة حرماتهم ، وهدم منازلهم ، وأسر أبنائهم ، وتهديد مقدساتهم كما يحصل للمسجد الأقصى المبارك .
ثم نتساءل ونقول : (أنى هذا ، قل هو من عند أنفسكم) .
كيف ينصر الله أمة ضيع كثير من أبنائها أصل الدين ، واتخذوا من دون الله أنداداً وشركاء؟
كيف ينصر الله أمة يسير كثير من أبنائها على خطى أبي جهل وأبي لهب ؟
هل نحن جديرون بنصر الله؟ هل نحن مهيئون لتطهير الأقصى من رجس أعداء الله؟.
نعم .. المسجد الأقصى المبارك الذي باركه الله وبارك وما حوله ، قبلة الأمة ، وبوابة السماء، المسرى النبوي ، والمعراج المحمدي ، والعهد العمري .. المكان الطاهر الذي تشد إليه الرحال بعد أن كانت تشد إليه النفوس والأفئدة . هاهو اليوم يشكو احتلال اليهود الغاصبين ، وينادي بالمسلمين : أن عودوا إلى دينكم ، وتعلقوا بربكم ، وحققوا توحيدكم ، وأصلحوا أنفسكم . فوالله ثم والله لن تنتصروا على أعدائكم حتى تنتصروا على شهواتكم . (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) .(25/8)
أيها المسلمون .. لن تعيد الأقصى شركيات القبوريين ، ولا محدثات المبتدعين ، ولا تفجيرات المفسدين ، ولا دعوات المتحررين ، ولا فسق الستار أكاديميين ، بل تعيده بإذن الله عزائم الموحدين ، ودماء الشهداء الصادقين ، وجهود الدعاة المخلصين .
فالتوحيد التوحيد عباد الله .. نتعلمه ، ونعمل به ، ونربي عليه أبناءنا، وندعو إليه إخواننا في كل مكان .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
اللهم كما هيأت لنا صلاة الجمعة في هذا الجامع المبارك ، اللهم فاغفر لبانيه ، اللهم اغفر لمن بني له ، ولكل من أسهم في بنائه أو القيام عليه ، اللهم اغفر لهم وارحمهم وتقبل حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم ، وبارك لهم في ذرياتهم إنك جواد كريم .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ....(25/9)
خطبة ( الحكم على حميدان التركي )
أما بعد ..
عباد الله .. أقف وإياكم اليوم مع صفحة مأساوية من صفحات الظلم والقهر ، عاشتها أسرة سعودية مسلمة ، تعيش في بلد الحرية والديمقراطية .
حميدان التركي طالب الدكتوراه السعودي ، الفاضل الشريف ، الذي ابتعث لدراسة الدكتوراه في الولايات المتحدة الامريكية قبل سنوات ، فسافر هو وزوجته وأبناؤه الخمسة إلى هناك .. وتمضي الأيام ليقبضَ عليه هو وزوجته ، وتوجهَ لهما التهمُ الباطلة ، المبنيةُ على الظنون والأدلة الملفقة ، وقد تحدثنا عن هذه القضية بالتفصيل ضمن إحدى الخطب الماضية .
وفي مساء أمس الخميس .. كانت الجلسة المنتظرة بالمحكمة ، للنطق بالحكم النهائي .. حيث وقف أبوتركي بشموخ المؤمن المظلوم الذي لا ينحني إلا لخالقه ، ليعلنها في كلمة ألقاها أمام القاضي ، بأنه طلب سعودي جاء للدراسات العليا لم يأت لاختطاف وثائق ولا سرقة أموال عامة ولا تحرش بأحد ، وقال : لقد هددتموني بالإيذاء، وها أنتم تفعلون؟ لكن ماذنب أبنائي وبناتي الصغار؟ .
فيحكم عليه القاضي عليه بالحكم الجائر السجن ثمان وعشرين سنة كحد ادنى إلى السجن مدى الحياة. على أن يستدعى المتهم بعد 28 عاما من السجن ، فإن كان يقر بذنبه ويعترف بخطئه وينوي عدم العودة إليه ، فيُنظَرُ في إطلاق سراحه ، أو يتحولُ الحكم إلى السجن مدى الحياة .
فاللهم إليك المشتكى ، وأنت الملتجا ، وأنت المستعان ، وعليك التكلان .
إننا أمام هذا الحكم الظالم .. لا نستطيع مدافعة العبرات ، حينما تتراءى أمام أعيننا تلك المشاهد المبكية لأولاد حميدان التركي وهم يبكون عندما صدر الحكم السابق على والدتهم البريئة .. فكيف حالهم الآن ؟! وهم يتلقون هذا الحكم الشديد الجائر بحق والدهم البريء .
ألا لعنة الله على الظالمين !! ألا لعنة الله على الظالمين !! ألا لعنة الله على الظالمين !!(26/1)
إنها صفحة واحدة من الصفحات السوداء لحماة حقوق الإنسان المجرم ، وأدعياء العدل والديمقراطية .
إنه التطرف الأمريكي المتشبع بالكراهية لكل عربي ومسلم .. إنها العنصرية التي بدأت تكشر عن أنيابها ..وتظهر ما خفي من أحقادها .. في تصفية حساب عنصري مقيت مع ما يمثله هذا الرجل وزوجته من مباديء الإسلام .
إنها حلقة من مسلسل الإرهاب الامريكي...وعلامة واضحة لضعف أمريكا وتخبطها وقرب زوالها حينما تتدخل جهات خارج القضاء لفرض حكم جائر .
إنه الظلم سبب هلاك الأمم ، كما قال تعالى :{وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} .. وإن الله يهلك الأمة الظالمة وإن كانت مسلمة ، ويمكن للأمة العادلة وإن كانت كافرة .. نسأل الله أن يجعل دائرة السوء على الظالمين .
عن أي حضارة يتكلمون؟ وعن أي عدالة يتحدثون؟ ألم ينقل الصحفي المخضرم من وكالة رويترز (آلان إيلسنر ) في كتابه "بوابات الظلم" ، موضوع سجون أمريكا غير المعروفة ، ويقرر بالإحصائيات أن هناك أكثر من مليوني إنسان داخل السجون الأمريكية، وان الولايات المتحدة تحوي أكبر عدد سجناء بالنسبة لعدد السكان في العالم الصناعي.
إن هذا الأمر يكشف عن زيف ادعاءات الديمقراطية والعدالة وغيرها من المصطلحات الرنانة التي يتبجح بها هؤلاء الظالمون .
عباد الله .. إننا مع حزننا واستيائنا الشديد لما أصاب أخانا الفاضل البريء ، لا نزال نعلق آمالنا بالله ونسأله الفرج ، ثم نؤمل في حكومتنا المباركة ، وكافة المنظمات وجمعيات حقوق الإنسان أن تعمل كل ما في وسعها لإنقاذ هذه الأسرة المسلمة ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
إن الأمر كلَّه لله ، إن قدرَ الله نافذ ، وحكمَه واقع .. (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون) .(26/2)
يا أيها المظلومون .. يا آل حميدان التركي لكم الله .. لكم الله يا أبناءه وبناتِه .. لك الله يا زوجتَه .. وكم أحرقت قلوبنا تلك القصيدة المحزنة التي كتبتها الزوجة المظلومة أم تركي وهي في السجن .. قصيدة مدادها صحائف الظلم .. وحبرها دموع الأم المفجوعة في زوجها وأبنائها ، المكلومة في دينها وحيائها ، بعد أن أجبرت على نزع حجابها ، وكشف وجهها وشعرها في المحكمة .
ناشدتُ أهل البر والإيثارِ ناشدتُ أمة سيد الأبرارِ
أنا بنتُ نجدٍ بورِكت وتهللتْ من أهلها ذي السادة الأخيارِ
زوجي ابن نجدٍ في رُباها قد رَبى شهماً طهوراً من ثرى الأطهارِ
قدْ كبّلونا بالحديدِ وحسبُهم كفُ الدعاء يجود ليل نهارِ
ورُميتُ واهولاه في سِجن العنا ورموا بزوجي خلف ذُعرِ جدارِ
قد رنَّ في أُذُنِي بُكاءُ أحبتي خمسٌ من الأطفالِ في الأسحارِ
باتوا بلا أُمٍ و غُيِّب والدٌ وغدوا كأيتام فياللعارِ
كشفوا عن الوجه الحيي غِطاءَهُ وظهرتُ في الإعلام دون ستارِ
ورُميتُ بالجُرم الذي لم أقترفْ وكذاك زوجي زُجّ دون حوارِ
قَدْ أَطلقَ الفجارُ إفكاً فاحشاً أَواهُ من ذا آخذٌ بالثارِ
الله علامٌ بصدقِ براءتي فيما أبنتُ و عالمٌ أسراري
هيا اسمعوا صوتاً بريئاً قد ثوى في السجن بين براثنِ الكُفارِ
ارموا سِهامَ الليلِ لله الذي يُنجه فو مُقدِّرُ الأقدارِ
أُمراءَنا وُزراءَنا كُبراءَنا الخطب أعظمُ من أنين هزارِ
أشْكو إِليكم حُرقتي و تَوجُّدي خوفي وآلامي و رعبَ دثارِ
ما رُدَّ مظلومٌ بساحةِ عدلكمْ أو ذَلَّ صاحبُ عزةٍ بقرارِ
بُنيانُ أُمتنا يُشَدُّ قِوامُه يا صرخةَ المظلومِ صوتُكِ عارِ
يوما ًسيُشرق بالبراءةِ سانحاً وسترجع الأطيارُ للأوكارِ
و سترجع الأطارُ للأوكارِ ويُرَدُّ كيدٌ كائدٌ ببَوار
عباد الله .. هل القضية قضية شخصية؟ هل هي قضية حميدان فقط؟(26/3)
كلا .. القضية قضية الآلاف من أبناء المسلمين وأبناء هذه البلاد ممن يدرسون أو يسافرون إلى تلك البلاد ، فيا خوفنا عليهم .. ويا خوفنا على الآلاف من شباب الثانويات المراهقين الذين يجري الآن ابتعاثهم إلى أمريكا .. يا خوفنا على دينهم ومبادئهم وأخلاقهم وحريتهم .
لماذا؟ لأنهم من أبناء المسلمين .. ولو كان حميدان من رعايا إحدى الدول الكبرى ، لم يتجرأ هؤلاء الأذناب على التلاعب في التهم ، والتلفيق في الأدلة ، ولسارت القضية بشكل مختلف .
إن ما يحدث الآن ليس إلا بسبب تخلف المسلمين عن دورهم المنوط بهم في قيادة البشرية ،
ووالله .. لا تجد تفسيراً لهذا الموقف أصدق مما نطق به المعصوم صلى الله عليه وسلم حينما قال :"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقيل له: ومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله ؟ قال بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقالوا :يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". والحديث عند أبي داود بسند صحيح عن ثوبان - رضي الله عنه - .
إن حميدان وغيرَه من المظلومين المضطهدين في كل مكان ، ما هم في الواقع إلا ضحيةٌ لهوان الأمة وذلها ، وتضييع كثير من أبنائها ودولها لشريعة الله تعالى .
وإن من المحزن حقاً أن ترى بعض إخواننا وشبابنا ممن تعلقت قلوبهم بالشهوات والمحرمات ، والأغاني والتمثيليات ، وكأنما هم يعيشون على هامش التاريخ .
يا أمة الحق ماذا بعدُ، هل قُتِلَتْ/فينا المروءاتُ و استشرى بنا الخورُ
أما لنا بعد هذا الذل معتصمٌ / يجيب صرخةَ مظلومٍ و ينتصرُ
أما لنا من صلاح الدين يُعتِقنا /فقد تكالب في استعبادنا الغجرُ
يا أمة الحق إنا رغم محنتنا / إيماننا ثابتٌ بالله نصطبرُ
فقد يلين زمانٌ بعد قسوته / و قد تعود إلى أوراقها الشجرُ
أقول ما تسمعون ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية(26/4)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر ....
عباد الله .. أمام هذه الأحداث المؤسفة ، يحق للغيور أن يتساءل: إلى متى يا أمة الإسلام؟ إلى متى ونحن أمة تتكلم ولا تفعل؟ .. إلى متى ونحن أُمة لا تعرف سوى الشجب والاستنكار ، كما قال أحد اليهود حينما استنكر العرب بعض تصرفاته ، قال : "دعوهم، فإنهم سوف يتكلمون قليلاً ثم يتعبون من الكلام فيسكتون" .
فهل يعود المسلمون إلى ربهم، ويتمسكون بتعاليم دينهم؟ وهل يعرف المسلمون زيف الحضارة القائمة من حولهم، والتي لا تعرف إلا الظلم والخيانة؟ .
إن أُمَّتَنا اليوم مهزومةٌ هزيمةً نفسية ، قبل أن تكون مهزومةً هزيمةً اقتصادية أو عسكرية .. ولكن .. ليعلمَ العالمُ كله بجميع دوله أن الله سبحانه و تعالى فوق كل شيء .. الله فوق الطائرات الحربية والأقمار الصناعية .. الله أقوى من القنابل الذرية ، الله أكبر من أي عدو، الأمر بيده وحده ، والنصر من عنده دون غيره ، و هو الذي ينصر عباده كما وعدهم إذا آمنوا به واتبعوا أمره .. ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) .
إن دين الله منصور متى ما نصرناه .. وإن نصر الله قريب متى ما طلبناه .. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..فإذا غيرنا ما بأنفسنا ..من المعاصي والذنوب ..وانتقلنا إلى فعل الطاعات ..والمسابقات إلى الخيرات ..غير الله تعالى ما نحن فيه من الذل والشقاء ..إلى العز والهناء .
إن الواجب على كل واحد منا أن يستشعر أنه مطالب بنصرة هذه الأمة ، وإعلاء هذا الدين ، وأن يبذلَ كل ما في وسعه ، في إصلاح نفسه وإصلاح من حوله ، يحدوه الأمل ، ويدفعه الفأل .
.. وعلى الإنسان أن يعمل ، ويبشرَ غيره ويتفائل .. لأن النفوس بأمس الحاجة إلى التفاؤل الذي يدفعها إلى العمل .(26/5)
وهكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم .. ها هو في أحلك الظروف ، ومنتهى القلق والخوف ، يحفر الخندق هو وأصحابه ، حتى إذ واجهتم صخرة شقت عليهم ..أخذ صلى الله عليه وسلم المعول فيفتتها بضربة واحدة ، فينبعث منها النور .. وإذ به يبشر أصحابه بفتح مدائن كسرى وقصور قيصر .
إنها دعوة صادقة ..من محب لأحبابه .. ومن أخ في الله لإخوانه ..أناشدكم فيها بالمسارعة إلى التغيير .. قبل أن تسكب العبرات ..وترتفع الآهات ..وتحل الأحزان ..وتكثر الأشجان ..ويفرح الأعداء ..ويحزن الأصدقاء ..( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(26/6)
خطبة ( الخشوع وخدمة موجود )
أما بعد .. أين قلوبنا .. أين قلوبنا عندما نقف بأجسادنا، بين يدي ربنا في صلاتنا؟
أما أجسادنا فموجودة، وأما قلوبنا فإنها كما لو وضعت على خدمة موجود في جهاز الجوال .
أرأيتم كيف يضع بعض الناس جهازه على هذه الخدمة، التي تخبر المتّصل بأن الجوال مغلق، بينما الحقيقة أن جواله موجود في الخدمة .
سبحان الله! ما أشبه هذا الأمر بحال بعض المصلِّين .. جسده موجود، لكن قلبه غير موجود، غير خاشع في الصلاة .
والله سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) .. وصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه .
ولا شك أن الصلاة عماد الدين وعصام اليقين ، وركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين، وميزان إيمان العبد وإخلاصه لربه .. ومع هذا فإنك ترى كثيراً من الناس يصلُّون ولا ترى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية، وذلك لإخلالهم بلبها وروحها وخشوعها، أصبحت صلاتهم مرتعاص للوساوس والهواجس، يأتي الشيطانُ أحدَهم وهو في صلاته، فيجعله يصول ويجول بفكره في أمور الدنيا، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، بل لعلَّ بعضهم لا يعقل منها إلا قليلاً.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن الصلاة هي مفتاح قبول الأعمال ، وأنها مفتاح ديوان العبد، ورأس مال ربحه، فإذا صلحت صلح سائر عمله، وإذا فسدت فسد سائر عمله .
والخشوع في الصلاة هو خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه. وقد كان رسول الله يتعوذ بالله من قلب لا يخشع، ففي الحديث الصحيح عنه: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع)).(27/1)
ويحصل الخشوع في الصلاة لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون الصلاة راحة لبدنه وغذاء لروحه ومغفرة لذنوبه، كما قال عز وجل: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .. وقد ذم الله قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضوع من القرآن، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. ولما استبطأ الله المؤمنين دعاهم إلى خشوع القلب لذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم سبحانه أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).
وقد يظن البعض أن حضور القلب في الصلاة من أعظم ما تتجشمه النفس، بل يكاد يكون مستحيلا لغلبة الخواطر على ذهن المصلي، وهذا الظن خاطئ في الواقع، وإلا فلو أخذ المصلي على نفسه أن يتصور معاني الصلاة لخشع قلبه وسكنت جوارحه، واتصل بربه وانحصر ذهنه في عظمة الله تعالى ، وأقبل على الله بقلب يملؤه الحب والتعظيم، ويدفعه الذل والافتقار، ويحدوه الأمل والرغبة في الخير .
وإن حدث اختلاس طارئ دنيوي أثناء صلاته فسرعان ما يحترق ويتلاشى ويذهب مع الخشوع، ذلك بأن الله عز وجل متى علم عن عبده الإيمان والصدق والإخلاص في العمل أنزل (السكينة عليه، وهداه وكفاه شر الشيطان، وأعانه وثبته، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .(27/2)
عباد الله .. وإذا كان الإنسان ضعيف الخلقة دائم الحيرة، كثير الهلع والجزع، كثير الخطايا والذنوب، لا يستغني عن الله تعالى طرفة عين، فإن الله تعالى بفضله علينا ورحمته، شرع لنا هذه الصلوات التي تتيح لمن يصلي بطمأنينة وحضور قلب أن يسأل بارئه كل ما يريد، حتى ينفس عن مشاعره، والأخذ بأوامر الله عز وجل ولو كانت تتعارض ورغباته الشخصية، كما تبث فيه عدم اليأس، وتدعوه إلى التماس الخير والقوة من الله تعالى ، فمن لم يؤمن بالله تعالى ويؤد فرائضه على أكمل وجه ويتخذه سبحانه ملجأ في الشدائد ومعزيا في المصائب ومساعدا في المتاعب كان أشق الناس في حياته، بخلاف المؤمن الذي يحيا بهذا الإيمان الحياة الطيبة.
وقد تكاثرت الأدلة بالندب إلى استحضار قرب الله سبحانه وتعالى في حال العبادات كلها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)).
فأحسنوا يا رعاكم الله صلاتكم، بالمحافظة عليها في المساجد، في أوقاتها، واستعدوا لأدائها بطهارة الظاهر والباطن، واستحضروا فيها عظمة ربكم تعالى، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية، وصلّوا بقلوب حاضرة خاشعة خائفة راجية .. فإذا قرأتم فتأملوا فيما تقرؤونه في صلاتكم وما تذكرون الله تعالى وتدعونه، وإذا ركعتم فلاحظوا أن الركوع تذلل وتواضع لعظمة الله تعالى، فإذا سجدتم فاستحضروا أن السجود زيادة تذلل وخضوع له، وهو أقرب ما يكون العبد من ربه .(27/3)
أيها الإخوة في الله، ونحن نتحدث عن الخشوع وحضور القلب في الصلاة، فإن من الظواهر الجديرة بالمعالجة والتي لها أثر كبير في انصراف المصلين عن الخشوع في الصلاة ما قذفت به المدنية المعاصرة من الهواتف الجوالة التي تسبب الأذى والإزعاج للمصلين. فأي خشوع عند هذا المصلي الذي يقطع حلاوةَ إقباله على ربه ولذيذ مناجاته لخالقه رنينُ هاتفه المتكرر؟! فيُشغل نفسه ويؤذي غيره .. وبعض الناس يضع جواله على النغمات الموسيقية المحرمة، زيادة في الإثم وإيذاء المصلين في المسجد .
ألا فليتق الله أولئك في صلاتهم، وليحذروا من إيذاء إخوانهم المصلين، وانتهاك حرمة بيوت الله .
واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن أكبر ما يحقق الخشوع، ويعين على حضور القلب في الصلاة، استشعار عظمة وجلال الخالق جل وعلا، وتفريغ القلوب من الصوارف عن الله والدار الآخرة، والتخفف من مشاغل الدنيا، وعمارة القلوب بالإيمان، وسد مداخل الشيطان على الإنسان.
فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا صلاتكم وحافظوا عليها، وأحضروا قلوبكم فيها، تكن نوراً لكم في الدنيا والآخرة .
اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
عباد الله .. ومما يدخل في المحافظة على الصلوات وجبر ما يقع فيها من غفلة القلب، معرفة أحكام سجود السهو ، وهو مشروع لزيادة أو نقص أو شك، فإن كان عن زيادة في الصلاة فهو بعد السلام، وإن كان عن نقص فقبله ، فمتى زاد المصلي فعلا من جنس الصلاة قيامًا أو قعودًا أو ركوعًا أو سجودًا عمدا بطلت صلاته، وإن فعله سهوا فإنه يسجد له بعد السلام .. أما الشك ، فإنه متى ما شك فلم يدر كم صلى ولم يترجح له شيء فليبن على ما استيقن وهو الأقل، ثم يسجد للسهو قبل السلام .. أما إن ترجح هعنده شيء، فإنه يبني على ما ترجح عنده ويسجد للسهو بعد السلام .(27/4)
وإن نسي ركنا غير تكبيرة الإحرام فذكره فإنه يرجع إليه، سواء شرع في قراءة ركعة أم لم يشرع، وهذا هو الصحيح الموافق لقواعد الشريعة .. أما من نسي واجبا فإنه إن فات محله لم يرجع إليه ويجبره بسجود السهو قبل السلام، كمن نسي التشهد الأول ونهض ، فإنه متى ما استتم قائما فلا يرجع؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويسجد للسهو قبل السلام .
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية والعلائق المادية، وأقيموا صلاتكم بقلوب حضرة خاشعة.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(27/5)
خطبة ( الخشية وقصة الغامدية )
أما بعد .. انظروا إليها .. تقطع مراحل الزمن .. وتطوي صفحات التاريخ .. لتسجل للأجيال موقفاً نادراً ، يقف له التاريخ هيبة وإجلالاً .
امرأة ضعيفة .. عصفت بها لحظة من لحظات الضعف فوقعت في الفاحشة .. ولما كشف عنها غطاء الغفلة ، انتفض الإيمان في قلبها ، فجادت بنفسها ، وأبت إلا أن تكون هي الفداء ، لتسبق الأحياء ، وتضع رحلها في جنة عرضها الأرض والسماء .
ها هي تقبل على رسول الله بخطىً ثابتة, وفؤادٍ يرجف وجلاً وخشية, رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم, تناست العار والفضيحة, لم تخش الناس, أو عيون الناس, وماذا يقول الناس؟ .. أقبلت تطلب الموت, نعم تطلب الموت, فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح, يهون إن كان بعده الرضا والقبول, يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم, ولسع المعصية, وتأنيب الضمير .. (يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني) .. فيُشيح النبي عنها بوجهه, فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني .. فيقول الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - : ويحك ، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه .. فتقول : تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ والله إني حبلى من الزنا, فيقول : ((اذهبي حتى تضعيه)) .. فولت والفرح يملأ قلبها, والسرور يخالط نفسها .. أن نجت من موت محقق؟ وردها رسول الله؟ كلا, بل لم يزل هم الذنب يعترك في فؤادها ، وسياط الخوف تسيطر على تفكيرها.
ويمر الشهر والشهر, والآلام تلد الآلام, فتأتي بوليدها تحمله .. ها أنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله, فيقول الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - : ((اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه)).
وتعود بابنها الرضيع .. فلو رأيتها ، ووليدُها بين يديها, والناس يرقبونها عَجَبًا وإكبارًا .. ترضع وليدها حولين كاملين .. كلما ألقمته ثديها, أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها, وحبها له, كيف لا وهي أمه .. ولا تسل عن حنان الأم وعطفها .(28/1)
وتمضي السنتان .. فتأتي بوليدها وفي يده خبزة يأكلها .. يا رسول الله قد فطمته فطهرني !!.
عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ تحمله؟ .. وأي إصرار وعزم تتمثله؟ .. قرابة الثلاث سنين , والأيام تتعاقب, والشهور تتوالى, وفي كل لحظة لها مع الألم قصة, وفي عالم المواجع رواية .. ومع هذا فلا تزال ثابتةً على موقفها ، خائفةً من ذنبها ، منيبةً إلى ربها .
ثم كان أمر الله .. فيدفع النبي الصبي إلى رجل من المسلمين, ويؤمر بها فترجم .. ورجم الزاني المحصن هو شرع الله ، والله أحكم الحاكمين ، ويجب على العاقل أن لا ينظر إلى هذه العقوبة الشديدة دون أن ينظر إلى خطورة جريمة الزنا .. الجريمة التي تعصف بالدين والعرض والنَّسْل والنَّفْس.
وإن من التناقض الذي يقع فيه دعاة ما يسمى بحقوق الإنسان ؛ رأفتَهم بالجاني القاتل والسارق والزاني ، ونسيانَهم قسوةَ الجريمة ، وما يصيب المَجْنِيَّ عَلَيْه وأهلَه ، وما يصيب الأسرة والمجتمع .
الرجم رَدْعٌ وزجْرٌ عن انتشار الزنا في المجتمع ، ثم هو تطهيرٌ لِمَنْ أقيم عليه ، فلا يحتاج بعده إلى تطهير في النار ، ولعذاب الآخرة أشد ومن عذاب الدنيا .
رجمت المرأة .. وبينما كانت ترجم ، يطيش بعض دمها على خالد بن الوليد, فيسبها على مسمع من النبي , فيقول عليه الصلاة والسلام: ((والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)) ، ثم يأمر بها فيصلى عليها ثم تدفن . والحديث رواه مسلم .
وفي رواية أخرى أن عمر - رضي الله عنه - قال : تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى ؟!!(((28/2)
الله أكبر .. إنه الخوف من الله, إنها خشية الله ، ترتقي بالنفوس فلا ترى لها قرارًا إلا بجوار الرحمن في جنة الرضوان.
نعم ، لقد أذنبت المرأة حين وقعت في حبائل الشيطان, واستجابت له في لحظة ضعف ، لكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملأه الإيمان, ونفسٍ تلهبها حرارة المعصية, ولسان حالها: كيف أعصيه وهو المنعم الخالق! كيف أعصيه وهو الواهب الرازق ؟ كيف أعصيه وقد نهاني؟ كيف أعصيه وقد كساني وآواني؟! فلم تقنع إلا بالتطهير وإن كان طريقه إزهاق النفس وذهاب الحياة .. مع أنها لو استغفرت وتابت إلى ربها توبة نصوحاً لتاب الله عليها ، لكنها أخذت بالحزم والتطهير المضمون الذي لا رجوع بعده للذنب .
أيها المؤمنون .. ذلكم هو موقف تلك المرأة .. وفي موقف تاريخي آخر ، حضره الشيطان, وقلت فيه خشية الرحمن ، أجمع إخوة يوسف عليه السلام على رميه في غياهب البئر, وكان ما كان من أمر السيارة, وبيع يوسف وهو الحر الأبي, وراودته امرأة العزيز , حتى تجملت وقالت هيت لك, قد ملكتْ جمالاً تغريه به, ومنصبًا وجاهًا يحفظه من العقوبة, وكان الطلب منها بعد أن غلقت الأبواب، وهو شاب غريب ، بعيد عن أهله ، تضطرم الشهوة في نفسه .
فتصور كل هذا, والمكان يعلوه السكون, لا يُسمع فيه إلا نداء الإثم والفجور, هيت لك, هيت لك .
فيبدد يوسف هذا السكون ، ويضج المكان بنداء الخشية والإيمان ، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ، ويفرّ يوسف إلى الله , ويهرب إلى الباب لما رأى برهان رب الأرباب .
وتمضي الأيام ، وتهدده امرأة العزيز ، (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين) .. قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه .. نعم .. السجن أحب إلى المؤمن الذي يخشى الله من الفاحشة والرذيلة .(28/3)
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) .
عباد الله .. الخوف والخشية عبادة عظيمة ، غابت أو ضعفت في حياة كثير من الناس إلا من رحم الله, غابت في تعاملنا مع ربنا, في تعاملنا مع أنفسنا, في تعاملنا مع الناس ، في بيعنا وشرائنا, في تربيتنا لأبنائنا, في أدائنا لوظائفنا, في تعاملنا مع الأجراء والخدم .. والموفق من وفقه الله لخشيته وتقواه .
إن الخشية الحقة, والخوف المحمود هو الذي يحمل على العمل, فلا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة, وينفره من المعصية.
الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظرُ إلى عَظَمة من عصى .
قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه, وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة" رواه البخاري ومسلم .
وقال ابن عون : لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا ، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا .
عباد الله .. وخشية الله تعالى إنما تظهر في أوقات الخلوات وساعات الوِحدة والعزلة عن الخلق .. كثير أولئك الذين يتصدقون أمام الناس ولكنهم في السر قليل, كثير الذين يتورعون عن ظلم الناس أمام الناس وهم في السر أظلم الخلق, كثيرٌ هم أولئك الذين يقومون بالطاعات ويهجرون المعاصي في حضرة الخلق, وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها .
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير .
أقول ما تسمعون ، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخشيته في السر والعلن ، وأن يجعلنا ممن يخافونه بالغيب ، إنه سميع مجيب .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله .. أمر أن لا تعبدوا إلا إياه .. والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه .. محمد بن عبد الله .. وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .. أما بعد .(28/4)
أيها الإخوة المؤمنون .. (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) .. فقد كان من أخشى الناس لربه ، وأكثرهم تعظيماً وإجلالاً له سبحانه .
روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله ليلة من الفراش, فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد (أي في السجود) وهما منصوبتان وهو يقول: ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وأعوذ بك منك, لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) .
وهكذا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان في خوفهم من الله وخشيتهم له .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحدًا لخفت أن أكون أنا هو".
وقرأ عمر بالطور فلما بلغ (إن عذاب ربك لواقع) بكى واشتد بكاؤه حتى مرض أياماً في بيته .. وصلى زرارة ابن أبي أوفى بالناس الفجر ، فلما قرأ (فإذا نقر في الناقور) خر مغشياً عليه فمات رحمه الله .. وقام الحسن بن صالح ليلة بـ (عم يتساءلون) فغشي عليه فلم يختمها إلى الفجر .. وقرأ عمر بن عبد العزيز قوله تعالى (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون) فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .. وقرأ تميم الداري (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) فجعل يرددها ويبكي .
وقيل للإمام أحمد : ما أكثر الداعين لك . فتغرغرت عينه بالدموع وقال : أخاف أن يكون هذا استدراجاً .
هكذا كانت أحوالهم فليت شعري أين نحن منهم ، والواحد منا يقيم على الذنب تلو الذنب ولا يتحرك قلبه ولا تدمع عينه خوفاً من الله .(28/5)
وقد روى الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني عن أنس رضي الله عنه أن النبي دخل على شاب وهو في الموت فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي, فقال رسول الله : ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو, وأمنه مما يخاف)) .
وروى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع, ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)).
عباد الله .. عظموا الله في نفوسكم .. واخشوه واتقوه كما أمركم .. (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) .
وليكن سيركم إلى ربكم بين الخوف والرجاء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : الخشية أبداً متضمنة للرجاء ، ولولا ذلك لكانت قنوطاً ، كما أن الرجاء يستلزم الخوف ، ولولا ذلك لكان أمناً ، فأهل الخوف لله والرجاء لله هم أهل العلم الذين مدحهم الله . اهـ (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(28/6)
خطبة ( بيان خلايا الفئة الضالة 1 )
أما بعد ..
عبادَ الله، إنّ القلبَ ليحزن وإن العقلَ ليذهَل، وهو يرقُب الأحداثَ التي ابتُليت بها هذه البلاد، من أقوامٍ ضلّوا الطريقَ، وتلوّثت عقولهم بأفكارٍ خاطئة .
أعمالٌ مهما كان فاعلها ومهما كانت حجّتُه ودافعه، تتضمّن مفاسدَ كبيرة وشرورًا عظيمة، من قتلُ الأنفس المسلمة بغير حق ، وحمل السّلاح على المسلمين ، ومفارقة الجماعة وشقّ عصا الطاعة، والاعتداءُ على رجال الأمن، وترويع الآمنين وإشاعة الهلَعَ والفزع، مما ينذر بفتنةٍ داخلية، تُدمَّر فيها الطاقات، وتهدَر فيها المكتسبات، وتُشتَّت الجهود، وتُعطَّل مشاريع الخير والبر ، وتشوّه مناشِط الدعوة والإصلاح .
كم هو مفجع ومفرح، ما تم الإعلان عنه في بيان وزارة الداخلية من ضبط 172 شخصاً من عناصر الفئة الضالة والكم الهائل من الأسلحة والمتفجرات والخطط الإجرامية وأكثرِ من عشرين مليون ريال لتمويل هذه المخططات ، والخروج على بيعة ولي الأمر بمبايعة زعيم لهم على السمع والطاعة، وإعداد العدة للقتل والإفساد .
كم هو مفجع .. لشناعة هذه الأعمال وخطورتها من حيث العدد والعتاد وما ضبط بحوزتهم من أموال وأسلحة . ناهيك عن علاقاتهم بأطراف أو دول أو جهات أجنبية تكيد الحقد الأسود لهذه البلاد وأهلها .
وكم هو مفرح أن يمكن الله رجال الأمن البواسل وفقهم الله من هذه الفئة ، ويعينهم على الحيلولة دونها ودون ما تريد من أعمال شنيعة لا يعلم قدر خطرها وضررها إلا الله .
ويبقى السؤال المحير: ماذا يريد هؤلاء؟ وما أهدافهم؟ ومن يقف وراءهم؟ ولمصلحة من يتحركون؟ أي دينٍ وعقلٍ وعرفٍ يقرّ هذه الأعمال الشنيعة؟ بل أين المروءة والرحمة والإنسانية عند هؤلاء؟، أي قلب هذا الذي يستهين بالأرواح والممتلكات؟ بل أي نفس تلك التي تلذ لسفك الدماء وتطاير الأشلاء؟(29/1)
والعجيب أنهم يتحدثون باسم الاسلام والجهاد، والإسلام الحق بريء من ذلك كله .. ويأبى الله ورسوله ثم يأبى أهل الإيمان أن تكون هذه المسالك المرذولة في ترويع الآمنين وزعزعة حياة المطمئنين وسلوك مسالك العنف والاعتداء طريقًا إلى خير البشرية وصلاح للإنسانية .
إن دعاوى الإصلاح والجهاد ، لا يمكن أن تبرر الإجرام والفساد .. (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .
وقد روى الإمام مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى عن مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه" رواه مسلم .
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح، فليس منا) .
عباد الله .. إنَّ أولَئِكَ الشَّبابُ الذينَ خَرَجُوا عَلَى الأمَّةِ هُمْ ثَمَرَة مَدَارسَ فِكْريَّةٍ منحرفة ، كانت حَصِيلَةَ شُبَهٍ وأوهَامٍ أكثَرُوا مِنْ تَدَاولِهَا حَتَّى صَارَتْ بَينَهُمْ مِنَ المُسَلَّماتِ، فاسْتَحَلُّوا بِهَا الدِّمَاءَ وتَرْويعَ النُّفُوسِ وإزْهَاقَ الأرْوَاحِ.(29/2)
ولو تأملت في سلوك بعض المنتسبين للفئة الضالة أو ما يسمى بتنظيم القاعدة لوجدت عندهم العديد من الأخطاء المنهجية والانحرافات الفكرية .. تهورٌ شنيع، وعجلةٌ مقيتة , وغيرةٌ غير منضبطة , وجهلٌ بأحكام الشريعة , وتنزيلٌ لبعضها على غير موضعه , ودخولٌ في الإلزامات التي لا تنتهي , وخوضٌ في مسائل تشيب لها الرؤوس , وقياسٌ للمسائل بالرأي , واتخاذٌ للهوى وما تميل له النفوس غرضا, ومجانبةٌ لآراء العلماء وأهل الخبرة، واتهامٌ للمخالف بالمداهنة والانبطاح , وتسرعٌ في إطلاق الأحكام جزافاً دون نظر أو تحقيق .
والنتيجة: استباحةُ المسلم دم أخيه المسلم، ووصفُه بالطاغوتية, مع ممارسةِ أبشع صفات الانتقام, من حزِّ الرؤوس, وتقطيع الأطراف, وتمزيق الأشلاء, وهدم المساكن.
ومن انحرافات هذه الفئة، الوقوع الشنيع في أعراض العلماء , والتحزب المقيت , والتعصب المذموم , حتى امتحنوا الناس في زعيم التنظيم أسامة بن لادن، فإذا أُنكر عليهم، قالوا: قال أبو عبدالله ، وكأنه لا ينطق عن الهوى , مع أنه بشر غير معصوم من الخطأ والفتنة, ومثله يُستَدَل له ولا يُستَدَل به .. كيف وقد صدر منه صراحة العديد من الآراء الشاذة والأحكام المردودة ، رد عليها العلماء .
عباد الله .. ما الذي أحدثته هذه الفتنة من المفاسد في بلادنا وفي غيرها من البلاد؟ .
لقد أحدثت هذه الفتنة من الشر والضرر والفرقة والانقسام أضعاف أضعاف ما جاءت لإنكاره ومعالجته - هذا على فرض صحة النوايا وسلامة المقاصد والبعد عن الدوافع الشخصية - وحققت للعدو الشامت بنا في الداخل والخارج أضعاف مايرجوه من الفرص .
لقد أصبحت مناهجنا , ودور التحفيظ , والجمعيات الخيرية , والمراكز التوعوية, ملاحقة بشبهة تفريخ الإرهاب .
ولم تكن أمريكا تتجرأ بمطالبها لتغريب المجتمع , وتستعلن بضرورة تغيير المناهج وإلغاء ما تسميه البوليس الديني من قبل بمثل هذه القوة .(29/3)
وعند بعض الناس، صار المسلم المحافظ , والداعية الناصح , والمعلم الصادق , بل والعالم الرباني في خانة الاتهام , حتى احتاج من يريد أن ينكر منكرا أو يصلح شأناً أن يقدِّم بين يديه صكوك البراءة , وأيمان الولاء , أنه ضدُّ الإرهاب والإخلال بالأمن .. بينما يمارس اللبرالي والمنافق فجوره عازفا على وتر الوطنية والتحذير من الإرهاب .
لقد طفا على السطح طفيليات هم من أشد الناس عداوة للوطن وأهله , وأنفرهم عن الدين وتعاليمه , وأكثرهم ولاء للغرب ومخططاته , وقاموا يتباكون على الوطن ومقدساته , وعلى الدولة وهيبتها , وعلى الأموال والأنفس وحرمتها , وصبوا الزيت على النار ليزيدوا اشتعالها , ويوقظوا فتنة نائمة بين أهلها , مستغلين أفعال هذه الفئة الضالة .
فرفع العلماني والمنافق عقيرته , واستعلن اللبرالي بدعوته ومطالبه , ولسان حالهم وقالهم: هذا هو الدين وتلك هي أخلاق المتدينين ومشاريعهم الإرهابية .
حمى الله بلاد التوحيد من كل شيطان مريد، ومن كل منافق عنيد، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان ...، وأشهد ....
عباد الله .. إن المسؤولية في مواجهة هذه الفتنة مسؤوليتنا جميعاً ، واذا كانت اجهزة الامن تقوم بدورها مشكورة في رصد وتتبع هذه الفئة ومنعها من ارتكاب جرائمها، فان الدور الاكبر على العلماء والمفكرين والمربين في اجتثاث هذا الفكر من جذوره .. وعلى الجهات والهيئات الدينية والثقافية ومؤسسات المجتمع كافة ان تضطلع بدورها في مواجهة هذا الفكر المنحرف .. ويبقى الدور الهام على الأسرة بحسن الرعاية وحسن الوقاية للناشئة .(29/4)
إنّ التحصينَ الذي نريده لشبابنا هو ترسيخُ المنهج الوسَط للإسلام، ونشرُ العلم الشرعي في المدارس والجامعات والمساجد، ونبذُ الأفكار المنحرفة المتشدّدة أو المتساهلة، مع عدم توسيع التُّهَم دونَ تأنٍّ وتثبُّت، أو تعميم الأخطاءِ والتشكيك في منابِر الدعوة والإصلاح، مما لا يقوله إلاّ حاقِد أو حاسد، يصطاد في الماء العَكِر.
والواجب على شبابِ المسلمين التبصُّر في أمورِهم والتزوُّد من العلم النافع، وعلى من زلَّت به القدَم أن يعودَ إلى الله ويرجع، فإنّ التائبَ من الذنب كمن لا ذنبَ له.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، والزَمُوا طَاعَتَهُ والتَّقَرُّبَ إليهِ، وكُونُوا قَائِمينَ بالأمْنِ سَاعِينَ إليهِ، وإيَّاكُمْ والنِّزَاعَ والشِّقاقَ ومُخَالَفَةَ أمْرِ الجَمَاعَةِ. فإن يد الله على الجماعة ، ومن شذ شذ في النار .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(29/5)
خطبة ( بيان الخلايا الارهابية 2 )
أما بعد ..
تحدثنا في الخطبة الماضية عن فتنة الشبهات، المتمثلة في الأفكار الضالة، والأعمال الفاسدة التي تبناها بعض أبناء هذه البلاد من تكفير وتفجير، وإفساد وتدمير.
وإن من الأمور المهمة في علاج لهذه الظاهرة دقة التشخيص، ومعرفة حقيقة المرض ومسبباته حتى نجد له العلاج الناجع .
ولا زلنا نقول: لماذا يقدم شبابنا على انتهاج مسالك العنف، وتبني مثل هذ الأعمال؟
نحن نعلم أن بعض من سلكوا مسلك المواجهة لم يدفعهم لذلك إلا الغيرة , ولهذا يجب أن نقول للشباب بوضوح تام، يا شباب إن الغيرة وحدها لاتكفي لعلاج الخطأ ، الغيرة لابد أن يضبطها الشرع , ولابد أن تتوافق مع أحكامه , وإلا فقد تتحول من غيرة محمودة إلى غيرة مذمومة , وقد يأثم صاحبها بسببها من حيث يريد الأجر والقربة.
ونحن نعلم أن بعض هؤلاء الشباب يرى أن منهجه شرعي , ويستند فيه إلى أقوال وفتاوى , لكننا نقول: هذا وحده لا يكفي للتصدر لمثل هذه القضايا العظام التي تراق فيها الدماء , وتستباح بسببها الحرمات , لأن هذه الأحكام لا يقررها إلا الجهابذة من العلماء , وفرسان الفتيا الذين يوقعون عن الله تعالى .
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا) .
ونحن نعلم كذلك إن بعض هؤلاء الشباب يقول: أن هناك أخطاءً تقع فيها الدولة يجب إنكارها , وعدم السكوت عليها , وبيان مخالفتها للشريعة .. ولكننا نقول: إن معالجة تلك التجاوزات والأخطاء لا يصلح أن تكون بأخطاء تسهم في تثبيتها , أو الإصرار عليها , أو تفتح مجالا للمشبوهين من ذوي الأفكار المنحرفة لإثبات أنهم البديل الأكثر ولاء , والأصدق حبا , والأعقل طرحا ومعالجة .(30/1)
أيها الشباب .. لقد سَبَقَنا علماء كبار لانتَّهمهم في دينهم , ونحسب أنهم حطوا رحلهم في الجنان بإذن الله وفضله , كانوا أصدق في لهجتهم , وأصفى في طريقتهم , وأنصح للأمة وأبرَّ ممن جاء بعدهم , ومع هذا لم يتخذوا من العنف مسلكا , ولا من التفجير مركبا .
لقد رأوا أخطاء لم يسكتوا عنها , بل ناصحوا فيها أهل الشأن بصدق , وكاتبوا وواجهوا وأعذروا أمام الله , ولم يفتحوا باب شرٍّ على الناس , تستباح فيه حرماتهم , وتراق فيه دماؤهم .
أين هؤلاء الأئمة من شاب لم يتجاوز العقدين من عمره , ومع هذا تراه وقد اقتحم غمار المسائل العظام، التي لو عرضت على ابن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أشياخ بدر رضي الله عنهم أجمعين !!.
إن معالجة الأخطاء التي تقع فيها الدولة لا بد أن تكون بالطرق المعتبرة شرعا , وبالأساليب التي يتحقق بها الغرض المنشود من الإنكار , وهو زوال المنكر أو تقليله , وبما يحفظ هيبة الدولة , وأمن المجتمع .
إن إنكار المنكر يحتاج إلى فقهٍ وسياسة شرعية , حتى لا يحدث بسبب ذلك مفاسد أبلغ مما يسعى المنكِر لإنكارها .
لقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحدِّ على رأس المنافقين وأقامه على من شهد بدرا لمصلحة عظمى , ودرءا لمفسدة كبرى .
كما ترك بناء الكعبة على قواعد إسماعيل عليه السلام خوفا من مفسدة أعظم قد تقع بسبب تلك المصلحة التي تمناها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
وصالح كفار قريش يوم الحديبية على أن يرد إليهم كلَّ من أتاه مسلما فارَّا بدينه , وأجابهم على محي كلمة (رسول الله) من عقد الصلح , وعدم كتابة اسم (الرحمن الرحيم) في بدايته , حتى قال عمر رضي الله عنه علام نعطي الدنية في ديننا .
عباد الله .. إن مما تجدر الإشارة إليه والتأكيد عليه، لكل من يعيش في هذه البلاد المباركة، أن يعرف لها قدرها، ويرعى حرمتها، ويحافظ على أمنها، فهي قبلة المسلمين، ومعقل التوحيد، وأرض الشريعة .(30/2)
سبحان الله .. مَاذا يَنْقِمُ المفسدون مِنَ هذه البِلادِ، والأمْنُ فِيهَا مُسْتَتِبٌّ ووارِفٌ؟! ماذَا يَنْقِمونَ مِنَ هذه البِلاد، ولَو رأوا غَيرَها مِنَ البُلْدانِ ورَأوا ما فِيهَا مِنْ فِتَنٍ وقَلاقِلَ لعَلِمُوا فَضْلَ هَذِه البِلادِ عَلَى غَيرهَا؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ هذه البِلاد، وشَعَائِرُ التَّوحيدِ والسُّنَّةِ فيهَا قَائِمَةٌ، وعَلامَاتُ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ هذه البِلاد، وهِيَ البِلادُ الوَحيدَةُ في الدُّنْيَا التي تُحَكِّمُ شَرْعَ الله؟!
يَقولُ شيخنا ابنُ بَازٍ رحمِهُ الله: "أيُّ دَولَةٍ تَقُومُ بالتَّوحيدِ الآنَ؟! ... مَنْ هوَ الذي يَقُومُ بالتَّوحيدِ الآنَ ويُحَكِّمُ شَرِيعَةَ الله ويهدِمُ القُبُورَ التي تُعْبَدُ مِنْ دَونِ الله؟!" اهـ.
وقَالَ ابنُ عُثَيمينَ رَحمهُ الله: " لا يُوجَدُ والحَمدُ للهِ مِثلُ بِلادِنَا اليَومَ في التَّوحيدِ وتحكيمِ الشَّريعَةِ، وهِيَ لا تَخْلُو مِنَ الشَّرِّ كسَائرِ بلادِ العَالَمِ، بَلْ حَتَّى المدينَة النَّبويَّة في عَهْدِ النَّبِيِّ وُجِدَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ شَرٌّ، " اهـ.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على احسانه ....
عباد الله .. اعلموا وفقكم الله أنه لا يَقُومُ الأمنُ ولاتستقر الحياة في البلاد إلا بتحقيق أمْرَينِ:(30/3)
الأمر الأوَّلُ: السَّمْعُ والطَّاعَةُ لِوُلاَةِ الأمُورِ في المَنْشَطِ والمَكْرَه، كما رَوى الإمام مُسْلِمٌ أنَّ عبدَ الله بنَ عُمرَ جَاءَ إلى عبدِ الله بنِ مُطيعٍ حينَ كَانَ مِنْ أمرِ الحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزيدِ بنِ مُعاويَةَ، فقَالَ عبدُ اللهِ بنَ مُطيعِ: اطْرَحُوا لأبي عَبدِ الرَّحمنِ وِسَادةً، فقَالَ: إنِّي لم آتِكَ لأجْلِسَ، أتَيتُكُ لأحَدِّثَكَ حَديثًا، سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((من خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ الله يَومَ القيَامَةِ لا حُجَّةَ لهُ، ومَنْ مَاتَ ولَيسَ في عُنُقِهِ بَيعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهليَّةً)).
قال ابنُ حَجَرٍ رَحمه الله: "قَدْ أجمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ المتَغَلبِ والجِهَادِ مَعَهُ، وأنَّ طَاعَتَهُ خَيرٌ مِنَ الخُرُوجِ عَلَيهِ، لما فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وتَسْكينِ الدَّهْمَاءِ" اهـ .
إن بلادنا المباركة تعيش مرحلةً خطيرة ومنعطفًا صَعبًا، فلا بدّ من تماسُك الصفّ مع بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطريقُ التغيير إنما يكون بالإصلاحُ والبناء لا بالهدم والتدمير.
الأمر الثاني: لُزُومُ طَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَهِيَ مِنْ أهمِّ مُقَوِّمَاتِ الأمنِ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(30/4)
خطبة (الخوف من الله وسير الخائفين )
أما بعد ..
حديثنا اليوم عن مقام من مقامات الإيمان .. ولازم من لوازم الإحسان .
وقبل أن أفصح لكم عن هذا المقام ، أتساءل وإياكم: كيف أصبحت أحوالنا عندما ضعف هذا المقام؟
لماذا أُتخمت بيوتنا بالمعاصي .. لماذا أمتلات عقولنا بالشبهات ونفوسنا بالشهوات .
نفعل الذنب تلو الذنب ، وقلوبنا باردة لا تتذكر ولا تنيب .. يأكل بعضنا السحت الحرام وكأنه حلال .. تظهر بيننا المعصية ويقل من ينكرها .... يجالس صاحب المعصية ويؤانس ، ويؤاكل ويشارب دون نصح أو إنكار .
ذلكم أيها الأحبة .. عندما ضعف الخوف في نفوسنا .
نتكلم عن الخوف يوم أجدبت قلوبنا منه وأظلمت .. وقست وتحجرت (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) .. لا تحركها الموعظة ، ولا تنفعها الذكرى إلا من إلا من رحم ربك .
لقد أمرنا الله جل وعلا بالخوف منه ومدح الخائفين ، فقال تعالى: ((إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)) .
قال ابن سعدي –رحمه الله- : (( وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده ، وأنه من لوازم الإيمان ، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفهم من الله)).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطّت السماء وحُقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)) رواه احمد والترمذي
عباد الله .. الخوف من الله ، شجرة طيبة ، إذا نبت أصلها في القلب ، إمتدت فروعها الى الجوارح ، فآتت أكلها بإذن ربها ، وأثمرت عملا صالحا ، وقولاً حسنا ، وسلوكاً قويما ، وفعلاً كريما .(31/1)
وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه، كما وصف الله الملائكة بقوله : (( يخافون ربهم من فوقهم))، ووصف الأنبياء بقوله : (( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله )) ، وقال في العلماء ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية )) .
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم (( ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله))، وقال: ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) .
وحتى نحرك نفوسنا إلى تحقيق الخوف من الله .. دعونا نقف على بعض النماذج المشرقة من سير أولياء الله الخائفين المخبتين .
ها هو سيد الخائفين محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أخشى الناس لربه ، ويقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه .
وهذا أبو بكر رضي الله عنه ، أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى طير وقع على شجرة فقال: ما أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وتطير وليس عليك حساب ، ليتني كنت مثلك، وكان رضي الله عنه كثير البكاء .. وكان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) .
وها هو عمر الفاروق - رضي الله عنه - يقول لابنه عبد الله وهو في سكرات الموت: (ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني ، ثم يقول: ويل أمي إن لم يغفر لي ، ويل أمي إن لم يغفر لي) .
ويأخذ مرة تبنة من الأرض فيقول: (ليتني هذه التبنة ، ليتني لم أكن شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت منسيا) .
وهذا عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته ، وكان يقول: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصيرُ) .(31/2)
أما علي رضي الله عنه فقد وصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية رضي الله عنه ، فقال: كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة ، لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضاً على لحيته يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه .
فبكى معاوية ، ونزلت دموعه على لحيته وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن .
إي والله يا عبد الله .. هكذا كانوا ، فكيف نحن اليوم .
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت وأنت؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا.
أيها الأحبة .. بعد هذا الذي سمعناه من سير سلفنا العطرة .. هل من مشمر إلى الله ؟ هل من خائف من مولاه؟
أيها الغافل الآمن .. يا من يعصي ربه آمناً مكره .. تذكر قبل أن تعصي ربك : أن الله سبحانه يراك ، ويعلم ما تخفي وما تعلن، "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور".
تذكر قبل أن تعصي ربك : أن الملائكة تحصي عليك جميع أقوالك وأعمالك ، وتكتبها في صحيفتك، "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
تذكر قبل أن تعصي ربك .. لحظة موتك ، وخروج روحك ، ومساقها إلى ربك .. وتذكر ظلمات القبر ، ومواقف البعث والحشر .. وتطاير الصحف ، ونصب الموازين .
وأحضروا للعرض والحساب وانقطعت علائق الأنساب
وارتكمت سحائب الأهوال وانعجم البليغ في المقال
وشهدت الأعضاء والجوارح وبدت السوءات والفضائح
ونشرت صحائف الأعمال تؤخذ باليمين والشمال
تذكر قبل أن تعصي ربك : وقوفك بين يدي الله عز وجل وليس بينك وبينه حجاب أو ترجمان فيذكرك بكل ذنب عملته.
تذكر نار جهنم وبعد قعرها وشدة حرها وعذاب أهلها وهم يسبحون فيها على وجوههم .(31/3)
فعليك يا أخي بالخوف من الله .. الله الله بتعظيم الله .. وخشيته وتقواه .. (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) .
اللهم إنا نسألك خشيتك في السر والعلن ... إنك على كل
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله .. لا يفوتنا في هذا المقام أن نذكّر بجراح الأمة النازفة على تراب الأقصى المبارك .
فضمن جرائم العدو الصهيوني ، التي بدأت تتصاعد وتيرتها في رمضان الماضي ، وفي مجزرة جماعية جديدة ، وجريمة يهودية شنيعة ، قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي بالمدفعية العديد من المنازل في بيت حانون ، مما أدى إلى استشهاد 20 فلسطينيا، بينهم عدد من النساء والأطفال ، بينما بلغ عدد الجرحى 40 فلسطينياً .
قصفت دبابات الاحتلال المنازل بشكل مباشر مع طلوع الفجر .. منازل كاملة دمرت على رؤوس أصحابها وهم نيام، وعائلات كاملة سقطوا ما بين شهيد وجريح .
رأينا الأشلاء والدماء على شاشات القنوات ، وصفحات الصحف ، في مناظر بشعة ، ومشاهد محزنة .. نساء وأطفال تناثرت أشلاؤهم بفعل قذائف المدفعية الإسرائيلية .. وأم جمعت أطفالها حولها خوفاً عليهم ، فجاء القصف الصهيوني فأحالهم جثثاً فوق جثتها .. و طفل عمره عشرة أعوام مزقته القذائف اليهودية حتى خرجت أمعائه على الأرض .
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ٍ/ إن كان في القلب إسلام وإيمان
والسؤال الذي نردده دائماً : أين المسلمون؟ متى يستيقظ المسلمون من سباتهم؟ متى يضمدون جراح إخوانهم، ويرفعون الذل عنهم؟ .. متى ترعوي وسائل إعلامنا وقنواتنا الفضائية العربية التي لا تزال ترقص على أشلاء القتلى وجراح المصابين؟ .
هل تعودت أسماعنا على سماع مجازر إخواننا فلم تعد قلوبنا تتحرك بشيء ، ولو بالدعاء الصادق؟(31/4)
إن الواجب على المسلمين شعوباً وحكومات ومؤسسات ومنظمات أن يهبوا لنصرة إخوانهم ، وأن يواسوهم بالمال والدعاء والنصرة قدر ما يستطيعون ، نسأل الله أن يكشف الغمة ، ويوقظ الأمة ، ويجعل لإخواننا في فلسطين وفي كل مكان فرجاً ومخرجاً ، وينصرهم على القوم الكافرين .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(31/5)
خطبة ( الدفاع عن رجال الهيئة)
أيها المسلم .. ما هو شعورك لو أن ساحراً خبيثاً يكفر بالله العظيم، يريد أن يفرق بينك وبين زوجتك لا قدر الله ، أو يتسبب لك حفظك الله بشيء من الأمراض .. أو أن وافداً خبيثاً قد اتخذ مصنعاً للخمر بجوار بيتك، يوشك أن يبث الخمرة الملعونة بين أبنائك وإخوانك .. أو أن شاباً فاسداً يعاكس أخواتك أو يتحرش ببناتك .. فجاءت تلك اليد الحانية الحازمة، فقبضت على الساحر فأبطلت كيده، وداهمت الخمّار فقطعت شره، وأوقفت الشاب فمنعت فساده .. كل ذلك لتنعم أنت وأنا وكل مسلم ومسلمة بالأمان ، ونعيش في كنف العفة والفضيلة .
إنهم .. رجال الهيئات ، أُسْدُ الشّرى, ونمور الورى, وحماة الفضيلة، وحراس الأعراض، وصمامو الأمان .
رجال نذروا أنفسهم, وحملوا أرواحهم على أكفهم, صيانة لأعراض نسائنا, وفلذات أكبادنا من لصوص العورات وسُرَّاق العفة !
يكفي أن هؤلاء الرجال الأبطال ، يقومون بشعيرة هذه الأمة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الشعيرةٌ التي نلنا بسببها الخيرية على سائر الأمم , قال تعالى: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ )).
ووصف الله أهل الإيمان بأنهم: (( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).
إن من نعم الله الكبرى علينا في هذا البلد وجود جهاز حكومي يعنى بأعمال الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعمل جنباً إلى جنب مع أجهزة الأمن الأخرى ، برجال أمنها وفقهم الله وسددهم .
هذا الجهاز المبارك، من خصائص هذه الدولة المباركة التي قامت على الشريعة والملة .(32/1)
تأمل في كثيرٍ من المجتمعات التي ضعف فيها جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ترى جهلاً بالسنن , وانتشارا للبدع , وإهمالاً للصلوات , واتِّباع للشهوات . وأن من سنن الله الماضية أن يسلط العقوبات والنكبات على تلك المجتمعات ، فإن المنكر متى ما فشا في مجتمع ولم يجد من يقف في طريقه ؛ حلُّ بالأمة العذاب والهلاك .
ففي الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها أنها قالت : ((يا رسول الله أنهلِك وفينا الصالحون ؟ قال: ((نعم , إذا كَثُرَ الخَبَث)).
نعم .. إن وجود المصلحين في الأمة هو صمَّام الأمان لها , وسبب نجاتها من الهلاك العام , ولهذا قال تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) ولم يقل صالحون.
وروى أبو داوود والترمذي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إنَّ الناس إذا رأوُا الظالم فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه)).
الله أكبر .. إنه تهديد يهزُّ القلوب الحية , ويحثُّ على المسارعة إلى إحياء هذه الشعيرة والعمل بها وحمايتها والدفاع عن القائمين عليها.
فيا أيُّها المسلم : مُرْ بالمعروف وانْهَ عن المنكر بعلمٍ وحلم , ورفقٍ وصبرٍ ، مستعملا كل وسيلةٍ مباحة متاحة , سواء كان ذلك عن طريق الكلمة الهادفة , أو الكتيِّب المناسب , أو النَّشرة الصغيرة , أو الشريط المفيد , أو الهاتف أو الجريدة أو الرسالة الشخصية، أو غير ذلك من الوسائل التي تقطع المنكرَ أو تخفِّفه, والدال على الخير كفاعله , والمسلمون نَصَحَة , والمنافقون غَشَشَة , ومن يتحر الخير يُهْدَ إلى طريقه , ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يُمَهِّدُون.(32/2)
عباد الله .. ظل رجال الهيئة يتوارثون هذه المهمة الشريفة منذ عشرات السنين، حتى نبتت في مجتمعنا المحافظ نابتة خبيثة من أرباب الشهوات، وعشاق الرذيلة؛ فبدأت تُظهر امتعاضها وكراهتها لوظيفة الحسبة، وتجاهر بعدائها لهذا الجهاز ، وظل الهمز واللمز والتجريح والتقبيح ديدن غويلمة الصحافة الذين طالما دبجّوا المقالات وسوّدوا الصفحات بمكائدهم وأكاذيبهم .
أنجم الهيئات لم يسلم حماهم من نجاسات الأيادي والمحابر
طالبوا إغلاقها تبت عقول تبعت في فكرها أذناب كافر
إنما الهيئات تاج للمصلي ولأهل البغي شوك في الحناجر
إنما الهيئات سر الخير فينا منبر بالفعل لا كل المنابر
عباد الله .. لا شك أن لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دور عظيم في إصلاح المجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره ، فرجال الحسبة يحمون أعراض المسلمين ويحافظون على عقائدهم ، ويذّكرون الناس بإقامة شعائر الله ، ويحاربون الفساد، فكم من مروج للمخدرات قبضوا عليه ، وكم من وكر للدعارة كشفوه، وكم من مصنع للخمور أغلقوه ، وكم من دجال وساحر كبتوه، وكم من شاب ضال إلى الحق ردوه .
كم من عصابة تروج للفساد قمعوها، وكم من فتاة مغرر بها ستروا عليها وحفظوا عرضها، والحقائق والأرقام تشهد بهذا .. مع قلة الحوافز، وضعف الإمكانيات، وقلة الكوادر، وفي وقت تتسع فيه البلاد وتكثر المناشط ويقوى المؤثر الخارجي والإنفتاح العالمي .
بل أقول: كم عدد المجرمين الذين منَّ الله عليهم بالهداية رجالاً ونساءً بسبب نصح هؤلاء المصلحين .
فهذا شابٌّ يلاحق فتاةً في الشوارع ويقف ينتظرها عند مشغلٍ تجاري، فيقبض عليه وتنهمر عيناه بالبكاء ويعلن التَّوبة على يد عضو الهيئة الذي أسمَعَه موعظةً بليغة .(32/3)
وهذه امرأةٌ اعتادت الفساد تبكي وتُعلن توبتها في المركز بعد أن وقف أحد الأعضاء ينصحها ويعظها وهو تحت وابل المطر وقد تجاوبت عيناه مع السماء فأخذ يعظها ويبكي فتتأثر بكلامه وتقول : أدركت فعلاً أنَّه رجلٌ صادق .
هذه نماذج قليلة وغيضٌ من فيض مما يقوم به حماة الفضيلة، الذين أصبح حظهم وللأسف عند بعض الناس التندُّر بهم في المجالس , ونقل الشائعات ضدهم , وعدم التثبُّت مما يُقال عنهم , وتضخيم الأخطاء وتكبيرها , والله المستعان .
ومع هذا نقول: إن جهاز الهيئة ليس بمعصوم، بل يقع منه أخطاء من قبل بعض منسوبيه كسائر الأجهزة الحكومية الأخرى ذات الاحتكاك المباشر بالجمهور ، لكن هذه الأخطاء مغمورة في بحر الحسنات والمصالح .
سيظل رجال الحسبة بشراً يصيبون ويخطئون، ولكننا نجزم بأن أكثرهم لا يتعمد الخطأ ولا يتقصد الظلم ، كما أن هذه الأخطاء لا تمثل نظام الهيئة، وإنما تمثل سلوكيات بعض المنسوبين لها من حصول تهور واستعجال، أوعدم حكمة، والواجب استصلاح هؤلاء دون تعميم الأحكام، وتحميل الجهاز كله هذه الأخطاء ومعاداة هذه الشعيرة، فإن ذلك من سبل الإفساد التي ينتهجها أعداء الهيئة .
من هم أعداء جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أعداء الهيئة على أصناف:
فمنهم دعاة العلمانية واللبرالية الذين لا يؤمنون بالأمر والنهي أصلاً، وينادون بالحرية المطلقة .. ومنهم أهل الشهوات والمجاهرة بالمحرمات ، الذين يعادون الهيئة لأنها تقطع عليهم شهواتهم وتفسد برامجهم من السكر والعربدة والعبث ببنات المسلمين .. ومنهم من وقع له قصة مع الهيئة أو موقف شخصي ، وبنى على هذا الموقف عداوة عامة لجهاز الهيئة .. ومنهم بعض الجهلة الذين بنوا موقفهم العدائي تجاه الهيئة على قصص وأخبار دون تثبت وتفهم مع موافقة هوى في نفوسهم ، مع أن كثيراً مما يروى عن الهيئة كذب ملفق ليس له خطام ولا زمام .(32/4)
فليحذر المسلم من التهوين من أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يطعن في القائمين بهذه الشعيرة، أويشكك في مقاصدهم أو يشوه سمعتهم ، فإن رأى خطئاً أو نقصاً فليقصد المسؤولين في رئاسة الهيئات وليناصحهم ، وهم بحمد الله حريصون على الإصلاح والتسديد .
نسأل الله أن يصلح أحوال البلاد والعباد إنه قريب مجيب .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
عباد الله .. إنَّ مِمَّا يُؤذِن بشرٍّ عظيم ، ما انتشر في الآونة الأخيرة من تكرر الاعتداءات من بعض الْمُفسدين على أعضاء الحسبة أثناء تأديتهم لواجبهم .
وكان من آخر هذه الاعتداءات، ما وقع في الجمعة قبل الماضية في المنطقة الشرقية، حيث كانت دورية الهيئة تمارس عملها لمعتادة في الأسواق والأماكن العامة، فشاهدت الدورية مخالفة على بعض الأشخاص مما استدعى إحضارهم للمركز لتقديم النصح لهم واتخاذ الإجراء المتبع، وفي نفس اليوم، حضر أحد الشباب ومعه عدد كبير من أقاربه ودخلوا مبنى الهيئة، ثم قاموا بضرب أحد الأعضاء، وجره إلى الشارع مما نتج عنه إصابات متفرقة في وجهه وجسده نقل على إثرها إلى المستشفى .. ثم تم بعد ذلك القبض على المتورطين من قبل الجهات الأمنية وهم موقوفون رهن التحقيق، بينما بدأ الأخ المصاب بالتماثل بالشفاء بحمد الله.
وإن من حق هذا العضو المصلح علينا أن ندعو الله له بالشفاء العاجل، نسأل الله أن يشفيه ويعظم أجره .. ومن حقه على المجتمع أن يؤخذ على ؟أيدي أولئك السفهاء وتشدد عليهم العقوبة، جزاءً لهم وردعاً لأمثالهم .(32/5)
ولهذا الأخ ولكل المحتسبين نقول: أنتم أتباع الرسل، وحماة الدين والوطن، فاصبروا وصابروا ورابطوا, واحتسبوا الأجر عند الله، فإن أجركم عظيم، وثوابكم جزيل .. قد يقابلكم البعض بالنكران والجحود, وقد يتهمكم البعض بالقسوة والجمود,ولكن، حسبكم من عملكم دعوةٌ صالحةٌ من أمٍ أنقذتم ابنتها من غائلة الانحلال, ومن أبٍ أنقذتم ابنه من براثن الفساد, ومن أسرةٍ سرتم بها إلى بر النجاة، وأنقذتموها من التشرد والضياع.
والله يوفقكم ويرعاكم ويسدد على طريق الحق خطاكم ، وتذكروا قول الله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(32/6)
خطبة ( الدولة الصفوية )
الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق الخلق ودبرهم، وكلف الجن والإنس وابتلاهم، نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لخطايانا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنزل القرآن هدى ورحمة للعالمين، وقص علينا فيه آخبار الغابرين، عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين .. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلى الله تعالى ذكره في العالمين، وجعله حجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، عباد الله ، اتقوا الله ربكم، وأخلصوا له دينكم، وأحسنوا عملكم .
في هذه الخطبة ، نتصفح وإياكم شيئاً من صفحات التاريخ .. التاريخ المليء بالدروس والعبر .
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
لقد شهد تاريخ البشرية صراعاً بين الرسل عليهم السلام وهم يهدون الناس إلى سبيل الله ، وبين الشياطين وهم يصدونهم عن ذلك السبيل إلى سبل الغي والضلال .
وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من الديانات والملل الباطلة التي بعث الله على إثرها الرسل مبشرين ومنذرين .. حتى بعث الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام مصدقا لرسالات من قبله من الرسل ، وخاتما للأنبياء .. فآمن به من آمن من أهل القبلة ، ثم وقع الخلاف والتفرق بين أهل القبلة .. فمنهم من ثبت على الحق، ملتزما بالكتاب والسنة، مهتديا بهدي السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم، ومنهم من انحرف إلى بدعة مكفرة أو مفسقة، فأحدث في الإسلام ما ليس منه .(33/1)
وقد بدأت محاولات تحريف الإسلام، وإدخال العقائد الضالة فيه في آخر الخلافة الراشدة، عندما أراد عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق أن يقوم في الإسلام بذات الدور الذي قام به سلفه شاؤول في النصرانية، فأحدث ابن سبأ وأتباعه الخروج على عثمان رضي الله عنه، واستتبعوا ذلك بالغلو في آل البيت، وزعموا التشيع لهم، فأظهروا محبتهم، ثم غالوا في علي رضي الله عنه ، وادعوا العصمة له، ثم النبوة، حتى وصل بهم غلوهم إلى خلع صفات الربوبية عليه وعلى زوجه وولده رضي الله عنهم، مع طعنهم في بقية الصحابة رضي الله عنهم إلا عددا قليلا منهم، وسبهم للخلفاء الثلاثة الذين رضي الله عنهم، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم.
ثم لما بذر هؤلاء المنافقون بذرة الخلاف بين المسلمين، وسقوها بالأكاذيب والشائعات، وغذوها بالضغائن والأحقاد، وأوقعوا الخصومة بينهم كانوا هم أول من تخلى عن علي وابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهم، وخانوهم أعظم خيانة، حتى قتل الحسين رضي الله عنه ظلما وعدوانا بسبب خيانة من زعموا التشيع له، وجعل أولئك الخونة وأتباعهم يوم مقتله يوم مناحة ولطم وبكاء، وإحياء للضغائن، وسب لأولياء الله تعالى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان .. ثم انشطرت الشيعة إلى مذاهب عدة، وفرق كثيرة، يلعن بعضها بعضا، وتزعم كل فرقة منها أن الحق معها دون غيرها.
ومن أكبر فرقهم الإسماعيلية والأمامية الإثني عشرية .
ومضى التاريخ حتى كان القرن الرابع الهجري ، حيث قامت لهم دولة في الشام ومصر وهي دولة بني عبيد الباطنية التي تسمى زوراً الدولة الفاطمية ، فطمست هذه الدولة معالم الإسلام في مصر والشام، وأحيت البدع والضلالات، وامتحنت العلماء .. حتى قيض الله للمسلمين القائد العظيم صلاح الدين رحمه الله تعالى فأسقط هذه الدولة الخبيثة، ولم يقم لأتباع المذهب الباطني دولة إلا ما كان للبويهين ودولتهم زيدية .(33/2)
وقد سعى ابن العلقمي الرافضي في القرن السابع أن يبني لهم دولة في بغداد على أنقاض الدولة العباسية بعد خيانته لها، ولم يتم له ذلك فمات كمدا بحمد الله تعالى، وتعاقبت الدول المغولية وغيرها على بلاد العراق وفارس، وكانت دولا سنية، آخرها دولة للتركمان، سقطت في أوائل القرن العاشر على يد الدولة الصفوية أول دولة شيعية إمامية .
وقد قامت الدولة الصفوية على يد إسماعيل بن حيدر الصفوي، نسبة إلى جده صفي الدين الأردبيلي الذي كان واعظا صوفيا، عاش في القرن السابع ، وما زال أبناؤه وأحفاده يميلون للتشيع حتى اعتنقوا المذهب الإمامي الإثني عشري .
فلما آل الأمر إلى حفيده الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية حارب بالتركمانِ الصوفيةِ والمتشيعين دولتَهم السُنية فقضى عليها، فكان أول حاكم للدولة الصفوية وذلك عام تسع مئة وسبعة للهجرة .
واتخذت الدولة الصفوية مدينة تبريز الإيرانية عاصمة لها ، وشيعت إيران بالقوة فنقلت نسبتهم من (10%) إلى (65%).
عندما حكم إسماعيل الصفوي أعلن أن مذهب الدولة هو الإمامية الإثنى عشرية، وأنه سيعممه في جميع بلاد إيران، وعندما نُصح أن مذهب أهل إيران هو مذهب الشافعي قال: إنني لا أخاف من أحد .. فإن تنطق الرعية بحرف واحد فسوف امتشق الحسام ولن أترك أحداً على قيد الحياة. ثم صك عملة للبلاد كاتباً عليها:(لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله)، ثم كتب اسمه. وأمر الخطباء في المساجد بسب الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم، مع المبالغة في تقديس الأئمة الإثنى عشر. وقد عانى أهل السنة في إيران من ظلمه معاناة هائلة، وأجبروا على اعتناق المذهب الإمامي بعد أن قتل منهم مليون إنسان سني في بضع سنوات بشهادة مؤرخ شيعي.(33/3)
وكان الشاه الصفوي إسماعيل يجمع بين التعصب المذهبي والغلو والتكفير، وبين الدموية، فقد نقل عنه أحد أقربائه أنه أكثر القتل حتى قتل ملك (شروان) وأمر أن يوضع في قدر كبير ويطبخ، وأمر جنده بأكله ففعلوا ، وكان لا يتوجه لبلاد إلا فعل أشياء يندى لها الجبين من قتل ونهب . وكان من دمويته أنه ينبش قبور العلماء والمشايخ السنة ويحرق عظامهم، وكان إذا قتل أميراً من الأمراء أباح زوجته وأمواله لشخص لمن يختار.
ويكفي دليلا على تعصبه وهمجيته أنه دعا أمه للتشيع وكانت سنية حنفية، فأبت ذلك فأمر بقتلها فقتلت رحمها الله تعالى، وبلغ من طغيانه وجبروته أنه كان يأمر جنده بالسجود فيسجدون له.
وذكر أحد كبار مذهبهم ودولتهم في هذا العصر أن إسماعيل الصفوي كان ممالئا للإنجليز على الدولة العثمانية، وكان يعاقر الخمرة مع قادتهم ويقول لهم: (إنني أفضّل حذاء مسيحي على أكبر رجالات الدولة العثمانية).
وظل المد الصفوي يجتاح بلاد المسلمين حتى انتزع بغداد بعد سبع سنوات من قيام دولته، وكان انتزاعه لها أيضا بخيانة وممالأة من شيعتها آنذاك. ثم أمر بهدم مدينة بغداد وقتل أهل السنة ، وتوجه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يعذب أهل السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، ونبش قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقتل كل من ينتسب لذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في بغداد لمجرد أنهم من نسبه. وقد أرخ الشيعة في ذلك الزمان لهذه الحادثة حتى قال ابن شَدْقَم: (فتح بغداد، وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد، ما لم يُسمع بمثله قط في سائر الدهور، بأشد أنواع العذاب، حتى نبش موتاهم من القبور).(33/4)
وفر كثير من سنة بغداد إلى الشام ومصر، وحكوا للعالم الإسلامي ما فعل الصفويون ببغداد وأهلها، ووصلت أخبار المذابح العظيمة لأهل السنة إلى الدولة العثمانية، فاجتمع السلطان العثماني سليم الأول في عام عشرين وتسع مئة برجال دولته وعلمائها، وقرروا أن الدولة الصفوية تمثل خطراً على العالم الإسلامي ، وأن على السلطان جهادها، وإيقاف ظلمها وتنكيلها بالمسلمين، فحاول السلطان مفاوضة الصفوي إسماعيل فلما لم يستجب له، فسار إليه بجيش يقوده السلطان بنفسه قوامه مئة ألف، وجيش الصفوي مئة ألف أيضا، فالتقى الجيشان في صحراء جالديران، فهزمه السلطان هزيمة نكراء وقتل أكثر جنده، فقضى على حكمه في العراق بعد أن حكمها بالحديد والنار ست سنوات، فما كان من الصفوي الخبيث وقد أحس بالضعف إلا أن كاتب قائد البرتغال الصليبيين يطلب نجدته على أن يعطيهم مضيق هرمز وفلسطين، فكتب له قائد الصليبيين رسالة قال له فيها: إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر، أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي وسأنفذ له كل ما يريد.
ولكن الله تعالى خذلهم؛ إذ استطاع العثمانيون إفشال مخططهم، وظلوا يتتبعونهم حتى بعد هلاك الصفوي إسماعيل وتولي أبنائه من بعده.(33/5)
والمتأمل لما في المذهب الإثني عشري من المراسم الشاذة، والطقوس الغريبة، والممارسات المقززة في المناسبات الدينية يجد إنه من إحداث هذا الخبيث الضال، وضل أتباعه يمارسونها ويتناقلونها جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، نحمد الله تعالى الذي عافانا مما ابتلاهم به ، ونشكره على ما هدانا من الدين الحق الذي هو الرحمة والعدل، ونسأله سبحانه الثبات على الحق إلى الممات، إنه سميع قريب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
ونحن نتحدث عن تاريخ المد الصفوي ، فإنه يجدر بنا أن نستلهم العبر والدروس من التاريخ ، ونحن اليوم نرى الابتلاءات ، وتوالي المصائب والنكبات على أمة الإسلام، وعلى أرض العراق على وجه الخصوص .
حاضرة الخلافة الإسلامية خمسة قرون وزيادة، بلاد أخرجت أبا حنيفة النعمان، وإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، وغيرهم في كوكبة من العلماء الربانيين، والقادة والمجاهدين .
ماذا فعل عباد الصليب في العراق؟ .. ثم ماذا فعل عباد الحسين بأهل السنة في العراق؟ الذين ما إن استوت لهم كعكة العراق إلا وعملوا فيها بالمزيد من المذابح والتقتيل الطائفي .. بل أعلن المتنفذون منهم في العراق عن مشروعهم الطائفي البغيض ، حين ظهر كبير من شياطينهم على فضائية من فضائياتهم يقول: إن الشيعة ظلموا أربعة عشر قرناً، وآن لهم أن يأخذوا حقهم ، مذكرا بمقولة خمينيهم الهالك حين قال:السنة حكموا أربعة عشر قرناً، وآن للشيعة أن يحكموا العالم الإسلامي .(33/6)
أين هؤلاء الحاقدون من دول إسلامية سنية قامت في الشرق والغرب، وعلى مدى أربعة عشر قرنا، نعمت فيها بسلام كل الطوائف والمذاهب، بل حتى الكفار الأصليين من يهود ونصارى وغيرهم، وإن وجد حاكم ظالم مستبد طال ظلمه الجميع، ولم يميز في ظلمه على أساس طائفي مذهبي أو عرقي أو ديني، وكم في دول أهل الإسلام في هذا العصر من طوائف متنوعة، ومذاهب مختلفة، وأقليات متباينة، فهل فعلت بها دولها ما يفعله الصفويون الجدد بأهل السنة في العراق، وماذا سيفعلون بعموم المسلمين لو حكموا العالم الإسلامي كما يطمحون. أخزاهم الله تعالى وخذلهم، ورد كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.
إن في هذه النوازل العظيمة، لموعظة لعموم المسلمين حتى يصلحوا ما بينهم وبين الله تعالى، ويتوبوا من ذنوبهم، ويلجئوا إلى ربهم، فما أحوجهم إلى عون الله تعالى ومدده، وعافيته وحفظه، وتسديده وتثبيته، في وقت وقعوا فيه بين فكي المشاريع الصهيونية الإنجيلية، والطموحات الصفوية الفارسية.
{عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(33/7)
خطبة (الرد على البابا واستقبال رمضان )
الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان ...
أما بعد .. عباد الله .
لم يمض على اتهامات الرئيس الأمريكي للإسلام بالفاشية ، حتى فاجأنا بابا الفاتيكان (بندكتس السادس عشر) خلال زيارته إلى ألمانيا بتخليطه وافترائه المقيت على الإسلام .. حيث استشهد بمقطع من كتاب يحكي محادثة بين الإمبراطور المسيحي مانويل باليولوجوس الثاني وأحد المثقفين الفارسيين حول حقائق المسيحية والإسلام في القرن الرابع عشر حيث قال :"أرني ما الجديدُ الذي جاء به محمد . لن تجد إلا أشياءَ شريرةٍ وغيرِ إنسانية ، مثلَ أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف" . ثم قال عدو الله كلاماً آخر أنزه أسماعكم عنه .. سبحان الله .. صدق الله وكذب عدو الله .
هل ننتظر من رأس النصارى الضالين أن يأتي بغير هذا الكلام المهين ، وقد أخبرنا الله عنه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} ، و قال جلَّ وعلا : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، وقال تعالى :{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} .
ألم يرم هؤلاء محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالسحر ، بعد أن بشر به عيسى عليه السلام بأخيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) .(34/1)
إن من البلايا الكبيرة أن يتحدث نصراني عن العقل والمنطق، فأي عقل وأي منطق في الدين النصراني المحرف ، فكيف يكون الثلاثة واحد ، والواحد ثلاثة إلا في عقول المخرفين ، وأي منطق عند من يرى أن إلهه قتل ابنه حتى يخلص الآثمين من آثامهم .
ماذا ننتظر من رجل يسب الله حين يعتقد بأنه ثالث ثلاثة ، أو أن له ولد ، {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} .
لقد بلغت الوقاحة بهذا الكذاب الأشر أن يصف الإسلام الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بأنه دين العنف والسيف واللاعقلانية ، ويتجاهل تاريخ دينِ كنيسته المظلم المحارب للعلم والقاتل للعلماء، والمنافر للعقل والبعيد عن التوحيد والمتأصّل بالوثنيّة ، ويتجاهل الانحطاط الأخلاقي لرجال الكنيسة الذي لم يُعرف له مثيل عبر التاريخ ، ويتجاهل الوحشية والدمويّة المغروسة في نفوسهم.
إن على البابا بندكت أن يصلح حال كنائسه التي أزكمت فضائح شذوذ رجال الدين فيها الأنوف ، قبل أن يتحدث عن الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الافتراء ؛ ومن كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجر .(34/2)
ومع هذا نقول للبابا: إن كنت تعلم حقيقة الإسلام حقاً فلا غرابة أن يصدر منك هذاالحقد والحسد ، وإن كنت جاهلاً فاعلم أنت وغيرك أن الله تعالى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدين الحق ، رحمة للعالمين ، وتحمل - صلى الله عليه وسلم - في سبيل ذلك المشاق ، ثم شرع الله له الجهاد بالسيف من أجل إيصال كلمة السماء أمام كل مارق معاند جاحد مثلِك ، ليس تشوفاً لسفك الدماء وإنما لنشر كلمة السماء ، وأوصاه ربه بدعوة من يحارب : فإن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم .. وإن رفض الدخول وقَبِلَ الجزية فليبق على دينه ولا إكراه في الدين ، ويجب على المسلمين أن يحموه ويمنعوه كأحد أفراد المجتمع المسلم .. وأما إن أصر على الكفر ولم يقبل الجزية فليس بيننا وبينه إلا السيف .
أين هذا ممن قتلوا ملايين الأطفال بالعراق جوعاً ، وقتلوا أهل أفغانستان كمداً ، وساعدوا في قتل الفلسطينيين بأسلحتهم التي يمدون بها اليهود .
لقد نسي بوش وهو رئيس أكبر دولة في العالم ، والبابا وهو أعلى سلطة دينية للنصارى في العالم ، نسي الاثنان تاريخَهم الملوثَ بأعنف صور التدمير الحضاري، والإبادات الجماعية، واستغلال خيرات الشعوب، ولا أدلّ على ذلك من الحروب الصليبية والعالمية، ومحاكم التفتيش، وإبادة الهنود الحمر، واستعباد الزنوج، واستعمار الدول، وقراصنة الكشوفات الجغرافية، والشركات السارقة العابرة للقارات، وغيرها من جرائمهم .
وكالعادة بدأت ردود الفعل في العالم الإسلامي بالشجب والاستنكار والمطالبة بالاعتذار.. ووالله إنه من العار أن تكتفي الأمة بهذه المطالبات؛ ولا يعني ذلك اللجوء إلى العنف والانتقام الشخصي فهذا هو الحمق بعينه . فلا بد من رؤية عميقة لردود الأفعال ، ومآلاتها ، والمصالح والمفاسد المترتبة عليها .(34/3)
إن الشعوب الإسلامية لديها العاطفة والحب ولكن ينقصها العلم وينقصها العمل ، لاتعلم ، ولا تعرف ماذا تعمل..!! ومن هنا كان على العلماء واجب عظيم في تبصير الشعوب بالخطر الداهم على الإسلام وما يجب على الشعوب فعله .
إن الواجب المهمّ على أبناء الإسلام في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ أن يستمسكوا بالإسلام، وألا تزيدهم هذه الحروب المتنوّعة إلا ثباتا على الحقّ .. وإنّ أعظم ردّ على هذه المفتريات هو التمسك بهذا الدين العظيم ، بل والدعوة إليه ، فذلك هو الذي يردّ سهام القوم في نحورهم .
لقد عمد هؤلاء إلى حرب الإسلام بكافة أنواع الحرب، ومع هذا كان الإسلام أمضى وأقوى من أن يهزم .. (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
عباد الله .. من المهم جداً ، أن نتساءل: ماذا يريد هؤلاء؟ ما هو السر وراء هذه الهجمة الشرسة على الإسلام؟
إن السر الحقيقي وراء هذه الحملات، هو الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية، ، مما حدا ببعضهم إلى الكلام الصريح عن ضرورة التصدي لانتشار دين الإسلام .
مع أن الأوضاع الحاضرة ليست في مصلحة الإسلام والمسلمين؛ ومع أن الأحداث السيئة في بلاد الإسلام قد شوهت صورة الدين عند بعض الناس ، ومع التضييق على النشاطات الإسلامية والجمعيات الخيرية ، ومع تلك الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في التنصير ، حتى بلغت ميزانيات بعض مجالس الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة .. أقول : مع هذا كله لا يزال الإسلام ينتشر ويعتنقه الكثيرون .
والشواهد على انتشار الإسلام كثيرة ، أقتصر على ثلاثة منها:(34/4)
1 - زيادة أعداد المساجد في دول الغرب: فقد بدأت أعداد المساجد تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوتُ الأذان يرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، وبلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من (2000) مسجد ، وتعلو سماء فرنسا وحدها مئذنة (1554) مسجداً ولا تتسع للمصلين، وفي ألمانيا (2200) مسجد ومصلى، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام، وينتشر في أوروبا ، مع تشدّدِ الجهات الرسمية في أمر المساجد ومراقبةِ أهلها، والتضييقِ في إعطاء الرخص لبنائها .
2 - انتشار بيع نسخ القرآن الكريم والكتب الإسلامية
، ففي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة واحدة (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية. وفي فرنسا أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم بعد نفادها من الأسواق .
3- تزايد أعداد الداخلين في الإسلام: فقد ذكرت صحيفة (نيويورك تايمز) أن عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً يقدر بـ (25 ) ألف شخص ، وفي فرنسا أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين بعشرات الآلاف سنوياً، على الرغم من إجراءات الحكومة الفرنسية مؤخرًا ضد الحجاب الإسلامي.
عباد الله .. إن الأحداثَ مهما تعاظمت ، والخطوبَ مهما تراكمت ، فهي باعثةٌ على الفأل، مؤشرةٌ إلى قوة الإسلام ، ولولا أن الإسلام مصدر قوة وخوف للغرب لما شرقوا به وحاربوه .. وطالما مرّ بالمسلمين ظروف عصيبة و فرقة ومذلة ، ولكن سرعان ما توحد الشمل وانتفض المارد، وتجمع المسلمون ، فكان النصر المبين ، والأيّام دول، والعاقبة للمتقين .(34/5)
عباد الله .. وإن تعجبوا من كلام البابا الحاقد ، فالعجب كل العجب من بعض " باباواتنا " في بعض الصحف والقنوات ، الذين بصموا على كلام البابا وأيدوه ، وجعلوا كلامه فرصة لهدم قيم الإسلام وشرائعه حين يتهمونه بأنه دين العنف أو أنه انتشر بالسيف ، ولا يقصدون بالسيف الجهاد المشروع ، بل يقصدون به إكراه الناس على دين لا يوافق العقل ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم .
إنهم دعاة على أبواب جهنم ، تربوا وللأسف حول البيت العتيق ، ورضعوا من منهج الاسلام ، ثم انقلبوا عليه وهاجموه ، حتى غدوا أشد خطراً من " بابا الفاتيكان " الذي يعيش في كنيسته وصومعته بين كتب لا تساوي خروج الحمير .
وإذا تعاظمت السخريّة من الغرب بالإسلام وأهله ، فإن السخرية تتعاظم أكثر حين تصدر من بعض أبناء الإسلام، و يتعاظم الخطر حين يُطاف بالسخرية على الملإ عبر وسائل الإعلام المرئيّة أو المسموعة أو المقروءة؟
إنها قوم طائشون ، بُلي بها المسلمون ، يلمزون المطوعين من المؤمنين، ويسخرون بالهيئات الإسلامية ولو كانت ضمن الدوائر الرسميّة .. لا يرعون حرمة الزمان ، ولو كانت أيام رمضان؟ .. فهل يكف هؤلاء عن طيشهم؟ وهل يكفّون عن السخرية والاستهزاء تعظيما لحرمة شهر الصيام ، وتقديراً لمشاعر المسلمين ، وحفظاً لطاقات الأمة أن تبدد، و لصفّها أن يتفرّق .. وهل يدركون أن عدونا يرمينا عن قوس واحدة وعلى مختلف الأصعدة، فهل يكونون معنا أو مع عدونا؟ .
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويكبت عدوهم، ويرد ضالهم إليه رداً جميلاً،إنه على كل شيء قدير.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي فضل رمضان على غيره من الأزمان ، وأنزل فيه القرآن ، هدى وبينات من الهدى والفرقان ، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ...(34/6)
عباد الله .. ضيف كريم ، سيَحُلُّ علينا هذه الليلة أو التي تليها .. شهر عظيم ، تصفد فيه الشياطين ، وتفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب النار .
شهر .. يزين الله فيه جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ، ثم يصيروا إليك .
شهر .. فيه ليلة القدر هي خير من ألف شهر من حُرِم خيرَها فقد حُرم الخيرَ كله ، ومن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
فحري بنا أن نستغل أيام الشهر وأقاته، بل ساعاته ولحظاته.
لقد شرع الله الصيام تربية للأجسام ، وترويضاً لها على الصبر وتحمل الآلام .. شرعه تقويماً للأخلاق والنفوس ، وتعويداً لها على ترك الشهوات ومجانبة المنهيات ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب إلى الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
إن الصومَ الحقيقيَ ليس مجردَ الإمساك عن الأكل والشرب والاستمتاع ، ولكنه مع ذلكم إمساكٌ للجوارح كلها عن ما نهى الله عنه . فالصائم حقيقة من خاف الله في عينيه فلم ينظر بهما للحرام لا في شاشة ولا موقع ولا مجلة ، واتقى ربه في لسانه فكف عن كل قول محرم ، وخشيه في أذنيه فلم يسمع بهما منكر ، وخشيه في ماله فلم يكسبه من حرام من ربا أو سرقة أو غش ، ولم ينفقه في حرام من سلعة محرمة أو مسابقات محرمة كالقمار ومسابقات السبعمائة وغيرها .
وإياكم والتفريطَ في هذا الموسم العظيم ، فأيامه معدودة وساعاته محدودة ، ولا تكونوا من الذين جعلوا رمضان موسماً للهو والعصيان ، فباؤوا بالخسران والحرمان .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(34/7)
خطبة ( الرياضة كاس العالم )
الحمد لله الذي له ما في السماوات ... البشير النذير
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ... أما بعد .
في عالم يموج بالقلاقل والفتن ، ويضطرب بالدواهي والمحن ، .. وفي الوقت الذي يلقى فيه إخواننا على أرض فلسطين أبشع ألوان الجوع والحصار ، وتسلط الأعداء الفجار، وبينما يئن العراق تحت وطأة الفوضى والاحتلال .. في هذا الوقت الساخن ، تتوجه اليوم أنظار الملايين في شتى دول العالم إلى الحدث الكبير ، ألا وهو ما يسمى بكأس العالم .
وبهذه المناسبة نقول: يجب أن نعترف أن الرياضة ، وخاصةً كرةَ القدم ، أصبحت تشكل اهتماماً عالمياً عند أكثر شعوب العالم ، ومنها الشعوب الإسلامية ، وهذا واقع لا مفر منه ، ولا جدال فيه .
ولكن السؤال الذي يهمنا في هذا المقام هو: هل الإسلام ضد الرياضة؟ ولماذا يتعامل كثير من أهل التربية والإصلاح مع الرياضة بشيء من التخوف والحذر؟(35/1)
أما الكلام في أصل الرياضة وممارستها ، فقد جاء في بعض النصوص الشرعية ما يشير إلى الحث على ممارسة بعض أنواع الرياضة كوسيلةٍ للصِّحَّةِ والقوةِ ... ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ...)). ومنْ وسائلِ اكتسابِ القوةِ، ممارسةُ بعضِ الأنشطةِ الرياضيةِ التِي تُنمِّي الجسمَ وتقوِّيهِ، كالرمايةِ، والسِّباحةِ، والمصارعةِ، والعدْوِ، ونحْوِ ذلكَ ... وبهذا جاءتْ توجيهاتُ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابَتِهِ الأبرارِ ... وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ . قَالَ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ .(35/2)
وكانَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهمْ يتسابقونَ على الأقدام، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّهُمْ عليهِ، ويُرْوَى أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارعَ رجُلاً معروفاً بقوَّتهِ يسمى رُكانةَ، فصَرَعَهُ النَّبِيُّ أكْثَرَ من مرَّةٍ، كما شَهِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتفالاتِ المبارزةِ، فقدْ رَوَتْ عَائِشَةُ زوجُ النبيِّ الكريمِ: (كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ) رواه البخاري.
وقالَ عمرُ رضي الله عنه: "عَلِّمُوا أولادَكُمُ السِّباحةَ والرِّمايةَ، ومُروهُمْ فَلْيَثِبُوا على ظهورِ الخيلِ وَثْباً".
فهذه ألوانٌ من اللهوِ، وأنواعٌ من الرِّياضَةِ كانتْ معروفةً عندَهُم، شرَعَها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمينَ، لمُزاوَلَتِها أو للفُرجَةِ، ترفيهاً عنهُمْ، وترويحاً لَهُمْ، وهي في الوقتِ نفسِهِ تُهَيِّءُ نُفُوسَهُم للإقبالِ على العباداتِ والواجباتِ الأُخْرَى، ليكونوا أكْثرَ نشاطاً وأشَدَّ عزيمةً .
ومن هنا نقول: إنَّ الإسلامَ يُقِرُّ ويَحُضُّ على الرِّياضةِ الهادفةِ النَّظيفةِ، التي تُتَّخَذُ وسيلةً لا غايةً، وتُلْتَمَسُ طريقاً إِلىَ إيجَادِ الإنْسانِ الفاضِلِ المتميِّزِ بجِسْمِهِ القوِيِّ، وخُلُقِهِ النَّقِيِّ، وعَقْلِهِ الذَّكِيِّ، فمن حقِّنا أن نتمتَّعَ بالرياضةِ، إذا كانت وسيلةً لا غايةً، واسْتِمْتاعاً لا تَعَصُّباً ، وإنما المحظور الواقع في بعض انواع الرياضات اليوم ما يشوبها من المحظورات الشرعية .(35/3)
فرياضة المصارعة حلالٌ كما تقدم ، ولكنْ عندما تتحوَّلُ إلى استعراضٍ للعُريِ، فإنَّ هذا النَّوعَ من المصارعةِ يدخلُ قائمةَ المحظوراتِ من الرِّياضاتِ، فضَرورةُ سَتْرِ الأجْسادِ لا تحتاجُ إلى دليلٍ، يكفي قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي سعيد : ((لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ))رواه مسلم.
وسِباقُ الخيلِ حلالٌ، ولكن عندما يُصْبِحُ السِّباقُ بُؤْرَةً للمراهَناتِ، فإنَّ السباقَ يدخلُ دائرةَ المَيْسِرِ والقِمارِ المُحَرَّمِ والمَنْهِيِّ عنه، وكُرَةُ القدمِ من أنواعِ الرياضةِ المباحةِ، ولكنْ شريطةَ ألا تَشْغَلَنَا عنْ واجباتٍ ثِقالٍ تلاُحِقُنا من يمينٍ وشِمالٍ .
والملاحظ أن الرياضةَ ـ وخاصَّةً كرةَ القدمِ ـ صارتْ كالبلاءِ أو السُّعارِ، حتى انحرفتْ عنْ طَريقِها المقبولِ، وزادتْ عن حدِّها المعقولِ، فالجماهيرُ الغفيرةُ منَ الناسِ تتْرُكُ أعمالَهَا من أجلِها ، والألوفُ تتجَمَّعُ حَوْلَ أَجْهِزَةِ التلفزيونِ لمشاهدة مبارَياتِها بِحِرْصٍ وشَغَفٍ ، وضَّجيجٍ وصَّخب ، ومناقشةِ حادَّةِ، وتَّعصُّبِ مقيت، يجر أحياناً إلى خلافٍ عنيفٍ، أو إلى خصومةٍ هائجةٍ ، بين الأصدقاءِ والمعارفِ، وبين الأزواجِ والزَّوْجاتِ، وبين الأبناءِ والآباءِ، وقدْ تبلغُ حدَّ التقاذُفِ بالتُّهمِ والشتائمِ .
ومن التناقضات أن بعض الشباب يحفظ أسماء اللاعبين ومراكزهم ، وأرقام فانيلاتهم ، وآخر أخبارهم ، أعظم من حفظه لقصار السور من القرآن .
وبعض المشجعين لا يمكن أن تفوته أي مباراة ، وتفوته الصلاة أو أكثر من صلاة في اليوم الواحد .(35/4)
وفي بعض المباريات الهامة تكتظ المدرجات قبل المباراة ، وفي أوقات الصلاة ، وترى الكثير من الشباب لا يفكرون في التحرك من أماكنهم ليؤدوا الصلاة .
وإذا انتهت المباراة عُقِدت المجالسُ الطويلة والنقاشات الحادة حول تحليلِ المباراة ، وأخطاءِ الحكم، وقد تنتهي هذه المجالس بالنزاع وإثارة البغضاء في القلوب .
وتطالعنا الصُّحُفُ والإذاعاتُ بأخبار من يموتُ بالسَّكْتةِ القلبيةِ لأنَّ فريقَه الذي يشجعه قدِ انهزمَ، وبأخبار الزَّوْج الذي ضَرَبَ أو طلَّقَ زوجتَهُ غيْظاً، أو كسَّرَ تِلْفازَهُ غضباً وسُخطاً، وفي بعض المساجد ربما قل عدد المصلين وخاصة الشباب ، في الأوقاتِ التي توافقُ بثَّ المبارياتِ، حتىَّ جاء منْ يسْألُ ويَسْتفْتِي: هل يجوزُ تأخيرُ الصلاةِ إلى أن تنتهيَ المُباراة؟ لأنَّه سَيُحْرَمُ من مُشَاهَدَتِها، أو على الأقَلِّ سيُحْرَمُ من شَوْطِها الأولِ .
سبحان الله .. ألِهَذِهِ الدَّرَجَةِ أصبح حرصُ بعضنا على مُشاهَدَةِ المُبارَيَاتِ أشدَّ من حرصه عَلَى الصَّلاة؟
عباد الله .. إنَّ من شَغَلَتْهُ الرياضة عنِ الصَّلاةِ، أو أجَّلَ وأخَّرَ الصَّلاةَ عن وقتِها من أجْلِها ، عليه أنْ يُرَاجِعَ نفسه ، ويخشى على إيمانه، ويَعْلَمَ أنَّ طاعَتَهُ للهِ ورَسُولهِ ناقصة .
قال اللهِ تعالى: (وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ) .
أما ما يسمى بالتعصب الرياضي ، فهو عالم غريب ، وأذكر أنني أجريت بحثاً حول التعصب الرياضي ، ووقفت على بعض المأسي المتعلقة بسلوكيات الشباب اللا أخلاقية بعد المباريات .. من إغلاقٍ للشوارع ، وممارسةٍ للسرعة والتفحيط ، ورفعٍ لأصوات الموسيقى ، ورقصٍ في الشوارع ، وإيذاءٍ للناس والعوائل ، ومضايقةٍ النساء ، وتعدٍ على الممتلكات ، وغيرها من المظاهر .(35/5)
لماذا يا شباب؟ أين الخوف من الله؟ أين شكر نعمته؟ أين الخوف من سطوته؟
إنَّ الإسلامَ لا يمنع الرِّياضةَ، بلْ هو يدعو إليها، ويحثُّ عليها، ولكنَّهُ يُريدُها وسيلةً للتَّربيةِ والتهذيبِ، لا أن تكونَ مدعاة لضياع الحقوق والواجبات ، أو التجرؤِ على الحرمات .
فنقول لكل شاب: احرص على ما ينفعك ، وكن متوازناً في ممارسة الرياضة والاهتمام بها ، وإياك والتعصب ، وإيذاءَ العباد ، والإفسادَ في البلاد ، (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهاك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) .
عباد الله .. وإذا انتقلنا إلى المخاطر التي نخشى على شبابنا منها في سفرهم إلى كأس العالم ، فإن أعظم ما نخشاه عليهم هو الخطر العقدي بوجودهم في بلاد الكفر التي أفتى العلماء بتحريم السفر إليها إلا لحاجة ، ناهيك عن الخطر الأخلاقي في بلاد تعج بمواخير الفساد ، حتى نقل المراقبون أن ما يقارب أربعين ألف امرأة من البغايا اللواتي يمتهن الزنا والعياذ بالله سيصلن إلى ألمانيا استغلالاً لهذه المناسبة ، بينما تصرح الحكومة الألمانية بأنها تحارب الدعارة غير المقننة ، غير المقننة ، يعني لا بأس بالدعارة إذا كانت مقننة من قبل الدولة .
والله إنه لمنتهى التخلف والانحلال والعياذ بالله .
نسأل الله تعالى أن يهدي شبابنا ، وأن يجنبنا وإياهم مظلات الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أطعم وسقى ، وآوى وكسى ...(35/6)
عباد الله .. وإذا تقرر أن الرياضة واقعٌ لا بد منه في حياتنا وحياة أبنائنا ، فإنه لا بد لكل من أراد مزاولة الرياضة أو الاهتمام بها ، أن يتحلى بآداب الإسلام في هذا البابِ، ومن أهمها التوازن والوسطية في الاهتمام بها ، وعدم الغلو أو التعصب ، وان يتواضعَ عند الفوزِ، ويفرحَ في غيرِ إسرافٍ ولا خيلاءٍ، وأن يصبرَ ويرضى عندَ الهزيمةِ ، ويسيطرَ على النفس عندَ الغضبِ، فالرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ [أي الذي لا يغلبه الرجال] إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) كما في البخاري عن أبي هريرة.
فالرِّياضِيُ البطل هو الذي يملكَ نفسَهُ عند الغضب ، فلا يقعَ منهُ تهوُّرٌ أو تمرُّدٌ أوِ اعتِداءٌ على الآخرين .
عباد الله .. علِّموا أولادَكُم أن اللهَ العلِيَّ القويَّ يريدُ لنا أن نكونَ أقوياءَ، أقوياءَ في إيمانِنَا، وأقوياء كذلك في أبْدانِنَا، مُتَطَهِّرينَ في أَخْلاقِنَا، معتزين بديننا وقيمنا .
الرياضة من أسباب الصحة وقوة البدن ونصرة الدين ، وإنك لتعجب من أن الذي يمارس الرياضة إنما هم عدد من الأفراد المعدودين ، بينما الألوف المؤلفة تتجمد عروقها في المدرجات ، وتحترق أعصابها خلف الشاشات .
وعلى كل حال نقول: الرياضة جائزة أو مشروعة في الإسلام . لكنها متى ما تضمنت تفويت واجب أو ارتكاب محرم ، أو طغت على حياة الإنسان بحيث تستغرق الأوقات ، وتهدر الطاقات ، فإننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في تعاملنا معها بوسطية واعتدال .
ألا فلنتَّق اللهَ في كُلِّ أُمورِنا، ولْنَتَأَسَّ بِهَدْيِ وتعاليمِ دينِنَا، ولنعلم أن الأمة التي تتنازل عن قيمها ومباديء دينها أمة لا تستحق العيش ولا العز ولا الشرف ، نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال أمتنا في كل مكان .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(35/7)
خطبة ( السفر في الإجازة)
أما بعد .. أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن تقوى الله هي الزاد في الحال والسفر، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) .
أيها الأحبة .. عندما نتحدث عن السياحة والسفر فإننا نتحدث عن أهم قضايا الإجازة الصيفية .
ولا شك أن السفر له فوائد كثيرة أشار إليها الشافعي رحمه الله في قوله:
تغرب عن الأوطان تكتسب العلا /وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريجُ همٍّ واكتسابُ معيشة/وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجد
فإن قيل في الأسفار ذلٌ وشدةٌ/وقطعُ الفيافي وارتكابُ الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته/بدار هوانٍ بين واشٍ وحاسد
فالشافعي رحمه الله عدّ من فوائد السفر خمس فوائد: وهي: انفراج الهم، واكتساب المعيشة، وتحصيل العلم، واكتساب الأدب، وصحبة الأخيار .
وقال الثعالبي: من فضائل السفر، أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار ، ومحاسن الآثار ، ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى .
أيها المبارك .. هل ستسافر؟ وإلى أين تسافر ؟ وهل تعود من سفرك مأجوراً ، أو تعود مأزوراً ، أو تعود سالماً لا لك ولا عليك.
هذا التفصيل يجرنا إلى الحديث عن أنواع السفر .
السفر أنواع ، منه الواجب والمستحب والمباح والمحرم والمكروه .
فمن السفر المشروع : السفر لطلب العلم النافع .
وقد ألف أهل العلم وصنفوا في الرحلة في طلب العلم ، وجمع ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - . ورحل جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله بلغه عن عبد الله بن أُنيس، حتى سمعه عنه. قال الإمام الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعاً.
ولهذا لما سئل الشعبي عن هذا العلم الغزير الذي وهبه الله ، من أين لك هذا العلم؟ قال : بنفي الاعتماد ، والسير في البلاد (يعني السفر في طلب العلم) ،وصبر كالجماد ، وبكور كبكور الغراب .(36/1)
وإن من السنن الحسنة التي انتشرت في بلادنا المباركة سنة الدورات العلمية المكثفة التي تعقد في كثير من المدن ، ويسافر إليها الشباب من شتى الأماكن ليتلقوا مفاتيح العلوم ، والتأصيل العلمي في فنون العلم . فعلى الشاب أن يختار من هذه الدورات أو من مواد كل دورة ما يناسب مستواه العلمي ، ثم بعد ذلك يحرص على الاستفادة وجمع الفوائد ومراجعة العلم ، مع التأدب بآداب مجالس العلم . والتي ذكرها العلماء في كتب فضل العلم وآداب العالم والمتعلم ، وطرق الاستفادة من الشيوخ ، ومن الكتب المعاصرة النافعة كتاب (معالم في طريق الطلب) للشيخ عبد العزيز السدحان وفقه الله فهو كتاب مفيد مليء بالفوائد والتجارب في تلقي العلم وتحصيله والتأدب بآدابه .
ومن السفر المشروع أيضاً السفر إلى بيت الله الحرام أو مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيرجع الشاب إن رجع من سفره مثاباً مأجوراً ، وإن مات مات على عمل صالح.
وتأملوا معي قصة هذا الشاب الذي خرج مع إخوانه لأداء العمرة .. وعندما وصلوا إلى مكة دخلوا المسجد الحرام ، وهم بلباس الإحرام ، كانوا مسافرين فقالوا : لعلنا نصلي أولاً ثم نؤدي العمرة ، صفوا للصلاة ، وتقدم الشاب يصلي بهم ، وبدأ يقرأ القرآن ، (والضحى والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللآخرة خير لك من الأولى ، ثم قال: ولسوف يعطيك ربك فترضى ، فتوقف لسانه ، ثم توقفت أنفاسه ، وخر بين يدي ربه ميتاً ، محرماً مصلياً قارئاً للقرآن . وسوف يرضى بإذن الله تعالى .(36/2)
ومن السفر المشروع السفر لصلة الرحم وزيارة الأقارب ، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((زار رجل أخًا له في قرية، فأرصد الله على مدرجته ملكًا، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمةٍ تربُّها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) .
أيها الإخوة .. من أنواع السفر : السفر المباح : كالسفر للترويح البريء وإجمام النفس وهذا مباح في الأصل ، وقد يتحول إلى عبادة مستحبة كأن يكون عوناً للإنسان على الطاعة ، أو توسعة على الأهل والأولاد وإدخالاً للسرور عليهم في حدود الاعتدال .
ومن أنواع السفر : السفر المحرم ،كالسفر لبلاد الكفر بلا ضرورة ، وقد ذكر أهل العلم شروطاً ثلاثة لجواز السفر إلى بلاد غير المسلمين، أولها: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، ثانيها: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، ثالثها: وجود الحاجة للسفر كالعلاج أو الدعوة إلى الله أو تعلم علم ينفع المسلمين أو للتجارة، وكل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه، عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادراً على إقامة شعائره، ولديه من العلم والتقوى ما يحول بينه وبين التأثر بالشبه والشهوات .
ومن السفر المحرم أيضاً : السفر لبعض البلدان الفاسدة ، وقضاء الأوقات فيها على المحرمات .
يتهافت الشباب على وكالات السفر ليسافروا إلى تلك البلدان ، بل وحتى بعض كبار السن لم يسلموا من هذه المنكرات .(36/3)
فهذا شيخ قد جاوز عمره الستين سنة ، سافر من هذه البلاد إلى إحدى البلدان المعروفة ليتعاطى الخمور ويقع في أحضان المومسات -عافاني الله وإياكم- فشرب في اليوم الأول ست زجاجات من الخمر، وشرب في اليوم التالي أكثر من ذلك، وشرب في اليوم الثالث اثنتي عشرة زجاجة؛ وبينما هو جالس مع أصحابه شعر بنوع من الغثيان ، فذهب ليتقيأ (أكرمكم الله) في دورة المياه . انتظره أصحابه طويلاً ثم ذهبوا إليه ليجدوه ميتاً ورأسه في محل قضاء الحاجة عافانا الله و إياكم من ذلك .
تحولت السياحة في عرف الكثير من الناس إلى صياعة .. تحررٌ من الواجبات .. وارتكابٌ للمحرمات ، وتعاطٍ للمسكرات والمخدرات ، وسهراتٌ مع النساء العاهرات .. يسافرون عبر بوابات المطار ، فيعودون عبر بوابات الإيدز والمخدرات ، بل قد يعود بعضهم وقد انسلخ من عقيدته ، وتمرد على دينه وأهله .
أخي الكريم .. يا من أعد العدة للسفر الحرام ، اسأل نفسك وأنت تدعو دعاء السفر : اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى .
هل تريد حقاً بهذا السفر البر والتقوى .
وإذا عدت إلى بلادك بعد سفرك وأنت تقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ، فاسأل نفسك: أزاد إيمانك في سفرك هذا أم لا؟ هل تحب أن يعلم الناس ما الذي صنعته خلال سفرك أم لا؟ فكيف بالله .. (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) .
هل بلغك خبر ذاك الشاب الذي ابتعد عن أهله فقلت غيرته واختلى بالمعاصي فمات بين يدي عاهرة؟ وهل سمعت بخبر من مات وقد ملأ بطنه بالشراب المحرم؟ أو ما علمت بوباء الإيدز والأمراض الجنسية التي فتكت بالملايين ممن ولغوا في المحرمات .
ومن المؤسف أن إحصائيات الإيدز في العالم لا زالت في ازدياد ، بما في ذلك الدول العربية والخليجية .
إنهم صرعى الشهوات الذين شغلتهم لذة الشهوة المحرمة عن تأمل عواقبها وعقابها .. مثلهم كما يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر كمثل الكلب .(36/4)
يقول ابن الجوزي : إن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع ، غيّر اسمي فإنه قبيح . فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم . قال: فجربني ، فأعطاه شقة لحم ، وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغيّر اسمك . فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر . فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي وما كلب إلا أحسن اسم ، فأكل .
وهكذا الخسيس الهمة ، القنوع بأقل المنازل ، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل ، فالله الله في حريق الهوى إذا ثار ، وانظر كيف تطفئه . اهـ
أيها الأحبة .. كيف يكون سفرنا مباركاً؟
القاعدة النبوية هي قوله - صلى الله عليه وسلم - :(اتق الله حيثما كنت) .. كما عند الترمذي عن أبي ذر ، وهذا من جوامع الكلم .
تقوى الله تعني : المحافظة على أوامر الله ، واجتناب نواهيه .
تقوى الله ليست محددة بزمان ولا مكان ، وأنت عبد لله في جميع الأحوال .
ولا يليق بالعبد أن يعطي نفسه إجازة دينية في السفر ، والله يقول (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) .
مهمة الإنسان في هذه الحياة عبادة الله ، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
المسلم الحق ثابت على مبادئه، معتز بدينه وعقيدته، في كل زمان ومكان ، فمحياه كله لله، وأعماله جميعها لمولاه، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
أيها المؤمنون .. للسفر آداب كثيرة .
فيستحب لمن عزم على السفر أن يبدأ بالتوبة من المعاصي وأن يخرجَ من مظالم الخلق ويقضيَ ما أمكنه من ديونهم، ويكتبَ وصيته ، ويتركَ لأهله ما يلزمهم من نفقة ونحوها. ويستحب له أن يطلب رفيقاً صالحاً، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه .(36/5)
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرُّفقة في السفر، فقال: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)) رواه أحمد وأبوداود والترمذي ومالك وصححه الألباني .
ويشرع للمسافر أن يدعو بدعاء السفر في أول سفره ، كما يستحب له التكبير إذا ارتفعت به الأرض، والتسبيح إذا انخفضت به الأرض ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفره إذا علا على شرف كبر، وإذا هبط واديا سبح، وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) رواه البخاري .
وعلى المسافر أن يراعي تصرفات أبنائه وبناته ، وأن يحذر من انفلاتهم في مشاهدة القنوات الفضائية التي توجد في بعض الفنادق والشقق المفروشة ، وعليه أن يلزم نساءه الحجاب الشرعي ، فلا تتساهل المرأة في أمر الحجاب في الأسواق والطرقات بحجة أنها لا تُعرف في السفر .
أيها الأحبة .. وقبل أن نسافر ، علينا أن نتذكر أننا كلَّنا مسافرون ، مسافرون في حياتنا وسائرون إلى ربنا .
كل إنسان في هذه الحياة مسافر إلى ربه كما يقول ابن القيم فمن الناس من يحط رحله في الجنة ومنهم من يحط رحله في النار ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور .
إنه السفر الذي لا بد له من التزود ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) .
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(36/6)
خطبة ( الصلاة 1 )
أما بعد .. المكان : مسجد رسول الله ( . الزمان : السنة الثالثة والعشرين من الهجرة .. الخليفة : عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخرج من بيته ليصلي بالناس صلاة الفجر .. يدخل عمر المسجد .. تقام الصلاة .. يتقدم المصلين .. و يسوي الصفوف .. استووا ، استووا .. يكبر عمر ويصلي .. وبينما هو يصلي يتقدم إليه المجرم أبو لؤلؤة المجوسي فيطعنه عدة طعنات بسكين ذات حدين .
أما الصحابة الذين خلف عمر فسقط في أيديهم أمام هذا المنظر المؤلم .
وأما من كان في خلف الصفوف في آخر المسجد فلم يدروا ما الخبر .. فما إن فقدوا صوت عمر رفعوا أصواتهم : سبحان الله .. سبحان الله . ولكن لا مجيب .
يتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فيقدمه فيصلي بالناس.
يحمل الفاروق إلى بيته .. فيغشى عليه حتى يسفر الصبح . اجتمع الصحابة عند رأسه فأرادوا أن يفزعوه بشيء ليفيق من غشيته . نظروا فتذكروا أن قلب عمر معلق بالصلاة . فقال بعضهم : إنكم لن تفزعوه بشيء مثل الصلاة إن كانت به حياة . فصاحوا عند رأسه : الصلاة يا أمير المؤمنين ، الصلاة . فانتبه من غشيته وقال : الصلاة والله . ثم قال لا بن عباس : أصلى الناس . قال : نعم . قال عمر : لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة . ثم دعا بالماء فتوضأ و صلى وإن جرحه لينزف دماً .
هكذا أيها الأحبة كان حالهم مع الصلاة . حتى في أحلك الظروف ، بل وحتى وهم يفارقون الحياة في سكرات الموت .كيف لا وقد كانت هذه الفريضة الهم الأول لمعلم البشرية ( وهو يعالج نفسه في سكرات الموت فيقول : الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم .
إنها الصلة بين العبد وربه ، إنها أُمّ العبادات وأساس الطاعات، إنها نهر الحسنات الجاري وسيل الأجور الساري، إنها العبادة التي لا يقبل الله من عبد صرفاً ولا عدلاً إلا إذا أقامها، إنها عمود الدين وشعاره، وأُسّه ودِثاره.(37/1)
إنها قرة عيون المؤمنين كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : وجعلت قرة عيني في الصلاة . رواه أحمد والنسائي
ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: أرحنا بها يابلال . كما عند أحمد وأبي داود .
أرحنا بها يابلال .. لا كما يقول بعض الناس : أرحنا منها يا إمام .
وقل لبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
أيها المؤمنون .. كيف تكون الصلاة راحة نفوسنا وربيع قلوبنا؟
تكون الصلاة كذلك بتحقيق أربع مراتب :
الأولى : المحافظة عليها جماعة في بيوت الله .
الثانية : إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها .
الثالثة : المبادرة والتبكير إليها .
الرابعة : الخشوع وحضور القلب .
ولعلنا نقتصر في هذه الخطبة على المرتبة الأولى وهي المحافظة على صلاة الجماعة وتعلق القلب بها ، ونقارن فيها أحوالنا بأحوال السلف الصالح في صلاتهم ، ليتوب المسيء من إساءتاه ، ويتنبه المقصر إلى تقصيره ، ويزداد المحسن إحساناً وتكميلاً لصلاته .
أيها المؤمنون : لقد سطر سلفنا الصالح صوراً مشرقة في المحافظة على صلاة الجماعة .
ففي صحيح مسلم ينقل لنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - صورة حية لصحابة رسول الله ( وحالهم مع صلاة الجماعة فيقول: ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد رأيت الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف .
فأين النائمون عن صلاة الفجر و العصر الذين أنعم الله عليهم وأصحّ لهم أجسامهم ؟ وما عذرهم أمام الله تعالى ؟.
منائركم علت في كل حيٍّ ومسجدكم من العباد خالي
وصوت أذانكم في كل وادٍ ولكن أين صوت من بلالِ
وهذا سعيد بن المسيب يقول : ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة .
ولما اشتكى سعيد عينه يوماً قالوا له : لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة . فقال : فكيف أصنع بشهود العشاء والصبح .(37/2)
وكان الربيع بن خثيم يقاد إلى الصلاة وبه الفالج فقيل له : قد رخص لك . قال : إني أسمع " حي على الصلاة " فإن استطعتم أن تأتوها فأتوها ولو حبواً .
وسمع عامر بن عبدالله بن الزبير المؤذن وهو يجود لنفسه فقال : خذوا بيدي فقيل : إنك عليل . قال : أسمع داعي الله فلا أجيبه . فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات .
وكان سعيد بن عبدالعزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى .
نعم . بكى لا لأنه قد فاتته مباراة رياضية ، ولا لأغنية أو تمثيلية . ولكن يبكي لفوات المثوبة والروحانية .
سئل عبدالرحمن بن مهدي عن الرجل يبني بأهله أيترك الجماعة أياماً ؟ قال : لا ، ولا صلاةً واحدةً .
هكذا أفتى ابن مهدي رحمه الله . ثم يأتي الامتحان ، فيزوج ابن مهدي إحدى بناته فيخرج صبيحة العرس ويمشي إلى بابهما فيقول للجارية : قولي لهما يخرجان إلى الصلاة . فخرج النساء والجواري فقلن : سبحان الله !! أي شيء هذا ؟ . فقال : لا أبرح حتى يخرج إلى الصلاة . فخرج بعدما صلى فبعث به إلى مسجدٍ خارج من الدرب .
أيها المؤمنون .. إذا علمنا هذا ، فإن من الظواهر الخطيرة التي شاعت في مجتمعنا ، التخلفَ عن صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة، وقضاءَها بعد فوات وقتها .. وإنك لترى المسجد في الحي المزدحم يمتلئ في الصلوات كلها حتى إذا جئته صلاة الفجر ألفيته شبه خاو ليس فيه إلا القليل من المصلين . فيا حسرة على العباد.
صلاة الفجر التي تعدل قيام الليل ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) [مسلم:656].(37/3)
وروى مالك بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثْمة في صلاة الصبح … فمر على الشِّفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟ فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. فقال عمر: (لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة). [موطأ مالك:1/131، الترغيب والترهيب:601].
وصلاة الفجر نور لصاحبها يوم القيامة، عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [ابن ماجه:870 بسند حسن، وابن خزيمة، الترغيب والترهيب:603].
وصلاة الفجر أمان وحفظ من الله، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله تعالى)) [ابن ماجه:3946، بسند صحيح].
وصلاة الفجر ضمان للجنة، عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى البردين دخل الجنة)) [البخاري:574، مسلم:635]. والبردان: هما الصبح والعصر.
وصلاة الفجر حجاب عن النار، عن أبي زهير عمارة بن رويبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني الفجر والعصر [مسلم:634].
معاشر المؤمنين .. تعلق لقد تعلقت قلوب السلف رضي الله عنهم بصلاة الفجر لما علموا من جليل فضلها وسوء عاقبة التخلف عنها، فكانوا أحرص الناس عليها،
هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وهاديها يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: ((الصلاة يا أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33])) [الترمذي:3206]. إنه يربي ابنته على الحرص على صلاة الفجر في وقتها.(37/4)
وكان علي بن أبي طالب يمر في الطريق منادياً: الصلاة الصلاة يوقظ الناس لصلاة الفجر وكان يفعل ذلك كل يوم. [صلاح الأمة:2/367].
أيها النائم عن الصلاة .. كيف تفوت على نفسك هذا الخير العظيم؟
كيف تهنأ بالنوم ، والناس في المساجد يصلون ، وقرآن الفجر يشهدون .
كيف يطيب لك الفراش ، وأنت لا تعلم ، إذا وضعت رأسك على وسادتك ، أترفع رأسك بنفسك ، أم يُرفع فلا تقوم إلا في قبرك ؟
ألم تعلم يا أخي أن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في صلاة الصبح ويخبرون الله عنك . جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وأتيناهم يصلون))رواه البخاري
عبد الله .. ماذا تقول الملائكة عنك وأنت نائم ؟ أتينا فلان وهو نائم .. وتركناه وهو نائم !! .
هل تدري يا أخي أن هذا العملَ أشنعُ من السرقة والزنا والقتل وغيرها من الموبقات؟ .
قال ابن حزم رحمه الله: لا ذنبَ بعد الكفر أعظمُ من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها ، ومِن قتل امرئ مسلم بغير حق.
ولهذا ذهب عدد من أهل العلم أن من ترك صلاة واحدة عمداً حتى يخرج وقتها فقد كفر .
ألم تسمع يا أخي بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ؟ .
ويل ، واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الأرض لذابت من شدة حرارته . أعده الله للذين يؤخرون الصلاة عن وقتها .(37/5)
أين أنت يا أخي من الحديث العظيم الرهيب الذي رواه البخاري في صحيحه والذي أخبر فيه - صلى الله عليه وسلم - أنه أتاه آتيان فانطلقا به ((فمروا على رجل مضطجع وآخرَ قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى)) فلما سأل عليه الصلاة والسلام الملكين عن خبره قالا: ((أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)) [البخاري:7047].
... ... الخطبة الثانية
أما بعد .. فإن مما يقع في بعض البيوت ، أن بعض الناس يتعمد ضبط المنبه على وقت العمل ولو كان وقت العمل في السابعة أو الثامنة ولا يصلي الفجر إلا في هذا الوقت، وقد سئل الشيخ الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله عن ذلك فقال: من يتعمد تركيب الساعة إلى ما بعد طلوع الشمس حتى لا يصلي فريضة الفجر في وقتها هذا قد تعمد تركها وهو كافر بهذا عند جمع من أهل العلم لتعمده ترك الصلاة .
وبعد هذا .. كيف نحمي أنفسنا من هذا الوعيد؟ كيف نحافظ على صلاة الفجر؟
لعل أول خطوة في طريق العلاج استشعار أهمية هذه الصلاة وإدراك قيمتها، وخطورة التخلف عنها .
وبعد ذلك لا بد من اتخاذ الأسباب المعينة ، ولعلي أذكر بعضها على سبيل الإيجاز :
فمن الأسباب : التبكير بالنوم والابتعاد عن السهر .
- الاستعانة بالأقارب والإخوان
- عدم الإسراف في الأكل والشرب .
- المبادرة بالوضوء عند الاستيقاظ وعدم التسويف.
- الحرص على أذكار النوم ، ودعاء الله في الوتر أن يوفقك للقيام لصلاة الفجر .
- البعد عن المعاصي ، فإن المعاصي تقيد المرء عن الطاعة.(37/6)
ثم علينا أيها الإخوة أن نعود أبناءنا على أداء الصلاة في المسجد منذ سن باكرة، ليألفوا هذا ويعتادوه، وليحذر الأب كل الحذر من التساهل في ذلك فيعتاد الابن النوم ، فإذا كبر وأُمر بالصلاة كان الأمر عسيراً جداً .
وبعد … فيا أيها النائم عن صلاة الفجر : ما غرك بربك؟ وما ألهاك عن صلاة فجرك؟
أهو السهر أمام القنوات ؟ أم على الأرصفة والملاعب والمنتزهات؟
ترى أي خير فاتك؟ وأي موت للقلب ابتليت به؟
هل لك من عودة؟ هل لك من رجوع؟ المسجد يفتح أبوابه وداعي الرحمن يدعوك فأقبل تكن من الفائزين .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(37/7)
خطبة ( الصلاة 2إحسان كيفية الصلاة )
عباد الله .. ما أروعها! وما أجملها! يا سعادة من تشبث بها! ويا فوز من تعلق قلبه بحبها! أصحابها في أنس وأمان ، وشوق وسلام، بها تسمو بها نفوس العارفين المتقين، وإليها تهوي أفئدة الأولياء الصالحين .. وفيها تحلق القلوب إلى عالم آخر، بعيد عن أوضار الدنيا، ودنس الشهوات، وهموم الملذات .
إنها الصلاة .. صلة العبد بربه تبارك وتعالى .
إنها قرة عيون المؤمنين كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : وجعلت قرة عيني في الصلاة . رواه أحمد والنسائي
ولذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: أرحنا بها يابلال . كما عند أحمد وأبي داود .
أيها المؤمنون .. كيف تكون الصلاة راحة نفوسنا وربيع قلوبنا؟
تكون الصلاة كذلك بتحقيق أربع مراتب :
الأولى: المحافظة عليها جماعة في بيوت الله، وتعلق القلب بها .
الثانية : إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها .
الثالثة : المبادرة والتبكير إليها .
الرابعة : الخشوع وحضور القلب .
وقد تحدثنا في خطبة ماضية قبل رمضان عن المرتبة الأولى ، وأشرنا إلى وجوب المحافظة على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله ، ولا سيما صلاة الفجر التي عظمت فيها الفتنة والابتلاء في هذا الزمان ، والله المستعان .
ولعلنا نتحدث في هذه الخطبة عن المرتبة الثانية ، وهي إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها.
عباد الله .. يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) .
لو تدبرنا القرآن الكريم لوجدنا أن أوامر الله تبارك وتعالى في الصلاة جاءت بلفظ الإقامة ، (وأقيموا الصلاة) ، (الذين يقيمون الصلاة) ، (والمقيمين الصلاة) ، (وأقم الصلاة) ، وغيرها من الآيات .. فلم ترد آية واحدة بغير لفظ الإقامة .
وقد ذكر أهل العلم أن التعبير بهذا اللفظ -الإقامة- يقتضي العناية بأداء الصلاة ، وفعلها على الوجه المطلوب كما وردت .(38/1)
يدخل رجل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم –كما في الصحيحين- فيصلي ، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه ، فيرد عليه بقوله : وعليك السلام ، ارجع فصل فإنك لم تصل . فيعود فيصلي ثم يأتي فيسلم عليه ، فيرد عليه بمثل ما رد عليه . فلما كان في المرة الثالثة قال الرجل : والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني . فعلمه عليه الصلاة والسلام كيف يصلي ، وأرشده إلى الطمأنينة في جميع أركان الصلاة وواجباتها .
ويصلي عليه الصلاة والسلام يوماً – كما في صحيح مسلم _ فينصرف ويخاطب رجلاً بقوله : يا فلان ألا تحسن صلاتك ، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ، فإنما يصلي لنفسه .
أيها الأحبة .. هل تعلمون من هو أسوأ الناس سرقة ؟
أهو سارق المسجد أو الحرم؟ أهو سارق مال فقير أو يتيم؟
كلا . قال عليه الصلاة والسلام :" أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته . قالوا : وكيف يسرق من صلاته ؟ . قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها . رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني .
ولهذا علينا أن تعلم صفة الصلاة ، وهو أمر يسير بحمد الله ، ولعلنا نذكر فيما يلي صفة الصلاة على وجه الإيجاز .(38/2)
أيها المصلون .. إذا كبرتم تكبيرة الإحرام فارفعوا أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين ، فإذا كبرتم ضعوا اليد اليمنى على مَفْصِل كف اليسرى ، وتكون اليد على الصدر ، وهذا أحسن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانظروا إلى موضع سجودكم ولا تلتفتوا في الصلاة لا بوجوهكم ولا بأعينكم ، ولا ترفعوا أبصاركم إلى السماء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليه . ثم إستفتحوا الصلاة بدعاء الاستفتاح (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ، أو قولوا بدلاً عنه: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) ، ثم استعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وسموا الله واقرأوا الفاتحة في كل ركعة فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، ثم اقرأوا ما تيسر من القرآن . ولتكن القراءة على حَسَب الصلاة ، فأطيلوا القراءة في الفجر ، وخففوا في المغرب ، وتوسطوا في العصر والعشاء ، وكونوا بين الوسط والإطالة في الظهر ، كما هي سنته صلى الله عليه وسلم .(38/3)
وبعد قراءة ما تيسر من القرآن ، اركعوا مكبرين رافعي أيديكم عند الركوع إلى المنكبين أو إلى الأذنين ثم ضعوا أيديكم على ركبكم مفرقة الأصابع ، وجافوها عن جنوبكم ، واعتدلوا في الركوع فسووا ظهوركم وساووها مع رؤوسكم ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي ظهره ورأسه ، ولا ينزل رأسه ولا يرفعه حين ركوعه ، وعظموا ربكم في الركوع فقولوا: سبحان ربي العظيم وكرروا ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في ركوعه وسجوده من قول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، وكان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، ثم ارفعوا من الركوع قائلين سمع الله لمن حمده رافعين أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين ، وبعد القيام قولوا اللهم ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، والمأموم لا يقول سمع الله لمن حمده لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد ، ثم أسجدوا مكبرين ، ولا ترفعوا أيديكم عند السجود ، ولا بد من السجود على الأعضاء السبعة: الجبهةِ مع الأنف ، واليدين والركبتين وأطراف القدمين ، ولا تقدموا أيديكم قبل ركبكم عند السجود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير والبعير عند البروك يقدم يديه . وتكون اليد في السجود على الأرض وأصابعها نحو القبلة مضموم بعضها إلى بعض ، محاذيةً لمكان الجبهة والأنف أو محاذيةً للمنكب ، وأعتدلوا في سجودكم فارفعوا البطون عن الفخذين والفخذين عن الساقين ، ونحّوا اليدين عن الجنبين فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحّيها حتى يرى بياض إبطيه إلا إذا كان الإنسان مأموما فإنه لا ينحيها إذا كان يؤذى من الى جنبه ، وأرفعوا الذراعين عن(38/4)
الأرض فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بسطها على الأرض ، وقولوا سبحان ربي الأعلى وكرروها وقولوا سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي سبوح قدوس رب الملائكة والروح ولا تسجدوا على شيء من ثيابكم إلا لحاجة كشدة حرارة الأرض أو نحو ذلك ، ثم أرفعوا من السجود مكبرين وأجسلوا على قدم الرجل اليسرى وأنصبوا قدم الرجل اليمنى وضعوا اليد اليمني على فخذ الرجل اليمنى أوعلى ركبتها ، وقولوا ربي اغفر لي وأرحمني وأهدني وأرزقني وأجبرني وعافني ، ثم أسجدوا السجدة الثانية مكبرين وأصنعوا كما صنعتم في السجدة الأولى قولاً وفعلاً ، ثم صلوا الركعة الثانية كالركعة الأولى ولكن بدون إستفتاح ولا تعوذ ، ثم أسجدوا للتشهد ، وضعوا اليد اليمني على فخذ الرجل اليمنى أوعلى ركبتها ، وضموا الخنصر والبنصر ، وحلقوا إبهامها مع الوسطى ، وحركوا السبابة عند الدعاء ، وضعوا اليد اليسرى على فخذ اليد اليسرى مضمومة أصابعها بعضها إلى بعض ، وأقرأوا التحيات لله إلى آخرها إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فإن كانت الصلاة ركعتين فأكملوا التشهد والصلاة على النبي ، ثم سلموا على اليمين السلام عليكم ورحمة الله وعلى اليسار كذلك ، وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين فقوموا بعد التشهد الأول مكبرين وأرفعوا أيديكم عند القيام وصلوا ما بقي من صلاتكم على صفة ما سبق في الركعة الثانية إلا أنكم تقتصرون على الفاتحة وتجلسون للتشهد الأخير متوركين بأن تلصقوا قدم الرجل اليمنى وتخرجوا الرجل اليسرى من تحت ساقها وتستقروا على الأرض ، هذه هي صفة الصلاة عباد الله ، فأقيموها وأتقنوها وأتقوا الله لعلكم تفلحون .
أقول ما تسمعون ، وأسأل الله أن يعيننا على إقام الصلاة ، وأن يتقبلها منا بقبول حسن ، إنه جواد كريم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...(38/5)
عباد الله .. لقد سطر سلفنا الصالح مواقف مشرقة في المحافظة على الصلاة ، والعناية بأركانها وواجباتها وسننها .
فعن عبدالله بن عمر أنه رأى فتى يصلي فأطل صلاته وأطنب فيها فقال: أيكم يعرف هذا ؟ فقال رجل: أنا أعرفه . فقال ابن عمر: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن العبد إذا قام إلى الصلاة أتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه . رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث صحيح .
وقال ابن جريج : لزمت عطاء ثماني عشرة سنة ، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة . فيقرأ مئتي آية من البقرة وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك .
قال أبو إسحاق السبيعي : ذهبت الصلاة مني وضعُفُت وإني لأصلي فما أقرأ وأنا قائم إلا البقرة وآل عمران . وقيل إنه ما كان يقدر أن يقوم حتى يقام فإذا استقم قائماً قرأ وهو قائم ألف آية .
قال خالد بن عمرو : رأيت مسعراً كأن جبهته ركبة عنز من السجود .
قال ابن وهب : رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
هكذا كان حالهم رحمهم الله ، أما حالنا اليوم فهو مؤسف ومحزن .. فقد أصبحت الصلاة ثقيلة على كثير من الناس ، حتى إذا كبر أحدهم أومأ بحركات لا روحانية ، ونقر الصلاة كنقر الغراب ، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً . فهلك النقارون .
ووالله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا لقال لهم : ارجعوا فصلوا ، فإنكم لم تصلوا .
أيها المسلم .. الصلاة ليست بإكراه بل هي صلة ومحبة .. وشتان بين صلاة المكره وصلاة المحب .
الصلاة ليست بغرامة ولا ضريبة ، بل هي أمانة ينظر إليك صاحبها سبحانه كل يوم خمس مرات فيشهد لك بالوفاء والصدق والإخلاص فيثيبك بأعظم الجزاء . كما قال سبحانه: (والذين هم على صلواتهم يحافظون ، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) .(38/6)
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(38/7)
خطبة (الصلاة3 التبكير للصلاة)
الحمد لله الذي أكرم قلوب المتقين بالإخبات إليه، وشرف وجوه العابدين بالسجود بين يديه، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خيرُ من صلى وصام ، وزكى وقام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليماً كثيراً .
كان حديثنا في الأسبوع الماضي عن عمود الدين وركنه الركين .. الصلاة .. قرة عيون الموحدين ، وراحة نفوس المؤمنين .
وذكرنا أن الصلاة تكون راحةَ نفوسنا وربيعَ قلوبنا بتحقيق أربع مراتب:
المرتبةُ الأولى: المحافظة عليها جماعة في بيوت الله، وتعلق القلب بها .
المرتبةُ الثانية : إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها .
المرتبةُ الثالثة : المبادرة والتبكير إليها .
المرتبةُ الرابعة : الخشوع وحضور القلب .
وقد سبق الكلام على المرتبة الأولى وأشرنا إلى وجوب المحافظة على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله ، ولا سيما صلاة الفجر ، التي لا زلنا نشدد ونؤكد على أهميتها وخطر التخلف عنها .
وفي خطبة الأسبوع الماضي تحدثنا عن المرتبة الثانية ، وهي إحسان كيفية الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها.
ولعلنا نتحدث في هذه الخطبة عن المرتبة الثالثة من مراتب الصلاة وهي: المبادرة إلى الصلاة والتبكير إليها .
عباد الله .. لقد جاءت النصوص الشرعية بالحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة ، كما قال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) ، (فاستبقوا الخيرات) ، (يسارعون في الخيرات) .. ألا وإن من أعظم هذه الخيرات الحضور إلى المساجد لأداء الصلاة ، فإنه دليل على تعظيمِ القلب للصلاة ، وتعلقِه ببيوت الله، وتقديمِه طاعةَ مولاه على هواه ودنياه ، كما قال سبحانه: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة) .(39/1)
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته على التبكير للصلوات ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه) .
قال النووي: التهجير: التبكير إلى الصلاة، أيِ صلاة كانت.اهـ
معاشر المصلين .. لو تأملنا في الفوائد والثمرات المترتبة على التبكير للصلوات، لرأينا عظيم فضل الله على عباده الصالحين ، الذين لبوا نداءه ونهضوا إلى الصلاة مبادرين .
فمن فوائد التبكير للصلوات ما يلي: أولاً)
أن المبكر للصلاة يكون عند الله في صلاة ما انتظر الصلاة .
أن الملائكة تصلي عليه وتستغفر له ما دام في مصلاه.
أنه بتعلق قلبه بالمساجد ، يكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
أنه يدرك سنة المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار.
أنه يتمكن من قول دعاء دخول المسجد نظراً لسعة الوقت.
تحصيل الصف الأول .
تحصيل ميمنة الصف والدنو من الإمام .
إدارك صلاة النافلة بين الأذان والإقامة .
الدعاء بين الأذان والإقامة .
إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام .
وقد جاء عند الترمذي وحسنه الألباني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى لله أربعين يوما في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى ، كتبت له براءتان، براءةٌ من النار، وبراءةٌ من النفاق ".
التأمين مع الإمام بعد الفاتحة ، وقد جاء في الصحيحين ، أن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه .
أن التبكير يعين على الخشوع في الصلاة .
معاشر المصلين .. ولما نظر سلفنا الصالح إلى هذه الآيات ، والأحاديث والثمرات، سطروا صفحات مشرقة في التبكير إلى الصلوات والمحافظة عليها .
فها هو عدي بن حاتم رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء .(39/2)
وقال سعيد بن المسيب : ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأن في المسجد .
وروي عن الأعمش أنه كان قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى .
وكان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له (الصَفِّي) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة .
وكان إبراهيم بن ميمون أحد المحدثين يعمل صائغاً يطرق الذهب والفضة، فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء وضعها ولم يردّها .
هكذا كان حرصهم وتبكيرهم إلى الصلوات فيا ليت شعري أين نحن من حالهم . ونحن نرى الجموع المتأخرة تقضي خلف الصفوف ناهيك عن الذين يقضون خلف الإمام ، ويعتذرون عن تأخرهم بأعذار هي أوهى من بيت العنكبوت.
فإذا كانوا نائمين أدوها متى استيقظوا، وإذا كانوا مشغولين صلوها عند الفراغ من شغلهم، فالصلاة عند هؤلاء تؤجل لأي سبب، وتؤخر عند أي عارض .. الصلاة تؤخر لقراءة صحيفة أو مجلة، والصلاة تؤجل لأحاديث ودية وملاطفة ضيف أو زائر، كيف يصلي الآن وهو مشغول مع صديقه يتناول معه الشاي والقهوة .
والصلاة تؤخر لأن المباراة على أشدها، ووضع الفريق محرج يستدعي المتابعة والمؤازرة .
والصلاة تؤخر حتى يخرج الوقت لأنه مسافر على متن طائرة لساعات طويلة، والوضع محرج أن أؤدي الصلاة والركاب ينظرون إليّ ، وقد يكون فيهم بعض الأجانب .
وهذا والله من قلة تعظيم الله وأوامر الله في النفوس ، والله المستعان .
وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله" ، زاد أحمد "يوم القيامة" .
قال النووي: (يتأخرون) أي عن الصفوف الأول حتى يؤخرهم الله تعالى عن رحمته أو عظيم فضله ورفع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك اهـ.
وقال إبراهيم التيمي : إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه .(39/3)
معاشر المصلين .. وإذا كان الأمر كذلك، فإن جميع ما تقدم ذكره في التبكير والمبادرة إلى الصلوات ، يتأكد في الحضور لخطبتي وصلاة الجمعة .. فقد حث الشارع على التبكير إلى الذكر والصلاة في هذا اليوم المبارك .
قال سبحانه:" يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". أخرجه الشيخان ، وفي رواية لهما:" إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة يكتبون الأول فالأول ، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر".
قال النووي: فيه الحث على التبكير إلى الجمعة ، وأن مراتب الناس في الفضيلة فيها وفي غيرها بحسب أعمالهم . اهـ
فهنيئاً ثم هنيئاً لمن كتبته الملائكة في صحف المبكرين ، ويا خسارة من طوت الملائكة صحفها وهو في عداد المتخلفين ، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يعيننا على أنفسنا، إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي الكبير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم المصير . أما بعد .(39/4)
معاشر المصلين .. لقد كان التبكيرُ للجمعة سمةً بارزةً في حياة السلف الصالح رحمهم الله ، ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:"كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل". وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما عمر بن الخطاب يخطُب الناس يومَ الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرّض به عمر فقال: ما بالُ رجالٍ يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوءَ أيضاً؟ ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جاء أحدُكم إلى الجمعة فليغتسل".
بل كان الواحد من السلف يغتم إذا تأخر فسبقه غيره إلى الجمعة . قال علقمة: خرجت مع عبد الله [يعني ابن مسعود] إلى الجمعة فوجد ثلاثة وقد سبقوه ، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات الأولَ والثانيَ والثالثَ ، ثم قال عبد الله: رابعُ أربعة، وما رابعُ أربعةٍ ببعيد . رواه ابن ماجه والطبراني وحسنه المنذري والبوصيري .
هكذا كان حال السلف رحمهم الله ، أما اليوم ، فقد أصبح التأخرُ في الحضور لصلاة الجمعة ظاهرةً بينةً في كثير من جوامع المسلمين .. فمن الناس من يتأخر في الاستيقاظ من النوم ، ومنهم من يشتغل بأمور دنياه من البيع أو الشراء أو العمل فلا يأتي إلا وقد دخل الخطيب ، وطوت الملائكة الصحف ، وفاته الخير العظيم .. وأعظم من هذا ما اعتاده بعض المحرومين من التخلف عن خطبة الجمعة، فلا يحضرون إلا في الصلاة أو في آخر الصلاة ، فأي حرمان بعد هذا؟ .(39/5)
عباد الله .. تأملوا في هذا الثواب العظيم الذي ورد في هذا الحديث الصحيح، لتعلموا كم نحن محرومون إلا من رحم الله .. فعن أوس بن أوس الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من غسّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغُ، كان له بكل خُطوة عملُ سنة أجر صيامِها وقيامِها". رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والألباني .
وقوله (بَكَّرَ ) : أَيْ رَاحَ فِي أَوَّل الوَقْت ( وَابْتَكَرَ ) : أَيْ أَدْرَكَ أَوَّل الْخُطْبَة, وَقِيلَ كَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيد .
فاتقوا الله عباد الله ، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ، وسابقوا في الحضور إلى الجمعة والجماعة ، فذلكم خيرٌ لكم في آخرتكم ، وأقربُ لكم عند مليككم .. وإن من المؤسف حقاً أن ترى الناس يتسابقون ويتزاحمون عند أبواب البنوك إذا دعوا للمساهمات ، فإذا دعوا للجمعة والجماعات رأيت التأخر والتكاسل عن الحضور ، والله المستعان .. وصدق الله: (بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى) .
عباد الله .. أكثروا من الصلاة والسلام على خير ...(39/6)
خطبة ( الخشوع في الصلاة )
أما بعد .. كان حديثنا في الأسبوع الماضي عن عمود الدين وركنه الركين .. الصلاة .. قرة عيون الموحدين ، وراحة نفوس المؤمنين .
وذكرنا أن الصلاة تكون راحة نفوسنا وربيع قلوبنا بتحقيق أربع مراتب:
المرتبة الأولى: المحافظة عليها جماعة في بيوت الله، وتعلق القلب بها .
المرتبة الثانية : إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها .
المرتبة الثالثة : المبادرة والتبكير إليها .
المرتبة الرابعة : الخشوع وحضور القلب .
وقد سبق الكلام في الخطبة الماضية وما قبلها على المراتب الثلاث الأول ، ولعلنا نختم الكلام في هذه الخطبة عن:
المرتبة الرابعة والأخيرة من مراتب الصلاة: الخشوع وحضور القلب :
معاشر المصلين .. يقول الله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) ، وقال سبحانه:(واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) .
الخشوع في الصلاة بمنزلة الروح في الجسد ، ولهذا قال بعض أهل العلم: صلاة بلا خشوع ولا حضور جثة هامدة بلا روح .
وأصل الخشوع ، خشوع القلب مهابةً لله وتوقيراً، وتواضعاً في النفس وتذللاً .. فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والوجه والجبين، وسائر الأعضاء والحواس. حتى الصوت والكلام:وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً.
وكان من ذكر النبي في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي)) وفي رواية لأحمد: ((وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين)) .
وحينما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
وإذا تأملنا في صلاة سيد الخاشعين صلى الله عليه وسلم نجد أنه كان يصلي بين يدي ربه خاشعاً مخبتاً ، وكان صلى الله عليه وسلم ربما صلى فبكى ، فيسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
وهكذا كان الصحابة والسلف الصالح من بعده .(40/1)
فقد روي عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه أنه كان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من شدة خشوعه وسكونه.
وكان ابن الزبير يصلي في الحجر ، فيرمى بالحجارة من المنجنيق فما يلتفت .
وهاهو زين العابدين علي ابن الحسين إذا توضأ اصفر وجهه ، وإذا قام إلى الصلاة ارتعد . فإذا سئل عن ذلك ، قال : تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي ؟ .
وفي أحد الأيام وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله النار . فما رفع رأسه حتى أطفئت . فقيل له في ذلك فقال : ألهتني عنها النار الأخرى .
وقالت بنت لجار منصور بن المعتمر : يا أبت أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة ؟ قال : يا بنيته ذاك منصور يقوم الليل .
سرق رداء يعقوب بن إسحاق عن كتفه وهو في الصلاة ولم يشعر ورُدّ إليه فلم يشعر لشغله بعبادة ربه.
كان إبراهيم التيمي إذا سجد كأنه جذم حائط ينزل على ظهره العصافير .
قال إسحاق بن إبراهيم كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبدالعزيز على الحصير في الصلاة .
هكذا كان خشوعهم . أما نحن فنشكو إلى الله قسوة في قلوبنا وذهاباً لخشوعنا . فلم تعد الصلاة عند بعضنا صلة روحانية بينه وبين ربه تبارك وتعالى ، بل أصبحت مجرد حركات يؤديها الإنسان بحكم العادة لا طعم لها ولا روح . فأنى لمثل هذا أن يخشع ؟.
لقد صلى بعض الناس في أحد مساجدنا ، ولما كان في التشهد الأخير جاءه الشيطان وقال له : يا أبا فلان إن صاحب المحل قد أخطأ في الحساب فراجع الفاتورة ، إني لك من الناصحين . فصدق المسكين وأخرج الفاتورة ليراجعها أمام الناس وهو يصلي . فالله المستعان .
وآخر . تراه هادئاً ساكناً ، فما إن يكبر حتى تبدأ يداه بالعبث بغترته أوعقاله أولحيته أوساعته . . . ولو خشع قلبه لخشعت جوارحه .(40/2)
فلا يغرنك وقوف مصليين متجاورين في صف واحد فإنه قد يكون بينهما من التفاوت في الأجر كما بين السماء والأرض . وقد قال عليه الصلاة والسلام " وإن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها " رواه أبو داود وحسنه الألباني .
وهذا يدل على أن الخشوع يتفاوت في القلوب بحسب حضورها وتعظيمها لله . وبمقدار هذا التفاوت يكون تفاضل الناس، في القبول والثواب، وفي رفع الدرجات، وحط السيئات .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
أيها الأحبة .. كيف نخشع في صلاتنا ؟
لا شك أن للخشوع أسباب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها ، فنذكر أهم هذه الأسباب :
وأعظم الأسباب على الخشوع في الصلاة أن يستشعر قلب المصلي الوقوف بين يدي خالقه، وعظمة من يناجيه ، فإنه متى ما استشعر ذلك ؛ خشع في صلاته، وأقبل عليها، وسكنت جوارحه فيها، واستحق المديح القرآني قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1،2].
ومن الأمور المعينة على الخشوع إفراغ النفس من المشاغل عند الدخول في الصلاة، فحاول ـ أيها المسلم ـ أن لا تدخل إلى الصلاة وأنت مشغول البال مشتت الفكر، وعوِّد نفسك أن تؤجل التفكير في أمورك الدنيوية إلى ما بعد الصلاة .
ولهذا جاء في حديث أنس أن رسول الله قال: ((إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) متفق عليه.
ومن الأمور المعينة على الخشوع النظر إلى مكان السجود؛ لأنك بذلك تقيد عينيك عن الحركة والانشغال بما حولك .
ومن الأمور المعينة على الخشوع والمطلوبة في الصلاة عدم تحريك الأعضاء ومنها اليدان، وهما أكثر الأعضاء حركة .
ومن الأمور المعينة على الخشوع أن يتدبر المصلي ما يقوله من القرآن أو الأذكار ، أو ما يسمعه من الإمام .
أيها الإخوة، وليس كل خشوع محموداً ، فهناك خشوع حذر منه السلف، وسموه: خشوع النفاق.(40/3)
قال بعض السلف: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قالوا: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع .
هذا الفعل هو أقرب إلى التكلف والتصنع .. ولهذا لما نظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً على ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(40/4)
خطبة (واعظ الصيف)
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، وهي مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.
أيها المؤمنون .. نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، لكنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟! هلمّ فلنقف قليلاً مع الصيف وما يحمل من عبر.
مَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفحُ سمومِه؟!، فمن أين يأتينا هذا الحر؟
روى الشيخان وغيرهما أن النبي قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ـ أي: أخروها حتى يبرد الجوّ ـ، فإن شدة الحر من فيح جهنم))، وعند ابن ماجه بإسناد صحيح قال : ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها)).
أيها الأحبة، إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، وقد كان من دعائه : ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم)) رواه النسائي بإسناد صحيح.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم))، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟(41/1)
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
اللهم إن أجسادنا لا تقوى على النار، فأجرنا منها يا رحيم.
رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد:
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته ...
أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَعثا
ويألفُ الظلَّ كي تبقى بشاشته ...
فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جدثًا
في ظل مَقْفَرَةٍ غبراءَ مظلمةٍ ...
يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثا
تجهزي بجَهَازٍ تبلُغين به ...
يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
أيها المؤمنون، لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟ كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟.
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا(41/2)
يقول : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا)) رواه النسائي بإسناد صحيح.
صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين.
يقول أبو الدرداء : (صوموا يومًا شديدًا حره ، لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور).
أيها المؤمنون، إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب.
عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة. رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.
خرج ابن عمر في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: أُبادر أيامي هذه الخالية.
فهلم ـ عباد الله ـ نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
لما مرض معاذ بن جبل مَرَضَ وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر.
هنيئًا لك ـ يا معاذ ـ أن يكون هذا أسفك على الدنيا، وهذا حزنك على فراقها.(41/3)
أيها المؤمنون .. وإذا تذكرنا حر يوم النشور ، فلا ننسى فضل الصدقة ، وظلها الوارف لأصحابها في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق .
فقد روى الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في وصححه الألباني عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل إمرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو قال حتى يحكم بين الناس .
قال يزيد بن أبي حبيب: فكان أبو الخير مرثد بن أبي عبدالله –الراوي عن عقبة- لا يخطئه يوم لا يتصدق منه بشيء ولو كعكة ولو بصلة .
وفي رواية لابن خزيمة أن مرثد كان أول أهل مصر يروح إلى المسجد ، قال يزيد : وما رأيته داخلا المسجد قط إلا وفي كمه صدقة ، إما فلوس ، وإما خبز ، وإما قمح ، قال: حتى ربما رأيت البصل يحمله . قال: فأقول يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك . فيقول: يا ابن أبي حبيب ، أما إني لم أجد في البيت شيئا أتصدق به غيره ، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ظل المؤمن يوم القيامة صدقته.
ألا فلنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة، وعند الصباح يحمد القوم السُرى. حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعاف الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم .
في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض، وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ.(41/4)
قال الله تعالى فيهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ...
أما بعد .. يقف بنا واعظ الصيف في موعظته مع ذلك الخلق العجيب وتلك الآية العظيمة . الشمس بحجمها الهائل وحرارتها المحرقة ولهبها المتوهج تسجد بين يدي ربها مذعنة ذليلة، فقد روى البخاري عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله في المسجد حين غربت الشمس فقال: ((يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها، ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)).
لقد استجاب الكون كله لله، الأرض والسماء، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا لله .(41/5)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وكثير حق عليه العذاب .
سبحان الله .. كل أجزاء الكون تُعلن الوحدانية لمن خلقها، وتدين بالطاعة لمن فطرها، فلماذا يتلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه .
فاتقوا الله عباد الله ، وبادروا الآجال بالأعمال ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(41/6)
خطبة (العراق ونهاية صدام)
الحمد لله معزِّ من أطاعه واتقاه، ومذلِّ من عصاه، قاصم الملوك والجبابرة، وقاهر القياصرة والأكاسرة، مفني المتكبرين، ومبيد الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله و خاتم أنبيائه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
في يوم عيدِ الأضحى المبارك، شهد العالم كله، نهاية رجل حكم أرض الرافدين ردحاً من الزمن، ملك الأرض الواسعة، وقاد المعارك الطويلة، وسارت تحت إمرته الجيوش الجرارة .. ومضت الأيام، وتبدلت الأحوال، فسقط ملكه، وهلك أبناؤه، وأصبح وحيداً شريداً طريداً، حتى قُبض عليه تحت حفرة من الأرض .
قُبض على صدام حسين، وقُدّم لمحاكمة أو قل مهزلة صورية أقامتها الحكومة العراقية الموالية للاحتلال .. نهايتها معلومة من بدايتها ، يقوم عليها خصوم الرجل وأعداؤه المتهمون في حقه .. وأخيراً، شُنقَ صدام قبيل شروق شمس يوم العيد.
وانقسم الناس أمام هذا الحدث ، بين مؤيدٍ للحكم، وبين رافضٍ له متعاطفٍ مع الرجل، بعيداً عن النظر بنور الشريعة، وحقائق الأمور، ومن هنا كانت هذه الوقفات .
هل نحزن على موت صدام؟:
من المعلوم أن صدام حكم العراق لسنوات طويلة، وكان رئيساً لحزب البعث بالعراق، محارباً للإسلام لصالح القومية العربية والبعثية الاشتراكية ، كان طاغية مستبداً، لم يفرق في القتل والأذى، فقد قتل الآلاف من السنة والشيعة والأكراد، بل والبعثيين الذين كانوا ينافسونه .
قتل العلماء وضيق على الدعاة، وحاول طمس معالم الدين في بلاد الرافدين، ، وبسبب عنجهيته واعتقاداته، قاد بلده إلى الدمار،وانتهى بشعبه إلى الفقر، رغم أن العراق مليء بأعظم الثروات، حتى أصبح العراق تحت الاحتلال الأمريكي، والتسلط الصفوي الشيعي .(42/1)
أما فيما يتعلق بتغير حاله في آخر حياته فذاك بينه وبين ربه، فنحن لا نعلم بم ختم الله له، والرجل لم يعلن براءته من حزب البعث في يوم من الأيام حتى قتل .. وقد قدم على ربه ، فأمره إليه وهو الأعلم بالنيات ، وأما حكم الظاهر؛ فإنا نعلم جميعاً أن الرجل كان طاغياً متسلطاً، مارس القمع والقتل لمدة طويلة ، ثم تبدلت به الأحوال، حتى ختم حياته مناضلاً ضد أمريكا ومن والاها.. فهل يشفع له هذا عند ربه أو لا يشفع له؟ .. الله تعالى أعلم وأحكم ، وليس لنا أن ندخل بين الله وبين عباده في هذا الأمر .
إذن، نحن نعلم تاريخ صدام، فلا نحزن لشنقه، بل نحزن للطريقة والتوقيت الذي نفذ فيه الشنق، ونحزن كذلك لما بلغه شأن الرافضة في العراق من التسلط والتشفي من أهل السنة .
صدام صفحة قد طويت .. يجب أن لا يستغلها المحتل لإشغالنا عن قضيتنا الأم وهي رفض الاحتلال ومقاومته ، أو إشغالنا عن المذابح المتكررة لإخواننا في العراق، والتي يرتكبها المحتل أو ذنبه الصفوي .. وإن قتل سني عامي أشد ألما في قلوبنا من قتل صدام .
لماذا هذا الوقت بالذات؟
اختيار حكومة الاحتلال الرافضية لتوقيت تنفيذ الإعدام، يدل على مدى ما يضمره الرافضة الصفويون من عداء لأهل السنة في العراق،وفي العالم الإسلامي كله . فهم يسعون لربط صدام بالسنة، وتحميلهم أخطاءه، وإظهار إعدامه على أنه انتصار للرافضة على أهل السنة، واختاروا يوم الأضحى المبارك يوماً لتنفيذ الحكم، وهي لفتة مهمة تستحق الوقوف والتأمل .
لماذا في عيد الأضحى؟ هل يراد بهذا التوقيت إذلال أهل السنة والإسلام في يوم عيدهم؟ هل أوحى الروافض إلى شياطينهم الأمريكان بهذه الفكرة الخبيثة .(42/2)
وبكل غباء، اختارت الحكومة لتنفيذ الحكم مجموعة من المرتزقة الذين يتقاطرون طائفية ويهتفون بشعارات الرافض .. هؤلاء هم ممثلو الحكومة العراقية أمام العالم كله .. ولك أن تتصور حكماً تصدره الدولة من محكمتها العليا ، ينفذ بطريقة مستهجنة، ووسط الصيحات الطائفية .. وأي خير ينتظر من هذه الحكومة الحاقدة .
قد بدت البغضاء من أفواههم:
إن من أهم دروس هذه الحادثة، هو البعد الديني للأحداث، فأمريكا باعتراف رئيسها تخوض حرباً صليبيةً في العراق ، ثم تسلم الحكم للرافضة الموالين لإيران الطامعة في العراق وفي منطقة الخليج برمتها لنشر مبادئ الثورة الخمينية المنحرفة ، وهكذا التقت غريزة عداوة النصارى للمجاهدين من أهل السنة ، مع غريزة حب الانتقام التي تعشعش في النفوس الصفوية الطائفية الحاقدة، والتي أظهرتها تلك الهتافات التي رددها قطيع المتفرجين على إعدام صدام ممن هتفوا باسم الزعيم الرافضي مقتدى الصدر .
لقد أظهر هذا الحدث جرأة الرافضة المتحالفين مع الأمريكيين ، ومدى استئثارهم بحكم العراق والتصرف في شئونه ؛ وهو أمر خطير يجب التنبه له والحذر منه .
ربما يظهر في إعدام صدام ، أن إيران والأحزاب الموالية لها سياسياً وعقائدياً كحزب الدعوة وحزب الصدر وحزب حسن نصر الله، قد انتصروا في معركتهم ضد أعتى أعدائهم بعد شنقه .. بينما الواقع أنه بعد بروز الميلشيات الشيعية المسلحة والتي تمارس إرهاباً منظماً بحماية معلنة وبتواطؤ مريض من الحكومة العراقية, وقيام هذه الميلشيات الحاقدة بتصفية كوادر أهل السنة ورموزهم في الجامعات وأئمة المساجد, ناهيك عن عمليات التهجير والتصفية والقتل والخطف الجماعي، فضلاً عن التمثيل بالجثث .. انكشفت الأوراق ، بل وحتى دعاة التواصل والحوار مع الآخر، انقلبوا على إيران ورفضوا دعوة رئيسها المشاركة في حوار المذاهب المزعوم .(42/3)
حتى قال أحدهم وهو الشيخ القرضاوي: إن الدين في إيران ليس مذهباً من المذاهب كما يظن البعض، وإنما هي فرقةٌ تربي نشأها وأطفالها على بغض الآخر، ونعته بأبشع النعوت والكفر، بدءاً من الصحابة الكِرام وانتهاء بجميع أهل السنة.
نعم، آن الأوان، ليتنبه الغافلون الذين فتنتهم شعارات حزب الله المفضوحة، وأسكرتهم دعايات إيران الفارغة .
لقد كشر الرافضة عن أنيابهم وأظهروا بعض ما تكنه صدورهم ، وتأكد ما قاله عنهم أئمة الإسلام من أنهم يمدون يد العون لكل عدو من أعداء الإسلام ، ويتربصون الدوائر بالمسلمين متى ما حانت لهم الفرصة .. القوم قلوبهم تهفوا إلى إيران ، وهي قبلتهم ومهوى أفئدتهم .
وصدق من قال: كل العداوات قد ترجى مودتها ×× إلا عداوة من عاداك في الدين
من لا زال يحسن الظن بالرافضة فعلى عقله السلام، ومن لا زال يدعو للتقارب والتعاون معهم فهو كمن يتخبط في الظلام .. إن عداوتهم أساسُها دينُهم المنحرف، وحقدهم الدفين .
يجب على أهل السنة في العراق والخليج، بل وفي العالم كله، أن يدركوا أهداف الرافضة في المنطقة، وأن يتخذوا الوسائل العملية الجادة لمواجهة هذا الخطر قبل فوات الأوان .
ومن أولى الواجبات لمواجهة هذا المد الفارسي المجوسي هو الوقوف مع إخواننا المرابطين في العراق، ودعم أهل السنة بكل وسائل الدعم الحسية والمعنوية ، فأهل السنة بحمد الله صابرون مصابرون مجاهدون، وهم يكبدون الأعداء الخسائر المتوالية مع ضعف إمكاناتهم وقلة حيلتهم .
النصر الموهوم:
من دروس هذه الحادثة أن المحتل الأمريكي يعيش مأزقاً حقيقياً في العراق، أصبحت من خلاله كالغريق الذي يتلمس أي قشةٍ توصله إلى بر النصر الموهوم، واسترداد الكرامة التي وطئت وأرغمت في التراب، على أيدي أهل التوحيد والمجاهدين الشرفاء في العراق .(42/4)
يحاول الرئيس الأمريكي أن يختم عام ألفين وستة بإنجاز يحسب له وهو إعدام الرئيس العراقي السابق ليقدم الحرية للعراقيين ..ولكننا لا ندري أي العراقيين؟ أهم عراقيو المنفى والدبابة الذين أتوا مع الجيش الأمريكي، أم هم عراقيو الحوزة في طهران والذين تم تجنيسهم بعد سقوط بغداد؟.
لا تزال أمريكا تنتقل من وهم إلى وهم، وهي تعلم جيداً أن المقاومة في العراق مقاومة إسلامية سنية لم ترتبط في أي يوم من الأيام بالبعث أو بصدام ، ولكنها المخادعة الإعلامية والضحك المستمر على الذقون ، كما تعودنا دائماً من آلة الحرب الأمريكية الجائرة .
هل سيؤثر قتل صدام على المقاومة العراقية للاحتلال؟
لا، لن يكون لهذا الحدث بإذن الله أي تأثير على المقاومة، لأنها مقاومة إسلامية سنية،لم ترتبط يوماً بصدام،ولا بحزب البعث،ولا بغير ذلك من الدعوات الجاهلية، وسوف تستمر بإذن الله في جهاد الاحتلال وإرغام أنفه ، حتى يعود العراق المسلم، وترفع فيه راية الإسلام عالية خفاقة بإذن الله ، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون) .
بل أقول: إن المقاومة ستزداد جحيماً على المحتل الأمريكي، وستلقى القبول والدعم ممن كان يظن أنها مقاومة بعثية تسعى لإعادة صدام إلى سدة الحكم وهو ما يخشاه الكثير من العراقيين .. أما الآن فقد انكشفت الأوراق، واتضحت الرايات .. وأصبح الناس أمام عدوٍ محتل ، وحكومةٍ موالية له، صنعت على عينه، ومقاومةٍ شريفة تنشد الحرية لكل العراقيين ، وتقف أمام الاحتلال الأمريكي والمد الرافضي في الخليج .
نسأل الله ان يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ، وهو حسبنا فنعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) :(42/5)
هكذا تكون نهاية الظالم مهما علا شأنه، وبلغ ذروته .. ولا يختلف اثنان أن صدام كان ظالما ، سفاكاً للدماء، لعبته الإعدام وتصفية من يقف في وجهه ، بل امتد أذاه واعتداؤه على جيرانه ومنهم هذه البلاد .. ولا زلنا نذكر دعاء عجائزنا عليه عندما كانت الصواريخ تحلق في سماء الرياض، ودعوة المظلوم مستجابة، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) .
عزة في مواطن الذل:
مع ما تقدم من صدام من إجرام وطغيان وتاريخ أسود، فإننا نعجب والله من عزة هذا الرجل، حتى آخر لحظة من حياته .. الرجل مكبل بالقيود ، وحبل المشنقة يطوق عنقه، وهو ثابت متماسك، يرفض تغطية وجهه قبل الشنق وينظر إلى جلاديه باستصغار، ويرد عليهم بكل رجولة وينطق بالشهادة بصوت عالي .. تقرأ في وجهه عزة العربي الذي لا يرضى بالذل والضيم .. بينما تقرأ في وجه القاضي وحكومته ذلة التبعية للاحتلال، والمتاجرة بالمباديء .. أل وإن أولى الناس بالعزة المسلم الموحد الذي أكرمه الله تعالى بحسن الديانة وسلامة المعتقد .. فالعزة العزة أيها المسلمون، وإن أعظم ما يُغيظ أعداءنا ، هو اعتزازنا بديننا ، والتزامنا بمبادئنا .
قال عنترة :
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز ماء الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل
هكذا قال ، ونحن لا نوافقه على البيت الثاني، ونعوذ بالله من جهنم .
إن الحكم إلا لله :
إن حياة صدام الحافلة بكل مثير .. ابتداء بسجنه ثم اعتلائه في سلم المناصب حتى بلوغه الهرم وحكمه العراق ثلاثين سنة ، ثم نهايته بهذه الصورة ، تذكرنا بقوله تعالى : (( إن الحكم إلا لله )) ، فمهما علا العبد في دنياه وطال، فملكه لا شك إلى زوال .
لما حضرت الوفاة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، قال عند احتضاره: يا من لا يزول ملكه ارحم اليوم من قد زال ملكه .(42/6)
وصدق الله: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) .
عباد الله .. وإذا كنا نتحدث عن العراق ، فلا ننسى ما وقع لإخواننا في الصومال المنكوبة ، من عدوان القوات الإثيوبية على أراضيها ، في جريمةٍ نكراءَ، وتجاوزٍ لأبسط الحقوق الإنسانية والمواثيق الدولية .. لقد ظلت الصومال سنين طويلة تعيش اضطراباً وفوضى وضياعاً، دون أن تتحرك أي قوة دولية مجاورة أو بعيدة لضبط الأمن وحفظ مصالح الناس، وبعد أن ظهرت قوات المحاكم الإسلامية بدأ المكر والتآمر، والتدخل الفاجر.
إن واجب المسلمين شعوباً وحكومات وعلماء وجمعيات، أن يسارعوا لتطويق الموقف، وحفظ خيار الشعب الصومالي المسلم ودعمه ومساندته بكل احتياجاته الإغاثية، والإنسانية، والطبية، والمادية، والمعنوية .
وإن العاقل ليتساءل .. إلى متى تظل البلاد الإسلامية مجالاً للمغامرة، وممارسة التسلط والعدوان .. تعود المسلمون من ما يسمى بالنظام الدولي ومؤسساته بما فيها الأمم المتحدة أنها بعيدة كل البعد عن شعاراتها المتعلقة بالعدل والسلام ، ولاسيما إذا كان طرف القضية ينتمي لأمة الإسلام، والله المستعان .
اللهم صل على محمد ...
اللهم فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه نسألك أن تولي على أهل العراق خيارهم وتكفيهم شرارهم، اللهم مكن لأهل السنة في العراق وانصرهم على من بغى عليهم ...(42/7)
خطبة ( العشر الأواخر من رمضان 1427)
أما بعد ..
معاشر الصائمين .. ومضت الليالي والأيام ، فإذا نحن الآن في أفضل ليالي العام .. العشرِ المباركة .. عشرِ التجلياتِ والنفحات ، وإقالةِ العثرات ، واستجابةِ الدعوات ، وعتقِ الرقاب الموبقات .
الله أكبر .. إنها بساتين الجنان قد تزينت .. إنها نفحات الرحمن قد تنزّلت .. فحري بالغافل أن يعاجل ، وجدير بالمقصر أن يشمر .
يتفضَّل ربُّنا على عبادِه بنفحَاتِ الخيراتِ ومواسِمِ الطاعات، فيغتنِم الصّالحون نفائِسَها، ويتدارَك الأوّابونَ أواخِرَها .
وإنها والله لنعمة كبرى أن تفضل الله علينا ، ومد في أعمارنا ، حتى بلغنا هذه العشر المباركة ، وإن من تمام شكر هذه النعمة أن نغتنمها بالأعمال الصالحة .. فهل نحن كذلك؟ نشكو إلى الله ضعفاً في نفوسنا ، وقسوة في قلوبنا الغارقة في بحور الغفلة .
جرت السنون وقد مضى العمر والقلب لا شكرٌ ولا ذكرُ
والغفلةُ الصماء شاهرةٌ سيفا به يتصرم العمرُ
حتى متى يا قلب تغرق في لجج الهوى، إن الهوى بحرُ
ها قد حباك الله مغفرةً طرقت رحابَك هذه العشرُ
عباد الله .. ظاهرة مؤسفة يتألم لها المؤمن ويحترق لها قلبه حسرة في مثل هذه الأيام المباركة ، ولا يعرف لها سبب وتفسير إلا الغفلة التي اشتدت واستحكمت في القلوب .
إنها ظاهرة ضعف الإقبال على العبادة والطاعة في العشر الأواخر من رمضان ، يظهر هذا الأمر جلياً في عدد المصلين في الأيام الأولى من رمضان ، وعددهم في الأيام الأخيرة منه .. لا يزال عدد المصلين في صلاة التراويح يقل ، وأقل منهم الذين يصلون القيام الآخِر .. والمشكلة أن هذا النقص يحدث في أفضل ليالي الشهر، بل وفي ليلة القدر .
سبحان الله .. تهجر المساجد وتعمر الأسواق في أعظم ليالي السنة وأفضلها، بل وفي الساعة الشريفة التي ينزل فيها ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ليعطي السائلين ويغفر للمذنبين في الثلث الأخير من الليل .(43/1)
فلا إله إلا الله كيف انتصر الشيطان على كثير من أبناء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأوقعهم أولاً في كثير من المعاصي والذنوب ، ثم صرفهم عن الفرصة العظيمة لطلب المغفرة والحصول على العفو الشامل للذنوب ، بحرمانهم من قيام تلك الليلة التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
فالله الله أيها المؤمنون لا تفوتنكم هذه الفرصة العظيمة، فوالله لا يدري أحدنا هل يدركها مرة أخرى؟ أم يكون ساعتها تحت الأرض مرهون بما قدم لنفسه؟ وهي ليالٍ معدودة تمر سريعاً ، والموفق من وفقه الله لاغتنامها والإقبال على الله فيها .
إن الإقبال على طاعة الله والتقرب إليه مطلوب في كل حال، ولكنه في العشر الأخيرة من رمضان أعظم فضلاً وأكثر أجرًا حيث يقترن فيها الفضل بالفضل، فضل العبادة وفضل الزمان .. ولنا في مرشد البشرية - صلى الله عليه وسلم - خير أسوة ، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل العشر شدّ المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله . وفي رواية لمسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها .
يا أيها الراقد كم ترقد *** قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ من الليل وساعاته *** حظاً إذا ما هجع الرُّقَُد
أيها الغافلون الراقدون .. اهجروا لذيذ النوم ، وجحيم الكسل ، وانصبوا أقدامكم ، وارفعوا هممكم ، وادفِنوا فتوركم . وكونوا ممن قال الله فيهم: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) .. ولا تنسَوا أن تأمروا بهذا أولادكم وزوجاتكم ، كما كان هدي الحبيب - صلى الله عليه وسلم - .(43/2)
معاشر الصائمين : اطلبوا الليلةَ العظيمة التي لا يحرم خيرها إلا محروم ، ليلةُ العتق والمباهاة ، ليلةُ القرب والمناجاة ، ليلةُ نزول القرآن ، ليلةُ الرحمة والغفران ، ليلةٌ هِيَ أمّ الليالي، كثيرةُ البرَكات، عزِيزَة السّاعات، القليلُ منَ العمَلِ فيها كَثير، والكثيرُ منه مضَاعَف، (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها) ، خَلقٌ عَظيم ينزِل من السماءِ لشُهودِ تلك اللّيلة، (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، سلام) ، لَيلةُ سلامٍ وبَرَكاتٍ على هذِهِ الأمّة .
قال ابنُ كثير رحمه الله: "يكثُر نزولُ الملائِكَة في هذه الليلةِ لكَثرةِ برَكَتها"، والملائكةُ يَنزلون معَ تنزُّل البَرَكةِ والرّحمة كما ينزلون عندَ تلاوةِ القرآن ويحيطيون بحِلَقِ الذّكر .
ليلةٌ من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ... فيا حسرة من فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية ، ويا أسفى على من لم يجتهد فيها في الليالي القادمة .
وليلة القدر هي إحدى ليالي العشر بلا شك ، وإنما الشك في تحديدها ، والصحيح أنها تتنقل بين ليالي العشر ، وليالي الوتر آكد ، وأرجاها ليلة سبع وعشرين ، وبعض الناس يظن أن ليل القدر ليلة سبع وعشرين دائماً في كل سنة .. وهذا الظن يرده ما جاء في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أنها وقعت في غير هذه الليلة .. ففي السنة التي رأى فيها أبو سعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في الماء والطين كانت ليلة إحدى وعشرين، وفي السنة التي رآه فيها عبد الله بن أنيس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وفي السنة التي رأى فيها أبي بن كعب علاماتها من ليلة سبع وعشرين كانت في تلك الليلة، وهكذا .(43/3)
وقد أخفى الله هذه الليلة في العشر ليجتهد المسلم في العبادة، ومن اجتهد في العشر كلها فقد أدرك ليلة القدر بلا شك ، فاغتنموا هذه الليلة المباركة عباد الله، ، وعظموها بالقيام وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار .
أخي المؤمن .. في كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تفتَح، والكريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شئتَ فالمعطِي عظيم، وأيقِن بالإجابةِ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك فإنّه الرّحمنُ الرّحيم، وارفَع إليه لأواكَ فهوَ السّميع البصير، يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة)) رواه مسلم.
ونسَماتُ آخرِ الليلِ مظِنّة إِجابةِ الدّعوات، قيلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أيّ الدعاءِ أسمَع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخِر ودُبر الصّلواتِ المكتوباتِ)) رواه الترمذيّ وصححه الألباني.
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما تدعو به في ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول: ((اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني)) .
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .. الله أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، إنك على كل شيء قدير.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، فتح أبواب الخيرات لمن أراد رضاه، وأغلق باب السوء عمن أقبل عليه وتولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.(43/4)
عباد الله .. إن من آكد السنن في هذه العشر ، السنةَ التي كان يحافظ عليها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولم يتركها حتى مات ، سنة الإعتكاف ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف هذه العشر ، طلباً لليلة القدر حتى توفاه الله، ثم اقتدى به في ذلك أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين . فمن تيسرت له هذه السنة فلا يحرم نفسه هذه السنة المحمدية ، والخلوة الربانية ، فإنها بلسمٌ للقلوب ، ودواءٌ لآفاتها ، فإن لم يتيسر له اعتكاف العشر فليعتكف بعض الأيام .. فإن لم يتيسر له فليعتكف ليلة ، فمن دخل المسجد قبل المغرب وخرج بعد الفجر كتب له اعتكاف ليلة .. فإن لم يتيسر له الاعتكاف فليتشبه بالمعتكفين ، فيكثر المكث في المسجد وقراءة القرآن ، ويشهد صلاة القيام . ويقطع علاقته بفضول الدنيا ، ويؤجل كل ما يمكن تأجيله من الحاجات والمصالح، وليعشْ في خلوة بربه، ولو كان في بيته ومتجره وعمله .
فاتقوا الله عباد الله، وأنيبوا إليه، وأخلصوا له ، ولازموا التوبة والاستغفار، واشكروا الله الذي هداكم للإيمان وبلّغكم شهر الصيام وأعانكم على صيامه وقيامه، واغتنموا هذه العشر الأواخر بالاجتهاد في العبادة متأسّين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(43/5)
خطبة ( العين حق)
الحمد لله الملك العلام القدوس السلام ، جعل منار الشرع مستمراً على الدوام .. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنحط بها الأوزار والآثام,ويُستعان بها على شكر منحه ومننه الوافرة الأقسام , وأشهد أن رحمته للعالمين سيدنا محمداً عبده ورسوله حامل لواء السلامة والإسلام , والمكتسي حلة الكرامة والإكرام, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم الذين قامت بهم شرائع الإسلام .
يا أيها الراجون منه شفاعة
صلوا عليه وسلموا تسليما
أما بعد .. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى, قال الله تعالى وتقدس {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكمْ فُرْقَاناً وَّيُكَفِّرْ عنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويغْفِرْ لَكُمْ واللهُ ذو الفضل العَظِيم} .
عباد الله : إنَّ من محاسن شريعة الإسلام – وكلها محاسن – أنها جعلت قاعدة منع الضرر والضرار من أصول قواعد الشريعة ,ومن مجالات التطبيق العملي لهذه القاعدة الجليلة حرصُ المسلم على أن لا يَعينَ ولا يُعانَ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً,.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العين حق ,ولو كان شيءٌ سابقَ القدر لسبقته العين ,وإذا استُغسلتم فاغسلوا) رواه مسلم .
قال النووي في شرحه: فِيهِ إِثْبَات الْقَدَر ... فَلَا يَقَع ضَرَر الْعَيْن وَلَا غَيْره مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ إِلَّا بِقَدَرِ اللَّه تَعَالَى . وَفِيهِ صِحَّة أَمْر الْعَيْن ; وَأَنَّهَا قَوِيَّة الضَّرَر . اهـ
وروى أبي نعيم في الحلية والخطيب البغدادي في تاريخه وحسنه الألباني عن جابر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العين تدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر) .
أي أنها تصيب الرجل فتقتله فيدفن في القبر، وتصيب الجمل فيشرف على الموت فيذبح ويطبخ في القدر .(44/1)
وقد قرر علماء أهل السنة أن العين حق ، وأنها تُمرض وتقتل، خلافا لبعض المبتدعة المنكرين,وهم محجوجون بالآثار النبوية الصحيحة .
وحقيقة العين كما ذكر القسطلاني: نظر المعيان لشيء باستحسان، مشوب بحسد، فيحصل للمنظور ضرر بعادة أجراها الله تعالى .
وتسمي العرب العائن بالتلقاعة، مبالغة من اللقع وهو الرمي، وتطلق العامة على العين النضل والنحت .
وقد وقعت الكثير من الحوادث قديماً وحديثاً بسبب العين، وألفت فيها المؤلفات .
عباد الله .. وإذا كانت العين من الحق ، فكيف السبيل إلى التوقي منها واستدفاعها؟
إن من أعظم ما تستدفع به العين تجديدَ العبد لعهد الافتقار والذلة والانكسار لله والحاجة لحفظ الله ورعايته له, بقراءة أذكار الصباح والمساء فقائلها لا يضره شيء بإذن الله, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول (إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) صحيح البخاري.
ومما تُستَدفع به العين ستر ما يخاف عليه إن أمكن ذلك كما فعل يعقوب عليه السلام حين أمر بنيه أن يدخلوا من أبواب متفرقة لحاجة في نفسه قال المفسرون إنه أراد أن يدفع ضرر العين عنهم .
وكما فعل الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - عندما رأى صبياً صغيراً حسن الهيئة، فقال: دسموا نونته، أي سوّدوا الدائرة التي تكون في خديه، حتى تنصرف الأعين عنه .
وإنك والله لتعجب من تبجح وتفسخ وتعري بعض نساء وشباب المسلمين وإظهارهم لما لا يجوز لهم إظهاره من أجسادهم تقليدا للكفرة والفساق, فهلا خافوا على أجسادهم ضرر العين إذ لم يخافوا عقاب الله وجعلَه تلك الأجساد وقوداً لنار جهنم!!! وما يتذكر إلا أولو الألباب.
وإذا وقعت العين وحل ضررها بالبدن فإن شرها يستدفع بالرقى والتعاويذ الشرعية الثابتة, بعيدا عن دجل الأفَّاكين,وأكلة أموال الناس بالباطل من السحرة والمشعوذين.(44/2)
ولتجنب الإضرار بالعين شرع الله لنا عند الإعجاب بهيئة المسلم أو حاله أو ماله أو ولده أن نقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما قال تعالى في قصة صاحب الجنتين وصاحبه: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) , قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ماله او ولده فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
ونقل القرطبي عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: (ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله) .
ومما يستدفع به ضرر العين التبريك - وهو قول: اللهم بارك فيه أو بارك له أوعليه ، أو ما شاء الله تبارك الله – كما جاء في قصة سهل بن حُنيف عندما عانه عامر بن ربيعة .(44/3)
وقد روى هذه القصة الإمام أحمد وابن ماجه ومالك وغيرهم عن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مع أصحابه نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنْ الْجُحْفَةِ، اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ!! (أي الفتاة في خدرها) فَلُبِطَ سَهْلٌ (أي صُرع وسقط على الأرض) فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ، وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ، قَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ، لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ .
وقد أفاد الحديث أن المَعين إذا عرف عائنه فإنه يشرع له أن يطلب منه الوضوء والاغتسال, ويجب على من طُلب منه الاغتسال أن يمتثل ولا يكابر في ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم(وإذا استُغسلتم فاغسلوا) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وظاهر هذا الأمر الوجوب .(44/4)
وعلى كل من يعلم من نفسه أنه ربما يصيب بالعين أن يتقي الله في إخوانه كما قال عليه الصلاة والسام وأن يكثر دائماً في حديثه ووصفه من ذكر الله والدعاء بالبركة، وأن يجتنب الاسترسال في الوصف والاستحسان، وجموح النفس في ذكر ما تراه العين من الأمر المستحسنة .
وإنك لتعجب من تمادي بعض العائنين، وجرأتهم على الله في التنافس على إيذاء فلان، أو إفساد سيارة أو بيت علان .
حتى إن أحدهم (كما حدثني الوالد رحمه الله، وحد) معروفاً بالعين، وكان يبيع في السوق، فرأى رجلاً يبيع بجواره وقد فتح الله عليه، فدب الحسد في قلب العائن، فلما انتهى السوق كان الرجل الآخر يضع بضاعته في السيارة فجاءه العائن وقال له: أين تذهب وأنا لم أبع مثلك اليوم؟ تريدها في المكينة، أو في الكفرات؟
فقال له: يا فلان خاف الله، فأبى، فقال: إن كنت عازماً ففي الكفرات .
يقول الرجل (وهو حي موجود الآن، وكان صديقاً للوالد رحمه الله): ذهبت إلى البيت، فبدأت الكفرات تتعطل الواحد تلو الآخر، ولم أصل البيت إلا بعد مشقة .
عباد الله .. وإذا أبى المعيان أو العائن إلا أن يؤذي الآخرين جاز لولي الأمر أو القاضي أن يعزره ، وأن يحبسه حتى ينتهي عن فعله، كما نص على ذلك أهل العلم .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
... الخطبة الثانية
الحمد لله
عباد الله .. إن مما تجدر الإشارة إليه والتنبيه عليه، أن الإصابة بالعين، واشتهار وقوعها من شخص معيَّن, ليس مؤشراً على فسق ولا صلاح , لأن الإنسان قد تصيبه عين نفسه, قال ابن القيم:(وقد يَعين الرجل نفسه, وقد يَعين بغير إرادته) .
ويقول ابن عبد البر رحمه الله (إن الرجل الصالح قد يكون عائناً وقد يَعين الرجل نفسه) .(44/5)
كما نقل المناوي عن الخليفة سليمان بن عبد الملك أنه نظر إلى نفسه في المرآة فأعجبته فقال: كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً، وأبو بكر صديقاً، وعمر فاروقاً، وعثمان حبيباً، وأنا الملك الشاب، فما دار عليه الشهر حتى مات .
وكان لأحدهم ابنة جميلة، فدخل عليها ذات يوم فنظر إليها، ولم يذكر الله وقال: يا بخت من ستكونين من نصيبه .. وما هي إلا ساعات وترتفع حرارة البنت المسكينة، ولم تطلع عليها الشمس إلا وقد أفضت إلى رحمة الله تعالى .
عباد الله .. كل شيء بقضاء الله، ولا ينبغي أن يحاط من اشتهر بالعين وإضرار الناس بها بهالة من الإجلال والمخافة منه والتودد له على وجه يعتقد هو أو غيره أن بيده ضر أحد أو نفعه, واقرأوا إن شئتم قول الله عن السحرة الذين هم اشد خطرا وأكثر ضررا من العيَّانين قال تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) فالأمر كله إليه , ما من نسمة هواء تجري إلا بأمره، وما من مثقال ذرة في هذا الكون الفسيح تسكن أو تتحرك إلا بمشيئته وعلمه سبحانه وتعالى,ومن الناس من يصاب بما هو اخطر من العين حين يَنسب إليها كل شئ، فإذا تلعثم في كلامه، أو تعثر في ممشاه، او اصطدم بسيارته ظن أن ذلك من أثر العين, حتى إنك لترى الرجل والمرأة وما فيهما ما يستحسنه عاقل من خلْق ولا خلُق ولا علم ولا دين، ومع ذلك يتوهم ملاحقة العين له في كل آن، وما هذا إلا استدراج من الشيطان له ليعيش في دوامة من الوساوس يفسد بها دينه وتتعطل مصالح دنياه .
عباد الله .. صلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(44/6)
خطبة (القنوات الفضائية وستار اكاديمي1428 )
أما بعد ..
عباد الله .. ماذا يريد منا ربنا ؟ وماذا يريد منا عُبَّادِ الشهوات, وأربابِ النزوات؟
(( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً )) .
هذه الآيةُ الجليلة ُ، تكشفُ عن حقيقةِ ما يريدهُ اللهُ للناس من التوبةِ والاستقامةِ والنجاة، وحقيقةِ ما يريدهُ الشهوانيون من الانحرافِ والفسقِ والضلال, إنهم يريدون أنْ ينطلقَ جنونُ الشهوة بلا حواجزَ أو عقبات، انطلاقةً لا يقرُ معها قلبٌ, ولا تهدأ معها نفسٌ ولا يطمئنُ معها بيتٌ، ولا يسلمُ معها عرضٌ, ولا تقومُ معها أسرةٌ، ولا تبقى معها فضيلة .
وحتى أكون صريحاً جداً معكم أقول: إن كلُ هذا الفساد هو ما تريدُه بعض الأقلامُ عبر الصحفِ والمجلات, وما تريدُه الأفلامُ الهابطة عبر أشرطةِ الفيديو, وأخيراً عبر قنواتِ البثِّ الفضائي، والتي أخذتْ تغزو مجتمعاتِ المسلمين على حينِ غفلةٍ من أهلها، لتزيدَ البلاءَ بلاءً، والقلوبَ خواءً .
ليس بغريب أن يستغلها الأعداءُ الذين قال اللهُ فيهم : ((وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) , ولكنَّ الغريبَ المؤسف، أنْ يستجيبَ أبناءُ المسلمين لمخططات أولئك المجرمين، فينشئوا القنوات الهابطة بأموالهم .. ويحملوا أوزار المشاهدين فوق أوزارهم .. (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) .
والغريب المؤسف الآخر، أن يعكف قوم على هذه القنوات المجرمة، ويعرضوا أنفسهم وأهاليَهم لفتنٍ كقطعِ الليلِ المظلم تجعل الحلم حيراناً .(45/1)
ويا لله العجب ! كيف يأمنُ مسلمٌ على عرضِ أولادهِ وبناته، وقد أحضرَ لهم بيده ما يُهيِّج شهواتِهم, ويثيرُ نزواتِهم, ويدفعهُم شاءَ أم أبى إلى تلبيةِ الشهوةِ، وإطفاء النزوةِ في حلالٍ أو حرام .
ماذا ننتظر من برامج وأفلام ، تشجع الرذيلة، وتهدم الفضيلة، وتنظرُ إلى الفتاةِ العفيفة نظرةَ إشفاقٍ ورحمة, يُذهبُ بها إلى المصحاتِ النفسية، لحلِ عُقَدِها ؟!
ماذا سيقدمُ لنا البثُ الفضائيُ الأمريكي والفرنسي غيرَ أفلامِ الجنسِ الصاخبة, مسبوقةً بعبارةٍ سخيفةٍ تافهة, مضمونها هذه الأفلامُ للبالغينَ فقط ؟! يا لقبحهم وفجورهم , هل سينسحبُ الأطفالُ الصغارُ بسلام، حين يقرءونَ تلك العبارة .. وكيف يسوغ للبالغون مشاهدةُ تلك المشاهدِ القذرة, بموجبِ فتوى التلفاز الأمريكي، أو المذهب الفرنسي؟
ماذا سيقدمُ لنا البثُ الفضائيُ الأجنبي غيرَ أفلامِ العنفِ والجريمة، وتجارةِ الخمورِ والمخدرات, ومشاهد الأجساد العارية, واللقطات الفاضحة ؟!
أمَّا البثُ الفضائي العربي ، فلا يقلُ شراً عن سابقه, ولا يتوارى خجلاً من سالفهِ, بل إنَّنا لا نعدو الحقيقة إذا اعتبرنَا هذا النوعَ من البث أشدَّ خطراً, وأعظمَ ضرراً، بسببِ عاملِ اللغةِ المشترك, وتقاربِ الثقافات.
دعونا من مسلسلاتِ الحبِّ والغرام بقذارتِها من عشراتِ السنين, فهي أشهرُ من أن تذكر، لكنَّنا نُشيرُ على عجلٍ إلى ما يحاولُ المجرمون فرضَه, وإقناعَ الناس به من المفاهيمِ المنكوسةِ، والسلوكياتِ الماجنة، في قالبٍ من الخداعِ والمكرِ العظيم .
فعلى سبيل المثال: لا مانعَ لدى القائمينَ على تلكَ الأفلام الماجنةِ والتمثيلياتِ الهابطة , أن يدخلَ على المرأة رجلٌ أجنبيٌ عنها, وأن يخلوَ بها الساعاتِ الطوال .(45/2)
وربما يجد أحدُ الممثلين زوجَته في الفيلم مع رجلٍ أجنبيٍ في بيتهِ لوحدها, فيستشيطُ غضباً, ويمتلأُ حنقاً, لا لأنَّ الرجلَ خلا بزوجتهِ، فتلكَ قضيةٌ عادية, ولكنَّه غضب، لأنَّه يكرَهُ هذا الرجلَ بالذاتِ ولا يحبه.
تأمل رحمك الله، من خلال هذا المشهدِ كيف تمكنَ المخرج من إيصالِ الفكرةِ التي يريد إلى ذهنِ المشاهد وعقلهِ الباطن, دون أن يَشعرَ المشاهدُ المخدوع بشيءٍ من ذلك , فلا بأسَ عندهم بخلوةِ الذكورِ بالإناث, ولا مانعَ من استضافةِ المرأةِ للرجلِ الأجنبيِ في بيتها، حتى ولو كانت المسافةُ الفاصلةُ بينهما وبين غرفةِ النوم بضعة أمتار .. وأما قضيةُ الحجاب فهي عندهم جزء من التقاليد البالية, أو هو على الأقل غطاءُ الرأس وللعجائزِ فقط .
وربما تشاهد في بعض المسلسلاتُ الممثل يدخلُ المنزل فتسارع الأمُ العجوز إلى تغطيةِ رأسها، أما البنتُ الشابة ذاتُ العشرينَ عاماً فتظل سافرةَ الوجه، حاسرةَ الرأس، تتغنج بضحكاتِها, وتتشدقُ بعباراتها, فأيُ مفهومٍ يحاولون فرضَه وتعميمه من خلالِ هذه المسلسلات ؟!
الإجابة لا تحتاج إلى مزيد ذكاء .
ولا تزال القنواتُ العربيةُ الفضائية، تُمطرنا أربعاً وعشرين ساعةً، طوالَ العامِ، ببرامجَ الرذيلةِ والمجون، ومسلسلاتِ الخنا والفحش، وأغاني العُهرِ والفساد .. مكمِّلةً بذلك الدورُ الذي ابتدأتهُ القنواتُ الأرضية، لعُقودٍ طويلةٍ من الزمن بمشاركة المسرحُ والإذاعات، والمجلةُ والرواية !!
حتى كانت ثالثةَ الأثافي، وقاصمةَ الظهرِ، ذلك البرنامجُ الدياثيُّ الماجن " ستار أكاديمي " الذي عرُض في السابق عدة مرات، ويعاد هذه الأيام للمرة الرابعة .(45/3)
برنامجٌ دياثة بثياب عربية وللأسف ، يجتمعُ فيه شرذمةٌ من الفساق والفاسقات، في بيتٍ واحدٍ، وتحت سقفٍ واحد، ويُصورُونَ على الهواءِ مباشرةً، ويطالعُهم ملايينَ المفتونين والفارغين ، ممن يرتدَّون إلى أسفلَ سافلين، بعد أن رفعهُم الإسلامُ لأعلى عليين، وصورَهُم ربَهُم في أحسن تقويم .
وبينما كنت أعد هذه الخطبة بالأمس، وقفت على خبرين، ينبيانك عن شيء من أحوال الأمة .
الخبر الأول : ما ستقوم به إحدى الجهات في المغرب العربي من إقامة ستار أكاديمي آخر .. لكنه يحترم خصوصية المشاركين، ويفصل بين الذكور والإناث في الإقامة،وستمنع المشاركات من لبس التنورة القصيرة ، أوالملابس الكاشفة عن الصدر .. وكأن ما سوى هذا مباح لا بأس فيه .
ويذكر أنه وقع الاختيار على 14 مرشحا من أحد عشر ألف مشارك ومشركة تقدموا للاختبارات التي أقيمت في كل من تونس والمغرب والجزائر وفرنسا .. وأن المشاركين والمشاركات سيخضعون على مدى ثلاثة أشهر ونصف لدراسة الرقص والتعبير المسرحي .
أما الخبر الثاني: فإنه في هذا الوقت العصيب، الذي يجري في الدم المسلم الطاهر في فلسطين وفي العراق ، لم أكن أعلم أن فتاة عراقية تشارك في البرنامج الخبيث ، حتى طالعت خبراً سخيفاً بالأمس ، يقول: إن العراقيين لم تشغلهم همومهم ومشاهد القتل والاحتلال عن التصويت لمرشحتهم فلانة .
سبحان الله .. ماذا يريد هؤلاء بالأمة، وهم الذين خدروا شبابها، وأفسدوا بناتها بهذه البرامج الماجنة؟
وأي أمة ستطرد المحتل، وتستعيد أمجادها، وأبناؤها وبناتها قصارى همهم التصويت لفلان الماجن، أو لفلانة العاهرة .(45/4)
ولسنا نعجبُ في الواقعِ من جرأةِ القائمين والمشاركين، في هذا البرنامج الخسيس الخليع، فلستُ أشكُ بأنَّهم حُفنةً من أعداء الدين، وفي أحسنِ أحوالهم شرذمةٌ من الإباحيين الشهوانيين، الحاقدين على أخلاقِ الأمةِ وشبابها، المتاجرين بقيمها ومبادئها العليا.. لكنَّ العجبُ لا ينقضي من أُسرٍ مسلمةٍ، ذاتَ شرفٍ وسُمعة، يأذنونَ لقنواتٍ إباحيةٍ كهذه، بالدخولِ إلى منازلهم، ويتحلقُ حولَ عُروضها الماجنةِ، ذواتُ الخدور، وشبابُ الأمةِ المجبولِ على الدين والعفة .
ولسنا نرى كبيرَ فرقٍ بين من علمَ مقاصدَ وأهدافَ هذا البرنامجُ وأمثاله، من برامجِ الخنا والفاحشة، ثمَّ أصّر على مطالعةِ أهلهِ وأولاده وبناته لهذه الفواحشِ، وبين من قامَ بإنشاءِ محطةَ البثِّ نفسها، ونفَّذَ البرنامجَ وموّله، حتى أطلَّ بوجههِ القبيحِ، وسوءَتهِ المشبوّهة.
نسأل الله أن يهدي ضالنا .. ويكفينا شر شرارنا .. ونعوذ به أن يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، إنه جواد كريم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
عباد الله .. لماذا نحذر من القنوات الفضائية؟ وما الذي أحدثته هذه القنوات في مجتمعاتنا؟
في سنواتٍ محدودةٍ, أثمرتْ هذه القنواتُ المشؤومةُ ثمراتِها المرة، وتجرع بعضُ أولئكَ المبتلينَ بها ما جنتهُ أيديهم, فهذا مراهقٌ تثورُ شهوته فلا يجدُ في البيتِ غيرَ أخته, فيفجرُ بها ويرتكبُ ما حرمَ الله، وتلك فتاة صغيرة تذهبُ بها أمُها إلى المستشفى, فإذا التقاريرُ المخبرية تبشرُ الأمَّ بأنَّ طفلتَها حاملٌ من الزنا ؟!
وذلك غلامٌ يتعلمُ شربَ الخمر من الأفلامِ، وآخر يدمن المخدرات، وهناك عشرات القَصَص المرة, التي يشيبُ من هولها الولدان .(45/5)
أيها المسلمون .. وقد يعترفُ بعضُ المبتلينَ بهذه القنوات بخطورتِها وشدةِ تأثيرِها, لكنَّهم يتمسكونَ بحججٍ واهية, كأن يحتجُ بعضهم بأنَّه قد وضَعَ الطبقَ الفضائي لمتابعةِ الأخبارِ العالمية, ومشاهدةِ الأحداثِ الدولية, ولنا أن نتساءل هل توازي هذه المنفعةُ المغمورةُ – إن اعتبرناها منفعة –بحرَ المفاسدِ الَّلا متناهية ؟! و السيل الجارف من الأفلامِ والبرامج المدمرة ؟! بل إن بعض القنوات الإخبارية لا تخلو من المفاسد العظيمة .
ثم إذا كان هدفُك متابعةَ الأخبار، هل تحكمت في الجهاز من حيث الضبط والتشفير للقنوات الأخرى، أم أنك تركت الحبل على الغارب؟ .
عباد الله .. إننا ندعو الجميعَ إلى التوبةِ من مطالعةِ هذه الفضائياتِ المُدمرة، وهذه البرامجُ على وجهِ الخصوصِ، وإلاَّ فليتربصَ الجميعُ بعقوبةٍ لا تُبقي ولا تذر ، ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) .
وعلى من ولاهُ اللهُ أمراً من أمورِ المسلمين، أن يقومَ بدورهِ المُمكن، وواجبهِ المشروع، في كفِّ هذا البلاءِ عمن يستطيعُ ممن استرعاهُ الله أمره، ولنكن على ذكرٍ، بأنَّ اللهَ تعالى يغارُ، وغيرتُه أن يأتي المؤمنُ ما حرمَ اللهُ عليه.
علينا معاشرَ المسلمين أن نتقي الله عز وجل، وإذا أردنا أن نحفظِ مجتمعاتِنا من الزنا والشذوذ، والجرائم والمخدرات، فلنقضِ على أسبابِها وبواعثِها, وإن من أعظم أسبابِها تلك المجلاتُ والأفلامُ, والخمور .
اللهم صل على محمد ...(45/6)
خطبة ( القنوات ومسلسل الحور العين )
أما بعد .. فقد قال قائلهم: ( نحن نخوض حرباً في الأفكار بالقدر نفسه الذي نخوض فيه الحرب على الإرهاب ، لذلك وجهة نظري ترى أن تخفيف الملابس عبر الإعلام هو أفضل وسيلة للاختراق ) . انتهى كلام الأمريكي توكر أسكيو / مديرِ مكتبِ البيت الأبيض للاتصالات ، تعليقاً على مشروع قناة تلفازية لجذب الشباب العرب إلى أمريكا.
أقول: هذا ما تفوّه به أعداء الاسلام الذين لا يزالون يكيدون المؤامرة تلو الأخرى .. لحرب الدين ، وإفساد المسلمين ، وكسر معنوياتهم ، بعد أن فَشِلوا في حرب السلاح كما صرح الكثير من رؤسائهم .
إن زرع الفتن ، وإفساد القلوب ، ومحاربة العقول أهونُ بكثير من حرب السلاح والدبابات ، بل و أسرعُ نتائجاً .
ومن أعظم الفتن في هذا الزمن فتنة الإعلام المنحرف بأنواعه ، فالمجلات والصحف أصبح لها تأثير بالغ ، والقصص والروايات تنخَر في أخلاق الأمة بحسن السبك وقوة العاطفة ، وأما الشاشة فلها نصيب الأسد من ذلك كله .
الفضائيات العربية تحولت إلى مشاهدَ يندى لها الجبين ، وأحداثٍ تنفر منها الأخلاق : تشرذم عائلي هنا ، وخيانة وجريمة هناك ، حب مخزي ، وتبرج فاحش مثير .. يفسد المرأة والرجل على حد سواء .
أن كثيراً من هذه الوسائل تبث موادَ إعلاميةً سيئة .. أفسدت كثيراً من أبناء وبنات المسلمين .. فحدث عن الكفر والتنصير .. وحدث عن تمييع عقيدة الولاء والبراء .. ونشر السحر والشعوذة .. وتعليم العنف والإجرام .. ناهيك عن الجنس وتأجيج الشهوات وتحريك الغرائز .
إن كثيراً مما يعرض في هذه الوسائل مخالف لأحكام شريعتنا الإسلامية .. بل ومخالف للرؤية الإسلامية للتربية والسلوك.(46/1)
كم علمت القنوات من جريمة .. وكم قلبت من قيم .. فالجريمة بطولة .. وعقوق الآباء تحرر .. والغدر ذكاء .. والاستقامة تعقيد .. والعفة كبت وحرمان .. وطاعة الزوج رق واستعباد .. والدياثة رقي وتمدن .. والتقاء الرجل مع المرأة لقاءً محرماً علاقة شريفة وصداقة حميمة وحب صادق !
ولما كانت المرأة هي أخطر فتنة على الرجال وعلى الأمة ، فقد جندها العدو لتكون سلاحاً فتاكاً في هذا المجال ، فهي العنصر الضعيف العاطفي ، ذو الفعالية الكبيرة ، والتأثير المباشر .
حتى قال قائلهم: (إنه لا أحدَ أقدرَ على جر المجتمع إلى الدمار من المرأة فجندوها لهذه المهمة) .
وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن الدول العربية ، تستورد أكثر من نصف البرامج المقدمة للطفل .. وأن خمساً وسبعين بالمائة من هذه البرامج تستورد من الولايات المتحدة ، مما ينذر بتدمير القيم والأخلاق الإسلامية في نفوس أبنائنا.
وعلى الرغم من هذا الخطر .. فإن بعض الأسر لا تأخذ هذا الأمر مأخذ الجد .. فترى الطفل أو المراهق أو الشاب ، وهم من هم في شدة التقليد والمحاكاة ، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام الأفلام الهابطة ، حيث تأخذ بلبه الصورُ والأصوات .. ويُشربُ قلبه الشهواتِ والشبهات .. حتى إذا كبر وشب عن الطوق ظهرت عليه مظاهر الانحراف في وقت يصعب فيه علاجه وتقويمه .
في دار الملاحظة التقيت بشاب عمره سبعة عشر عاماً قبض عليه في قضية سرقة مرتين كان هذا الشاب يحدثني عن طرق دقيقة لسرقة السيارات.. وأساليب محكمة لسرقة المنازل والمحلات . وكنت أظن أن هذا الشاب الصغير إنما تعلم هذه الأساليب من رفاقه .. لكني لما سألته قال لي : إنه استفادها خَطوة خَطوة من بعض الأفلام الأجنبية التي تعرضها بعض القنوات .(46/2)
وشاب آخر عمره تسعة عشر عاماً يقول : تمكنت من إقناع والدي بإدخال الدش إلى البيت .. كنت أجلس أمام القنوات ساعات طويلة .. كانت المشاهد تهيج الشهوة في نفسي .. فأخرج من المنزل أبحث عن وسيلة لإطفاء هذه الشهوة فلا أجد سوى فعل الفاحشة مع بعض الشباب .
لا تقولوا إننا مبالغون .. لا تقولوا إننا متشددون .. فقد أطلق بعض المفكرين الغرب قبل المسلمين صيحاتِ النذير من الأثر الخطير لوسائل الأعلام على الناشئة والأسرة .. بل ألف بعضهم كتباً ورسائل في الحرب على التلفاز ككتاب (أربع مناقشات لإلغاء التليفزيون) للأمريكي جيري ماندر ، وكتاب (اليوم الذي مات فيه التليفزيون) لدون ماجواير .
لقد تسببت القنوات الفضائحية في صرف الشاب عن الطاعة والعمل النافع إلى الشهوات والأفلام والمسلسلات والتشبه بالكفار ، وصرفت الفتاة إلى الأزياء والحلي والعري والخلاعة .. حتى أصبحت حياة بعض شبابنا وبناتنا شهواتٍ تتأجج ، ونيراناً تتقد ، بحثاً عن الحرام !
ولم تكتف القنوات الفضائحية بهذا بل سارعت إلى إيقاد نار العداوة والبغضاء وأصّلت لكره مفتعل يين الرجل والمرأة ، وبين الزوج وزوجته ، وبين الأب وأبنائه !
قالوا للابن: أنت حر ، وقالوا للبنت: تمردي على القيود أنت ملكة نفسك !
واستمر التحريض ليصل إلى العداوة على الوالدين والزوج والأخ ، بل وصل إلى ذروة الأمر فحرضت المرأة على الشريعة وأحكام المرأة والحجاب .
أهذا ما ترجوه أمتنا المنكوبة من الإعلام ؟ سبحان الله؟
في الوقت الذي تعرض فيه إحدى القنوات الفضائية مشاهد لليهود في أرض فلسطين يعذبون أهلنا نساء ورجالاً بطريقة مؤلمة ، وبوحشية تنم عن حقد دفين ، ويقودون الشباب منهم إلى السجن ، ويسحبون بعضهم على الأرض ، في الوقت نفسه تعرض قناة أخرى مشاهد العري والفيديو كليب التي يتراقص فيها الرجال والنساء بطريقة مخجلة .
ولسان الحال يقول:
علام نشعّل الدنيا قصيدا *** ونحرق بين أضلعنا الوريدا(46/3)
ويبكي يومُنا ألماً وقهراً *** ويَضحَك خصمنا طرباً وعيدا
تغنوا يا بني قومي غناء *** يداعب صوتُه العذبُ البليدا
فهاتِ الناي واضرب كل دفًّ ***وسيّلْ في مواجعنا الجليدا
لأن جمالنا في أن نغني *** وننسى أن في يدنا القيودا
وننسى أن مسجدنا جريحٌ *** وأن أخاً لنا طَعْناً أُبيدا
وأن نساء أمتنا سبايا *** وأن شبابنا للسجن قيدا
سيهربُ كلُّ من يغزو حِمانا *** إذا كانت معازفنا شهودا
ستأتينا الفتوح إذا طَرِبنا *** وألهبْنا الحناجر والخدودا
لا والله .. هيهات هيهات .. (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
عباد الله .. ونحن على عتبة شهر رمضان المبارك ، شهر الرحمة والنفحات ، والمغفرة والبركات ، تطالعنا القنوات الفضائية سنوياً باستعداداتها ، وبرامجها المختلفة .
سباق محموم لكسب المشاهد ، حتى لو اضطر الأمر عند بعض القنوات أن يطعن الخلق ، ويهدم الدين .
لقد رأينا في سنوات مضت ، كيف عكرت بعض البرامج والمسلسلات الطائشة روحانية رمضان ، واستفزت مشاعر كثير من المسلمين بوقوعها في أنواع من الاستهزاء بالدين .
وفي هذه السنة تطالعنا الأخبار بأن إحدى القنوات الفاسدة ستقدم عملاً لمعالجة موضوع الإرهاب في المملكة العربية السعودية .
ومع اعتقادنا الجازم بفساد مسالك الإرهاب وضررها الكبير على الأمة وعلى بلادنا المباركة خاصة ، إلا أنه يبقى النظر في طريقة معالجة هذا الفكر الفاسد ، فلا يصح أن يزال الضرر بضرر أفسد منه ، ولا يسوغ أن يتخذ بعض المنحرفين فكرياً محاربةَ الإرهاب مطيةً لطرح بعض الأطروحات الفكرية الفاسدة ، أو توسيع دوائر الاتهام ، أو الاستهزاء ببعض شرائع الدين أو المتمسكين به ، أو تأجيج مشاعر الغضب والفرقة في المجتمع .(46/4)
المشكلة على مستوى إعلامنا العربي ، حينما يحاول بعض الناس معالجة بعض القضايا الحساسة والشائكة ، كالجهاد ، أو الإرهاب ، هو في الحقيقة يشبه ذلك الأحمق الذي أراد أن يعالج رجلاً كان يتعاطى الهيروين بالحقن ، فأمره أن يذوب الهيروين في كأس ثم يشربه بدلاً من أن يحقِنه ، فسبب له تشققا في جدار المعدة ، فأصبح الداء داءين ، كما قيل أراد أن يعالج زكاماً فأورثه جذاماً .
لا شك أ ن وسائل الإعلام ، عليها دور كبير في تصحيح المفاهيم ومحاربة التطرف والأفكار المنحرفة .
لكننا نقولها بمرارة إن تجربة الإعلام العربي في هذا الباب كانت فاشلة في كثير من الأحيان ، وإن نظرة تحليلية لأفلام (الإرهاب والكباب) و(الطريق إلى كابل) وغيرها من الأفلام تدلك على أن هذه الأفلام كفيلةٌ بأن تولد الإرهاب الأعمى في قلوب بعض العصاة من ذوي الفطرة السليمة، فضلا عن بعض المتدينين الذين يستفزهم الخداع والتدليس والظلم الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام .
أقول ما تسمعون ، وأسأل الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز فيه أهل الطاعة ويعافى فيه أهل المعصية ، ويذل فيه أهل النفاق والشقاق ، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ، إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .
عباد الله .. انتشرت الأخبار في الصحف والقنوات .. أن إحدى قنوات العهر والعري ذات التمويل السعودي ، ستطل علينا في رمضان بمسلسل الحور العين .(46/5)
مسلسل يخرجه أحد المخرجين من النصارى العرب ، ويشارك معه سبعون فناناً وفنانة ، سعوديون وعرب ، ويعالج البرنامج ظاهرة الإرهاب .. ويستعين بحادثة (تفجير مجمع المحيا) كنموذج .. ولما كان البرنامج سيتعرض لبعض المسائل الشرعية وضع له مشرف ديني في كتابة السيناريو .. من هو هذا المشرف؟ ما درجته العلمية الشرعية؟ إنه كاتب صحفي ، معروف بكتاباته السيئة وتطاوله على العلماء والدعوة السلفية التي قامت عليها هذه البلاد .. هذا الرجل المريض المتذبذب هو أحد علل البرنامج ، وكتاباته السابقة تنبيك عن فكره وانحرافه ، فكيف يجعل مقرراً للأحكام والمسائل الشرعية في البرنامج ، وماذا ننتظر منه؟ .
وقد يقول قائل : لماذا تحكمون على البرنامج وهو لم يعرض بعد؟ البرنامج قصده نبيل ، شاهدوه ثم احكموا عليه .
ونقول: الجواب على هذا الكلام من وجهين:
أولاً) نحن نعلم تماماً بضاعة القائمين على المسلسل، وتوجهاتهم الفكرية المنحرفة ، وقد ظهر لنا من كتاباتهم مراراً ما ننكره ، فالواجب التحذير من خطرهم ، والعمل على إيقاف البرنامج كما أوقفت برامج وأفلام أخرى ، قبل أن يقع الفأس في الرأس .
ثانياً) إذا افترضنا أن مقصد هذا البرنامج نبيل، فإنه مبني على خطأ جسيم في الوسيلة أو الطرح .
ومدار هذا الخطأ الجسيم هو تجاوز الثوابت الدينية ، وتوظيف مظاهر الالتزام الديني لمحاربة الفكر المنحرف، وتشويه المعاني الإسلامية ، مما يكون له أثره التراكمي على الناشئة ، ولو بعد حين .(46/6)
يكفي أن البرنامج كما رأينا في بعض مقطوعاته الدعائية سيبث رسائل إعلامية خاطئة عن المجتمع السعودي .. فالعلامة البارزة للإرهابيين هي اللحى والثياب القصيرة ، ما يعني تشويهاً واضحاً لنمط المتدينين في السعودية ..والبرنامج يضرب على طبيعة التنشئة (العلمية) ، وبعض فتاوى المشايخ المجتهدين القدامى .. ويتعرض لنصوص قرآنية تتعلق بالجهاد ، وقضيةِ والولاء والبراء ، وغيرِها من القضايا الحساسة التي لا يتصدى لها إلا العلماء الراسخون في العلم .. وإن أدنى مساس بهذه الأمور سيثير الغيورين ، ومحبي الدين الحق ، والجهاد الصحيح ، وكلنا منهم .
ثم كيف تحول اسم البرنامج من المجمع او المحيا كما أعلن عنه سابقاً إلى "الحور العين"؟
الحور العين ، حقيقة لأهل الجنة جاءت بها نصوص القرآن وصحيح السنة، وتشويه هذه الحقيقة بربطها بممارسات أهل الفكر المنحرف فيه تجن خطير على حقائق الدين، وترسيخ للمعاني المصاحبة للملتحين ، وربطها بالسمات الظاهرية لتلك الفئة في العقل الباطن ، وتعزيز صورة مشوهة في ذهن المشاهد عن أهل الصلاح المتبعين للسنة .
نعم نحن نتفق جميعاً على محاربة هذا الفكر، ونعلم أن للوسيلة الإعلامية أثراً كبيراً في تسديد المسار، وتقويم المعوج، وتصحيح المفاهيم، لكن عندما يتلبّس الفن بالشرع ، ويمس شيئاً من الثوابت الدينية ، فإن من حق المشاهد أن يرفض مثل هذا العمل، وأن يوسّع دائرة الرفض ليوقَف عرضه، فالغاية لا تبرر الوسيلة .
وإننا من هذا المنبر المبارك ، نوجه نداء عاجلاً إلى ولاة أمرنا وفقهم الله وإلى علمائنا أن يعملوا على إيقاف هذا البرنامج أو على الأقل عرضه على من يوثق بعلمهم قبل عرضه ، حمايةً لحوزة الدين ، وحفاظاً على أمن هذه البلاد واجتماع كلمتها .(46/7)
كما إننا ندعو المسؤولين والقائمين على هذه القناة -وهم وللأسف من أهل هذه البلاد- أن يتقوا الله في شبابنا وأسرنا ، وأن يتوبوا إلى الله ، ولا يعارضوا شريعة الله تعالى في أرضه.
وهمسة في أذن كل أب .. وكل شاب بأن نقي أنفسنا وأهلينا هذه السهام .. سهامَ الشبهات والشهوات .. التي صوبت إلينا عبر وسائل الإعلام من المجلات والشاشات والشبكات . فلا نفتح بيوتنا للصوص الفضيلة .. وقطاع الطريق إلى الله .
إنه لابد من التحذير .. ولابد من التغيير .. (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله).
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(46/8)
خطبة (ثمرات ووسائل المداومة على العمل بعد رمضان)
أما بعد .. من هم الذين يداومون ويستمرون على العمل الصالح؟
إنهم الصفوة المؤمنة الذين وصفهم ربهم بأنهم (الذين هم على صلاتهم دائمون)، (والذين هم على صلاتهم يحافظون).
وقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن المداومة على العمل الصالح بعد رمضان ، وذكرنا بعض النماذج المشرقة التي سطرها أولياء الله في مداومتهم على طاعة ربهم .
وفي هذه الخطبة نتحدث إليكم عن أمرين: الأمر الأول) ثمرات المداومة على العمل الصالح ، والأمر الثاني) وسائل ومحفزات المداومة على العمل الصالح .
أما الثمرات والكرامات ..
فمن ثمرات المداومة على العمل الصالح وإن قل ، أنها سبب لدخول الجنة .
ها هو بلال رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة .
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ [أي تحريك نعليك] بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ . قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ.
وفي رواية صحيحة للترمذي : أن بلالاً قال: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله علي ركعتين .
وقد أفاد الحديث أن الله تعالى يحب المداومة على العمل الصالح وإن كان قليلاً ، وأنه يجزي عامله بدخول الجنة .
الثمرة الثانية من ثمرات المداومة على العمل الصالح أنها سبب لمحبة الله تعالى للعبد ، وكفى بها ثمرةً وكرامة .(47/1)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ . رواه البخاري .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ) دليل على أن المداومة والاستمرار على العمل الصالح ، سببٌ لمحبة الله تعالى للعبد .
الثمرة الثالثة : أنها سبب لتكفير الخطايا والآثام .
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ [أي وسخِهِ] شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ . قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة ، حُطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) متفق عليه .
الثمرة الرابعة للمداومة على العمل الصالح أنها سبب للنجاة من الكرب والشدائد في الدنيا والآخرة .(47/2)
وقد ثبت عند أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ ، يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ... الحديث .
وفي زيادة صحيحة عند أحمد : (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) .
ومعنى هذا أن العبد المؤمن بمداومته على العمل الصالح في حال الرخاء تكون بينه وبين الله تعالى صلة ومعرفة ، تنفعه وتنجيه متى ما وقع في شيء من الشدائد .
ها هو يونس عليه السلام ، يخرج من بين قومه بعد أن يئس منهم ، ويركب البحر ، فتضطرب الأمواج ، ويستهم القوم ليلقوا أحدهم في البحر ، فكلما أجروا القرعة خرجت على يونس ، فألقوه في البحر ، فيرسل الله الحوت فيلتقمه ، ويتلفت يونس فإذا هو وحيداً في بطن الحوت ، (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).
نقل ابن كثير في تفسيره من طريق ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه أن يونس لما قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ، أقبلت هذه الدعوة تَحُفُّ بالعرش ، فقالت الملائكة: يا رب ، صوت ضعيف معروف ، من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا ربنا ، ومن هو؟ قال: عبدي يونس . قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يَرفعُ له عملاً متقبلاً ، ودعوةً مجابة؟ قال: نعم ، قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء ، فتنجيَه في البلاء؟ قال: بلى، فأَمَرَ الحوتَ فطرحه في العراء .
قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون). والمعنى: لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء ، كما اختاره ابن جرير .(47/3)
عبد الله .. وأنت الآن في الرخاء ، تذكر أن الدنيا غير مأمونة ، وسكراتِ الموت ليست بمضمونة ، والقيامةَ فيها النفوس مغبونة .. فاعمل في الرخاء ما ينجيك من الشدّةِ ويكفيك المؤنة .. بعد رحمة الله تعالى .
الثمرة الخامسة للمداومة على العمل الصالح : دوام اتصال القلب بالله تعالى ، مما يعطي القلب قوةً ونوراً وثباتاً على دين الله . وقد عد بعض أهل العلم هذا الأمر من الحِكَم التي شرعت من أجلها الأذكار ، سواءً الأذكارُ المطلقة ، أو المقيَّدةُ بالأحوال .
الثمرة السادسة : أن المداومة سبب لحسن الخاتمة ، فإن المؤمن متى ما اشتدت عزيمته على فعل الخيرات، والانكفاف عن السيئات ، وفقه الله لحسن الخاتمة ، كما قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) .
الثمرة السابعة : أن العبد إذا كان يداوم على العمل الصالح ، ثم عرض له عذر من مرضٍ أو سفر ، كُتِب له ما كان يعمل حال صحته وإقامته .
فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) .
قال ابن حجر: هذا في حق من كان يعمل طاعةً فمُنِع منها ، وكانت نيَّتُه لولا المانع أن يدوم عليها . اهـ
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امريء تكون له صلاةٌ بليل ، فغَلَبَه عليها نوم ، إلا كَتَبَ الله له أجر صلاته ، وكان نومه صدقةً عليه) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني .
وهذا الفضل من الله تعالى ، إنما يكون هذا أيها الأحبة ، فيمن كان له وردٌ يحافظ عليه ، وعملٌ يداوم عليه .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله وأتوب إليه إنه هو التواب الغفور .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً ... ...(47/4)
عباد الله .. ما هي الوسائل والمحفزات التي تعيننا على المداومة على العمل الصالح؟
هذه بعض الوسائل ، أذكرها على سبيل الإيجاز:
أولاً وقبل كل شي طلب العون من الله عز وجل على الهداية والثبات ، وقد أثنى الله تعالى على دعاء الراسخين في العلم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
العزيمة الصادقة بعد التوكل على الله تعالى ، ونفض غبار الغفلة والتسويف .
فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل
واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
الاقتصاد في العبادة ، وعدم الإثقال على النفس بأعمال تؤدي إلى المشقة ، المفضية إلى السآمة والملل من العبادة .
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل . وقال: اكلَفوا من الأعمال ما تطيقون .
تذكر الموتِ والدارِ الآخرة ، وقصرُ الأمل ، فإن طول الأمل يورث الكسل ، ويفسد العمل .
(أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذات)كما قال صلى الله عليه وسلم ، أي الموت ، ومن أكثر ذكر الموت ، نَشَط في عمله ، ولم يغتر بطول أمله ، وبادر بالأعمال قبل نزول أجله .
(وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها ، والله خبير بما تعملون).
الإكثار من مُجالسة الصالحين ، والحرص على مجالس الذكر التي تحيي القلوب ، وترغبها في العمل الصالح.
التعرف على سير الصحابة والسلف الصالح من خلال القراءة للكتب أو استماع الأشرطة ، فإنها تبعث في النفس الهمة والعزيمة.
الإكثار من ذكر الله واستغفاره ، فإنه عمل يسير ، ونفعه كبير ، وهو يزيد الإيمان ، ويُقوي القلب.(47/5)
البعد كل البعد عن مفسدات القلب من جلساء السوء ، ومشاهدة القنوات الفاسدة ، والمجلات الهابطة ، والاستماع للغناء والطرب.
وأخيرا أوصيكم ونفسي الخاطئة بتجديد التوبة .. التوبة النصوح التي ليس فيها رجوع للمعصية ، فإن الله يفرح بعبده إذا تاب أشد الفرح ، ويوفقه للعمل الصالح.
جعلنا الله وإياكم من التوابين الأواهين ، وسلك بنا طريق المخبتين ، (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون).
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى ...(47/6)
خطبة (المداومة على العمل الصالح بعد رمضان)
أما بعد .. فلقد دار الدهر دوره.. ومحا الزمان أثره.. وإذا برمضانَ الكريم يفارقنا فراقَ الحبيب لحبيبه .. وما أشد فراق الأحبة .
سُتِر السنا وتحجبت شمس الضحى *** وتغيبت بعد الشروق بدورُ
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى ***وغدت بقلبي جذوةٌ وسعيرُ
يا ليته لما نوى عَهْدَ النوى *** وافى العيونَ من الظلام نذيرُ
ناهيك ما فعلت بماء حشاشتي *** نارٌ لها بين الضلوع زفيرُ
نعم .. انقضى رمضان ويا وَلهِي عليه.. وتصرمت أيامه ولياليه .. واللهُ يعلم كم من صحائفَ بُيضت ، وكم من حسناتٍ كُتبت ، وكم من ذنوب غُفرت ، وكم من رقابٍ أُعتقت .
انقضى رمضان .. وخَفيت أنواره .. وبَليت أستاره.. وأفل نجمه بعد أن سطع .. وأظلم ليله بعد أن لمع.. فتفجرت المدامع .. وأظلمت المساجد والجوامع .
وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع.. وإنا على فراقك يا رمضان لمحزونون .
يا لائمي في البكا زدني به كلفاً ***واسمع غريب أحاديثي وأشعاري
ما كان أحسننا والشمل مجتمع *** منا المصلي ومنا القانت القاري
وفي التراويح للراحات جامعةٌ *** فيها المصابيح تزهو مثل أزهار
شهرٌ به يُعتق الله العصاةَ وقد *** أشفوا على جُرُف من حصة النار
عباد الله .. انقضى رمضان ولكن.. ماذا بعد رمضان؟
هل تخرجنا من مدرسةِ رمضانَ بشهادة التقوى؟
هل اتخذنا من رمضانَ قاعدةً للمحافظة على الصلاة في باقي الشهور.. ومنطلقاً لترك المعاصي والذنوب؟
ماذا بقي في قلوبنا من أثر هذا الشهر الكريم؟
ماهي أحوالنا بعد رمضان؟ لقد انقضى رمضان ، وانقسم الناس بعده إلى ثلاثة أقسام :(48/1)
1- القسم الأول : قوم كانوا على خير وطاعة ، فلما جاء رمضان شمروا عن سواعدهم ، وضاعفوا من جهدهم ، وجعلوا رمضان غنيمة ربانية ، و منحة إلاهية ، استكثروا من الخيرات ، و تعرضوا للرحمات ، وتداركوا ما فات ، فما انقضى رمضان إلا و قد علت رتبهم عند الرحمن ، وارتفعت درجاتهم في الجنات، وابتعدت ذواتهم عن النيران .
2- القسم الثاني : قوم كانوا قبل رمضان في إعراض وغفلة، فلما أقبل رمضان أقبلوا على الطاعة والعبادة ، صاموا و قاموا ، قرأوا القران و تصدقوا ، ودَمَعت عيونهم و خشعت قلوبهم ، ولكن ، ما إن ولى رمضان حتى عادوا إلى ما كانوا عليه ،عادوا إلى غفلتهم ، عادوا إلى ذنوبهم .
فلهؤلاء نقول: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات ، و من كان يعبد الله فان الله حي لا يموت .
عبد الله .. يا من عدت إلى ذنوبك و معاصيك ، أن الذي أمرك بالعبادة في رمضان هو الذي أمرك بها في غير رمضان .. عبد الله .. كيف تعود إلى السيئات ، وقد طهرك الله منها؟ كيف تعود إلى المعاصي و قد محاها الله من صحيفتك؟ أيُعتِقُك الله من النار فتعودُ إليها ؟ أيبيضُ الله صحيفتك من الأوزار و أنت تسوِّدُها ؟
يا من اعتاد الصلاة مع جماعة المسلمين ، كيف تعود إلى سبيل المنافقين .
ويا من صام لسانه في رمضان عن الغيبة والنميمة والكذب ، واصل مسيرتك وجدّ في الطلب.. يا من صامت عينه في رمضان عن النظر المحرم.. غضَّ طرفك ما بقيت.. يورثِ الله قلبَك حلاوة الإيمان ما حييت .
ويا من صامت أذنه في رمضان عن سماع الحرام ، من غيبة أو نميمة أو غناء.. اتق الله، ولا تعد معصيته.
ويا من صام بطنه في رمضان عن الطعام..، إياك وأكل الربا.. فإن آكله محارب لله ولرسوله .. فهل تطيق ذلك؟!(48/2)
يامن كنت تصوم مع الصائمين ، وتقوم مع القائمين ، إياك أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا .. وتذكر أخي ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فغيِّر من حالك ، وتب من ذنوبك ، وأقبل على ربك ، فإنك والله لا تدري متى تموت ، لا تدري متى تغادر هذه الدنيا .
3- القسم الثالث : قوم دخل رمضان و خرج رمضان ، وحالهم كحالهم ، لم يتغير منهم شيء ، ولم يتبدل فيهم أمر ، بل ربما زادت آثامهم ، وعظمت ذنوبهم ، واسودت صحائفهم .
(ورَغِمَ أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له) رواه الترمذي وصححه الألباني عن أبي هريرة.
أولئك هم الخاسرون حقا . وليس أمامهم إلا التوبةُ إلى ربهم ، و تداركُ ما بقي من أعمارهم .
قال الحسن البصري : ( إن الله جعل رمضان مِضماراً لخلقه ؛ يتسابقون فيه بطاعته ، فسبق قوم ففازوا ، وتخلف آخرون فخابوا . فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون و يخسر المبطلون ) .
أيها الصائم .. لكل شيء علامة .. وإن من علامات قبول العمل الصالح المواصلةَ فيه، والاستمرارَ عليه.. وأن يكون حالُ العبد بعد العمل خيراً منه قبل العمل ، فاحكم أنت على صيامك.. هل هو مقبولٌ أم مردود؟
ولئن انقضى رمضان ، فإن عمل المؤمن لا ينقضي حتى الموت ، قال تعالى : (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي الموت .
فلنقف أيها الأحبة على بعض النماذج المشرقة التي سطرها أولياء الله في المداومة على العمل الصالح .
ها هو سيد العابدين وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم ، كان كما تقول عائشة رضي الله عنها: (إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا ، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ) رواه مسلم .(48/3)
وكان يقول كما في حديث عائشة المتفق عليه:(سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) .
وانظر إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف تلقوا هذا الهدي النبوي ، وداوموا عليه ، وطبقوه في شؤون حياتهم .
ففي الصحيحين عن عَلِي رضي الله عنه أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ . فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا ، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ .
وفي زيادة عند أبي داود: قَالَ عَلِيٌّ : فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لَيْلَةَ صِفِّينَ فَإِنِّي ذَكَرْتُهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَقُلْتُهَا .
هكذا كانت محافظتهم على الأعمال الصالحة ، حتى في أحلك الظروف ، وأشد الأزمات .(48/4)
وانظر إلى هذا الشابِ الأعزبِ من شباب الصحابة ، كيف كان ثباته ومداومته على العمل الصالح ، ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا أَعْزَبَ ، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيْ الْبِئْرِ ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ ، فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَنْ تُرَاعَ ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ، نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ . قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا .
وتمضي السنون .. ولا يزال في الأمة در مكنون .. فها هو السلطان العثماني محمد الفاتح يفتح القسطنطينية في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله . وقد روي أنهم أرادوا أن يصلوا ركعتين لله شكرا على هذا الفتح المبين ، فأمر الخليفة محمد الفاتح أن لا يؤم الناسَ الا رجلٌ ما فاتته صلاُة الفجر في جماعة منذ أن عقل .(48/5)
بحثوا في الجيش ، فلم يجدوا أحداً ينطبق عليه الشرط ، لا من القضاةِ، ولا الوزراءِ ولا القادةِ ، ولا بقيةِ الجيش . فتقدم السلطان محمد الفاتح فصلى بهم صلاة الشكر ، ثم قال بعد الصلاة: أما وجدتم من فيه هذا الشرط من المسلمين؟ قالوا:لا ، فقال:والله لولا خوفي أن لا تقام الصلاة في يوم أعز الله فيه الإسلامَ وأهلَه لما أخبرتكم ، فقد أحببت أن أُبقي هذا سراًً بيني وبين خالقي ، ووالله ما فاتتني صلاة الفجرِ في جماعة منذ أن عقلت .
الله أكبر .. هكذا والله تعلو الهمم ، وتنتصر الأمم .. وإذا خضع سلطان الأرض ، نصر جبار السماوات والأرض .
وتمضي السنون .. ولا يزال في الأمة در مكنون .. لنقف على صفحات مضيئة من حياة العلماء العاملين ، ومنهم إمام هذا العصر شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز طيب الله ثراه ، وجعل جنة الفردوس مثواه، فقد ضربت مآثره أصقاع الدنيا بعلمه وعبادته وزهده وتواضعه ، حتى كانت آخرُ ليلة في حياته ، وهو طريح الفراش ، يصارع المرض الشديد ، ومع هذا كلِّه ، لم يكن ليترك قيامَ الليل ومناجاتِه مولاه ، فيدخل عليه ابنه أحمد بعد الساعة الواحدة ليلاً قبيل وفاته فإذا هو يقوم الليل على عادته رحمه الله .
عباد الله .. ما أسرع ما تمضي بنا الأيام والسنين .. وإن في سرعة انقضائها لعبرةً للمؤمنين .
رمضان .. بالأمس القريب استقبلناه ، وما أسرع ما ودعناه .. صفحات الأيام تطوى .. وساعات العمر تنقضي .. فعلى العاقل اللبيب أن يتفكرَ في حاله ومآله ، ويبادرَ بالتوبة والإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة .. فالدنيا ظل زائل ، وأيام قلائل ، وإن المؤمن لا يهدَأ قلبُه ، ولا يسكُن بالُه ، حتى يضعَ قدمه في الجنة .
أعاننا الله وإياكم على الطاعات، وختم أعمارنا بالباقيات الصالحات ، وجمعنا في أعالي الجنات ، إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى ...(48/6)
عباد الله .. لئن كنا ودعنا موسماً عظيماً من مواسم الطاعة والعبادة ، فإن الله تعالى شرع لنا من النوافل والقربات ما تهنأ به نفوسنا ، وتقر به عيوننا ، ويزيد في أجورنا وقربنا من ربنا . كصيام الست من شوال ، وقيام الليل وصلاة الوتر ، والمداومة على السنن الرواتب قبل الصلاة وبعدها ، وقراءة القرآن الكريم ، والمحافظة على الأوراد والأذكار .
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر).
فصيام الست من شوال سنّة مستحبّة ، وفضله أنه يكمّل أجر صيام سنة كاملة ، والحكمة من صيام الست: أنها كالصلوات النوافل مع الفرائض ، فهي ترقع ما شاب الصيام من نقص أو تقصير أو ذنب ، كما أن في صيامها شكراً لله على توفيقه لصيام رمضان ، وزيادةً في الخير ، ودليلاً على حب الله وطاعته، وعلامةً على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنة بعدها .
ولا يلزم صيام الست بعد عيد الفطر مباشرة ، بل يجوز أن يبدأ صومها بعد العيد بيوم أو أيام ، وأن يصومها متتالية أو متفرقة في شهر شوال حَسَب ما يتيسر له ، والأمر في ذلك واسع . لكن المبادرة أفضل؛ لما فيها من استباق الخيرات وعدم الوقوع في التسويف وعوارض الحياة .
واعلموا عباد الله أن من كان عليه قضاء من رمضان فعليه أن يصومه أولاً ثم يصومَ الست من شوال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال) ، والذي عليه قضاء من رمضان إنما صام بعض رمضان ولم يصم رمضان كما أفتى بذلك أهل العلم .(48/7)
كما أن من البدع التي نهى عنها أهل العلم قيام بعض الناس بصيام الست ابتداءً من اليوم الثاني إلى السابع ، فإذا أفطروا في اليوم الثامن سموه (عيد الأبرار) . وهذا العيد بدعة محدثة لا يجوز اعتقادها ، ويجب النهي عنها ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابِه .
فاتقوا الله عباد الله .. وقدموا لأنفسكم ، وداوموا على طاعة ربكم ، واعلموا أن للمداومة على العمل الصالح ثمرات وكرامات ، ووسائل ومحفزات ، أرجئها إلى خطبة قادمة بإذن الله تعالى .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(48/8)
خطبة ( المرأة وقيادة السيارة )
أما بعد .. إننا يوم أن نتحدثَ عن النساء فإننا نتحدث عن نصف الأمة .. بل نتحدث عن الأمة بأسرها لأنه لا يلد النصف الآخر إلا النساء .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيباً)
المرأة .. أم حنونة .. وبنت مصونة .. وزوجة حصونة .. وصدق القائل :
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا ... بالرِّي أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الألى ... شَغَلَتْ مآثرُهم مدى الآفاق
ومع تكريم الإسلام للمرأة وحفظه كرامتَها وحقوقَها ، فقد تعرض العالم الإسلامي خلال القرن الماضي للغزو الفكري ، وظهرت دعوات وحركات تحرير المرأة .. تلك الحركات المشبوهة التي ارتبطت بمصالحَ ماديةٍِ وإعلامية ، وتياراتٍ اجتماعيةٍ تعادي الدين والعقائد، وتروّج للإلحاد والإباحية.
ثم تلقى هذه الدعواتِ بعضُ أبناء المسلمين ، ممن استقر في عقولهم أن التقدم العلمي والسباق التقني لن يتحقق إلا على أنقاض الفضيلة والإيمان والالتزام بأحكام الإسلام .
وتلك والله الهزيمة النفسية والانكسار الداخلي ، الذي يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل .
أدعياء تحرير المرأة لا ينفكون عن الدندنة حول قضاياها..والتمسح بهمومها..وسفك دموع التماسيح على حقها المسلوب..وهويتها المفقودة..وكثيراً ما يرددون عباراتٍ براقة ، ومصطلحاتٍ مختزلة.. كقولهم: المرأة نصف المجتمع..نصف المجتمع معطل..المجتمع يتنفس برئة واحدة.
وهذه كلمة حق ناقصة..أريد بها باطل محض..! فالمرأة لم تكن نصف المجتمع الإسلامي.. بل هي المجتمع كله.. وكيف لا تكون المجتمع كله وهي صانعة الرجال..وملهمة الأبطال..والواقفة خلف العظماء.. نعم المرأة هي المجتمع كله.. شريطة أن تؤدي دورها الذي ارتضاه لها مولاها.(49/1)
يزعم هؤلاء الأدعياء أنهم يدعون إلى تحرير المرأة ، والواقع أنهم يدعون إلى تحرير الوصول إلى المرأة .
والمصيبة أنك لو نظرت في أحوال كثير من هؤلاء الكتاب وجدت أنهم من ذوي الانحراف الفكري أو السلوكي .
ففي قضايا الدين تجد أنهم أعداء كل دعوة خير وداعيها.. وإذا استعرضت كتاباتهم وأحاديثهم ، وجدت أن عدوهم: الحِسبةُ ورجال الهيئة أو العلماء والدعاة والمتدينون .. يتصيدون أخطاءهم .. ويتلمسون هفواتهم بالمجهر.
أيها المؤمنون .. لا يخفى عليكم ما تردد مؤخراً من الدعوة إلى قيادة المرأة للسيارة ، وتقديمِ هذه القضية مقترحاً لمجلس الشورى ، واعتبارِ أن المعارضين لها يمارسون نوعاً من الإرهاب الفكري .
وعلى الرغم من فساد هذه الدعوة الشاذة ، والمفاسدِ المترتبة عليها ، فإن مما يؤسف له أنه قد فرح بها بعض الكتاب ، ووصفوها بالخطوة الجريئة الشجاعة ، حتى إن بعض رسامي ما يسمى بالكاريكاتير تهكموا بالذين يرفضون هذه الفكرة وصوروا اعتراضهم بأنه ضرب من التشدد الذي يرفضه المجتمع .
ونحن في هذا المقام من منبر الفضيلة ، منبر محمد - صلى الله عليه وسلم - لا نجد بداً ولا عذراً من أن نقول في هذه القضية ما ندين الله تعالى به ، إبراءً للذمة ، ونصحاً للأمة ، وحباً لهذه البلاد ، وحفاظاً على أمنها ، بعيداً عن العنف والتشنج ، أو الخوض في ذوات الأشخاص ، أو الدخول في النوايا والمقاصد .
أيها المؤمنون : يجب أن نعلم أنه من الخطورة والفتنة بالمجتمع أن يفتي في مثل هذه المسائل الحساسة كل من هب ودب ، بل الواجب الرجوع فيها لولاة الأمر من الأمراء والعلماء ، وبهذا تنجو سفينة المجتمع .. قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) .(49/2)
والذين يستنبطونه هم العلماء الذين تصدر الأمة عن رأيهم .. علماؤنا الراسخون الذين قل أن نجد لهم نظيراً في هذا الزمان، رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء وبارك فيهم.
وقد أطبقت أقوال علمائنا الكبار وعقلاءِ المجتمع على تحريم قيادة المرأة للسيارة نظراً لما يترتب عليها من مفاسد كثيرة .
قال سماحة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله :((فقد كثر حديث الناس عن قيادة المرأة للسيارة ، ومعلوم أنها تؤدي إلى مفاسد لا تخفى على الداعين إليها ، منها : الخلوة المحرمة بالمرأة ، ومنها : السفور ، ومنها : الاختلاط بالرجال بدون حذر ، ومنها : ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور ، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة ، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت ، والحجاب ، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع ، قال تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية)) [ثم ساق رحمه الله عدداً من الأدلة] .
وقد ناقش فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله هذه المسألة نقاشاًّ هادئاً شافياً ، ليس بعده مطلب لطالب الحق المتجرد عن الهوى .
فقد سئل الشيخ السؤال التالي : ))أرجو توضيح حكم قيادة المرأة للسيارة، وما رأيكم بالقول: إن قيادة المرأة للسيارة أخفُ ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي؟ ((.
فأجاب الشيخ بما مفاده : الجواب على هذا السؤال ينبني على قاعدتين مشهورتين بين علماء المسلمين:
القاعدة الأولى : أن ما أفضى إلى المحرم فهو محرم.
القاعدة الثانية : أن درء المفاسد - إذا كانت مكافئة للمصالح أو أعظم - مقدمٌ على جلب المصالح.(49/3)
[ثم قال الشيخ :] وبناء على هاتين القاعدتين يتبين حكم قيادة المرأة للسيارة . فإن قيادة المرأة للسيارة تتضمن مفاسد كثيرة .
فمن مفاسدها: نزع الحجاب ، لأن قيادة السيارة سيكون بها كشف الوجه الذي هو محل الفتنة ومحط أنظار الرجال .
وربما يقول قائل: إنه يمكن أن تقود المرأة السيارة بدون نزع الحجاب بأن تتلثمَ المرأة وتلبسَ في عينيها نظارتين سوداوين.
والجواب على ذلك أن يقال: هذا خلاف الواقع من عاشقات قيادة السيارة، واسأل من شاهدهن في البلاد الأخرى، وعلى فرض أنه يمكن تطبيقه في ابتداء الأمر فلن يدوم طويلاً، بل سيتحول - في المدى القريب - إلى ما عليه النساء في البلاد الأخرى .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة : نزع الحياء منها، والحياء من الإيمان - كما صح ذلك عن النبي .
ومن مفاسدها: أنها سبب للفتنة في مواقف عديدة:
في الوقوف عند إشارات الطريق. . في الوقوف عند محطات البنزين. . في الوقوف عند نقطة التفتيش. . في الوقوف عند رجال المرور عند التحقيق في مخالفة أو حادث. . في الوقوف لملء إطار السيارة بالهواء .. في الوقوف عند خلل يقع في السيارة في أثناء الطريق .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة: كثرة ازدحام الشوارع .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة :كثرة الحوادث؛ لأن المرأة بمقتضى طبيعتها أقلُ من الرجل حزماً. وأقصرُ نظراً وأعجزُ قدرة، فإذا داهمها الخطر عجزت عن التصرف.
وأما قول السائل: (وما رأيكم بالقول: إن قيادة المرأة للسيارة أخف ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي؟ ) فالذي أرى أن كل واحد منهما فيه ضرر، وأحدهما أضر من الثاني من وجه، ولكن ليس هناك ضرورة توجب ارتكاب أحدهما.(49/4)
قال الشيخ : واعلم أنني بسطت القول في هذا الجواب لما حصل من المعمعة والضجة حول قيادة المرأة للسيارة والضغطِ المكثف على المجتمع السعودي المحافظ على دينه وأخلاقه ليستمريء قيادة المرأة للسيارة ويستسيغَها. وهذا ليس بعجيب لو وقع من عدو متربص بهذا البلد الذي هو آخرُ معقل للإسلام يريد أعداء الإسلام أن يقضوا عليه، ولكنّ هذا من أعجب العجب إذا وقع من قوم من مواطنينا ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويستظلون برايتنا، قوم انبهروا بما عليه دول الكفر من تقدم مادي دنيوي ، فأعجبوا بما هم عليه من أخلاق تحرروا بها من قيود الفضيلة إلى قيود الرذيلة وصاروا كما قال ابن القيم في نونيته:
هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلو برق النفس والشيطان
وظن هؤلاء أن دول الكفر وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم مادي بسبب تحررهم هذا التحرر؛ وما ذلك إلا لجهلهم أو جهلِ الكثير منهم بأحكام الشريعة وأدلتها الأثرية والنظرية، وما تنطوي عليه من حكم وأسرار تتضمن مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم ودفعِ المفاسد . فنسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية والتوفيق لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة . انتهى ملخص كلام العالم الناصح محمد بن عثيمين رحمه الله .
ألا فليتق الله كل مسلم غيورٍ على دينه ، غيورٍ على هذه البلاد المباركة ، وأمنها ، وصلاح أهلها .
وعلينا جميعاً ، عامةً وخاصة ، أن ننطلق في إصلاح أحوالنا من كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - .. ولنعلم أنه لا خيار لنا في ذلك .. (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلالاً مبيناً) .
أقول ما تسمعون ، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويقيَنا شر أنفسنا ، ويهديَنا سبل السلام ، ويجنبَنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن .. إنه جواد كريم .
... ... الخطبة الثانية(49/5)
الحمد لله الذي خلق فسوى .. وقدر فهدى .. والصلاة والسلام على عبده المصطفى ، ورسوله المجتبى ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى .
أما بعد .. فقد ذكر بعض الناس هداهم الله بعض المبررات الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ لقيادة المرأة السيارة ، كقولهم : إن منع المرأة من قيادة السيارة يكلف المجتمعَ مبالغَ مالية تدفع للسائقين المستقدمين ، علاوة على ما يسببه السائقون من كثرة وقوع الحوادث ، وأن المرأة تقود السيارة في الدول الأخرى ولم تتعرض للأذى ... الخ ما ذكروا .
والجواب على هذه الكلام من وجوه :
إن من الخطأ الظاهر ما يذكره بعض الناس من المنافع والمبررات لهذا الأمر، لكنهم ينسون أو يتناسون المفاسد المترتبة على هذا الأمر ، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما).
إن قياس هذه البلاد على غيرها من البلدان قياس مع الفارق ، فالعاقل يدرك ما تتمتع به هذه البلاد من خصوصية ومحافظة ، ويدرك أحوال مجتمعها ، وما يعيشه نساؤها وشبابها ، فلا يمكن أن يقال فيها ما يقال في غيرها من البلاد .
إن قيادة المرأة للسيارة لا تعني بالضرورة إلغاء السائقين، وواقع المرأة في دول الخليج يؤكد ذلك، حيث بقي السائق في كثير من البيوت التي تقود فيها المرأة السيارة .
لو سلمنا بأن منع المرأة من قيادة السيارة يكلف المجتمع مبالغ مالية تدفع للسائقين المستقدمين ، فهل خسارة المال أشد من خسارة الأعراض والإخلال بأمن الأسرة والمجتمع ؟ ولله در القائل:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال(49/6)
إن كثرة وقوع الحوادث لا يدفعها قيادة المرأة للسيارة ، بل ربما تزيدها أضعافاً ، لضعف المرأة وشدة خوفها لاسيما في المواطن المزدحمة أو الخطيرة . وفيما ذكره الله تعالى من قصة ابنتي شعيب اللتين كانتا لا تسقيان حتى يصدر الرعاء أكبرُ شاهد على ضعف المرأة ، ولو كان معها امرأة أخرى ، وأنها لا غنى لها عن الرجل .
إن الادعاء بوجود ضوابط لتقنين قيادة المرآة للسيارة يبطله الواقع، وما نراه في الشارع ، وما نعانيه من قيادة الشباب للسيارات ، وتسببهم في المآسي والحوادث خير دليل ذلك.
وأخيراً : هل في عدم قيادة المرأة للسيارة احتقارٌ لها أو حطٌ من قدرها؟ سبحان الله .
من هم الذين لا يقودون السيارة .. بل ويجلسون في الخلف .. ويخصص لهم سائق وسيارة؟
نعم .. إنهم الملوك والرؤساء ، والقادة والأمراء ، والشخصيات الهامة ، وقد شاركتهم المرأة السعودية ..لأنها مكرمة ..أكرمها دينها..وأعزها ورفع شأنها...وجعل والدها وأخاها..وزوجها وابنها يخدمونها.. ويرافقونها.. وستظل المرأة السعودية بإذن الله ، عزيزةً مكرمة ، متى ما حافظت على دينها ، وتمسكت بأخلاقها .
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وولاة أمورنا للبر والتقوى ، ويريَنا وإياهم الحق حقاً ويرزقَنا اتباعه ، ويريَنا الباطل باطلاً ويرزقَنا اجتنابه ، وأن يرد ضالنا إليه رداً جميلاً ، وأن يهدي كل من أراد منا الحق فلم يوفق إليه .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(49/7)
خطبة ( المكاسب الخبيثة)
أما بعد .. أخي المبارك: كم هو رصيدك في البنك؟ وكم تملك من المال؟ .
ليس مهماً أن تعرف إجابة هذا السؤال أو لا تعرف، لكن الأهم، هو أن تسأل نفسك من أين اكتسبت هذا المال؟ أمن الحلال أو الحرام؟.
عباد الله .. إنَّ من علاماتِ ضعفِ الإيمان, وضعف اليقين باليوم الآخر, حبَ الدنيا, وإيثارَها على الآخرة, والتعلقَ بالشبهِ الواهيةِ في تحصيلِ المالِ بأي وجهٍ كان .
ولقد تعددت في زماننا هذا, أبوابُ الكسبِ الحرام، التي وقع فيها الكثير من الناس، فأهلكوا أنفسهم .. ووقعَ آخرون في الشبهات, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرامِ كالراعي يرعى حولَ الحمى, يُوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى، ألا وإنّ حمى اللهِ محارمُه .
وإذا كانت مصادرَ الكسبِ الحرام متعددةً ومتنوعة، فقد تفتقت عقولُ شياطينِ الإنس والجن في هذا العصر, فاخترعوا ألواناً وأشكالاً، يصعبُ حصرُها وتفصيلها .
فمن ذلك، الربا، وأمرهُ واضحٌ لا لبس فيه، ولهُ أشكالٌ وصور, من فوائدَ وصناديقِ استثمار وبطاقاتٍ ائتمانية وبيعِ العينةِ وغيرها من المعاملات.
ومن المكاسب المحرمة كذلك ، بيعُ الخمور, أو المخدراتِ أو الدخانِ, أو آلاتِ الفساد, ومنها كذلك: ثمنُ الكلب, ومهرُ البغيِّ, وحُلوانُ الكاهن، أي ما يتعاطاه الكاهنُ نظيرَ كَهانته، ومنها كذلك: ثمنُ المجلاتِ الفاسدة, والصحفِ المنحرفة، والأفلامِ الماجنة والأشرطةِ الخليعة، وغيرها من المحرمات .
ومن المكاسب المحرمة: الرِّشوة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي في الحكم) أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
والرِّشوة، هي ما يعطى من المال لإبطال حق، أو إحقاق باطل، أما ما يعطى لاستنقاذ حق تعذر الحصول عليه، أو رفع ظلم، فقد أجازه أهل العلم ، وإثمه على الآخذ الظالم .(50/1)
ومن المصادرِ الخبيثةِ المحرمةِ لكسبِ المالِ وجمعه، السرقةُ من بيتِ مال المسلمين بدعوى أنَّ لهُ فيه حقاً، أو أنّ ما يتعاطاهُ لا يكفيه، أو أنّ الحكومةَ قويةٌ وهو ضعيف، أو غيرِ ذلكَ من الدعاوى الباطلة، وتبدأُ هذه الجريمة- أعنى السرقة من بيتِ المالِ- , بسرقةِ قلمٍ أو ورقةٍ أو محبرةٍ، وتنتهي بسرقةِ ملايينَ الريالات بشتَّى الحيلِ وطرقِ التزوير، مما ينطلي على البشر, وليس بخافٍ على ربِّ البشر، عالم الغيبِ والشهادة، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يدري ذلك السارقُ المسكينُ أنّ خصمهُ في هذا ليس وليُّ الأمرِ وحده، بل المسلمون الذين سَرَقَ من مالهم, بل إنّ خصمهُ هو اللهُ الواحدُ القهار, المنتقمُ العزيزُ الجبار، الذي يقولُ: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)) ، ويقولُ سُبحانهُ : (( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
والغلولُ: هو الأخذُ من بيتِ المالِ بطريقٍ غيرِ مشروع، كالتزويرِ والكذبِ والاحتيال، أو استغلالِ النفوذ والجاه, فمن فعلَ ذلك فهو غالٌّ سارق، آكلٌ للحرام - والعياذُ بالله- حاكماً كان أو محكوماً، رئيساً كان أو مرؤوساً .(50/2)
وقد أخرج الإمامُ مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ فذكر الغلول فعظَّمهُ, وعَظّمَ أمره، ثُمَّ قال : ((لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ .. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ .. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ .. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ .. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ .. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ – يعني ذهباً أو فضة- ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ)) .
حديثٌ عظيمٌ مخيف، يُزلزلُ القلوبَ الحيةِ ويهزُها هزاً، فمن سرقَ شاةً أو بعيراً، أو سيارةً أو متاعاً، أو سَرقَ مالاً, جاءَ يَحمِلهُ يومَ القيامةِ على رقبتهِ، مفضوحاً بين العباد، إلاَّ أن يتوبَ إلى الله تعالى، ويرُدَّ ما سرقهُ إلى بيتِ المال .(50/3)
بل وحتى المجاهدُ في سبيلِ الله الذي قد يكونُ نصيبهُ من الغنيمةِ كبيراً، لو انتظر القسمة، فإنَّه لو اختلس مخيطاً-إي إبرةً- لكانت عليه ندامةً يوم القيامة، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - : (أدُّوا الخيط والمخيط، وإيَّاكم والغُلول، فإنَّهُ عارٌ على أهلهِ يوم القيامة) رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً كان مملوكاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، رُمِيَ بِسَهْمٍ يوم خيبر فمات، فَقال الصحابة: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، قالَ فَفَزِعَ النَّاس، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم -: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ .
رحماكَ يا رب!! هذا المجاهدُ في سبيلك، البائعُ نفسَهُ لمرضاتك, تدفعهُ نفسُهُ الأمارةُ بسرقةِ شيءٍ زهيد، قد يكونُ مستحقاً لأعظمَ منهُ لو صبر حتى القسمة، ثُمَّ يلتهبُ عليه ما اختلسهُ ناراً تلظى, رحماكَ يا رب! فكيف يكونُ حالُ العبادِ المقصرين في طاعتك، السادرين في غيِّهم وضلالهم ، السارقينَ لأعظمَ من ذلك وأكثر .
وهذا مجاهدٌ آخر اختلسَ من بيتِ المال, فكان مصيرهِ إلى النار، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان في بيتِ المالِ رجلٌ يُقالُ له: كِرْكِرة فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( هو في النارِ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءةً قد غلَّها )) رواه البخاري .(50/4)
سبحان الله, هذا رجلٍ مسلمٍ مُجاهد, اختلس من بيتِ المالِ عباءة, فكيف بمن يسرقون الألوفَ المؤلفةِ والملايين المكدسة.
عباد الله .. ويدخلُ في الغلو كذلك، هدايا الموظفين، التي يهديها إليهم المراجعون، أو المتعهدون من أصحاب المصانعِ والمؤسسات, باسم الدعايةِ, أو التكريم, أو الصداقة .
حتى بلغت الوقاحة ببعض الموظفين في بعض البلدان أن يضع فوق رأسه لوحة مكتوب فيها: ادفع بالتي هي أحسن .
وقد جاء في الصحيحين عن أبي حُميدٍ الساعدي - رضي الله عنه - قال : (اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا مِنْ الْأزدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَتَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْكَ أَمْ لَا، ثم َقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهم هل بلغت) .(50/5)
وفي صحيح مسلم أيضاً: من حديثِ عدي بن عَمِيرَة الكِندي قال, سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من استعملناهُ منكم على عملٍ, فكَتَمَنَا مخيطاً فما فوق, كان غُلولاً يأتي به يوم القيامة، قال: فقامَ إليه رجلٌ أسودٌ من الأنصار، كأني انظرُ إليه, فقال: يا رسول الله اقبل عنِّى عملك- يعني بالتعبير المعاصر, اقبل استقالتي من العمل- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومالَك؟ قال: سمعتك تقولُ كذا وكذا، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا أقولهُ الآن من استعملناهُ منكم على عملٍ, فليجئ بقليله وكثيره، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، يا ذا الفضل العظيم ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله .. ومن المكاسب المحرمة، المتعلقةِ بالغلول أو السرقة من بيتِ المالِ: ما يتقاضاهُ بعضُ الموظفينَ باسمِ خارج الدوام أو الانتداب، من غيرِ أن يقوموا بالمهمةِ فعلاً، وإنَّما تُدرج أسماؤُهم في مسيراتِ الرواتب, وهم جالسون في بيوتهم، وبعضُ الموظفين قد يتغيبُ عن عملهِ اليوم واليومين والثلاثة بلا عذرٍ شرعي, أو لا يستكملُ ساعاتِ الدوامِ الرسمي, فيعتادُ الخروجَ لقضاءِ مشاغلهِ الخاصة, معطلاً بذلكَ مصالحَ الناس، وحاجاتِ المراجعين .
وقد يتعذرُ بعضُ أولئك الموظفين بأنّ رؤساءهُ يتغيبون عن العملِ، ونسي أولئكَ المساكين قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) .(50/6)
ويدخلُ في الغلولِ والسرقة من بيتِ مال المسلمين، ما يفعلهُ بعضُ مأموري المشترياتِ من تلاعبٍ بفواتيرِ الشراء, فتدونُ أرقامُ المشتريات بأضعافِ القيمةِِ الحقيقيةِ للسلع المشتراة، وبتواطئٍ من بعضِ الباعةِ الظلمة، فيكونُ فرقُ القيمةِ سُحتاً وغلولاً, يأكلهُ ذلك الموظفُ الخائن للأمانة، الذي انساقُ خلفَ شهوةِ نفسه، وهوى قلبهِ، وتفانى في جمع المال من أيِّ طريقٍ كان، لا يفكرُ أمن حلالٍ جمعَ أم من حرام .
وقد ثبت عند الترمذي وغيره من حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)، وفي رواية أحمد: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت) .
ألا فاتقوا الله عباد الله ، وتحروا الحلال في مكاسبكم ، وأطيبوا مطاعمكم تستجب دعواتكم، فقد روى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) .
اللهم صل على محمد ...(50/7)
خطبة ( قصة الهجرة وآثار المقاطعة )
الحمد لله مدبرِ الشهور والأعوام , ومصرفِ الليالي والأيام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوثُ رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام . أما بعد .. ولا يزال الحديث ولا يملّ عن سيد البشرية - صلى الله عليه وسلم - .
ونحن نستقبل العام الهجري الجديد ، نتذكر قصة الهجرة ، تلك الحادثة العظيمة التي نصر الله بها الدين، وقلب الموازين.
مكث عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً بمكة يدعو إلى لا إله إلا الله .
سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء .. والتشريد والابتلاء.
وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرض ذات نخل بين لابتين .. إنها طيبة الطيبة .
ومن مكة ، تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها .. مهاجرةً بدينها ..مخلفةً وراءها ديارها وأموالها .
ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول ( ويقول : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً .
وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة للقضاء على محمد قبل فوات الأوان .
ويحضر الشيطان معهم على صورة شيخ نجدي ، قال بعضهم: احبسوه في الحديد حتى يموت ، وقال بعضهم : أخرجوه وانفوه من البلاد ، وبعد أن قوبل هذان الاقتراحان بالرفض تقدم فرعون هذه الأمة أبو جهل برأي خبيث ماكر فقال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً ثم نعطي كل فتىً منهم سيفاً صارماً فيضربون محمداً ضربة واحدة فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل . فأعجب القوم بهذا الرأي حتى إن الشيطان الذي لم يستطع الإتيان بمثله أيده وقال : القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره .
ووافق الحضور على هذا القرار الغاشم بالإجماع وبدأوا في التنفيذ .(51/1)
وينزل جبريل فيخبر النبي ( بتلك المؤامرة ويقول : يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة .
( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (
وفي بيت أبي بكر ، كان أبو بكر جالساً مع أهله في الظهيرة ، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه ، ففزع أبو بكر لأنه ( لم يكن يأيتهم في تلك الساعة .. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول : يا أبا بكر أَخرِج مَنْ عندَك . قال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله . قال: فإني قد أُذن لي في الخروج . قال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله . فقال : نعم . فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول :
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
ويعود ( إلى بيته ويعرّف علياً بالأمانات التي عنده ليؤديها إلى أهلها .. وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ويطوقون منزله عليه الصلاة والسلام .
وفي هذه الساعة الحرجة يأمر النبي ( علياً أن يبيت في فراشه وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي .
ويفتح النبي عليه الصلاة والسلام الباب .. ويخترق صفوف المجرمين ..يمشي بين سيوفهم وهم لا يرونه ، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم الواحد تلو الآخر ثم يمضي بحفظ الله .
وكان المجرمون ينظرون من شِق الباب فيرون علياً على الفراش ، فيظنون أنه النبيُ - صلى الله عليه وسلم - .. فلما أصبحوا اكتشفوا الأمر ، وأخذوا ينفضون التراب عن رؤوسهم .
سمعت قريش بالخبر فجن جنونها ، وثارت ثائرتها ، فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة المشددة ، وأعلنت عن جائزة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو أبا بكر حيين أو ميتين .(51/2)
كان الرسول ( يعلم أن قريشاً ستجدّ في الطلب شمالاً باتجاه المدينة . فاتجه هو وصاحبه جنوباً إلى غار ثور على طريق اليمن ، ولما انتهيا إلى الغار روي أن أبا بكر دخل الغار وسد جحوره بإزاره حتى بقي منها اثنان فألقمهما رجليه . ثم دخل رسول الله ( ونام في حجر أبي بكر . وبينما هو نائم إذ لُدغت رجلُ أبي بكر من الجحر فتصبّر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله ( من نومه ، لكن دموعه غلبته فسقطت على وجه رسول الله ( ، فيستيقظ ليرى صاحبه قد لُدِغ ، قال : يا أبا بكر مالك . قال : لُدِغت فداك أبي وأمي . فتفل ( على رجله فبرأت في الحال .
عبدالله بن أبي بكر شاب ذكي نبيه ، بطل من أبطل الصحابة .. كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي ( الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة .
وكانت عائشة وأسماء يصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بذات النطاقين) .
وكان لأبي بكر راعٍ اسمه عامرُ بنُ فهيرة ، فكان يرعى الغنم حتى يأتيَهما في الغار فيَشْرَبان من اللبن ، فإذا كان آخرُ الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر ليخفي أثر أقدامه .
واستأجر رسول الله ( رجلاً كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان هادياً خريتاً ماهراً بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال .
أعلنت قريش حالة الطواريء وانتشر المطاردون في أرجاء مكة كلهم يسعى للحصول على الجائزة الكبيرة . وصل بعض المطاردين إلى الجبل وصعدوه حتى وقفوا على باب الغار ، فلما رآهم أبو بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .. لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا . فقال له ( : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا(.(51/3)
وفي رواية حسنها بعض العلماء ، أنهم نظروا إلى الغار وإذا العنكبوت قد نسجت خيوطها على الباب . فقالوا : لو دخل هنا لم تنسج العنكبوت على الباب ، فانقلبوا خاسئين .
مكث عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ، ولما خَمَدت نار الطلب جاءهما عبد الله بن أريقط في الموعد المحدد ، فارتحلوا وسلكوا الطريق الساحلي .
وفي مشهد من مشاهد الحزن يقف عليه الصلاة والسلام بالحَزْوَرة على مشارف مكة ليلقي النظرة الأخيرة على أطلال البلدِ الحبيب .. بلدِ الطفولةِ والذكريات .. ويقول : أما والله إني لأعلم أنك أحب بلادِ الله إلي وأكرمِها على الله ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
وفي الطريق يمر الركب المبارك بديار بني مدلج ، فينطلق وراءهم سراقةُ بنُ مالكٍ على فرسه بسلاحه يريد الجائزة .. ويدنو منهم حتى سمع قراءة رسول الله ( وهو يقرأ القرآن.. يلتفت أبو بكر فيرى سراقة فيقول : يا رسول الله أُتينا ، فيرفع النبي ( يديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ويقول : اللهم اكفناه بما شئت .. اللهم اصرعه .. وكان سراقة يجري بفرسه على أرض صلبة فساخت قدما فرسه في الأرض وكأنما هي تمشي على الطين فسقط عن فرسه ، ثم قام وحاول اللحاق بهم فسقط مرة أخرى ، فنادى بالأمان ، فتوقف - صلى الله عليه وسلم - وركب سراقة فرسه حتى أقبل عليه وأخبره خبر قريش ، وسأله أن يكتب له كتاباً ، فأمر عامرَ بنَ فهيرة أن يكتب له وقال له : أَخفِ عنا . فرجع سراقة كلما لقي أحداً رده وقال : قد كفيتم ما ههنا . فكان أول النهار جاهداً على النبي ( ، فأصبح آخر النهار مجاهداً عنه ، فسبحان مغير الأحوال .(51/4)
وفي الطريق يمر الركب المبارك بخيمتي أم معبد فيسألها النبي ( الطعام فتقول : والله لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزَكُم القِرى ، والشاء عازب والسنة شهباء .. يلتفت عليه الصلاة والسلام وإذا شاة هزيلة في طرف الخيمة فيقول : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فتقول له : هذه شاة خلفها الجَهْد عن الغنم ، قال : أتأذنين أن أحلُبها . قالت : نعم إن رأيت بها حَلَباً . فدعا ( بالشاة فمسح على ضرعها ودعا فتفجرت العروق باللبن فسقى المرأة وأصحابه ثم شرب ( ، ثم حلب لها في الإناء وارتحل عنها .
وفي المساء يرجع أبو معبد إلى زوجته وهو يسوق أمامه أَعنُزَه الهزيلة . يدخل الخيمة وإذا اللبنُ أمامه ، فيتعجب ويقول : من أين لك هذا ؟ فتقول له : إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت .
جزى الله رب العالمين جزاءه / رفيقين حَلاّ خيمتي أم معبدِ
هما نزلا بالبر وارتحلا به / فأفلح من أمسى رفيق محمدِ
وفي المدينة ، سمع الأنصار بخروجه عليه الصلاة والسلام ، فكانوا لشدة تعظيمِهم له وفرحِهم به وشوقِهم لرؤيته يترقبون قدومه ليستقبلوه عند مدخل المدينة ، فيخرجون كل يوم بعد صلاة الفجر إلى الحرة على طريق مكة في أيام حارة ، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا إلى منازلهم . فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا عند الظهيرة إلى بيوتهم . وكان أحد اليهود يطل في هذه الأثناء من أُطُم من آطامهم فرأى رسول الله ( وأصاحبه مقبلين نحو المدينة فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون . فثار المسلمون إلى السلاح، وكان يوماً مشهوداً، وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وتلقوه وحيوه بتحية النبوة ، وأحدقوا به مطيفين به ، والسكينة تغشاه ، والوحي ينزل عليه (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير( .(51/5)
وبعد الهجرة ، مكث - صلى الله عليه وسلم - في المدينة قرابة العشرة أعوام ، أقام فيها دولة الإسلام ، وبلغ البلاغ المبين ، وأكمل الله به الدين ، حتى أتاه اليقين ، بآبائنا هو وأمهاتنا - صلى الله عليه وسلم - .
تلكم أيها الأحبة قصة الهجرة ، وفيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المَقام . أذكر بعضها بإيجاز: أولاً:
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين : فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء بمكة ، كانت الهجرة بداية للنصر والتمكين لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، بصبرهم ويقينهم بالله تعالى .
درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله : فقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس .. ومع هذا فقد كان ( في ظل هذه الظروف العصيبة متوكلاً على ربه واثقاً من نصره .
فالزم يديك بحبل الله معتصماً / فإنه الركن إن خانتك أركان
درس في الحب : وقد قال الحبيب ( :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " .
هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته ( . . . هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله .
هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب ( على أهله ونفسه .
هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه ( على أحر من الجمر . فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب ( ويهجر سنته أو يتخاذل عن الذب عن عرضه ، ثم يزعم أنه يحبه؟
يا مدعي حب أحمد لا تخالفه / فالخُلْف ممنوع في دنيا المحبينا
درس في التضحية والفداء : فقد هاجر النبي ( وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يتعللوا بالعيال ، ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم فداءً لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .(51/6)
ويوم أن بات علي في فراشه ( وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش .. ويوم أن قام آلُ أبي بكر عبدُالله وأسماءُ وعائشةُ ومولاه عامرٌ بهذه الأدوار البطولية ، كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم .
هكذا كان شباب الصحابة ، فأين شبابُنا .. أين شبابُنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة .
أين أنتم يا شباب ، وقد كشر الأعداء عن أنيابهم ، فسبوا أشرف الخلق فَداه آباؤنا وأمهاتنا .
أما آن للشاب أن يستيقظَ من غفلته ، ويتوبَ من خطيئته ، ويهاجر إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟
إن حقيقة الهجرة ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر ، إن المهاجر كما قال - صلى الله عليه وسلم - هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله ( ، هجرةٌ من الذنوب والسيئات ... هجرةٌ من الشهوات والشبهات ... هجرةٌ من مجالس المنكرات .. هجرةٌ من طريق النار إلى طريق الجنة ..
نسأل الله تعالى أن يصلح شبابنا ، وأن يهدينا جميعاً ويردنا إليه رداً جميلاً ، إنه جواد كريم .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لم يزل حميداً مجيداً ، والصلاة والسلام على من أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ..وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.
عباد الله .. على الرغم من شناعة ما وقع من الصحيفة الدنمركية في حق الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، فإننا نحمد الله تعالى على ما من به على أمة الإسلام من هذا التكاتف والالتحام ضد من تولى كبر هذه الجريمة .. نقول هذا ونحن نرى غرسة المقاطعة قد آتت بعض أكلِها ، واستوت على سوقِها ، فأغاظ الله بها الكفار ولله الحمد .(51/7)
وشهد شاهد من أهلها ، فقد أقفلت شركةُ "أرلا" الدانماركية مصنَعها الكبيرَ لمشتقات الحليب في الرياض .. وقال مديرها: إن المقاطعة الإسلامية للدنمارك ضربت عصب الشركة بدول الخليج العربي، ووصلت الخسائر اليومية في السوق السعودي إلى مليون ونصف دولار ، وقد تصل سنوياً إلى ما يقارب النصف مليار دولار .
وأكد خبير اقتصادي دنمركي أنه في حال استمرار المقاطعة ستفقد الدنمارك أربعةَ آلاف فرصة عمل بالإضافة إلى خسارة اثنين ونصف مليار كرون في هذا القطاع فقط .
أما الصحيفة المشؤومة فقد وجهت في صدر صفحتها الأولى رسالة باللغة العربية إلى مواطني المملكة العربية السعودية المحترمين ، تبجح فيها المجرمُ المتغطرسُ رئيسُ التحرير بوجود سوء فهم ، وأن الصحيفة لم تقصد الإساءة ، وقال الكذوب: إن الصحيفة اعتذرت عدة مرات في الأشهر الماضية ، ثم أحال بكل جرأة وصفاقة إلى مقال سابق أصدرته جريدته باللغة العربية تحت عنوان (الكلمة حرة) ، وهو المقال الذي يطالبنا بأن نرضى ونسكتَ على هذه الجريمة، وجاء فيه: (ولهذا فلن يكون هناك اعتذارٌ أو سحبٌ للرسومات).
ومضت الأيام ، واتضح للقوم مدى تأثير المقاطعة على اقتصادهم ، فأصبحوا يولولون ويصيحون بحثا عن مخرج ، بعد محاولة الاعتذار الفاشلة والغبية من الصحيفة .
وبدأت الصحف الدنماركية تكتب بالعربية، نظراً لعمق الهزة التي أحدثتها المقاطعة .
وحمّل عدد من كبار الساسة الدنماركيين الحكومةَ ورئيسَ الوزراء الدنماركي مسؤولية ما آلت إليه الازمة .
ولما حمي الوطيس ، وأعيتهم الغطرسة ، ظهر رئيس وزرائهم على إحدى القنوات الفضائية العربية مناقضاً نفسه ، معتذراً للمسلمين من تلك الجريمة .. آلئن يا عدوَّ اللهِ ورسولِه ، (آلئن وقد عصيت قبل ، وكنت من المفسدين) .(51/8)
وأخيراً ، اعترف رئيس تحرير الصحيفة المشؤومة في حوار مع صحيفة أخرى أن ما يحدث الآن انتصارٌ لمن أسماهم أعداءَ حريةِ التعبير قائلا "أعتقد أنه لن يرسم أحد في الدانمارك من الجيل القادم النبيَ محمد, وعلي أن أقول وأنا أشعر بالعار: إنهم انتصروا".
عباد الله .. لقد أثبتت الأحداث أن القضيةَ ليست مجردَ رسوماتٍ حقيرة , وانما هي عقيدة متأصلة في نفوس هؤلاء المجرمين ، من كره للاسلام والمسلمين ، واستهزاء بسيد المرسلين . واسمحوا لي أن أذكر بعضَ الحقائقِ الهامة ، ولو أطلت عليكم .
فحينما أبدى سفير الدانمرك في الرياض عدم رضاه عن ما جاء في الصحيفة الدانمركية ، تبرأت وزارة الخارجية الدانمركية من ما جاء على لسان سفيرها ، وقالت أنه بما قال لا يمثل إلا نفسه .
وأما ملكتهم "مارقريت" فقد ألفت كتاباً عن الحضارة الأوربية ، وذمت فيه الإسلام والمسلمين والرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ورئيس وزرائهم هذا أشار ثلاث مرات منذ أحداث سبتمبر إلى أن أهل الإسلام حثالةُ الشعوب ، وهو الذي يرعى الآن إنتاج الفيلم الذي ألفته الكاتبة الصومالية المرتدة لتصحيح أخطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تزعم .
أما صحفهم فقد سبق أن نشرت العديد من المقالات التي تنتقد فيها الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وفي استطلاع للرأي بثته هيئة الإذاعة البريطانية ، وتناقلته بعض الصحف تبين أن تسعاً وسبعين بالمائة من الدنماركيين لا يؤيدون اعتذارَ حكومتِهم ولا وسائلِ إعلامهم .
وفي حديث لإحدى القنوات الفضائية ، ذكر رئيس رابطة العالم الاسلامي في الدانمارك أن مظاهرة سيقوم بها الدانماركيون ضد المسلمين غداً السبت ، وأنهم سيحرقون فيها المصاحف ، ثم أجهش رئيس الرابطة بالبكاء ولم يستطع إكمال الحوار ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .(51/9)
فيا أحباب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المقاطعة المقاطعة ، وإن اعتذروا على استحياء وكبرياء ، فإنهم يعتذرون وعيونُهم على جيوبنا ، وأيديهم على قلوبهم من توقف صادراتهم إلينا .
لا يُصِبْنا الجبن أمام قطعة من الجبن .. لا تتجمدْ مشاعرُنا بسبب مكعب من الزبدة .
إن هذه المقاطعةَ إعلانٌ صادقٌ وصريحٌ عن محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
إن هذه المقاطعةَ ستؤدب الدولة المعتدية ، لتكون عبرةً لأي دولةٍ تفكر في المساس بمقدسات المسلمين .
إن هذه المقاطعةَ قد وحدت المسلمين وأعادت الثقة في نفوسهم ، وأرجعت لهم شيئا من كرامتهم التي أضاعوها ، وبينت مدى ثقلهم الاقتصادي في الساحة الدولية .
وإذا ما استمرت هذه المقاطعة المباركة فأبشروا بسقوط بقرة الدنمارك بإذن الله .
دَنِمَرْكُ يا بنتَ الصليب تجهّزي= فليخطبنّك قاصفُ الأعمارِ
دَنِمَرْكُ هل تستهزئين بأعظم ال= عظماء في بَلَهٍ وفي استهتارِ
أو ما علمتِ بأنه قاد الورى= للمجد للعلياء للإعمارِ
تفدي جنابَك ألفُ ألفُ دويلةٍ= حَكَمَتْ رُباها سُلطةُ الفجارِ
تفدي جنابَك ألفُ ألفُ عمامةٍ=مدسوسةٍ خوفاً من الأخطارِ
تفدي جنابَك كلُ نفسٍ حرةٍ= عافت حياةَ الشر والأشرارِ
تفدي جنابَك يا رسول الله= يا خير البرية أمةُ المليارِ
وههنا بعض التنبيهاتِ الهامةِ المتعلقةِ بالمقاطعة: أولاً:
لا بد من الاستمرارِ في المقاطعة ابتغاءَ وجه الله ، ونصرةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، مع عدمِ الملل من التذكيرِ وحثِّ الناس عليها .
علينا أن نتذكرَ الهدفَ الذي من أجله نقاطع وهو : الاعتذارُ الواضح الصريح عن هذه الجريمة ، ومحاكمةُ الفاعلين ومن تواطأ معهم ، وإيقاعُ العقوبة المناسبة بحقهم . فإذا تم ذلك فعلى أهل الشأن من العلماء وأهل الرأي تقديرُ المصالح والمفاسد من حيث إمضاءُ المقاطعة أو إلغاؤها .(51/10)
(ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) ، فلا بد من تحري العدل ، وعدمِ التسرع في الحكم على المنتج بأنه دنمركي وهو ليس كذلك ، كما وقع في بعض المنشورات ، وما شككنا فيه فالأصل فيه السلامة حتى يتبين أمره .
الحذرُ من استشعارِ النصر الزائف ، والانخداعِ ببعض الرسائلِ أو الأخبارِ غير الموثوقة ، كالقولِ بأن الرسامَ قد مات أو احترقت جثته ، أو أن القضيةَ انتهت بالاعتذار ، ولا داعي لكره الآخر ،كما تروج له بعضُ الأقلامِ والأبواقِ في صحفنا وفضائياتنا .
وحتى تكون المقاطعةُ مؤثرة ، فإنه ليس من المناسب الاستعجالُ في توسيع نطاقها لتشمل الدول الأوربية الأخرى التي أعادت صحفُها نشرَ الرسوم ، لا بد من التدرج في الإنكار ، لا سيما وأن تلك الصحف مع قبح فعلها إنما هي مجرد ناقل أو مشارك ، فلا تقارن بالدولة التي تولى إعلامها وحكومتها كِبْر هذه الجريمة .
نعم .. قامت عدد من الصحف الأوروبية بنشر الرسومِ المَهينةِ تضامناً مع الصحيفة الدانماركية ، فنقلت الرسوم إحدى الصحفِ الفرنسيةِ الفاشلةِ المهددةِ بالإفلاس ، وتم على الفور إقالةُ رئيسِ ومديرِ تحريرها ، وأصدرت الحكومة الفرنسية بياناً أكدت فيه على ضرورة احترام الأديان والعقائد .. كما نشرت الرسومَ صحيفةٌ ألمانية ، وأخرى
أسبانيةٌ ، وأخرى سويسرية .
سبحان الله .. ماذا يريد هؤلاء؟ أيريدون نصرةَ إخوانهم الكفرة ، وفكَ الخناق عنهم؟ أم يريدون أن يشتتوا أمرَ المسلمين ويذيبوا جهودهم ، كما أرادت قريش أن يتفرق دمُ محمد - صلى الله عليه وسلم - في القبائل؟ أم يريدون الشهرة بالتطاول على القمم الشماء وصفوة الأنبياء؟ أم أنهم يريدون مجرد نقل الخبر كما ذكر بعضهم؟.(51/11)
وأياً كان الحال فالواجب الإنكارُ على هذه الصحف ، وتحركُ المسلمين في تلك البلدان ، وليس على المسلم حرج أن يقاطعَ منتجات تلك الدول الكافرة ويستبدلَها بمنتوجات وطنية أو إسلامية بل هو الأولى، لكننا نؤكد على أن تكون المقاطعةُ المعلنةُ ضربةً مسددةً وموحدةً ضد الدنمارك فقط ، لتكون عبرة لغيرها .. ولعل ما تخبّيء لنا الأيامُ القادمة يكشف شيئاً عن أحوال الدول الأخرى ، نسأل الله أن يعين إخواننا المسلمين في تلك الدول على القيام بواجبهم ، ويعيننا على مؤازرتهم .
وختاماً ، إننا مع كرهِنا لهؤلاء الكفرة الفجرة ، ودعائِنا بأن ينتقم الله منهم ، علينا أن نحذر كلَّ الحذرِ من ردود الأفعال المتهورة التي لا تعود بالمصلحة على الإسلام وأهله .
وأقولها بكل صراحة: على ما يسمى بتنظيم القاعدة الذي يهدد الآن بالتفجيرات وإراقة الدماء أن يكف يده عن هذه القضية .. لا نريد أن ننجر وراء العواطف .. لا نريد هذه الأعمال التي تسيء للدين ، وتصد الناس عنه ، وتعطي أعداءنا المبرر الواضح للاستمرار في عدوانهم .
يا هؤلاء .. الجهاد له شروط وضوابط ، ووالله لو تحققت الأمة بشروط الجهاد لم يتردد العلماء الصادقون في الدعوة إليه، وإراقةِ الدماء في سبيل تأديب هؤلاء المتطاولين على جنابه الشريف - صلى الله عليه وسلم - ، ولنا في حاله - صلى الله عليه وسلم - في مكة أسوة حسنة .(51/12)
ومن ردود الأفعال الخاطئة أيضاً أن أحد الدكاترة في دولة خليجية أفتى بإهدار دم من رسم الكاريكاتيرات ، ودعا إلى قتله لكون قد سب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ونحن ندين الله تعالى أن من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد حل دمه وجاز قتله وإن كان معصوم الدم لأدلة كثيرة ، لكن قتل هذا المفسد لا يجوز متى ما ترتب عليه فتنة أو مفسدة على الإسلام وأهله ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبب تركه قتل المنافقين : لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه .. وقد ذكر أهل العلم أنه لا يلزم من كفر المعين واستحقاقه القتل أنه يجوز قتله في جميع الأحوال .
أحبتي في الله .. أعلم أني أطلت عليكم اليوم ، وعزائي هو خطورةُ الموضوع ، وشفيعي هو حبكمُ لهذا النبي الذي نتحدث عنه ، ونذب عن عرضه - صلى الله عليه وسلم - .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(51/13)
خطبة (الهجوم على سجن الرويس)
الحمد لله الولي الحميد .. أمر بالشكر ووعد بالمزيد .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يريد ويفعل ما يريد .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد العبيد .. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم المزيد .. أما بعد .
فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم .
عباد الله .. فتنة عمياء ، فتنت بها طائفة شاذة من شبابنا وأبنائنا .. تفجيراتٌ وإطلاقٌ للنار ، واستهانةٌ بالأرواح ، وإتلافٌ للممتلكات ، وترويعٌ للآمنين .. في أعمالٍ لا يشك العاقل أنها من ضروب البغي والفساد في الأرض .. يذكيها ويسوقها انحرافٌ فكري ، وفكرٌ تكفيري .
ولئن كانت هذه الفتنة قد خبت نارها مؤخراً برهة من الزمن ، فإن مجريات الأحداث تشير بأنها لا تزال موجودة .
ففي يوم السبت الماضي أعلنت وزارة الداخلية أنها ألقت القبض على 136 شخصاً، كان بعضهم يخطط لتنفيذ عمليات انتحارية وعمليات خطف وقتل .
وفي يوم أمس .. تابعنا بكل أسف ما وقع بالأمس في جدة .. حينما التجأ بعض المسلحين إلى أحد المباني في حي سكني مكتظ بالسكان ، ثم قاموا بإطلاق النار على الحراسات الأمنية لسجن الرويس ، مما أسفر عن مقتل اثنين من رجال الأمن رحمهما الله ، وإصابة غيرهم .
واستمرت المواجهات وإطلاق النار في الشوارع عدة ساعات ، حتى انتهت العملية بحمد الله بالقبض على بعض أفراد الفئة الضالة .
ومع هذه الجريمة ، هذه خمس وقفات:
(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) :
إنك لتحزن أشد الحزن، حينما ترى الحال الذي وصل إليه هؤلاء الشباب هداهم الله، وكفى الأمة شرهم .
عملية إجرامية وفاشلة بجميع المقاييس، لا الشريعة تبيحها ، ولا العقل ولا المنطق يؤيدها .(52/1)
والذي يبدو أنها نوع من الإحباط والفشل الذي وصلت إليه هذه الفئات المنحرفة عن جادة الحق ، وهم يظنون أنه بهذه الأعمال يحسنون صنعا , أو سيحققون نصراً .
وعلى فرض الفشل المتوقع، فإن هناك من يغسل أدمغتهم بأنكم وإن فشلتم وقُتلتم فأنتم من الشهداء ، لأنكم تقومون بعمل بطولي يهز كيان الدولة ، وأن التاريخ سيسجل محاولاتكم وتضحياتكم" .. وصدق الله : " أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ".
قال ابنُ كثيرٍ: " أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبّه " أَيْ عَلَى بَصِيرَة وَيَقِين فِي أَمْر اللَّه وَدِينه بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِي كِتَابه مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْم وَبِمَا جَبَلَهُ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الْفِطْرَة الْمُسْتَقِيمَة " كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوء عَمَله وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ " أَيْ لَيْسَ هَذَا كَهَذَا " .ا.هـ
وقال الإمامُ ابنُ القيمِ : وكلُ ظالمٍ وفاجرٍ وفاسقٍ لابد أن يريهُ اللهُ تعالى ظلمهُ وفجورهُ وفسقهُ قبيحاً ، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤيةُ قبحهِ من قلبهِ فربما رأهُ حسناً عقوبةً له . اهـ
سبحان الله .. هل يعتقدُ من في قلبهِ ذرة من الإيمان أن ما قام به هؤلاءِ من الفساد وقتلٍ للأبرياءِ هو من العملِ الحسنِ؟ ..كلا والله .. لكن عين الهوى عمياء .
(فكأنما قتل الناس جميعاً) :
عباد الله .. لقد عُنيت الشريعةُ بالنفسِ التي هي أحدُ الضروريات عنايةً عظيمة ، فلا يجوز بحال الاعتداء عليها بغير حق ، كما قال تعالى:(52/2)
{ ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ((( - - رضي الله عنه - - - - - (((- عليه السلام - - ( - ( { (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - - - - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - { ((- رضي الله عنه - الله أكبر (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - ( - (( ((( - - } - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - تمهيد - ( - - - رضي الله عنه - - - - { } - } - - - - - - جل جلاله -( - ( - - رضي الله عنهم - - } .
وقال تعالى: " وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ".
قال ابنُ كثيرٍ : " وَهَذَا تَهْدِيد شَدِيد وَوَعِيد أَكِيد لِمَنْ تَعَاطَى هَذَا الذَّنْب الْعَظِيم الَّذِي هُوَ مَقْرُون بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ فِي غَيْر مَا آيَة فِي كِتَاب اللَّه .ا.هـ.
أما الأحاديث فكثيرة جداً ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا "رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " رواه الترمذي وصححه الألباني.
فنقولُ لهؤلاءِ العابثين : كفوا أيديكم ، واتقوا اللهَ في أنفسكم وفي دماءِ إخوانكم المسلمين .
اللهم إنا نبرؤ إليك مما صنعوا :(52/3)
عباد الله .. أمام مفاسد هذه الأعمال ، فإن ذمة المسلم ، لا تبرأ إلا بالبراءة الصريحة الواضحة من هذه الأعمال المنكرة، وعمل المستطاع لإنكارها .
لا يجوز المجاملة ولا المداهنة .. لا تقل كما يقول بعض كتاب الانترنت: إن هؤلاء الشباب مجتهدون .. أو أن نيتهم طيبة .. أو أنهم تعرضوا لضغط الواقع .. وغير هذه الشبهات التي تثار في المنتديات .
إن مثل هذه الأعمال الخطيرة ، المتعلقة بالسياسة العامة للأمة، لا يجوز أن يجتهد فيها أفراد الناس دون الرجوع إلى العلماء الموثوقين، وإلا لأصبحت بلاد المسلمين فوضى ، فيأتي كل من هب ودب، ويتفرد برأيه، ويقول: إني مجتهد .
فإلى كل أخ متعاطف أو مجامل، أقول: اتق الله يا عبد الله .. لا تجامل أحداً على حساب دينك ، ولو كان أقرب الناس إليك .. ولا سيما في مثل هذه المسائل الخطيرة في الدماء .
وقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني جَذِيمة .. لما وصل خالد إليهم وأحاط بهم دعاهم إلى الإسلام فبدلاً من أن يقولوا : أسلمنا ، أخذوا يقولون : صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، فلما رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه أنكر ما فعله خالد ، ورفع يديه وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، مرتين".
ومع أنه شتان بين فعل خالد وفعل هؤلاء .. لكني أقول: إذا كان خير خلق الله - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ من صنع سيف الله المسلول ويرفع يديه ويكرر الكلام ، استنكاراً لهذا العمل, رغم وجود القرائن القوية بأنه قتلهم مجتهداً ، بناءً على ظاهر اللفظ, فكيف لا نتبرأ نحن ممن يقتل مسلما يشهد أن لا إله إلا الله لشبهة فاسدة , وحجة متهالكة؟
وإنك لتعجب ،كيف يتعدى هؤلاء هذا التعدي السافر على حرمة مسلم يشهد شهادة التوحيد , ثم يظنون أنه بقتله يحسنون بذلك صنعا , أو يحققون مكسبا؟ .
لا لتقديس الأشخاص والمناهج:(52/4)
إن من المزالق الفكرية التي ينتهجها بعض الناس: التقديس الشخصي .. أو التعصب الأعمى لمن يحبه من العلماء أو العاملين .
قد يعجب أحدهم بعالم أو طالب علم أو مجاهد ، فيجعل هذا الإنسان حجة الله على خلقه ، كأنما هو منزه عن الخطأ، ومبرء من الزلل . وهذا مزلق خطير في توحيد الاتباع ، كما قال سبحانه (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) .
ترى كثيراً من هؤلاء الشباب المتأثرين بهذا الفكر يتعلق برأي فلان أو الكاتب فلان في الانترنت ، ويترك وراء ظهره شبه إجماع العلماء والدعاة والمفكرين على فساد هذه الأعمال .
أقول لكل من يحمل أو يجامل هذا الفكر .. هل تشك في علم وصدق هؤلاء العلماء ، الشيخ عبدالعزيز بن باز , ومحمد بن عثيمين , وعبدالرحمن البراك , وعبد الله بن جبرين، وعبدالعزيز آل الشيخ ، وغيرهم داخل وخارج المملكة؟ .. هل تشك بأنهم لا ينصحون بصدق , ولايبينون ما يعتقدونه مخالفا للكتاب والسنة؟ .. هل أعمى الله كل هؤلاء العلماء عن الحق، واختص به بعض الأفراد أو طلاب العلم الذين ليسوا من العلماء؟.
وحتى أكون معكم صريحاً: لا يعرف لتنظيم القاعدة أو غيره ممن يتبنى التفجيرات عالم معتبر يفتي بجواز أفعالهم .
قال بعض المتعاطفين: إن تنظيم القاعدة له جهود في جهاد الكفار ، وإذلال أمريكا في أحداث سبتمبر.
قلت: أما جهوده القديمة في حرب الروس في أفغانستان، فتذكر وتشكر، لأنها من الجهاد في سبيل الله، الذي ندين الله بمشروعيته ونصرة وتأييد كل من قام به بقدر ما نستطيع .. يا أخي نحن نتقرب إلى الله تعالى بحب الجهاد والمجاهدين في كل مكان، لكن الجهاد في مواطنه وبضوابطه الشرعية .(52/5)
وأما أمريكا فأتفق معك على أنها عدوةُ الله ورسوله، وهي وراء أكثر مصائب المسلمين ودمائهم النازفة، ونسأل الله أن يرينا فيها يوماً أسوداً .. وأما أحداث سبتمبر، فإننا مع كرهنا لأمريكا نقول: إنه قد تبين الآن، ما كنا نقوله من أول ما وقعت هذه الأحداث، أن ضررها على المسلمين أكبر من نفعها .
يا أخي ، ليس لتنظيم القاعدة ولا لغيره من التنظيمات أن يزج بالمسلمين ومصالح المسلمين بمثل هذه المواجهة، ويملي عليهم سياساته الخاصة .
وأما ما قام به تنظيم القاعدة من تفجير وفساد، وأعمال شنيعة في بلادنا وبلاد المسلمين، فهي نتيجةٌ لانحرافٍ في فكر التنظيم ، وتخبطٍ في الاستراتيجيات ، وخللٍ في المنهج .. وهذه الأعمال المنكرة المحرمة بإجماع العلماء ، لا يمكن أن تسوغها بعض اجتهادات التنظيم السابقة .. رضي من رضي، وسخط من سخط .
إن على طالب الحق أن يتجرد في طلبه ، وأن ينظر في اختلاف الناس بعين الدليل ، متجرداً عن الهوى، مبتعداً عن العواطف والميول الشخصية .
قال ابن القيم : شيخ الإسلام ابن تيمية حبيبنا ، والحق أحب إلينا منه . اهـ
وأقول لأحبابي الشباب: العواطف عواصف ، ما لم تضبط بضوابط الشريعة والعقل .
إن العاطفة قد تدفع بعض الشباب المتحمسين إلى تخطئة وازدراء بعض العلماء، واتهامه بالعجز والخور والجبن ، لماذا؟ لأنه لم يصدر الفتاوى النارية .. ولو أفتى بما يهوون لرفعوه فوق رؤوسهم .
ونحن نسأل هؤلاء : هل كان عليه الصلاة والسلام جباناً أو عاجزاً عندما عقد صلح الحديبية وهو على الحق؟ وهل كان بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - خوّاراً عندما هم بإعطاء بعض الأحزاب ثلثي ثمار المدينة ليرجعوا عن أصحابه لما شَعُر بقوة العدو وعدم التكافؤ؟
إن البطولة لا تكون بالاندفاع والمواجهة في كل حال ، دون نظر أو علم شرعي .. بل البطولة حقاً أن تقف مع أمر الله دائماً سلماً وحرباً .(52/6)
نسأل الله تعالى أن يكشف الغمة ، ويصلح الأمة ، وأن يعز دينه ويعلي كلمته، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى ... الوقفة الخامسة والأخيرة .
(لا لخلط الأوراق) :
إن من الخطأ أن تستغل هذه الأحداث بطريقة تصفية الحسابات مع هذا الطرف أو ذاك, على نحو ما تصنعه بعض الجهات الإعلامية .
إننا مطالبون ببيان خطر الغلو في الدين ، و ضرورة حفظ امن المجتمع ، ومطالبون كذلك ببيان خطر بعض الكتاب في الصحافة والقنوات والإذاعات الذين لا يزالون منذ وقوع هذه الاحداث ينفثون سمومهم، ويبثون افتراءاتهم على الدين أوالعلماء أوالمتدينين ، وكأن الدين هو سبب هذه الأحداث.
اسمحوا لي ولو أطلت عليكم قليلاً اليوم .
والله إنني لأعجب ، بل لا أكتمكم سراً أني قد أضحك، وشر البلية ما يضحك ، وأنا أقرأ لأحد الكتاب المنحرفين فكرياً وأخلاقياً، وأنزه هذا المنبر عن ذكر اسمه، يذكر في مقاله قبل أمس أن هذه الحوادث العنيفة طبيعتها الدينية ، وأن سببها الكتب الشرعية والخطب، يقول بالنص: (كل هؤلاء الذين صاروا وقوداً لهذه الحوادث هم ضحية لغياب ثقافة الكتاب الحديثة، وسيطرة ثقافة الكتاب القديم، والثقافة الشفهية التي تقوم على مخاطبة العاطفة برنين الكلمات والصوت الجهوري الرنان) .
ثم يتهم هذا الضال لجان المناصحة التي نفع الله بها في السجون بأنهم مثل من يناصحونهم لكونهم ينتمون إلى مدرسة واحدة .. فيقول: ( في بعض الأحيان أشعر أن هؤلاء المناصحين هم في حاجة إلى من يناصحهم . هم المشكلة وليسوا الحل ) .. لماذا؟ يقول: ( كلا الطرفين يقرأ من الكتاب نفسه ويصدر عن المنطلقات نفسها ويتجه إلى الأهداف نفسها )؟ .(52/7)
هكذا بكل خبث وجرأة ، يتجرأ هذا السفيه على ثوابت الأمة ومنطلقاتها الدينية، بل ويطعن في المنهج الشرعي (القديم كما يزعم)، والذي قامت عليه هذه البلاد المباركة .. بدعوى أن أفراداً شذاذاً ينتمون إلى هذا المنهج قاموا بهذه الأعمال .
إننا نتساءل أمام هذا الكلام الخطير، أين الرقابة والمحاسبة لهذا الكاتب؟ أين رئيس التحرير هذه الصحيفة؟ .. بل أقول: أين وزارة الثقافة والإعلام؟ وهل يرضى معالي الوزير هداه الله بهذا الطعن الذي يتكرر مراراً من هذا الكاتب؟.
إن خلط الأوراق ، وتوسيع دوائر الاتهام يزيد الشعور بالعدوان والظلم ، وإن من يتمتع بحس شرعي أو على الأقل بحس وطني، لا يسوغ له أن يسهم في زيادة وقود الفتنة .
ألا فليعلم هؤلاء أن الكلمة أمانة , ورب كلمة تهوي بصاحبها في النار ، (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
عباد الله .. إنه على الرغم من الجهود الجبارة التي يقوم بها رجال الأمن وفقهم الله في التصدي لهذا الفكر الضال وأعمالِه الإفسادية، إلا أننا نقول: الأمن مسؤولية الجميع .. إن الإبلاغَ عن كل ما يَريب ، ومناصحةَ كل أخ أو قريب ، أمانةٌ في عنق كل مسلم .. وأنَّ الإنكار على كل فكرةٍ باطلة أو قولٍ منحرف ، هو من فروض الأعيان على كل قادر من طلبة العلم والدعاة والمربين .. نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين .
اللهم صل على محمد ...
اللهم ارحم أبطالنا رجال الأمن .. واكفنا شر هؤلاء المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .(52/8)
خطبة ( انهيار سوق الأسهم)
إن الحمد لله نحمده ... أما بعد .
عباد الله .. وعادت حمى الأسهم من جديد ، وكنت قد تحدثت عن هذه القضية قبل بضعة أسابيع ، وذكرت في ثنايا الخُطبة بعض الوقفات والأحكام والأخلاقيات المتعلقة بالموضوع .. وما هي إلا أيام معدودة حتى هوى السوق ، وبدأ المؤشر ينزل وينحدر ، وينزف ويحمرّ .. فأصيب الناس بالذهول في بداية الأمر ، ثم بدأ مسلسل الخسائر ، وحلَّت بصغار المساهمين خسائرُ فادحة، وجوائحُ فاجعة، فتراهم فيها صرعى ، يتجرعون غصص البلوى ، ويرفعون أكف الشكوى .. فهذا مهموم محزون ، وآخر مثقلٌ بالديون .. ارتفع ضغط الدم أو السكري عند بعضهم فأدخلوا المستشفيات ، وعظم المصاب بآخرون فأصبحوا في عداد الأموات .
وبسبب الانهيار السريع فقد بعض المغامرين جميع ما يملك ، وصفَّى آخرُ محفظتَه التي كان قد اقترض نصف رأس المال فيها من أحد البنوك ، فكانت الخسارة مضاعفة .
وأمام هذه المصيبة المالية والنقيصة الدنيوية ، نذكر أنفسنا وإخواننا بعدة قضايا ، علها أن تساهم في التعزية والتسلية للخاسرين من جهة ، وعلها من جهة أخرى أن تساهم في تصحيح المسار وضبط الإستثمار ، ولاسيما عند صغار المستثمرين .
أيها المبارك ، يامن خسرت في سوق الأسهم أو في غيره من أبواب التجارة ، اعلم أن الله ابتلاك في المنع كما ابتلاك في العطاء ، كما قال تعالى : ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)) ، وقال سبحانه : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )) .
إن هذه المصيبة مورد من موارد الصبر ، فهو فريضة الله عند نزول المصائب .. تذكر أخي أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان ، وتذكر قول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" أخرجه أبو داود بسند صحيح .(53/1)
إياك أن تتسخط على أقدار الله ، أو تقع في سب الدهور والأزمان ، أو تلطم وجها ، أو تشق جيبا، واحذر أن تفتح على نفسك باب الشيطان الكبير ، وهو كلمة "لو" ؛ لو أني ما فعلت ، لو أني ما ساهمت ، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان) كما عند الإمام مسلم .
إن المؤمن يصبر بإيمانه ، وطوعه واختياره ، ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم .
يقول عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر .
ويقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الصبر مطية لا تكبو .
يجرى القضاء وفيه الخير نافلةٌ *** لمؤمنٍ واثقٍ بالله لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ *** في الحالتين يقول الحمد لله
وإذا صبر المؤمن زاد إيمانه ،وتطلع إلى درجة الرضا ،وهي أعلى درجة من الصبر .
قال ابن القيم رحمه الله: الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين ، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ الله صدره غنىً وأمناً ، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، ومن فاته حظُّه من الرضا ، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه . اهـ
لا شك أن المال هو عصب الحياة وشقيق الروح ، وبقدر ما يتمنى المرء الحياة والبقاء فهو يتمنى المال ، كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يهرم ابن آدم وتشب معه اثنتان ، الحرصُ على المال ، والحرصُ على العمر)) متفق عليه .
وإذا كان لكل أمة فتنة ، فما هي فتنة هذه الأمة؟ يجيبنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ((إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال )) رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح .
نعم ، المال نفيس ومحبوب للنفوس ، ومع هذا ، فإن الخسارة في المال مهما كانت فلن تعادل خسارةَ الدين والأخلاق ، وخسارةَ الأنفس والأرواح .(53/2)
أخي الكريم ، المال كالريش ينبت ثم يزول ثم ينبت وهكذا .. وإن أموالَك كلَّها لا تساوي ليلةً واحدة تسهر فيها مع المرضى على الأسرة البيضاء .
أرأيت أخي ، لو أصيبت إحدى رجليك أو يديك بألم شديد وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد ، ثم قيل لك إن هناك علاجاً في أقاصي الدنيا ، وقيمتُه جميعُ ما تملك ، أتُراك تدفع هذا المال لصحتك ؟!
نعم ، لا يمكن أن يتردد عاقلٌ في ذلك .. أفلا تحمد الله أن عافاك في بدنك وأطرافك ، وأعطى كثيرا وأخذ قليلا ، ورزق وأنعم ، ووسَّع في الرزق ، فله الحمد على ما أعطى وله الحمد على ما منع .
لا تنظر أخي إلى النعم المفقودة ، وإنما انظر إلى النعم الموجودة واستمتع بها ، واشكر الله على أن أبقاك صحيحاً مسلماً ، واعلم أن الخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة ، كما قال سبحانه: (قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
إن في هذا المصيبة عبرةً وعظةً ، تستوجب الخروجَ من المظالم ، والتوبةَ من المآثم .
في زحمة انشغال الناس بالأسهم تُرِكت الصلاة عند بعض الفئات، أو أُخِّرت عن وقتها في الصالات وأمام الشاشات ، وتساهل الناس بالربا والمشتبهات ، ناهيك عن الكذب والتزوير والإشاعات والتوصيات المفتريات ... أليست كلها ذنوب وموبقات تستوجب التصحيح والمراجعة؟.
عباد الله .. إن المصيبة والعقوبة التي تزيل النعم وتحل النقم ، إذا حلّت ونزلت ، عمّت الجميع إلا من رحم ربك ، قال تعالى : ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) .(53/3)
في سوق الأسهم .. كم ماطل أقوام بحقوق غيرهم ؟ ، وتحايلوا على أموال الناس أو أسمائهم ، رغبة في الثراء السريع والتجارة العاجلة ، فمنعوا حقوقاً لأصحابها طمعاً في المال ، وربما كتموا عنهم مقدار الأرباح واستأثروا بها ، مستغلين جهلم بحقيقة الاكتتاب وحركة الأسهم .. وكم ولغ الناس في الأسهم المحرمة الربوية منها أوالمختلطة ، وتساهلوا في ذلك ولم يبالوا بأي تحذير أو توجيه ... أليس الربا شؤم وبلاء ، مؤذن بالحرب من رب الأرض والسماء؟ .. أليس الربا يمحق الخيرات والبركات؟ ألم يقل الله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) .
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يكتسب عبدٌ مالاً حراماً فينفقُ منه فيُبارَكُ فيه ، ولا يَتَصدق به فيُتَقَبَل منه ، ولا يترُكه خلف ظهره إلا كان زادَه إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" .
وكانت المرأة توصي زوجها عندما يخرج للعمل وطلب الرزق فتقول له "يا هذا اتق الله فينا : إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على النار" .
في هذه الحادثة دعوة إلى التعقل والتوازن وتنويع التجارة والاستثمار لئلا تتعطل مصالح المسلمين أو تذهب أموالهم هدراً وهباءً في يوم وليلة .
إن جمع الأموال في مجال واحد وموضع واحد إضافة إلى كونه عرضةً للزوال والخسارة في أي لحظة ، ففيه أيضاً تعطيل لمصالحَ وتجاراتٍ وصناعاتٍ أخرى .
وإنك والله لتعجب وتحزن لأناس صفَّوا أموالهم ، وباعوا منازلهم ، بل واقترضوا لمدد طويلة ، وجمعوا مدخراتهم ليركموها جميعا في سوق الأسهم ، فكان ماكان والله المستعان .. نسأل الله تعالى أن يبصرنا جميعاً بعيوبنا ، وأن يدلنا على خير الدنيا والآخرة ، إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية(53/4)
الحمد لله مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده عز وجل وأشكره ، وأثني عليه الخير وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد . عباد الله ..
ليس وقودُ انهيار الأسهم هم الأثرياءُ وحدهم ، بل اصطلى بنارها الضعفاء والنساء ، ودخلت فيها أموال المساكين واليتامى والأرامل والأيامى ، طلباً للرزق الحلال .. والإحصائيات تتحدث عن ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن قد دخلوا في سوق الأسهم .. مما يوجب على المسؤولينِ وفقهم الله وصنَّاعِ القرار أن ينظروا في هذه القضية ويحفظوا أموال المسلمين ولا يدعوها تنزف يومياً وتذوب كما يذوب الجليد ، وقد استبشر الناس خيراً بقرارات الدولة الجريئة التي اتخذتها مؤخراً ، والتي بدأ أثرها الإيجابي يظهر على السوق خلال اليومين المنصرمين .
إن مثل هذه المصائب والخسائر لا يجوز أن تنعكس آثارها على الأسرة والأولاد أو الزوجة بسبب الديون وحصول الخسارة ، لأن هذا أمر خارج عن قدرة الإنسان . أيها المبارك ، لقد قُضي الأمر ، فلا تضاعفْ خسارتك ، فتغضبُ لأتفه سبب ، ويتغيرُ مزاجك ، وتتبدلُ أخلاقك على والديك أوزوجتك أوأولادك .
وبهذه المناسبة أذكّر إخواننا الدائنين والمقرضين : أن يتقوا الله ويرحموا إخوانهم المعسرين ، وأن يُنظِرونهم أو يتجاوزوا عنهم ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" . أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - .
من دروس هذه الحادثة أن لا ينظر المسلم إلى الأسباب المادية وحدها ويعتمد عليها ، وينسى سؤالَ الله تعالى ، وطلبَ الرزق منه ، وتعليقَ الأمور بمشيئته تبارك وتعالى .(53/5)
أخيراً ، لنعلم جميعاً أن الله تعالى لا يقضي قضاءً للمؤمن إلا كان له فيه خير ، كما ثبت بذلك الخبر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، والله يعلم كم في هذه المحنة من منحة ، وفي هذه النقمة من نعمة ، من تطهير المؤمن من الذنوب ، وتقويةِ قلبه وتدريبِه على الصبر ، ونظرِه إلى قهر الربوبية وذل العبودية ، وخضوعِه لربه وانطراحه بين يديه ، فلولا هذه النوازل لم يُرَ الإنسان على باب الالتجاء والمسكنة .
قال سفيان بن عيينة: (وما يكره العبد خير له مما يحب ، لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء ، وما يحبه يلهيه) .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لاغتنام هذه الحياة بالباقيات الصالحات ، والتزود من البر والخيرات ، إنه جواد كريم .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(53/6)
خطبة ( بداية الإجازة الصيفية )
أما بعد .. كان الوالدان في ترقب وحذر، وتخوف وأمل .. ينتظران على أحر من الجمر ، ما تؤول إليه نتيجة الأبناء في الامتحانات ، وقد أُبرمت الوعود، وزفت البشائر، بالهدايا القيمة والرحلات الممتعة ، إذا كانت النتائج مرضية مشرفة.
وأعلنت النتائج ، وبدأت الإجازة الصيفية الطويلة ، تلك الإجازة التي ينتظرها ملايين الطلاب والطالبات من أبنائنا وبناتنا ؛ ليستريحوا من عناء السهر والمذاكرة ، والذهاب يومياً إلى المدارس والجامعات والمعاهد .
نعم .. لقد بدأت الإجازة ، والله أعلم بما قضى الله فيها من الأقدار والأخبار .. الله أعلم كم فيها من رحمة تنتظر السعداء !! وكم فيها من بلية ومصيبة تنتظر الأشقياء !! نسأل الله العظيم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين أن يجعل ما وهب لنا من زيادة العمر زيادة لنا في كل خير ، وأن يعصمنا فيها من كل بلاء وشر .
وإذا كنا نتحدث عن الإجازة فإننا نتحدث عن جزء من أعمارنا ، ورصيد من أوقاتنا .
إن الوقت هو الحياة .. من عمره فإنما يعمر حياته ، ومن قتلته فإنما يقتل نفسه .
ولأهمية الوقت ، فإن الله سبحانه وتعالى أقسم به في أوائل سور كثيرة .
{وَالْعَصْرِ} ، {وَالْفَجْرِ } ، {وَالضُّحَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، وغيرها من الآيات.
وقال سبحانه: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها ، وقطعت علائقها ، فانصب إلى العبادة ، وقم إليها نشيطا فارغ البال ، وأخلص لربك النية والرغبة.اهـ
أيها المؤمنون .. الوقت هو ثمرة العمر طيبة كانت أو خبيثة .. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله : ( السنة شجرة، والشهور فروعها، و الأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل ) .(54/1)
ولعلنا نتساءل: متى يعرف المفرط قدر الوقت وقيمة العمل؟
ذكر الله تعالى في القرآن العظيم موقفين يندم فيهما الإنسان على ضياع الوقت والحياة ، ويعلم أنه كان مغبوناً خاسراً في حياته .
الموقف الأول : ساعة الاحتضار .. حينما ينزل الموت بالعبد المفرط (فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) .. إنه يريد تأخير الأجل ولو قليلاً من الوقت (إلى أجل قريب) .. إنه يريد فرصة من الوقت ليتدارك حياته بالعمل الصالح .
الموقف الثاني : في يوم القيامة .. حين يقول المفرط في جنب الله حين يرى العذاب (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) .. (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) .
وإذا أردنا أيها الأحبة أن ندرك أهمية الوقت وخطورته فلنتأمل بعض خصائصه . فمن خصائص الوقت:
أن ما مضى منه لا يعود ولا يمكن تعويضه . كما قيل : الوقت كالسيف ، إن لم تقطعه قطعك .
يقول الحسن : ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني لأني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة .
سرعة مروره وانقضائه ، فالوقت يمر مر السحاب ولاسيما عند الصحيح المعافى من الأمراض والهموم ، كما قيل :
فقصارهن مع الهموم طويلةٌ وطوالهن مع السرور قصار
ومن العجيب ، ما جاء في السنة من أن الوقت يتقارب ويمضي سريعاً في آخر الزمان .
فعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار" رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع .
أنه محدود بأجل مسمى ، وهذا الأجل مجهول بالنسبة للإنسان ، فأنت لا تدري متى تنقطع أنفاسك ويحل أجلك ، (فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) .(54/2)
أنه أنفس ما يملكه الإنسان ، وليس كما قيل : الوقت من ذهب ، بل هو أغلى من الذهب لأنه لا يمكن تعويضه .
أنه على الرغم من نفاسته وأهميته فإن أكثر الناس مغبونون فيه ، يقول الناطق بالوحي - صلى الله عليه وسلم - : {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ} [رواه البخاري عن ابن عباس].
قال ابن بطال: (كثير من الناس) أي أن الذي يوفق لذلك قليل.اهـ
وإنما يعرف قدر هاتين النعمتين من حُرِمها .
هل تأملت أخي الشاب ذلك الشاب الذي تعرض لحادث سيارة فأصبح مشلولاً مقعداً طوال حياته لتعلم كم أنت مغبون في صحتك .. وهل تأملت آخرين ممن يعيشون خلف القضبان وبين الجدران في السجون لتعلم كم أنت مغبون في فراغك .
ومن العجيب أنك قد ترى بعض المرضى والمشلولين والمسجونين يستثمرون أوقاتهم بصورة صحيحة وجيدة ، أما الذين أصح الله أجسادهم ، وعافاهم من الأمراض والمشغلات المقلقة ، فإنهم يتسابقون في تضييع الأوقات وقتلها .
أن هذا الوقت هو محل الحساب يوم القيامة ، وكل إنسان محاسب على أوقات عمره كلها لأنها وعاء الأعمال والأقوال ، كما قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) .
وقد روى الترمذي وغيره بسند صحيح عن أبي برزة الأسلمي عن النبي قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيم فعل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه) . وفي رواية (وعن شبابه فيما أبلاه) كما في حديث ابن مسعود عند الترمذي ومعاذ عند البيهقي وغيره .
إذا عرفنا خصائص الوقت وشرفه وأهميته ، فإننا لا بد من استغلال الوقت بالأعمال النافعة في الدنيا والآخرة .
أيها الإخوة .. إنه لمن المؤسف أن نرى هذا الضياع الذي يعيشه الكثير من الناس في الإجازة .
بل إن كثيراً من المشاكل والسلوكيات السيئة بل والجرائم تزداد في أوقات الإجازة .(54/3)
في حوارات سريعة مع بعض طلاب المرحلة المتوسطة بالمنطقة الشرقية ، كانت النتائج تنم عن مأساة يقع فيها أولادنا في الإجازة . ما هو أبرز شيء عملته في الإجازة؟ هذا يقول:
في السهر مع الاصدقاء على الكورنيش الى الفجر .
الدوران على السيكل من الساعة 8 مساء الى 10 صباحاً.
في النوم ولعب السوني .
مع أصحابي الأكبر مني سناً بالدوران بالسيارة متنقلاً بين مدن المنطقة الشرقية .
الوناسة مع اصحابي وجلسات الغناء والرقص .
الذهاب لشاطيء نصف القمر والتفحيط والتطعيس .
وهكذا عند الفتيات .. ففي استبيان أجراه موقع (لها أون لاين) على مائة فتاة تراوحت أعمارهن بين 15 إلى 24 سنة في المراحل المتوسطة والثانوية والجامعيات حول وجود التخطيط لقضاء الإجازة تبين أن 60% من العينة ليس بذهنهن أي مخطط لقضاء الإجازة الصيفية بينما 40% لديهن مخطط يسعون إلى تنفيذه .
- وبسؤالهن عن كيفية قضاء الإجازة غلبت السلبيةُ على الإجابات.
50% من الإجابات قالت بأنه لا شيء محدد تنوي فعله أو تفكر فيه وهي تعيش أيام الإجازة يوماً بيوم .
30% قالت أنها ستسافر لتستمتع بالإجازة، ومنهن من قالت إنها ستقضي إجازتها في التسوق وأخرى في المناسبات والأفراح .
وبلغت نسبة من رغبن بالالتحاق بدورات علمية أو حاسب أو تعلم الطبخ أو مركز صيفي 10% من العينة فقط .
- أما بالنسبة للنوم في النهار والسهر في الليل أيام الإجازة.
أجابت 46% أنهن يسهرن الليل وينمن بالنهار .
46% قلن: إنهن ينمن بالليل ويجعلن النهار للاستمتاع والزيارات .
13% قلن: أحياناً نسهر الليل وأحياناً ننامه .
وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((إن الله يبغض كلَّ جَعْظَريٍ جَوَّاظ ، سَخَّابٍ في الأسواق ، جيفةٍ بالليل ، حمارٍ بالنهار ، عالمٍ بالدنيا جاهلٍ بالآخرة)) . رواه ابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة وفي سنده كلام ، فقد صححه الألباني في صحيح الجامع ثم رجع عن تصحيحه في السلسلة الضعيفة.(54/4)
والجَعْظَري هو الفظ الغليظ المتكبر . والجواظ هو الجموع المنوع .
وتأمل في آخر الحديث .. كم من شاب ينطبق عليه هذا الوصف: سخاب في الأسواق (من السَّخَب وهو الضجة ورفع الصوت) ، جيفة بالليل ، حمار بالنهار ، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة !!. نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا ويردنا إليه رداً جميلاً ، إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور .. والصلاة والسلام على البشير النذير ، والسراج المنير ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير .
عباد الله .. الإجازة ليست كما يظن بعض الناس مضيعةً للأوقات ، وليست فرصةً للمعاصي والمنكرات ، فما دمنا نأكلُ من رزق الله ، ونمشي على أرضه ، ونستظلُ بسمائه ، ونستنشقُ من هواءه ، فلا ينبغي لنا أن نعصيه طرفة عين .
ذكر ابن قدامة في كتاب التوابين عن يوسف بن الحسين قال: كنت مع " ذي النون المصري " على شاطئ غدير ، فنظرت إلى عقرب عظيمة على شط الغدير واقفة ، فإذا بضفدع قد خرجت من الغدير ، فركبتها العقرب فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت الغدير .
قال ذو النون : إن لهذه العقرب لشأناً، فامض بنا نتبعُها .
فجعلنا نتبع أثرها ، فإذا رجل نائم سكران ..!! وإذا حية سامة قد جاءت فصعدت من ناحية سرته إلى صدره وهي تطلب أذنه ، فتمكنت العقرب من الحية السامة فضربتها ، فانقلبت الحية وهربت!! ورجعت العقرب إلى الغدير ، فجاءت الضفدع فركبتها فعبرت .
فحرّك ذو النون الرجل النائم ففتح عينيه ، فقال : يا فتى ، انظر مما نجّاك الله !! هذه العقرب أرسلها الله إليك ، فقتلت هذه الحية التي أرادتك بسوء !! ثم أنشد ذو النون يقول:
يا غافلا ً والجليل يحرسهُ من كل سوء يدب في الظلمِ
كيف تنام العيون عن ملكٍ تأتيه منه فوائد النعمِ
فنهض الشاب وقال : " إلهي ومولاي : هذا فعلك بمن عصاك !! فكيف رفقك ورحمتك بمن يطيعك ..؟!! "(54/5)
ثم ولى ذاهبا ً ، فقلت : إلى أين ؟؟ فقال : إلى بيوت الله وإلى طاعة الله !! .
فالله الله أيها الأحبة في أن نشكر الله تعالى على نعمه العظيمة التي لا تحصى .. وأن نسخرها في ما يحبه ويرضاه .
وإذا أردنا أن تستفيد من الإجازة ، ونكون فيها من الفائزين ، فلا بد أن نحقق أمرين :
أن نستشعر قيمة الوقت، وأن له شأناً عند الله . وأن هذا الوقت هو رأس مالنا؛ فإن ضيعناه ضاعت حياتنا ، وإن حفظناه كنا من السابقين المفلحين .
لا بد من التخطيط والتنظيم والبعد عن الفوضى في استغلال الوقت .
بالتخطيط والتنظيم يمكن أن نحول الإجازة إلى فترة إيجابية في حياتنا نجني منها الأجر والفائدة وبناء النفس من جهة ، ونجد فيها المتعة والترويح عن النفس من جهة أخرى .
بإمكاننا أن نقوم نحن وأولادنا وأسرنا بمشاريع متنوعة خلال الإجازة ، وهذا ما سيأتي بيانه مفصلاً في خطب قادمة بإذن الله تعالى .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النعمة المهداة ، والرحمة المسداة ، محمد بن عبد الله ، فقد أمركم الله بذلك فقال : (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(54/6)
خطبة ( تدنيس القرآن في قوانتانامو )
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، والصلاة والسلام على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
أما بعد .. فقد تناقلت وسائل الإعلام تلك الجريمة البشعة .. والسلوك الحيواني الوضيع الذي أقدم عليه جنود الصليب في قاعدة جوانتانامو ، عندما قاموا بتدنيس كتاب الله تعالى وإلقائه في المراحيض .. هذا العمل الشنيع الذي تجاوز شناعته كل عبارة ووصف ، (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً).
هذه الحادثة التي تعكس بحق حالةَ الأمةِ المَهينة .. ومدى الذل والهوان التي وصلت إليه .. كما أنها تجسد بصدق نزعةَ الكراهية البغيضة ، والحقدَ الدفينَ المتأصلَ في جنود الصليب ، والذي تؤزه مواقف قادتهم المتطرفين ذوي التاريخ الأسود .
تأتي هذه الحادثة ضمن سلسلة الهجمة الشرسة التي تستهدف النيل من المقدسات والرموز الإسلامية ، بدءا بالتطاول على شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومرورا بتهديدات اليهود المتواصلة باقتحام المسجد الأقصى وهدمه لإقامة الهيكل المزعوم ، وإضافة لعمليات اقتحام المساجد وتدنيسها مراراً في العراق من قبل قوات الاحتلال والمتعاونين معها .
وسواء قيل بأن هذه الحادثة غيرُ صحيحة اختلقها الكتاب اليهود بالصحيفة ، أو روجت لها أجهزة الاستخبارات الأمريكية لمعرفة ردِّ فعل الشعوب المسلمة ، أو قيل بالاحتمال الثاني وهو الأقوى والأقرب للحقيقة أن الحادثة حقيقية ؛ فإننا نقول إن هذه الحادثة البشعة ليست الوحيدة ، وليست بجديدة من إخوة القردة والخنازير .. ألم يدنس جنود الصليب المساجد في العراق؟ ألم يدنسوا المصاحف ، ويرسموا عليها الصليب الأسود ؟
ألم نر صور مساجد الفلوجة في العراق ، وكيف دنسوا بأقدامهم النجسة المصاحف ، وقد ظهرت ممزقة تحت أرجلهم .(55/1)
ألم نشاهد العسكري الأمريكي وهو يقتل مسلماً أعزلَ ، نائماً على ظهره في مسجد من مساجد الفلوجة ، ثم يبرؤه القضاءُ بأنه كان في حالة دفاع عن النفس!
ألم يشهد العالم جرائمهم في معتقل أبو غريب ، بل إن ما يحدث في قاعدة جوانتانامو البعيدة عن عيون الصحافة والإعلام هو أشد فضاعة مما رآه العالم في سجون أبو غريب .
في قوانتانامو .. أهين الإنسان قبل القرآن .. وتعرض المسلمون لفضائح وانتهاكات للكرامة الإنسانية يندى لها الجبين .
في قوانتانامو .. المئات من المسلمين .. اختطفوا من كل مكان .. كل جريمتهم أنهم شاركوا في أعمال خيرية، أو دافعوا عن أرضيهم، أو عاشوا لبعض الوقت في الولايات المتحدة الأمريكية .. وبعد أن سامهم جنود الصليب سوء العذاب فشلوا في تقديمهم للمحاكمة رغم مرورِ أكثرِ من ثلاث سنوات ، حتى ذهبت جهود المحامين أدراج الرياح ، لأن السياسة عند هؤلاء الظلمة لا تعرف الإنسانية .
قبل يومين .. ذكر سمو نائب وزير الداخلية وفقه الله أن معظم السجناء السعوديين في قوانتانامو تعرضوا للظلم .
ومنظمات حقوقِ الإنسان في العالم، بما فيها منظمات أمريكية احتجت على ظروف اعتقال السجناء في جوانتانامو، وتحدثت تقاريرُ كثيرةٌ عن اعتقالاتٍ طويلة المدى لصبيان وشباب صغار دون تُهم ودون محاكمة، وكأنهم صاروا كبش فداء لغيرهم ، ناهيك عن الانتهاكاتِ والعدوانِ على السجناء ، وحرمانهم من أبسط الحقوق ، بينما يتم التعامل مع سجناء الدول الحليفة في الحرب بطريقة مختلفة تماماً عن بقية السجناء .
ثم لما لم يكفهم انتهاكُهم جميعَ شرائعِ السماء وقوانينِ الأرض ومواثيقِ البشر، تجرأوا على كلام رب البشر جل جلاله .. القرآن العظيم الذي هو أحب إلينا من أنفسنا وبلداننا وحكوماتنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين .(55/2)
إن هذا العمل الدنيء لهو دليل إضافي جديد على الاستخفاف بمليار إنسان يدينون بهذا القرآن ويؤمنون بأنه كلامُ الله تعالى ، أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وإمام المرسلين، كما يؤمنون بالكلمات التي أنزلها الله على موسى وعيسى وسائر الرسل (لا نفرق بين أحد من رسله) .
وإذا كان هؤلاء الفجرة يتبجحون بشعارات الحرية والمساواة والديمقراطية ، فليحاكموا مجرميهم الذين ارتكبوا هذه الجريمة وغيرها من الجرائم تحت ستار (الحرب على الإرهاب) ، ألا إنهم هم الإرهابيون ، ولكن لا يشعرون .
إن إهانة القرآن جريمة كبرى .. وقد أجمع العلماء على أن من أهان القرآن الكريم أو دنّسه فإن كان من المسلمين فهو مرتد يجب أن يقام عليه حد الردّة، وإن كان من الكفار فهو محارِب حلال الدم والمال ، ويُلحق بهذا الحكم كل مَن رضي بهذا الفعل أو فرح به أو أيده أو دافع عن فاعليه .
القرآن دستور حياتنا ، ومصدر عزتنا ، وتاريخ أسلافنا رضي الله عنهم ، الذين كانوا يتنادون بالقرآن في أحلك الظروف .
انظروا إلى الصحابة في غزوة اليمامة عندما تحصن مسيلمة الكذاب ومن معه بحصونهم ، واشتدت المعركة ، وكاد المسلمون ان ينهزموا ويفروا من أرض المعركه ، وتراجعوا وبدأوا بالتقهقر والتفكك .. عندها نادى أحد الصحابة : يا أهل القران ، يا أهل القران .
فتجمع الصحابة وحفظة القرآن وقاموا قومة رجل واحد على مسيلمة وأصحابه ، واستبسل أهل القران حق الاستبسال حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقاتل وأذنه تتدلى والدم يخر منها ، وهو يزئر ويجول بين الصفوف بسيفه حتى هُزِم أعداءُ الله شرَّ هزيمة .
ألسنا نحن منهم .. كيف نرضى أن يهان كلام الله الذي طالما عظمناه وعكفنا على قراءته وحفظه ، وجعلناه دستوراً لحياتنا وعنواننا لشرفنا .
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أوما لنا سعد ولا مقداد
عذراً يا أهل القرآن .. فنحن نشكوا إلى الله ضعفَنا وقلةَ حيلتنا وهوانَنا على الناس .(55/3)
ولكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصف حالنا حينما يقول في حديث ثوبان :"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم , وليقذفن في قلوبكم الوهن . قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت " رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني .
عذراً يا أهل القرآن .. فصحفنا وقنواتنا مشغولة بسهرات الحب والمجون وفيديو كليبات العهر والرذيلة . بل وحتى إعلانات صحفنا التجارية قد تلطخت بالصور الفاضحة والدعوة إلى الاشتراك في القنوات الفضائحية .
ثم نتساءل ونقول : لماذا تجرأ أعداؤنا علينا وعلى مقدساتنا؟
نعم .. لقد تجرأ علينا أعداؤنا لبعدنا عن حقيقة الإسلام , وإن بقيت لنا بعض مظاهره .
لقد بقي لبعض المسلمين أنهم ينطقون بأفواههم لا إله إلا الله محمد رسول الله . فهل يعون معناها أو يعرفون مقتضياتها ؟ وبقي لهم أنهم يؤدون بعض العبادات , فهل أدركوا المقصود بها , أو رعوها حق رعايتها ؟
كيف يؤدي بعض المسلمين الصلاة المفروضة في المسجد ثم يخرجوا ليكذبوا على الناس ويغشوهم ويخدعوهم , ويخلفوا وعودهم معهم , ولا يأمروا بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر , ولا يعملوا على وقاية أنفسهم وأهليهم من النار باجتناب ما حرم الله ؟
لقد هزم المسلمون في أحد وفيهم رسول الله ، حين عصوا أمره - صلى الله عليه وسلم - .
وهزموا يوم حنين وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أعجبتهم كثرتهم .. فكيف بالأمة اليوم وقد ظهرت فينا البدع والمعاصي (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) .
يا أهل القرآن .. يتساءل الكثير من الناس : ما الواجب علينا تجاه هذه الحادثة؟.(55/4)
ليس من الحكمة أن نكتفي بتهييج العواطف ، وإلهاب المشاعرِ المملوءة أصلاً بأنواع من الذل والقهر ، ثم نقول إنّا داعون على المجرمين فأمنوا .
ولا نقصد التقليل من شأن الدعاء .. لكننا نريد حلولاً عمليةً تقوم بها الأمة حكاماً ومحكومين بقدر الاستطاعة . ومن هذه الحلول ما يلي :
الواجب الأول على الحكومات والمنظمات الإسلامية أن تتخذ موقفاً حازماً تجاه هذا الحدث، والعلماء مطالبون كذلك ببيان الحكم الشرعي في هذه الحادثة واستنكارها .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ((وأنا لا يحزنني أن يموت رجل من الشيشان أو امرأة من الشيشان أو طفل من الشيشان لأنهم إن شاء الله شهداء ، لكن الذي يحزنني كثيرا والله سكوت الدول الإسلامية عن هذا ... وأعني بذلك رؤوس الدول الإسلامية ، دعنا من الشعوب ، الشعوب قد يكون عندها حماس وغيره لكن ما تستطيع))اهـ.
وإن مما يفرح كل غيور ، ما صدر من حكومة هذه البلاد وفقها الله من استنكار لهذه الجريمة ، والمطالبة بالتحقيق مع من قاموا بها ومعاقبتهم ، فجزى الله ولاة أمرنا كل خير ، وجزى الله علماءنا وعلى رأسهم سماحة المفتي على بياناتهم وكلماتهم في استنكار هذه الجريمة وبيان الواجب فيها .
فيما يتعلق بالشعوب المسلمة ، فإن الواجب عليها الاستنكار القولي والعملي بكل وسيلة مشروعة مع مراعاة المصالح والمفاسد المترتبة على ردود الأفعال .
يجب على كل مسلم إنكار هذه الأعمال بالقول و القلب وتمعر الوجه ، وكيف لا يغضب المسلم ويتمعر وجهه لهذه الحادثة ، وحرمات الله تنتهك ، وكتابه يدنس؟.. (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) .
التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله ، قال تعالى : (( أولما أصبتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير )) .(55/5)
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :"إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني .
يا أهل القرآن .. لا يكفي أن نرى العواطف تلتهب ، والدموع تسكب .. وبعد أيام ، يزول الحدث ، فينسى الناس ، ويبرد الحماس ، ويأتينا من الأحداث ما ينسينا الذي قبله ، ومن الفتن ما يرقق بعضه بعضه .
تدنس القدس منذ ستين سنة .. ويهان المسجد الأقصى على أيدي عصابة آثمة من الصهاينة الانذال .. وفي أجزاء من العالم الإسلامي تراق دماء المسلمين الأبرياء التي هي أشد عند الله من هدم الكعبة .. ومع هذا فقد ألفنا أوضاعنا ، وأصبحنا ظاهرة صوتية نجيد فنون الخطابة والكلام .. دون أفعال ننصر بها الإسلام .
يا أمة القرآن .. إن كان جنود الصليب قد دنسوا كتاب ربنا ، فنحن اتخذناه وراءنا ظهريا .. لقد نُحِّيَ القرآن عن الحكم في أكثر الدول الإسلامية ، واستُبدِلت القوانينُ الوضعية وزبالةُ عقول البشر بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وحُكِّمَت الجاهلية في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم .. (أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) .. (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) .
لقد هجرت الأمة القرآن .. ولم يعرفه بعض أبنائها إلا طرازاً لمقدمات الحفلات ، ونُواحاً يناح به على الأموات .
ووالله ، وبنص كلام رسول الله لا ينزع الله عنا هذا الذل حتى نرجع إلى ديننا وكتاب ربنا .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
يا أهل القرآن .. ومن الحلول العملية أمام هذه الحادثة :(55/6)
إحياء عقيدة الولاء والبراء، التي أصبحت مع كل أسف ضعيفة هزيلة في نفوس كثير من المسلمين في هذه العصور المتأخرة .
الولاء للمسلمين عامة، وبالأخص الأسرى الذين يقبعون في سجون الكفار في كل مكان ، والبراء من كل عدو للإسلام والمسلمين .
البراء من الذين قال الله تعالى فيهم : ( ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) ، وقال فيهم : (قد بدت البغضاء من أفواههم وماتخفي صدورهم أكبر ) وقال فيهم : (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) ، وقال فيهم : (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) ، وقال فيهم : (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) .
هذا كلام الله ، ولا عزاء للمتأمركين من العلمانيين والتغريبيين .. فهم وإن لبسوا لبوس الوطنية وادعوا الموضوعية ، فهم أبعد الناس عن أن يثأروا لدين الله ، ويقفوا من انتهاك حرماته موقف العزة والشرف..كيف وهم يهدمون دين الله بما يشيعونه من التغريب والتمييع لقضايا الأمة؟.
الدعاء الدعاء .. والانطراح بين يدي جبار السموات والأرض وسؤاله نصرة دينه وكتابه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فلا تنس أُخي أن تخص إخوانك وأمتك بدعواتك الصادقة .
وختاماً .. (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) .. فنحن والله لا نخاف على القرآن ، فإن الله تعالى قد تكفل بحفظه ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .. إنما نخاف على الأمة إذا هانت على عدوها ، وهجرت كتاب ربها .
إن ما رأيناه من احتجاجات واستنكارات عالمية يبيّن أن هذه الأمة لا تزال تعظّم هذا القرآن .. لكن الأهم من هذا أن نستثمر هذه الحادثة عملياً ، ونحولها إلى سبب يغيظ أعداء القرآن ، بالإقبال عليه ، قراءة ، وحفظاً ، وتدبراً ، وتعلماً ، وتعليماً لأبنائنا ، وعملاً بما فيه .(55/7)
(لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) .. فإن الدولة الطاغية متى ما تساقطت من قلوب الناس فإن هذا مؤذن بإذن الله بسقوطها من أرض الواقع ، وما ذلك على الله بعزيز .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المشهور : "الصارم المسلول على شاتم الرسول" ما مفاده : ((حدثني العدول من أهل الفقه والخبرة أنهم كانوا يحاربون بني الأصفر – يعني الروم- فتستعصي عليهم الحصون ويصعب عليهم فتحها ، حتى إذا وقع أهل الحصن في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استبشرنا خيرا بقرب فتح الحصن ، يقول فوالله لا يمر يوم أو يومان إلا وقد فتحنا الحصن عليهم بإذن الله جل وعلا)) ثم قال : ((كانوا يستبشرون خيرا بقرب الفتح إذا ما وقعوا في سب الله أو سب رسول الله مع امتلاء قلوبهم غيظا على ما قالوه )).
إننا نرجو الله أن تكون حادثةُ إهانةِ كتابِ الله وما سبقها من الاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرى لاستيقاظ الغافلين وانتشار الدين وانتصار المسلمين ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم .....
اللهم إنا نبرأ إليك مما صنع جنود الصليب في حق كتابك الكريم .. اللهم عليك بجنود الصليب وأئمتهم بما اقترفوه في حق كتابك وأوليائك ، اللهم سلط عليهم جندا من جندك ، وأرنا فيهم يوما أسودا .. اللهم عليك بمن قام بهذه الجريمة أو رضي بها أوعلم عنها فلم ينكرها .. اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا .
اللهم كن لإخواننا الأسرى المستضعفين .. اللهم أفرغ عليهم صبراً ، ونجهم من القوم الكافرين . اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ، اللهم أنزل عليهم السكينة ، وثبتهم على دينك ، ولا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين ....(55/8)
خطبة ( تسلط الرافضة على السنة )
أما بعد ..
كنا قد تحدثنا في الجمعة الماضية عن نهاية حاكم العراق السابق صدام حسين، غلا فيه بعض الناس فعدوه شهيداً، وغلا فيه آخرون فكفروه .
أما العلماء فقد اختلفوا فيه ما بين مترحمٍ عليه وغيرِ آسف عليه.. ولكلٍ من القولين ما يبرره .. وعلماء السنة متفقون على الأصول الشرعية في هذا الباب، إنما اختلف اجتهادهم في تحقيق المناط وتطبيق الحكم على الشخص المعين لاختلاف أنظارهم في أحواله .. مع اتفاقهم جميعاً على أن الرجل أمره إلى الله .
إذا علمنا هذا فإن من المؤسف حقاً، أقلامٌ كتبت، وأصواتٌ علت، تتطاول على العلماء الذين أفتوا بالرأي الآخر .
إن هذه المسألة الاجتهادية لا يجوز أن تكون سبباً في الطعن في العلماء وطلاب العلم، وسبباً للفرقة والاختلاف، أو شعاراً يفاضل به بين العلماء .. وإن توحيد الصف وائتلاف الكلمة وتوقير العلماء المجتهدين، أولى من الحكم على صدَّام، والموقف منه .
عباد الله .. ولا يزال مسلسل القتل والتهجير ، والإبادة والتدمير ، لإخواننا أهل السنة في العراق، على أيدي الطائفة الرافضية المجرمة، وبتأييد من القوات الأمريكية الصليبية المحتلة .
إننا عندما نتحدث عن الرافضة أو الشيعة، يظن الكثير من الناس أن الخلاف بيننا وبينهم خلاف فرعي، لكن الواقع أن خلافنا معهم في أصول الدين ومسلماته .
(ولتستبين سبيل المجرمين) أقول: ما هو مذهب الرافضة؟ وماذا يعتقدون؟ .
يقوم مذهب الرافضة على الإمامة ، وأنها محصورة في الإثني عشر من أئمتهم، بدءاً بعلي- رضي الله عنه- وانتهاءً بالإمام الغائب محمد بن الحسن العسكري الذي يرتقبون خروجه في كل عام، ويعتقدون أن الأئمة معصومون من الصغائر والكبائر أشد من عصمة الأنبياء، ويعتقدون أنه لا تقوم الساعة حتى يحيي الله آل البيت وأعداءهم- من الصحابة وغيرهم- ثم يقتص بعضهم من بعض ثم يموتون جميعاً .(56/1)
والرافضة مشركون في توحيد الربوبية، فإنهم يروون عن علي - رضي الله عنه - كذباً وزوراً أنه قال: أنا رب الأرض الذي تسكن الأرض به .. وفي أصول الكافي: "عن أبي عبد الله قال: أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى ما يشاء جائز له ذلك من الله ".. سبحان الله ، ماذا بقي لله تعالى مع هذا؟!
بل إنهم يعتقدون أن الأئمة مدبرون لأحداث الكون من المطر والرعد وغيره .. والله تعالى وحده هو الذي يرسل السحاب ويسوقها إلى ما يشاء من بلاده .
بل وصفوا الأئمة بأنهم يعلمون الغيب. وعقد لذلك صاحب الكافي باباً مستقلاً في أنَّ الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء. وروي عن أبي عبد الله أنه قال- افتراءً عليه قبحهم الله-: "إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان، وما يكون ".
وأما شركهم في توحيد الألوهية والعبادة فكثير، فمن ذلك أنهم حرفوا نصوص القرآن في الأمر بتوحيد الله والنهي عن الشرك به وجعلوا لها معاني باطنية ربطوها بالأئمة. فيفسرون التوحيد بالإيمان بالأئمة الاثنى عشر، والشرك: بالإقرار بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان أو غيرهم من الأئمة والخلفاء.
وإذا كان مدار قبول الأعمال عندنا هو التوحيد. فإن مدار قبول الأعمال عند الرافضة هو: الإقرار بولاية أهل البيت، فقالوا- فيما رووه عن أئمتهم-: "إن من أقر بولايتنا، ثم مات عليها، قبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجه، وإن من لم يقر بولايتنا لم يقبل الله شيئا ًمن أعماله ".
ومن مظاهر شركهم في الألوهية دعاؤهم الأمة من دون الله، وتظهر شركياتهم في التعلق بأضرحة الأئمة .. بل تمادى أئمتهم فصرحوا أن زيارة أضرحتهم والحج إليها أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام .
فقد جاء في الكافي - الذي هو كصحيح البخاري عندنا-: "إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة".(56/2)
أما تكفيرهم للصحابة وسبهم، وافتراؤهم عليهم بأنهم ارتدوا إلا عدداً قليلاً منهم فهو مشهور، بل لم تسلم منهم أعراض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، بما فيهن عائشة رضي الله عنها، فإنهم يسبونها ويرمونها بالفاحشة، بل والله يصفها رؤوسهم المعاصرون لعنهم الله بأشنع وأبشع الأوصاف .
الحاصل، دين محرف وعقائد باطلة .. وإنك والله لتعجب من الشبه الكبير بين الرافضة وبين اليهود، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شيئاً من أوجه الشبه ، وذلك أن اليهود قالوا: لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وقالت الرافضة : لا تصلح الامامة إلا في ولد علي .. وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال و ينزل السيف ، وقالت الرافضة : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء .. واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم ، وكذلك الرافضة ..
واليهود تستحل دم كل مسلم ، وكذلك الرافضة .. واليهود حرفوا التوارة ، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن .. واليهود لا يرون المسح على الخفين ، وكذلك الرافضة .. واليهود تبغض جبريل يقولون هو عدونا من الملائكة ، وكذلك الرافضة يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد بترك علي بن أي طالب .. واليهود رموا مريم الطاهرة بالفاحشة ، و الرافضة قذفوا بالبهتان زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المبرأة بصريح القرآن .. واليهود تخلفوا عن نصرة موسى و من تلاه من الأنبياء و الرسل و قد سجل الله لنا قولهم (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ، و الرافضة تخلفوا عن نصرة أئمتهم كما خذلوا علياً وحسيناً وزيداً و غيرهم رضي الله عنهم .(56/3)
عباد الله .. لقد أُثبتتُ السنوات الأخيرة خطر هؤلاء المجرمون، بما فعلُوهُ في أفغانستان، وما يفعلُونَهُ اليومَ في العراق، حيثُ ذكرَ أحدُ المُراسِلينَ أنَّهُ لا يُصدِقُ ما يراهُ من جُموعِ الشيعةِ من فرحٍ ورقصٍ هستيري، وترحيبٍ بالقواتِ الأمريكيةِ، وصرَّحَ أنَّ الحالَ مختَلفٌ تماماً بالنسبةِ للأحياءِ السُنِيَّة، التي بدا الحُزنُ فيها عميقاً على الوجُوهِ .
إنهم يكفّرون الأمة، ويقتلون كل من تسمى باسم عمر ، وينتهكون حرمة بيوت الله، فيقتلون ويختطفون وينتهكون الأعراض في العراق، بلاد فتح الفتوح، وأرض الرافدين، التي روى ترابها الطيب الصحابة الفاتحون،الكرام المجاهدون.
لقد أثبتت الأحداث أن هؤلاء القوم تغلي قلوبهم بالحقد على أهل السنة، الذين يصفونهم بالناصبية والوهابية، ومراجعهم ورؤس ضلالتهم، يفتونهم بقتل السنة، وأنه قربة إلى الله .. وكنت بالأمس استمع إلى تسجيل صوتي لمرجعهم الشيرازي ، وفتوى أخرى منقولة عن محمد الصدر أنه يجب قتل السني ، وأن الوهابي نجس ، بل هو أنجس من الكلب .
وليس هذا بجديد ولا بغريب على هؤلاء، فالتاريخ أعظم شاهد على جرئمهم وخطرهم على المسلمين، وتواطئهم مع كل عدو من أعداء الإسلام غربيا كان أو شرقيا .. اقرءوا إن شئتم عن دورهم الخياني في إسقاط الخلافة العباسية التي سقطت بسقوط بغداد في أيدي التتار وبخيانة رافضية كبيرة، وكيف قتل فيها مليونا شخص من المسلمين من الرجال والشيوخ والنساء والولدان .. واقرؤوا إن شئتم عن دورهم في إضعاف الدولة العثمانية التي كانت تقاتل الصليبين في أوروبا وكانوا هم متمثلين بالدولة الصفوية يطعنونها من الخلف ،بل إن الصفويين تحالفوا مع البرتغاليين في سبيل الاستيلاء على الإحساء وان يستولي البرتغاليون على الحجاز بما فيها مكة والمدينة ولكن الله رد كيدهم في نحورهم .(56/4)
وفي هذه الأيام، يقول الناطق الرسمي باسم هيئة علماء المسلمين في العراق محمد الفيضي: إن ميليشيات جيش المهدي التابع للتيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر ستنفذ مخططا سمي باسم "يوم تحرير بغداد" بمساندة قوات مغاوير الشرطة التي هي في الأصل من ميليشيا بدر.
وأوضح الفيضي أن هناك أكثر من 30 اسما للميليشيات التي تعمل بشكل تخريبي في العراق، وفي مقدمتها ميليشيات جيش المهدي وميليشيا بدر، وتبرز ميليشيا جيش المهدي على المستوى الشعبي حيث تستهدف الأبرياء في الشوارع بشكل طائفي ومعلن فكل من اسمه عمر وكل من كان من الفلوجة أو من عشيرة سنية مستهدف .. أما ميليشيا بدر فتستهدف النخبة وكبار القوم .
وقد نقلت جريدة الوطن السعودية في عدد الاثنين الماضي كلاماً خطيراً عن عضو البرلمان العراقي محمد الدايني أن إيران بدأت قبل فترة قصيرة جداً بتشكيل فيلق عسكري قوامه 10 آلاف مقاتل أطلقت عليه اسم "فيلق مكة" وأنشأت له معسكرات في السماوة وصحراء النخيب بالقرب من الحدود السعودية العراقية بهدف نقل الفوضى عبر الحدود .
وأضاف أن هناك الآلاف من حرس الثورة الإيراني يعملون الآن في مدينة بغداد فقط ويقومون يومياً بقتل وإبادة الشعب العراقي معظمهم من العرب السنة .
كما أضاف أيضاً أن هناك أكثر من 93 ألف عراقي يقبعون في سجون المنطقة الخضراء تحت إشراف قوات الاحتلال الأمريكي .
ووصف الدايني الاحتلال الإيراني بأنه أشد خطرا من الاحتلال الأمريكي .
ونشرت الصحيفة أيضاً بياناتٍ ووثائقَ مختومة، منسوبةً إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، تكشف عن أجندة واسعة لتصفيات المعارضين وبث الفتن والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط ضد السنة، وتعميم تجربة العراق على الدول السنية في المنطقة ومن ضمنها السعودية .(56/5)
تلك هي أعمالهم وجرائمهم، والله من فوقهم ومن ورائهم، محيط بهم، لا يخفى عليه شيء من مكرهم ، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) .. نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يضرب الظالمين بالظالمين، ويخرج إخواننا من بينهم سالمين .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد .. البر الصمد ..
أيها المسلمون: إن ما يجري اليوم لأهل السنة في العراق على أيد الرافضة الحاقدين، مما يندى له الجبين ، ويجل عنه الوصف، يتطلب الوقوف معهم بكل ما نستطيع .. وبذل كل ما يستطاع لرفع المحنة عنهم، أو تخفيفها، بمواساتهم بالمال لسد حاجاتهم وتنفيس كرباتهم، وكفالة أيتامهم وأراملهم، وعلاج مرضاهم .
ومن النصرة لإخواننا، بذل النصح لهم، وحث المسلمين في الخطب والمحاضرات والمناسبات على الاهتمام بشأنهم .
ومن النصرة التي لا يستهان بها، الدعاء لهم بالنصر والتمكين، وكشف الكربة ؛ فإن الدعاء من أعظم أسباب النصر وكشف الشدائد، قال تعالى: ((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) .. وقال تعالى في أهل بدر : ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ)) .
نسأل الله تعالى أن ينصر أهل السنة في العراق ، ويسدد رميهم ، ويحقن دماءهم .. كما نسأله أن يهدي من الرافضة من في هدايته صلاح للإسلام والمسلمين ، وأن يهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين .(56/6)
وأخيراً ، لابُدَّ أن نُوقنَ عباد الله أنَّ ما يحدثُ هُو بإرادةِ اللهِ وقضائه، وأنَّهُ وحدهُ هُو المتصرفُ في هذا الكونِ (ألا لهُ الخلقُ والأمر) ، فلنثق بربنا وتوكل عليه، مستمسكين بدينه، واثقين بنصره، بعيداً عن أسطورةِ أنَّ النصرَ محققٌ لأمريكا أو لغيرِها، فكم من دولةٍ غرتها قوتها، وظنوا أنها مانعتهم من الله (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب) .. وكم من دولةٍ مكن الله لها، وأملى لها وهي ظالمة، ثم قيض لها يداً من الحق حاصدة، فانتهت إلى مزبلة التاريخ .. (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة، ثم أخذتها وإلي المصير).
إنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ ، ولكن ، لمن ينصرُ دينَه،(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
وإننا مع ما في هذهِ الأحداثِ من مرارةٍ وأسى ، نرجو الله أن يجعل فيها خيراً كثيراً، وأن يجعلها من بشائرِ النصرِ بولادةٍ جديدةٍ لهذه الأمة، ولادة تعود فيها الأمة إلى ربها، وتتمسك بدينها، وتُرفعُ فيها راياتُ الجهادِ، وتُقمع فيها رايات الشرك والفساد .
اللهم صل على محمد ...(56/7)
خطبة ( تسلية ضحايا الأسهم والتجارات )
أما بعد ..
انخفض المؤشر.. وظهر اللون الأحمر على الشاشات، فسقط الآلاف من الناس، وانهار العديد من البيوت، واكتظت المستشفيات بالحالات والإصابات، وامتلأت المحاكم بالقضايا والنزاعات .
فقد بعض المغامرين جميع ما يملك ، وصفَّى آخرُ محفظتَه التي اقترض نصف سيولتها من أحد البنوك، فكانت الخسارة مضاعفة .
وبدأ الناس يتساءلون ويتلهفون .. أين أموالنا؟ من المتسبب؟ ماذا نعمل؟ .. وتحسر آخرون وضاقت بهم السبل: ليتنا ما دخلنا .. ليتنا تخلصنا من الأسهم قبل الانهيار .. ليت وليت ، حتى انهار الكثير منهم وأصيبوا بأمراض نفسية .
ووفقاً لمصادرَ طبيةٍ مسؤولة، ارتفع عدد مراجعي العيادات النفسية بسبب الأسهم، حتى فاقت الأعدادُ طاقةَ تلك العيادات .. وسجلت إحصائيات وزارة الصحة زيادة ملحوظة في حالات الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى بين المواطنين بمعدل سبعة وثلاثين ألف حالة خلال تسعة أشهر في مختلف مناطق السعودية، وأن سرعة الاستثارة والعصبية أثرت سلباً على استقرار أسرهم .
ما الذي يمكن أن نقوله في هذه الخطبة لنسلي أنفسنا وإخواننا من ضحايا الأسهم أو غيرها من التجارات؟.
هذا ما سنحاول بيانه في الوقفات التالية:
هل رؤيتنا للمال وطلبِه واللَهَفِ عليه، رؤيةٌ صحيحة؟:
عباد الله .. لا شك أن طلب المال ليس بمذموم؛ فهو يُعِفُّ صاحبه ويغنيه عن سؤال الناس .. ونعم المال الصالح للرجل الصالح .
إنما المذموم في المال أمرين ، أولَهما: أن يكون المال حراماً ، وثانيَهما: أن يكون المال أكبر هم الإنسان ، وشغله الشاغل، فيطغيه أو يلهيه .. لماذا يطغيه؟ (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) .. ولماذا يلهيه؟ (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) .. وتعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم .
الخيرة فيما اختاره الله:
هل تعلم أن خسارتك للمال قد تكون خيراً لك من الربح؟(57/1)
نعم، المال خير ونعمة .. ولكن قد يكون في حق بعض الناس نقمة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
ولذلك قال تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) .. لماذا هذا فقير وهذا غني؟ وهذا يربح وهذا يخسر؟ ذلك بحكمة الله التي لا يعلمها العبد .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ((ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين كما تكون الصحة لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره:( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك..)) اهـ وهذا الحديث في إسناده ضعف ، ومعناه صحيح .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يُيَسّر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل العبد يتطيّر، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل .
رفعت الأقلام وجفت الصحف:
إلى كل أخ كريم، ابتلاه الله بالخسارة في سوق الأسهم أو في غيره من أبواب التجارة ، اعلم يا أخي أن الله يبتليك، ليعرف إيمانك وصبرك، ويعظم ثوابك وأجرك ، كما قال تعالى : ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)) ، وقال سبحانه : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )) .
تذكر أخي أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان، "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" .(57/2)
دعك من البنوك التي يقال أنها تسيل المحافظ الاستثمارية ، ودعك من الهوامير الذين يقال أنهم يتلاعبون في السوق .. كل ما تراه هو أسباب ، وإنما المسبب هو الله، ووالله لو اجتمع كل من في الأرض لم ينفعوك بربح أو يضروك بخسارة إلا ما كتبه الله لك .
وكل شيء بقضاء وقدر *** والكل في أم الكتاب مستطر
إياك أن تتسخط على أقدار الله ، أو تقع في سب الدهر أوالزمن ، أو تلطم وجهك ، أو تشق جيبك .. لن يعيد الجزع أموالك، فاصبر واحتسب فهو أولى لك .
قال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر .. وهذا هو شأن المؤمن .
يجرى القضاء وفيه الخير نافلةٌ *** لمؤمنٍ واثقٍ بالله لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ *** في الحالتين يقول الحمد لله
وإذا صبر المؤمن زاد إيمانه ،وترقى إلى مرتبة الرضا ،وهي أعلى من الصبر .
قال ابن القيم رحمه الله: الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين ، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ الله صدره غنىً وأمناً ، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، ومن فاته حظُّه من الرضا ، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه . اهـ
فالحمد لله .. الحمد لله على كل حال .
الخسارة ليست بالمال:
المال نفيس، ومحبوب للنفوس ، ومع هذا ، فإن الخسارة في المال مهما كانت، لا تعادل خسارةَ الدين والأخلاق ، وخسارةَ الأنفس والأرواح .
يقول أحد علماء السلف : " ما أصابتني مصيبة إلا حمدت الله عليها لأربع : أن لم يجعلها في ديني ، وأن رزقني الصبر عليها ، وأن لم يجعلها أكبر منها ، وأن رزقني الاسترجاع عندها " .
أخي الكريم .. لا تنظر أخي إلى النعم المفقودة ، وإنما انظر إلى النعم الموجودة واستمتع بها ، واشكر الله على أن أبقاك صحيحاً مسلماً .
وإن أموالَك كلَّها لا تساوي ليلةً واحدة تسهر فيها مع المرضى على الأسرة البيضاء .(57/3)
أرأيت أخي ، لو أصيبت إحدى رجليك أو يديك بألم شديد وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد ، ثم قيل لك إن هناك علاجاً في أقاصي الدنيا ، وقيمتُه جميعُ ما تملك ، أتُراك تدفع هذا المال لصحتك؟!
نعم ، لا يمكن أن يتردد عاقلٌ في ذلك .. أفلا تحمد الله أن عافاك في بدنك وأطرافك ، وأعطى كثيرا وأخذ قليلا ، ورزق وأنعم ، ووسَّع في الرزق ، فله الحمد على ما أعطى وله الحمد على ما منع .
تأمل معي هذا الموقف العظيم في قصة عروةَ بنِ الزبير رحمه الله، أحدِ علماء وعباد التابعين ، فقد طلب منه الخليفة الوليد بن عبد الملك زيارته في دمشق مقرِ الخلافة الأموية , فأخذ عروة معه أحب أبنائه السبعةِ إليه، فلما كان في الطريق إلى الشام, أصيب في الطريق بمرض الآكلة في رجله (وهي ما يسمى في عصرنا الغرغرينا) ، حتى قرر الأطباء بتر رجله من الساق .. فلما اجتمع الأطباء عليه، قالوا: اشرب كأساً من الخمر حتى تفقد شعورك، فأبى عروة وقال : كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟ قالوا: فكيف نفعل بك إذاً؟ قال : دعوني أصلي فإذا أنا قمت للصلاة فشأنكم وما تريدون .. فقام يصلي، فلما سجد، كشفوا عن ساقه وأعملوا مشارطهم في اللحم حتى وصلوا العظم، ثم أخذوا المنشار فنشروا العظم حتى بتروا ساقه وفصلوها عن جسده، وهو ساجد لا يحرك ساكناً, ثم أحضروا الزيت المغلي وسكبوه على ساقه ليوقف نزيف الدم , فلم يحتمل حرارة الزيت فأغمي عليه .
وفي هذه الأثناء، أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة كان يتفرج على خيول الخليفة , فرفسه أحد الخيول فقضى عليه ومات .(57/4)
فلما أفاق عروة اقترب إليه الخليفة وقال: أحسن الله عزاءك في رجلك . فقال عروة: اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون . قال الخليفة: وأحسن الله عزاءك في ابنك . فقال عروة: اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون , أعطاني سبعة وأخذ واحداً , وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً , إن ابتلى فطالما عافا , وإن أخذ فطالما أعطى , وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة .. ثم قدّموا له طَستاً فيه ساقهُ وقدمهُ المبتورة، فأخذ يقلبها ويقول: إنّ الله يعلم، أني ما مشيت بك إلى معصيةٍ قط، وأنا أعلم .
ومضت الأيام، وكان الخليفة الوليد يجلس في مجلسه , فدخل عليه شيخ طاعن في السن، مهشّم الوجه، أعمى البصر, فسأله عن قصته، فقال الشيخ : إني بِتُّ ذات ليلةٍ في وادٍ , وليس في ذلك الوادي أغنى مني، ولا أكثرَ مني مالاً وحلالاً وعيالاً ، فأتانا السيل بالليل، فأخذ عيالي ومالي وحلالي , وطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا طفلاً صغيراً وبعيراً واحداً , فهرب البعير فأردت اللحاق به , فلم أبتعد كثيراً حتى سمعت خلفي صراخ الطفل، فالتفتُّ فإذا برأس الطفل في فم الذئب، فانطلقت لإنقاذه فلم أقدر على ذلك، فقد مزقه الذئب بأنيابه , فعدت لألحق بالبعير فضربني بخفه على وجهي , فهَشَم وجهي وأعمى بصري، فأصبحت لا مال لي ولا أهل، ولا ولد ولا بصر .. قال: وما تقول يا شيخ بعد هذا ؟ فقال الشيخ: أقول: الحمد لله الذي ترك لي قلباً عامراً، ولساناً ذاكراً .
فقال الوليد لما سمع قصته: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً .
أخي الكريم .. لو انك أصبت بمثل ما أصيب به هذا الأعمى، لا قدر الله، كيف يكون حالك؟
إذن، لا تحزن، وقل الحمد لله، الحمد لله .
اللهم اجعلنا عند البلاء من الصابرين .. وعند النعماء من الشاكرين ، اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضا ، وبرد العيش بعد الموت ، إنك جواد كريم .
... ... الخطبة الثانية(57/5)
الحمد لله وكفى ... والصلاة والسلام على عبده المصطفى..
(لعلهم يرجعون) :
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) .
إن في نزول المصيبة عبرةً وعظةً ، تستوجب الخروجَ من المظالم ، والتوبةَ من المآثم .. لنكن صرحاء مع بعضنا أيها الأحبة .
في زحمة انشغال الناس بالأسهم تُرِكت الصلاة أو أُخِّرت عن وقتها في الصالات وأمام الشاشات ، وتساهل الناس بالربا والمشتبهات ، ناهيك عن الكذب والتزوير والإشاعات .. أليست هذه كلها من كبائر الذنوب التي تستوجب التوبة والإنابة؟.
سبحان الله .. أليس الربا شؤمٌ وبلاء؟ مؤذن بالحرب من رب الأرض والسماء؟ .. أليس الربا يمحق الخيرات والبركات؟ (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) .
وإذا انتقلت إلى المساهمات الأخرى في العقار أو السلع أو التجارات الداخلية أو الدولية، وجدت في بعضها الكذب والتلاعب، والغش والتدليس، وإعطاء المواعيد الموهومة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما .
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يكتسب عبدٌ مالاً حراماً فينفقُ منه فيُبارَكُ فيه ، ولا يَتَصدق به فيُتَقَبَل منه ، ولا يترُكه خلف ظهره إلا كان زادَه إلى النار ، إن الله لا يمحو السيءَ بالسيء، ولكن يمحو السيءَ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" .
لا توسع دائرة الخسارة:
إن هذه المصائب والخسائر المالية لا يجوز أن تنعكس آثارها على الأسرة والأولاد أو الزوجة .
فترى بعض الناس هداه الله يتغير مزاجه، فيغضب لأتفه سبب ، وتتبدل أخلاقك على والديه أوزوجته أو أولاده .
أيها المبارك ، لقد قُضي الأمر، فلا تضاعفْ خسارتك ، بالإساءة لمن حولك .(57/6)
أذكّر إخواننا الدائنين والمقرضين : أن يرحموا إخوانهم المعسرين ، وأن يُنظِرونهم، أو يتجاوزوا عنهم ، ليتجاوز الله عنهم، وليستبشروا ببشارة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" . أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - .
وثبت عند الأمام أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلُه صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة" .
وفي الختام .. عليكم عباد الله بالرضا والصبر، واحتساب الأجر .. والمؤمن على خير في كل حال .. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له .
(وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون).
اللهم صل على محمد ...(57/7)
خطبة ( تعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال)
أما بعد ، زينة الحياة الدنيا وعدّة الزمان بعد الله هُم شباب الإسلام والناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شابًا نشأ في طاعة الله)).
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها.
لهذا كانت مرحلة الطفولة من أخطر المراحل، ولقد كان السلف الصالح يعنون بأبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يعلّمونهم وينشّئونهم على الخير، ويبعدونهم عن الشرّ، ويختارون لهم المعلمين الصالحين والمربين والحكماء والأتقياء.
وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة في هذا الباب، فقد راعى الأطفال واهتم بأمرهم. فلم يكن يتضجر ولا يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم.
وإليكم ـ يا عباد الله ـ نماذج من معاملته - صلى الله عليه وسلم - للأطفال :
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، يقول أبو هريرة: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما: ((الحقا بأمكما))، فمكث ضوؤها حتى دخلا.(58/1)
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله مع أبي وأنا صغيرة، وعلي قميص أصفر، فقال رسول الله : ((سنه سنه))، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله : ((أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي))، فعمرت أم خالد بعد ذلك. رواه البخاري.
ولما جاءت أم قيس بنت محصن إلى رسول الله بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطعام، فحمله رسول الله فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله. وتقول أم الفضل رضي الله عنها: بال الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر النبي ، فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال: ((إنما ينضج من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى)) رواه الثلاثة.
عباد الله، لقد كان يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم ويضاحكهم. روى الإمام أحمد وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسين بن علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفرّ ها هنا ويفرّ ها هنا، ورسول الله يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: ((حسين مني وأنا من حسين)).
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله ، ورسول الله يقول: ((ارقه ارقه))، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله ، ثم قال رسول الله : ((افتح فاك))، ثم قبله، ثم قال: ((اللهم أحبه فإني أحبّه)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في معجمه.(58/2)
وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله فرآه يقبّل الحسن بن علي، فقال الأقرع: أتقبّلون صبيانكم؟! فقال رسول الله: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله : ((من لا يرحم لا يرحم)) متفق عليه.
أيها الناس، لقد بلغ من عناية الرسول بأطفاله أن ألقى لهم باله حتى أثناء تأديته للعبادة، يقول أبو قتادة: كان رسول الله يصلي وهو حامل أمامة بنت بنته زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وكان إذا سمع بكاء الصبي وهو في صلاته تجوّز فيها مخالفة الشفقة من أمه. متفق عليهما.
وكان رسول الله يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما))، ثم أكمل خطبته. رواه أهل السنن.
عباد الله، هذا رسول الله ، وهذه معاملته لأطفاله، أترونه يهمل تعليمهم؟! روى البخاري ومسلم أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال له الرسول : ((كخ كخ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟!)). وروى البخاري أن النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)).
ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم وما استرعاكم ، فإنه سائل كل راع عن رعيته . والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .....(58/3)
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرّة عين في الدنيا والآخرة، وإما حسرة وندم ونكد. وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال وتنشئتهم تنشئة صالحة.
عباد الله، الأطفال هم حياة البيوت، بيت لا أطفال فيه بيت فيه نقص. إنهم ـ أيها الإخوة ـ يملؤون البيت إزعاجًا ولكنهم يملؤونه فرحًا وسرورًا، يملؤونه فوضى ولكنهم يملؤونه ضحكًا وابتهاجًا.
سئل غيلان بن سلمة الثقفي: من أحب ولدك إليك؟ فقال: "صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يحضر".
عباد الله، شعور يحسّ به الوالد حين يرى صغاره أمامَه، ويتذكّر قول الرسول : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه))، ويرى ما هو فيه وما مر به من فتن لا يثبت فيها إلا من عصمه الله، وماذا بعده؟ أو كيف السبيل إلى وقايته مما أمامه؟
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن ثمة أمورًا جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا).(58/4)
وإن الله بفضله وكرمه إذا أدخل المؤمنين الجنة يلحِق بالآباء أبناءهم وإن كانوا دونهم في العمل، يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما عند هذه الآية: (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل كي تقرّ بهم أعينهم)، وجاء في حديث مرسل: ((إن الله ليحفظ المرء المسلم من بعده في ولده وولد ولده وفي داره والدويرات حوله)).
عباد الله، لا يغلبنّكم الشيطان على باب آخر مفتوح للمؤمنين وهو دعاء الوالد لولده، فقد صحّ عنه من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن))، وذكر منهن: ((دعوة الوالد لولده)).
ولقد كان دأب الأنبياء عليهم السلام الدعوة لأبنائهم، يقول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال هو وولده إسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقال زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحًا، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء؛ تسعدوا في حياتكم وبعد وفاتكم.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(58/5)
خطبة ( تفجير بقيق )
أما بعد ..
في الجمعة الماضية فُجعنا وفجعت بلادنا بالجريمة الشنيعة ، عمليةِ التفجير الفاشلة بمدينة بقيق بالمنطقة الشرقية .
تلك الجريمة التي استهدفت الدماء والأموال ، وروّعت الآمنين ، وأفرحت الأعداء والحاقدين .
ومن المعلوم في شريعة الإسلام أن الله تعالى حرم الاعتداء على الأنفس المعصومة ، فلا يجوز بحال الاعتداء عليها بغير حق ، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام ، يقول الله تعالى : { ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ((( - - رضي الله عنه - - - - - (((- عليه السلام - - ( - ( { (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - - - - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - { ((- رضي الله عنه - الله أكبر (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - ( - (( ((( - - } - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - تمهيد - ( - - - رضي الله عنه - - - - { } - } - - - - - - جل جلاله -( - ( - - رضي الله عنهم - - } .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا "رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " رواه الترمذي وصححه الألباني.
إنها جريمة شنيعة ، تعبر عن فعلٍ بائس ، كأنما هو ارتعاشة الموت .. وعملٍ يائس ، يحاول لفت الأنظار بعد الفوت .(59/1)
لقد كشفت هذه العملية عن اضطراب الفكر الذي تقوم عليه هذه الفئة الضالة المنتسبة لتنظيم القاعدة .
فكر شاذ طائش ، لا يرى إلا نفسه ، ويضرب عرض الحائط بنداءات العلماء الربانيين من علماء هذه البلاد وسائر علماء المسلمين .
كان هذا التنظيم يرفع الشعارات الدينية ويقرر المسائل الشرعية ، فلما انفرطَ عَقدُ الأحداثِ ، صارَ الأمرُ فوضويةً لا يحكمها إلا الهوى .. وغوغائيةً لا يدفعها إلا التشفّي والنكايةِ ، كل ذلك باسم الجهاد في سبيل الله .
سبحان الله .. أي جهاد هذا؟
أين الجهاد من عمل يُقتَل فيه الرجال والنساء ، والشيوخ والأطفال ، وتُدَمّر فيه مكتسبات وخيرات بلاد المسلمين؟
أين الجهاد من عمل يؤذي المسلم القريب ،و يصب في مصلحة الكافر البعيد ؟!
أين الجهاد ، من انسان يقتل نفسه وأهله وخيرات بلده في عمل انتحاري متهور .
هل تصور هذا الشاب ، أن لو نجح هذا العمل ، لاسمح الله، كم من مسلم سيحترق في أتون النار التي ستشتعل في المنطقة؟ كم مسلم يعمل هناك ، ليتدفق النفط ، فتُبْنَى مدرسة ، ويقومَ مستشفى ، ويُنشأَ مسجد ، ويُطبَع كتاب ومصحف!.
ما ذنبُ المسلمين تُستباحُ أموالُهم وأنفسُهم ودماءهم ؟ ولماذا البترولُ الذي هو عصبِ الحياةِ في البلادِ؟
أسئلة كثيرة تجعل الحليم حيراناً ، وهو يرى ثلةً من الشباب صغار السنِّ ، ليسَ لهم تجرِبةٌ سابقةٌ أو أهليّةٌ علميّةٌ ، يُزَج بهم وقوداً لهذه العمليات بدعوى الجهاد .
إننا نَدين الله تعالى بأن الجهاد ذروة سنام الإسلام .. وأنه لا تزال في الأمة بقية باقية تجاهد في سبيله الجهاد المشروع في فلسطين والشيشان وغيرها .. أما هؤلاء الأدعياء فليسوا من الجهاد في شيء ، لكنه الهوى إذا استحكم في القلب ، زَيَّن الشيطان للانسان سوءَ عمله ، وصدق الله: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .(59/2)
عباد الله .. إذا كنا صادقين في ديننا ، حريصين على مستقبل أمتنا ، فعلينا أن تدبر المفاسد التي تجرها أعمال العنف هذه على أمة الإسلام .
ألم تسئْ هذه الأعمال إلى الجهاد ، وتشوهْ صورة المجاهد في العالم ، حتى تحول إلى رجلٍ متهور ، سفاكٍ للدماء ، مفسدٍ في الأرض؟.
ألم تضرَّ بالدعوة ، وتصدَّ كثيراً من الناس عن الدخول في دين الله تعالى؟
ألم يُضيَّق على الجمعيات والمؤسسات الخيرية باسم الحرب على الإرهاب؟ ألم يُغلقْ عدد من المعاهد والمدارس الإسلامية في أمريكا وأوروبا؟ .
ها هو أحد العرب المسلمين في ألمانيا يتجرع مرارة هذا الأمر ، ويقول: حسبي الله عليهم لأول مرة ابنتي "نهى" تدرس في مدرسة حكومية ألمانية بعدما كانت تدرس في مدرسة إسلامية ، والذي يبكيني الآن أنها تدرس وعلى يمينها نصراني وعلى يسارها نصراني .
وهكذا ينهار ما بناهُ المخلصونَ من رجالِ العلمِ والخيرِ والإصلاحِ يوماً بعدَ يومٍ، بسببِ تواصلِ هذه الأعمالِ التخريبيّةِ .
عباد الله .. وإذا كانت هذه الحادثة قد أثبتت افتقاد هذا الفكر للمنطلقات الشرعية لأعماله ، فإنها أثبتت كذلك أنه يفتقد أدنى درجات التفكير الاستراتيجي وإدراك المصالح .
هل يعرف هؤلاء أن الكافر الذي يحاربونه هو الكاسب الوحيد من هذا العمل؟.
ما الذي سيحدث لو نجحت الجريمة ، واحترقت معامل بقيق لا قدر الله ؟
نعم ، سينخفضُ الانتاج النفطي ، ويُضربُ اقتصادُنا في قلبه ، وتتوقفُ كثير من المشاريع التنموية التي هي من مصالح المسلمين العامة .
وبعد هذا كله ، سيعود الكافر الذي يجاهدون لإخراجه من بلادنا ، سيعود بأضعاف أعداده ، ليبني معامل بقيق ، على حساب أموال المسلمين .. ولا يبعد أن يُفرض التدخل الخارجي والوصاية على بلادنا لأنها غير قادر على حماية النفط وهو السلعة الاسترتيجية في العالم .(59/3)
عباد الله .. لو تأملنا في تاريخ أحداث التفجيرات في بلادنا ، لرأينا أن هذه الأفكار الضالة التي تستحل الدماء المعصومة لا يمكن أن يَتنبأ أحد بالحد الذي ستصل إليه . فقد بدأت هذه الحلقات المضطربة باستهداف الكفار المعاهدين ، ورفع راية إخراجهم من جزيرة العرب .
في أول الأمر ، لم يبال بعض الناس بهذه الأعمال ، ولم يتشجعوا على إنكارها ، وكان من أسباب ذلك المشاعرُ المحتقنة بسبب الغزو الامريكي لأفغانستان ، ثم العراق ، وسياسةُ العداء التي اتبعتها الادارة الامريكية ضد كل نشاط اسلامي ، بما في ذلك الاعمال الخيرية .
كان سَخَطُ الناس على امريكا ، وكرههُم لممارساتها الاجرامية ، طاغياً على النظر في انحراف الفكر الذي تقوم عليه هذه الاعمال ، وخطورتها على الأمة .
ثم انتقلت هذه الأعمال إلى قتل رجال الأمن في حال المواجهة .. ثم إلى استهداف رجال الأمن في أماكنهم ، وتعدي الأذى إلى المدنيين الغافلين .
وبعد وقوع هذه الأعمال المنكرة ، تغيرت الصورة .. وبدأ الكثير يراجع موقفه يوما بعد يوم ، بعد أن وجد أن مآلاتِ هذا المنهجِ خطيرةٌ على الإسلام وأهله .. وأخيراً كان حادث الأسبوع الماضي الذي كشف تماماً تخبطَ أفراد هذه الجماعة واستهانتَهم بدماء المسلمين وأموالهم ، والله يعلم إلى أين سينتهي بهم المطاف بعد هذا .
عباد الله .. إن النظرةُ الفاحصةُ للأجواءِ المتوترةِ في المنطقةِ، توحي بأنَّ عملياتِ التفجيرِ والعنفِ في البلدانِ الإسلاميّةِ، تعني المزيدَ من التكريسِ للقوى الخارجيّةِ، والضغوط الدولية.
وما أحداث العراقِ الأخيرةِ عنّا ببعيدٍ، فالتناحرُ الداخليُّ الذي وقع مؤخراً بين السنّةِ والشيعةِ هو أعظم وسيلة لفك الخناق عن الجيشَ الأمريكيَّ المحتل الجاثم في بلاد المسلمين ، وتفرغِه لمواصلةِ خططهِ التوسّعيةِ وسيادته في المنطقة ، على قاعدة "فرّق تسد"، وهي قاعدة المستعمر قديماً وحديثاً .(59/4)
وهذا الكلام لا يعني تصحيحَ ما عليه الشيعة من العقائد الفاسدة ، أو التقليلَ من خطرهم ، فنحنُ نعلمُ ماذا فعلوا بأهل السنّةِ ، وكيف أباحوا أرضَ العراقِ للمُحتلِّ الأجنبيِّ، إلا أنَّ الأعداءَ يتفاوتونَ في المنزلةِ، وقد يكونُ دفعُ بعضِهم أولى من دفعِ البعضِ الآخرِ.
نسأل الله تعالى ان يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يحقن دماءهم ، وينصرهم على من عاداهم ، إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ..
عباد الله .. ما الواجب علينا أمام هذه الجريمة المنكرة ، والفتنة التي اكتوينا بنارها في السنوات الأربع الماضية ؟
لا شك أننا بحاجة إلى زيادة وتركيز الجهود المبذولة أمنياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً، حتى نحفظ أبناءنا من هذه الأفكار المضلة .. ليس سهلاً على الواحد منا أن يرى ولده يُقتَل في مثل هذه المحارق والمعارك ، أو يرى فئاماً من أبناء الحرمين يهلكون أنفسهم ، ويخربون بيوتهم بأيديهم .
إن إدانة مثل هذه الأحداث لا بد أن تقال بلغة واضحة لا تلجلج فيها ، فنحن لسنا أمام حدث عادي ، بل هو حدث يستهدف دماء المسلمين ، وأمن بلادهم ، وخيراتهم ، ويفتح للعدو باباً طالما تمناه .
ورحم الله ابن عمر عندما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . فقالا : ألم يقل الله : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؟ . فقال ابن عمر : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ". والحديث في البخاري .
إننا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى كشفِ الخللِ العلميِّ والواقعيِّ لهذه الجماعاتِ التي تبني خطابها على المصادمةِ والعنفِ .(59/5)
وإذا كان البعد الفكري هو المحرك الأساس لهذه الفئة الضالة ، فلا بد من مواجهته بفكر رشيد ، وحوار حكيم ، يخلخل الأسس والمنطلقات التي تتبناها هذه الفئة ، وتبرر لأجلها أعمالها الفاسدة .
لا بد من الحكمة في النقاش والحوار مع المتعاطفين مع هذه الفئة .. من السهل جداً أن تسب تنظيم القاعدة وترميه بأقذع العبارات ، لكن السب لا يجدي شيئاً ، بل قد يحدث حاجزاً نفسياً لدى بعض المتعاطفين مع التنظيم الذين قد يغترون ببعض ما كان عليه التنظيم في أول أمره .
ولهؤلاء أقولها بكل صراحة : إن إقرارَنا ببعض الأعمال المشروعة التي قام بها تنظيم القاعدة في ساحات الجهاد سابقاً في أفغانستان وغيرها ، وكرهَنا لأمريكا وفرحَنا بانكسار شوكتها التي آذت المسلمين وإن لم نتفق تماماً مع الفاعل ، كلُ هذا لا يمنعنا أن نجرّمَ الأفعال الفاسدة والأفكار المنحرفة التي تبناها هذا التنظيم فيما بعد ، ونبرأَ منها .
لقد تقلبت الأحوال ، وتبنى زعيم تنظيم القاعدة نظرية الفسطاطين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، فقسّم العالم كما يزعم إلى فسطاطين لاثالث لهما ، فإما أن تكون معهم في فسطاط الايمان ، أوتكون مع غيرهم في فسطاط الكفر .. وفي عدة مناسبات أبدى اعتزازه وتأييده لبعض الأعمال التفجيرية التي وقعت بين أظهرنا .. ثم جاء الظواهري المعروف بشذوذاته الفقهية في فقه الجهاد ، ليستبيح دماء المسلمين بنظرياته الفاسدة وخلطه في مسائل التبييت ، والقتلِ بما يعم ، وسقوطِ القتلى من المسلمين تبعاً لا قصداً ، وغيرِها من الشبهات مما يضيق المَقام عن ذكره .
ومع إنكار عامة العلماء ، بل يكاد يكون إجماعاً على فساد هذا المسلك ، فإن منظري التنظيم لا يلتفتون إلى مثل ذلك ، مع أن المنكرين عليهم أرسخُ علماً وأذكى عقلاً وأعلمُ بمصالح الأمة من منظري القاعدة .(59/6)
فهل يصح لأحد بعد هذا أن يسوغ هذه الأفعال، ويقول: دعوهم يعبثون في دماء المسلمين وبلادهم ومصالحهم ، لأنهم مجتهدون؟.
سبحان الله ، لو حكم العلماء المعتبرون في ريال أنه من الربا لم يسغ لأحد أن يأخذ بقول من شذ عنهم ، فكيف بالدماء والمصالح الكبرى للأمة؟ أَوَ كلما جاءت فئةٌ فرضت وصايتها على الأمة ، وألزمتها بمنهجها؟
عباد الله .. لا بد من تظافر الجهود لحل المشكلة ، ابتداء من البيت ، والمدرسة ، والبرامج الاعلامي ، ومواقع النت التي تعتبر ميدانا كبيرا لتبني هذه الأفكار ، لما تتميز به من حرية في الطرح وغياب عن الرقيب .
ولا بد أيضاً من المنهج الوقائي والتحصين ضد الأفكار المنحرفة، فإن كثيرا من الشباب يتلقون هذه الافكار وهم صفحات بيضاء ، ليس لديهم حصانة من الفكر الواعي ، والعلم النافع ، فسرعان ما يقعون في الفخ .
إن الفكر المنحرف لا بد أن يقابل بالفكر الراشد عبر الأنشطة والبرامج الدعوية المنتشرة في بلادنا ، من دروسٍ ومحاضرات ، ومراكزَ وحلقات ، وغيرها .
نسأل الله تعالى أن يحفظ على بلادنا أمنها وإيمانها ، وأن يصلح ولاة أمرها ، وأن ينصر دينه وكتابه وسنة ...
اللهم صل على محمد ...(59/7)
خطبة ( تفجيرات الجزائر والقاعدة)
الحمد لله ولي الصالحين .. أشهد .. إله الأولين ....
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا ... أما بعد
دماء تسفك، وأرواح تزهق .. ترويع للآمنين، وإفساد في بلاد المسلمين.. القتلى من المسلمين بلغوا ثلاثة وثلاثين .. والمصابون أكثر من مائتين وعشرين .
هل الجاني هو العدو الصهيوني الذي لا يزال يقتل إخواننا على أرض فلسطين؟
هل الجاني هو العدو الصليبي الذي يتربص بالمسلمين الدوائر؟ ويحارب ما يسمى بالمد الإسلامي الخطير في العالم؟
كلا، الجاني وللأسف طائفة تنتسب إلى الإسلام وتتستر بدعاوى الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية على دماء المسلمين.
شاهدنا وإياكم في وسائل الإعلام تلك المجزرة البشعة التي أريقت فيها دماء المسلمين في الجزائر، حيث وقعت تفجيرات انتحارية لثلاث سيارات مفخخة، إحداها استهدفت قصر الحكومة بالجزائر، واستهدفت الأخريان مقراً للشرطة .
التفجيرات الانتحارية تبناها ما يسمى بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، في بيان نشره على الأنترنت، وتضمن صور الانتحاريين الثلاثة، وأطلقوا على هذه الجريمة البشعة "غزوة بدر المغرب الإسلامي" .
عباد الله .. كيف خرجت هذه الجماعات في الجزائر؟ وما الذي يمكن أن نعتبر به من هذه الأحداث المؤسفة؟
بدأت الأحداث عام 1991م بعد أن ألغت السلطة السياسية في الجزائر الانتصار الساحق الذي حققته جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات ، ثم قامت السلطة بحملة واسعة لقمع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وسجن قادتها، الأمر الذي مهد لبروز قياداتٍ شابةٍ معزولة، كانت مهمشة لوقت طويل من قبل قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ نفسها، حتى أصبحت الفاعل الأساسي في عمليات العنف منذ عام 1992 إلي اليوم .(60/1)
قياداتٌ ذاتُ ثقافةٍ دينيةٍ محدودة .. تجمعت تحت الجماعة الإسلامية المسلحة، والتي تكفّر جميع قادة الجزائر دون استثناء، وتكفر كل من يعمل معهم ولم يخالفهم، وتسعت دائرة تكفيرها وإفسادها، حتى قتلت خلال سنوات الآلاف من المدنيين، وكانت أبشع الحملات الدموية التي قامت بها الجماعة في عام 1997 عندما قتلت 400 مدني جزائري في يوم واحد .
ابتدعت الجماعة بدعةَ القتل السياسي، وبدعةَ الحكم على الناس بمقتضى رؤيا المنام، وبدعةَ الاستنطاقِ وقتلِ من يستنطق بالشك إما حداً إن اعترف، أو سياسةً عن أنكر.
ومن بدعهم بدعةُ التنكيل والتمثيل الذي نهينا عنه نحن المسلمون حتى مع الكفار ، ووالله لولا وقوفي على بعض الوثائق، ولقاءات واتصالات مع بعض المشايخ هناك في الجزائر، ما كنت أظن أن يصل الغلو بهؤلاء إلى هذا الحد .
اسمحوا لي أن أذكر لكم جزءاً من هذه الحوادث .. كان هؤلاء الغلاة يقطعون جسد المخالف وهو حي حتى يموت، ويشقونه نصفين، وربما ألقوه في حفرة مؤججة بالنار.. وعذبوا شابين صغيرين، ثم قطعوا الأول وأخرجوا قلبه، وأمروا الآخر أن يأكله .. وربطوا رجلاً بعمود وشووه على النار وهو حي كما تشوى الذبيحة .. واغتالوا بعض المشايخ المخالفين، وربما غدروا بهم بعد إعطائهم الأمان، ويقتلون الأطفال ويسبون نساءهم، وأنكر عليهم أحد أمرائهم سبيَ النساء، فقطعوا جسمه ووضعوه في قدر لكنهم لم يأكلوه .
كل هذه الصور البشعة موثقة بأسماء الضحايا .. ووالله ما أشبهَ فعلَ هؤلاءِ الغلاة، قساةِ القلوب، بفعل الخوارج الأوائل، الذين يتقربون إلى الله بدماء المسلمين وتعذيبهم .
وبعد سنوات من العنف الدموي في الجزائر انتخب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجزائر في عام 1999م ، وأعلن جيش الإنقاذ الإسلامي وقف إطلاق النار ضد الحكومة، فأصدر الرئيس عفواً لـ 2300 سجين إسلامي .(60/2)
بقيت الجماعة المسلحة لوحدها، واستمرت في ارتكاب مجازر بشعة جعلتها محل اتهام وسخط من قبل أغلبية الشعب الجزائري، وزاد ضعف هذه الجماعة باشتداد الخلافات داخلها .. وربما يقتل العنصر من الجماعة بأدنى مخالفة، وكانت نسبة من تقتله الجماعة نفسها أكثر ممن تقتله الحكومة.
وبسبب الخلافات في الجماعة انشق بعض القادة عنها عام 1996م ليكونوا جماعة مسلحة جديدة باسم الجماعة السلفية للدعوة والقتال، والتزمت الجماعة عدمَ القيام بعمليات ضد المدنيين، واكتفت بمهاجمةعناصرالجيش والأمن.
هذه الجماعة هي التي بقيت الآن في الساحة ، وانضمت مؤخراً لتنظيم القاعدة .
وقد أنكر كبار علماء أهل السنة في هذا الزمان على الجماعات المسلحة في الجزائر، وكان الشيخ العلاَّمة ابن عثيمين رحمه الله تعالى قد وجه بياناً للجماعة السلفية للدعوة والقتال ، قال فيه: (فنصيحتي لكم أن تُلقوا السِّلاحَ وتحملوا السلام، وتُجيبوا ما دعت إليه الحكومة من المصالحة والسلام) ، وقد اطلعت على توثيق لمكالمة هاتفية مباشرة بين الشيخ وبين الجماعة، في شهر رمضان عام 1420هـ، قرر الشيخ فيها حرمة دماء المسلمين، ورد فيها على شبهات الجماعة وقال: والآن، أرى أنَّه يجب على الإخوة أن يَدَعوا هذا القتال، لا سيما وأنَّ الحكومة الجزائرية عرضت هذا، وأمَّنت من يَضَع السلاح، فلم يبق عذرٌ.
وقال الشيخ: الخروج على الحاكم ـ ولو كان كفرُه صريحاً مثلَ الشمس ـ له شروط، فمِن الشروط: ألاَّ يترتَّب على ذلك ضررٌ أكبر.. ثمَّ ما هو ميزان الكفر؟ هل هو الميزان المزاجي ، كثيرٌ من الإخوة ولا سيما الشباب، الكفر عندهم عاطفي مِزاجي، ليس مبنيًّا على شريعة، ولا صدر عن معرفة بشروط التكفير .
ثم قالوا للشيخ: إذاً أنتم لا تعتقدون كفر حاكم الجزائر؟
فقال رحمه الله: لا نرى أنَّ أحداً كافر إلاَّ مَن كفَّره الله ورسوله وصدقت عليه شروط التكفير . اهـ(60/3)
وقد حدثني قبل أسبوع أحد مشايخ الجزائر من طلاب الشيخ ابن عثيمين أن بعض قادة الجماعة دعوه لتأكيد خط الشيخ ابن عثيمين، فصعد الجبال، وأكد لهم خطه وكلامه، وبين لهم بعض الشبهات فاستجابوا وتابوا بحمد الله .
وقد ثبت بالنقل الصحيح رجوع الآلاف من معتنقي هذا الفكر في الجزائر ونزولهم من الجبال، وتحدثوا في التلفاز أن سببَ رجوعهم فتاوى علماء السنة وعلى رأسهم ابنِ باز وابنِ عثيمين والألباني، رحمهم الله جميعاً، وقد ساعد على ذلك المصالحة والعفو الذي أصدرته الدولة عن كل من يرجع عن الفكر ويلقي السلاح وينزل من الجبال، حيث ضعفت شوكة هذه الجماعات في السنوات الأخيرة ، وأصبح قادتها ما بين مقتول ومسجون وتائب، ولم يبق من أفرادها إلا القليل ممن بقوا منعزلين في الجبال .. وربما يقومون ببعض أعمال الاعتداء والقتل والتفجير بين فترة وأخرى لإثبات الوجود فحسب .. حتى كان مطلعُ العام الميلادي الحالي حيث أعلن من بقي من الجماعة السلفية للدعوة والقتال انضمامهم لتنظيم القاعدة، وغيرت اسمها بناء على استشارة وإذن من أسامة بن لادن ليصبح تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي .
عباد الله .. تعودنا كثيراً ، ولاسيما في السنوات الأخيرة، أن يخرج تنظيم القاعدة عن القاعدة .
يقول التنظيم إنه استهدف بالتفجيرات مقر الحكومة المرتدة، والذي وقع أن الشاحنة لم تقتحم مقر الحكومة بل فجرها المنتحر عند جانب المبنى كما شاهدنا في الصور، وكان كل أو أكثر الضحايا من الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم مروا في الشارع وسط العاصمة .
(ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) .(60/4)
ثم يسمون هذه الجريمة البشعة بغزوة بدر، كما هي عادتهم في تبرير جرائمهم .وعلى الرغم من هذا الفساد والضلال، فإنك تعجب مما يكتبه منتحلو فكر القاعدة في الانترنت أو مؤيدوه ، وترى الغلو الواضح والطافح، والتّكفير على قدم وساق .. وكل من ينتقد تنظيم القاعدة فهو منافق عميل موالي للطواغيت .
المتأمل لفكر القاعدة الحالي يجد انه فكر حالم وخيالي لأقصى درجة، بل ويخالف في ابجدياته السنن الشرعية من جهة ، والسنن الكونية من جهة أخرى .
أين النظرة المقاصدية العامة التي تراعي مكاسب الأمة العامة وليس فئةً أو طائفةً منها؟
أين النظر في المفاسد والإضرار التي تلحق الأمة بمجموعها ، ومشروعاتها الدعوية والإصلاحية بل والجهادية ، وتشويه صورة الإسلام بأنه دين دموي يهدف إلى قتل الناس، وإعطاء الأعداء مزيدا من الفرص لاختراق العالم الإسلامي ، والاستعمار الجديد تحت ستار ( محاربة الإرهاب ) .
ولا ننسى الضحية المباشرة لهذه الأعمال من الأبرياء الثكالى واليتامى والمسحوقين الذين يجدون انفسهم فجأة في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل كما حدث في افغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر .
أين النظر في أصول الشريعة الحاكمة على تصرفات الأفراد والجماعات؟ وفرق بين من يجعل الشريعة حاكمة على تصرفاته ، وبين من يجعل المفهوم الشرعي مطية يركبها لتحقيق كسب سياسي في معركة أو جدل .
وقل مثل ذلك في أصل ضلال هذه الطائفة وهي قضية التكفير ، الذي أصبح كاسحة ألغام ، تحطم أي لغم يعارض منهجهم .. ولهذا تجد عند القوم تساهلاً في هذا الجانب وخلطاً في مسائل التكفير .
وكلما كنت عندهم بارعا في التكفير، كلما كنت أقرب إلى الحق وأخلص في التوحيد .
وبناء عليه، اتخذت القاعدة من العالم الاسلامي مسرحا كبيرا لعملياتها ، بدعوى مناهضة الحكومات الطاغوتية المرتدة، أو قتال رجال الأمن المسلمين بحجة أنهم يحمون الطاغوت .(60/5)
وفي العراق الجريح، ظهر قبل أيام المتحدث الرسمي للجيش الإسلامي في العراق الذي كبد المحتل صنوفاً من العذاب، ليكشف عن تجاوزات تنظيم القاعدة في العراق، واغتياله لبعض عناصر الجيش الإسلامي في العراق، وإجبار المجاهدين على الدخول في ما أسموه دولة العراق الإسلامية، في دولة ترزح تحت الاحتلال .. في تخبط واضح وتناقض باطل .
فإلى أين يسير هؤلاء؟ وما الذي جنوه على الإسلام باسم الجهاد؟ وهل يستقيم الجهاد دون علم راسخ، وفقه للسنن الشرعية والكونية؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله ...
عباد الله .. إن مسلك التكفير الذي تتبناه جماعات العنف والغلو، مسلك خطير .. طالما حذر منه أئمة الإسلام .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ... [قال:] المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية ... وأحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية فى بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى الإئتمام بهم فى الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان .اهـ
فكيف لو رأى ابن تيمية رحمه الله فعل هؤلاء المفسدين من سفك دماء المسلمين، وتكفير الحكام أجمعين ، والتساهل في الخوض في الدماء بدعوى الجهاد؟ .(60/6)
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) .
سبحان الله؟ أين هؤلاء من جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصحابته الكرام من بعده .
إن الجهاد حياة للأمة الإسلامية ورفعة لها ، ولكن، إذا كان الجهاد يحقق لها ضرراً اكبر ، أو كانت نتائجه المرجوة منه بعيدة ، فإن مصلحة الأمة في تأخير الجهاد، أعني جهاد الطلب، مراعاة لطبيعة المرحلة وفقه الاستضعاف ، وهذه من الأمور التي تغيب عن كثير من المتحمسين الذين يريدون أن يطووا حركة التاريخ ويعجلوا بالنصر قبل إن تتحقق شروطه المعتبرة .
ان المنهج اذا كان فاشلا في رقعة بسيطة من الارض ، ففشله حين يكون منهجا أمميا من باب الاولى ، ولنا عبرة في ما وقع في مصر من جماعة الجهاد المصرية التي صاولت الحكومة المصرية سنوات طويلة ، ولم تحقق من ذلك اي مكسب سوى مزيد من السحق والتضييق على مناشط الدعوة .
ألا فليتق الله كل مسلم، وليعلم أن دماء المسلمين حرام، وأن الجهاد فريضة الإسلام، وإن من الظلم للجهاد أن يتخذ مطية لاجتهادات حزبية شاذة، تضر بالأمة ومصالحها، وتستبيح دماء أبنائها .
نسأل الله أن يصلح أحوال الأمة، وأن يرينا الحق حقاً ...
اللهم صل على محمد ..(60/7)
خطبة ( جراحات الأمة )
أما بعد ..
عباد الله .. ماذا أقول؟ وبأي كلام أبدأ؟ وعن أي جرح من جراحات أمتنا أتحدث؟
لا تزال الأمة في غفلة وغمرة ، في الوقت الذي لا تزال فيه المآسي مستمرة ، بدءاً بفلسطين الحبيبة التي تقدم الشهيد تلو الشهيد ، جراء عمليات القصف اليهودي ، والتوغل في قطاع غزة ، وخاصة في اليومين المنصرمين .
وفي العراق ، لا يزال المحتل النجس يجثم بجنوده على أرض الإسلام ، ويستبيح الأرض والدماء .
نعم، واللهِ، أخجل من خضوعي ومن هذا التذلُّلِ والخُنوعِ
نعم، واللهِ، أخجل من سكوتي على ظُلْمٍ من الباغي فَظيعِ
وأخجل من بَني الإسلام لمَّا أراهم في زماني كالقطيعِ
نرى في الأَسْر أُولى قبلتينا ونسمع صرخةَ الطفلِ الرضيعِ
ونُبصر غَزَّةَ الأَمجادِ تُصْلَى بنار الظلمِ والفَتْكِ الذَّريعِ
يحاصِر أهلَها خوفٌ وجوعٌ وما أقساه من خوفٍ وجوعِ
وفي أرضِ العراقِ نرى خريفاًَ من المأساةِ يعصف بالرَّبيعِ
وتلعب بالقوانين الأعادي وما للحقِّ فيها من شفيع
قوانينٌ تصون حقوق كلبٍ وترفع قَدْرَ كذابٍ وضيعِ
ولا تزال فضائح الجيش الأمريكي التي يرتكبها جنود الاحتلال في العراق بحق النساء العراقيات تتوالى بشكل مستمر فمن جرائم سجن أبي غريب إلى ممارسات الجنود في الخارج ، وكان آخرها جريمة الاغتصاب التي فاقت وحشيتها وخستها وبشاعتها كل الحدود .
عبير ، الفتاة العراقية التي تبلغ من العمر خمسة عشر ربيعا ، كانت الفتاة تشكو لأمها تعرضها للمضايقات من الجنود الأمريكيين الذين كانت سيطرتهم على بعد خمسة عشر متراً من منزلها في المحمودية .(61/1)
نقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن أحد الجيران أن قوة أمريكية مؤلفة من خمسة عشر إلى عشرين عنصرا داهمت منزل الفتاة ، وقام الجنود بقتل والدها ووالدتها وأختها هديل ، ضرب الجنود رأس والدها حتى تناثر مخه في أركان الغرفة ، وخُنِقت والدتها إلى أن ماتت ، وقُتلت أختها هديل والتي تبلغ من العمر سبع سنوات ، ثم قاموا بسحب الفتاة إلى غرفة مجاورة، ونزعوا ثيابها بالقوة، وضربوها على رأسها، ثم تناوب أربعة منهم على اغتصابها، مما أدى إلى إصابتها بحالة إغماء شديد ونزيف، كما أثبته الطب الشرعي بعد تشريح الجثة، ثم قام الجنود بعدها بحرق الجثث من أجل إخفاء آثار الجريمة ، ولما هرع الجيران إلى المنزل ، فوجئوا بالقوات الأمريكية وهي تحرق العائلة السنية .
إنا لله وإنا إليه راجعون .. لقد ماتت الفتاة .. ماتت الفتاة المسلمة ، صاحبة العرض الرفيع ذليلةً كسيرة ، ماتت هي تحاول إخفاء عارها المنتهك .. ويا ليت شعري بماذا كانت تفكر في تلك اللحظات وهي تنازع الروح .
أيها المسلمون .. إن هتك عرض هذه الفتاة التي تم اغتصابها قبل موتها وبعد موتها هو إذلال وإهانة لجميع الشعوب العربية والإسلامية .
وليس لنا عزاء لهذه الفتاة ولغيرها من المضطهدين سوى الله جل جلاله .. إن عين الله التي لا تنام ، وإن بطش ربك لشديد ، وإن عدالته ستنتقم من الظالمين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وأمام هذه الجريمة البشعة لم نسمع سوى بعض أصوات الاستنكار الضعيفة .. فقد استنكرت هيئة علماء المسلمين في العراق الجريمة وقالت : إن الممارسات الدنيئة لقوات الاحتلال تبين حقيقة الوجه الأميركي القبيح . ودعت جميع المنظمات الإنسانية إلى الوقوف بوجه البطش الأميركي الذي تجاوز كل الحدود .(61/2)
عباد الله .. لم يعد العالم يحتاج لدليل على أن الادارة الامريكية قد سقطت في الامتحان الاخلاقي في العراق، مثلما سقطت في الامتحانين العسكري والسياسي، فهي تزعم أنها تقدم دروساً في الديمقراطية وحقوق الانسان والاخلاق ، وجنودها يغتصبون العراقيات ويعذبون المعتقلين، ويدمرون المدن والقرى فوق رؤوس أصحابها . وهذا هو الارهاب بعينه ، لو كانوا يعلمون .
(لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) .
عباد الله .. وهذه صفحة أخرى من الصفحات السوداء لحماة حقوق الإنسان المجرم ، وأدعياء العدل والديمقراطية .
حميدان التركي طالب الدكتوراه السعودي ، الفاضل الشريف المتدين ، ابتعث لدراسة الدكتوراه في الولايات المتحدة الامريكية قبل سنوات ، وغادر الى هناك وزوجته وابناؤه الخمسة ، وفي أواخر العام قبل الماضي اعتقل حميدان بتهمة مخالفة أنظمة الإقامة والهجرة ، حيث اقتحمت مجموعة من مكتب التحقيقات الفدرالية البيت بطريقة بشعة، ثم اعتقلت خادمتهم الاندونيسية ، وأفادت بأن تعامل العائلة كان طيباً للغاية ، ونفت تعرضها لأية تحرشات جنسية ، اطلقت السلطات الأميركية سراح حميدان بالكفالة ، وواصلت التحقيقات مع الخادمة بنفس طويل .
وبعد أشهر ، اعتقل حميدان وزوجته مرة أخرى ، ووجهت له تهمة إساءة التعامل مع الخادمة ، واحتجازها في منزلهم ، واحتجاز أوراقها الثبوتية ، وتعرضها لتحرش جنسي .. وتغيرت أقوال الخادمة ، فقالت: إنه فرض علي الحجاب ، ومنعني من اتخاذ صديق لي من الرجال!! في مناقضة لكل الاعترافات التي أدلت بها مسبقاً .
ثم طلبت السلطات الأمريكية بمنتهى الظلم كفالة مالية باهضة جداً ، 400 ألف دولار مقابل إطلاق سراح حميدان ، و150 ألف دولار لإطلاق سراح زوجته .(61/3)
وقامت السلطات باحضار زوجة حميدان للمحكمة بدون السماح لها بوضع حجاب وجهها ولا غطاء الرأس ، في عنصرية مقيتة ، وامتهان بغيض لقيم الإسلام ، وانتهاك لمبادئ الديموقراطية الغربية ذاتها والتي تضمن للإنسان حريته الشخصية .
وتوالت جلسات المحكمة الجائرة ، حتى كانت جلسة الأسبوع الماضي حيث قضت محكمة دينفر الأمريكية بإدانة الطالب السعودي حميدان التركي بتهمة «الاختطاف من الدرجة الأولى»، و»التآمر على الاختطاف من الدرجة الأولى»، و»التحرش الجنسي من الدرجة الرابعة» ، والحكم بسجنه مدى الحياة .
ونحن مع حزننا واستيائنا الشديد لما أصاب هذا الشاب الفاضل البريء ، لا نزال نعلق آمالنا بالله ودعائه بالفرج ، ثم نؤمل في حكومتنا المباركة وسفارتها هناك ، وكافة المنظمات وجمعيات حقوق الإنسان أن يكتب الله علي يديها الفرج لأخينا ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ..
الحقيقة عباد الله .. أن هذا الحكم الأمريكي الجائر ، المبني على الأباطيل والأكاذيب ، ليس في الحقيقة تصفية حساب مع هذا الطالب المبتعث ، إنما هو تصفية حساب عنصري مقيت مع ما يمثله هو وزوجته من مباديء الإسلام .
ليست القضية خوفاً على الخادمة أو حمايةً لحقوقها ، في مجتمع تغص شوارعه بالدعارة والتسول!! بل القضية أن هذا الشاب غير مرغوب فيه لتدينه والتزامه هو وزوجته ، التي أغاظ دعاة الحرية أنها ترتدي النقاب ، ولو كانت ترتدي المايوه ذا القطعتين أعاذها الله منه لما حوكمت ، بل لربما كرمت ونشرت صورها في صحفهم أنها نموذج للمسلمة المعتدلة غير المتشددة .
إنهم يكيلون بمكيالين ، ولو أن هذا الطالب تحرش بـ«مونيكا لوينسكي» ، كما فعله رئيسهم السابق ، لم يحكم عليه بهذه العقوبة .(61/4)
إنها حلقة من حلقات الكذب والتزوير الذي لا يختلف عن كذبهم بوجود أسلحة دمار شامل في العراق ، وكذبهم بتحرير الشعوب ونشر الحرية ، قاتلهم الله انى يؤفكون .
في سجن غوانتانامو ، المئات من الأبرياء ، اعتقلتهم القوات الأمريكية مع من هب ودب ، ونقلتهم إلى هذا السجن البغيض ، مضت على بعضهم خمس سنوات ، وهم يقبعون في السجن ، لم توجه إليهم أية تهمة ، ولم يقدم أي منهم لأية محاكمة، في ظروف اعتقال بشعة ، ووسائلَ تعذيب متحضرة ، ابتكرتها آلة القمع الأميركية بما لا مثيل له في العالم .
وفي الآونة الأخيرة يموت ثلاثة منهم من أبناء هذه البلاد ، ويزعم السجان المجرم أنهم قد انتحروا .
بل يخرج قائد المعتقل ليقول بكل صفاقة: (إنهم ماكرون يتمتعون بالقدرة على الابتكار، إنهم لا يقيمون أي اعتبار للحياة) .. وتخرج نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركية لتقول: (إن انتحارهم ليس عملاً ناجماً عن اليأس بل عملا حربيا غير متوازن ضدنا، وخطوة دعائية جيدة لشد الأنظار).
سبحان الله .. أية غطرسة ، وأية حماقة يتعامل بها هؤلاء الظلمةُ مع السجناء والأسرى؟
نحن لا نصدقهم بأن هؤلاء الشباب قد انتحروا ، ولكن لو فرضنا أنهم انتحروا ، أيحسُدونهم حتى على الموت؟ أيشكون من انتحارهم ، وأنه عمل عدواني ودعائي يجرح مشاعر السجانين الذين يزعمون حماية حقوق الإنسان؟
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين) .
عباد الله .. ومع هذه المآسي والمحن التي تنزل بالمسلمين في كل مكان ، نقول: هل إستشعرنا حقا ما يجب لأمتنا علينا؟ هل استشعرنا أننا ببعدنا عن الله ، وبتركنا لدين الله نؤخر نصر الأمة ونطيل معاناة إخواننا ؟(61/5)
إن العودة لله تعالى تتطلب منا أن نبدأ بأنفسنا ، وأهلينا ، ومن حولنا ، مع القيام بواجب النصرة لإخواننا بما نستطيع .. وتتطلب منا الصلاح والإصلاح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يشيع الخير في الأمة من جديد .
اللهم صل على محمد ...(61/6)
خطبة (حادث شباب الربوة الصالحين )
الحمد لله رب العالمين .. فارج الهم ، وكاشف الغم .. مجيبِ دعوة المضطرين ، وجابرِ كسر المنكسرين .. لم يُخْلِ محنة من منحة ، ولا نقمة من نعمة .. نحمده على حلو القضاء ومرّه , ونعوذ به من سخطه ومكره .. ونسأله أن يجعل لنا من كل شدة فرجاً ، ومن كل ضيق سعة ومخرجاً .
والصلاة والسلام على معلم البشرية ، وهادي الإنسانية .. نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله .. واعلموا أن في القصص لعبراً ، وإن في تقلبات الحياة لمدكراً .. (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) .
عباد الله .. حادثة مليئة بالدروس والعبر ، وقفت عليها منذ بداية وقوعها ، وتابعت تسلسل أحداثها ، والتقيت بأبطالها ، ودونت بعض الدروس المستفادة منها ، فلم يكن بدٌ من عرضها اليوم على أسماعكم ، بعد أن اكتملت فصولها ، أسأل الله أن ينفع بها.
أما أبطال هذه القصة فليسوا ببعيدين عنا ، إنهم نخبة من شباب هذا الحي الصالحين ، يجمعهم الحب في الله ، وتربطهم الأخوة على طاعة الله ، زادهم التقوى والإيمان ، وخلقهم الفضل والإحسان ، ولقاؤهم على العلم والقرآن .
قبل شهر ، وفي مثل هذا اليوم ، السادسِ عشر من شهر رمضان المنصرم ، بدأ شريط الأحداث برحلةٍ إيمانية ، يقوم بها هؤلاء الشباب إلى الرحاب الطاهرة بمكة المكرمة ، ليؤدوا مناسك العمرة .
العمرةُ التي حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على متابعتها ، وبشر من أتى بها في رمضان بثواب حجة ، فضلاً من الله وإحساناً .
وينطلق الركب المبارك على الطريق البري ، ويؤدي الشباب العمرة بكل يسر وسهولة ، وبعد يومين من العبادات والصلوات المضاعفات ، وفي يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان ، يعود الشباب أدراجهم على الطريق البري نفسه ، (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) .(62/1)
نزل أمر الله قبل وصولهم إلى الرياض بأكثرَ من أربعمائة كيلومتر، كان الجو هادئاً في السيارة ، الشباب منشغلون بمسابقة يقدمها أحد الشباب .
يقول سائق السيارة: كنت أقود السيارة بسرعة 120 إلى 130 كيلومتر في الساعة ، وفجأة ، سمعت انفجار الإطار ، رفعت رجلي عن البنزين ، انحرفت السيارة عن الطريق واتجهت إلى الحاجز الحديدي ، فقدت الوعي قبل أن أصل إلى الحاجز ، اصطدمت السيارة بالحاجز لتنقلب على جانب الطريق عدة مرات .. انكسر زجاج السيارة ، وخرجت منها .. ولم أستيقظ إلا وأنا على الأرض .
ويقول الشاب الذي كان يدير المسابقة: كان المشهد رهيباً بعد انحراف السيارة وانقلابها ، الزجاج يتناثر في السيارة ، التراب يدخل من النوافذ ، كانت السيارة تتقلب وأن أقول ماالذي ينتظرني؟ هل سأموت؟ هل سأصاب بشلل أو إعاقة؟
توقفت السيارة فإذا بإخواني الذين أحببتهم وتآخيت معهم سنوات طويلة تحولوا إلى أجسادٍ متناثرةٍ على الأرض .
خرجت من السيارة فإذا بأحد الشباب يدور بلا شعور ، أخذت لحافاً وأجلسته عليه ، فاستلقى واستسلم لنوم عميق، أصبت بالخوف ، هل سيفوق أخي بعدها أم لا؟
وشاب آخر يقول: عندما فوجئت بالحادث، التفت إلى الشباك ، فإذا بالتراب يدخل عيني فلم أعد أرى شيئاً ، ثم أغمي علي ، وأصبت في وجهي وجسدي، ولم أستيقظ إلا على صراخ الإخوة .. أحسست بالموت ، ثم سمعت أحد الشباب يتشهد فذكرني وبدأت أتشهد .. لقد اكتشفت حينها أن الصحبة الصالحة أفضل شيء في الدنيا .
نعم .. في لحظة كلمح البصر .. أصبح الشباب مجندلون على التراب ، هذا ينزف دماً ، وهذا يعتصر ألماً ، وآخر قد علاه التراب ، وآخر ينادي بالأصحاب .
ولكن .. في هذه اللحظاتِ العصيبة ، كان ذكر الله ودعاؤه على ألسنةِ الشباب ، يدوي في الأجواء الكالحة ، معلناً أن مع العسر يسراً ، وأن مع الضر خيراً (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم).(62/2)
يقول أحد الشباب: نزلت من السيارة بعد وقوع الحادث فإذا بأخي في حالة يرثى لها، ثم التفتُّ فإذا بأخي الثاني في حالة لا تقل عن الآخر ، تذكرت الله في تلك اللحظات ، عرفت أن الأبواب قد اغلقت ولم يبق إلا باب الرحمن ، فأخذ لساني يلهج بدعائه والتضرع إليه .
وبعد هدوء العاصفة ، يتفقد الشباب بعضهم بعضاً ، ويحمدون الله أن الحادث لم يسفر عن وفيات ، وكانت معظم الإصابات طفيفة ، فيسجد عدد منهم شكراً لله ، وينزل آخر كالملهوف يسأل عن القبلة ليسجد لله ، ونعم ما فعل ، وهذا على الأفضلية وإلا فلو سجد لغير القبلة فلا بأس ، لأن سجدة الشكر لا يشترط لها قبلة ولا طهارة على الصحيح من أقوال أهل العلم .
وتمضي اللحظات ، ويتصل أحد الشباب بالهلال الأحمر لتجرى أعمال الإسعاف ، وينقل المصابون إلى المستشفى .
وفي المستشفى كان المشهد محزناً ، والشباب يفترشون الأسرة البيضاء بين كسير وجريح .
يقول أحد المصابين: لم أستفق إلا وأنا على السرير في المستشفى ، وثوبي مشقوق وملطخ بالدماء ، ورقبتي محاطة بالجبيرة .
وفي نهاية القصة ، كان لطف الله بعباده هو سيد الموقف ، لقد عاد أكثر الشباب في اليوم الأول إلى بيوتهم سالمين ، ومضت الأيام بالمصابين فشفوا بحمد الله ، وبقي آخرهم الذي أصيب في رأسه ، وهو الآن في طريقه إلى الشفاء بإذن الله تعالى .
ولنا مع هذه الحادثة عدة دروس (سوى ما تقدم) :
الدرس الأول: درس في الإيمان بالقضاء والقدر:
أيها الأحبة .. عند نزول المصائب والأزمات ، تضطرب القلوب .. وتهتز النفوس .. وتزيغ الأبصار .. ويتسلل الجزع والتشكي إلى النفوس .
والمؤمن مطالب في هذه الظروف أن يصبر نفسه ، ويلجأ إلى ربه ، وينظر إليه بعين الرضا والتسليم ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .. إنه حكيم عليم .
وكل شيء بقضاء وقدر والكل في أم الكتاب مستطر(62/3)
والله تعالى يبتلي من شاء من عباده المؤمنين ليمتحن صبرهم ، ويُظْهِر استرجاعَهم ، كما قال تعالى : { المحتويات ( - ( الله أكبر - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - - - جل جلاله - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (((- رضي الله عنهم -(( - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - ( قرآن كريم - - ( - - - (( قرآن كريم ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( { - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - (- عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - } - - ( { (( الله أكبر - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات (- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - } الله - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - ( - ( - ( - - - ((((( - رضي الله عنه -((( - { - - - - - - - ( { المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - ( { - رضي الله عنه - - - (( - تم بحمد الله } - ( قرآن كريم ( - - - - - ( الله أكبر ( { ( - - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - - - ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - (- عليه السلام - - ((((( - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم فهرس - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( فهرس - { - ( { - رضي الله عنهم - - ( مقدمة - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - درهم (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله(62/4)
عنه - - ( - ( - ( - - - ((((( } .
المؤمن لا يعرف الصدمةَ النفسية .. ولا الانهياراتِ العصبية .. بل شأنه الإيمانُ والتسليمُ لرب البرية .
وبهذا ، تنقلب المحنة في حقه منحة ، وتستحيل البلية عنده عطية ، وتكون أولى الثمرات التي يجنيها ، طمأنينةً تعمر قلبه ، وانشراحاً يغمر صدره ، مع ما يدّخره الله له من الثواب والأجر .
كما قال تعالى : { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - (- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - { - رضي الله عنه - تمهيد - (( - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ( { ( تمت ( - ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - ( - ( - ( - - عليه السلام - - مقدمة - رضي الله عنه - تمهيد ( - - - } .
قال علقمة بن قيس : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
إذا علمنا هذا ، فإن هذه الحوادث المقدرة ، يجب أن لا تثنينا عن عمل الخير، أوالسفر لما يحب الله ويرضى، مع اتخاذ الأسباب النافعة .
أخي الحبيب .. الآجال معدودة ، والأعمار محدودة .. فلا تظن أنك بسفرك أوجلوسك ، ستقدم أو تؤخر لحظة من أجلك.(62/5)
فكن مؤمناً متوكلاً على ربه ، يعلم أن السلامة من الله ، والأمن في جوار الله ، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله .. { - - - - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - الله ( قرآن كريم - { ( - - } (( قرآن كريم ( - - - - ( } - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( مقدمة - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } .
الدرس الثاني ، احفظ الله يحفظك :
إن أعظم سبب يقي الإنسان من الكوارث ، ويحفظه من المكاره ، تقوى الله ، وقوةَ العلاقة بالله تعالى ، { ( - - - - ( ( - ( - - رضي الله عنهم - - - - ((((- رضي الله عنهم - مقدمة } - عليه السلام - قرآن كريم ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات - رضي الله عنهم - مقدمة ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -((( - ( قرآن كريم ( { - - - - } .(62/6)
وهذا الحفظ الرباني له أسباب : فمن أسبابه قوةُ الإيمان والتوكلِ على الله ، كما قال تعالى: { - رضي الله عنه -((( - { - - - - رضي الله عنه - - - - - ( المحتويات ( - - - ( } - } - - - - } تمت ( { { } - } - - - - ( - - - } - قرآن كريم ((- عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - - - ( المحتويات ( - ( قرآن كريم - رضي الله عنه -(( - - - - ( ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - - - ( - - جل جلاله - - (- رضي الله عنهم - - - ( { } - قرآن كريم ( - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنهم - مقدمة ( - - - - المحتويات ((( الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ( - - - ((((( } - قرآن كريم ( - فهرس - - { الله أكبر - - - ( - { - رضي الله عنهم - - ((( - ( - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - - - - (( - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات { - ( المحتويات ( - ( - - - ( - - رضي الله عنه - - ((( قرآن كريم ( - } - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت (- عليه السلام - قرآن كريم ((( - ( - - - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -( - - - (( - ( - بسم الله الرحمن الرحيم - ((- رضي الله عنه -( } .
ومن أسبابه: المحافظة على أداء الصلوات الخمس مع الجماعة ، وبالأخص صلاة الفجر .
فقد روى مسلم عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم ".(62/7)
ومن أسبابه: الإكثار من العبادات والطاعات في وقت الرخاء ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أنه قال: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع .
وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة" رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع .
ومن أسبابه: الذكر والدعاء ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء ".رواه الترمذي وصححه الألباني في السلسلة.
ومن أسبابه: الاستغفار والتوبة ، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق فرجاً ، ومن كل فتنة مخرجاً.
يقول أحد الشباب: كان أولُ عملٍ عملتُه أني بدأت أتفقد الشباب ، وأذكرهم بدعاء المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون ، الله أْجُرْنا في مصيبتنا واخلُف لنا خيراً منها.
وآخر يقول: أظن أن أهم الأسباب التي أنجتنا ،ذكرَ الله ودعاءَ المصيبة .. لمّا رأيت الشباب يدعون الله في أشد اللحظات ، قلت في نفسي: والله لا يضيع الله هذا الدعاء .
الدرس الثالث من هذه الحادثة: ليت شعري كيف تكون الخواتم :
عباد الله .. إن وقوع مثل هذه الحوادث لعبرةً للعاقل ، وتذكيراً للغافل ، بأن الدنيا ظلٌ زائل ، وأن الموت يأتي بغتة ، وأن السعيد من أعد العدة للقاء ربه .
وإن مما يبعث الطمأنينة في نفس كل شاب أن يكون بين هؤلاء الشباب الصالحين ، الذين لهجت ألسنتهم بالشهادة والذكر والدعاء في موقف تطيش فيه العقول ، وتضطرب فيه القلوب .
فها هو أحدهم يقول: لما وقع الحادث أغمضت عيني ، وبدأت أرفع صوتي بالشهادة لكي أذكر الشباب بها .
وآخر يقول: عندما وقع الحادث ، نظرت إلى الشباب ، فإذا بهم ، منهم من يتشهد ، ومنهم من يسمي ، ومنهم من يذكر الله .(62/8)
وآخر يقول: عندما انقلبت السيارة ، أحسست بأن الحديد يلتف علي ، والشباب يضجون بالذكر والشهادة .
ويقول آخر محاسباً نفسه: لما وقع الحادث كنت أرى مشهد الموت أمامي ، فقلت في نفسي: لو أني مت الآن ، هل أتمنى أن ألقى الله بهذه الحال، أو أني أتزود من الأعمال الصالحة؟.
وآخر يقول لإخوانه: إن بيني وبين فلان سوءَ تفاهم ، فأرجوكم ، قولوا له يبيحني ويحللني .
وشاب آخر يقول: تمنيت أنه لم يُغْمَ علي ، لكي أطلب من أحد الشباب أن يتصل على والديّ ليرضوا عني .
وآخر كان مفطراً بسبب السفر ، فلما وقع الحادث تمنى أنه لم يفطر حتى يلقى الله -لو قدر الله- وهو صائم .
وآخر يقول: لقد كتب لنا عمر جديد ، جدير بأن نعمل فيه بطاعة الله تعالى .
أما سائق السيارة فيقول: أصبت بكسر في الظهر وكسر آخر في الصدر ، ورأيت الدم يسيل من جسدي ، وبدأ التنفس والنبض يضطرب ، فأحسست أني سأموت لا محالة ، جلست أنتظر الموت ، ومع شدة الموقف ، فقد كنت أحسن الظن بالله ، فأنا في سفر طاعة وراجع من العمرة ، وبرفقة شباب صالحين متآخين في الله ، ، وكان الحادث في يوم الجمعة ، ومن مات يوم الجمعة أمن الفتان ، وكنا صائمين في رمضان ، حتى إني كنت أقول للشباب: لا أريد طعاماً ، إني أريد أن أفطر في الجنة إن شاء الله .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن ربه في الحديث القدسي المتفق عليه :(أنا عند ظن عبدي بي) .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يحسن الظن به ، ويحسن العمل له ، إنه غفور شكور ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته .
أما بعد. الدرس الرابع من دروس هذه الحادثة:
درس في التراحمِ والتكافلِ وصدقِ الأخوة .(62/9)
لقد سطر هؤلاء الشباب صفحات مشرقة من الحب في الله ، والتآخي الصادق ، وتلكم هي صفة المسلم الحق،الذي يشعر بإخوانه شعور الجسد الواحد ،ويشد يده بأيديهم كالبنيان المرصوص.
بمجرد أن وقع الحادث ، هب من بقي من الشباب لإنقاذ المصابين ، في حب صادق ، وأخوة حقيقية .
أحد الشباب الذين فقدوا الوعي يقول: كنت أتمنى أني لم أفقد الوعي لكي أشارك في مساعدة إخواني .
وآخر يقول: تمنيت أني تدربت على الإسعافات الأولية لكي أشارك في إسعاف الشباب .
وقبل وصول الإسعاف ، يفزع بعض فاعلي الخير ،وصناع المعروف من عابري الطريق ليسعفوا إخوانهم ويغيثوهم في موقف نبيلٍ جديرٍ بالإشادة ، والدعاء لهم بالحسنى وزيادة .
وفي المستشفى يجلس أحد الشباب على الكرسي بجوار أخيه المصاب الذي يرقد على السرير ، يغالب النومَ والتعبَ ليسهر على راحة أخيه ، فيقال له: نم على السرير الآخر ، فيقول: لا ، ربما يستيقظ أخي ويحتاجني ، فيقال له: اذهب إلى البيت وعد في الصباح ، فيقول: قد مات أبويّ ، وليس عندي أب ولا أم في البيت ، فدعوني أسهر على راحة أخي.
أما الآباء والأمهات فقد كان لهم مواقف عظيمة ، من الصبر والرضا بقضاء الله ، وتفقد أحوال جميع المصابين سواء كانوا من أبنائهم أو من غيرهم .
يزور أحد الآباء ولده في المستشفى بعد وقوع الحادث ، فيسأله الشاب عن بقية الشباب . فيقول له الوالد: إنه زارهم كلهم قبل أن يزوره ، لأنه يعدهم كلَّهم من أبناءه .
أما الأمهات ، فحدث عن التواصل فيما بينهن والسؤال والدعاء ، وكأن الواحدةَ منهن هي المصابة بكل شاب من المصابين .
الدرس الخامس والأخير درس في الإيثار والتضحية:(62/10)
لقد ذكرنا هؤلاء الشباب بالرعيل الأول ، الذين رضي الله عنهم وأثنى عليهم بقوله: { - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( } (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - ( - ( { - ( - - (- رضي الله عنهم - - } .
عندما وقع الحادث ، كان الواحد من الشباب ، ينسى نفسه وإصابته ، في سبيل إسعاف إخوانه .
وسائق السيارة يصاب بكسور في ظهره وصدره ، وينزف منه الدم ، ويسقط على الأرض بعد الحادث ، وينادي الشباب ليطمئن عليهم وهو لا يستطيع القيام ، ويقول للمسعفين : اتركوني وأسعفوا بقية الشباب .
ويُنقل للمستشفى ، فكان يئن في الليل ويتألم ألماً شديداً ، ومع هذا فقد كان همه الأول ، الشباب الذين كانوا معه .. وكان يقول: إنَّ فَقْدَ هذهِ الصفوةِ من الشباب خسارةٌ على الأمة !!. الله أكبر .. هكذا يفعل الإيثار في النفوس ، كما ذكر أهل العلم .
قال النووي:"والإيثار في حظوظ النفوس من عادة الصالحين" .. وقال ابن العربي:"من وقى مسلماًً بنفسه فليس له جزاء إلا الجنة ".(62/11)
وقال ابن القيم:"وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ، ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزاً ، ولم يُقَلْ أنه قاتلٌ لنفسه ، ولا أنه فعل محرماً ، بل هذا غاية الجود والسخاء ، كما قال تعالى : { - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( } (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - ( - ( { - ( - - (- رضي الله عنهم - - } ، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم". اهـ وصدق القائل:
يجودبالنفس إن ظن الجبان بها والجودبالنفس أقصى غايةِالجودِ
وختاماً .. فإننا وإن أثنينا على هؤلاءِ الشباب وحُسنِ فعلهم ، ودعونا غيرهم من الشباب إلى الاقتداء بهم ؛ فإننا والله لا نزكيهم على الله ، والحي لا تؤمن عليه الفتنة ، فنحن نطالبهم بالثبات ، واتهام النفس، وتجديد التوبة والاستغفار ، واغتنام الأوقات في بناء النفس والتحصيل .
نسأل الله تعالى أن يثبتهم وجميع شبابنا المهتدين ، وأن يهدي سائر شبابنا إلى أحسن الأخلاق والأعمال ، وأن يجعلهم قرة عين في الحال والمآل . إنه خير مأمول وأجود مسؤول .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(62/12)
خطبة ( حادثة الإفك )
أما بعد .. ضمن مسلسل الإفك المبين ، والبهتان المَهين ، الذي لا يزال يتعرض لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الهدى والنور ، على مر العصور ، نعود بكم إلى الوراء عبر ذاكرة التاريخ، لنعيش وإياكم في هذه الخُطبة تلك الحادثة الشعواء، والجريمة الشنعاء ، التي تناولت أشرفَ بيتٍ عرفته البشرية، إنه بيت النبوة على صاحبه أفضل الصلوات والتسليم .
فكيف وقعت هذه الحادثة؟ وكيف كانت فصولها؟ دعونا نستمع إلى أمنا عائشة رضي الله عنها تصور لنا هذه الحادثة ، والأيام المريرة التي عاشتها بسببها.(63/1)
أخرج الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها درج بها معه، وإنه أقرع بيننا في غزوة ، فخرج سهمي ، فخرجت معه بعد ما أُنزِل الحجاب، فأنا أُحمَل في هودج وأُنْزَل فيه ، (والهودج ما يوضع على سنام الجمل لتحملَ فيه المرأة) ، قالت: فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك ، وقفل أي رجع ودنونا من المدينة ، آذن ليلةً بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت من شأني (يعني قضاء الحاجة) أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عِقد لي من جَزْعِ أَظْفارٍ انقطع ، فرجعت فتلمسته فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يَرْحَلونني فاحتملوا هودجي فرَحَلوه على ظهر بعيري، وهم يحسبون أنني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُثقِلهن اللحم، فلم يستنكر القومُ خفةَ الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جاريةً حديثةَ السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدتُ عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد ، فتيممت منزلي ، وظننت أنهم سيفقدونني ويرجعون إلي، فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني ، من وراء الجيش (أي تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وراء الجيش)، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائماً ، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمَّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتيت الجيش بعد أن نزلوا معرّسين، فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم عبدُ الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا أي مرضت بها شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ويَريبني في وجعي أني لا أرى من النبي - صلى الله(63/2)
عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم فيقول: كيف تيكم ، فذلك الذي يَريبني منه، ولا أشعر بالشر، حتى نَقَهْتُ (أي تماثلت للشفاء) ، فخرجت أنا وأمُّ مسطح قِبَلَ المناصع ، وذلك قبل أن يتخذ الناسُ الكُنُفَ (أي الحمامات) في البيوت ، فأقبلتُ أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا نمشي ، فتعَثَّرَتْ أمُّ مسطح في مِرْطها فقالت: تعس مسطح ، فقلت لها: بئسما قلت ، أتسبين رجلاً شهد بدراً، فقالت: يا هَنْتَاه ألم تستمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فزدتُ مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ، دخل رسول الله فقال: ((كيف تيكم؟)) فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي ، قالت: وأنا حينئذٍ أريد أستيقن الخبر من قِبَلِهما، فأذن لي ، فأتيت أبوي فقلت: يا أمتاه ما يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنيّة هوني على نفسك الشأن، فوالله تعلمي ما كانت امرأةٌ قط وضيئةٌ عند رجلٍ يحبها ولها ضرائرُ إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبت تلك الليلة ، فأصبحت لا يرقأُ لي دمع، ولا أكتحلُ بنوم، ثم أصبحت أبكي ، فدعا رسولُ الله عليَ بن أبي طالب وأسامةَ بن زيد - رضي الله عنهم - حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فقال: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، واسألِ الجارية تخبرْك.
قالت: فدعا رسول الله بَرِيْرَة فقال لها: أي بريرة ، هل رأيت فيها شيئاً يَرِيبك؟ فقلت: لا والله ، فوالذي بعثك بالحق نبياً إن رأيتُ منها شيئاً أَغْمِصُه (أي أعيبه) عليها أكثر من أنها جاريةٌ صغيرةٌ السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن (أي الحيوانات والطيور) فتأكله .(63/3)
قالت: فقام رسول الله من يومه ، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، وقال وهو على المنبر: من يَعْذُرُني في رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمتُ في أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً (أي اتهموا رجلاً) ما علمت عنه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، قالت: فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أَعْذُرُك ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فَعْلَتَنا فيه، فقام سعدُ بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحمية ، فقال لسعدِ بنِ معاذ: كذبت ، لعمر الله لا تقتلُه ، ولا تقدرُ على ذلك، فقام أسيد بن حضير ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت ، لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان ، الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يَقْتَتِلوا، ورسول الله على المنبر، فلم يزل يخفّضهم أي يسكتهم حتى سكتوا ونزل.(63/4)
قالت: وبَكَيت يومي ذلك لا يرقأُ لي دمع، ولا أكتحلُ بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنومٍ، فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً، حتى أظنُُ أن البكاءَ فالقٌ كَبِدِي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت امرأة من الأنصار فأذنتُ لها فجلست تبكي معي فبينما نحن كذلك، إذ دخل الرسول ثم جلس ولم يجلس عندي من يومِ قيلَ ما قيلَ قَبْلَها، وقد مكث شهراً ولم يوحَ إليه في شأني شيء، فتشهد ، ثم قال يا عائشة: فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسيبرّئُكِ اللهُ تعالى، وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسولُ الله مقالته قَلَص دمعي (أي جف دمعي) حتى ما أُحِسُّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، قالت: وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تَحَدَّث الناس به ، واستقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة ، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ والله يعلم أني منه بريئة ، لَتصدقُنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف، نسيت رضي الله عنها اسم النبي يعقوب من هول القضية والفاجعة) قالت: إلا أبا يوسف إذ قال: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) ، ثم تحولتُ فاضطجعتُ على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكنْ والله ما كنتُ أظنُّ أن الله تعالى ينزل في شأني وحياً يتلى، ولَأنا أحقرُ في نفسي مِن أن يتكلم بالقرآن في أمري ، ولكنّي كنت أرجو أن يرى النبي في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها، فوالله ما رام مجلسَه ، ولا خرج أحدٌ من أهل البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه(63/5)
، فأَخَذَه ما كان يأخُذُه عند نزول الوحي ، فسرِّي عنه وهو يضحك ، فكان أولَ كلمةٍ تكلم بها أن قال لي: يا عائشةُ احمدي الله تعالى، فإنه قد برأك الله ، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله ، فقلت: والله لا أقومُ إليه، ولا أحمدُ إلا اللهَ تعالى، هو الذي أنزل براءتي ، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكرٍ الصديقُ -وكان ينفق على مسطحِ بنِ أثاثة ، لصلةِ قرابةٍ منه وفقرِه- والله لا أنفق على مسطحٍ شيئاً بعد ما قال لعائشة ، فأنزل الله تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرَجَعَ إلى مسطحٍ الذي كان يُجْرِي عليه وقال: والله لا أَنْزِعُها منه أبداً .
قالت عائشة: وكان رسول الله سأل زينبَ بنتَ جحشٍ عن أمري ، فقال: يا زينب ما علمتِ وما رأيتِ؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيراً ، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعصمها الله بالورع ، فطفقت أختها حمنةُ تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك)).
تلكم أيها الأحبة هي حادثة الإفك ، ولنا معها دروس وعبر في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .....(63/6)
عباد الله .. هذه القصة العجيبة والحادثة الأليمة تحمل في طياتها العديد من الدروس والعبر . الدرس الأول:
درس في الثبات والصبر على البلاء .. لقد رأينا كيف كان وقع هذه الحادثة الأليمة على أشرف الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى زوجتِه الطاهرة التي كاد قلبها أن ينفطر من الحزن والبكاء، وعلى صاحبِه أبي بكر ، الصديقِ التقي ، السابق الوفي ، أحبِ الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقد عانى أبو بكر وزوجته من الألم والحزن ما لم يعانيه من قبل، حتى قال: أمر لم نتهم به في الجاهلية، أفنرمى به في الإسلام؟
وكان الألم يعتصر في قلب صفوانَ بنِ المعطل ، وهو يُرمَى بخيانة بيت النبوة؟ وهتك عرض من يحبه حباً عظيماً بعد الله عز وجل .
ومع شدة البلاء إلا أنهم جميعاً واجهوه بالصبر والثبات ، حتى أنزل الله تعالى الفرج من عنده .
درس في التثبت في نقل الأخبار والأحكام ، والحذر من الخوض في أعراض المسلمين بغير حجة أو برهان ، أوإشاعة مثل هذه الأخبار غير الموثوقة في المجتمع . بل الواجب على المسلمين أن يظنوا بأنفسهم وإخوانهم خيراً ، ولا يعتمدوا على سوء الظن وقالة السوء التي ينشرها المنافقون في المجتمع ، وأن يطهروا أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم من هذا البهتان العظيم ، ثم إن كانت لديهم البينة على من أشاع ذلك فليطلبوا إقامة الحد الشرعي على من ينقل هذا البهتان من المنافقين أو المخدوعين من المسلمين .
بيان خطر المنافقين على المجتمع المسلم ، كما وقع من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ، ومن وراءه من المنافقين واليهود الذين كانوا يتآمرون على الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما باءت كل محاولاتهم بالفشل لجأوا إلى هذا الأسلوب الخسيس ، بأن يشككوا في أطهر وأشرف بيت عرفته البشرية إلى يومنا هذا ، بل وإلى قيام الساعة .(63/7)
ولا تزال أذناب هؤلاء المجرمين إلى يومنا هذا .. إلى اليوم ونحن نسمع من يرمي أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، من الرافضة وبالباطنية الذين يصرحون في كتبهم ودروسهم الآن أن عائشة زانية ، حاشاها عن ذلك ، بل يقذفونها بالألفاظ الشنيعة والأوصاف البشعة ، التي لا يمكن أن نذكرها في هذا المقام .
وهؤلاء في الحقيقة ، لا حظ لهم من الإسلام ، فهم أول المكذبين بالقرآن الذي برأ عائشة من فوق سبع سموات، وهم أول الطاعنين في عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لطفُ الله تعالى بعباده ، ودفاعُه عن أوليائه ، فقد برأ الله سبحانه وتعالى الصديقة بنت الصديق من فوق سبع سماوات ، وأعلى ذكرها ، وأنزل في براءتها وفضلها آياتٍ تتلى إلى قيام الساعة ، رضي الله عنها ، ولعن من افترى عليها .
ضعف النفوس ، وحاجتها إلى التثبيت من الله تعالى عند الابتلاء .
كان ممن خاض في الإفك مسطحُ بن أثاثة ، وهو من أهل بدر الذين قال الله لهم: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ، وحسانُ بن ثابت ، شاعر النبي ، الذي كان يذب عن الإسلام ويدافع عن رسول الله بشعره ، وحمنةُ بنت جحش أختُ أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها .
وفي المقابل ثبّت الله تعالى أمَّ المؤمنين زينبَ بنتَ جحش وعصمها من الوقوع في هذا الأفك مع وجود الغيرة والمنافسة بينها وبين عائشة رضي الله عنهن جميعاً .
وإذا كان بعض الصحابة قد زلت بهم القدم ، فخاضوا مع الخائضين في الإفك ، فإن غيرَهم من باب أولى .
فالحذر الحذر من الولوغ في أعراض المسلمين ، والحذر الحذر من اللسان ، فإن اللسان كالثعبان ، يهلك الإنسان ، متى ما أطلق له العِنان .
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه شيطان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءَه الشجعان(63/8)
أن هذه الأمة لا تزال مستهدفةً في رموزها ومقدساتها ، وكل ما يتعلق بدينها ، ولا تزال الحملات المغرضة توجِّه سهامَها إلى الإسلام أو القرآن أو جناب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو الطعن في العلماء أو الدعاة أو المتمسكين بالدين ، بتلفيق التهم ضدهم، ورميهم في أعراضهم وفي أنفسهم، ولكن الله يدافع عنهم، ويرد كيد أعدائهم في نحورهم، ويزيد أنبياءه وأولياءه الصالحين رفعة في الدنيا وثواباً في الآخرة، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(63/9)
خطبة (حرب لبنان والموقف من حزب الله)
أما بعد ..
عباد الله ، هل بقي لنا قدرة على الكلام ؟! .. أم أن حناجرنا غصت بالآلام .
لا زالت الجراح تتجدد ، والآلام تتعدد ، على أرض فلسطين و لبنان .. اعتداءات حاقدة ، ومجازر بشعة ، واستباحة للكرامة وللحقوق الإنسانية ، في همجية صارخة من القوات الصهيونية المجرمة ، التي تحتل الأرض المقدسة وتدنسها ، وبدعم ومساندة مباشرة من الإدارة الأمريكية المتطرفة .
لا زلنا نتذكر مجزرة قانا البشعة قبل عشر سنوات ، عندما أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على قرية قانا ، مما أدَّى لتدمير المنازل، ومقتل ما يقارب 109 لبناني، وإصابة العشرات وكان غالبية الضحايا من النساء والأطفال والذين لجأوا لمركز قيادة قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة ، واجتمع أعضاء مجلس الأمن لاستصدار قرار يدين إسرائيل ولكن الولايات المتحدة - كعادتها في توفير الغطاء السياسي والدولي لأي عدوان صهيوني - أجهضت القرار باستخدام حق النقض (الفيتو) .
وفي الأحد الماضي تتكرر المأساة في قانا بصورة أشد مأساوية ، بعد قيام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف القرية مما أسفر عن مقتل 57 مدنيا أكثرهم من النساء والأطفال ، وعرضت القنوات الفضائية المشاهد المحزنة لأشلاء الأطفال والنساء الأبرياء الذين دفنهم ركام المبنى المكون من ثلاث طوابق ، في مشهد تعجز الكلمات عن التعبير عن بشاعته .
ولا تزال الغارات مستمرة حتى صباح هذا اليوم .
ومع الحرب على لبنان ، هذه بعض الوقفات للتذكير والبيان:
الوقفة الأولى) إن مما يزيد الألم في النفوس ، والجرح في القلوب ، هذا الاضطراب والجدل بين المسلمين ، فيما يتعلق بمواقفهم من أطراف النزاع الذين أشعلوا هذه الكارثة في لبنان ، وفاجأوا الأمة بها.(64/1)
في مثل هذه الأحداث المثيرة تحتقن النفوس ، وتشرئب الأعناق ، وتتطلع الجماهير التي ترى أبناءها يقتلون ، ومصالحها تستلب ، وأرضها تستباح ، فتتعلق بكل من يرفع راية المقاومة ضد الكيان الصهيوني وتسير خلفه وتردد شعاراته، دون أن تعي حقيقة الأمر أو تعرف طبيعة الصراع.
لقد اغتر بعض الناس ببعض الشعارات التي رفعت إبان غزو حزب البعث العراقي للكويت، أو خلال ثورة الخميني التي اغتر بها الكثيرون ، ثم تبينت حقيقتها التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام .. وبياناً للحقيقة نقول:
حزب الله (كما يعترف أمينه حسن نصر الله) هو أحد صور الثورة الخمينية على العالم الإسلامي والتي وجدت في جنوب لبنان أرضا خصبة لإقامة نظام خميني آخر فيها .
يقول حسن نصر الله : (فلم تكن الحرب بضواحي البصرة وعلى ساحل شط العرب، إلاّ مقدمةَ حروبٍ كثيرة، أوكلت إليها القياداتُ الخمينيةُ الشابة، التمهيدَ لفَرَج المهدي صاحب الزمان، من غيبته الكبرى، ولبسطه راية العدل، على الأرض كلها، وتوريثِه ملكَ الأرض للمستضعفين) .
ويقول: (إنّ المرجعية الدينية هناك في إيران تشكل الغطاء الديني والشرعي ، لكفاحنا ونضالنا) .
ويقول: (نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران ) .
الوقفة الثانية) إن المقاومة التي يشرف المسلم بالانتساب إليها ويسعى إلى دعمها والوقوف خلفها وتأييدها ، هي المقاومة التي تنطلق من أسس واضحة و منطلقات شرعية صحيحة ، تسعى لطرد المحتل وعودة الأرض لأصحابها ، ولإعلاء كلمة الله، وتسعى لتطبيق شريعته دون أن يكون لها تعلقات مشبوهة وارتباطات مريبة .(64/2)
الوقفة الثالثة) ونحن نشاهد ما اقترفته الأيادي الصهيونيَّة الآثمة من قتل المئات ، والدمار والخراب الذي بلغت خسائره مليارات الدولارات ، وتحطيم البنى التحتيَّة والفوقيَّة في مقابل خطف جنديين يهوديين ، نقول: إن حساب العواقب ، وإدارك موازين القوى مهم للغاية ، ولا شك أن التهور لا يجوز في مثل وضع الأمة الآن ، وخاصة من قبل الاحزاب التي تحسب حساباتها الخاصة بعيداً عن النظرة المركزية للأمة او للدول التي تعيش فيها .
هناك بون شاسع مابين معانى التخاذل والحكمة ، والكر والفر ، والحنكة والذكاء ، ومابين الذي نراه حالياً على أرض الواقع من فوضى وهمجية وسوء تخطيط لعواقب الأمور ، ولايفهم ذلك إلا العقلاء ، فليس كل جبهة ضد إسرائيل صائبة ومنصورة .
الوقفة الرابعة) في هذه الأحداث ، ليس من العدل ولا من الحكمة أن يحشر الناس في زاوية ضيقة و أن يخيروا بين خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع حزب الله أو مع إسرائيل .
إن المسلم ، وإن كان يفرح بكل ما يقع في العدو الصهيوني من خسائر و جراحات ونكايات ، فلا يلزم من هذا أنه يؤيد كل الأطراف المقاومة في لبنان ، أو يقف معها في خندق واحد ويشاركها مشروعها وأهدافها .
كما أن انتقاده المقاومة لا يعني أبدا أنه يقف مع العدو الصهيوني ، أو يسوغ له عدوانه الذي يقع في حقيقة الأمر على الشعب اللبناني الأعزل .
إننا نختلف مع حزب الله، وهو خلاف جوهري وعميق كما هو خلافنا مع الشيعة ، وإن كان عدونا الأكبر اليوم هم اليهود والصهاينة المجرمين الذين لم يفرقوا في عدوانهم حتى بين الأطفال والمحاربين .
إن قضايا الصراع تحتاج إلى نظرة ثاقبة تقدر المصلحة الكبرى للأمة حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب مفسدة صغرى ، او ترك مصلحة دنيا ، أو تحييد عدو لم يحن موعد عدائه ، او التغاظي عن العداء الذي لا يفيد الأمة .(64/3)
إن وجود الاختلاف مع فئة لا يعني استمرار مناصبة العداء لها في كل وقت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن تحالف المسلمين مع النصارى في مقابل عدو مشترك ، وقياس الأولى يقتضي إمكانية التحالف مع العدو الاقل خلافا من النصارى الذين لا يختلف في كفرهم.
وقد جاءت الشريعة بجواز التحالف مع النصارى في رد عدوان اليهود والمشركين او العكس ، وسمى الله تعالى انتصار الروم على الفرس بـ " نصر الله " كما في سورة الروم ، لأن نتائج المعركة هي في صالح المسلمين ، او لأنهم اقرب من حيث الديانة والتاريخ إلى الملة الاسلامية .
وفي السياسة الشرعية التي يقدرها العلماء الراسخون باب واسع في تقدير المصالح ودفع العدو الأشد بالعدو الأخف ، والفرح بانتصاره ، بل ونصرته مادياً ومعنوياً إذا كان انتصاره يصب في مصلحة المسلمين . مع ملاحظة عدم اغترار العامة به ، أو وقوع الفتنة بين المسلمين .
ولاشك أن الرافضة خطرهم عظيم على أهل الإسلام ويشهد بذلك التأريخ وكتبهم وأقوال علمائهم . ولكن العدو الأخطر في الوقت الحاضر والأشد فتكاً هم اليهود ولاشك .
إننا نختلف مع الشيعة في أصول عظام من أصول الدين ، وقد كفر أئمةُ الإسلام علماءَ الرافضة الذين يتبنون عقائدهم الكفرية بالإجماع ، ولولا وجود العذر في حق عامتهم بالشبه وعدم قيام الحجة عليهم لم يختلفوا في كفرهم. لكننا نقول إن الأصل فيهم الإسلام .. ثم إن أهل لبنان من سنة وشيعة مظلومون ، وقضيتهم عادلة أمام ظلم اليهود وبغيهم ، وقد أمرنا بنصر المظلوم ولو كان كافراً .
وعلى هذا ، فإنه يجوز للمسلم أن يقف مع المقاومة اللبنانية، ويجتمع معها ضد اليهود ، بشرط عدم الانضواء تحت رايات حزب الله الضالة ، ولا الرضى بعقائده الباطلة .
لا بد من التفريق بين التحالف والتناصر واجتماع المصالح ضد عدو مشترك ، وبين الولاء القلبي والتوافق العقدي .(64/4)
ومما يدل على ذلك قول الله تعالى : (( الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم (5) )).
وقد دلت الآيات على جواز فرح المؤمن بنصر الكافر على الكافر لمصلحة الإسلام . فلو وقعت حرب بين دولة كافرة شديدة العداوة للإسلام وبين دولة كافرة أخرى ، فلا شك أن كل مسلم عاقل سيفرح بنصر الدولة الأخف عداوة ، وهذا الفرح لا يدل على موالاتهم ، ولا محبة التمكين لهم في الأرض .
الوقفة الخامسة) إن من دين المؤمن وأخلاق المسلم نصرة المظلومين والسعي في فكاك المأسورين و عون المحتاجين في كل مكان وزمان ، وهذا الأمر يقوم به المسلم دون غفلة منه عن طبيعة الأحداث وحقيقة المشاركين فيها .
لا بد من الوقوف مع المنكوبين و المستضعفين في فلسطين ولبنان والعمل على دعمهم وإغاثتهم، والتخفيف من محنتهم بكل أنواع الدعم المعنوي والمادي .
الوقفة السادسة) على أهل السنَّة في لبنان أن يستثمروا الوقت الراهن لاتخاذ خطوات جادّة تعمل على النهوض بحال أهل السنة دعوة وعلماً وتوعية وإعداداً للجهاد في سبيل الله ، لا سيما وأنهم تحت هذا العدوان اليهودي، وأن يكوِّنوا لأنفسهم راية واضحة ليست جاهليَّة يقاتلون تحت لوائها .. نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، ويعز جنده ، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ..
الوقفة السابعة والأخيرة ، مع لبنان ... تلكم البلاد الخضراء ، والأرض الطيِّبة ، التي خرج من أراضيها علماء أفذاذ، ومفكرون نجباء، كالأوزاعي والبقاعي، ومحمد رشيد رضا وغيرهم .(64/5)
هذه البلاد الطاهرة الزكيَّة ، التي أريد لها في هذا الزمن أن تكون بؤرة للفساد ، ومصدراً لثقافة العري ، ومرتعاً للعهر والخنا .. بعدما فتح صانعو القرار فيها ذراعهم لكل الوافدات الغربيَّة بخيرها وشرِّها ، وحققوا لأهل الهوى والرذيلة والشهوات أمانيهم ، وأظهروا لبنان بهذا المظهر ، حتى صارت لا تذكر إلا ويذكر الإنسانُ الفسادَ الجاري فيها، والمغنين والمغنيات والفنانين والفنانات .
يشترك في ذلك الفساق من أهل السنَّة وللأسف، وللنصارى قصب السبق في ذلك، ولغيرهم من الدروز والطوائف الباطنيَّة الشيء الكثير .
ألا يجدر بنا كمسلمين أن تكون لنا وقفة مراجعة مع النفس ، لماذا سلَّط الله علينا الأعداء ، فأذاقونا وإخواننا في لبنان مرَّ البلاء ؟ لماذا عمَّ البلاء والقتل لجميع أهل لبنان صالحهم وطالحهم ؟
لا بد أن نعلم عباد الله أنَّه ما نزل بلاء إلا بذنب ، وما رفع إلاَّ بتوبة ؛ والله تعالى يقول في كتابه الحكيم:( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) ، ويقول:(أولمَّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم ) .
إننا والله لا نَشمِتُ بإخواننا هناك ، فهم إخواننا ، لهم ما لنا وعليهم ما علينا ... بل إننا نخشى على أنفسنا في كثير من بلاد المسلمين أن نصاب بما أصيب به إخواننا لكثرة ذنوبنا ومعاصينا ، ولعدم نصرتنا لإخواننا في العديد من بلاد المسلمين المنكوبة والمحتلة .
ومع هذا فإنَّا نقول : ليسوا سواءً ، فقتلانا من المسلمين الموحدين في الجنَّة بإذن الله ، وقتلى الصهاينة في النار... وإنَّنا نرجو الله أن يجعل من هذه الكوارث والملمَّات تكفيراً للسيئات .... وأن يجعل من هذه الحروب صعقاتِ إحياءٍ لا إماتة ... وسبباً من أسباب الرجوع إليه و الانطراح بين يديه.(64/6)
عباد الله ... إن هذا البلاء لا يرفع إلا بدعاء صادق ، وقلب يعجُّ إلى الله بالتوبة والتضرع ، كما قال تعالى :(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون, فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ... ) .
عباد الله .. صلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(64/7)
خطبة ( حصار واقتحام غزة )
الحمد لله الأحد الواحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو المستعان على ما نرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد عظم البلاء وقلّ المساعد، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد عظم الخطب والكرب زائد، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل أسوة وأكرم مجاهد، صلى الله عليه وعلى آله أولي المكارم والمحامد، وصحبه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بأحسن السبل وأصح العقائد، وسلم تسليماً كثيراً.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً .....
أما بعد عباد الله .. ولا زالت الجرح ينزف على أرض الأقصى المبارك .
وكانت بداية الأحداث الأخيرة ، عملية جهادية مباركة جاءت انتقاماً لدماء الشهداء والأبرياء التي أزهقت في الآونة الأخيرة وكان آخرها مجازر شاطيء غزة وغيرها .
أسفرت العملية الجهادية عن مقتل جنديين من جنود الاحتلال واختطاف ثالث وجرح سبعة آخرين، في عملية أكثر جرأة وتنظيماً وأعمق تخطيطاً منذ اندلاع الانتفاضة الأولى .
جن جنون قوات الاحتلال المجرمة أمام هذه العملية ، فنشرت قواتها ، وحاصرت قطاع غزة حصاراً شديداً بهدف تخليص الجندي المجرم الأسير ، وبدأت الطائرات الإسرائيلية تقصف المباني والمنشآت ، ودمرت محطة الكهرباء في غزة تدميراً شاملاً ، وحتى دور الأطفال المعاقين لم تسلم من الهمجية اليهودية ، فطال القصف جمعية أطفالنا للأطفال الصم . وبدأت القوات اليهودية الحاقدة بالزحف إلى قطاع غزة واقتحامه بكل همجية .
مشاهد مرعبة ومآسي مروِّعة حيث المجازر والمجنزرات، والقذائف والدبابات، جُثثٌ وجماجم، حصار وتشريد، تقتيلٌ ودمار، في حرب إبادة بشعة، وانتهاك صارخ للقيم الإنسانية، وممارسات إرهابية تسطّرها دماء الشهداء والأبرياء .
مبانٍ دمِّرت، وبيوت هُدّمت، وأنفس أُزهقت، ونساءٍ أيِّمت، وأطفالٍ يُتِّمت .(65/1)
كل ذلك يحدث على مسمع من العالم ومرآه، وكأن المسلمين لا بواكي لهم، أين العالم بهيئاته ومنظماته؟! أين مجلس أمنهم وهيئة أممهم؟! أين هم من بكاء الثكالى، وصراخ اليتامى، وأنين الأرامل، واغتصاب الأرض، وتدنيس العرض؟! أين شعارات ومنظمات حقوق الإنسان الزائفة؟! وأين هي المقاطعات السياسية والاقتصادية على مجرمي الحرب والمستهترين بالأعراف الدولية والقرارات العالمية؟!
إنها مأساة يعجز اللسان عن تصويرها، ويخفق الجنان عند عرض أحزانها، ويعيَى البيان عن ذكر مآسيها، فرحماك ربنا رحماك، واللهم سلم سلم.
إني أنادي والرياح عصيبة والأرض جمرٌ والديار ضِرام
يا ألف مليون ألا من سامع؟! هل من مجيب أيها الأقوام؟!
قد بُحّ صوتي من ندائكِ أمتي هلا فتًى شاكي السلاح هُمام؟
لقد نكأت الأوضاع المستجدة الجراح، فأين منا خالد والمثنَّى وصلاح؟! يا ويح أمتِنا ماذا أصابها؟! أيطيب لنا عيش، ويهدأ لنا بال، ويرقأ لنا دمع، ومقدساتنا تئنّ، وإخواننا يقصفون ويقتلون؟
إلى متى الذل والمهانة والضعف والهزيمة والاستسلام؟! أما آن لهذا الهوان أن ينتهي، وللضعف والذل أن ينقضي .
أين غضبة المعتصم .. حينما طغى الجنود وقادتهم وأحرقوا البلاد ودنسوا المساجد وتجبروا في بلاد المسلمين وثغورها وهاجموا إحدى بلدان المسلمين فانتهكوا الأعراض وسبوا الديار, ودنسوا المقدسات وشردوا الأهل, لكن امرأة واحدة رأت بارقة أمل في أحد قادة المسلمين فصرخت: وامعتصماه, فلبى صرختها خليفة المسلمين حينذاك المعتصم لبيك أختاه, وحين حاول المنجمون والمثقفون والسياسيون أن يثنوه عن عزمه ضرب بكلامهم عرض الحائط فذهب بنفسه إلى تلك البلاد وحرَّرها وأنقذ أهلها, ثم حارب الروم حتى وصل إلى عمورية فأحرقها ونصر المسلمين, فسطر التاريخ نُصرتَه تلك بمداد لا تنسى,وذهبت القوافي تتبارى في بيان النصر ، فكان قول أبي تمام:
السيفُ أصدقُ إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعب(65/2)
أين الرواية بل أين النجومُ وما صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
وخوَّفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكبُ الغربي ذو الذيب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ ما دارَ في فلكٍ منها وفي قطب
أما اليوم ، فنشكو إلى الله خذلان أمة الإسلام عن نصرة بعضها البعض, وكثير من النساء تصرخ ولا مجيب, الأعراض انتهكت, والديار أحرقت, والمقدسات دنست.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمْسك المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عاتبًا ببقايا كبرياءِ الألمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظلِّ الحرمِ
رُبَّ وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تُلامس نخوة المعتصم
عباد الله، ماذا يؤكدّ قرآننا وسنة نبينا عن صراعنا مع اليهود؟! ماذا يدوِّن تأريخنا عن هذه القضية وأطرافها؟! .
إن الصراع بيننا وبين اليهود صراع عقيدة وهوية ووجود.
قال الحق تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ) ، وقال سبحانه: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .
اقرؤوا التأريخ لتدركوا أن يهود الأمس سلف سيِّئ، ويهودَ اليوم خلف أسوأ، كفَّارُ النعم، ومحرِّفو الكلم، عُبَّاد العجل، قتلة الأنبياء، مكذِّبو الرسالات، خصوم الدعوات، شُذَّاذ الآفاق، حثالة البشرية، (مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) .
هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متصلة من اللؤم والمكر والعناد، والبغي والشر والفساد، (وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) .(65/3)
حلقات من الغدر والكيد، والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية، وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيا، وحاولوا قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - فعَمِلوا له السحر، ودسّوا له السمّ .
وهاهم اليوم ، يريدون إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وأن تكون القدس عاصمةً لها، ويطمعون إلى هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم على أساسه، يريدون إبادة دولة التوحيد والقرآن، وإشادة دولة التوراة والتلموذ على أنقاضها، عليهم من الله ما يستحقون. فعلى مبادرات السلام السلام، مع قومٍ هذا ديدنهم عبر التأريخ، وتلك أطماعهم ومؤامراتهم.
أمةَ الجهاد والفداء، إن واجب المسلمين الوقوف مع إخوانهم في العقيدة في فلسطين وغيرها، ودعمهم مادياً وعينياً ومعنوياً، والإنفاق في سبيل الله .
أمة الإسلام .. أنه لا يستردُّ مجدٌ ولا يُطلب نصرٌ إلا بالعودة إلى دين الله ، فليس يصلُح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولها، ولن يُحرَّر الأقصى إلا بالقيام بما أمر الله به ووصى، ولن تُسترَدَّ المقدسات إلا برعاية العقيدة والشريعة والمكرمات، في محافظةٍ على سياج الفضائل، ومجانبةٍ للشرور والرذائل، في محافظةٍ على قيم أبناء المسلمين وفتياتهم، ومجانبَتهم دسائسَ اليهود، ومسالك الشر والفساد، والسفور والتبرج والاختلاط.(65/4)
فيا أيها المسلم ، اتق الله ، فأنت جزء من جسد هذه الأمة، وجندي في معسكرها .. إن اقترابك من الله بأداء ما افترضه عليك اقتراب من النصر، وإن ابتعادك عن الله باقتراف ما حرمه عليك ابتعاد عن النصر، قال الله عز وجل: (أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ) .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وبسنة نبيه .....
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله .. جعل قوة هذه الأمة في إيمانها,وعزها في إسلامها, والتمكين لها في صدق عبادتها, وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, دعا إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد ..عباد الله.
فلسطين ، جرح الأمة المتجدد ، فماذا فعلنا لها؟ ماذا قدّمت الأمة من تضحيات؟ ماذا فعلت وحققت بالتنازلات؟! .
أي معنى لأمةٍ تُقتَل شعوبها ، وتُنتهكُ حرماتها ، وتُدنَّسُ مقدساتها ، وتنهبُ باسم السلام والشرعية الدولية ثم ترى كثيرًا من أفرادِ هذه الأمة وهو عاكفٌ على اللهو والعبث, فهؤلاء يتابعون المباريات الرياضية ، وآخرون يقيمون على الحفلاتٌ الغنائية, في سهوٌ وغفلةٌ ، وكأنَّ ما يحدث لا يَمَسُّ أرضهم ، وكأن الذين يقتلون ليسوا بإخوانهم .
أين دور قادة المسلمين وولاة أمورهم؟ .
أين دورُ المثقفين والكُتاب في عرض القضية وتوضيح أبعادها .. هل يكون روبرت فيسك الكاتبُ البريطاني أكثرُ مصداقية من كثير من كتابنا حين يصف اليهود بالخونة وما يُسمى السلام زائفًا والإعتداء من جهة إسرائيل ؟!
أين دورُ العلماءِ وهم قادة الناس ومُوجهوهم, ويَنتظر منهم المسلمون النصرة لإخوانهم ، ووالله لا معنى لعالمٍ أو طالب علم يكون في وادٍ ، وأمته وقضاياها في وادٍ آخر .(65/5)
أين دور التجار وأصحاب الأموال في دعمهم لقضية فلسطين .. إين دور قنواتنا الإعلامية العربية التي ملأت فضاءنا؟ هل برامجها المعروضة تدلُّ على مصاب الأمة في أبنائها وفاجعتها في مقدساتها .
سبحان الله .. في ذات الوقت التي تعبث فيه مروحيات اليهود وطائراتهم في سماء فلسطين وتقصف الآمنين ترى جل هذه القنوات وهي ترقص على جراحات الأمة عبر عروضها الغنائية الفاضحة, ومسابقاتها الفنية والكروية .
إن المسلم الغيور لا يملك إلا أن يقول لإخوانه وأهله في الأرض المباركة فلسطين: يا أحبتنا ، عُذراً إن وجدتم من كثير من أبناء أمتكم التخاذل والتثاقل، لََكَم أحزننا ما أصابكم ، ولكم أرَّقنا أنَّ أقصانا أسيرٌ بأيدي البغاة الطغاة ، فصبراً صبراً أيها المجاهدون المرابطون .
لقد سَطرت بطولاتكم المباركة بأحرف العز والشرف ملحمةً من أروع الملاحم ، لقد أعدتم الأمل في النفوس، فثِقوا بنصر الله لكم، متى ما نصرتم دينه، قلوبنا معكم، والمال نبذله لكم، فواصلوا دربَكم، والله ناصركم، وهنيئاً لكم تقديمُ الأرواح رخيصةً في سبيل الله، ودعاؤنا أن يتقبل الله قتلاكم شهداء، وأن يكتب لمرضاكم عاجل الشفاء، وأن يحيينا وإياكم حياة السعداء . لا تيأسوا من روح الله، فالنصر قادم بإذن الله، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ) ، (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
اللهم صل على محمد ...(65/6)
اللهم ربنا عزَّ جارُك وتقدست أسماؤك, اللهم لا يردُّ أمرك, ولا يُهزم جندك, سبحانك وبحمدك, اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وكل مكان, اللهم آمن خوفهم, وفك أسرهم, ووحد صفوفهم, وحقق آمالنا وآمالهم وبارك في حجارتهم, واجعلها حجارة من سجيل على رؤوس اليهود الغاصبين, اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة, واجعل جهادهم عبادة اللهم احفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم, وطهر المقدسات من دنس اليهود المتآمرين والمنافقين والمتخاذلين, اللهم فرج هَمّ المهمومين, وفُكَّ أسر المأسورين والمعتقلين, وكن لليتامى والأرامل والمساكين, واشف مرضاهم ومرضى المسلمين, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .(65/7)
خطبة ( حقوق وواجبات الإمام والبيعة )
الحمد لله ذي العز والجبروت، الحي الذي لا يموت ، بيده مقادير الخلق ، كتب أعمارهم وآجالهم وأرزاقهم قبل أن يخلقهم، وهو على كل شيء قدير ، أحمده وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار .
عباد الله .. ومات الفهد رحمه الله .. وتولى عبد الله سدده الله .. وتلك سنة الله ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) .
ولنا مع ما مضى من أحداث دروس ووقفات :
الوقفة الأولى) على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن مما تميزت به هذه البلاد المباركة ما وقع في مراسم التشييع والدفن لجنازة الملك فهد رحمه الله تعالى وفق الكتاب والسنة ، من الغسل والتكفين والصلاة والدفن .
فقد شاهد ملايين الناس هذه التفاصيل الشرعية من غير غلوِّ مُبْتَدِعٍ أو غوايةِ قبوريِّ مفتون ؛ فلا عرباتٍ ولا مدافعَ ولا موسيقى حزينةٍ ولا عقودَ بناءٍ للقباب ، وهي أمور لن تعجز عنها ميزانية من وسَّع الحرمين لو أراد هو أو أهله ذلك ، لكننا شاهدناه بعد أن أحضره أهله ، مسجى على نعش خشبيٍ ، يحمل اسم المستشفى الذي توفي فيه .. مغطى بعباءةٍ رجالية .. وقد رفعه أهله على أعناقهم إلى المسجد ، ومنه إلى المقبرة حيث ووري التراب .
لقد كانت هذه المشاهد أشبه برسالة عملية ، اطَّلع بها المسلمون على يُسْرِ هذا الدين وسماحته ، ومساواته بين الناس . فلله الحمد والمنَّة .. وجزى الله خيرا كل من سلك سبيل الكتاب والسُنَّة .
الوقفة الثانية ) رجال يصنعون التاريخ:(66/1)
الرجل العظيم الذي يسهم في صنع التاريخ ، هو الذي يُورِّث أعمالاً تشهد لمآثره .. وإنَّ من أعظم مآثر الملك فهد - رحمه الله تعالى - إصدار النظام الأساسي للحكم ، فهو بحق مفخرة تستحق الذكر ، فقد تضمن النظام مقاصد الولاية العظمى في الإسلام ، ونصت مواد النظام على وجوب العناية بها ؛ بالتزام مرجعية الكتاب والسنة ، وسياسة الأمة سياسة شرعية ، والقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في مواد غاية في الوضوح ودقّة الصياغة .
ثم كانت خدمة الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى ، والعناية بالجاليات المسلمة والمراكز الإسلامية ، وتأسيس مجمع الملك فهد للمصحف الشريف ، وهذه الأعمال وغيرها كانت تطبيقاً عملياً لهذا النظام الذي يقوم على الشريعة الإسلامية .
ولا يزال الخير في هذه البلاد ، فقد استبشر المؤمنون وهم يستمعون إلى ولي أمرهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يعاهدهم بالسير على هذا النهج ، ويسأل الله عز وجل أن يقويه على تنفيذه ، ويطالبهم بإعانته عليه .
ومن هنا ، يجب على الأمة كلها ، أفراداً ومؤسسات ، أجهزة ووسائل إعلام ، أن تكون معينة لخادم الحرمين وفقه الله في تنفيذ ما عاهد عليه ، وأن تعدل عن كل ما يخالف كتاب الله عز وجل ، وتلتزم المنهج الإسلامي الذي تقوم عليه هذه الدولة المباركة .
لا مكان في هذه البلاد المباركة لدعوات البدعة ، ولا لدعوات العلمنة والليبرالية ، ولا لدعوات الغلو والتطرف بشتى أنواعه ، بل هي بلاد العقيدة الوسطية السمحة .
الوقفة الثالثة : الإمامة حقوق وواجبات :
عباد الله .. إننا حينما نتحدث عن الإمامة أو الرئاسة والولاية ، فإننا نتحدث عن قضية مصيرية من القضايا الكبرى للأمة ، بل هي ضرورة لكل أمة .
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا(66/2)
ودين الله تعالى لا يمكن أن يقوم إلا في ظل دولة تحكم بالإسلام، وتنفذ شريعته ، ولا يمكن أن تقوم الدولة الإسلامية بلا إمام وحاكم يديرها، ولهذا كان من الواجب على المسلمين أن ينصّبوا إماماً عليهم، وهذا بإجماع العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وِلاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس" أهـ.
وقد شرع ديننا العظيم ما للحاكم من حقوق ، وما عليه واجبات، فأوجب على الأمة أن يسمعوا للحاكم ويعينوه على الحق وينصحوه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر . كما أوجب على الحاكم أن ينشر العدل بين الناس وأن يحكّم فيهم شريعة الله، وأن يحمي حوزة الأمة والدين ، وأن يرفق برعيته، فلا يكلفهم ما يشق عليهم، وأن يوفر لهم ما يحتاجونه من طعام ولباس ودواء ووظيفة وغير ذلك من الحاجيات .
وقد استوفى العلامة ابن جَمَاعَةَ الكناني رحمه الله تعالى الحقوق الواجبة للسلطان ، والحقوق التي تجب للرعية عليه فقال فيما ملخصه : (( .. أما حقوق السلطان العشرة : فالحق الأول : بذل الطاعة له ظاهرا وباطنا .. قال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " السمع والطاعة على المسلم فيما أحب – أو كره - ما لم يؤمر بمعصية " رواه الشيخان من حديث ابن عمر.
الحق الثاني : بذل النصيحة له سرا [ وقد روى عياض بن غنم وصححه الألباني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه ].
الحق الثالث : القيامُ بنصرتهم باطنا وظاهرا .(66/3)
الحق الرابع : أن يُعرف له عظيم حقه وما يجب من تعظيم قدره فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام .
الحق الخامس: إيقاظه عند غفلته .
الحق السادس : تحذيره من عدو يقصِدُهُ بسوء .. ومن كل شيء يخاف عليه منه .
الحق السابع : إعلامُهُ بسيرة عماله الذين هو مطالبٌ بهم .
الحق الثامن : إعانته على ما تَحَمَّلَهُ من أعباء الأمة .
الحق التاسع : رد القلوب النافرة عنه إليه، وجمع محبة الناس عليه .
الحق العاشر : الذب عنه بالقول والعمل .
وأما حقوق الرعية العشرة على السلطان :
فالأول : حماية بيضة الإسلام والذب عنها ، في القطر المختص به إن كان مفوضا إليه فيقوم بجهاد المشركين ودفع المحاربين والباغين .
الحق الثاني : .. رد البدع والمبتدعين .. ونشر العلوم الشرعية .
الحق الثالث : إقامة شعائر الإسلام كفروض الصلوات والجمع والجماعات .
الحق الرابع : فصل القضايا والأحكام ، بتقليد الولاة والحُكام لقطع المنازعات بين الخصوم وكف الظالم عن المظلوم .
الحق الخامس : إقامة فرض الجهاد .. إن كان بالمسلمين قوة.
الحق السادس : .. يسوي في الحدود بين القوي والضعيف والوضيع والشريف .
الحق السابع : جبايةُ الزكوات والجزية من أهلها .
الحق الثامن : النظر في أوقاف البر والقربات .
الحق التاسع : النظر في قسم الغنائم وتقسيمها .
الحق العاشر والأخير : العدل في سلطانه قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ))
عباد الله .. ما أحوجنا وبلادنا مستهدفة من أعدائها أن نصفّي قلوبنا ، ونكون يدًا واحدة مع ولاة أمرنا وعلمائنا.
فتجتمعَ القلوب قبل الأبدان في بناءٍ متماسك ويدٍ واحدة وجسدٍ واحد ، في مجتمعٍ تسوده المحبة والإخاء والإيثار والصفاء .
نسأل الله أن يجمع الأمة .. ويرفع الغمة .. ويسد الخلة .. وينصر الملة ، إنه خير مأمول ، وأجود مسؤول . والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...(66/4)
عباد الله .. وإذا عُلمت منزلة الإمامة والإمارة من الدين، فههنا وقفة رابعة وأخيرة مع البيعة .
فالإمامة لا تتم شرعاً دون عقد البيعة، وهذا العقد يكون بين طرفين ، تنيب الأمة بموجِبه الإمام في إدارة شؤونها .
ولهذا ، أوجب الإسلام على الأمة البيعةَ للإمام الجديد الذي تثبت ولايته ، إما بتولية من قبله له، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في توليته الخلافة من بعده لعمر ، أو بتوليته من قبل أهل الحل والعقد كما فعل الصحابة ممن خصهم عمر باختيار الخليفة عثمان رضي الله عن الجميع .
وإن من نعم الله على هذه البلاد ما جرى من انتقال المُلك إلى ولي العهد بطريقة شرعية واضحة ، عيَّن فيها الملك الجديد ولي عهده ، وسارت الأمور بهدوء وحكمة ، واجتماع للكلمة ، فلله الحمد والمنّة .
فإذا ثبتت ولاية الملك لزم جميع أهل البلد مبايعته والسمع والطاعة له .
فمن كان من أهل الحل والعقد والشهرة فبيعته بالقول والمباشرة باليد إن كان حاضراً، أو بالقول والإشهاد عليه إن كان غائباً، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن دينار قال لما بايع الناس عبد الملك بن مروان كتب إليه عبد الله بن عمر: إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، إني أُقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت ، وإن بنيّ قد أقروا بذلك .
وأما بقية الناس فليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل أحد، يقول القرطبي : ليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإن هذا الاشتراط مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم . أ.هـ
فمن هنا نعلم عباد الله أنه بمبايعة وجهاء هذه البلاد من أمراءَ وعلماءَ وأعيانِ قبائلَ وأسرٍ ، فقد ثبتت البيعة للملك في عنق الجميع ووجب على جميع الناس في هذه البلاد السمع والطاعة له وعدم الخروج أو الافتيات عليه .(66/5)
والبيعة ميثاق غليظ، وحكمها ومعناها عام لازم للرعية كلها، من باشرها بمصافحة يمينه وصفقة يده، فقد أعلن وباشر، ومن لم يمكنه ذلك فليعقد قلبه على ما بايعت عليه جماعة المسلمين .
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)).
إن البيعة عباد الله حكم شرعي ، وليست دعاية سياسية ، ففي حديث عبادة المتفق عليه ((بايعْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)) .
ولهذا نقول : إنَّ ولاءنا لأئمتنا وولاة أمرنا ، ولاء ديني إسلامي ، يوجبه الدين في المنشط والمَكْرَه .. وليس ولاء مصلحياً لا يتحمل نقص المصلحة الشخصية في المنشط ، فضلاً عن الولاء في المَكْرَه.
ألا فالزموا عباد الله نهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - واتبعوا طريقة صحابته ، وعليكم باجتماع الكلمة ، وألحوا في الدعاء لولي الأمر أن يلهمه الله التوفيق في قوله وعمله ، وأن يهيء له البطانة الصالحة ، التي تدله على الحق وتعينه عليه ، فقد ثبت عند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء ، إن نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(66/6)
خطبة ( حقيقة تحرير المرأة )
الحمد لله خلق وأحكم ، وأنعم وتكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، أرحم وأعلم، وأرأف وأحلم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ وفهّم، وحذر وعلّم، صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ومن سار على دربه الأقوم ، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) .. عباد الله .
نذر وربِّك بالمصائب تُْنِذرُ *** وخطىً على درب الهوى تتعثر
فتنٌ كليلٍ مظلمٍ يندى لها *** منا الجبين فنارها تتسعّر
ما كنت أحسَبُني أعيش لكي أرى*** بنتَ الجزيرة بالمبادئ تسخر
جَهِلَتْ بأنا أمةٌ محكومةٌ *** بالدين يَحْرُسُها الإلهُ ويَنْصُر
جَهِلَتْ بأنَّا أهلُ دينٍ ثابتٍ *** في ظِلِّه لا يُسْتَحَلُّ المُنكَر
أختاه يا بنت الجزيرة هكذا *** وخنادقُ الباغين حولَكِ تُحْفَر
أو هكذا والملحدون تجمعوا *** من حولنا والطامعين تجمهروا
نعم .. لقد جاؤوا يركضون يبغونكم الفتنة، ويتربصون بكم الدوائر، في خطوات ماكرة، ودعايات مضللة تستهدف المرأة المسلمة في آخرِ معاقل الإسلام وأمنعِها .
إنهم يعملون على تغريب المجتمع وتوجيهه إلى حياة الفوضى الفكرية والأدبية والأخلاقية ، ابتداء بأن السفورَ وكشفَ الوجه والاختلاطَ جائزٌ شرعاً، وانتهاءً بأن خيرَ الهديِ هديُ أوربا وأمريكا.
لقد تجاوزوا مقام الشرع الأعظم ، بمنظارهم الأسود وتفكيرهم الأجوف، حينما وصفوا المرأة العفيفة بأنها متخلفة ومتعصبة، وبأن التقاليد والأعراف تتحكم فيها، وتعرقل تفاعلها مع المجتمع .
لقد دفع أدعياء التحرر المرأةَ إلى أحط المواقف، وزجوا بها في أشد المخاطر، وقادوها إلى أسوء حال ، فلم يحسنوا خلقا ولم يهذبوا نفسا، ولم يقوموا اعوجاجا، وإنما كل الذي عملوه أو صاغوه نساء مستهترات ضائعات، يسخرن من المقدسات، ولا يبالين بقيم ولا بأعراض .(67/1)
لقد نادى أدعياء التحرر بتحرير المرأة، وصدقوا ، فهم أول من يحررها من الفضيلة والشرف والحياء .
زعموا تحريرها فاستبعدوها، وادعوا العطف عليها فأهلكوها، وزعموا إكرامها فأهانوها، سجنوها بأيديهم ثم وقفوا على باب سجنها يبكون ويندبون شقاءها .
إن المرأة اليوم في بلادنا مستهدفة بمؤامرة نفذت فصولها في بلاد مسلمة أخرى ، فأنتجت فوضىً اجتماعية، وأخلاقاً منهارة، وتجرعت المرأة هناك الغصص والآلام .
لقد أصبحنا ننام ونستيقظ على خطوات عملية تصحبها حملة إعلامية، هدفها إخراجُ المرأة من بيتها تحت أي شعار، وزجُّها في مجتمعات الرجال تحت أي ستار، يريدونها أن تتجرد من حيائها وحجابها لتصبح ألعوبة بأيديهم، وأداة لتحقيق مآربهم، فتنهار القيم وتسقط الأخلاق ، لتسقط الأمة.
لقد بدأت خطواتُ دعاةِ السفور: بالدعوة إلى كشف الوجه، وهو ما تحاول بعضُ وسائلِ الإعلام فرضَه وجعلَه واقعاً من خلال المجلات والأفلام والبرامج، ثم امتدت الخطوات إلى اللقاءاتِ المختلَطة ، ثم إلى السفر من غير محرم؛ بدعوى الدراسة في الجامعة ، أو حضورِ المؤتمرات والندوات، ثم زُيِّنت الوجوهُ المكشوفةُ بأدوات الزينة، وكل هذه الخطوات أصبحنا نراها في واقعنا ، وتعرض في صحفنا ومجلاتنا ، حتى انتهت أخيراً إلى الدعوة إلى اختلاط المرأة بالرجل بالعمل في المحلات التجارية .
عباد الله .. إن أول ما يجب أن تعلمَه الأمةُ رجالُها ونساؤها: إن الذي شرع الشرائع ووضع الحقوق وحد الحدود هو الله جل جلاله بحكمته وعدل، وهو القائل: ((لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) .
وهو القائل: (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) .(67/2)
وهو القائل: (( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) .
وإن أي دعوة تخالف هذه الأحكام، أو تستورد أحكاماً لم يأذن بها الله هي اتهامٌ لله تعالى في عدله وحكمته، وانتقاصٌ لشريعته، ((مَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
وشأن المسلم والمسلمة إزاء هذه الأحكام هو الرضا والتسليم (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ )) .. (( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) .
فأي إسلام لمن يعترض على حكم الله أو يتضايق مما شرع الله، والله تعالى يقول: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) .
أيتها المرأة المسلمة ، يا ابنة هذه البلاد المباركة ، إن أيديهم الماكرةَ الخبيثة ، قد امتدت إليك في هذه الفتنة، لتنزلك من علياء كرامتك، وتهبط بك من سماء مجدك، وتخرجك من دار سعدك، فاقطعيها بسرعة وقوة، فإنها أيد ظالمة مجرمة ، لقومٍ (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) .
عباد الله .. أتظنون أن أولئك المفسدين الذين يستميتون في دعواتهم الآثمة لإخراج المرأة من بيتها وإقحامها في مخالطة الرجال، ودفعها إلى التمرد وقيادة السيارة، وتوريطها في أعمال لا تتناسب مع طبيعتها، أتظنون أنهم من الناصحين؟
لا والله أنهم يكيدون كيداً عظيماً ، ويمكرون مكرا كباراً.
وإلا فماذا يضيرهم لو بقيت المرأة آمنة في سربها ، مخدومة من زوجها وأهلها ، محفوظة بحيائها وسترها، عابدة لربها ، راعية لأولادها ؟
ولكن صدق الله: ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً)) .(67/3)
إنهم قوم أشربت قلوبهم حب الكافرين، وأولعوا بما هم عليه من الضلال المبين، فكيف نصدق دعاوى الأفاكين، وننقاد لآراء المفسدين .
سبحان الله .. انظر فيما يكتبه بعض كتابنا في الصحف ، ثم انظر إلى ما يقول مراسل إحدى الصحف الأمريكية ، يقول: إن لغزَ الحجاب الذي يثير حفيظة الغرب غيرُ مطروحٍ للتساؤل هنا في السعودية، إن الحجابَ لم يقف حائلاً أما تطور المرأة، فالسعودياتُ مؤهلاتٌ للتعامل مع أحدث برامج الحاسوب والإدارة ونظريات التعليم، بل إن القطاع الواسع من النساء السعودياتِ المتعلمات ، يدافعن عن الحجاب كمنظومةٍ تَحْكُمُ علاقةَ المرأة بالرجل في إطار واسع، وإن النساء العاملات في السعودية يشعرن بأمان حقيقي بعيداً عن المضايقات أو الأخلاق السيئة، ويؤكد: أن الحجاب والبعد عن الاختلاط كانا سببين لتميز الأداء الذي لا تخطئه العين.
وينقل عن إحدى السيدات من الطبقة الثرية قولها: إن الحجاب نعمة عظيمة ،والمرأة هنا تحظى بمعاملة راقية لا تحظى بها امرأة أخرى لا تقود السيارة، لكن هناك من يقوم بخدمتها دائماً، نحن أميرات في بيوتنا ، وأزواجُنا يبذِلون جهداً رائعا لإسعادنا.
كما ينقل كلمة لإحدى السيدات السعوديات قائلة: لو سألتني هل أريد الحرية الغربية فإن إجابتي ستكون بثلاث كلمات: لا ، ثم لا ، ثم لا ، إن الدين هو الذي يحكم تصرف الإنسان، ومن كان مفلسا في دينه فإنه يفقد الضابط الذي يحرك مساره.
وتقول إحدى الصحفيات الأمريكيات: امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا، إن الاختلاط والإباحية والحرية قد هددت الأسرة وزلزلت القيم والأخلاق.
وهذه مسلمة ألمانية تقول: كم يؤلمني أن أرى أخواتي وإخواني المسلمين يركضون إلى المكان الذي هربت منه، بعد أن كاد أن يقتلني ويخنقني .
هذه شهادتهن من واقع التجربة، وإن في حقائق الإسلام لذكرى لقوم يوقنون .(67/4)
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أطعم وسقى ، وآوى وكسى ، ومن كل ما سألناه أعطى ، والصلاة والسلام على عبده المصطفى ورسوله المجتبى ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى ، أما بعد .
عباد الله .. ومع عظم الفتنة ، وشدة البلاء ، فلا يزال في الأمة بقية من خير ، ولا تزال في القلوب أثارة من غيرة .
لقد خُيِّل إلى أعداء الإسلام أن الأمة قد استجابت لجهودهم، ورضخت لدعواتهم، واستسلمت لأفكارهم، وإذا بالأمة تؤوب إلى دينها وترجع إلى فطرتها.
وإذا بشباب الأمة يستيقظون من غفلتهم ، ويعودون إلى ربهم .. وإذا بالنساء المسلمات في شتى البلاد يعدن إلى دينهن ، ويعتززن بحجابهن .
وما انتشار ظاهرة الحجاب في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية إلا دلالة على هذه الحقيقة، وأن السيادة ستبقى بإذن الله لشرع الله ، (وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم) .
لقد سعى المفسدون في شتى البلدان ، ليصدوا المسلمة عن دينها، ويذبحوها على أعتاب الجامعات والمصانع والمتاجر ، فاستجاب لهم تائهات ومخدوعات، فما لبثوا إلا أن أخرج الله لهم فتياتٍ عفيفات ، رفعن نداء: (رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا)، فبُدِّدت أطماعهم ، وانقلبوا خاسئين .
حتى قال قائلهم: أصابت المرأة المصرية في أيامنا نكسةٌ ارتدت بها إلى ما قبل، هناك اليوم عشرات الألوف من النساء المرتدات ، ينزلقن طوعاً إلى هُوّة الماضي، والمأساة أن المرأة اليوم تتبرع سلفا بحجاب نفسها ، قبل أن يأمرها بالحجاب والدُها أو زوجُ . انتهى كلامه أهلكه الله أو هداه.(67/5)
إن أقوى رد يفند أباطيل دعاة الاختلاط ومروجي الانحطاط ، هو تخلي المرأةِ المسلمةِ عنهم بعد أن انخدعت بهم زمنا طويلا، فخلعتِ الحجاب وخالطتِ الرجال، وذاقتْ ويلاتِ جاهلية القرن العشرين، وجرتْ في دروب المفسدين، فما وجدت عندهم إلا البلاء والشقاء ، فعادت لربها ، مستغفرة لذنبها ، (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) .
ألا فلتعلم المرأة المسلمة في هذه البلاد ، ولنعلم جميعاً ، أن أن المعركة بين الحجاب والسفور، معركة بين الحق والباطل ، وأعداء الفضيلة في كل زمان ومكان ، وتيرتهم واحدة، وقلوبهم متشابهة ، وكم يعيد التاريخ نفسه، وتلك سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(67/6)
خطبة ( حمى الأسهم )
إن الحمد لله نحمده .... أما بعد .
هبوطٌ بالقلب، وارتفاعٌ في الضغط ، وسكتةٌ قلبية ، وهوسٌ وجنون ، كل ذلك يجري من أجل هبوط المؤشر في الأسهم المالية !! وما بين لحظةٍ وأخرى يسقط أقوامٌ صرعى على الأسرةِ البيضاء ، وربما انتقل آخرون من هذه الدارِ إلى دارٍ أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .
لو نظرت إلى الشباب وكبار السن وهم خارجون من صالة تداول الأسهم ، لوجدت أحدهم يمشي بلا وعي ، وربما يتعرض لخطر الدهس في الشارع ، وآخرَ منكسٌ رأسه ، وآخرَ يحدث نفسه .
وفي تداول يوم الأربعاء قبل يومين ، توقف نظام تداول الأسهم ، فكادت بعض القلوب أن تتوقف عن الحياة .
هكذا حال بعضُ إخواننا اللهثين وراء الأسهم ، تَرى أحدَهم في صالاتِ التداول، وخلفَ شاشاتِ الحاسبِ الآلي ، يُحْدِقُ بعينيه في أسعارِ الأسهم، وقد يبيع كلَ ما يملك من عقارٍ ودار من أجلِ الفوزِ بأعلى المكاسب، وأسرعِ المرابح .
وإذا فتح باب الاكتتاب في هذه البلاد أوالدول المجاورة رأيت التزاحم والتدافع ، والأنانية والأثرة، في أحوال هي للاكتئابٌ ، أقربُ منها للاكتتاب؟
إنها حمى الأسهم ، ولنا معها عدة وقفات:
منشأ سوقِ الأسهمِ وفكرةِ البورصة أنموذجٌ غربي، مبنيٌ على فلسفةِ الاقتصادِ الرأسمالي المؤسسِ على الربا، المشوبِ بالقمار والاحتكار، فالواجب على المسلمين أن يجردوهُ من هذه الشوائبِ المحرمةِ قبلَ ولُوجهِ واستيراده .
ولا تزال الآليةُ التي تُدار بها السوق؛ تُعاني من إشكالاتٍ شرعية، تدورُ حولَ الربا الذي تتمولُ به بعضُ الشركاتِ المساهمةِ، وما يحصلُ من خداعٍ وكذبٍ وغش، وتسريبٍ لمعلوماتٍ خاطئة داخل السوق، علاوةً على وجود فئات لا تخافُ الله تعالى ولا الدارَ الآخرة، يتحكمون في السوق ، ويتلاعبون بالأسعار .(68/1)
لقد رأينا اليوم تداعيَ فئامٍ من الناسِ إلى الأسهم ، وانصرافَهم عن المشاريعِ الإنتاجيةِ الفاعلة ، ركضاً وراءَ الأرباحِ العاجلة ؛ فقلي بربك: ألا يعدُ هذا ضرراً على المجتمع ؟!
ألم تتراكمْ الأموالُ في البنوك دون أن يكون لها أثر في تطوير البلد، وإنشاء المصانعِ وإقامة المشاريع ؟
ألم تتعطل المصالح والارزاق والناس يجرون خلف وهم الاسهم .. ألم يتسرب كثير من الموظفين إلى صالات التداول أو شاشات الانترنت ، بل ترك البدوي إبله وغنمه ليشارك في سوق الاسهم .
وإنا والله لنخشى أن نرى النتائج الكارثية لهذا الأمر كما وقع في بلدان أخرى من العالم .
(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .. يجب على كل مسلم قبل الولوج في الاكتتاب أو شراء الأسهم ، أن يسأل أهل العلم ويتأكد من جواز عمله، لئلا يقع في المحظور الشرعي .
أيها المسلم .. إياك والتعاملَ مع البنوك والشركاتِ التي تتعاملُ بالربا ، فالربا إعلانٌ للحربِ على الله ورسوله، كما قال الله جل جلاله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)) ، وعن عبد الله بن حنظلة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( درهم ربا يأكلُّه الرجلُ وهو يعلم ؛ أشدُّ من ستةٍ وثلاثين زنية)) رواه أحمد وصححه الألباني .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الربا ثلاثٌ وسبعون بابا ؛ أيسرُها مثلُ أن ينكحَ الرجلُ أمه )) رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني .(68/2)
فاتق الله في نفسك ولا تعرضْ نفسَك وأهلكَ لأكلِ الحرام . فإن لأكل الحرام عقوباتٍ في الدنيا من الاكتئاب، والقلق، والضيق، والأمراض النفسية والاجتماعية .. وأما في الآخرة، فيقولُ - صلى الله عليه وسلم - كما صح عند أحمد والطبراني: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به).
وههنا سؤال هام: ما هي الشركات التي يجوز شراء أسهمها؟
إذا نظرنا إلى شركاتِ المساهمة في السوق المحلية ، نجدها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أسهم البنوك الربوية ، وشراء هذه الأسهم محرم بإجماع أهل العلم لأن المساهم شريك في هذا البنك الربوي .
ومثل البنوك الربوية في التحريم ، أسهم الشركات التي تمارس نشاطاً محرماً أصلاً كتصنيع الخمور أو تربية الخنازير ، وهذه الشركات غير موجودة في السوق المحلية لكنها موجودة في السوق الدولية عن طريق محافظ البنوك الربوية أوالأنترنت ، فهذه لا يجوز شراء أسهمها باتفاق أهل العلم.
القسم الثاني: أسهم شركاتٍ نشاطُها مباح وجائز كالبنوك الإسلامية والشركات الزراعية والصناعية ،ولا تتعامل بالربا لا أخذاً ولا عطاءً ، وهي المسماة بالشركات النقية ، ويبلغ عددها في السوق المحلية بضعاً وعشرين شركة فقط ، فهذه الشركات تجوز المساهمة فيها .
القسم الثالث: أسهم شركاتٍ أصلُ نشاطِها مباح وجائز, ولكنها تتعامل بالربا أخذاً أو عطاءاً ، وهي المسماة بالشركات المختلطة .
وهذا القسم من الشركات اختلف العلماء في حكم المساهمة فيها وشراء أسهمها على قولين:(68/3)
فذهب جمهور العلماء المعاصرين إلى تحريم المساهمة فيها لأن المساهم شريك في الربا المحرم، وهذا القول أقوى وأبرأ للذمة ، بل هو الصواب ، وعليه فتوى المجمعُ الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة ، والهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي ، واللجنةُ الدائمةُ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ بالمملكةِ، وعلى رأسِها سماحةُ الشيخِ عبدُ العزيزِ بنِ باز، رحمه الله .
وفي المقابل ذهب بعض العلماء وبعض الهيئات الشرعية بالبنوك إلى جواز المساهمة في هذه الشركات, واشترطوا لذلك شروطاً ، منها:
1- ألا ينص نظام الشركة الأساسيُّ على أنها ستتعاطى الربا.
2- أن يكون مقدار الربا فيها قليلاً ، وحددوا القليل بألا يزيد على الربع من أموال الشركة .
3- ألا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من العنصر المحرم 5? من إجمالي إيراد الشركة .
4- ألا يتجاوز إجمالي حجم العنصر المحرم استثماراً كان أو تملكاً 15? من إجمالي موجودات الشركة.
5- أن يقوم مالك الأسهم بالتخلص من مقدار الربا الموجود في الأرباح .
وليس معنى هذا القول إباحة الربا ولو قلّ ، بل إن المسؤولين القائمين على الشركة الذين يتخذون قرار الإقراض أو الاقتراض بالربا آكلون للربا، آثمون بهذا الفعل.
وننبه إلى وجود شركات من هذا القسم يكون أصل نشاطها مباحاً ، لكن الربا فيها كثير ، يزيد على ثلث أموالها ، وهذه الشركات محرمة حتى عند الذين يجيزون هذا القسم ، لعدم تحقق الشروط فيها .
وبعد عرض هذا الخلاف أقول: لا شك أن الأبرأ لذمة المسلم أن يجتنب المتاجرة بأسهم الشركات المختلطة ، ومثلها صناديق الاستثمارِ الموجودةِ في البنوكِ التجارية ، وإذا وقعَ أحياناً دون علمٍ بشراءِ أسهمٍ لهذه الشركاتٍ ، فليتخلص منها سلامة لدينه .(68/4)
وقد يتعلل البعض بوجود بعض الهيئات الشرعية في بعض البنوك والصناديق، فأقول: الواقع أن هذه الهيئات مع تقديرنا لأعضائها ، يبقى فيها إشكالان:
الأول: أنها تتبنى القول بجواز شراء أسهم الشركات المختلطة ، بل هي أشهر من نصر هذا القول وقرره ، مع ما فيه من مخالفة جماهير الفقهاء والمجامع والهيئات الفقهية .
الثاني: أنها تفتقرُ إلى الرقابةِ الشرعية التي تتولى التدقيقَ على ما يقومُ به البنكُ من عملياتٍ تجارية، ومن هنا تحدثُ المخالفاتُ التي تُخالف فتوى الهيئاتُ الشرعية .
فنصيحتي لكل مسلم .. استبرأ لدينك؛ واحتط لنفسك ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .
على مجالس إدارات الشركات مسؤليةٌ عظيمة في البعدِ عن المكاسب المحرمة ، وتخليصِ الشركات من الربا، والتماسِ منفعة المساهمين ، والتزامِ الوضوح والشفافية في التقارير والقوائم المالية .
على الوكلاء والوسطاء اتقاءُ الله تعالى في أموال الناس ، وحفظ حقوقهم، وعدم طلب الربح الفاحش بالسمسرة . وليحذروا من إعطاء الوعود الكاذبة ، أو ضمان الربح أورأس المال .
ينبغي أن تستغل كثرةُ الأموال في أيدي الناس وتسهيلاتُ البنوك في إنشاء شركات نافعة بدلا من مضاربات لا تحقق للبلد كبير فائدة, وهذا يحقق لنا تشغيلَ هذه الأموال في البلد وعدمَ تصديرها للخارج ، والقضاءَ على البطالة بتوظيف الشباب في هذه الشركات .
أخي الكريم : إذا دخلتَ مضمارَ الأسهم فعليكَ بالأمانةِ في التعاملِ مع الناسِ، والنصحِ لهم ، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غشنا فليس منا)) رواه مسلم .
وفي حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : ((البيعانِ بالخيارِ ما لم يتفرقا، فإنْ صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما، وإنْ كتما وكذبا مُحقت بركةُ بيعهما)) متفق عليه .(68/5)
ومن المؤسف أن ترى بعض الناس يكذبون في نقل أسعار الأسهم، أو يفترون على بعض الأشخاص، وربما حلف بعضهم كاذباً في مواقع الانترنت ومنتديات الأسهم، وهذه يمينٌ غموس تغمس صاحبها في النار عياذاً بالله .
إياك والتهور ، واستفد من أهل الخبرة ، فإن المال أمانة بيدك ، لا يحل تبذيره بغير حق .. ينبغي عدم التسرع في المساهمات، واستشارة الثقات، فإذا ساهمت فعليك بالصبر وعدم تعجُّلِ الربح ، فإن هذا يؤدي إلى الخلل في اتخاذ القرار ، وبالتالي الخسارة .
لا تخاطر بالمغامرة بكل ما تملكِ من المال؛ فقد ساهم بعض الناس بمبلغٍ قليل في أول الأمر ، ثم طمع فزاد رأس المالِ ؛ حتى باع بيته من أجلِ الفوزِ بمكاسبَ ضخمةٍ في وقتٍ قياسي؛ فلم يشعر بنفسِه إلا وقد أصبح من المفلسين، ولا حول ولا قوة إلا بالله !! إذن ليس من الحكمةِ أن تضعَ البيضَ كلَّهُ في سلةٍ واحدة، فتخسره جملة واحدة .
ولا مانعَ أن تشترك مع إخوانك .. بل يجوز أن يشترك اثنانِ أحدُهُما يُساهُم باسمهِ والآخرُ بماله ويكون الربحُ بينهما على حَسَبِ الاتفاق ؛ ولكن الذي لا يجوز هو أن تبيعَ الاسمَ للمساهمةِ به في الشركات؛ كما أفتى بذلك أهل العلم .
توكل على الله .. فالرزق من الله تعالى لا من الناس .. (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) .
ومن أفضل الأدعية في كسب الرزق المداومة على الدعاء بقول : (( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك )) .
الأسهمُ والمكاسبُ المالية، لها بريقٌ ولمعان؛ فإياك أخي أن تصدُّك عن ذكرِ الله تعالى وعن الصلاة .. قل لي بربك؟ ماذا تنفعك الأموالَ الطائلة وقد ضيعتَ صلاتَك، وفرطتَ في طاعةِ ربك؟!
ماذا ينفعُك حرصُك على الأسهمِ واللهثِ وراءَها إذا أوقفتَ بين يدي الله تعالى، وبدأتَ تبحثُ يمنةً ويسرةً عن حسنةٍ واحدةٍ تُنجيك من عذاب الله تعالى فلم تجد؟!!(68/6)
فيا جامِعَ الدُّنيا لِغَيرِ بَلاَغِهِ / سَتَتْرُكُهَا فانظُرْ لِمَنْ أنْتَ جَامِع
وَكم قد رأينا الجامِعينَ قدَ اصْبَحَتْ/لهم بينَ أطباقِ الترابِ مَضاجع
ومن القصص المحزنة أن إحدى الأخوات أرسلت برسالة ذكرت فيها أنها رأت عمها وهو يَحْتَضِر .. كان لا يهتم بالصلاة ، ويتعامل بالربا ، ثم دخل في تجارة الأسهم قبل وفاته بسنة ، وبعد ما حصل له حادث جلست هذه الأخت فوق رأسه تذكره بالشهادة .. فبدأ يردد: لا تتركوا الأسهم ، لا تبيعوا الأسهم ، فكانت آخرَ كلمة قالها: لا تبيعوا الأسهم .
أخي الحبيب ، أين أنت ممن قال الله فيهم : ((رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)) .
اعلم أخي أنك إذا حافظتَ على صلاتِك، وداومتَ على طاعةِ ربك، فتحَ لك الرزاقُ الكريم أبوابَ فضلِه، وجاءكَ الخيرُ من حيثُ لا تحتسب، يقول الله تعالى: ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ... عباد الله .. ومن المسائل الهامة المتعلقة بالأسهم وهي الوقفة الحادية عشرة:
زكاة الأسهم: فيجب عليك أخي المساهم أنْ تُخرِجَ زكاة أسهمك، لأنك أنتَ المطالبُ بذلك .(68/7)
وزكاة الأسهم فيها تفصيل : 1]فأما إن كنت اشتريت الأسهم بقصدِ الاستثمار وجنيِ الأرباح كلَّ سنة: فإن كانت الشركة تزكي فلا زكاة عليك ، وإن كانت لا تزكي فتزكيها بحَسَب مال الشركة من حيث الحول و النصاب و مقدار الواجب .. 2] وأما إن كنت مضارباً في صالات الأسهم قد اشتريت الأسهمَ بقصدِ المتجارة: فزكاتُها زكاةُ عُروضِ التجارة، فإذا مضت سنة كاملة والأسهم في ملككَ، زَكَّيتَها بقيمتِها الحاليةِ في السوقِ لا بقيمة شرائك لها، وإذا لم يكنْ لها سوقٌ زَكَّيتَ قيمتَها بتقويمِ أهلِ الخبرة ، فتُخرِجُ ربعَ العشرِ من القيمةِ والربحِ ، إذا كان للأسهمِ ربح .
وإذا باعَ المساهمُ أَسهُمَه في أثناءِ الحولِ ضمَ ثمنَها إلى مالِه وزكَّاه معه، عندما يجيءُ حولُ زكاته .
أخيراً ، الصدقة مطهرة للمال من الشبهات .. كما قال سبحانه: (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) ، وعن قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه - قال قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلِف، فشُوبوه بالصدقة )) رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي والألباني .
وكان عثمان رضي الله عنه يتصدق كثيراً، مع تورُّعه في تجارته، وجاءت تجارة له يوماً، فقال: من يساومني عليها، فأعطي الضعف يعني 100% فلم يرضَ، فزِيد، فلم يرضَ، حتى قال: إني أعطيت فيها عشرة أضعاف يعني1000 % ، فتعجبوا، وقالوا: نحن تجار المدينة، ولم يسبقنا أحدٌ إليك.فمن أعطاك ؟ فقال: الله أعطاني ، فتصدق بها لوجه الله تعالى .. فالبركة تُلتمس بالصدقة، وأكل الحلال ، وهذا أمر مجرَّب بحمد الله .
ألا فاتقوا الله وصلوا وسلموا على أشرف خلق الله ...(68/8)
خطبة (حياة محمد - صلى الله عليه وسلم -)
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة في الدارين ، وبعث فينا رسولاً منا ، يتلو علينا آياته ويزكينا ، ويعلمنا الكتاب والحكمة ، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادةً تكون لمن اعتصم بها خيرَ عصمة ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، أرسله الله للعالمين رحمة ، وأنزل عليه الكتاب والحكمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد .. في زمنٍ اختل فيه ميزان الاقتداء ، واضطرب فيه منهاج الائتساء .. عن أيّ قدوةٍ سأتحدث؟ وعن أي إنسانٍ سأتكلم؟
إننا اليوم ، نتحدث عن تلك الروح الزكية التي مُلئت عظمةً وأمانةً وسمواً .. وعن تلك النفس الأبية التي مُلئت عفةً وكرامةً ونبلاً .
ماذا أقول وألفَ ألفَ قصيدةٍ عصماءَ قبلي سطرت أقلامُ
مدحوك ما بلغوا برغم ولائهم أسوارَ مجدك فالدنوُّ لمامُ
إنَّهُ محمد بنُ عبد اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، رسولُ اللهِ إلى العالمين ، وحجتُه على الخلق أجمعين .
محمد ، الذي اختاره الله جل جلاله لحملِ رايتهِ، والتحدثِ باسمهِ، وجعله خاتمَ رسلهِ ، وأثنى عليه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
أيُّها الأحبةُ .. إنَنَا حينما نستلهمُ الحديثَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَنَا لا يمكن أن نُوفِّيهِ بعضَ حقهِ، وإنَّما هي إطلالة سريعة ، وإشارةٌ موجزة ، إلى شيءٍ من سِماتِهِ التي جعلت أفئدةَ الناسِ تهوي إليه ، وشيءٍ من صفاته التي جذبت نفوسَ الخلق إليهِ .
لقد رأى الصحابة رأيَّ العينِ كلَّ فضائلهِ ومزاياه، رأوا طُهرِهِ وعفتهِ ، رأوا أمانته واستقامتهِ ، رأوا شجاعته وبسالته ، رَأوا سُمُوه وحنانه .
بل رأى كلَّ هذا أهل مكة ، الذين عاصروا ولادته وطفولته ، بما انطوت عليهِ من رجولةٍ مبكرةٍ .(69/1)
لقد كانت قريشٌ تتحدثُ عمَّا أنبأتهم بهِ، وأذاعتهُ بينهم مرضعتهُ حليمة، حينَ عادت بهِ إلى أهلهِ .
لقد كانت حليمة تدرك أن هذا الطفلَ غيرُ عادي ، وأنَّهُ ينطوي على سرٍّ يعلمهُ الله، وقد تكشفهُ الأيام .
ما إن أخذت حليمةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، حتى دَرَّ ثديها اللبن، فارتوى منهُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وابنُها الذي كانَ يبكي من الجوعِ لجفافِ ثدي أمِّه، ثم امتلأ ضرعُ راحلتها باللبنِ بعد أن كانَ يابساً، فشبعت هي وزوجها .. ثم أصبحت الراحلة نشيطةً قوية، ولما وصلت ديارها أخصبت الأرض وأربعت ، فلا تحل أغنامُ حليمةَ إلا وتجدُ مرعاً خصبا، فتشبعُ أغنامها ، حين تجوع أغنام قومها .
وعاش طفولته - صلى الله عليه وسلم - في بني سعد ، وكان ينمُو نمواً سريعاً لا يُشبهُ نمُوَّ الغلمان .
وأما شبابُهُ - صلى الله عليه وسلم - فيا لطهرِ الشباب .. وعندما حجَّ أكثمُ بن صيفي -حكيمُ العرب- ورأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهُو في سنِّ الاحتلام، قال لعمِّه أبي طالب: ما تظنُونُ به ؟ قال: نحسنُ بهِ الظن، وإنَّهُ لوفيٌّ سخي .. قال: هل غيرَ هذا ؟ قال: نعم، إنَّهُ لذوُ شدةٍ ولينٍ ، ومجلسٍ ركين، وفضلٍ متين .. قال: فهل غيرَ هذا؟ قال: إنَّا لنتيمّنُ بمشهدهِ، ونتعرّفُ البركةَ فيما لَمَسهُ بيده .
وأمَّا رجُولَتهُ فقد كانت ملءَ كلِّ عينٍ وأذنٍ وقلب .. لقد كانت رجولته مقياساً لقومه ..يقيسون بأخلاقه وتصرفاته كلَّ رُؤاهم عن الحقِّ والخير والجمال ، فهَاهُم ذا على وشكِ أن يقتتِلُوا في من يضعُ الحجرَ الأسودِ في مكانه، وأخيراً ألهَمهُم اللهُ تعالى إلى تحكيمِ أوَّلُ من يُقبلُ من بابِ الصفا، وما زالوا كذلك حتى أقبلَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، فما أن رَأوهُ حتى قالوا: هذا محمدٌ الأمين، رضينا به حكماً .(69/2)
كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - نقاءً وصدقاً، وعفافاً وطهراً، لم يُجَرِّبوا عليه كذباً ؟ لم يظلم إنساناً؟ لم يخُن صديقاً ولا عدواًً؟ لم يكشف عورة؟ لم يخفر ذمة؟ لم يقطع رحماً؟ لم يتخل عن مروءة؟ لم يشتم أحداً؟ لم يشرب خمراً؟ لم يستقبل صنماً؟
شخصية فريدة .. جعلت سادةَ قومهِ يُسارِعُون إلى الاستجابة لدعوته ، كأبي بكرٍ وطلحةَ والزبير وعُثمانَ وغيرِهم، تاركين وراءهم كلَّ مجدٍ وجاه ، مستقبلينَ حياةً تمورُ بالأعباءِ وبالصعابِ .
شخصية فريدة .. جعلت ضعفاءَ قومهِ يلوذُونَ بحماه، ويَهرَعُونَ إلى رايتهِ ودَعوتهِ، وهم يُبصرُونَهُ أعزلَ من المالِ ومن السلاح، يَنزلُ بهِ الأذى، ويُطارِدُهُ الشرُ ، دُونَ أن يملكَ لهُ دفعاً .
إنها القدوة ، التي جعلت أتباعه يزيدُونَ ولا ينقُصُون، وهُو الذي يهتفُ فيهم صباحَ مساء، لا أملكُ لكم نفعاً ولا ضراً، ولا أدرِي ما يُفعلُ بي ولا بكم .
إنها القدوة ، التي تملأ القلوب يقيناً وعزماً .
لو أطلق الكونُ الفسيح ُلسانَه / لسرتْ إليك بمدحه الأشعارُ
لو قيل : مَنْ خيرُ العبادِ،لرَدَّدتْ / أصواتُ مَنْ سمعوا : هو المختارُ
لِمَ لا تكون؟ وأنتَ أفضلُ مرسلٍ/ وأعزُّ من رسموا الطريق وساروا
ما أنت إلا الشمسُ يملأ نورُها / آفاقَنا ، مهما أُثيرَ غبارُ
لقد كان الصحابة يرونه بينهم صاحب رسالةٍ سامية ، لم يكن ليسعى إلى جاهٍ ولا مالٍ ولا سيادة .
لقد كانوا يرونه أواباً منيباً حتى اللحظةَ الأخيرةِ من حياته .. لا يكادُ النصفُ الأخيرُ من الليلِ يبدأُ ، حتى ينتفضَ قائماً، فيتوضأَ ويُناجيَ ربَّهُ فتتورم قدماهُ وهُو يصلي ، ويبكي وهو يُصلي .
لقد كانوا يرونه - صلى الله عليه وسلم - سيداً للمتواضعين، وإماماً للعافين.(69/3)
لقد دانتِ البلادُ كُلَّها لدعوتهِ، ووقفَ أكثرَ ملوكِ الأرضِ أمامَ رسائِلِهِ التي دَعاهم بها إلى الإسلام، وجِلِينَ ضارعين، فما استطاعت ذرةٌ من زُهوٍ وكبرٍ أن تمرَّ بهِ ولو على بعدِ فراسخ، بل كانَ يمشي - صلى الله عليه وسلم - مع الأرملةِ والمسكينِ والعبد، حتى يقضي حاجته .
وحينَ رأى بعضُ القَادِمين عليهِ يَهابُونُهُ في اضطرابٍ ووجل، قال لأحدهم: (هَوِّن عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكلُ القَدِيدَ بمكة)
لقد ألقى كل أعداءِ دينهِ السلاح، ومدُّوا إليهِ أعناقهم ليحكمَ فيها بما يرى، ومعه عشرةُ آلافِ سيفٍ تتوهجُ يومَ الفتحِ فوق رُبى مكةَ، فلم يزد على أن قالَ لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).!
بل كان من تواضعه ، أنه حرم نفسه رؤيةِ النصرِ الذي أفنى في سبيلهِ حياتَهُ .. فقد سارَ - صلى الله عليه وسلم - في موكبِ النصر يومَ الفتح، مطأطئاً رأسهُ ، حتى تعذرَ على الناسِ رُؤيةُ وجهه الأزهر، مُردداً بينهُ وبينَ نفسهُ ابتهالاتِ الشُّكرِ المبللةِ بالدموع، في حياءٍ وتواضعٍ لربِّهِ العليِّ الكبير، حتى وصلَ الكعبة، وأعمل في الأصنامَ معولَه ، وهُو يقولُ: (جاءَ الحقٌّ وزهقَ الباطل، إنَّ الباطلَ كان زهُوقا ) .
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - قائداً فذاً ، وعابداً منيباً ، وأباً عطوفاً ، وزوجاً ودوداً لطيفاً ، وصديقاً حميماً ، وقريباً كريماً ، وجاراً تشغله هموم جيرانه ، وحاكماً تملأ نفسَه مشاعرُ محكوميه ، ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة في التاريخ .
صلى الله عليك يا رسول الله ، صلاةً دائمةً ما تعاقب الليل والنهار .. ونسألُ الله جلَّ جلالهُ أن يجعلنا من أنصارِ دينهِ، وحُماةِ عقيدتهِ وحُرَّاسِ ملته .. إنه على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية(69/4)
الحمدُ للهِ معزِّ من أطاعهُ واتقاه، ومذلِّ من عصاهُ واتبع هواه، أحمُدُهُ سُبحانهُ وأشكره، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ- صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ- تسليماً كثيراً، أمَّا بعد .
عباد الله .. لقد رأى الصحابة الصفاتِ العظيمة ، والأخلاقَ الكريمة ، متمثلة في شخصه - صلى الله عليه وسلم - قبل نصه ، وفي سيرته قبل كلمته .. لم يقرؤوا هذه الصفات والأخلاق في كتاب جامد ، بل رأوها في بشر متحرك ، فتحركت لها مشاعرهم ، وقبلتها نفوسهم ، فكان - صلى الله عليه وسلم - أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل .
بالله عليكم ، هل رأت الدنيا قائداً أعظم وأرحم من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل رأت الدنيا زوجاً ألطف من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل رأت الدنيا صديقاً أوفى من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل رأت الدنيا حاكماً أعدل من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ .
كيف وقد رآه الناس في الأيام الأخيرة من حياته ، وهو يصعدُ المنبرَ ويقول: (من كنتُ جلدتُ لهُ ظهراً فهذا ظهري فليستقدْ منه، ومن كنتُ أخذتُ لهُ مالاً فهذا مالي فليأخذ منهُ) .
يقول هذا ، وهو الذي مات - صلى الله عليه وسلم - حتى حطمه الناس .. يقول هذا وهو الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .. يقول هذا وهو الزاهد في الدنيا، الذي مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعهُ مرهونة عند يهودي.
وحتى آخر رمق من حياته ، كان بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ، رحيماً بأصحاباً ، حريصاً على أمته .. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ويعالج شدة آلم الموت وسكرته ، ومع هذا لم ينس أمته ، لم ينس أن يوصيَها بما ينْجيها من عقوبة الله ، فيقول: (الصلاة الصلاة وماملكت أيمانكم) .(69/5)
عباد الله .. إنَّ في سيرةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، بكلِّ ما فيها من مواقفَ ووقائع ، محلاً للتَّأملِ والتدبر، تأملاً يُحرِكُ القلوبَ، ويستثيرُ الهمم، ويقودُ إلى العملِ، وتدبراً يزيدُ في الإيمانِ، ويزكِّي القلوبَ، ويقُوِّمُ المسيرة .
إنه القدوة - صلى الله عليه وسلم - ، فقل لي أيها الأخ الشاب ، وقل لي أيها الابن الناشيء .. من هو قدوتك في الحياة؟ .
هل قدوتُك ومثلُك ، ومحلُ إعجابِك وتأسيك ، هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أم أن قدوتَك هو الفنان الفلاني، أو المطرب أوالممثل الفلاني، أو اللاعب الكافر الفلاني؟
كيف يليق بالمسلم أن يجعل قدوته من يُسَمُونَ نجوماً وهم إلى الثرى أقرب .. ثم لا يقتدي ولا يتأسّى بأعظم إنسان ، بل هو نجم النجوم - صلى الله عليه وسلم - ، وهو القدوة الحسنة والمنبع العذب ، الذي تُستقى منهُ معالي الأمور .
كيف يسوغُ للعاقل أن يرى هذه القدوة الحسنة ، والشخصية الفذة في شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لا يحذُو حذوه، ويسيرُ خلفه، ويقتدي بهديه؟ ويكونُ من حملةِ رسالتهِ، وحُماةِ دينهِ؟ .. وصدق الله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) .
اللهم إنا نشهد بأننا نحبك ونحب نبيك - صلى الله عليه وسلم - ، فاللهم ارزقنا اتباعه ، والتأسي به ، والاقتداء بهديه .. الله لا تحرمنا شفاعته يوم العرض عليك، اللهم اجعلنا من زُمرته، واجعلنا من أنصار دينه ، الداعين إلى سنته ، المتسكين بشرعه .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(69/6)
خطبة إثر الغزو الأمريكي للعراق
الحمد لله مزيل الكربات ..وفارج الملمات ..ومنفس الشدائد و المصيبات ..والصلاة والسلام على هادي البرية ..وأزكى البشرية .. بلغ الرسالة .... اليقين أما بعد
فإن الناظر في مجريات الأحداث ، وما يدور في الساحة اليوم .. يجد أن الأمر خطير .. والخطب جسيم .
فعندما أعلن الرئيس الامريكي على الملأ أنه سيجعلها حرباً صليبية ، ها هو الآن يكشر عن أنيابه ..ويظهر ما كان يخفيه من أحقاده .
ووالله .. لا تجد تفسيراً لهذا الموقف أصدق مما نطق به المعصوم صلى الله عليه وسلم حينما قال :
"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقيل له : ومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله ؟ قال بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقالوا :يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"
هاهم اللئام .. أدعياء السلام .. يستبيحون بلاد الإسلام .. ويلقون على رؤوس إخواننا القنابل والصواريخ ، في حرب صليبية جديدة ، وتحد صارخ لهذه الأمة وأبنائها .
فيا لله كم من امرأة مسلمة قد ضمت حولها أطفالها ، وقد أطلقت صافرات الإنذار .. لا تدري أين تذهب .. ترمق السقف بعينيها .. أتراها تنجو ، أم يخر السقف عليها وعلى أبنائها ؟
قد أصابها الخوف والهلع ، وهي تتذكر أختاً لها في أفغانستان دفنت مع أطفالها وهم أحياء بعد سيل وابل .. من الصواريخ والقنابل .
فاللهم إليك المشتكى ، وأنت الملتجا ، وأنت المستعان ، وعليك التكلان .
دماء المسلمين غاليةٌ .. حرمة المسلم والمسلمة أعظم عند الله من حرمة الكعبة .. بل هي أعظم من زوال الدنيا بأسرها ، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام عند ابن ماجه أنه قال : ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ).(70/1)
وقد يتساءل المرء في ظل الظروف الصعبة ..والمواقف الحرجة ..ماذا يفعل ؟ ما هو دوره في هذه النازلة ؟ وهل بمقدوره أن يدفع البلاء..أم يكتفي بالتفرج على مسرح الأحداث .
إن من المحزن حقاً أن ترى بعض إخواننا وشبابنا ممن تعلقت قلوبهم بالمباريات ، والأغاني والتمثيليات ، وكأنما هم يعيشون على هامش التاريخ .
لقد آن الأوان للعمل .. العمل الذي يريده الله منا في مثل هذه الظروف .
لا نريد أمة تتكلم و لا تفعل .. لا نريد أن نكون أُمة لا تعرف سوى الشجب والاستنكار ، كما قال أحد أعدائنا من اليهود حينما استنكر العرب بعض تصرفاته ، قال : "دعوهم، فإنهم سوف يتكلمون قليلاً ثم يتعبون من الكلام فيسكتون "
نريد من كل واحد منا أن يستشعر أنه مطالب بنصرة هذه الأمة ، وإعلاء هذا الدين .
ولهذا أذكر نفسي وإخواني ببعض ما يتوجب علينا في هذه الأزمة :
التوبة والرجوع إلى الله تعالى .. فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة .
قال الله تعالى { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس :98 ]
يقول قتادة رحمه الله في هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتُركت إلا قومَ يونس لما فقدوا نبيهم ، وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ؛ قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة فلما عرف الله الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم ) .
فهل من توبة صادقة ..هل من رجعة إلى الكريم الوهاب ..الرحيم التواب ..ليدفع عنا العذاب .. فيتوبُ أصحاب الربا من الربا ..وأصحاب الغناء من الغناء ..ومن فرطوا في صلاتهم إلى صلاتهم ..والمرأة تتوب من تقصيرها في تفريطها في جنب الله ..كلنا يتوب من ذنبه ..ويعود إلى رشده ..ويكثر من الاستغفار .(70/2)
كثرة الأعمال الصالحة : يقول الله تعالى :{ واستعينوا بالصبر والصلاة } وقد كان النبي r إذا حزبه أمر صلى " رواه أحمد ، ويقول r :" العبادة في الهرج ـ أي في الفتن ـ كهجرة إلي ".
وإن من المؤسف أن ترى بعض الناس ينشغلون في هذه الأحداث بمتابعة القنوات الفضائية والإذاعات العالمية ويكون هم الواحد منهم ماذا حدث ؟ وماذا جرى ؟ ويتخلف عن الصلاة ، وينصرف عن الذكر وطاعة الله .
رابعاً:الإكثار من الصدقة :لقول النبي r : " إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء " رواه الترمذي ..وقال r :" أكثروا الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا " رواه ابن ماجه وغيره .
فأين المتصدقين في الأسحار ..أين المنفقين في الليل والنهار .
فلا تتردد أخي في البذل والعطاء لإخوانك المحتاجين والمجاهدين .. فالوقوف معهم من أوجب الواجبات ..وأهم المهمات .
خامساً: السلاح المعطل .. الذي هو أشد فتكاً من القنابل الذرية ، والصواريخ البالستية .. سلاح لاتقوم دونه أي قوة على وجه الأرض .
الدعاء .. فكم دمر الله به من أقوام .. وكم نجى الله به من فئام .. يقول الله تعالى :{ قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم } [الفرقان :77] أي لولا دعاؤكم إياه عند الشدائد والكروب لهلكتم .
فأين القلوب الخاشعة ، أين العيون الباكية ، أين الدعوات الصادقة .. هل عدمت هذه الأمة من لو أقسم على الله لأبره .
إخوة الإيمان: إن من حق إخوانكم عليكم نصرتهم بالتضرع إلى الله والدعاء والإلحاح عليه والتذلل بين يديه ، وسؤاله لإخوانكم النصر والثبات والتمكين ، فرُبَّ دعوة صادقة خرجت من قلبٍ مؤمن ، في ظلمة الليل ، يُدمّر الله سبحانه وتعالى بسببها جحافل الكفر والنفاق ، ويمزق شملهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم.(70/3)
فالله الله إخوة الإيمان .. الله الله في الدعاء لإخوانكم .. الدعاء الدعاء .. فإن الله قريب مجيب "وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" .
تحروا الدعاء .. في القنوت ، وفي أوقات الإجابة ، وألحوا على الله ، فإنه سبحانه أكرمُ من أن يرد سائلاً .
سادساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : قال تعالى :{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } ولم يقل صالحون ..فهم يدعون الناس إلى الهدى ..وينهون عن الفساد والردى .
ويقول r: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده " [صحيح الجامع1970]
سابعاً: اجتناب الظلم : وهو التعدي على الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم بغير حق .. فإن الظلم سبب الهلاك ، كما قال تعالى :{ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } [الكهف:59] وهذا الظلم له صور عديده فمن تلك الصور : ـ ظلم العمالة وعدم تسليم الرواتب لهم أو تحميلهم ما لا يستطيعون - ظلم الناس بالغيبة والنميمة والبهتان - ظلم الناس بأكل أموالهم من رشوة وغصب وغش ونحوها - ظلم الناس في قطيعة الرحم - ظلم الناس لزوجاتهم - ظلم الأولاد وعدم النصح لهم بإحضار أجهزة الفساد لهم .
ثامناً : الالتفاف حول العلماء الربانيين ، والأئمة المهديين ، الأتقياء الصالحين ..فإن الالتفاف حولهم يعد سبيلا مهما للنجاة من الفتن .. كما أعزه الله دينه بالصديق رضي الله عنه يوم الردة ، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة .
وعلى العلماء وطلاب العلم أن يتقوا الله تعالى في الأمة ..وأن يقولوا كلمة الحق..ظاهرة بلا خفاء ..بينة بلا غموض .
التوكل على الله تعالى .. { ومن يتوكل على الله فهو حسبه }.(70/4)
وأن يتيقن العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ..كما قال المعلم الأول صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " رواه أحمد والترمذي وصححه .
فأعدّوا ، وتوكلوا ، وإياكم والتعلقُ بالأسباب دون المسبِّب .. أو التعلُّقُ بالمُسبِّب وإهمال الأسباب .
والله تعالى تكفل بالدفاع عن المؤمنين إذا هم امتثلوا أمره ، فقال سبحانه :{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } فمن يغالب قوماً يدافع عنهم العزيز الجبار ..وأي قوة في الأرض توازي قوة الواحد القهار .
التبشير والتفاؤل : إن هذا الدين منصور .. وإن نصر الله قريب .. وعلى الإنسان أن يبشر غيره ويتفائل ..خاصة في وقت الأزمات والملمات ..لأن النفوس بأمس الحاجة إلى التفاؤل الذي يدفعها إلى العمل .
لا تقل : هلك المؤمنون .. بل قل : "فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون" .
وهكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم .. ها هو في أحلك الظروف ، ومنتهى القلق والخوف ، يحفر الخندق هو وأصحابه ، حتى إذ واجهتم صخرة شقت عليهم ..أخذ صلى الله عليه وسلم المعول فيفتتها بضربة واحدة ، فينبعث منها النور .. وإذ به يبشر أصحابه بفتح مدائن كسرى وقصور قيصر .
قدر الله نافذ ، وحكمه واقع .. ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون )
وأُمتنا اليوم مهزومة هزيمة نفسية ، قبل أن تكون مهزومة هزيمة اقتصادية أو عسكرية .
ولكن .. ليعلم العالمُ كله أن الله سبحانه و تعالى فوق كل شيء .. الله فوق الطائرات الحربية و الأقمار الصناعية .(70/5)
الله أقوى من القنابل الذرية ، الله أكبر من أي عدو، الأمر بيده وحده ، والنصر من عنده دون غيره ، و هو الذي ينصر عباده كما وعدهم إذا آمنوا به و اتبعوا أمره .
ثم إن على أجهزة الإعلام أن تبث مثل هذه الروح في نفوس أبناء الأُمة و شبابها ، وعندها لن تخيفنا الدعايات و الإعلانات التي يعلنها العدو عن قدرته العسكرية و الاقتصادية ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) .
وأخيرا ..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..فإذا غيرنا ما بأنفسنا ..من المعاصي والذنوب ..وانتقلنا إلى فعل الطاعات ..والمسابقات إلى الخيرات ..غير الله علينا ما كان فينا من الشقاء ..إلى الخير والهناء .
إنها دعوة صادقة ..من محب لأحبابه .. ومن أخ في الله لإخوانه ..أناشدكم فيها بالمسارعة إلى التغيير .. قبل أن تسكب العبرات ..وترتفع الآهات ..وتحل الأحزان ..وتكثر الأشجان ..ويفرح الأعداء ..ويحزن الأصدقاء ..( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .
أيها المؤمنون .. إني داع فأمنوا بقلوب صادقة مؤمنة .
اللَهُمَّ أنْتَ عَضُدنا وَنَصيرنا ، بِكَ نحُولُ وَبِكَ نَصُولُ، وَبِكَ نُقاتِلُ
اللَّهُمَّ إنا ننْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ
اللَّهُمَّ أنْجِزْ لنا ما وَعَدْتَنا ،
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحابِ، وَهازِم الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ
اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ
اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ
اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّنا وَرَبُّهُمْ، وَقُلُوبُنا وَقُلُوبُهُمْ بِيَدِكَ، وإنَّمَا يَغْلِبُهُمْ أنْتَ
اللهم أرنا ما وعدتنا في أعدائنا
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ على عبادك المؤمنين .. اللهم أمدهم بجند من جندك ، وروح من عندك ، يا من لا يهزم جنده ...(70/6)
خطبة عن تفجيرات الرياض 1424هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ...... أما بعد
في ليلة هادئة .. وبعد أن رجعنا إلى بيوتنا في مدينة الرياض ؛ فجعت قلوبنا بأصوات الإنفجارات منذرة بفتنة عمياء ومحنة صماء ، تقع في بلادنا ، وبين أظهرنا .
وزاد الأمرَ سوءاً ، وقوعُ هذه الفتنة في وقت تواجه فيه الأمة تحالفاً على العدوان والبغي ، يشترك فيه أشد الناس عداوة من اليهود والصليبين .
وههنا وقفات لابد منها أمام هذه الأحداث .
من المقرر في الشريعة أنه لا يجوز سفك الدماء المحرمة تحت أي تأويل ، ومعلوم عند سائر فقهاء المسلمين أن الكفر لا يوجب هدر الدم في كل الأحوال بل يعصم الدم بالعهد والأمان والجزية والصلح وغير ذلك ، بل من المقرر عند أئمة السنة أن حل الدم لا يوجب لزوم سفكه إذا اقتضت المصلحة العامة عدم ذلك كما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي لمصلحة عامة المسلمين حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه .
إن من الجناية على المسلمين توسيعَ رقعة الحرب بحيث تصبح بلاد المسلمين الآمنة ميداناً لها ، وهذا الأمر الخطير ربما كان هدفاً تستدرج إليه أمريكا وحلفاؤها ، ليصبح ذريعة لتدخل أكبر وتقسيم للمنطقة .
لا شك أن فكر الغلو أو التكفيري دخيل على مجتمعنا ، وصوت نشاز في دعوتنا ومناهجنا ، وإنما تلقفها طائفة شاذة من شبابنا من بعض التيارات الخارجية .
والمتتبع لهذه الأفكار يعلم أنها نشأت في بعض البلدان نتيجة للصراع بين بعض الحركات والحكومات التي اتخذت أسلوب السجن ، والتقتيل والتشريد ، ومعاملة المنتسبين إلى الحركة الإسلامية معاملة البهائم في السجون ، وملاحقتهم امنيا ، مما أفرز نوعا من الحنق ، والغليان الداخلي ، ومحبة الانتقام ، وتفريغ القهر والكبت الذي وجدوه من الانظمة بمثل هذه التصرفات والمواجهات المسلحة ، ثم بدأت هذه الحركات تبحث لهذه التصرفات عن مسوغ شرعي .(71/1)
إن ( فكر التكفير ) والذي يتبعه بلا شك فكر ( الخروج ) على الحكام والدعوة اليه على اقل الاحوال ، منهج ( خطير ) لما فيه من التخوض في دماء المسلمين ، واثارة الفتن الداخلية ، ولا سيما أن كثيراً مما يقع منه زمن الفتنة يقع بنوع من التأويل الذي يظنه بعض الناس اجتهاداً مناسباً لإذن الشارع ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما حصل بمثل هذا التأويل من الشر والفتن وأنه سفك به دماء قوم من المؤمنين وأهل العهد . وما أشبه الليلة بالبارحة .
كون المستهدفين هم الأمريكان ؛ فإن هذا يؤكد أنه لا يمكن عزلُ ما حدث عن جرائم أمريكا في بلاد الإسلام ، وسياساتها التعسفية الاستعلائية ، فالكراهية لتلك السياسات الفاسدة تتنامى في سائر أنحاء العالم .
ومع هذا نقول : إن من غير المشروع ولا المعقول ، أن يرد على جرائم أمريكا بجرائم في مجتمعات المسلمين !!!
الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ماضٍ إلى قيام الساعة، ولا تزال طائفة من أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، على أنه لا بد من استيفاء أسبابه وتحقيق شروطه ، وأن يتم النظر فيه من قبل العلماء الموثوقين ، بعيداً عن الاجتهادات الخاصة التي قد تعطي للعدو ، هدية ثمينة يحقق عن طريقها عدوانه .
لا لتقديس الأشخاص .. إن من المزالق الفكرية التي ينتهجها بعض الناس التقديس الشخصي .. أو التعصب الأعمى لمن يحبه من العلماء أو العاملين .
قد يعجب أحدهم بعالم أو طالب علم أو مجاهد ، فيجعل هذا الإنسان حجة الله على خلقه ، كأنما هو منزه عن الخطأ ، ومبرء من الزلل . وهذا مزلق خطير في توحيد الاتباع ، كما قال سبحانه (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) .
فعلى طالب الحق أن يتجرد في طلبه ، وأن ينظر في اختلاف الناس بعين الدليل ، متجرداً عن الهوى ، مبتعداً عن العواطف والميول الشخصية .(71/2)
قال ابن القيم : شيخ الإسلام ابن تيمية حبيبنا ، والحق أحب إلينا منه . اهـ
والعواطف عواصف ، ما لم تضبط بضوابط الشريعة والعقل .
إن العاطفة قد تدفع بعض المتحمسين إلى تخطئة وازدراء الطرف الآخر ، واتهامه بالعجز والخور والجبن ، لأنه لم يواجه الكفار أو لم يقاتلهم !!
ونحن نسأل هؤلاء : هل كان عليه الصلاة والسلام جباناً أو عاجزاً عندما عقد صلح الحديبية وهو على الحق ؟ أو عندما هم بإعطاء بعض الأحزاب ثلثي ثمار المدينة ليرجعوا عن أصحابه لما شعر بعدم تكافؤ القوى ؟
سبحان الله .. إن البطولة لا تكون بالاندفاع والمواجهة في كل حال ، ودون نظرأو علم شرعي .. بل البطولة حقاً أن تقف مع أمر الله دائماً سلماً وحرباً .
من الخطأ أن تستغل هذه الأحداث بطريقة تصفية الحسابات مع هذا الطرف أو ذاك, على نحو ما تصنعه بعض الجهات الإعلامية .
إننا مطالبون ببيان خطر الغلو في الدين ، و ضرورة حفظ امن المجتمع ، ومطالبون كذلك ببيان خطر بعض الكتاب في الصحافة والقنوات والإذاعات الذين استغلوا هذا الحدث في الطعن في العلماء والدعاة ، والتشكيك بمناهجنا الدراسية المستمدة من الكتاب والسنة ، ويربطون بين هذا وبين ( حلق القران ) ، ودور ( هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وغيرها من مؤسسات المجتمع الدينية التي أصبحت غصة في حلوقهم .
أسألكم بالله .. لو أن رجلاً تطبب ، وبدأ يمارس مهنة الطب ، ثم تسبب في موت بعض الناس . هل يسوغ لإنسان أن يتهم مهنة الطب ، أو يعمم هذا الحكم على الآلاف من الأطباء ؟
إذن لماذا يحاول بعض المفسدين أن يتهموا مناهجنا التعليمية والدعوية التي تربى عليها الملايين من أبنائنا ، أو يعمموا هذا الحكم على الملايين من أبناء الأمة المتدينين .
وإن من الجرأة أيضاً أن يقوم بعض العلمانيين بتقديم الأنموذج الغربي للأمة ، وكأن الإسلام الذي بزعمهم هو سبب هذه التصرفات لا يصلح منهاجاً للأمة .(71/3)
إن خلط الأوراق ، وتوسيع دوائر الاتهام يزيد الشعور بالعدوان والظلم ، ومن يتمتع بحس شرعي – أو حتى وطني- لا يسوغ له أن يساهم في زيادة وقود الفتنة .
ألا فليعلم هؤلاء أن الكلمة أمانة , ورب كلمة تهوي بصاحبها في النار ، (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
قل هو من عند أنفسكم :
علينا أيها الأحبة أن نراجع أنفسنا ، وأن نعود لديننا ، وأن نعلم أنه ما نزلت فتنة ، ولا حل خوف ، ولا فُقد أمن إلا بذنب .. وقد ضرب الله لنا الامثال في القران عن عتابه لانبيائه ، ولصحابة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وان بعض ما اصابهم كان بسبب في انفسهم ، قد اقترفوه ( اولما اصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم انى هذا ، قل هو من عند انفسكم ) .
أيها الأحبة .. هل من علاج لهذا الواقع المرير الذي تجرعنا بعض غصصه ؟
إننا نملك بحمد الله الكثير من الوسائل للعلاج والوقاية من هذه الإنحرافات .
الدعوة والإصلاح .. علينا جميعاً أن نعي مسؤوليتنا في عملية الإصلاح ونشر الإسلام الصحيح ، وتوعية الناس والشباب ضد الأفكار المنحرفة .
إن الشباب إذا لم يجدوا قنوات الدعوة ومحاضن الإصلاح التي يقوم عليها علماؤنا ودعاتنا في هذه البلاد ، فسيتجهون إلى جهات أخرى يتلقفون منها مثل هذه الأفكار .
وإن من من أقوى الأسلحة التي يمكن أن نتصدى بها في وجه التيارات المنحرفة ؛ هذه الأنشطة والبرامج الدعوية المنتشرة في بلادنا . ونحن والله نتحدى العلمانيين والمنافقين الدجالين أن يجدوا مثل هذه الأفكار المنحرفة في مناهجنا أو برامجنا التي تقوم عليها مؤسساتنا الدعوية والتربوية .(71/4)
لا بد أن نربي أنفسنا ومجتمعنا على الوسطية .. الوسطية التي هي سمة هذه الأمةِ الوسط .. فلا إفراط ولا تفريط ، فكما أن الغلو تطرف ، فإن التفريط والتنازل والتمييع تطرف ، والحق هو الوسط الذي يوافق الشريعة .. وإذا كان استباحة دماء المعاهدين في بلاد الإسلام غلو وتطرف .. فإن تمييع الدين ومولاة الكفار أو محبتهم تنازل وتطرف .. والوسط هو شرع الله .
على المسلم أن يقدم على أي عمل تختلف فيه الآراء ، أن يتريث ، وأن يرجع إلى العلماء الموثوقين ، وأن يتقي الله في جر الأمة إلى الويلات باجتهادات فردية .
علينا ألا نستعجل في استدعاء النصر من قبل أن تكتمل شروطه أو نقوم باسبابه ، وخاصة اننا نعيش في بلد اسلامي ، في ارض الوحي ومهبط الرسالة ، ومهما كان فيها من اخطاء ، فان هذا لا يسوغ ابدا مثل هذه التصرفات ، لان هذا يدل على عجزنا في الاصلاح والتغيير .
على العلماء والقضاة والدعاة دور كبير في احتواء الشباب ، واستقبالهم ، وخفض الجناح لهم، والرفق في توجيههم ونصحهم، والصبر على ما يبدر منهم بسبب الغيرة والاجتهاد .
فتح باب الحوار العلمي الهادئ، المعزول عن المساءلات ، والذي بموجبه يمكن طرح الموضوعات ، ومعالجتها بالمحاورة وتصحيح الاستدلال ، بحيث تنكشف الحقائق، ويتبين قوة القول أو ضعفه، وهذا هو المنهج العلمي الشرعي .
الدخول في اهتمامات الشباب ومشاكلهم ، وتلمس احتياجاتهم ، وتوفير الفرص الوظيفية لهم ، ليمارسوا حياتهم الطبيعية ضمن أفراد المجتمع .
القضاء على المناخ المناسب لنمو هذه الأفكار سواء بإعلان المنكرات، وحماية المحرمات، وإشاعة أسباب الانحراف ، فإن إشاعة المنكر تطرف يدفع إلى تطرف مضاد، والمجتمع بحاجة إلى حمايته من مظاهر الغلو ، ومن مظاهر التسيب والانحلال.(71/5)
وأخيراً أيها الأحبة .. إنه وإن عظم أسفنا ، واشتد حزننا على وقوع مثل هذه الأعمال في بلادنا ، فإن أملنا بالله كبير أن يجعل مع العسر يسراً ، ومع المحن منحاً ، ومن الشدائدِ فوائد ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون) .
وإن من الواجب علينا أمام هذه الأحداث الخارجية والداخلية أن نلجأ إلى الله تعالى ، وأن نعتصم بحبله ، وأن نتمسك بدينه ، وأن يعلم كل واحد منا أنه مطالب بالعمل للدين ، ونصرة هذه الأمة التي تكالب عليها أعداؤها .
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(71/6)
خطبة ( رحلة إلى الجنة )
إن الحمد لله نحمده ..........
السعادة والنعيم مطلب كل إنسان .. كلنا يحب أن يكون له قصر رضي .. وطعام شهي .. ومركب وطي .. سيارة فارهة .. وملابس فاخرة .. وزوجة حسناء جميلة .
هذا هو نعيم الدنيا الذي تعلقت به قلوبنا .. ولكن .. (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين)
نعيم الدنيا نراه بأعيننا ، ونحسه بجوارحنا .. لكننا نؤمن أن نعيماً آخر هو أعظمُ وأبقى من هذا النعيم .. (قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً) .
نعم .. إنه نعيم الآخرة ، فهل رأينا ذلك النعيم؟ هل دخلنا الجنة؟
لا .. لكننا اليوم على موعد مع رحلة إيمانية ، نطوّف من خلالها في أرجاء الجنة عبر الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، لنقف على شيء من ذلك النعيم ، ونقارنه بنعيم الدنيا .
ولننتقل إلى المشهد الأول ، عند أبواب الجنة .(72/1)
الجنة تُزلف للمتقين وتُقرَّب إكراماً لهم ، وهم يزفون إليها وفوداً مكرمين (- رضي الله عنه - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - { - - - } - ( قرآن كريم - { } - - - ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - - فهرس - ( { ( { } - - رضي الله عنهم - - ( - - - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - } - ( } - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - ( { - - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم -(( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - ((- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - (- عليه السلام - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - مقدمة - - { - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( فهرس - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (( - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - ( - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - (((() .. أبواب في غاية الوسع والكبر .. قال فيها - صلى الله عليه وسلم - : ((إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة , وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام)).
فياله من مشهد عظيم ، أبواب الجنة الثمانية تفتح .. فأين أنت يا ترى؟ .. ويا ليت شعري من أي باب تدخل؟ .. فإذا دخلت يا فرحة قلبك والملائكة تناديك (( المحتويات ( فهرس - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (( - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ( - ( - ( - - - - ( - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - ) .
تدخل الجنة ، وتمشي بقدميك على أرضها ، فإذا بأرضها ليست كأرضنا .(72/2)
تمشي على تراب هو الزعفران .. تمشي على حصباء هي اللؤلؤ والياقوت .
أرض لها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
تدخل في الجنة ، وإذا هواؤها العليل ، وإذا ريحها الطيب ، روح وريحان ، وإذا قصورها وبساتينها أمامك .. فهل تعرف قصرك؟ هل يحتاج أهل الجنة إلى من يدلهم على بيوتهم ؟ لا والله .
(- رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( - ( - ( - - (( ( - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - صدق الله العظيم فهرس - - ( } - ((( - ( - ( } فهرس - (- رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ((( ( المحتويات ( - - ( - ( - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - ((( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - مقدمة - - - رضي الله عنه - - ((( ( المحتويات ( - ( - ( - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { } - جل جلاله - { - ( - - - - - رضي الله عنهم - - - ( { - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - مقدمة - ) .
قال جمهور المفسرين : يعرفون بيوتهم في الجنة كما تعرفون بيوتكم في الدنيا .
ثم ما بناء هذه القصور؟ أهي كبيوتنا مبنية من الطوب والإسمنت والرخام؟ لا .. بل هي كما قال - صلى الله عليه وسلم - :لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، وملاطها (أي الطين الذي يوضع بين اللبنات) من المسك الأذفر (طيب الرائحة) .. وبناء آخر : لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً .. وبناء آخر : غرف يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها .. نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها .
أما طعام أهل الجنة وشرابهم فهو ألذ وأشهى من طعامنا وشرابنا ، ليس كمطاعمنا الراقية ، ولا كبوفيهاتنا المفتوحة.
استمع إلى من صنع طعام الجنة وهو يصف هذا الطعام (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون)
فاكهة الجنة ، ألين من الزبد ، أحلى من العسل ، أبيض من اللبن.(72/3)
وإذا اشتهيت الفاكهة في الجنة ، فهل تظن أنك تتكلف صعود النخيل والأشجار ، لكي تجني التمر والثمار؟ لا والله .. بل هي كما قال الله (قطوفها دانية) ، (( { - عليه السلام - - ( الله أكبر - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - رضي الله عنهم - - ( - ( فهرس - (( ( تمهيد فهرس - ( - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - (( قرآن كريم ((( - الله - - ( - ( - - - ) يأكل منها القائم والقاعد والمضطجع.
يرى أحدهم الطير في السماء فيشتهيه ، فإذا به يسقط بين يديه ناضجاً شهياً (ولحم طير مما يشتهون) .
وأما شرابهم ، فحدث عن الكافور والسلسبيل ، والتسنيم والزنجبيل .. عينان تجريان .. وعينان نضاختان .
ويصف الله أنهار الجنة وهي تجري بالأشربة اللذيذة فيقول : ( - - { - - (( ( - ( { - ( - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - ( - - } تم بحمد الله ( - ( - - ( - صدق الله العظيم ( - - - عليه السلام -( ( - ( { - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - (- رضي الله عنه -( { - ( بسم الله الرحمن الرحيم { - ( - } - - رضي الله عنه -(- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - (( مقدمة ( - (( - ( ( - ( { - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - ( - - - - - { - { - - رضي الله عنه -((( - ( - ( } ( - ( - - ( - ( { - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - - - - رضي الله عنه -( - - رضي الله عنهم - - - ( - تم بحمد الله )(72/4)
نفى الله عن أشربة الجنة كل آفة تعرض لها في الدنيا ، فالماء غير آسن ، لا يتغير بطول المكث .. واللبن لا يفسد أو يحمض .. والخمر لا يصدّع الرؤوس ، ولا يفسد العقول .. والعسل مصفى من الشوائب والأكدار .
وإذا أكل أهل الجنة وشربوا ، أين يذهب طعامهم وشرابهم؟ لا تظن أن مآله يكون كطعامنا وشرابنا .. بل هو مسك يخرج رشحاً وعرقاً من أجسادهم ، وجشاءً من أفواههم .
أما ثياب أهل الجنة ، فليست كثيابنا ، ولو صنعت من أفخر أنواع الأقمشة .. قال الله (( المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - (- رضي الله عنه -( ( - - - عليه السلام - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - } ( - - ( - ( - ((( - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } } - ( قرآن كريم - - ( مقدمة - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - { - ((( ( المحتويات ( - - - { - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - - عليه السلام - - - - - - - رضي الله عنه - - - { - ( - قرآن كريم ( - - ()
وصف الله ثياب أهل الجنة بحسن ألوانها فقال : خضر .. ووصفها بطيب ملمسها فقال ثياب سندس خضر وإستبرق) والسندس ما رق من الحرير ، والإستبرق ما غلظ منه.
ومع هذه الثياب الجميلة ، يحلون بالحلي والأساور (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ، ولباسهم فيها حرير)
أيها الأحبة : هل في الجنة مراكب؟ نعم نحن في هذا الزمان نحب أن نركب السيارات الفاخرة .. ترى الواحد منا يركب الدين تلو الدين حتى يشتري سيارة آخر موديل لكسس ولا فياقرا ولا بي إم .. ثم تراه في الغد يسوق السيارة إلى الورش الصناعية .. أو تسوقه حمانا الله وإياكم إلى الحوادث والأخطار .(72/5)
نعيم الدنيا مشوب بالشقاء ، ليس له صفاء ، ليس له بقاء .. أما نعيم الآخرة فاستمع إلى هذا الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من خيل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت إلا كان .. ثم جاء آخر فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من إبل؟ ، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بجواب يعم جميع المركوبات فقال : إن يدخلْك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك . رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
وأما سماعهم وطربهم (فهم في روضة يحبرون) .. ليس كغناء الدنيا ومعازفها المحرمة ، فمن سماعهم غناء الحور العين ، يغنين بأجمل الأصوات .. ومن سماعهم أن الريح إذا هبت في الجنة هزت غصون الأشجار ، وحركت أوراقها فتُسمع لها أصواتٌ لم تَسمعِ الخلائقُ مثلَها .. فإياك أن تحرم هذا السماع بسماع الحرام
وأما نساء أهل الجنة فلسن كنساء الدنيا .. ألم تسمع قول الله تعالى (ولهم فيها أزواج مطهرة) ، مطهرة من الحيض والنفاس ، ومن البول والغائط والمخاط والبصاق وسائر الأنجاس .
فيا من انتهك حرمات رب العالمين .. إياك أن تبيع الحور العين ببنات الطين .. غض بصرك عن السفور ، واحفظ فرجك عن الفجور ، وقدم العفة مهراً للحور .
قال سبحانه : (وزوجناهم بحور عين) الحوراء : الشابة الجميلة البيضاء ، شديدة سواد العين ، شديدة بياضها .. والعيناء :واسعة العينين .
وقال تعالى : (كأمثال اللؤلؤ المكنون) (كأنهن الياقوت والمرجان) كأن الحورية الياقوت في صفائه ، والمرجان في حسن بياضه .
وقال سبحانه (فيهن خيرات حسان) خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه ، جمع الله لهن الجمال الحسي والجمال المعنوي .
أيها الأحبة .. ما رأيكم لو أن امرأة واحدة من الحور العين أطلت علينا في سمائنا ، ماذا يحدث في هذا الكون؟(72/6)
استمع إلى الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - وهو يصف هذا المشهد ويقول : لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً (أي ما بين المشرق والمغرب يعج بريحها الطيب ) ، قال : ولأضاءت ما بينهما (ليس لأنوار الأرض مكان ، ليس للشمس مكان عند نور الحورية) ، قال : ولنصيفها على رأسها (أي خمارها) خير من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري عن أنس
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين ، على كل واحدة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء اللحم . أخرجه أحمد
لو ضحكت في وجه زوجها لأضاءت الجنة من نور مبسمها .. ولو بزقت في ماء البحر لجعلته عذباً زلالاً من حلاوة لعابها .. ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة .
قال ابن القيم رحمه الله :
وإذا بدت في حلة من لبسها * وتمايلت كتمايل النشوان
تهتز كالغصن الرطيب وحمله * ورد وتفاح على رمان
وتبخترت في مَشيها ويحق ذا * ك لمثلها في جنة الحيوان
حتى إذا ما واجهته تقابلا * أرأيت إذ يتقابل القمران
فسل المتيم هل يحل الصبر عن * ضم وتقبيل وعن فلتان
وسل المتيم كيف حالته وقد * ملئت له الأذنان والعينان
من منطق رقت حواشيه ووجه *كم به للشمس من جريان
وتدور كاسات الرحيق عليهما * بأكف أقمار من الولدان
يتنازعان الكأس هذا مرة * والخود اخرى ثم يتكئان
فيضمها وتضمه أرأيت معـ * ـشوقين بعد البعد يلتقيان
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك والنار . ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله .. أمر أن لا تعبدوا إلا إياه .. وجعل الجنة لمن أطاعه وتقاه .. وجعل النار لمن تعدى حدوده وعصاه .
والصلاة والسلام على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه . أما بعد .(72/7)
ألا وإن أعظم ما في الجنة من النعيم ، التمتعُ برؤية وجه الله الكريم .
فبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ بالمنادي ينادي : يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحي على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم فيستوون على ظهورها مسرعين ، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدًا وجمعوا هنالك فلم يغادر الداعي منهم أحدًا. أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك. ثم نصبت لهم منابرُ من لؤلؤ ومنابرُ من نور، ومنابرُ من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ، وجلس أدناهم وحاشاهم أن يكون فيهم دني على كثبان المسك ، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا ، حتى إذا استقروا في مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزَكموه فيقولون: ما هو؟! ألم يُبيضْ وجوهنا ويُثقلْ موازيننا، ويُدخلْنا الجنة ويُزحزحْنا عن النار! فبينما هم كذلك إذا سطع لهم نور أشرقت له الجنة فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فلا تُرد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة. فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة، أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي. هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف لهم الرب جل جلاله عنه الحجب ويتبدى لهم فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا. ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه تبارك وتعالى محاضرة حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض(72/8)
غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب، ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ) .
إخوة الإيمان .. أهل الجنة في نعيم مقيم .. تعرف في وجوههم نضرة النعيم .. شباب فلا هرم .. وصحة فلا سقم .. وخلود فلا موت .
هذه هي الجنة ، ولعلكم تتساءلون بعد هذا ما الطريق إلى الجنة؟
فأقول : أبشروا ، كلكم يدخل الجنة .. كلكم يدخل الجنة .. كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، إلا من أبى قيل : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى .
أخي الحبيب .. اعلم أنك لن تدخل الجنة إلا بمفتاح .. مفتاح الجنة لا إله إلا الله .. وأسنان المفتاح شرائع الإسلام .. فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح له .. ومن جاء بمفتاح بلا أسنان فلا يلومن إلا نفسه .
قال تعالى: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ والباء هنا سببية أي بسبب أعمالهم الصالحة بعد رحمة الله تعالى .
أخي: إياك أن تكون ممن قال فيهم يحيى بن معاذ الرازي : عمل لسراب ، قلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب!! هيهات .. أنت سكران بغير شراب .
تريد الجنة ، وأنت تنام عن صلاة الفجر!! تريد الجنة وأنت تأكل الحرام وتشاهد الحرام وتسمع الحرام !! فتب من ذنوبك ، وابك على عيوبك ، وإياك أن تُحرم النعيمَ المقيمَ في الجنة بلذة ساعةٍ فانية (بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى )
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(72/9)
خطبة ( زلزال باكستان )
الحمد لله فارِجِ الهمِّ وكاشِفِ الغمِّ ، مجيبِ دعوة المضطرّين، وجابر كسر المنكسرين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، يثيب الصابرين ويجزِي الشاكرين ، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله قدوةُ الصالحين وإمام المخبِتين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وكونوا مع الصدقين) .
عباد الله .. تابعنا وإياكم أخبار ومشاهد الزلزال الذي ضرب شبه القارة الهندية السبت الماضي .. زلزال مدمر بلغت قوته 7.6 درجات ، تجاوز عدد قتلاه خمسةً وعشرين ألف قتيل ، وبدأ الرقم يقترب من الثلاثين ألف قتيل في كشمير الباكستانية وحدها .
أما الجرحى فقد تجاوز عددهم 63 ألف جريح ، وبلغ عدد المشردين بسبب الزلزال أكثر من مليونين ونصف , حسب آخر المعلومات الرسمية.
مشاهد محزنة ، لمدن وبلدات دمرت كليا ، كارثة عظيمة وصفت بأنها أكبر كارثة في تاريخ باكستان على الإطلاق .
تحرك الزلزال ، فأحال الأمنَ خوفًا والحياة موتًا والعامِر خرابًا، والبناء يبابًا، وفي مثلِ طرفةِ عينٍ إذا بألوفٍ من القتلى، وألوفٍ من الجرحَى، وملايين من المشرَّدين، وهرع الناس حتى خُيِّل إليهم أنَّ القيامةَ قامت، فهذه أمٌّ فقَدَتِ ابنها، وذاك ابنٌ ينادِي أمَّه، ومشاهدُ دامية يعجز البَيان عن وصفِها، فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وبعد وقوع الزلزال ، بدأت عمليات الإغاثة والبحث عن الناجين وانتشال الجثث بمعدات بدائية وبسيطة مما سبب ارتفاع عدد الضحايا .
دمر الزلزال قرى بأكملها في شمال باكستان، وكان أكثر المشاهد مأساوية استخراج 400 جثة تلميذ من تحت أنقاض مدرستين في منطقة منسهره شمال غرب البلاد .(73/1)
وفي العاصمة الباكستانية تواصلت العمليات طوال الليل والنهار لإنقاذ الضحايا بين ركام برجين سكنيين انهارا جراء الزلزال .
وبرزت المناطق الجبلية النائية كأشد المناطق حاجة إلى المساعدات ، خاصة وأن عمليات إجلاء الضحايا منها لا تكون إلا بالمروحيات .
وفي الجانب الصحي ، انتشرت الملاريا والأمراض أخرى في كشمير الباكستانية ، حيث انهارت الخدمات الصحية نتيجة الزلزال . وتسببت الجثث المتعفنة ومياه الصرف الصحي في تلوث نهر (نيلوم) وهو المصدر الرئيسي لمياه الشرب في العاصمة الإقليمية مظفر آباد.
وبعد وقوع الكارثة .. بدأت المعونات الدولية تتدفق ببطء ، وتمشي على استحياء إلى باكستان المسلمة ، فقدم الصليب الأحمر الدولي 157 ألف دولار فقط ، وقدمت أستراليا مساعدات طبية وإغاثية عاجلة بقيمة 387 ألف دولار أميركي. ثم أعلنت أمريكا وبريطانيا واليابان ودول حلف الناتو ودول أخرى تقديم مساعدات مالية وعينية وإرسال معدات وفرق إغاثة .
وقد أعلنت الأمم المتحدة أن كل الأموال التي قدمتها دول العالم المانحة لم تتجاوز 165 مليون دولار فقط ، لإغاثة قرابة الثلاثة ملايين مسلم باكستاني ، معظمهم من الأطفال.
معونات تافهة هي والله أقرب للهيلمة الإعلامية ، وذر الرماد على العيون ، بينما رأينا تسابق الدول والمنظمات إلى تقديم المعونات بالملايين لضحايا الإعصار الأمريكي ، فويل للمطففين .
أما المنظمات الإغاثية الإسلامية فقد كان دورها ضعيفاً ، بعد أن شلت حركتها ، وحوربت أنشطتها ، وأصبح كثير منها كبش فداء لما يسمى بالحرب على الإرهاب ، وقد أكد بعض المراقبين أن باكستان تدفع ثمن حظرها لمنظمات الإغاثة الإسلامية والعربية في السنوات الأخيرة والتي كانت تعمل في كشمير وأفغانستان انطلاقا من أراضيها . والله يعلم كم تخسر الأمة ، إذا نحي أهل الصلاح عن أرض الواقع .(73/2)
وقد بدأت بعض الدول الإسلامية إرسال معونات عينية ومالية ، وكانت أعلى هذه التبرعات من الدول الخليجية ، وفي مقدمتها بلادنا المباركة ، ومما يذكر فيشكر ، ما وجه به خادم الحرمين وفقه الله جميع الجهات المعنية بالمسارعة إلى عمليات الإغاثة لمنكوبي الزلزال ، وتشغيل جسر جوي من الطائرات السعودية لتقديم المساعدات العاجلة من أطباءَ وأدويةٍ وخيامٍ وبطانياتٍ وموادَ غذائية ، لتلبية الاحتياجات الإنسانية للمتضررين من الزلزال ، وأمر جزاه الله خيراً بإطلاق حملة تبرعات شعبية على مستوى مناطق البلاد، لجمع التبرعات لمصلحة الضحايا.
ولنا مع هذا الحدث عدة وقفات :
الوقفة الأولى) وزلزلها الله جل جلاله:
إنَّ المسلِمَ اللبيب ليقِف أمامَ هذه النوازل موقفَ التفكُّر والاعتبار بتذكُّر قوّةِ ربِّه الأعلى وقدرتِه سبحانه، تلك القوة والقدرة التي لا تماثِلُها أيُّ قوّةٍ .. قال تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، وقال جلّ وعلا: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين) .
الزلزال جندي من جنود الله، وعذاب من عذاب الله ، يسلّطه على من يشاء، لا يستطيع المخلوق الضعيف أن يقف أمامه مهما بلغت قوته.
عندما تتحرَّك الأرضُ بصوتها المخيفِ ودويِّها الرهيب ، وتتساقط الجُدران وسُقُف الأبنية ، ويصبِح أعلى الأرضِ أسفلَها ، في تلك اللحظةِ يشعر الإنسانُ بجلال الله وعظمتِه وسلطانه وجبروتِه .. فيمتليء قلبه خوفًا من ربِّه ، وخُضوعًا وإِخباتًا إليه ، ومحبّةً ورجاء لما عنده ، وطاعةً له ، ونُفرةً مِن معصيتِه.(73/3)
وإن مما يُؤسَف له ويدعو إلى العجب ، ما درجت عليه أكثر وسائل الإعلام من إظهار هذه الكوارث على أنها ظواهر طبيعية، وأنّ سببها مجرد تصدّع في باطن الأرض ضعُفت القشرة عن تحمّله . ونحن نقول لهؤلاء: هذا الكلام صحيح ، لكن قولوا لنا مَن الذي قدّر لهذا الصدع أن يحدث؟ ومن الذي أضعف قشرة الأرض أن تتحمّله؟ أليس هو الله؟! وهو سبحانه أخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك بسبب ذنوب ومعاصي بني آدم ، ومن أصدق من الله حديثاً .
وما أشبه حال هؤلاء المكابرين بحال من ذكرهم الله في كتابه العزيز، فإذا أصابهم الكرب والضرّ قالوا: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) ، فهذا أمر طَبَعِيّ لا علاقة له بذنوب العباد، فيواصلون في إعراضهم وفجورهم ويقولون: (إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ).
الوقفة الثانية) اقتربت الساعة:
إنّ من تقدير الله تعالى الحكيمِ الخبير أن حجبَ العلم بوقتِ قيامِ الساعة عن جميعِ خَلقه، واختصَّ بِهِ في علمه، وجعَله مِن غيبِه .. كما قال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) .. وقال عزَّ من قائِل: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) .. غيرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بما جاءَه من ربِّه عن أماراتِها وأشراطِها، وكان مما أخبرَ به من أشراط الساعة كثرةُ الزلازل التي تكون في آخرِ الزّمان كما جاء في الحديث الذي أخرجَه البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاتقوم الساعة حتى تكثر الزلازل) .
ولقد كثرت الزلازل المروِّعة ، وتتابع وقوعها في سنوات متقاربة ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان .
الوقفة الثالثة) حكمة بالغة:(73/4)
لماذا يقدر الله وقوع هذه الزلازل والكوارث؟ وما الحكمة من وقوعها في حق شعب مسلم؟
لا شك إن الله تعالى لا يخلق شرًّا محضًا، فكم من شرٍّ في نظر الناس يحمل في طيّاته خيرًا كثيرًا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
أقول هذا بعد أن اطلعت على عدة مقالات في بعض الصحف لبعض من عرفناهم بالأمس من الكتّاب المنحرفين ، القاصرين في العقل والدين، يعترض أحدهم أن تكون هذه الكوارث من آثار الذنوب، ويقول الآخر مُلْبسًا الحقّ بالباطل: كيف تقولون إن إعصار كاترينا الأمريكي عقوبة إلهية فهل هذا الزلزال الذي وقع في بلاد مسلمة عقوبة؟ ما ذنب شعب فقير مسلم لكي يحلّ به هذا الدمار؟!
أقول: سبحان الله! ما أشدّ حمقهم ونقص عقولهم! ألم يطّلع هؤلاء وأمثالهم من سَقَط الكُتّاب على قول الله جلّ وعلا: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)؟! ألم يقل الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .
لكننا مع هذا نقول .. شتان بين نزول الزلازل والكوارث بالمسلمين وغير المسلمين .
ولذا ، نعود للسؤال فنقول : ما الحكمة من وقوع هذه الزلازل بالعباد ، سواءً المسلم منهم والكافر؟ الجواب: أن هذا فيه تفصيل:
قد يقدر الله الزلازل وغيرها من الصواعق والأعاصير عقوبة لمن كَفَرَ به وجَحَد نِعْمَته، كطوفان قوم نوح، وريح قوم هود، وصاعقة قوم صالح، وصيحة قوم شُعَيْب، ورجم قوم لوط، وغرق فرعون وقومه، وخسف قارون .
وقد يقدر الله هذه الكوارث تخويفاً للعباد ، واستعتاباً لهم ، ليتضرعوا ، وينيبوا إليه .. (وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) .(73/5)
يبتلي الله عباده لتستيقظ النفوس الغافلة، وتَلِين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد يأذن الله سبحانه للأرض في بعض الأحيان بالتنفس فتَحدُث فيها الزلازل العظام ، فيَحدُث من ذلك لعباده الخوف والخشية ، والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرع إلى الله سبحانه والندم ، كما قال بعض السلف وقد زُلزلت الأرض : إن ربكم يستعتبكم . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد زُلزلت المدينة ، فخطبهم ووعظهم ، وقال : لئن عادت لا أساكنكم فيها " انتهى كلامه رحمه الله .
وقد روى الإمام أحمد عن صفية أنها قالت: زُلزِلت المدينة على عهد عمر بن الخطاب، فقال: (يا أيها الناس، ما هذا؟! ما أسرع ما أحدثتم! لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا)، وقال كعب : "إنما تُزلزَل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فترعد خوفًا من الربّ جلّ جلاله أن يطّلع عليها".
وقد يقدر الله هذه الكوارث لتطهير المؤمنين الصابرين الصادقين من الذنوب ومُضاعفة ثوابهم، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوِْْف وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّر الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
إن هذه الزلازل مع ما فيها منَ الرّزايا والبلايا والآلام النّاشئة عن نقصِ الأموال والأنفسِ والثّمرات وخرابِ العمران ، فأنها لا تخلُو من آثارِ رحمةِ الله بعباده ، وتكفيرِه لسيئاتهم ، كما روى الإمام أحمدُ وأبو داودَ والحاكم بأسانيدَ بعضُها حِسان وبعضُها صِحاح عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمّتي هذه أمّةٌ مرحومة، ليس عليها عذابٌ في الآخرة، عذابُها في الدنيا الفِتَنُ والزّلازلُ والقتل).(73/6)
فالحديث يدل على ان غالبَ أفراد هذه الأمّة مجزيٌّ بأعماله في الدنيَا بالمحنِ والأمراض والرزايَا التي منها الزلازلُ تكفيرًا وتَطهيرًا، كما جاء في الحديث الآخر المتفق عليه عن أبي هريرةَ وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلمَ من نصبٍ ولا وصَب ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يُشاكها إلاّ كفَّر الله بها من خطاياه)) ، وفي صحيح البخاريِّ أيضًا عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يرِدِ الله بِه خيرًا يصِبْ منه)) ، أي: ينزل به مِن ألوانِ المصائب ما يكون كفّارةً لذنوبه ، ورفعة لدرجته إذا صبَر واحتسب .
الوقفة الرابعة) إن زلزلة الساعة شيء عظيم :
عباد الله .. إنَّ زلزالَ الدنيا مَهول، وآثارُه مدمِّرة، وواقعُه مُفجِع، وهو في ذاتِ الوقت موقِظٌ لنا من رَقدتنا لنتذكَّرَ الآخرةَ وزلزلتها وأهوالها .. نعم .. زلزالُ الدّنيا أرضٌ ترتجِف ومبانٍ تسقُط، يموت مَن يموت، ويحيَا مَن بقِيَ له من عُمُره بقيّة، أمّا زِلزال الآخرةِ ففيه تذهَل المراضع، وتضَع الحوامل، وتشيبُ الولدان، ويكون النّاس كالسُّكارى من هولِ الموقِفِ ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).
الأرض والسماوات تبدَّل ، والجِبالُ تنسَفُ ، والبِحارُ تفجَّر، والسماء تنشقُّ وتكشَط، وبرزوا لله الواحد القهار .
اللهم أحسن وقوفنا بين يديك ، واجعلنا في موققف القيامة من الآمنين ، مع الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون . والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...(73/7)
عباد الله .. ما واجب المسلم تجاه هذه المصيبة التي وقعت لإخوانه؟
لا ريبَ أيها الأحبة أنَّ قِيامَ المسلمين بنَجدةِ المنكوبِين وإغاثةِ الملهوفِين ومَسح البؤسِ عن جبين البائِسين ممن نزَلت بهم هذه النوازلُ وحلَّت بديارِهم هذه الزلازل ؛ هو من أفضلِ الأعمال وأزكاها عند الله تعالى؛ لأنها مِن صنائعِ المعروف التي بيَّن رسولُ الله صلوات الله وسلامه عليه حُسنَ العاقبة فيها بقوله: ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السّوء والآفاتِ والهلَكات، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهلُ المعروف في الآخرة)) . والحديث أخرجه الحاكم عن أنسٍ رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع .
عباد الله .. وإننا إذ نتعاطف مع إخواننا المسلمين هناك ونتألّم أشدّ الألم لما حلّ بهم ونسأل الله تعالى أن يرحم ضعفهم ويرفع الضرّ والبأساء عنهم؛ فإنه يجب علينا وعليهم أن نحاسب أنفسنا، ونصحّح أوضاعنا، وأن نسعى جاهدين لإزالة المنكرات والفواحش التي هي سبب حصول البلايا والمحن. وقد روى الطبراني والحاكم وحسّنه الألباني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله).(73/8)
قال الإمام ابن باز رحمه الله: فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والريح الشديدة والفيضانات - البدار بالتوبة إلى الله سبحانه ، والضراعة إليه ، وسؤال العافية ، والإكثار من ذكره واستغفاره ، كما قال صلى الله عليه وسلم عند الكسوف : " فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره " .. ويستحب أيضا رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ارحموا ترحموا " أخرجه الإمام أحمد ، " الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " أخرجه أبو داود والترمذي ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " من لا يرحم لا يرحم " أخرجه البخاري ومسلم .. وروي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه كان يكتب إلى أمرائه عند وجود الزلزلة أن يتصدقوا .
ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء ، وإلزامِهم بالحق ، وتحكيمِ شرع الله فيهم ، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر ... الخ كلامه رحمه الله .
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه ، واعتبروا بما جرى حولكم، وتذكروا قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) .
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك .....
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ....(73/9)
خطبة ( صرخة هدى فلسطين )
أما بعد .. عباد الله .
كم هي مروعة ومثيرة ، تلك الصور والمشاهد التي رأيناها هذا الأسبوع على شاشات الفضائيات .. هذه المشاهد ، ليست مشاهد الفنانات العاهرات ، ولا مشاهد المباريات والملهيات ، بل هي مشاهد من نوع آخر .
مشاهد تقشعر من هولها الأبدان، وتتألم من بشاعتها وقسوتها القلوب، وتلفظها كل معاني القيم والإنسانية .
ففي خضم هذا الأسبوع ، طوت قوات الاحتلال اليهودية الهمجية ، صفحةً جديدة من مجازرها ومذابحها ضد الإنسانية والبشرية.
قصة حزينة ، لعائلة فلسطينية فرت من حر الصيف، وضيق المخيم والحصار ، إلى شاطيء غزة .. لم تكن هذه العائلة تعلم ، أن هذه النزهةَ البريئة ، ستكلفها ثمناً غالياً، وجرحاً كبيراً لن يندمل أبداً .
وصلت الأسرة إلى شاطئ البحر ، وبدأ الأطفال يتلاعبون بالماء بكل براءة ، وبعد ساعة ، وقبل أن يبدأ الجميع في نسيان هموم حياتهم، تسابقهم إليهم حمم القذائف الإسرائيلية الحاقدة ، التي انهمرت عليهم من الزوارق الحربية ، وما هي إلا لحظات ، لتتحولَ أجسادُ خمسة من أفراد الأسرة إلى أشلاءَ ممزقة ، بما فيها الطفل هيثم ذو العام الواحد ، ولتصيبَ القذائفُ العشراتِ من الأطفال والنساء والرجال على شاطي البحر ، في جريمة علنية أمام الملايين من المشاهدين في العالم .
قتلت القذائف والصواريخ خمسةَ شهداء هم عائلة بكاملها ، ولم يبق من هذه العائلة سوى الطفلةِ هدى ، ذاتِ السبعةِ أعوام ، التي رأت بعينيها مصرع والديها وإخوانها وإخواتها.
وفي مشاهد محزنة ، رأينا الطفلة هدى في موقع الحادث ، وهي تتنقل بين أفراد عائلتها ، وكلما جاءت لشخص وجدته مقتولا ، حتى انتهى بها المطاف عند جثمان أبيها ، وهي تصرخ وتبكي ، وتلقي بنفسها على الجثث .(74/1)
كانت الطفلة تصرخ من أعماق قلبها المقهور ، بالقرب من جثه والدها، وجثةِ والدتِها على شاطيء البحر ، وبين جثامين أخواتها وإخوتها التي مزقتها قذائف البوارج البحرية الاسرائيلية ، الحاقدة على الإنسانية .. لقد رآها العالم أجمع ، وهي تصرخ بصوتها المخنوق: يابا .. يابا .. دون أن يجيبها والدها أو أحد من أسرتها ، لأن قذائف الحقد كانت أسرع إليهم من صوتها الضعيف .
لم تستطع الطفلة هدى استيعاب الصدمة ، كانت تصرخ طوال الوقت : أريد أبي، أريد أمي، أين ذهب إخواني .. وخلال التشييع ، سقطت مغشياً عليها سبع مرات ، فيقوم النساء بإيقاظها بالماء والعطور وهي تصرخ: لا تتركوني وحيدة .
وفي المقبرة ، لم يستطع الرجال منع دموعهم ، وهم يرون الطفلة النحيلة تزحف على ركبتيها نحو قبر أبيها ، لتطبع عليه قبلة ، وتطلب منه بصوت منتحب أن يسامحها ، وهي تقول: سامحني يا أبي .
حقاً .. إنها مصيبة لا يتحملها أشد الرجال، فنسأل الله تعالى وهو الرحيم بعباده ، أن يكون في عون الطفلة هدى ، وأن يعوضها خيراً مما أخذ منها ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
تحدث هذه الجريمة وغيرها ، والمسلمون لا يزالون في ذلٍ وهوان ، وبعدٍ عن الرحمن .
ماذا نقول عباد الله لهذه الطفلة ولغيرها من أطفال فلسطين؟ عذراً يا هدى ، فنحن مشغولون بدنيانا وشهواتنا .. عذراً يا هدى فمجتمعاتنا ووسائل إعلامنا مشغولة بالمباريات ، فهي عندنا أهم من سماع هذه الصرخات .
عباد الله .. لقد أعادت هذه الجريمة إلى الأذهان السجل الأسود الإجرامي لليهود ، فإذا بنا اليوم نتذكر صرخات محمد الدرة ووالده !! ونتذكر إيمان حجو !! ونتذكر الطفلة سارة في نابلس !! ونتذكر صبرا وشاتيلا وجنين .
ولا تزال الجرائم تتكرر على مرأى ومسمع من الملايين ، دون أن يحرك العالم ساكنا، أو يهتز ضميره من هول المجازر وبشاعتها .(74/2)
حتى إن الحكومة الامريكية المتطرفة ، امتنعت عن إدانة الجريمة ، وقالت بكل وقاحة: إن لإسرائيل حقَ الدفاع عن نفسها .
إن صرخات هدى ستظل تستصرخ الفلسطينيين والأمة كلها ، أن لا تنسوا فلسطين .. إن هذه الصرخات تثبت أن هذه الشرذمة من اليهود الأنجاس لا تعرف العهد ولا السلام ، ولا تأبه بالشجب والكلام ، بل لا يرغم أنفها ويكسر شوكتها إلا الجهاد والسهام ، ولا يفل الحسام إلا الحسام .
وقد أحسنت كتائب المقاومة الفلسطينية ، إذ أعلنت استئناف عملياتها في هذا التوقيت ، انتقاماً لدماء الشهداء ، ونفوس الأبرياء .
إن مشاهد القتل اليومي ليست بجديدة على الفلسطينيين .. لقد كان الفلسطينيون ، يُقتلون ويُقتلون .. ثم كانت انتفاضة الأقصى بسنواتها الخمس ، فأصبح إخواننا يَقتلون ويُقتلون ، وأصبح الأبطال الاستشهاديون يهددون دولة العدو ، ويقتلون اليهود خوفاً وذعراً وهم أحياء .. أما الآن فإن إخواننا يراد لهم أن يُقتلوا ويهانوا لحساب برنامج يدعمه الأمريكيون والإسرائيليون. باسم رفض المقاومة والجهاد .. وباسم السلام والتفاهم مع اليهود .
عباد الله .. إن الوضع المأسويّ يتفاقم في فلسطين؛ حصار اقتصاديّ, وإقصاء سياسيّ, فتن داخليّة واحتراب داخليّ بين الفصائل الفلسطينية, تصعيد صهيونيّ لإفشال أيّ مشروع إصلاحيّ نزيه, تحالف غربي لإسقاط الحكومة الجديدة المنتخبة.
ولئن كانت هذه الانتخابات بضاعةَ الغرب ، وركنَ سياستهم وحريتهم , فإنهم يتعاملون مع أهل الإسلام بمنظار آخر، فهم يكفرون بالحرّيّة والديمقراطيّة إذا طارت أسهمها للمسلمين, وهم ينكرون العدل والمساواة إذا اتجهت رياحها نحو المسلمين .
إن الغرب لا يعنيه إن مات الشعب جوعا, أو توقّف التعليم, أو هلك المرضى في المستشفيات، المهمّ أن تسقط الحكومة المنتخبة لأنّها لا تركع لهذا الطاغي المتجبّر! ولو كان الشعب الفلسطيني بأكمله ضحيّةً لهذا الحصار .(74/3)
عباد الله .. لكم أن تتصوّروا حجم المعاناة التي يعيشها إخواننا في فلسطين حين يحاصرون من الخارج والداخل ، نسأل الله أن يعينهم ويثبّتهم ، ويفرج عنهم .
ومع هذا ، فرغم المحن فثمّت منح, ورغم الإرهاب فثمّت مدافعات, ورغم الحصار فثمّت تضحيات يقدمها الشعب الفلسطيني الأبي تضامناً مع قيادته الجديدة ، الذي أصبح يردد الشعار الواعي (نعم للجوع.. لا للركوع) .. بل سمعنا عن مبادرات شعبية لفكّ الحصار .. فهذه امرأة تقدم حليها وهو تحويشة عمرها، لحكومة وجدت نفسها محاصرة من كافة الاتجاهات .. وهذا مواطن ينفق من عمره وجهده سنوات حتّى يبنى له منزلا.. فيعلن تقديمه هديّة للحكومة , وموظّفوا دائرة حكوميّة في فلسطين يعلنون عن تبرّعهم براتب شهر كامل لدعم الحكومة .. وإذا كان هذا جهد المقلّ, ومشاركة من يحتاج للمساعدة، فكيف بغيرهم من المسلمين ممن أفاء الله عليهم؟ .
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال إخواننا في فلسطين وفي كل مكان ، وأن يكون لهم مؤيداً وظهيراً ، وولياً ونصيراً ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر ، والشكر له وقد تأذن ..
عباد الله .. ما الواجب علينا شعوباً وحكومات تجاه هذه قضيتنا الأولى قضية فلسطين؟
إن على الحكومات العربيّة والإسلامية كفلاً عظيماً من المسئوليّة، في دعم إخواننا في فلسطين ، لا سيما في سداد التزاماتها للشّعب والحكومة الفلسطينيّة، ولئن كانت عدد من الحكومات وفي مقدمتها المملكة بادرت بدفع حصصها -وهي خطوة تذكر وتشكر- فيفترض في باقي الدول والمنظّمات أن تفي بالتزاماتها، وأن تسارع في سداد ما عليها لا سيما مع شدة الحاجة وازدياد الحصار .. وكم هو جميل أن تتبنى الحكومات العربيّة والإسلامية حملاتِ تبرعٍ شعبية لصالح الشعب الفلسطيني المحاصر .(74/4)
أما وسائل الإعلام المختلفة ، فعليها مسؤولية عظمى في نصرة هذه القضية ، والدفاع عن مقدّسات المسلمين، وفضح المخططات الصهيونيّة لتهويد أولى القبلتين, وحماية الشعب الفلسطينيّ من التذويب والتهجير والقتل .
وأما نحن ، الشعوب المسلمة ، فإن من حقوق إخواننا علينا النصرة المشروعة .. "وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ" .. وقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام: "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".
إنّ من العار والعيب أن تحاصرَ أو تبادَ الشعوب المسلمة ، وإخوانهم يتفرجون ، أو يكتفون بالحوقلة والتحسر لا أكثر.
إخواننا في فلسطين اليوم ، هم أحوجُ ما يكونون للنصرة المادية والمعنويّة, ننصرُهم بالمال ليطعم الجوعى، ونوفّرُ الدواء للمرضى والجرحى, ونوفّرُ السكن لمن هُدِمت مساكنهم، وجَرَفت الجرافات الإسرائيليّة مزارعهم، وهي مصدر رزقهم .. ولو أنّ كلَّ مسلم وفّر من مصروفه الخاص جزءاً يسيراً لهذا الشعب الممتحن لاجتمع من ذلك شيء عظيم، ولن يعدم المحسنون وسيلة لإيصال تبرعاتهم, لاسيما والمؤسّسات والهيئات الإسلاميّة تقوم بدورها في إيصال الدعم والمساندة لهذا الشعب المحاصر، بل في بعضها -كالندوة العالميّة للشباب الإسلامي- لجنة خاصة بفلسطين .
وأخيراً .. ننصر إخواننا بالدعاء ، بتفريج كربتهم ، وسد حاجتهم, وجمع كلمتهم, ونصرهم على أعدائهم .
اللهم يا حي يا قيوم ، يا ذا الجلال والإكرام ، انصرك إخواننا المجاهدين في سبيلك في فلسطين .. اللهم ثبت أقدامهم ، واربط على قلوبهم ، وسدد رميهم ، واجمع كلمتهم .. وايدهم بجندك .. ياقوي يا عزيز .
اللهم ياعزيز ياجبار .. ياقوي ياقهار .. عليك باليهود الكفار .. والخونة الفجار .. اللهم أنزل عليهم بأسك .
اللهم اخسف بهم الأرض خسفاً .. وأسقط عليهم السماء كسفاً .. اللهم انتقم للمستضعفين ..(74/5)
ربنا إنك آتيت شارون وأولمرت وملأهما زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .(74/6)
خطبة ( ضرب لبنان )
أما بعد ..
إخوتي في الله، يعيش إخواننا اليوم في فلسطين ولبنان ، زمنًا عصيبًا وجرحًا مميتًا وألمًا فظيعًا .. جثث متقطعة ، وبيوت مهدمة ، وأسر مشرّدة ، وأطفال يتامى ، ونساء ثكلى، وقد لا تسعفك الكلمات في القواميس عن وصف حالهم التي لا تُسرّ صديقًا ولا تجعل العدو حاسدًا .
إن أهم ما ينبغي التأكيد عليه هذه الأيام في خضم هذه الأحداث الرهيبة التي تحيط بأمتنا هو مسألة أسلَمة الصراع، والنظَر من زاوية واحدة لمجرَيات الأحداث، وهو أن هذه الحرب السافرة هي حرب دينية ، لها وجهان لعملة واحدة: وجه الصهيونية اليهودية التي ترفع لواءها إسرائيل، ووجه النصرانية الإنجيلية البروتستانتية، التي تمسك بمقودها أمريكا.
وصدق الله العليم الخبير: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]؟!
وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ يبين النص بأنها مقاتلة مستمرة وأنها حرب شاملة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)) رواه أحمد ومسلم عن المستورد رضي الله عنه .(75/1)
وعن جبير بن نفير أنه سأل ذا مخبر رضي الله عنه عن الهدنة، فقال: سمعت رسول الله يقول: ((سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ ، فَيَقُولُ غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
لقد كانت أول مواجهة قتالية مع الصليبية في مؤتة في زمن النبي ، ثم عزم رسول على مواجهتهم في تبوك، ولم يُقدِّر الله تعالى قتالاً، ثم جاءت بعد ذلك الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين، فكانت المعارك الكبرى، كاليرموك ، وفتح بيت المقدس ، واستمرت الفتوحات الإسلامية حتى بلغت الأندلس، وأزال المسلمون حكم النصارى عنها، وبلغوا وسط فرنسا وحاصروا روما.
ومن جانب آخر كانت الحروب الصليبية الوحشية التي شهدت المذابح العظيمة ، وتخريب بلاد المسلمين ، وأخيراً كانت الهجمة الصليبية الاستعمارية التي احتلت بلاد المسلمين وقسمتها إلى دويلات .
وهاهو التاريخ اليوم يعيد نفسه؟! ويبقى الإسلام هو العدو الأول للغرب ، كما يقول "إيجيت روستو" مستشار الرئيس الأمريكي السابق جونسون عام 1967م: "الشيوعيون إخواننا، والأوربيون حلفاؤنا، واليهود أحبابنا، ونحن عدونا الإسلام"؟! .
ويقول "نكسون" يقول: "إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية".
وفي 9/1/1994م صرّح المستشار الألماني "هيلموت كول بقوله: "لا يسعني إلا أن أنصح الصربيين والأوروبيين بأن يستيقظوا من سباتهم، هناك خطر حدوث مواجهة مع 800 مليون مسلم في العالم".(75/2)
ويأتي الرئيس الأمريكي اليوم ليصف الحرب التي يخوضها في أفغانستان والعراق وكثير من الدول الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب بأنها حرب صليبية .. حتى وزير الدفاع "رامسفيلد" كان سبب اختياره لهذا المنصب هو أطروحة قدمها لوزارة الدفاع الأمريكية، رسم فيها سيناريو الحرب بين قوى الخير والشر، والتي ستؤدي إلى معركة هرمجدون.
ولهذا ليس غريباً على هذه الإدارة المتطرفة أن تقف اليوم مع المعتدي اليهودي ، وتبرر جرائمه ، وتستخدم حق الفيتو في إفشال أي قرار دولي يدين إسرائيل .
عباد الله .. الحرب بين الإسلام والصليبية على اختلاف أقنعتها وأنظمتها وأسمائها ستستمر إلى نزول عيسى عليه السلام، لأنها حرب عقدية. وهذا لا يعني التكاسل والتباطؤ؛ فلا ينبغي أن ننخدع بحوار الأديان ودعاوى السلام ونشر ثقافة المحبة؛ إذ الغرض من كل ذلك تخدير المسلمين.
واجب المسلمين اليوم ، المدافعة ومقاومة الكفر والبغي؛ لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهذا يُلزمنا بإعداد القوة ، كلِّ القوة؛ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ .. وأعظم القوة ، القوة الإيمانية، يقول تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ .
نعم .. لينصرن الله مَن ينصر دينه، ويؤيد شريعته، ويعمل بكتابه، ويتّبع سنة رسوله .. وفي المقابل فإن الخزي والعار والذل والهوان لِمَن يترك دين الله ويهمل شريعته . سنة الله التي قد خلت في عباده ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، والحمد لله رب العالمين.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين .. ولا عدوان ...
عباد الله ..أمام هذه الأحداث والأزمات ، يتساءل كثير من المسلمين اليوم: ماذا نفعل؟ ومن المنقذ؟ وما سبيل النجاة؟(75/3)
إنه لا خلاص للأمة من هذه الأزمات إلا بانقيادها لكتاب ربها واتباع سنة نبيها محمد ، فلقد كُتب لهذه الأمة حين تحيد عن الشرع أن تتقلب في الإهانات والمذلاّت، وأن تنتقل من هزيمة إلى هزيمة، كما كُتب لهذه الأمة حين تعتصم بحبل الله المتين أن ترتفع رايات نصرها وتعلو أبراج سؤددها. هذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، ولا أن تُمنع عن سماعها الآذان، ولا أن تحجَب عن رؤيتها العينان.
فلنرفع الغطاء عن أنفسنا، ولنكشف الغشاوة عن أبصارنا، ولنفتح بالوعي أذهاننا، ولتكن حياتنا ملؤها التواصي بالحق ، والتعاون على البر والتقوى، كفانا نكباتٍ تجرح مشاعرنا، كفانا كوارثَ تهزّ كياننا، كفانا نكسات تسوّد وجوهنا.
أما يئسنا من تلمّس النصر عند البشر من دون الله؟! ألم نتّعظ من استجداء النصر من مجلس الأمن؟!
يا مسلمون .. ما الذل الذي أنتم فيه إلا بسبب أعمالكم، فهو زرع قدمتموه ، وهذا حصاده .
قولوا بالله عليكم: ما نتيجة الشركيات والبدع التي تنخر في جسد الأمة؟ ما نتيجة التهاون في الصلوات وإهمال الزكوات؟! ما نتيجة شرب المسكرات وتعاطي المخدرات؟! ما نتيجة سماع الأغاني الماجنات والترويجِ للغانيات الفاسقات؟! ما نتيجة إطلاق العنان لإرواء الملذات والجري وراء الشهوات؟! ما نتيجة الركون إلى الذين فسقوا ومداهنة الذين كفروا وموالاة الذين ظلموا؟! وماذا تنتظر الأمة بعد هذا؟!
إن ما تمر به الأمة اليوم ما هو إلا حصاد زرعٍ سابق ونتيجة سلوك ماضٍ، والنتيجة يراها الناس بأم أعينهم .
أمراض وعلل، وأوبئة أوصلت إلى الشلل؛ تعصف بجسد الأمة فتضعفه، وتنخر في إيمانه فتذيبه وتمحقه، وتنال من شموخ الأمة لتلّها. وفي المنطق السليم والعقل الرصين والفكر الرشيد أن المريض يبحث عن الدواء، وأن المعلول يفتش عن الاستشفاء.
ووالله، لا دواء للأمة إلا بشرع ربها، ولا شفاء إلا بكتاب بارئها، والرجوع إلى دينها.. نسأل الله أن يكون قريباً .(75/4)
ألا وإن من حق إخواننا المنكوبين في فلسطين ولبنان أن نواسيهم في محنتهم وأن نمد لهم يد العون والمؤازرة ، وأن لا نبخل عليهم بدعوة صادقة أن ينصرهم ، ويكبت عدوهم .
اللهم صل على محمد .....(75/5)
خطبة ( عالم السحر )
أما بعد ..
سر من الأسرار، وعالم غريب الأطوار .. مرض خطير ، وشر مستطير ، درج فيه الرجال والنساء ، الفقراء والأغنياء .. حتى أصبح خطراً على العقيدة ، وعلى الفرد والأسرة والمجتمع .
إنه السحر ، قرين الكفر .. الداء العضال الذي تفشى بين الملايين من الناس اليوم .. بما في ذلك الدول التي يُدعى أنها متقدمة .. ففي فرنسا يوجد أكثر من ثلاثين ألف ساحر ومشعوذ .. وفي ألمانيا ثمانون ألف .. وفي غيرها كثير .
إخوة التوحيد .. اعلموا أن السحر ناقض من نواقض الإسلام ، فمن تعاطى السحر أو عمل به فهو كافرٌ بالله ، خالدٌ مخلدٌ في نار جهنم.
قال تعالى:( واتبعوا ما تتلوا الشيطان على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) .
لقد أخبرنا الله تعالى في هذه الآية ، أن الذي يعلم الساحرَ السحر ، إنما هم الشياطين .. ولا يتمكن الساحر من ذلك حتى يكفرَ بالله العظيم ويستعينَ بالشياطين من دون الله .
وقد تواتر النقل بالاستقراء ، والتجربةِ والمشاهدة ، في إثبات العلاقة والتبعية ، والانقياد والعبودية بين السحرة والشياطين .
فالسحرة يتقربون للشياطين بما تحبه من أعمالٍ شركية ، وأكلٍ للخبائث والمحرمات، وتقربٍ بالنجاسات ، ووقوعٍ في الموبقات .
فإذا اجتاز الساحر هذا الامتحان أعانته الشياطين على أعماله الفاجرة .
إخوة التوحيد .. وإذا كان هذا هو حال الساحر ، فقد جاءت النصوص الشرعية بتحريم المجيء إليه، أو تصديقه .
فمن جاءه لم تقبل لك صلاة أربعين يوماً.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).(76/1)
أما من جاءه وصدقه بما يقول فقد كفر بالدين ، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني .
وأما عقوبة الساحر ، فإن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الساحر يقتل إذا ثبت أنه ساحر ، وإذا قُتل لم يغسَّل ولم يكفَّن ولم يُدفن في مقابر المسلمين .
ولا ينبغي التوقف في قتل الساحر ، سواء قيل بكفره وهو الصحيح أم لا ، لأن هذا هو الثابت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي قتله منعٌ من الإفساد وردعٌ لغيره من السحرة .
وقد روي عن جندب مرفوعاً: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف .. وفي البخاري ، كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن اقتلوا كل ساحر وساحرة .. وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتِلت .
أما بالنسبة لتوبة الساحر فهي على قسمين ، كما جاء في عدة فتاوى لسماحة شيخنا العلامةِ ابنِ بازٍ رحمه الله:
القسم الأول: أن يتوب بعد القبضِ عليه أو وصولِ أمره إلى القضاء: فلا يقبل منه في الدنيا ، وينبغي على القاضي قتلُه من غير استتابة ، تخليصاً للمجتمع من شره ، أما توبته فهي بينه وبين الله تعالى .
القسم الثاني: أن يتوب قبل القبض عليه ودون دعوى من أحد: فهذا تقبل توبته كغيره من أهل الكفر .
قال الشيخ رحمه الله: (أما من جاء إلى ولاة الأمور من غير أن يقبض عليه يخبر عن توبته ، وأنه كان فعل كذا فيما مضى من الزمان وتاب إلى الله سبحانه وظهر منه الخير ، فهذا تقبل توبته ؛ لأنه جاء مختاراً طالباً للخير معلناً توبته من غير أن يقبض عليه أحد أو يدعي عليه أحد) اهـ رحمه الله .(76/2)
إخوة التوحيد .. وإذا تحدثنا عن أسباب انتشار السحرة، فإن من أعظم هذه الأسباب ضعفُ الإيمان وعدمُ التوكل على الله .. ومنها: الجهل ، أو الطمع في الدنيا .
وأنبه هنا إلى سبب هام يتعلق بالخدم والسائقين في البيوت .. فإن بعض الخادمات ، تلجأ إلى بعض السحرة في بلدها ، فتبعث إليه شيئاً من شعر مكفولها أو شعر زوجته أو ولده أو شيئاً من لباسهم ، ليعقد فيه شيئاً من السحر ، في غفلة من أهل البيت عن مراقبتها ومتابعة سلوكها .
واعلموا أيها الإخوة أن للساحر علاماتٍ يعرف بها ، كأن يسألَ عن اسم الأم .. أو يأمرَ المريض بأن ألا يذكرَ الله أو أن لا يسميَ عند العلاج .. أو يخبرَ بأمر غيبي كمحل السكن أو الا سم أو اسم الأب ..
أو يعطيَ المريض ورقة مرسوم فيها مربع أو دائرة ، وفيها بعض الحروف أو الأرقام المقطعة ، وقد يكون فيها شيء من القرآن أو الذكر .. ومن علامات الساحر أنه لا يرفع صوته بالرقية ، وقد يتمتم بكلمات غير مفهومة .. وقد يعطي المريض أوراقاً يحرقها ويتبخر بها .. أو يأمرُه باعتزال الناس مدةً معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسميها بعضهم (الحِجْبَة) .. وقد يطلب من المريض ألا يمسَّ ماءً أربعين يوماً ، وهذا يدل على أن الشيطان الذي يخدم هذا الساحر نصراني .
عباد الله .. الحقيقة الكبرى هي قول الله تعالى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) ، فكيف بالساحر الذي هو أداة للشيطان ، إنه أشد ضعفاً ، (إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) .
إذا عرفنا هذه الحقيقة ، فإن الشيطان أوالساحر لا سبيل له على المؤمنين المتوكلين ، (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) ، وإنما يؤتى الإنسان من نفسه ، وضعف علاقته بربه ، وإعراضه عن ذكره .
ولهذا نقول: كيف نقي أنفسنا من السحر ، و كيف نعالجُ السحر ونفكُّه إذا ما وقع لا سمح الله؟
أما الوقاية ، فلها وسائل كثيرة ويسيرة بحمد الله ، أولها وأهمها:(76/3)
تحقيق التوحيد وكمال التوكل على الله ، فمن توكل على الله كفاه ووقاه وحماه ، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) . الثاني:
المحافظة على أذكار الصباح والمساء ، وقراءة المعوذتين والإخلاص .
فعن عبد الله بن خبيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" قُلْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وحسنه الألباني .
قراءة سورة البقرة في المنزل .
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " أي السحرة . رواه مسلم .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ" رواه مسلم .
قراءة آية الكرسي قبل النوم ، وخلال اليوم والليلة .
المحافظه على صلاة الفجر جماعة مع المسلمين في المسجد .
فعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله" .
المحافظة على دعاء الخروج من المنزل: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن من قال ذلك قيل له: كفيت ووقيت ، وتنحى عنه الشيطان .(76/4)
الحرز الرباني ، الذي ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ" متفق عليه .
التمر ، ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تصبح بسبع تمراتٍ عجوة (يعني عجوة المدينة) لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" .وأفتى العلامة ابن باز رحمه الله بأنه يُرجى أن ينفع الله بالتمر كله ، وإن كانت العجوة أفضل .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله واسع الجود والكرَم ، وكاشف السوء والسَقَم ، والصلاة والسلام على محمد الذي وحد الله وهجر كل صنم ، وعلى آله وأصحابه المستعينين بالله من كل ألم ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
عباد الله .. ولعلاجِ السحر ، وفكِّه بعد حصوله عدة وسائل ، فمنها : أولاً
استخراج السحر إذا عرف مكانه ، وإتلافه مع القراءة عليه .
الرقية الشرعية ، وهي قراءة الآيات والأذكار والأدعية مع النفث على المريض ، ولا تكون الرقية شرعية حتى تجتمع فيها ثلاثة شروط: أولها
1- أن تكون بالقرآن والأحاديث والأدعية الطيبة .
2- أن تكون باللغة العربية .
3- أن يكون قلب الشخص معلقاً بالله وأن الشفاء من عنده وبإذنه سبحانه ، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، إنه حكيم عليم.
وليست الرقية حكراً على أحد من الناس ، بل هي متاحة لكل مسلم .. تستطيع أخي أن ترقي نفسك أو أن يرقيك أخوك أو صاحبك أو زوجك .
وإنك لتعجب من بعض الناس الذين يزدحمون على فلان أوفلانة ، وكأن الشفاء لا يحصل إلا بسببه هو .(76/5)
نعم لا شك أن لصلاح الراقي أثر في الرقية، ولكنّ أولى الرقى رقيةُ الإنسانِ نفسَه، وكم من إنسان تحقره ويجعل الله الشفاء في رقيته .
التداوي بالعسل والحبة السوداء وزيت الزيتون وماء زمزم ، وغيرها من الأدوية المباركة.
ما أوصى به العلامة ابن باز المسحور: أن يأخذَ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقَها بحجر ، ويجعلَها في إناء ويصبَ عليها من الماء ، ثم يقرأَ فيها: آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص والكافرون وآيات السحر .. ثم يشربَ بعض هذا الماء ويغتسلَ بالباقي ، ولا بأس بتكرار ذلك حتى يزول السحر .
ومن العلاج أيضاً ، الحجامة ، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أنسٍ المتفقِ عليه: (إن أفضل ما تداويتم به الحجامة) .
الإكثارُ من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بالشفاء ، فهو الذي يكشف الضر ، ويجيب دعوة المضطر .
وأخيراً .. اعلموا بارك الله فيكم أن الباطل لا يزال بالباطل ، فلا يجوز علاج السحر بسحر مثله ، ولا يصح أن يدفع الشرك بالشرك ، والله المستعان .
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم بحفظه ، وأن يقينا كيد الفجار ، وشر السحرة الأشرار ، إنه على كل شيء قدير .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(76/6)
خطبة ( عشر ذي الحجة وعيد ميلاد النصارى)
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وشرع لنا مواسم الخيرات على الدوام ، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام ، وحج البيت الحرام . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .. عباد الله .. ها نحن على أبواب الشهر الأخير من هذا العام ، وفي هذه الأيام ، نستقبل آخر موسم من مواسم الخيرات ، التي تضاعف فيها الحسنات ، وتفتح فيها أبواب الرحمات، وتقال فيها العثرات .. يغفر الله فيها للمستغفرين، ويتوب على المؤمنين، ويجيب فيها السائلين .
عشر ذي الحجة .. الأيام الفاضلة، التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه، فقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} فالليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة، والشفع هو يوم النحر، والوتر هو يوم عرفة .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) ، وفي رواية عند الدارمي وحسنها الألباني في الإرواء: ((ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ، ولا أعظمُ أجرًا من خيرٍ يعمله في عشر الأضحى))، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) .(77/1)
في هذه الأيام المباركة تجتمع أمهات العبادات، فيجتمع فيها الصلاة والصيام والحج والصدقة بالأضاحي والهدي والذكر وغيرُها من العبادات .. فطوبى لعبد استقبل هذه الأيامَ بالتوبة الصادقة النصوح، التوبةِ من التقصير في الواجبات، والتوبةِ من ارتكاب المحرمات، والتوبةِ من التقصير في شكر نعم الله علينا، فكم من نعمة أنعمها الله علينا لم نؤد شكرها، وكم من طاعة لله قصرنا فيها وما تبنا .
طوبى لعبدٍ اغتنم مواسم الخيرات بالعمل الصالح ، الذي يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة . ومن ذلك الصيام .
فيشرع صيام هذه الأيامِ المباركة ، كما صح عند أحمدَ وأبي داود والنسائيِ عن أم سلمة رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ .
ويتأكد صومُ يومِ عرفةَ لغير الحاج، فقد سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) أخرجه مسلم في صحيحه .
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، فقد جاء في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام أعظمُ عند الله ولا أحبُ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتسبيح)) أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر.
ألا وأن أعظم الأعمال في هذه الأيام المباركة ، وأجلَّها وأزكاها عند الله: حجُ بيت الله الحرام، الحجُ إلى البقاع الطاهرة، خيرِ البلاد وأعظمِها حرمة عند الله .(77/2)
عباد الله .. الحج ركن من أركان الإسلام ، ويجب الحج على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع ، وهو واجب على الفور في أصح أقوال العلماء ، ويحرم على القادر تأخيره ، قال تعالى:( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) .
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ . رواه مسلم
ويدخل في شرط الاستطاعة القدرةُ البدنية والمالية ، وذلك بأن يملك الزاد والراحلة بعد حاجاته الأصلية، ومن شرط الاستطاعة بالنسبة للمرأة أن يتيسّر لها محرم يحجّ معها، وأن لا تكون معتدّةً لأنها منهية عن الخروج من البيت .
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقد ثبت في المسند عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ) . وعند ابن حبان وصححه الألباني عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه ، ووسعت عليه في معيشته ، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) .
فإن كان من لا يحج في كل خمسة أعوام محروماً، فما عسانا نقول لمن لم يحج حتى الآن حج الفريضة ، مع تيسر السبل وكثرة الحملات وسهولة السفر وقصر المدة .
وقد روى البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار , فينظروا كلَّ من كان له جِدَةٌ ولم يحج , فيضربوا عليهم الجزية , ما هم بمسلمين , ما هم بمسلمين ) .(77/3)
فيا عبد الله .. يا من لم يؤد فريضة الله ، يا من أصح الله لك جسمك ، ووسّع عليك رزقك ، إلى متى يقعدك التسويف وتلهيك الأماني؟ إلى متى وأنت تؤخر الحج عاماً بعد عام؟.. وهل تعلم أين تكون العام القادم ؟.
وإذا كان بعض الصالحين في زماننا يرد نفسه عن حج التطوع ، تخفيفاً للزحام عن المسلمين (وهذا مقصد حسن) ، فيحرم نفسه من الحج وهي تتوق إليه ، فكيف بمن تعلق برقبته الفرض ، بل ركن الإسلام الذي يجب عليه أداؤه ، وهو يسير على من يسر الله عليه من المواطنين والمقيمين في بلاد الحرمين ، فإن أيام الحج لا تتجاوز أسبوعاً لمن هم في هذه البلاد ، ولا تتعدى أربعة أيام لأهل مكة وما حولها !!
فاغتنم يا أخي هذه النعمة العظيمة! اعزم ولا تتردد ولا تتهاون ، فالدروب ميسرة ، والطرق معبدة ، ورغد العيش لا حد له ، والأمن ضارب أطنابه بحمد الله .
فأقبل رعاك الله ، والتحق بوفود الرحمن ، الذين دعاهم فأجابوه ، وسألوه فأعطاهم . وأبشر بيوم عظيم تقال فيه العثرة وتغفر فيه الزلة ، كما في حديث عائشة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ)) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها .
فياله من مشهدٍ يأخذ بالألباب ويهُز الأفئدة .. فهل شممت عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟! وهل رأيت لباسًا قطُ أجملُ من لباس الحجاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعزُّ وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟! وهل مر بك ركبٌ أشرفُ من ركب الطائفين؟! وهل سمعت نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟!
قف بالأباطح تسري في مشارفها
مواكب النور هامت بالتقى شغفا
من كل فج أتت لله طائعةً
أفواجُها ترتجي عفوَ الكريم عفا(77/4)
تذكر يا رعاك الله أن فضلَ الحج عظيم وأجرَه جزيل , ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما , والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) .
قال ابن حجر: "والحج المبرور هو الذي وُفّيت أحكامه ، ووقع على أكمل الوجوه، الخالي من الآثام ، والمحفوفُ بالصالحاتِ والخيراتِ من الأعمال"، وقال النووي رحمه الله: "الحج المبرور هو الذي لم يخالطه إثم".
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى اللهه عليه وسلم يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيومَ ولدته أمه)) أي: رجع عارياً من الذنوب ، ليس عليه ذنب ولا خطيئة.
وعند أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ) .
وعند الطبراني بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أهل مُهِلٌ قط ولا كبّر مكبّرٌ قط إلا بشر بالجنة)) .
وعند الترمذي والنسائي وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من طاف بالبيت أسبوعًا [أي سبعة أشواط] فأحصاه [أي أتمه وأتى بشروطه وآدابه]كان كعتق رقبة، لا يرفع قدمًا ولا يضع أخرى إلا حَطَّ الله عنه بها خطيئة ، وكَتَب له بها حسنة)) .
عبد الله .. وإذا انشرح صدرك وعزمت على الحج فأوصيك بهذه الوصايا السريعة:
الإخلاص لله وقصد وجه الله عز وجل بالحج .
الاستخارة والاستشارة: فلا خاب من استخار ولا ندم من استشار .
تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما: وكتب الأحكام متوفرة وميسورة بحمد الله.(77/5)
توفير المؤونة والاحتياجات لأهلك والوصية لهم بالتقوى.
التوبة إلى الله عز وجل من جميع الذنوب والمعاصي ، وردُ المظالم لأهلها وتحللُهم منها .
اختيار النفقة الحلال من الكسب الطيب ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
اختيار الحملة ، والرفقة الصالحة الذين يذكرونك إذا نسيت ويعلمونك إذا جهلت .
توطين النفس على تحمل مشقة السفر ووعثائه : فإن بعض الناس يتأفف من الحر أو قلة الطعام أو طول الطريق أو الازدحام ، وكأنه خرج للنزهة والترفيه، فإياك أن تفسد حجك بالمن والأذى وضيق الصدر وإيذاء المسلمين ، بل عليك بالرفق والسكينة.
اجتناب الذنوب والمعاصي بأنواعها ، والتحلي بغض البصر وحفظ اللسان والجوارح .
فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا التفريط والتكاسل ، وإياكم أن تشغلكم الدنيا عن طاعة ربكم ، فإن في ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله .. وفي الوقت الذي يستقبل فيه المسلمون هذا الموسم من مواسم الخير والعبادة، يستقبل النصارى عيدهم الديني ، المستمدَّ من عقيدتهم المحرفة .(77/6)
وإن مما يؤسف له حقاً ، ما طالعتنا به وسائل الإعلام هذه الأيام من تأهب بعض المدن العربية والخليجية ، وتزين شوارعها بالأنوار والزينة للاحتفال بعيد الميلاد المسيحي، وقد تزينت واجهات المتاجر والمقاهي والفنادق .. وباعةُ الزهور والألعاب يتنافسون في عرض بضائعهم ، والحفلات الصاخبةِ تقامُ في البيوت والفنادق ، والإقبالُ على الخمور يكتسحُ المتاجر ، ومحلاتُ الحلويات ينفَد ما لديْها من أنواع الحلوياتِ ، هكذا وكأنك في عاصمةٍ غربيةٍ نصرانيةٍ. مما يشير إلى تبعية مقيتة ، وهزيمة نفسية لم تشهدها أمة الإسلام على مر القرون .
ينبغي أن يُعلَم عبادَ الله أن عيد ميلاد المسيح مبني على تأريخ ديني نصراني ، وهو تأريخ لم تثبت صحته حتى عند النصارى أنفسهم، حيث زاد فيه ملوك الفرنجة في عصور متفرقة حسب مصالحهم .
وقد أغنانا الله معاشر المسلمين بأعيادنا ، فليس لنا في الإسلام إلا عيدان ، وما سواهما بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وعلى هذا فلا يجوز مشاركة النصارى في أعيادهم، ولا تهنئتهم بها .
قال الإمام ابن القيم: "أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك كأن يهنئهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تهنأ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزله أن يهنئه بسجوده للصليب، وكثير ممن لا قَدْرَ للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل ... الخ كلامه رحمه الله .
وقد صدر عن اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد بيان في التحذير من مشابهة الكفار في أعيادهم واحتفالاتهم وما هو من خصائصهم، وتحريم إقامة هذه الاحتفالات أوحضورها أو المشاركة فيها أو الإعانة عليها أوإعلانها والدعوة إليها بأي وسيلة كانت .
وإني والله أتعجب: كيف يحتفل المسلم بهذا العيد ، الذي يكفر فيه بالله ، ويتخذ فيه عيسى إلهاً من دون الله ، أو ابناً لله ، (سبحانه وتعالى عما يصفون) .(77/7)
كيف ، وأبرزُ علامةٍ لهذا العيد هي قضية صلب المسيح ، فهل نصدّقهم أن المسيح صُلِب ليكفر أخطاء البشرية ، أو نصدّقُ الله الذي قال في محكم تنزيله ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) ، وقال: (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً) .
إننا نحن المسلمين نؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لم يُقتَل ولم يُصلَب ، بل رفعه الله إليه، وأنه سينزل في آخر الزمان على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيَكسرُ الصليب، ويقتلُ الخنزير، ويضعُ الجزية .
وبناء على ما تقدم فإنه لا يجوز للمسلم الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية . وهذا العمل المحرم له عدة صور:
الأولى: أن يكون ذلك لمجرد موافقتهم ومجاراة تقاليدهم وعاداتهم من غير تعظيم لشعائر دينهم ولا اعتقاد لصحة عقائدهم . وهذه الصورة محرمة لما فيها من مشاركتهم ولكونها ذريعة إلى تعظيم شعائرهم و إقرار دينهم .
الثانية: أن يكون ذلك لشهوة تتعلق بالمشاركة ، كمن يحضر أعيادهم ليشاركهم في شرب الخمور والرقص ، واختلاط الرجال بالنساء ونحو ذلك. وهذه الصورة أشد تحريماً من الأول ، لأن هذه الأفعال محرمة بذاتها ، فإذا اقترنت بالمشاركة في أعياد الكفار كانت أعظم تحريماً.
الثالثة: أن تكون المشاركة بنية التقرب إلى الله تعالى بتعظيم ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام لكونه رسولاً معظماً ، وهذه الصورة بدعةٌ ضلالة ، وهي أشد تحريماً وضلالاً من الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكون صاحبها يشارك أهل العقائدة الفاسدة .
الرابعة: أن يكون الاحتفال مقروناً باعتقاد صحة دينهم ، أوالرضى بشعائرهم وعبادتهم ، كما يعبرون عنه بوحدة الأديان وأخوة الرسالات ، وهذه الصورة كفر مخرج من الملة ، كما قال تعالى ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)).
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(77/8)
خطبة (عقوق الوالدين)
أما بعد ..
شكاوى مقلقة .. وأخبار مزعجة .. تتفطر لها القلوب، وترتج لها النفوس، هي نذير شؤم، وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاحه .. كيف لا، وهذه الشكاوى والأخبار، تتعلق بأعظم الحقوق بعد حق الله تعالى، إنها أخبار عقوق الوالدين .
هذا يهجر والده لأتفه سبب .. وأخرى تسب أماه لأنها منعتها من الخروج .. وآخر يتجاوز ذلك بالضرب والتعدي على أمه أو أبيه، وربما تصل القضية إلى حد القتل كما نسمع في بيانات تنفيذ بعض الأحكام .
عباد الله .. إننا حينما نتحدث عن عقوق الوالدين فإننا نتحدث عن أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، كيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى:(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) .
وقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يُغْلِظُ لهما في الجواب، ولا يُحِدُّ النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.
عباد الله .. إن من المؤسف حقاً، أن نسمع بين الحين والآخر، أن من أبناء الإسلام من يتنكر للجميل ويقابل الإحسان بالإساءة بعقوق والديه .
وإن العاقل ليتساءل: ما سبب انتشار مثل هذه الجرائم؟
لا شك أن من أسباب انتشارها ضعف الإيمان، إذ لا يجرؤ على هذا الأمر إلا من ضعف إيمانه وخوفه من الله، ومن الأسباب كذلك انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح وأفكارها الهدامة التي تفسد الشباب والبنات، وتجرئهم على الآباء والأمهات، ومنها: اختلاط الثقافات وتأثر بعض الناس بحياة الغربي الذي يعيش وحده، ويهجر أسرته وقرابته فلا يراهم إلا في المواسم والأعياد .
ولا ننسى كذلك سوء التربية أصلاً من الوالدين، فيشب الشاب والفتاة على البعد أو القصور والجفاف في علاقتهما بوالديهما فيكون هذا سبباً في العقوق .(78/1)
أيها الأخوة المؤمنون: ومن عظم حق الوالدين في الإسلام ، أنه قرر برهما وحسن مصاحبتهما بالمعروف، حتى وإن كانا كافرين .
فعن أسماء رضي الله عنها قالت: قَدِمَتْ عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
بل أوجب الله تعالى البر بهما، ولو كانا يأمران الولد بالكفر بالله، ويلزمانه بالشرك بالله، قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً) .
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك بالله، فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه من أصعب الأمور وأعظمها، والموفق من هدي إليه، والمحروم كل المحروم من صُرف عنه .
عباد الله .. لقد بلغ من تأكيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حق الوالدين أن جعله مقدماً على الجهاد في سبيل الله.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل استأذنه في الجهاد: ((أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) [رواه البخاري].
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) [رواه الترمذي وصححه ابن حبان والألباني .(78/2)
وعن معاوية بن جاهمة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لرسول الله: أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها)) [رواه النسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به].
عباد الله .. بر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات، وببر الوالدين تتنزل الرحمات وتكشف الكربات.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين، قاموا به حق قيام، وسطروا لنا صفحات مشرقة من البر .
كان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما سررتني كبيراً، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
وهذا محمد بن سيرين التابعي الإمام رحمه الله كان إذا كلم أمه كأنه يتضرع .. قال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهذا حيوة بن شريح، وهو أحد الأئمة ، يقعد في حلقته يعلم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
هذه بعض نماذج بر السلف لآبائهم وأمهاتهم، فما بال شبابنا اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، وربما عق أحدهم والديه من أجل إرضاء صديق له، أو أبكى والديه وأغضبهما من أجل سفره أو قضاء متعته .
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه .(78/3)
إنها حقاً صورة من صور العقوق، حين يدخل الزوج على والديه عابس الوجه مكفهر الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأم الضَحَكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجته، ولا تحلم أمه بأي هدية منه .
يا أخي .. نحن لا ندعوك إلى الجفاء مع زوجتك أو الإساءة إليها، بل ندعوك إلى أن تؤتي كل ذي حق حقه .
ثم قل لي: من أحق بالبر؟ هذه الأم المسكينة هي سبب وجودك، هي التي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت ونمت، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلت ورجت منك البر عققتها؟
فالله الله أيها الأحبة ببر والدينا، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا، ليسعدنا الله ويجمعنا بهما في الجنة .
والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ....
أيها الأخوة المؤمنون .. نحن في الواقع لا ينقصنا العلم بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين، وأن عقوقهما من كبائر الذنوب.
وإنما ينقصنا العمل بما نعلم .. ينقصنا شيء من المبادرة والاهتمام ، وعدم الغفلة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما .
وينقصنا كذلك الخوف من مغبة وعقوبة العقوق .
أيها العاق .. لا تغتر بحلم الله عليك .. فإنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة.
يقول العلماء: كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر بعض أهل العلم أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي، فقال: لأذبحك فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحن أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الصخرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.(78/4)
إني أدعو نفسي وإياكم أيها الإخوة ألا نخرج من هذا المكان المبارك إلا وقد عاهدنا الله على بر والدينا، وأن من كان بينه وبين والديه قطيعة أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصراً في بر والديه أن يبذل ما بوسعه في برها وإسعادها .
ومن كان براً بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعاً على بر والدينا، اللهم إن كنا قد قصرنا في برهما، أو أخطأنا في حقهما، اللهم فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرفنا وما أعلنا، واملأ قلبيهما بمحبتنا، وألسنتهما بالدعاء لنا، يا ذا الجلال والإكرام .. اللهم وإن كانا ميتين فاغفر لها وارحمهما، وأعنا على الإحسان إليهما بعد موتهما .
اللهم صل على محمد ...(78/5)
خطبة ( عمل المرأة في المحلات التجارية)
أما بعد ..
عباد الله .. قضية تم طرحها في الأيام الماضية ، وكثر عنها الكلام في وسائل الإعلام ، واختلفت فيها الآراء والأفهام ، فكانت الحاجة لبيانها من هذا المكان ، من منبر الجمعة منبر محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وكان مطلع هذه القضية ، ما أمر به ولاة الأمر وفقهم الله لكل خير ، حيث جاء في قرار مجلس الوزراء : قصر العمل في محلات بيع المستلزمات النسائية الخاصة على المرأة السعودية، وعلى وزارة العمل وضع جدول زمني لتنفيذ ذلك ومتابعته .
وبعد صدور القرار .. تباينت الآراء والطروحات .
ووقع الخطأ الفادح ممن اتسع نظرهم لمراعاة أحوال النساء المتسوقات في شرائهن لمستلزماتهن الخاصة ، بينما قصر نظرهم عن مراعاة أحوال النساء العاملات في المحلات ، وضبط ممارستهن لهذا العمل بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد .
وإذا كنا لا نشك في أن الدافع لهذا القرار هو مصلحة مراعاة خصوصية المرأة المتسوقة وحفظ حيائها ومشاعرها في شرائها لمستلزماتها الخاصة وأدوات الزينة ، وتوفير الوظائف للنساء .
فإننا في المقابل ، لا بد أن ننظر في حال البائعة التي تدخل وتخرج صباح مساء مع الرجال يومياً ، وتجاورهم في المقارّ على مدى العام ، وما يترتب على ذلك من علاقات زمالة كما يقولون .
ثم ما حال هذه البائعة في الصباح الباكر وفي المساء المتأخر ، هل ستأمن المرأة على نفسها ؟ خاصة إذ علم بعض ضعفاء النفوس من العاملين أو المتسوقين أنه لا يوجد داخل المحل سوى امرأة .
ثم هل يمكن أن يأتي صاحب المحل في آخر الليل ويغلق المحل عليها ويجرد مبيعات اليوم معها .(79/1)
إن أعظم ما يخشاه الغيور على دينه وعرضه هو سوء فهم أو سوء تطبيق هذا الأمر وعدم تقييده بالضوابط الشرعية ، فتتحول قضية عمل المرأة في بيع المستلزماتهن النسائية ، إلى قضية انتشار النساء البائعات في مختلف المعارض لبيع جميع السلع ، أو وقوع الفوضى في الأسواق كما وقع في هذه الأيام في بعض المدن بعد صدور القرار، فأصبحت المرأة تبيع في المحل، ويدخل عليها الرجال والنساء على حد سواء.
إننا أمام هذه القضية ، وخوفنا على بلادنا ومجتمعنا ، لا يمكن أن نغفل عن الدعوات التغريبية الفاسدة التي يتبجح أصحابها بتحرير المرأة زعموا ، والدعوة إلى نزولها للعمل في ميدان الرجال والاختلاط بهم ، ومن المعلوم أن هذه الدعوات ، تبعاتُها على المجتمعات خطيرة، وثمراتُها مرة ، فضلاً عن مصادمتها للنصوص الشرعية .
ومن أراد أن يدرك ما جناه دعاة السفور والاختلاط من المفاسد التي لا تحصى ، فلينظر إلى المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختيارا أو اضطرارا ، من انحراف المرأة ، وتفكك الأسرة ، وشيوع الفاحشة في المجتمع .
وقد تواترت الأدلة الشرعية على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها، وتحريم الوسائل الموصلة إلى الفاحشة .
قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)).
فأمر الله تعالى المؤمنات بإدناء جلابيبهن وستر أجسامهن إذا أردن الخروج ، لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب .. وإذا كان هذا في مجرد الخروج فقط ، فكيف بالنزول إلى ميدان الرجال والاختلاط بهم بحكم العمل والوظيفة .(79/2)
ويقول الله جل وعلا : (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )).
فأمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض النظر عن الحرام ، وحفظ الفرج عن الزنا ، ثم أخبر سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم وأطهر .. ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها من إطلاق البصر واختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء .
ولهذا أمر الله المؤمنات بعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن سترَ الرأس والوجه ، لأن هذه الوسائلَ والذرائعَ موصلةٌ إلى الأمور المحرمة .
وفي خطاب آخر ، نهى الله النساء عن الخضوع بالقول للرجال لكونه يفضي إلي الفتنة ، كما في قوله عز وجل: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)) .
يعني مرض الشهوة .. ومن البدهي أن المرأة إذا نزلت إلى ميدان الرجال فإنها لا بد أن يحصل بينها وبينهم من الكلام ورفع الكلفة ، وربما الخضوع بالقول ، وربما الخلوة ، ما يجد الشيطان فيه بغيته في تزيين المنكر والفاحشة .
ولما أمر الله تعالى المرأة بحجاب الوجه ، أمر بحجاب آخر ، وهو الحجاب عن الرجال الأجانب والخلوة بهم ، فقال سبحانه:(( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )) .(79/3)
فخير حجاب المرأة بعد حجاب وجهها باللباس هو حجاب نفسها بقرارها في بيتها، وعدم خروجها منه إلا لحاجة، فلا تكون خراجة ولاجة لأتفه الأموركما هو حال بعض النساء.
ولهذا ، أمر الله سبحانه أمهات المؤمنين بالقرار في بيوتهن ، ونهاهن عن التبرج والاختلاط بالرجال ، سواء كان ذلك بحكم العمل ، أو البيع والشراء ، أو السفر أو غيرِ ذلك؛ فقال سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) .
فأَمَر الله أمهات المؤمنين بالقرار في البيوت ، وجميع المسلمات والمؤمنات داخلات في ذلك، لما في ذلك من صيانتهن وسلامة دينهن .
وتأمل معي ، أن الله تعالى سمّى مكث المرأة في بيتها قرارا ، فقال (وقرن في بيوتكن) ، وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها، وحماية لها من الفتن والشرور .
وبعد هذا الوقفة الموجزة مع بعض الأدلة الشرعية ، فإننا ندرك أن هذا القرار الذي يتعلق بمسألة حساسة وخطيرة ، يحتاج تطبيقه وتنفيذه من وزارة العمل إلى مرجعية شرعية تحكم عمل المرأة بالضوابط الشرعية ، كما أنه يحتاج إلى آلية واضحة وصارمة تضمن سلامة تطبيق القرار وحصول المصالح ودرء المفاسد .
وإنك لتحزن أن ترى الآلاف من شبابنا العاطلين ممن يبحثون عن لقمة العيش ، فلا يجدون من الوظائف ما يسد حاجتهم ، حتى صرح معالي وزير العمل لوكالة الأنباء السعودية عقب توليه الوزارة ، أن عدد العاطلين عن العمل من السعوديين في المملكة حسب الإحصاءات الرسمية ، يقدر بنحو 300 ألف عامل .(79/4)
فنحن ننتظر ونأمل من وزارة العمل أن تزيد اهتمامها بتوظيف الشباب من الذكور وهذا هو الأهم ، ثم بعد ذلك إيجاد وظائف للنساء بالضوابط الشرعية .
عباد الله .. إذا نظرنا إلى منهج الإسلام في عمل المرأة ، نجد أن الإسلام لم يفرض على المرأة العمل في الأصل، مع أنه لم يمنعها من ممارسته بضوابطه الشرعية .
فالمسئول عن البيت والنفقات هو الرجل وليس المرأة .. أما المرأة فعملها الأول والأساسي هو ما خلقها الله تعالى له ، من إدارة البيت ، وحضانة الأبناء وتربيتهم ورعايتهم .
فإن احتاجت إلى العمل الوظيفي بأجرة فلا حرج عليها، ويمكن أن تبدأ بالعمل من داخل المنزل، وهناك أعمال وظيفية كثيرة يمكن أن تؤديها المرأة في بيتها . وهو المسمى عالمياً بالعمل عن بعد .. وهذا العمل جاء الحث عليه بحمد الله في قرار مجلس الوزراء حيث نص القرار على تنفيذ أسلوب العمل عن بعد كأحد المجالات الجديدة التي يمكن أن تعمل من خلالها المرأة، وتنفيذ برنامج الأسر المنتجة .
في دراسة علمية مفادها أن ستة وأربعين مليوناً من أصحاب الأعمال المنزلية في أمريكا – ومعظمهم من النساء – ، يكسبون دخلاً أكثر من دخل موظفي المكاتب بنسبة 28%.
وأما إذا احتاجت المرأة إلى العمل في خارج المنزل فبالشروط الشرعية ، ومن أهمها: أن يكون العمل مباحاً ومحفوظاً من الاختلاط بالرجال .. وألا يترتب على العمل إهمال أو تفريط في الوظيفة الأساسية لها زوجةً وأماً.
ومن خلال الإحصائيات الرسمية ، نجد بين يدينا الآلاف من الوظائف المتاحة للمرأة السعودية ، وهي جزء من العلاج ، متى ما وفرنا لها البيئة المناسبة ، والإطار الشرعي الذي يتناسب مع طبيعة المرأة ، ويحفظ لها حقوقها .(79/5)
وعلى سبيل المثال: في الكتاب الإحصائي السنوي لوزارة الصحة عشرات الآلاف من الوظائف المتاحة للمرأة السعودية كالتمريض والوظائف الفنية والطبية وبمرتبات جيدة، والمتطلبات الدراسية لها في معظمها قصيرة الزمن سنتان أو ثلاث أو أربع بعد الشهادة الثانوية .
ومع هذا فهناك إحجام من النساء وأولياء الأمور عن هذا الكم الهائل من الوظائف ، بسبب وجود الاختلاط المحرم في أكثر هذه الوظائف .
وقد أجرت جريدة (البلاد) السعودية استبياناً، شاركت فيها 200 مُمرضة ، كانت النتيجة كالآتي : 62% من المُمرضات السعوديات عوانس ، 25% مطلقات ، 18 % فقط متزوجات ، 32% يرفضن الزواج .
وقد شكا لي عدد من الإخوة الغيورين ، بل ورأيت بنفسي في بعض المستشفيات عدداً من المظاهر السيئة وقلة الحياء بين الجنسين ، بسبب الاختلاط والانفتاح بين العاملين .
إن هذا الأمر هو الذي يصد كثيراً من النساء والأسر عن قبول مثل هذه الوظائف في المستشفيات .
ومما يؤكد هذا ، أننا نجد في المقابل ، تزاحم النساء على وظائف التدريس، حتى إن المعلمة تغترب السنة والسنتين والثلاث وأكثر، ويبقى محرمها معها طيلة هذه السنوات، كل ذلك لأن بيئة العمل صالحة ،وبعيدةٌ عن المخالفات الشرعية .
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا ، ويهدي ضالنا ، ويثبت مهتدينا ، إنه بالإجابة جدير ، وهو على كل شيء قدير .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى .. وقدر فهدى .
عباد الله .. ومع صدور قرار ولاة الأمر وفقهم الله ، فإننا نرجو الله تعالى أن يمضيه إن كان فيه خيراً ، وأن يقيض له من يحسن تنفيذه بما يحقق المصلحة المرجوة منه لهذه البلاد المباركة وأهلها .
ومن أمثل الطرق المقترحة لتطبيق هذا القرار، مشاريع الأسواق النسائية الخاصة التي لا يدخلها إلا النساء بيعاً وشراءً .
وبقيام هذا المشاريع ستتحقق بإذن الله عشرات الآلاف من فرص العمل للمرأة في الأسواق التجارية .(79/6)
ويمكن أن أذكر في هذا المقام بعض التوصيات المقترحة لمثل هذه المشاريع:
لابد من وجود لجنة شرعية تشرف على هذه المشاريع ، وتكسبها الأمان والمصداقية .
لا يشترط أن تكون هذه الأسواق مستقلة عن الأسواق العامة ، بل يمكن أن يكون في السوق العام قسم خاص بالنساء .
من أسباب نجاح هذا السوق المقترح ألا يسمح ببيع المستلزمات النسائية الخاصة إلا فيه .
منع التبرج والألبسة العارية أو السلوكيات السيئة داخل هذه الأسواق سواء من البائعات ، أو المتسوقات ، وهذا الأمر بحمد الله موجود في بعض الأسواق النسائية القائمة .
إعطاء الجهات الامنية وهيئات الأمر بالمعروف صلاحيات أقوى في الإشراف على السوق وتطبيق النظام.
تقرير العقوبات الشديدة على كل من يثبت استغلاله السيء لهذه الأسواق ، أو العاملات فيها ، سواء من ملاك المحلات أو غيرهم .
منع غرف تبديل الملابس لحرمة وضع المرأة ثيابها في غير بيتها ولكي لا تستغل في أمور أخرى .
منع استغلال المحلات في أي نشاط تجاري آخر كالمقاهي والانترنت والكوافيرات .
المأمول في أهل الخير من التجار وأصحاب الأموال أن يبادروا إلى مثل هذه المشاريع وأن يدعموها بما يحقق المصالح المرجوة منها .
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا ، وأن وفق ولاة أمورنا لكل خير ، ويهيء لهم البطانة الصالحة ... ويهدينا وإياهم سبل السلام ..... الفتن .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(79/7)
خطبة ( الذكرى في دروس غزوة بدر الكبرى )
أما بعد .. عباد الله ، ملحمة من ملاحم التاريخ ، وحادثة فرق الله بها بين الحق والباطل .
كانت هذه الملحمة قبلَ أكثرَ من ألفٍ وأربعِمائةِ سنة ، وفي شهر رمضان ، شهرِ الجهاد والفتوحات ، فبين الصيام والجهاد علاقة وثيقة ، وصلة عميقة، فالصيام مجاهدة للنفس والشهوات والشيطان ، والجهاد مغالبة لأعداء الرحمن .
بدأت الأحداث بعد مضي ليالٍ من رمضان في السنة الثانية بعد الهجرة ، حيث بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ قافلةٍ تجاريةٍ قادمةً من الشام إلى مكة، يقودها أبو سفيان وفيها أموال قريش، فندب صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا لاعتراضها لعل الله يكتُبها لهم، ويعوضُهم بعض ما أخذت منهم قريش عندما هاجروا من مكة .
خرج رسول الله بنفسه في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، وكانت راية المهاجرين مع مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب ، وراية الأنصار مع سعد بن معاذ ، ولم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا وفرسين، فكان الرجلان والثلاثة يتناوبون على ركوب البعير الواحد بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعند أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلَي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فإذا كان عُقْبَة ـ يعني نوبة ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشي قالا: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك، فيقول: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)).
وبلغ أبا سفيان خروجُ المسلمين لملاقاة القافلة، فبعث رجلاً اسمه ضَمْضَم الغفاري إلى مكة يستصرخ قريشًا أن ينفروا لحماية تجارتهم، فنهضوا مسرعين، وخرجوا من ديارهم كما قال عز وجل: (بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ).(80/1)
ثم إن أبا سفيان انحرف إلى ساحل البحر فنجت القافلة، وكتب إلى قريش أن ارجعوا فإنما خرجتم لتحرِّزوا تجارتكم، فأتاهم خبرُه فهمّوا بالرجوع، فانبعث أشقاهم أبو جهل فقال: والله لا نرجع حتى نقدَمَ بدرًا فنقيمَ فيها ، نطعمُ من حضرنا، ونسقي الخمر، وتعزفُ علينا القِيَان، يعني المغنيات ، وتسمعُ بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبدًا وتخافنا.
ولما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم أبو بكر ثم عمر ثم المقداد فأحسنوا، ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى ، فعلم الأنصار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ: كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فأمض بنا حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحبَ إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرْك من غمدان ـ أقصى الجزيرة ـ لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ثم تكلم المقداد بمثل ذلك، فأشرق وجه الرسول بما سمع منهم وقال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم)).
وسار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى بدر ، حتى نزلوا في أدنى ماء من بدر ، فقال الحُبابُ: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة))، فقال الحُباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم منزلة، ونغوّر ما وراءه من الماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلم : ((لقد أشرت بالرأي)) ، وأخذ برأي الحباب .(80/2)
وفي هذا الموقف درس في منهج الإسلام في الشورى والرأي، فما كان أمرًا لازماً من الله فلا مجال للتقدم عليه أو التأخر عنه، وإنما الواجب إزاءه التنفيذ والالتزام. وأما ما كان من باب الرأي وتدبير أمور الدنيا وتقدير المصلحة فهو باب الاجتهاد بالعقل والاستشارة في الرأي .
وبينما المسلمون في بدر إذ لاح لهم جيش قريش، وكانوا قرابة الألف مدججين بالسلاح ، معهم مائةُ فرس، وستمائةِ درع، وجمالٌ كثيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني))، وقام ورفع يديه واستنصر ربه وبالغ في التضرع، ورفع يديه حتى سقط رداؤه وهو يقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِك هذه العصابةُ من أهل الإسلام لا تُعبَدْ في الأرض))، فالتزمه أبو بكر من ورائه وقال: حسبك مناشدتُك ربك يا رسول الله، أبشر، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله ما وعدك.
ودنت ساعة الصفر ، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف بقدح كان في يده ، فإذا بسواد بن غَزِيّة مائل عن الصف ، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استوِ يا سواد ، فقال: يا رسول الله أوجعتني فقدني (يعني يريد القصاص)، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد ، فاعتنقه سواد وأخذ يقبل بطنه ، فقال صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ قال: يا رسول الله ، قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخرُ العهد بك أن يمس جلدي جلدَك . فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم .(80/3)
وقبل القتال ، خرج ثلاثة من خيرة فرسان قريش للمبارزة ، كلهم من أسرة واحدة ، عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فخرج لهم عبد الله بن رواحة وعوف ومعوذ ابنا عفراء ، وكانوا من الأنصار فامتنع فرسان قريش من مبارزتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة وقم يا علي . فقتل حمزة شيبة ، وقتل علي الوليد ، واختلف عبيدة وعتبة حتى قطعت رجل عبيدة ، ثم حمل حمزة وعلي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة معهم.
ثم بدأ القتال العام، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على القتال فقال: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض))، فقال عُميْر بن الحُمَام: يا رسول الله، أجنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل وهو يقول:
ركضًا إلى الله بغير زادِ إلا التُّقى وعَمَلُُ المَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشادِ
هكذا كان أولئك الأبطال ينظرون إلى الحياة، فهي ممر لا مقر، وكل نعيمها زائل لا محالة، ولن يبقى ولن يدوم إلا نعيم الجنان .
واشتد القتال ، وحمي النزال ، وأزهقت النفوس ، وتطايرت الرؤوس ، وثبت الله المؤمنين ، وأمدهم بالملائكة منزَلين ومسوِّمين ومردِفين .
وأغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) .
وكان رأس الرجل من الكفار يطير لا يدري من ضربه ، وكانت يده تطير لا يدري من ضربها .(80/4)
وقاتل عُكّاشَةُ بن مِحْصَن يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: ((قاتل بهذه يا عُكاشة))، فلما أخذه من رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا في يده طويل القامة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين ، ولم يزل يقاتل بهذا السيف حتى قُتل في حروب الردة وهو عنده .
وأما قائد جيش الكفر أبو جهل ، فقد التفت حوله عصابة من المشركين ، وقالوا: أبو الحكم لا يُخلَص إليه . ولكن هيهات .
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إني لواقف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عماه، أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟! قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه. ثم احتز رأسه ابن مسعود وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكبر وحمد الله وقال: هذا فرعون هذه الأمة .
وانجلت المعركة عن نصر عظيم للمسلمين ، وانهزمت جموع الكفار وولت الدبر ، مصداقاً لقول الله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وقُتِل منهم سبعون ، معظمهم من صناديدِهم وأشرافِهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأُسِر منهم سبعون ، وفر الباقون يجرون أذيال الهزيمة إلى مكة ، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا رضي الله عنهم.(80/5)
منهم حارثة بن سُراقة ، كان قد رُمي بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحره فمات، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن أم حارثة قالت: يا رسول الله، أخبرني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء، فقال رسول الله : ((يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) .
أيها الأحبة .. وفي هذه الغزوة العظيمة دروس كثيرة، أولها:
درس في فضل الجهاد في سبيل الله .
الجهاد ذروة سنام الدين ، وسبيل عز المؤمنين ، وهو أفضل عملٍ يتقرب به العبد لربه بعد الإيمان به ، ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال : ((الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله)) .
إن منزلة الجهاد منزلة عظيمة لا يصل إليها إلاَ مَن عظمت الآخرة في نفسه ، وهانت الدنيا عنده، ورسخت محبة الله في سويداء قلبه، فعاش بالله ولله ومع الله .
بهذه العقيدة الصحيحة ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فتسابقوا للجهاد، وواجهوا أعداء الله بثبات وإيمان، وحرصوا على الموت حرص غيرهم على الحياة، فنصر الله بهم الدين ، وجعلهم أحياءً في الدارين ، فهم أحياءٌ فوق الأرض بالعزةٍ والتمكين ، وهم أحياءٌ تحت الأرض عند ربهم يرزقون .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة عزّها في الجهاد، متى ما رفعت راية الجهاد كانت عاقبتها النصر والعزة والتمكين، ومتى ما استكانت ورضيت بالقعود وتركت الجهاد ضربت بالذلة، وتسلط عليها أعداؤها .
قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). رواه أحمد وأبوداود عن ابن عمر وصححه الألباني.
وإذا عرفنا فضل الجهاد والاستشهاد .. فإن الجهاد لا بد له من إعداد واستعداد .(80/6)
إن غزوة بدر لم تكن مقطوعة الصلة بما سبقها من تربية طويلة بمكة ثم بالمدينة ، حتى إذا قويت شوكة النبي صلى الله عليه وسلم وقوي عود أصحابه شرع الله لهم الجهاد .
ليس الجهاد بأعمال طائشة ، يقوم بها بعض المتهورين ، دون علم راسخ ، ونظر في المصالح والمفاسد .
ولهذا قرر أهل العلم أن الأمة متى ما ضعفت أو كانت المصلحة في ترك الجهاد فإن الأمة تؤخر الجهاد أعني جهاد الطلب ، ويبقى جهاد الدفع واجباً بقدر الاستطاعة إذا دهم العدو بلاد المسلمين .
في هذه الغزوة تجلت صور الحب الحقيقي لله ورسوله ، والاستجابة لله وللرسول، وبرزت صفحات من البطولة والتضحية .
كان الصحابة يتسابقون إلى ساحات الجهاد، ويتنافسون على القتال في سبيل الله ونيل الشهادة .
بل كان لصغار الصحابة نصيب من هذه البطولات ،
فهذا عمير بن أبي وقاص أخو سعد ، حضر غزوة بدر وعمره ستة عشر عاماً .. وكان قبل المعركة يتخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه فيردَّه بسبب صغره .. وسرعان ما اكتشف هذا البطل الصغير .. فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فلما رآه صغيراً رده عن المشاركة في المعركة .. فتولى وهو يبكى .. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بكاءه وإصراره أجازه ، فدخل المعركة ، فقاتل حتى قتل .. رضي الله عنهم أجمعين .
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعَه بالخد أجراه
وأسدغاب إذالاح الجهاد بهم هبواإلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
درس في نصر الله تعالى لأوليائه . حيث استجاب الله دعاء رسوله وأصحابه، ونصر حزبه، وأنجز وعده ، مع وجود الفارق في العدد والعدة.(80/7)
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) ، لقد أراد الله سبحانه أن يعرف المسلمون على مدى التاريخ أن النصر سنةٌ من سنن الله، وهو سبحانه إنما ينصر من ينصره ، فليس النصر بالعدد والعدة فقط، وإنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله (وما النصر إلا من عند الله) .
ونحن اليوم قبل أن نقول: أين نصر الله؟ نقول: أين المسلمون؟
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونَ
وآلَمني وآلم كلَّ حر سؤال الدهر: أين المسلمونَ؟
أين المسلمون ، واليهود يدنسون المسجد الأقصى وينتهكون الحرمات في الأرض المباركة؟! أين المسلمون وديار الإسلام تضيع الواحدة تلو الأخرى؟!.
لقد أصبح المسلمون اليوم مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا أراد المسلمون نصر الله فلينصروا الله بالتمسك بدينه أولاً ، ثم بالأخذ بأسباب النصر من قوةٍ وعُدة ، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
يا قدس مهما الليل طال فلن يدوم الاحتلال
الكفر ولّى لن يعود ولست في هذا مغال
الفجر آت لا محال والظلام إلى زوال
لاحت تباشير الصباح وجاء دورك يا بلال
ومن دروس هذه الغزوة ، أن رابطة الدين وعقيدة الولاء والبراء أعظم من كل العلاقات والقرابات والأنساب.
ها هو عبد الرحمن بن أبي بكر بعدما أسلم ، يقول لأبيه أبي بكر رضي الله عنه: لو رأيتني وأنا أُعرِض عنك في بدر حتى لا أقتلَك، فقال أبو بكر: أما إني لو رأيتك وقتئذٍ لقتلتك. ويقابل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه في المعركة فيقتلَه. ويمر مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة ورجل من الأنصار يأسِرُ أخاه أبا عزيز، فيقول مصعب: شدَّ وثاقه فإن أمَّه ذاتُ مال، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي؟! فيقول مصعب: هو ـ أي: الأنصاري ـ أخي دونك .(80/8)
إنها صور فريدة ، تمثل التطبيق الواقعي لمبدأ الولاء والبراء، فالرابطة الحقيقة هي رابطة الدين والعقيدة، فلا نسبَ ولا صهر ، ولا أهلَ ولا قرابة ، ولا وطنَ ولا جنس ، ولا عصبةَ ولا قومية ، حين تقف هذه الوشائج دون ما أراد الله، وإنما الحب والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين . أولئك حزب الله ، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هو الغالبون .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وصلى الله على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً .
عباد الله .. أيام معدودة وتنسلخ العشرون الأُوَلُ من شهر رمضان، وتدخل العشر الأواخر منه، العشر المباركة ، التي هي أعظم أيام رمضان فضلاً ، وأرفعُها قدرًا ، وأكثرُها أجرًا، تصفو فيها الأوقات للذيذ المناجاة، وتسكب فيها العبرات بكاءً على السيئات، فكم فيها لله من عتيق من النار، وكم فيها من أسير للذنوب وصله الله بعد الجفاء، وكتب له السعادة بعد طول شقاء، إنها الفرصة التي إذا ضاعت فلن تنفع بعدها الحسرات، والأعمار بيد الله، (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ) .
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله .
فلا ينبغي لك أخي أن تفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسك وأهلك . وما هي إلا ليالٍ معدودة لعلك تدرك فيها نفحةً من نفحات الرحمن ، تكون بها سعادتك في الدنيا والآخرة .
إنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الكبيرة أن تجد فئاماً من المحرومين في هذه العشر، رجال دَأبهم سهر في الاستراحات ، ومشاهدة للمحرمات ، وتسكع في الطرقات، ونساء شغلهن التردد على الأسواق لحاجة وغير حاجة ، والانشغال بالتوافه من الأمور .(80/9)
فاغتنموا عباد الله شريف الأوقات، وبادروا بالأعمال الصالحات ، واعملوا وأحسنوا وأبشروا، إن الله لا يضيع أجر المحسنين .
اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ...(80/10)
خطبة ( فلسطين وحصار حماس)
أما بعد ..
عباد الله .. ولا يزال الإرهاب الصهيوني جُرْح يتدفّق على أرض فلسطين، وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وهي ترى عبر شاشات القنوات الفضائية صور الأطفال المرضى في فلسطين ، في قطاع غزة المحاصر ، وهم يبكون من قلة الدواء والغذاء ، في ظل الحصار الغاشم ، من العدو الصهيوني الظالم ، الذي يجيع شعباً بأكمله ويحرم أطفاله ونساءه من أبسط حقوق الإنسان ، من الغذاء والدواء .. يحدث هذا في ظل تشجيع الحكومة الأمريكية المتصهينة وتأييد الدول الأوربية .. لماذا كل ذلك يا ترى؟ .. إنها عقوبة للشعب الفلسطيني على اختياره لحركة حماس لتقود حكومته ! مع أنها حكومة انتخبها الشعب وفق الديمقراطية المزعومة التي ينادي بها الغرب ! فلما كانت النتائج غير متوافقة مع المزاج الصهيوني الغربي ، كان الجزاء معاقبةَ الشعبِ كله ، وحرمانَ أطفاله من الغذاء والدواء ، أمام صمت العالم المتحضر ، المنادي بحقوق الإنسان .
ونحن لا ندري من أي الأمرين نعجب ، أمن وقاحة ذلك العالم الغربي الذي لم يبال بمخالفة مبادئه وقوانينه لمّا جاءت النتائج على غير هواه ، أم نعجب من الصمت المطبق للعالم العربي والإسلامي وهم يرون إخوانهم يسامون الظلم والقهر بغير ذنب اقترفوه .
ولا تزال الأنباء صباحَ مساءَ تحمل إلى المسلم الغيور كلَّ يوم عن إخوانه في فلسطين ما يزلزلُ قلبَه زلزالاً شديداً، وما يعصر فؤادَه من الألم عصراً، وما يكوي كبدَه بالأسى والحزن.
لم يذق هذا الشعبُ الأعزل طعمَ الأمن منذ سلب اليهودُ أرضَه، وشرّده من مساكنه، وسامه سوءَ العذاب. ومع ذلك يبقى الشعب صامدًا بأطفاله، صامدا بنسائه وجراحه وآلامه، بل لا يكاد يخلو بيتٌ من فقد عزيز لديه أو قريب منه، إنها صور ثبات واعتزاز.(81/1)
أحداثٌ دامية، ومناظرُ مأساوية، قتلٌ وخراب ودمار، بهمجية لا تعرف للإنسانية معنًى، وبربريةٍ لا رحمة فيها، إنها مآسٍ يقشعرُّ من هولها البدن، وتذرف العين دمعَها.
فكيف لا يتحرك ضميرُ العالم كلِّه وهو يرى هذه المشاهد؟
عباد الله .. إن قضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى اليوم .. أرض الأقصى المبارك ، أولى القبلتين ، وثالث المسجدين ، ومسرى سيد الثقلين .
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ.
أرض الأنبياء والمرسلين، على أرضها عاش إبراهيمُ وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة وأتم السلام .
إنها فلسطين، موطن الكثير من صحابة رسول الله ، كعبادةَ بن الصامت وشدادِ بن أوس وأسامةَ بن زيد وغيرِهم من الصحابة الكرام ، وهي موطن الآلاف من أعلام الأمة وعلمائها ، كمالك بن دينار والأوزاعي وسفيان الثوري وابن شهاب الزهري والشافعي وابن قدامة المقدسي وغيرهم.
عباد الله .. إن المسلمين اليوم لم يضيّعوا فلسطين والمسجد الأقصى إلا بعد تضييعهم لدينهم .
لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرّق الكلمة واختلاف الأغراض وتجاذب الأهواء، لقد برزت فيها الأحقاد، شُغل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قوميات، وتفرقوا في دُوَيْلات ، بل نهش بعضهم بعضًا، وسلب بعضهم حقوق بعض .
وعلى الجانب العقدي ، ضاع التوحيد في كثير من البلاد ، وانتشرت مظاهر الشرك ، وتعلقت قلوب بعض أبناء المسلمين بالأضرحة والقبور .. فلاذوا بالحسين ، والتجؤوا إلى البدوي ، وعكفوا بالقبور والمشاهد ، وأصبحوا يسيرون على خطى أبي لهب . فكيف ينصرهم الله؟ .
وللغيور أن يتساءل بعد هذا : إلى متى هذا الطغيان والاحتلال؟ إلى متى والمسجد الأقصى أسير في يد شرذمة يهود؟ ومتى تستيقظ الأمة؟(81/2)
إن محنةَ فلسطين ليست هي الأولى والأخيرة، فقد تعرضت هذه الأمةُ لمحنٍ كثيرة قاسية، بل أكثرُ قسوةً وشدةً من محنتنا في فلسطين، فلم تستسلم هذه الأمة، ولم تيأس، وظلَّت تكافح وتجاهد حتى نصرها الله على أعدائها.
نعم .. إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، فلا تيأسوا، فإنكم سترون عزّكم ، متى ما عدتم لربكم ، وأصلحتم من أنفسكم ، وقمتم بنصرة إخوانكم .
وإن قراءة متأنية لتاريخ بيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير متى ما غيرنا من أنفسنا .
لقد سجّل التاريخ من مواقف عظيمة لأبطال عظماء هبّوا دفاعًا عن الأقصى، وبذلوا كل غالٍ ونفيس .
لما فتحت جيوش المسلمين بيت المقدس ، سار إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على بعير يعتقب عليه هو وغلام له، حتى إذ اعترضته مخاضة نزل من بعيره فنزع خفّه وخاض في الماء، ثم لما وصل إلى بيت المقدس صلّى في محراب داود عليه السلام وترنّم بسورة الإسراء.
وبعد قرون يقع الأقصى في أسر الصليبيين ، فكان الملك البطل نور الدين زنكي يمتنع عن التبسّم، ويقول: أستحي من الله أن أتبسّم وبيت المقدس في الأسر، فوقف هذا الملك الفذّ على تلّ وسجد لله، ومرّغ وجهه في التراب، ودعا ربه وقال: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا"، ثم لقي الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس لقيهم بثلاثين ألفًا وهم أزيد من مائة وخمسين ألفًا فكسرهم، وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عشرة آلاف.(81/3)
ثم جاء صلاحُ الدين الأيوبي ، وفي بيت المقدس نحوًا من ستين ألف مقاتل صليبيّ، كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها، فجهّز صلاح الدين جيشه الذي لا يزيد عن اثني عشر ألف مقاتل، وجابه به جيوش الفرنجة التي تجاوز عددها ثلاثة وستين ألف مقاتل، والتقى الفريقان على أرض حِطّين، وحصر المسلمون الصليبيين، وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم، فاجتمع عليهم حرّ الشمس وحرّ العطش وحرّ النار وحرّ السلاح، ثم أمر صلاح الدين بالحملة الصاعقة فمنح الله المسلمين أكتاف الصليبيين، فقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، وأسروا ثلاثين ألفًا، وبِيع الأسير الصليبي يومئذ بدرهم، بل باع مسلمٌ أسيرًا صليبيًا بنعلين، فقيل له: ما أردت بذلك؟ قال أردت أن يكتب التاريخ هوانهم وأن أحدهم بِيع بنعلين، وقد كتب التاريخ ذلك.
وتمضي القرون .. ليقف السلطان عبد الحميد موقفاً تاريخياً أمام إغراءات اليهود وأطماعهم في فلسطين، ويصكّ سمعَ هِرْتزِل اليهودي بكلماته المدوّية: "لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من فلسطين؛ لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم، وسوف نغطّيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها".
ويمضي الزمان ، فإذا نحن اليوم بأطفال الحجارة اليوم ، يحملون حصى أرضهم وترابها ليرموا بها وجوه الدخلاء الغاصبين، لقد نطقت حجارتهم حين أُخرست المدافع، وإذا بالاستشهاديين يوقعون بدمائهم شهادة ميلاد جيل جديد لا يؤمن بالخوف ولا يعترف بالعجز ولا يرضى بالهوان، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وهو يوم قادم بإذن الله تعالى .
إذا البغي يومًا طغى وانتشر فلابد من قذفه بالحجر
ولا بد للظلم أن ينجلي ... ولا بد للقهر أن يندحر
أيرضيك يا مبعث الأنبياء ... ومسرى الرسول الرحيم الأبر
نطأطئ ذلاً من الظالمين ... فمن ذلنا لا نطيق النظر
يعيث اليهود بأقدارنا ... ومن يغدرون عدو أشر(81/4)
لقد ضرب هذا الشعب الفلسطيني المسلم أروعَ الأمثلة والبطولات، فمع عشرات الشهداء وأضعاف ذلك من الجرحى ومئات المعتقلين الأسرى مع الحصار الشامل لكل المدن والقرى مع المجازر التي تُقام في كل مكان، مع ذلك كلِّه يؤكِّد الشعبُ الفلسطيني المسلم أنه لا استسلامَ ولا ذلَّ ولا هوان، وأن الجهاد ماضٍ في سبيل الله ، كما قال تعالى: لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ اللَّهِ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وقد أثبت التاريخ ، أن هؤلاء الجبناء الأنذال من اليهود ، لا ينفع معهم عهد ولا سلام ، ولا يفل الحسام إلا الحسام . ولا يطردهم ولا يردعهم إلا الجهادُ في سبيل الله .
نسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويكبت أعداءه ، وأن ينصر المجاهدين في سبيله ، إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان ...
إن المأساة أليمة والخطب جسيمٌ, ووالله إننا نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة لإخواننا في فلسطين .
إن سلاح المال وسلاح الدعاء لهما أعظم الأثر بإذن الله في دعم إخواننا المسلمين ودحر اليهودِ الغاصبين, وإنه ليس من عذر لأحدٍ منا يرى المقدسات تنتهك ، ويرى الأطفال الأبرياء يقتلون في حِجْر آبائهم .. ثم يرى اليوم الحصار الجديد المضروبَ على أخواننا، وما تسبب به من نقص الغذاء والدواء ، ثم لا يواسي إخوانه هناك أو يتأثر لمصابهم .
وفي المحيا سؤال حائر قلق/أين الفداء؟ وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية؟/أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرة /تواقة لجنان الحور والعين
يا غيرتي أين أنت أين معذرتي؟/ما بال صوت المآسي ليس يشجيني؟(81/5)
وإننا لنرجو الله أن ييسر لولاة الأمر وفقهم الله ، أن يفتحوا باب المواساة لإخواننا ، وأن تقوم المؤسسات والهيئات الخيرية بدورها في الإغاثة والمواساة ، لفك الحصار عن إخواننا ، نسأل الله التوفيق للجميع .
واخيراً .. إذا أردنا أن نحرر المسجد الأقصى ، ونصلي فيه، وننصر هذا الدين، لا بد من عودة صادقةإلى الله .
(ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)
إذا كنا لا نستطيع أن نضحي بدقائق نقومها لصلاة الفجر ، فالنصر بعيد .
إذا لم نستطع أن نتغلب على شهواتنا ، فلا يمكن أن ننتصر على أعدائنا ، وإذا لم نتحرر من أغلال الشياطين ، فلا يمكن أن نحرر فلسطين .
لا بد من صنع الرجال ... ومثله صنع السلاح
وصناعة الأبطال علمٌ ... قد دراه أولو الصلاح
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في ... ظل الأحاديث الصحاح
من خان على الصلاة يخون حي على الكفاح
ويا حماة الأقصى، يا إخواننا في الأرض المباركة ، اصبروا وصابروا ورابطوا، فإن نصر الله قريب، وكلما اشتدَّ الظلام قرُب بزوغُ الفجر، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(81/6)
خطبة (قتل الفرنسيين في المدينة)
أما بعد ..
قبل أيام، فجع المسلمون في هذه البلاد المباركة، بالحادثة الشنيعة التي قتلت فيها يد الغدر والخيانة ثلاثة مقيمين من الجنسية الفرنسية، تعرضوا لاطلاق نار من سيارة مجهولة في منطقة صحراوية على الطريق بين المدينة المنورة وتبوك . مما أسفر عن مقتل ثلاثة منهم وإصابة الرابع .. والذي توفي في المستشفى من أثر الجراح التي أصيب بها .
أثنان من هؤلاء القتلى كانا من المسلمين وقد تم الصلاة عليهما في المسجد النبوي الشريف بناء على طلب عائلتهما .. خلافاً للأكاذيب التي تزعم بأن القتلى كانوا جميعهم كفارا وليس من بينهم مسلمين .
وعلى كل حال .. لا شك أن قتل هؤلاء الأبرياء جريمة بشعة وفعلة دنيئة، ترفضها كافة الأديان والأعراف ، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين .
كيف يُعتدى على أناس عُزّل لا يستطيعون دفاعاً عن انفسهم، ولا رداً للأذى والعدوان على أرواحهم؟
كيف يُقتل معصومون، عصمت دماءهم أحكام الشرع أولاً، ثم تقاليد العروبة ومقتضيات الضيافة والرجولة ثانياً.
ولئن جاز ان يحدث هذا العدوان والفساد في الارض في اي بلد، فكيف يسوغ أن يحدث في بلد الله الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا .
ولا تزال دوافع هذه الجريمة غامضة، ولم ُتعلن أيّ جهة مسؤوليتها عنها ، كما أن طابعها الإنتقاميّ الغريب يجعل الإنسان يفكر ويتأمل ويبحث عن الدافع لقتل أناس خارج المدينة وترك عوائلهم، وفيهم المسلم وغير المسلم؟ ومن المستفيد من الإخلال بأمن هذه البلاد، بلاد الحرمين، بل أمن الحرمين، حيث وقعت هذه الجريمة قرب الحرم النبوي .
وا أسفاه على الصورة السوداء .. التي أوصلتها هذه الجريمة البشعة إلى العالم ، وعلى مقربة من الحرم النبوي الشريف؟!
كيف ستكون ردة فعل من يسمع عن مسلمين أو غير مسلمين أتوا إلى بلاد الحرمين الآمنة المطمئنة .. ليعودوا إلى بلادهم جثثا في توابيت؟(82/1)
إن قتل الأبرياء المسلمين، أو الكفار المعاهدين، صورة مزرية ، ومحاولة بشعة ومقيتة لتشويه سمعة الإسلام، وبلد الإسلام الذي يرفض مثل هذه التصرفات .
ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس ، ومنها حفظ النفس .
والمقصودُ من النفسِ التي عنيت الشريعةُ بحفظها هي التي عُصمت بالإسلامِ أو الذمة أو الأمان .
ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة .. أما النفوس المسلمة فلا يجوز بحال الاعتداء عليها وقتلها بغير حق ، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام ، يقول الله تعالى : { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ( { - رضي الله عنه - - - - جل جلاله -- جل جلاله -( تم بحمد الله ( - ( تم بحمد الله - - جل جلاله - - ( - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - - - تم بحمد الله (( فهرس (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - ( ( بسم الله الرحمن الرحيم } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - - - ( - (- رضي الله عنهم - - - { - - (( - - (( - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( (( مقدمة - عليه السلام - - - رضي الله عنهم -( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه -(- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - - - ( - - - - - رضي الله عنه -( - - - - ((- رضي الله عنه -( } .
أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها تخوف القلب، وتفزع النفس، وتزلزل الكيان، وترعب الجنان .(82/2)
الأولى: جهنم خالداً فيها، فويل للقاتل من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، كيف لو أبصرهم القاتل، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم، يُصهر به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم .
العقوبة العظيمة الثانية: غضب الله ... وكفى بغضب الملك الجبار عقوبة .
العقوبة الثالثة، ويالها من عقوبة: اللعن ، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
هل يكفيه هذا .. لا، فهناك عقوبة رابعة وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً، نعوذ بالله من عذاب الله .
ولهذا، اتفقت كل الأديانُ السماويةُ على تحريم قتل النفس المعصومة كما أخبر تعالى في قصةِ ابني آدم وما حصل بينهما، ثم قال تعالى: { ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ((( - - رضي الله عنه - - - - - (((- عليه السلام - - ( - ( { (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - - - - - ((- رضي الله عنه - الله أكبر ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - { ((- رضي الله عنه - الله أكبر (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - ( - (( ((( - - } - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - تمهيد - ( - - - رضي الله عنه - - - - { } - } - - - - - - جل جلاله -( - ( - - رضي الله عنهم - - } .
قال مجاهد رحمه الله : في الإثم . وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا "رواه الترمذي والنسائي بسند صحيح .(82/3)
وثبت عند الترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " .
وفي البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :" إن من وَرَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله " .
ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوماً إلى الكعبة فقال :" ما أعظمَك وأعظمَ حُرمَتَك والمؤمنُ أعظم حُرمةًعند الله منك".
وتأمل معي هذه القصة العظيمة :
في الصحيحين عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين ، وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله ، وإن رجلاً من المسلمين قصد غفلته . قال : وكنا نُحَدَّث أنه أسامة بن زيد ، فلما رفع عليه السيف قال : لا إله إلا الله فقتله فجاء البشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع ، فدعاه فسأله .فقال : لِمَ قتلته؟ قال : يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلاناً وفلاناً وسمى له نفراً ، وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال : لا إله إلا الله . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقتلته قال : نعم . قال : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال : يا رسول الله استغفر لي . قال : وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة . قال : فجعل لا يزيده على أن يقول : كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" ، وفي رواية أن أسامة قال : "يا رسول الله إنما كان متعوذاً ، قال : أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ، قال : فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ".(82/4)
الله أكبر .. إن هذا الرجل مشرك محارب ، وقد أثخن في المسلمين بالقتل ، وأسامة - رضي الله عنه - مجاهد في سبيل الله ، وهو حِبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن حِبِّه ، وهو إنما قَتَل هذا الرجل متأولاً أنه ما نطق بالشهادة صدقاً من قلبه ، بل قالها تعوذاً ليكفوا عن قتله ، ومع هذا لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره وتأويله ، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين، وعظيم جرم من يتعرض لها تحت أي تأويل .
وفي قصة أخرى في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :"بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني جَذِيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا . فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كل رجل منا أسيره ، حتى إذا كان يومٌ ، أَمَر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره . فقلت : والله لا أقتل أسيري ، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه ، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، مرتين" .
هكذا أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - براءته من صنيع خالد سيف الله المسلول ، وهو إنما قتلهم مجتهداً ، بناءً على ظاهر اللفظ ، ومع هذا شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر ورفع يديه وثنّى كلامه ، استنكاراً لهذا العمل ، واحتياطاً لحرمة الدماء.
ألا فليتق الله العبد المسلم ، وليحذر الخوض في الدماء، وليبرأ إلى الله من هذه الأعمال الشنيعة التي تنتهك حرمة حرم الله، وتصد الناس عن دين الله .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه .... أما بعد .
وإذا كانت النصوص الشرعية قد جاءت بحفظ الأنفس المؤمنة والترهيب من التعرض لها، فإنها كذلك جاءت في حفظ الأنفس المعصومة وإن كانت كافرة، من أهل الذمة أو المعاهدين .(82/5)
ولهذا نقول: إذا كان بعض القتلى في هذه الحادثة من غير المسلمين، فإن دماءهم كذلك معصومة بنص كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري واللفظ له، والنسائي إلا أنه قال: ((من قتل قتيلاً من أهل الذمة)).
وقال رسول الله : ((من أمّن رجلاً على دمه فقتله، فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة)) رواه ابن ماجه وصححه البوصيري .
فليحذر كل مسلم من الإقدام على قتل غيره أو الإسهام في ذلك ولو بشطر كلمة، فضلاً عن المساعدة الفعلية والاشتراك في الجريمة أو تسهيل المهام أو الفتوى ونشرها وترويجها وتوزيعها بأي أسلوب كان، فإذا كان ابن آدم الأول يتحمل جزءًا من كل نفس تقتل ظلمًا لأنه أول من سنّ القتل .
وإننا والله مع حزنا وإنكارنا الشديد لهذه الجريمة نقول: سيظل هذا البلد الأمين بأمر الله واحة للأمن، وملاذا للاستقرار ومثابة للناس، شاء من شاء وأبى من أبى، وسيظل اولئك الذين يحاولون تشويه هذه الصورة الكريمة، بالعدوان والجريمة والأذى، منبوذين يطاردهم غضب الرب وعقابات الشرع وسخط الناس أجمعين .
نسأل الله أن يفضح سر مرتكبيها، وأن يمكن ولاة أمرنا من رقابهم، ليكونوا عبرة لغيرهم، إنه عزيز حكيم .
اللهم صل على محمد ...(82/6)
خطبة ( قنوات السحر )
أما بعد ..
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء شهيد، خلق الخلق بقدرته، وقهرهم بعزته، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، بشّر وأنذر وحذر يوم الوعيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله .. أتحدث إليكم اليوم عن موضوع خطير للغاية .. فيه تدمير للأسر والمجتمعات .. وفيه نصب واحتيال واكل لأموال الناس بالباطل .. بل فيه ما هو أعظم من ذلك ، وهو الكفر بالله , وهدم الدين , و نسف العقيدة والتوحيد .. حتى إن الرجل لو كان يُصلي خمسين سنة , واعتمر مئات المرات , وحج عشرات المرات ، ثم فعل هذا الفعل أو صدق به، حبطت أعماله كلها , وكفر بما أُنزل على محمد .
إنه السحر ، قرين الكفر .. وناقض من نواقض الإسلام ، من تعاطاه أو عمل به فهو كافرٌ بالله ، خالدٌ مخلدٌ في نار جهنم .
قال تعالى:( واتبعوا ما تتلوا الشيطان على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) .
لقد أخبرنا الله تعالى في هذه الآية ، أن الذي يعلم الساحرَ السحر ، إنما هم الشياطين .. ولا يتمكن الساحر من ذلك حتى يكفرَ بالله العظيم ويستعينَ بالشياطين من دون الله .
وقد تواتر النقل بالاستقراء ، والتجربةِ والمشاهدة ، في إثبات العلاقة والعبودية بين السحرة والشياطين .
فالسحرة يتقربون للشياطين بما تحبه من أعمالٍ شركية ، وأكلٍ للخبائث والمحرمات، وتقربٍ بالنجاسات ، ووقوعٍ في الموبقات .. فإذا اجتاز الساحر هذا الامتحان أعانته الشياطين على أعماله الفاجرة .
إذن الساحر كافر ، محارب لله ورسوله، ولهذا كان حده ضربةً بالسيف .(83/1)
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية أن السحر قد يؤثر ويضر، ولكن إذا شاء الله ، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله .
وإذا كان خطر السحر كذلك، فإن الأمر يزداد خطورة في هذه الآونة ، مع ظهور ثلاث قنوات عربية كفرية، تقدم برامج السحر والشعوذة عن طريق بعض الدجالين، وتستقطب المتصلين عبر خطوط ورسائل الهاتف .
وحتى لا أتحدث عن فراغ ، فقد شاهدت بنفسي عدداً من برامج هذه القنوات الثلاث، ووقفت على الكثير من الحقائق المؤسفة، التي تنذر بالخطر العظيم على التوحيد .. والله يعلم كم ترددت في طرح هذا الموضوع خشية أن أفتح على الناس باباً هم عنه غافلون، لكني لما رأيت الأمر قد انتشر، لم يكن بدٌ من التحذير منه، لا سيما أنه تحدث عدد من المشايخ الفضلاء .. ومما يزيد البلاء أن هذه القنوات موجودة وللأسف على القمرين نايل سات وعرب سات، مما يعني وجودها في كل بيت فيه طبق استقبال فضائي .
وبعض الناس ممن لديهم قنوات فضائية، يقولون: إننا نرى مثل هذه البرامج التي فيها تعليم الحجب والأحراز، ولا نعلم أن ذلك محرماً .. لأن مقدم البرنامج يدعو الضيف بالمعالج .. والمتصلون يقول له: يا شيخ فلان، ولا يقولون يا ساحر ولا يا كاهن .
وفي إستبيان لأحد الجرائد يقول : المتابعون لهذه القنوات 70% نساء و 30% رجال .. وفي سؤال: هل تؤمنون أن هؤلاء المشعوذين لهم قدرة على المعالجة و حل مشاكل الناس؟ أجاب 80 % من المشاركين ، بنعم .
الذي يحصل في أكثر هذه البرامج أن المشاهد يتصل ، فيطلب منه المقدم اسمه واسم أمه ، فيقال له: عن ماذا تسأل؟ ، فيقول: عن الصحة، عن الرزق، عن كذا، فيجيبه الساحر: أنت عندك مشكلة كذا، وتعاني من كذا، وفي بيتك كذا ، أنت حصل لك في الماضي كذا ، صح ولا لا؟
ولا يخفى أن هذا الدجال قد يتلقى هذا الكلام من الشيطان الذي ينقله من قرين السائل .(83/2)
وقد يقرأ بعض هؤلاء الدجالين آيات من القرآن، وقد استمعت إلى كثير منهم، فإذا هو يحرف الآيات تحريفاً فاحشاً، ولا يجيد نطقها بشكل صحيح .
ثم إن بعضهم يصف عدة آيات من القرآن كعلاج ، حتى يطمئن الناس إليه، فيقول: اقرأ لي سورة ياسين آية كذا ، وسورة كذا آية كذا مرة ، بأعداد ما أنزل الله بها من سلطان .. وقد يكتفي بعضهم بالآيات في بعض الاتصالات، وقد يدخلون بينها كلمات الشرك كعادة السحرة، وهذا كله من التمويه ولبس الحق بالباطل على الناس .
وآخر يستهزئ بالقرآن فيقول للمتصلة : اكتبي الآيات معكوسة .. وآخر يقول لمتصلة: فضلات الطيور اجمعيها واطحنيها واكتبي بها سورة الواقعة .
ومن تناقضهم ومكرهم أن بعضهم يقول : أنا أتكلم بسم الله الأعظم , وأنا أحب القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل البيت, وأنا إنسان أحثُك على الصلاة والعبادة , لكن مع هذا أنا أقول لك ماذا سيحدث لك في المستقبل .
بل شاهدت أحدهم يجلس بجوار المذيعة السافرة، ثم يقول أنا لا أنظر إلى النساء، فترد المذيعة بكل وقاحة: أنا استغربت يا شيخ أني عندما سلمت عليك لم تصافحني، فيقول الخبيث: نعم نحن لا نصافح النساء.
والله لقد هزلت، ضال مضل يكفر بالله العظيم، وينازع الله في علم الغيب، ثم يتظاهر بالتقى والورع، تلبيساً على الناس .. وآخر يقول: بإذن الله، توكل على ألله ... حياتك ستتغير خلال 45 يوم .. ثم يقول: الخزعبلات والضحك على الناس حرام، الانسان يتذكر يوم الحساب يوم القيامة .
والكثير منهم يقول: نحن لا نعلم الغيب ، الله يعلم الغيب ، إنما نحن نساعد الناس ، ثم يدخل مباشرة إلى علم الغيب .(83/3)
ومن المعلوم أن علم الغيب من خصائص الله تعالى ، ومن ادعى علم الغيب فقد كفر بالله العظيم، وكذب القرآن الكريم .. قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً) .. وقال سبحانه: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) .. ويقول سبحانه في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أفضل خلق الله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) .
وتتصل امرأة بأحد هؤلاء الدجالين وتشكو من عدم الإنجاب، فيقول لها: العيب ليس فيكِ وإنما في زوجك , وإنك لن تنجبي إلا إذا تطلقت من هذا الزوج .
ويقول أحدهم لإحدى المتصلات: لماذا تزوجتي فلاناً، المفروض أنك من أول يوم تتطلقين .. ويقول لأخرى: لازم تتطلقين من زوجك .. وصدق الله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} .
وتتصل امرأة بأحدهم، وتقول أن زوجها كثير الانشغال بأُمه , قيقول: اكتبي هذا الحجاب وضعيه تحت فراش زوجك , وإن عاد إلى أُمه عودي إلي .
ويقول أحدهم لمتصلة أخرى: اكتبي هذا الطلسم وادفنيه في مقبرة مهجورة .
ويقول أحدهم وهو رافضي خبيث: الوسيلة هي محمد وآل محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ومتصلة تقول له: (( عندي ابن عمره 4 سنوات وأسمه محمد، وهو مثل الكلب ينبح )) فقال لها: (( عرفت كل شي عن حياته , بس انتي وديتيه للكعبة ومن بعدها بدأ بالنباح؟)) . قالت: (( نعم )) فقال: (( غلط تودينه للكعبة وغلط تقرئين عليه القرآن)) فتقول له : (( ارجوك صد الأعداء عني انا رحت لسوريا ورحت لليمن )) فيقول: ((والله لو تفرين العالم بأسره تروحين للمغرب تروحين لسوريا ماراح تلقين مثلي)) .
ويسأله أحد الطلاب: أنا رسبت أربع مرات، فيقول له: أنت في حياتك أربع رسوبات ، وبعدها لن ترسب أبداً ، ستنجح، وستسافر خارج بلدك، وستفعل كذا وكذا .(83/4)
ويقول لأخرى : أنت تسألين عن امرأة ، هذي تعبانة بشكل غير طبيعي ومريضة وحظها في الدنيا صفر، وتتعب بعد أزيد.
وقبل أسبوع، تخرج لنا عجوز شمطاء، تضع أمامها البلورة الزجاجية، تنظر فيها وتخبر بالغيب .
ومما يزيد خطورة هذه القنوات، أنها لم تقف عند إعطاء طلسم أو حجاب وتنتهي المسألة ، بل إنها تعلم الناس السحر وكتابة الطلاسم على الهواء .
يعرض الساحر ما يزعم أنه حجاب، مكتوباً على صحيفة كبيرة على الشاشة ويقول للمتصل: اكتب اسمك في هذا المربع بين الطلاسم واسم أمك في المربع الآخر ولن يضرك شيء بعده .. حجابك يبدأ بالرقم كذا وينتهي بكذا .. وقد يقوم هو ومقدمة البرنامج بكتابة الطلاسم خطوة خطوة على الهواء .
ومن خبث هؤلاء الدجالين، أنهم قد يقولون للمرأة علاجك صعب ولا بد من حضورك إلينا، لنعمل لك جلسات روحانية ونفسية .. والله يعلم مال الذي ينتظر المرأة إذا سلمت نفسها لهؤلاء المجرمين .
واتصلت عليهم امرأة وقالت إني لا أستطيع السفر ، فضاق الساحر والمذيعة ، وتركوا المتصلة تتكلم لوحدها ، وأخذوا يكتبون في حجبهم وأوراقهم .
عباد الله .. ومما يدخل في هذا الباب : علم التنجيم والأبراج المحرم، وهو اعتقاد أن للنجوم تأثيراً في الحوادث الأرضية ، وقد خرج لنا اليوم في بعض القنوات الفضائية عدد من العرافين والكهنة والمنجمين ، الذين يخبرون عن المستقبل بناء على البرج وتاريخ الميلاد، ويدخل في هذا الموضوع قراءة الكف وقراءة الفنجان والنظر في كرة الكريستال وغيرها من الوسائل .(83/5)
وقد ذكر أهل العلم أن من اعتقد أن النجوم مؤثرة بذاتها ، وأنها تخلق شراً وخيراً , فقد أشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة .. وكذا من استدل بها على علم الغيب في المستقبل فقد أشرك أيضاً شركاً أكبر، لأن دعوى علم الغيب كفر، كما قال تعالى (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) .. ومن هذا الباب، ما يقع في بعض الجرائد والمجلات تحت ما يسمى بالأبراج، فلا تجوز قراءته والنظر فيه ولو بقصد التسلي .
عباد الله .. القضية خطيرة جداً .. القضية ليست شهوات وفواحش, القضية إدعاء علم الغيب , القضية كفر أكبر يدخل في بيوتنا من خلال هذه القنوات الفاجرة الكافرة .
وإذا كنا لا نعجب أن يصدر هذه الأفعال من السحرة الكفرة، فإننا نعجب والله للموحدين الذين درسوا التوحيد في مدراسنا في المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، كيف يصدقون مثل هذه الخزعبلات، ويتوهمون أن هناك من يعلم الغيب غير الله من هؤلاء الكهنة ؟ .
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ... اصرف عنا كيد الفجار ... اشف مرضانا ومرضى المسلمين ... وفك سحر المسحورين
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
عباد الله .. لعلنا نتساءل بعد هذا: ما الواجب علينا تجاه هذا الأمر الخطير:
إن أول واجب على كل مسلم، هو التعلق بالله دون ما سواه ، وتمام التوكل عليه .
إذا أردت يا أخي الخير وزوال الشر ، فتعلق برب العالمين الذي يقول : {{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} .. وليس الطلسم والحجاب الذي يقول لك الكاهن ضعه في فراشك أو في فراش إبنك سيفتح لك الأبواب .
توكل على الله الذي يقول : {{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }} .
واحذر كل الحذر من الذهاب للسحرة ، سواء كان هذا الذهاب مباشرة، أو كان عبر الاتصال بهذه القنوات الكفرية .. فقد جاءت النصوص الشرعية بتحريم الذهاب للعراف والساحر، أو تصديقه .(83/6)
فمن جاءه فقط لم تقبل لك صلاة أربعين يوماً .. كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).. أما من جاءه وصدقه بما يقول فقد كفر بالدين ، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
ولا يجوز حل السحر بالسحر ، كما أفتى بهذا العلماء والأئمة، إلا من شذ عنهم من أصحاب الفتاوى الشاذة .
قال سماحة شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله :" وأما علاجه بعمل السحرة الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر. فالواجب الحذر من ذلك، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم ... وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان . رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد جيد. والنشرة هي حل السحر عن المسحور ومراده - صلى الله عليه وسلم - بكلامه هذا النشرة التي يتعاطاها أهل الجاهلية، وهي: سؤال الساحر ليحل السحر، أو حله بسحر مثله من ساحر آخر.. أما حله بالرقية والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فلا بأس بذلك.اهـ
واجب الأب والأم , مسح هذه القنوات من جهاز الإستقبال, وغيرها من القنوات السيئة، والاكتفاء بالنافع .
اتقوا الله أيها الآباء والأمهات .. الكفر والسحر يعرض في في بيوتنا إلا ما رحم الله، أين التوحيد يا أهل التوحيد .(83/7)
على العلماء وطلاب العلم تحذير الناس من هذه القنوات ومن الاستماع إليها ومشاهدتها ، فضلا عن الاتصال بها.
علينا أن نناصح علماءنا وولاة أمورنا حفظهم الله ووفقهم لكل خير، لعل الله يكتب على أيديهم حماية جناب التوحيد وإغلاق هذه القنوات التي تبث ما يناقض القرآن والسنة، حتى وإن كانت هذه القنوات تبث من خارج بلادنا، فإن دور هذه البلاد المباركة وأثرها على الآخرين واضح وكبير .
إن أول من يعين هذه القنوات الكفرية: شركاتِ الاتصالات التي تخصص لهم الأرقام .. فلا بد من قطع أرقام الاتصال بهذه القنوات ، سواء من قبل شركتي الاتصالات وشركة موبايلي ، أو من قبل الهيئة العليا للاتصالات .. بل وحتى الأرقام الدولية المفتوحة ، يجب على الجهات المختصة العمل على حجبها ومنع الاتصال بها .
وعلى كل مساهم في شركات الاتصالات مخاطبة مجلس الإدارة, لقطع الاتصالات بهذه القنوات .
لا بد من مطالبة القائمين على الإعلام في الدول العربية ، أن يمنعوا هذه القنوات .. لماذا على النايل سات والعرب سات؟ أليس بها شروط , الكل حر في ما يريد طرحه على العالم , حتى الكفر بالله , حتى الاستهزاء بالقرآن .. لو قال شخص أنا سأضع قناة تؤيد الإرهاب أو تنتقد الحكومات, هل يترك؟.. أليس هناك مواثيق دولية أو عربية تحفظ على الأمة دينها ومعتقداتها، وتحمي أبناءها من الضلال؟ .. إنا لله وإليه راجعون .
أطلنا في موضوع السحر، ولعلنا نختم الكلام بكلمات في الوقاية والعلاج من السحر .
أما الوقاية: فبكمال التوحيد والتوكل على الله ، فمن توكل على الله كفاه ووقاه وحماه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) ، ( ولا يفلح الساحر حيث أتى) .
- ومن الوقاية: المحافظة على أذكار الصباح والمساء ، وقراءة المعوذتين والإخلاص ، فإن من قرأها ثلاث مرات إذا أصبح وثلاث مرات إذا أمسى كفتاه من كل شيء ، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم .(83/8)
- ومنها: قراءة سورة البقرة في المنزل ، وقراءة آية الكرسي قبل النوم ، والمحافظه على صلاة الفجر جماعة ، ومنهاقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مئة مرة في الصباح ، ومائة مرة في المساء .
أما بالنسبة للعلاج فباستخراج السحر إذا عرف مكانه ، وإتلافه مع القراءة عليه .. وبالمداومة على الرقية الشرعية ، بالقرآن والدعوات الطيبة .. وبالتداوي بالعسل والحبة السوداء وزيت الزيتون وماء زمزم ، وغيرها من الأدوية المباركة .. وبالإكثارَ من الدعاء والتضرعَ إلى الله تعالى بالشفاء .
فالله الله في بيوتكم .. راقبوا ما تبثه هذه القنوات الفضائية على أبنائكم ونسائكم، وتذكروا أن من تعلق شيئاً وُكل إليه، فمن تعلق بربه ومولاه رب كل شيء ومليكه كفاه ووقاه وحفظه وتولاه، فنعم المولى ونعم النصير .. ومن تعلق بالسحرة والشياطين والكهنة والأفاكين، وكله الله إليهم، لبئس المولى ولبئس العشير .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(83/9)
خطبة ( لماذا خلقت؟ )
الحمد لله الأحد الصمد، له النعمُ التي لا تعد ، والآلاءُ التي لا تحد .. يغفر الذنب ، ويستر العيب ، ويعفو عن السيئات ، وهو الرحيم الغفور .. وأشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد .. { يَاأَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .
عباد الله .. حينما يتأمل المسلم اليوم في أحوال نفسه وأحوال من حوله ، يدرك كم هو مشغولٌ عن الغاية التي خَلَقه اللهُ لأجلها ، تلك الغاية التي قَلَّ مِنّا مَن يسأل نفسه هل سلك طريقها ، وهل توخّى وسائلها ، وطَمِع في جوائزها .. ربما تفكرت طويلاً يا رعاك الله في الغايةِ من عملك ، والغايةِ من تجارتك ، والغايةِ من دراستك ، ولا أشك أنك ستبحث عما يوصلك إلى تلك الغايات الشريفة ، ولكن كم مرةٍ سألنا أنفسنا : لماذا خُلِقنا ؟ لماذا خَلَقنا الله على هذه الأرض ؟ هل خلقنا لنتمتع بشهواتها؟ بطعامها؟ بشرابها؟ بزينتها وزخرفها؟ ، ثم نموت وندفن في التراب وينتهي كلُّ شيء؟ .. لماذا خُلِقنا؟ إنه سؤال ربما نعيد بسببه كثيرًا من حساباتنا الدنيوية والأخروية .
أما الجواب ، فاسمع الجوابَ من الله الذي تكفل به في قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
إنها العبادة ، الغاية العظمى للحياة .
لكنَّ الإنسانَ يميل بطبعه إلى المُتَع ، وتهفو نفسه إلى الدعة والراحة ، ويشتاق بتكوينه إلى ما يرضي دنياه .. هكذا خُلق الإنسان ، عجولاً تغره الثمار القريبة الفانية ، حتى تُشغله عن الباقية لأنها بعيدة .(84/1)
أيها المسلم ، إن الله تعالى لم يأمرك بالعبادة ليقطعَك عن مُتَعِك ، ولا ليحرمَك من شهواتك .. ولا لينغّصَ عليك حياتَك .. كلا .. بل أمرك بالعبادة لتعيش بها هانئًا سعيدًا ، مطمئن البال والضمير ، { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } .
ولهذا كانت العبادة راحةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان إذا تعِب ونَصَب قال: ( أرحنا بالصلاة يا بلال ) كما صح عند أحمد وأبي داود .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إلى الصلاة حينما تشتد عليه الكروب ، وتزيد عليه الهموم ، فعن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى . رواه أحمد وأبو داود بسند حسن .(84/2)
بل تأمل كيف كانت العبادةُ سَلوتَه في أشدِّ الخطوبِ خطورة ، فها هو - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ ينظر إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْف ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وبضعة عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَقْبَلَ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ . رواه مسلم .
أيها المسلم .. هل تأملت في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ؟ إن من بينِهِم شابٌ نشأ في عبادة ربه ، فاستحق يوم تنكبُّ الشمسُ على الخلائق فتلجمُهم في عرقهم، أن يحظى بظلٍ مميز، إنه ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.(84/3)
فيالَله العجب ، كم للعبادة من حلاوةٍ في قلب المؤمن ، يجد فيها راحتَه وسلوتَه ، ويالَله العجب ، كم لها من طمأنينةٍ يجد فيها المهموم أنسَه وبردَ فؤاده ، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} .. تطمئن القلوب ، فلا تشعرُ بغم .. ولا تحسُّ بهم .. وتشعرُ أن مصائبَ الدنيا مهما بلغت عظمتها ، فإنها هينةٌ أمام ذكر الله .. وسهلةٌ تحت قدرة الله .. ما دمتَ مع الله تعبده ، وترضى بقضائه وقدره ، وتعلم أنه سبحانه لن يُضِيعَ صبرَك ، ولن يَنسى إيمانَك .
عباد الله .. أين الذين يستلذون بعبادة الله كما يستلذ غيرهم بالطعام والشراب .. أين من يستلذ بمناجاة ربه ، وبالصدقة في وجوه الخير ، وبالإحسان إلى الناس ، والتخلق بأحسن الأخلاق ، وبكل أنواع العبادة وأشكالها المشروعة .. يستلذ ويحس بطعم الحلاوة الإيمانية يسري في جوانحه ، ولو أجهد بدنه ، وترك الدنيا من خلفه ، وزهد في مناصبها ومتعها ، في سبيل أن يتذوق طعم العبادة لربه .
قيل للحسن البصري : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا ؟ قال : لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره .
وقال سفيان : ترى صاحب قيام الليل منكسر الطرف ، فرح القلب .
وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته ، فباعها لقوم ، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة ، فما زالت تصلي إلى الفجر ، وكانت تقول لأهلِ الدارِ كلَّ ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار قوموا ، يا أهل الدار قوموا ، يا أهل الدار صلوا ، فقالوا لها : نحن لا نقوم إلى الفجر ، فجاءت إلى الحسن بن صالح الذي باعها وقالت له : بعتني لقومٍ ينامون الليل كلَّه، وأخاف أن أكسلَ من شهودِ نومِهم ، فردّها الحسنُ رحمةً بها ، ووفاءً بحقها )) .
وكان لبعض السلف عشرةٌ مع العبادة ، حتى إنه ليذرفُ الدموعَ على فراقها إذا نزل به الموت .
لما نزل الموت بالعابدة أمِّ الصهباء بكت ، فقيل لها: مم تبكين؟ فقالت: بكيت حينما تذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر .(84/4)
بل كانوا يتهمون أنفسهم بالذنوب إذا ما أصابهم الكسل عن العبادة ، قال الثوري : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته .
وجاء رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد ، إني أبيت معافى ، وأحب قيام الليل ،وأعد طهوري ،فما بالي لا أقوم ؟ فقال: ذنوبك قيدتك .
أي إخواني : متى نشعرُ بالسعادة حينما نلقي بجباهنا على الأرض لله تعالى ، متى نعوِّدُ أنفسَنا أن نشتاق للقاء ربنا في صلاتنا وذكرنا ، متى تحلّق قلوبنا في السماء طربًا وفرحًا حينما نبذِل الصدقة السخية لا نبالي الفقر أو المسكنة ، ومتى نعود على صدورنا بالراحة حينما نخفض جناح الذل لوالدينا وأهلينا ؟
إنها العبادة عباد الله ، طريقنا إلى الفلاح والنصر والشفاء ، فهنيئًا لنا سلوكُها ، وتوخي طريقِها ، لأنفسنا و أزواجنا وأولادنا ، فإن الله يقول : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
اللهم ارزقنا شكرك وحسن عبادتك ، واجعلنا فيها من المخلصين ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من نبي بعده ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد .
عباد الله .. إن من رحمة الله تعالى علينا أن جعل لنا من أمرنا كلِّه عبادةً نتقرب بها إليه ، ألسنا نأكل .. ألسنا نشرب .. ألسنا ننام .. ألسنا نسعى لطلب الرزق والمعيشة ، ألسنا نقوم على النفقة على الأهل والذرية .. كل هذه الأمور إذا سرنا فيها على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - تحولت إلى عبادة نؤجر عليها ، بشرط الإخلاص لله تعالى .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ) رواه البخاري .(84/5)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا ) رواه مسلم .
وإن مما يعينك أخي الكريم على العبادة أن تعلم ما أعده الله تعالى من جزاءٍ عليها ، فهذا يعينك على رفع الهمة في المواصلة عليها ، فمن منا يتخيل كم أعده الله تعالى للمسلم من أجرٍ في زيارة المريض على سبيل المثال ، اسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
هذا ، ولنحرص على التوسط في العبادة ، دون إفراطٍ ولا تفريط ، كما هي سنته - صلى الله عليه وسلم - ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا [ أي من كثرة صلاتها ] ، قَالَ : مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ) رواه البخاري .
ولنتذكر أخير أن علينا أن نعرف أننا ما خلقنا إلا لعبادة ربنا في كل أحوالنا ، فلنعبده ولنصطبر على عبادته ، فإن الله قال: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) .(84/6)
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(84/7)
خطبة ( محنة الامام احمد )
أما بعد ..
عباد الله .. لئن كنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية عن سيرة أحد الأعلام الكبار في تاريخ أمتنا الإسلامية، الإمامِ الرباني، والصديق الثاني، أحمدَ بنِ حنبلٍ الشيباني، رحمه الله، واستعرضنا عدة صفحات مشرقة من حياة هذا الإمام، مليئةٍ بالدروس والعبر ؛؛ فإنه يجدر بنا اليوم أن نقف مع صفحة ساخنة، هي من أعظم الصفحات في حياة هذا الإمام .
إنها صفحة الابتلاء، سنة الله في عباده المؤمنين، وقد روى الإمام أحمد نفسه، والترمذي وقال حسن صحيح، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رقةٌ خُفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد، حتى يمشيَ على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة.
وقد روي أن الإمام أحمد رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال له: يا أحمد، إنك ستُبتَلى فاصبر، يرفعِ اللهُ لك عَلَماً إلى يوم القيامة .
بدأت أحداث المحنة بعدما تولى المأمون الخلافة، وكان يميل إلى المعتزلة ويقربهم ،وكان أستاذه أبو الهذيل العلاف، وقاضيه أحمد بن أبي دؤاد من زعمائهم .. اعتنق المأمون هذه العقيدة الفاسدة وهي القول بخلق القرآن ، لكنه تردد في إلزام الناس والعلماء بها ،وخاف من الفتنة ،فأشار عليه ابن أبي دؤاد وجلساء السوء بإظهار القول بخلق القرآن ،وإلزام الناس به ،فكتب المأمون إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة والعلماء ،ويلزمهم بالقول بخلق القرآن، ومن أبى حبسه أو عزله أو قتله .
واشتعلت الفتنة في العراق ، وحُبس وعذب وقتل فيها خلائقُ لا يحصون ، بسبب فعل الخليفة المأمون ، وتقريبه لبطانة السوء، لا كثرها الله في كل زمان .(85/1)
حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أظن أن الله تعالى يغفل عن المأمون على ما أدخل على المسلمين .
واشتدت الفتنة ، ولم يثبت فيها سوى أربعة من العلماء، الإمام أحمد بن حنبل ،ومحمد بن نوح ،واثنان آخران ما لبثا أن تراجعا وقالا مثل ما قال الناس .
أمر المأمون أن يقبض على الإمامِ أحمدَ بن حنبل ومحمدِ بن نوح ، وأن يرسلا إليه، فأُرسلا مقيدين على بعير واحد، فأما محمد بن نوح فمات رحمه الله في الطريق قبل أن يصل إلى المأمون في طرسوس .
وبقي الإمام أحمد بن حنبل وحده، وجاءه رسول من قبل المأمون في الطريق. فقال له: إن الخليفة قد أعد لك سيفاً لم يقتل به أحداً ،فقال الإمام أحمد: أسأل الله أن يكفيني مؤونته، فدعا الله عز وجل في أثناء الطريق أن لا يريه وجه المأمون وأن لا يجتمع به ،فاستجاب الله عز وجل دعاءه، وما هي إلا مدة قصيرة وإذا بالخبر يصل بوفاة المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، فأعيد الإمام أحمد إلى السجن مرة أخرى.
ثم تولى الخلافة بعد المأمون ،المعتصم ،وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد ،والاستمرار بالقول بخلق القرآن ،وأخذ الناس بذلك ،وكان الإمام أحمد في السجن ،فاستحضره المعتصم من السجن ،وعقد له مجلساً مع ابن أبي دؤاد وغيره من علماء السوء ،وجلسوا يناقشونه في خلق القرآن، والإمام أحمد يستدل عليهم بالنصوص الواردة، ويقول لهم: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وانفض المجلس ذلك اليوم دون شيء، واستمرت المناظرات ثلاثة أيام، والإمام أحمد ثابت على الحق، يقولون: ما تقول في القرآن؟ ،فيقول: كلام الله غير مخلوق ،قال الله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، قال: وقول الله تعالى: (الرحمن علم القرآن)، ولم يقل: خلق القرآن، وقال تعالى: (يس والقرآن الحكيم)، ولم يقل والقرآن المخلوق .(85/2)
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة ،فناظروه بحضرته ثلاثة أيام ،وهو يدمغهم ويحجهم بالحجج القاطعة، فقال المعتصم: قهرنا أحمد، عند ذلك تحدث الوشاة عند الخليفة من علماء السوء ، فقالوا: إن أحمد قد غلب خليفتين ،فأخذت المعتصم العزة بالإثم ،فشتمه وهدده بالقتل ،فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)) فبم تستحل دمي وأنا لم آت شيئاً من هذا؟، يا أمير المؤمنين تذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل كوقوفي بين يديك، فهدأ المعتصم ولان، فتدخل ابن أبي دؤاد وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته قِيل إنك تركت مذهب المأمون، أو يقال إنه غلب خليفتين، فهاج المعتصم، وأمر بإعادة الإمام أحمد إلى السجن مرة أخرى .
ومضت الأيام ،وأخرج الإمام في رمضان وهو صائم، فجعلوا والعياذ بالله يضربونه ،وأتى المعتصم بجلادين كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين ،تأخر وتقدم الآخر ،والمعتصم يحرضهم على التشديد في الضرب، وهو يقول شدوا عليه قطع الله أيديكم ،ثم جردوه من ثيابه ولم يبق عليه إلا إزاره ،وصاروا يضربونه حتى يغمى عليه ،فيفيق ،ثم أخرجوه، ونقلوه إلى بيته ،وهو لا يقدر على السير من شدة ما نزل به .. فلما برئت جراحه ،خرج إلى المسجد ،وصار يدرس الناس ،ويملي عليهم الحديث، وهدأت الفتنة .
ثم توفي المعتصم ،واستخلف من بعده الواثق ،فاتصل به علماء السوء ،ابن أبي دؤاد وغيره ،وحرضوه على الفتنة، فعادت الفتنة مرة أخرى، إلا أن الواثق لم يتعرض للإمام أحمد، واختفى الإمام أحمد رحمه الله تعالى مدة خلافة الواثق ،وهي خمس سنوات تقريباً ،وفي آخر خلافة الواثق منّ الله عليه بالهداية فرجع عن القول بخلق القرآن .(85/3)
وكان سبب هداية الواثق ،أنه جيء إليه بالشيخ الأذرمي رحمه الله وهو مقيد بالأغلال، من جملة من يؤتى بهم إلى الخليفة، فيكرههم على القول بخلق القرآن، فإن أبوا قتلهم .
فلما دخل الأذرمي على الواثق، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلمك الله ،ولا عليك سلام الله، فقال له الشيخ: إن الذي أدبك ما أحسن تأديبك، ويشير إلى ابن أبي دؤاد لأنه هو شيخه ،وكان عنده حاضراً ،قال الشيخ: إن الله تعالى يقول: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)، وأنت ما حييتني بمثلها ولا بأحسن منها ،فتعجب الخليفة ،وأمر ابن أبي دؤاد أن يناظر الشيخ ،فقال له ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن ،قال الشيخ: ما أنصفتني، أنا الذي أبدأ بالسؤال ،فقال الخليفة: دعه يسأل، فقال الشيخ: ما تقول أنت في القرآن يا ابن أبي دؤاد؟، قال إنني أقول: إن القرآن مخلوق ،فقال الشيخ: مقالتك هذه التي حملت الناس والخلفاء عليها ،هل قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر أم لم يقولوها؟ فقال ابن أبي دؤاد: ما قالوها ،فقال له: هل كانوا جاهلين بذلك أم عالمين؟ قال: كانوا جاهلين بها. فقال الشيخ: شيء يجهله رسول الله وأبو بكر وعمر ،ويعلمه ابن أبي دؤاد!! فقال: لا، بل كانوا عالمين ،فقال الشيخ: هل وسعهم أن يسكتوا أم أنهم حملوا الناس على ما حملتهم عليه، فقال: لا بل سكتوا ،فقال الشيخ: شيء وسع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر ما وسعك أنت؟ .
فسكت ابن أبي دؤاد ،وقال الواثق: اصرفوا الرجل ،ولم يأمر بقتله ،ثم اختلى الواثق بنفسه وصار يفكر ويردد قول الشيخ ،شيء وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر ما وسعك أنت؟، ثم خرج وأمر بإطلاق سراح الشيخ ،ورجع عن القول بخلق القرآن، وارتفعت الفتنة عن الأمة بحمد الله .(85/4)
ثم توفي الواثق، وتولى بعده أحد الخلفاء الصالحين، وهو المتوكل ، فأعلن السنة ،وكتب إلى العلماء في الآفاق بأن يمنع الناس من الخوض في هذه المسألة ،وأصدر إعلاناً عاماً في كافة أنحاء الدولة ،نهى فيه عن هذه البدعة ،فعم الفرح في كل مكان ، وزالت بذلك هذه المحنة ،وانتصر الحق على الباطل ،ولهذا لما قيل للإمام أحمد أيام المحنة: يا أبا عبد الله، انتصر الباطل على الحق، قال: والله ما انتصر الباطل على الحق.
عباد الله .. إن من أعظم دروس هذه المحنة ، ما قام به الإمام أحمد من الثبات على الحق، والصبر على البلاء ، لقد انتصر الإمام أحمد ،بإيمانه وشجاعته، وانهزمت أمامه حكومة هي من أقوى الحكومات في عصرها، وخرج أحمد بن حنبل من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء ،والبدرِ من الظلماء، وقد سد ثلمة عظيمة كادت تحدث في الإسلام، وبقيت عقيدة أهل السنة صافية نقيةمن شوائب المعتزلة وضلالاتهم.
فجزى الله الإمام أحمد عن الأمة خير الجزاء، ورزقنا الله جميعاً علماءَ ودعاةً ومصلحين، الاقتداء به والتأسي بسيرته .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله .. ومضت الأيام، ومات الإمام أحمد، ومِن قَبله مات المأمون والمعتصم والواثق، ومات أيضاً أولئك المجرمون، من الحاشية الخبيثة والبطانة السيئة، أمثالِ أحمدَ بنِ أبي دؤاد وغيرِه ،لكن السؤال الأهم، ماذا حفظ لنا التاريخ من سيرة الإمام ،وماذا حفظ لنا من سيرة أولئك المجرمين .
لقد أصبح الإمام أحمد علماً من أعلام الإسلام، في عصره وبعد موته حتى يومنا هذا، وكانت خاتمته وجنازته من أيام الإسلام المشهودة، وبقي علمه وفقهه وكتبه حتى يومنا هذا، حتى كأنه حي بين أظهرنا.
وفي المقابل، نقل لنا التاريخ سوء خاتمة من شارك في تلك المحنة ،وعقاب الله عز وجل له في الدنيا قبل الآخرة .(85/5)
أما القاضي المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد، الذي كان يفتي بجواز ضرب العلماء وسجنهم وقتلهم ،فإنه سئل بعد قتل الواثق للإمام أحمد بن نصر الخزاعي، فقال : ضربني الله بالفالج (أي الشلل) إن قتله الواثق إلا كافراً، فيشاء الله جل وتعالى بقدرته وعظمته، أن يصاب هذا الرجل في آخر حياته بالفالج، فمكث أربع سنوات قبل موته ، طريحاً في فراشه .
نعم.. لقد حبسه الله وعذبه في جلده ،كما تسبب هو في حبس الإمام أحمد وتعذيبه، وزاد الله عليه همه وغمه فعزله المتوكل من وظيفته، كما تسبب هو في فصل عشرات ومئات الأشخاص من وظائفهم، بل أمر المتوكل بمصادرة جميع أمواله، ثم أتي بولده محمد فصودرت أمواله ومات قبل أبيه بشهر، ثم مات الأب بعده بهمه وغمه .
وتلك والله سنة الله في خلقه ، وإن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته ، وما ربك بظلام للعبيد .
عباد الله .. ومن الناس الذين جعلهم الله عز وجل عبرة لغيرهم في هذه المحنة، الجلادون الذين كانوا يضربون الإمام أحمد بالسياط، فكان منهم رجلان، أبو ذر، وأبو العروق .
أما أبو ذر فكان ممن يضرب الإمام بين يدي المعتصم، فأصيب بالبرص والمرض، وتقطع جسمه، وأهلكه الله بسوء عمله .
وأما أبو العروق ،فكان هلاكه أسوأ من صاحبه .
يقول عمران بن موسى: دخلت على أبي العروق لأنظر إليه، فمكث خمسة وأربعين يوماً ينبح كما ينبح الكلب، ابتلاه الله بمرض فصار ينبح كالكلاب .
سبحان الله .. هل نفع الجلادين أن يقول أحدهم: أنا عبد مأمور؟ كلا، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
عباد الله .. ومن الناس الذين كانوا يوقدون الفتنة ،الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات وهرثمة .
أما ابن الزيات فقد قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين: أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً.
أما هرثمة فقال: قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً .(85/6)
هكذا قالوا، فكيف كانت نهاية كل واحد منهم؟.
أما ابن الزيات الوزير، فقد ساءت الأحوال بينه وبين المتوكل فأصدر أمراً بالقبض عليه واعتقاله ، فقيد بالحديد وأدخل السجن ،وصودرت أمواله وبساتينه، ثم أمر الخليفة أن يُعذب وأن يمنع من الكلام والنوم، ثم وضع بعد ذلك في تنور من خشب، فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها، حتى مات وهو كذلك .
وأما هرثمة الذي قال ،قطعني الله إرباً إرباً ، فقد هرب من المتوكل، فمر بقبيلةِ خزاعة، قبيلةِ الإمام أحمد بن نصر الخزاعي ،فعرفه رجل من الحي ،فصرخ بالناس: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر ،فاجتمع الناس عليه وقطعوه إرباً إرباً. وجزاء سيئة بمثلها.
هكذا أيها الأحبة كانت نهاية أولئك القوم الذين أوقدوا الفتنة ، وتسببوا في إيذاء المؤمنين، وإن فيها لعبرةً لكل ظالم لعباد الله،ولكل من يصد عن سبيل الله، أو يعادي أولياء الله، (إن ربك لبالمرصاد) .. و (إن أخذه أليم شديد) .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(85/7)
خطبة ( مخالفات الأفراح )
الحمد لله الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا ونساء، أبدع ما خلقه ، وأحكم ما شرعه ، وأعطى كل نفس هداها .. نحمده حمدا كثيرا لا يتناهى، ونشكره على نعمه التي تفضل بها وأعطاها، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضلُ البرية وأزكاها ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد .. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ، فهي وصية الله للأولين والآخرين (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) .
عباد الله .. في زمن عصفت فيه الفتن، وماجت فيه المنكرات، واندفع فيه سيل جارف من الشهوات والملهيات والمغريات، من مجلات وقنوات ، وأفلام وأغنيات ، فجّرت في النفوس براكين الشهوات، وسقط بسببها جمع من الشباب والفتيات في حمأة الرذيلة والفاحشة .
أقول ، في هذا الزمن ، تُسَرّ العين وتأنس الأذن وينشرح القلب عندما نرى عشاً للسعادة يبنى ، وبناءً للفضيلة يشيّد .. يضع الشاب أولى لبناته ، وتمد الفتاة يدها لمشاركته، ويفزع الأهل لإقامته .
إنه البناء الأسري .. الذي تفضّل الله سبحانه به على عباده ، ودعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - معشر الشباب من هذه الأمة .
الزواج، آية من آيات الله .. به يقطع الشر ، ويشيع الطهر ، ويحفظ الفرج ، ويُغض البصر .. (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .
الزواج سنة الأنبياء والمرسلين، وهو سبيل المؤمنين ، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء)).(86/1)
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في التزويج هذا الزمان؟ [يعني: في زمانه هو، زمان الإمام أحمد] ، فقال رحمه الله: مثل هذا الزمان ينبغي للرجل أن يتزوج، ليت أنه إذا تزوج اليوم ثنتين يسلم، ثم قال: ما يأمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبطَ عمله؟! إذا كان هذا في زمن الإمام أحمد فماذا نقول نحن في زماننا هذا؟!
أيها الأحبة .. في أيام الإجازات تكثر الزيجات، فلله الحمد والمنَّة، ونسأل الله التوفيق لكل عروسين ، وأن يبارك لهما وعليهما ، ويجمع بينهما في خير .
حفل الزفاف اجتماع مبارك ، ووليمة العرس سنة نبوية يجب حضورها على من دعي إليها .
وعلى الرغم من أن هذا الزواج نعمة من نعم الله العظيمة، وآية من آياته الكريمة، فإنه قد أحيط في هذه الأيام ببعض المخالفات التي تكدر صفوه ، وربما تَمحَق بركته وتُذهب ثمرته ، وتحيله إلى بلاء ونقمة .
فمن مخالفات الأفراح : المغالاة في المهور وتكاليف الزواج .
لقد كان الزواج في السابق وإلى عهد قريب من أيسر الأمور، فأصبح اليوم من أشق الأمور وأعسرها؛ ذلك لأننا ألزمنا أنفسنا بأعرافٍ وشكليات، وأثقلنا كواهلنا ببدع ورسميات ، ما أنزل الله بها من سلطان .
لقد أحيط الزواج في هذه الأيام بأغلال الفخر والخيلاء والمباهاة والتقليد ، حتى أصبح الحلال عسيرًا، بينما ترى شياطين الإنس والجن قد جعلوا الحرام مبذولاً يسيرًا .
وقل مثل ذلك في المغالاة والإسراف في حفلات الزفاف ، ابتداءً ببطاقات الدعوة والمغالاة فيها شكلاً ومضمونًا وعددًا وطباعة، وانتهاءً بقصور الأفراح والمباهاة فيها، بل تطور الأمر ببعضهم إلى إقامة حفلات الزفاف في الفنادق بمبالغ طائلة، وكذلك الإسراف في المطاعم والمشارب، وصرف آلاف الريالات عليها، ناهيك عن رؤوس المواشي التي تذبح وتطبخ، ثم أين يكون مصيرها؟ .(86/2)
لعلك تمر بجوار أحد قصور الأفراح لترى بأم عينيك أكواماً من النعم مرمية في حاوية كبيرة للنفايات، فرحماك يا إله العالمين، وعفوك يا أرحم الراحمين، أمم تتباهى بأطعمتها نوعًا وكمًّا، وترمي أكثرها .. وأمم في مشارق الأرض ومغاربها تبحث عن فتات الخبز .. وقد نقل الثقات أن النساء المسلمات في تشاد يبحثن في بيوت النمل عن حبة القمح ليأكلوها بسبب شدة الجوع؟! فيا لله .. أين نحن؟! وأين هم؟! .
عجباً لنا .. نسترخص الآلاف في الولائم ، لكننا في المقابل نشح بالريالات في سد جوعة الفقراء والمساكين!! .
ألا فلنتق الله ، ولنخش زوال نعمته وفجاءة سخطه .. فقد نهى الله عز وجل عن الإسراف والتبذير .. قال سبحانه: (يَابَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) . وقال تعالى: (وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا) .
علينا أيها الأحبة أن نكون معتدلين غير مسرفين ولا مقتّرين ، ثم إذا فاض شيء من الطعام فلنكن مستعدين بالتنسيق المسبق مع الجمعيات والمبرات الخيرية التي توصل الفائض إلى المحتاجين .
ومن مخالفات الأفراح: لبس الفاضح من الثياب بالنسبة للنساء ، فهذه ثياب رقيقة ، وأخرى عارية ، وأخرى مخرمة ، وتلك قصيرة ومفتوحة من الجوانب ، وأخرى ضيقة تصف حجم الأعضاء، وحدث ولا حرج عن البناطيل والصدور والبطون ، والحجة: الموضة وموديل العصر ، ونحن أمام النساء . يا سبحان الله، أين هؤلاء النساء مما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما قط))، وذكر منهما : (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) .(86/3)
وفي جواب اللجنة الدائمة للإفتاء عن لباس المرأة أمام النساء ، قالت اللجنة: وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في الكشف فعلاوة على أنه لم يدل دليل على جوازه، فهو طريق لفتنة المرأة وتشبه بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) انتهى .
ومن المخالفات : عدم التزام الحجاب الشرعي، بل أصبح الحجاب ذاته عند بعضهن لباس تجمّل ومباهاة، وذلك بلبس العباءات المطرّزة وأغطية الوجه المخالفة للشرع والنقابات الواسعة ووضع العباءة على الكتف ولبس الكاب وغيرها .
ومن المخالفات بالنسبة للرجال إسبال الثياب والمشالح إلى أسفلِ الكعبين، وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) وذكر منهم المسبل إزاره.
ومن المخالفات : لبس الباروكة وهي حرام لأنها من وصل الشعر المحرم ، وقد ثبت في حديث أسماء رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الواصلة والمستوصلة ، متفق عليه .
ومن المخالفات أيضاً :قص الشعور أو تسريحها على وجه يشبه ما عليه الكافرات وهذا محرم، وهكذا جمع المرأة شعرها بطريقة مائلة فوق رأسها فتدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة).
ومن المخالفات : حلق ما يحرم حلقه من الشعر، كحلق المرأة حواجبها وهذا هو النّمص، وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن النامصة والمتنمصة.
ومن الحلق المحرم حلق الرجل لحيته ابتغاءً للجمال .. وهل عرفت الدنيا أجمل من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟! وقد كان كث اللحية؟ .. وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - كما عند مسلم: ((جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى)).(86/4)
من المخالفات: خروج النساء من بيوتهن متعطرات ومرورهن أمام الرجال، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة إذا مست بخورًا أن تأتي إلى المسجد، فكيف إذا خرجت لغير المسجد؟!
ومن المخالفات أيضاً: تصوير النساء في الأفراح .. سواء بالكاميرات العادية أو كاميرات الفيديو أو كاميرات الجوال .. وكم جرّت هذه الصور والأفلام من مصائب وآفات ، وكم أفسدت من أسر وبيوت ، وكم تسببت في طلاق وشقاق وفراق ، وكم هُتك بسببها من ستر وعفاف وفضيلة.
وربما شاهد الرجل زوجته في فيلم يتناقله الشباب بينهم . فأي مصيبة بعد ذلك؟!
كيف يرضى العاقل أن تلتقَط الصورُ لمحارمه ونسائه فضلاً عن ذي الإيمان والمروءة .
أيها الإخوة .. ومن المنكرات الجسيمة التي تحدث في بعض حفلات الزواج: دخول العريس على النساء ، والجلوس أمامهن في المنصة، فيشاهد النساء وهن يشاهدنه ، وكلٌ في أبهى زينته ، فأي فتنة بعد ذلك؟؟ وأين الغيرة؟ أما يغار هذا الرجل على نساء المسلمين؟ وكيف يجيز لنفسه النظر إلى نساء أجنبيات قد تزين بأجمل زينة . ثم أين غيرة أزواج النساء اللاتي يحضرن مثل هذه الحفلات؟.
وقل مثل ذلك في دخول بعض الرجال كإخوة العريس عند النساء ورقصِهم وإنشادِهم الأشعار، أو دخولِ خدم الفنادق وقصور الأفراح من الرجال لخدمة النساء، ومثلُه دخولُ بعض المراهقين من أبناء الخامسة عشرة وأكثر ، بحجة أنهم صغار . والله المستعان .
أيها الأحبة .. ومن المخالفات : تقليد الكفار في بعض طقوس الزواج أو ما يسمى بالزفة : كتقليد عباد النار بحمل الشموع خلف العروس ، وهذا من التشبه بالكفار ، وقد ثبت عند أبي داود من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ومن مخالفات الأفراح : النثار وهو طرح النقود ونحوها في الزواج .. ذُكِر إن إحدى النساء كانت ترقص وفي يدها عشرة آلاف ريال، وبعد انتهاء شوطها مزقتها ورمتها على الأرض.(86/5)
فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، وردنا إليك رداً جميلاً أنك أنت الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرع لنا النكاح، وحرم علينا السفاح ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالقُ الإصباح، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام الدعاة ورائد الإصلاح ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم بإيمان، ما تعاقب المساء والصباح، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد .. فإن من المنكرات التي تقع في بعض الأفراح : إحياء حفلة الزفاف –زعموا- بالغناء الماجن المصاحب لآلات العزف المحرمة .. كلمات ماجنة ، وعبارات ساقطة، ودعوات للرذيلة، وإخلال بالفضيلة على رؤوس الأشهاد ، ومكبرات أصوات ، صوتها يخرق الجدران ، ويدوّي في الآذان ، بكلمات الهوى والشيطان .
ومن المعلوم شرعاً أن الأغاني حرام ولا يجوز سماعها، قال الله تبارك وتعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) . قال مجاهد: باللهو والغناء، أي استخفهم بذلك .
وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). قال ابن مسعود : هو والله الغناء، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وجمع من التابعين .
فالغناء يورث النفاق في القلب وهو بريد الزنا، والواجب على المسلمين إنكار هذا المنكر الذي شاع بينهم في هذه الأزمنة، فإنك لا تدخل محلاً ولا بيتاً إلا وتسمع فيه الطرب واللهو والغناء إلا من رحم الله ، حتى إن الأغاني والمعازف دخلت أجهزة الاتصال والجوال .
إذا علم هذا فإن الشارع الحكيم أباح للنساء الضربَ بالدف في الأعراس والمناسبات ، والإنشادَ بالكلام الشريف لا بالكلام الماجن الوضيع .(86/6)
وختامًا .. هذه رسالة إلى إخواني الآباء وأولياء أمور النساء أن يتقوا الله في حفلات الزواج ، وأن يتقوا الله في نسائهم ، في لباسهن وحجابهن ، وبعدهن عن الرذيلة .
وما أجمل -أيها الأحبة- أن ننطلق في أفراحنا من اعتزازنا بديننا ، وأن نكون صادقين مع ربنا ، شاكرين لأنعمه ، سائلينه سبحانه أن ينزل البركة والسعادة والتوفيق للزوجين في حياتهما الجديدة ، وما أحوجهما إلى ذلك .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(86/7)
خطبة ( مشاريع في الإجازة )
أما بعد .. نحن في إجازة .. وكم هي مؤسفة أحوال بعض الأسر في الإجازة .
ها هو الأب يأتي من عمله والأبناء نيام، قد سهروا حتى ارتفاع الضحى، يقلّبون القنوات من قناةٍ لأخرى، وبعضهم في محادثاتٍ تطول عبر الإنترنت، أو يبحث عن مواقع تجرّه إلى الفاحشة والرذيلة ، وقُبَيل العشاء أو بعده يستيقظ الأبناء والبنات، وما هي إلا ساعة ، والأبناء مع رفاقهم .. دوران وتسكّع .. والبنات مع السائق من سوقٍ إلى سوق، ومن شارعٍ إلى آخر، والمطاعم ملأى، والعذر الذي يجمِع عليه الكل ، وتعتذّر به الأم : إنهم في إجازة ، ولم يتيسّر لهم السفر .. وبعد شهر تطير العائلة إلى بلاد أوربا أو أمريكا أوغيرها ليبدأ الفصل الثاني من مسلسَل الضياع هناك، ثم تعود العائلة الكريمة بنفوسٍ قد تلطّخت بشؤم المعصية، وازدادت بعداً عن خالقها وربها .
وقد روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ)). فحصول الفراغ وكمال الصحة للعبد نعمة عظيمة، قلّ في الناس من يدركها ويستشعر فضلها، ليستثمرها فيما يعود عليه بالنفع في الأولى والآخرة .
أيها الأحبة .. ذكرنا في خطبة سابقة أن استغلال الإجازة ينبني على أمرين :
أن نستشعر قيمة الوقت، وأن له شأناً عند الله . وأن هذا الوقت هو رأس مالنا؛ فإن ضيعناه ضاعت حياتنا ، وإن حفظناه كنا من السابقين المفلحين .
التخطيط والتنظيم والبعد عن الفوضى في استغلال الوقت.
بالتخطيط والتنظيم يمكن أن نحول الإجازة إلى فترة إيجابية في حياتنا نجني منها الأجر والفائدة وبناء النفس من جهة ، ونجد فيها المتعة والترويح عن النفس من جهة أخرى .(87/1)
ولعلي أطرح في هذه الخطبة بعض المشاريع التي يمكن أن نقوم بها في الإجازة ، وهذه المشاريع متنوعة ، يمكن أن يختار كل منا ما يناسبه من هذه المشاريع ، بحَسَب عمره ، أو مستواه العلمي ، أو درجةِ تدينه ، أو محلِ إقامته ، ونحوِ ذلك من المتغيرات .فأول المشاريع :
المشاريع التعبدية : فنحن يمكن أن نجعل من الإجازة فرصة للتزود بالتقوى والعمل الصالح . مثل : أداء العمرة وقضاء بعض الأيام الإيمانية بجوار الحرمين الشريفين .. الاجتهاد في تلاوة القرآن الكريم ، وقيام الليل ، وغير ذلك من أنواع العبادة .
المشاريع العلمية : كحفظ القرآن الكريم ، وحفظ السنة ، وحفظ المتون ، وحضور دروس المشايخ ، وحضور المحاضرات والندوات ، وحضور الدورات العلمية ، ودورات تجهيز الجنائز ، وإعداد البحوث ، وسماع الأشرطة ، وتلخيص الكتب والأشرطة ، وغير ذلك من المشاريع العلمية .
هذا الأمر وهو طلب العلم الشرعي هو أولى ما شغلت به الإجازات ، وهو أعظم ما تُعبِّدَ اللهُ به .. ووالله ما وقع بعض شباب الأمة في الفتن إلا بضياع العلم المؤصل ، المؤسس على الكتاب والسنة .
المشاريع المعرفية المهاراتية : والتي تهدف إلى بناء النفس وتطوير الذات:
أبناؤنا وبناتنا بحاجة إلى اكتساب مهارات أساسية هي من أعظم أسباب النجاح في الحياة العملية ، مثل : القراءة السريعة - الكتابة السريعة – البحث والتعامل مع المراجع - فهرسة المعلومات - النسخ على الآلة الكاتبة أو الحاسب - تصنيف المكتبات- ترتيب الأفكار وإعداد التقارير - العلاقات العامة – الخطابة والإلقاء - تشغيل الحاسب الآلي – استخدام برامج الحاسب الآلي ، وغيرها .
هذه المعارف والمهارات مهمة جداً في بناء الشاب .
خذ على سبيل المثال : القراءة .. من المؤسف أننا لا نقرأ ولا نشجع إخواننا وأبناءنا على القراءة والاطلاع .(87/2)
في استبيان أجرته إحدى الصحف المحلية اتضح أن 90% من المواطنين لا يرون أن هناك تشجيعا لارتياد المكتبات العامة ، بل إن الغالبية منهم يجهل موقع المكتبة العامة في مدينته .
الكثير من أطفالنا لا يقرأون .. عقولهم متبلدة ، ورؤوسهم خاوية كالكرة .
نعم .. هناك بعض النشاطات القليلة المشكورة في بعض المؤسسات التعليمية أو الأهلية كمسابقات القراءة ومعارض الكتاب .
وقد زرت قبل أشهر معرض الكتاب للطفل بالرياض ، ورأيت فيه من إقبال الأسر والأطفال على الكتب والوسائل التعليمية ما يفرح ولله الحمد ، وهو جزء مما يجب علينا تجاه أبنائنا وبناتنا .
مشاريع دعوية : جولات دعوية للقرى خارج المدينة .. نشاطات دعوية في الأسواق والمتاجر والأرصفة وتجمعات الشباب.
هؤلاء الشباب الذين يجلسون على الأرصفة أو الطرق وقد يوجد معهم بعض المنكرات كالشيشة أو الموسيقى أو الآلات الموسيقية ، من حقهم علينا أن نمر عليهم مرور الكرام دون تنفير أو إثقال ، ونهدي لهم الكلمة الطيبة ، والمطوية الجميلة ، والشريط المؤثر .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : (هذا العصر عصر الرفق والصبر والحكمة ،وليس عصر الشدّة .. الناس أكثرهم في جهل ، في غفلة وإيثار للدنيا ، فلا بدّ من الصبر ، ولا بدّ من الرفق ؛حتى تصل الدعوة ، وحتى يبلّغ الناس ، وحتى يعلموا ، نسأل الله للجميع الهداية) . اهـ مجموع فتاوى ابن باز 8/376 ، 10/91
ولا شك أن شبابنا فيهم خير كثير بحمد الله .. وقد قام مجموعة من الأخوة قاموا بعمل استبيان حول من يجلسون في الطرقات وعلى الأرصفة واتضح أن 70% من الشباب يحبون الشباب المتدينين ، وقال 10% منهم إنهم يحبون بعض الشباب المتدينين ، وقال10% لا يحبون الشباب المتدينين لسبب أو لآخر .
وقد سئل كثير من الشباب هل تحب أن تكون متدينا ؟ فكانت النسبة 5ر99% يرغبون أن يكونوا متدينين .(87/3)
مشاريع النشاط الجماعي : كالمراكز الصيفية ، والمخيمات الدعوية والتربوية ، والمخيمات البحرية ، والرحلات الطويلة أوالقصيرة ، مع العائلة أو مع الأقارب ، مع المركز ، مع الزملاء.
وهذه المشاريع تسهم في بناء شخصية المشارك ، واكتسابِه مهارات التواصل مع الآخرين ، والقدرة على التحمل ، والتكيف مع الظروف المتغيرة .
مشاريع إغاثية : كالمشاركة في الجمعيات الخيرية ، والقيام على الفقراء والمساكين ، وجمع ما يحتاجونه وتوزيعه عليهم .
مشاريع تجارية ووظيفية : كالتجارة الصغيرة في سوق الخضار أو عند المساجد ، وكالوظائف المؤقتة في الشركات والمتاجر أو في الجهات الخيرية والدعوية .
الزيارات : كزيارة المكتبات ، والمعارض ، وصالات الألعاب ، وحدائق الحيوانات ، والمشاريع الخيرية ، والمشاريع الدعوية ، والمستشفيات ، ودور المعاقين ، وغيرها.
المشاريع المهنية : كتعلم مهنة في المصانع ، أو مراكز التدريب المهنية: كهرباء ، الكترونيات ، سباكة ، تبريد ، نجارة ، وغيرها من المهن .
الألعاب الرياضية المفيدة : كالدفاع عن النفس ، والسباحة والغوص ، وتعلم الفروسية ، وغيرها من الرياضات المفيدة للجسم .
والرياضة أمر مطلوب في حياة الشاب ، بشرط أن لا تفوّت واجباً ولا تضيع حقاً ولا تشتمل على أمر محرم ولا تكون غاية تستنزف حياة الشاب .
وقد سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة ، وحث على تعلم الرمي ، وسابق بين الخيل في المدينة .
ومن لطائف ما روي عن الإمام البخاري ما نقله عنه محمد بن أبي حاتم ، قال: ((كان يركب إلى الرمي كثيراً ، فما أعلم أني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمُه الهدفَ إلا مرتين ، وكان لا يُسبَق)) .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله مدبر الشهور والأعوام .. ومصرف الليالي والأيام .. والصلاة والسلام على سيد الأنام ، وعلى آله الكرام وأصحابه الأئمة الأعلام ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .(87/4)
أيها الأحبة .. ومع هذه المشاريع التي يمكن أن نقوم بها في الإجازة ، علينا أن لا ننسى حاجتنا وحاجة أبنائنا إلى الترفيه والترويح عن النفس .
الترفيه البريء فيه إجمام للنفوس وإعادة لنشاطها .. ويجدر التنبيه هنا بأن الترفيه لا بدّ أن يكون محاطًا بإطار الشرع، فلا يسمح فيه بتجاوزات شرعية، وإنما ترفيه يجدّد النشاط ويبعث حياة الهمّة في النفوس .
أخي رب الأسرة .. لا تنس أن المحفّزاتِ والجوائزَ مطلب هام لنجاح البرامج والمشاريع الأسرية في الإجازة ، فلا تغفل عن هذا الأمر .
واعلم أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع ، فلا تكثر من البرامج والمشاريع على الأبناء والبنات بحيث يصيبهم الملل .
ومن المناسب أيضاً ، أن يجعل للأبناء أكثر من خيار، ثم يترك لهم مساحة للتفكير والاختيار.
أيها الأفاضل .. بهذه المشاريع والبرامج نحفظ أبناءنا وبناتنا من نزغات الشياطين ودعوات المفسدين ، ونذب عنهم واردات الهوى وأمراض الشهوات والشبهات ، ونربطهم بدينهم وأمتهم، ونحببهم لأهلهم ووطنهم ، وبها نكتشف مواهبهم ، ونصقل قدراتهم ، ونفتح لهم آفاقًا لخدمة أمتهم وبلادهم .
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(87/5)
خطبة ( مع النبي في حجة الوداع )
أما بعد .. ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .. وقد جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقبلت الوفود من قبائل العرب تؤم طيبة الطيبة، يفدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة الوفود ، سنةِ تسع للهجرة .
وتدخل سنة عشر فيؤذِن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بالحج، فتزدحم المدينة ببشر كثير ، كلهم يريد أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصحبه في الحج .
خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد صلاة الظهر من يوم السبت السادس والعشرين من شهر ذي القعدة ، ثم نزل بذي الحليفة فأقام بها يومه وبات بها ليلته ؛ حتى يتتابع إليه الناس ويدركه من بعد عنه .
فلما أصبح ، قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: "صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة). ثم تهيأ صلى الله عليه وسلم لإحرامه ، أشعر هديه وقلده، اغتسل ولبد رأسه ، وتطيب من كفي عائشة رضي الله عنها بأطيب الطيب ، ثم لبس إحرامه وصلى الظهر ، ثم استقل راحلته على غاية من التواضع والخشوع ، والتعظيم والخضوع .
انظر إلى راحلته ورحله، وإلى فراشه ومتاعه، فقد ثبت عند ابن ماجه أنه - صلى الله عليه وسلم - حج على رحلٍ رثّ ، وقطيفةٍ لا تساوي أربعة دراهم ، ثم قال اللهم حجة لا رياء فيها ولاسمعة .
وعندما انبعثت به راحلته استقبل القبلة، وحمد الله وسبح وكبر واحرم بالحج ولبى : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .(88/1)
سار - صلى الله عليه وسلم - بهذه الجموع الزاحفة ، تحيط به القلوب وترمقه المقل، وتفديه المهج، لم توطأ له المراكب، ولم تتقدمه المواكب ، وإنما سار في غمار الناس، ليس له شارة تميزه عنهم إلا بهاء النبوة وجلال الرسالة . وينزل عليه جبريل فيقول: "يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج، فاهتزت الصحراء بضجيج الملبين، وتجاوبت الجبال بهتافهم بتوحيد رب العالمين. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك إله الحق، لبيك ذا المعارج، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء والعمل .
سار - صلى الله عليه وسلم - في الطريق بين المدينة ومكة، وأصابه ما يصيب المسافر من وعثاء السفر ونصب الطريق، فقد مرض - صلى الله عليه وسلم - في سفره واشتد به صداع الشقيقة فاحتجم في وسط رأسه .
وانقطع أثناء المسير بعير صفية بنت حُيي أم المؤمنين فتجاوزها الركب فرجع إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هي تبكي فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو يسكنها وينهاها، فلما أكثرت انتهرها وأمر الناس بالنزول .
وينزل صلى الله عليه وسلم بمكان يسمى العَرْج ، وبجانبه زوجه عائشة، وصاحبه أبو بكر وابنته أسماء ، وكان أبو بكر ينتظر غلامه الذي معه زاملته وهي البعير الذي عليه متاعه ومتاع النبي صلى الله عليه وسلم فطلع الغلام وليس معه بعيره فقال أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة، فطفق أبو بكر يضربه ويقول: بعير واحد وتضله! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويبتسم ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع! ثم قال: "هون عليك يا أبا بكر فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك" ولم يلبثوا طويلاً حتى جاء الله بالزاملة .(88/2)
ولما قَرُب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة نزل مكاناً يقال له "سَرف" ، فحاضت عائشة ، فدخل عليها فإذا هي تبكي ، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: والله لوددت أن لم أكن خرجت العام، قال: لعلك نَفِستِ؟ أي حضتِ ، قالت: نعم. فجعل - صلى الله عليه وسلم - يواسيها ويقول: (إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج ، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) .
وقد أخذ العلماء من هذا أن المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف العمرة، ولم تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة فإنها تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة ، وتفعل ما يفعل الحاج ، وتؤخر الطواف والسعي حتى تطهر .
وبعد ثمانية أيام ، وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ، ولما قرب من مكة بات عند بئر "ذي طوى" في المكان المعروف اليوم بجرول أو آبارِ الزاهر، ليستريح من نصب الطريق ووعثاء السفر ، فلما أصبح اغتسل ثم دخل مكة ضحى يومِ الأحد من ثَنِيَّة كَداء، وهي التي تنزل اليوم على جسر الحَجون، فأناخ راحلته عند المسجد، ودخل من باب بني شيبة ، وهو الباب الذي كان يدخل منه يوم كان بمكة أيام الدعوة والصبر والبلاء ، فيا لله ما الذي كان يتداعى في خاطره في تلك الساعة .. أما دخل الحرم ليصلي فيه قبل نحو عشر سنين فألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد؟ أما دخل الحرم فقام إليه ملأ من قريش فأخذوا مجامع ردائه فخنقوه به .. فإذا به اليوم يدخل الحرم ، وقد صدقه ربه وعده، وأظهره على الدين كله.(88/3)
ويسير - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة المشرفة، فيستلم الحجر الأسود ويكبر فتفيض عيناه بالبكاء، ثم يضعُ شفتيه عليه فيقبلُه ، ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط، فلما فرغ من طوافه مشى إلى مقام أبيه إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم عاد إلى الحجر فقبله، ومسحه بيديه ثم مسح بهما وجهه، ثم توجه إلى الصفا فصعده وهو يقرأ "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ، حتى نظر إلى البيت فاستقبله وكبر وهلل ورفع يديه ودعا ، وكرر الذكر والدعاء ثلاثاً ، ثم نزل فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع واشتد في السعي ، حتى إن إزاره ليدور على ركبتيه من شدة السعي .
فلما وصل إلى المروة رقيها ، وصنع كما صنع على الصفا.
وفي هذه الأثناء ، فشا الخبر في مكة وتنادى الناس: رسول الله في المسجد...، رسول الله على الصفا والمروة... فلفظت البيوت من فيها، وجاءت القلوب المشوقة، والعيون الظامئة، تريد أن ترى محيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى خرج العواتق والإماء يقلن: هذا رسول الله، هذا رسول الله! وازدحم الناس عليه ينظرون إلى وجهه المنور، فلما كثروا حوله وكان كريماً سهلاً ، أمر براحلته فركبها ليُشرِف للناس ويروه كلهم ، شفقة عليهم ، ثم أتم - صلى الله عليه وسلم - سعيه راكباً ، فلما قضى سعيه أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ، ثم سار بمن معه حتى نزل بالأبطح شرق مكة وهو مكان فسيح واسع يشمل اليوم ما يسمى العدل والمعابدة إلى الحَجون، فنزل بالناس وأقام بهم أربعة أيام ، يومَ الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء .
فلما كان ضحى الخميس اليومِ الثامن يومِ التروية ، ركب - صلى الله عليه وسلم - إلى منى ، وخرج معه الصحابة الذين كانوا قد حلوا مهلين بالحج ، وفي منى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يقصر الرباعية ركعتين، ويصلي كل صلاة في وقتها، وكأنما كان هذا النفير تهيئةً وإعداداً للنفير الأكبر إلى عرفات.(88/4)
وبات - صلى الله عليه وسلم - بمنى ليلة التاسع ، فلما أشرقت شمس اليوم التاسع ، خيرِ يوم طلعت فيه الشمس، يومِ الجمعة يومِ عرفة، سار الركب الشريف من منى إلى عرفات، حتى وصل إلى نَمِرة فإذا قبة قد ضُرِبت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس ، ثم ركب راحلته القصواء، ونزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة ، فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي، وهو على راحلته ، وأشرف للناس ليخطُبهم خُطبة عظيمة، جمع فيها معاقد الدين، وعصم الملة، وعظّم الحرمات، فدوى صوته بين أهل الموقف، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ... دماء الجاهلية موضوعة ... ربا الجاهلية موضوع ... اتقوا الله في النساء ... تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتابِ الله .
ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على هذه الجموع يستشهدهم شهادة عظيمة، شهادة البلاغ والأداء ويقررهم بالجواب إذا سئلوا: أيها الناس، إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ .
ألا ما أعظم السؤال! وما أعظم المَقام! ثلاثة وعشرون عاماً قضاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البلاغ والدعوة، والصبر والمصابرة، والجهد والجهاد، ومع ذلك يَسأل ويَستشهِد على بلاغه لأمته، فأجابته الجموع بفمٍ واحد: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت الذي عليك، فرفع - صلى الله عليه وسلم - إصبعه الشريفة إلى السماء، وجعل ينكتها إلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد .
ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خطبته، أذن بلال وأقيمت الصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر قصراً وجمعاً، ثم ركب راحلته ودفع إلى عمق عرفة ليقف عند الصخرات مستقبلاً القبلة رافعاً يديه داعياً وملبياً .
وظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك ، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشرب منه والناس ينظرون إليه .(88/5)
وينزل الروح الأمين جبريل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوحي من ربه في هذا الموقف العظيم بهذه الآية العظيمة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها على الناس معلناً كمال الدين وتمام النعمة، فلما سمعها عمر رضي الله عنه فَقِهها ، واستشعر من معناها أن مهمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انتهت ، فاستعبر باكياً وهو يقول: ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقية يوم عرفة في حال من التضرع واللهج بالدعاء والثناء على الله ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
ولما كان آخرَ النهار دعا - صلى الله عليه وسلم - بأسامة بن زيد، ليكون رديفه، هذا الشاب الأسود الأفطس الأجعد هو الذي حظي بشرف إرداف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الانتخاب والاختيار يعلن تحطيم الفوارق بين البشر، ويدفن تحت مواطئ راحلته كل النعرات الجاهلية، والنزعات العنصرية، فلا فضل لعربيٍ على أعجمي، ولا لأبيضَ على أسودٍ إلا بالتقوى .
فلما غربت الشمس أشار - صلى الله عليه وسلم - للناس قائلاً:" ادفعوا على اسم الله" ، فدفع الناس معه، وهو - صلى الله عليه وسلم - في حَطْمَتهم وغمارِهم، وقد رفع يمينه المباركة يشير إليهم بسوطه قائلاً: (رويداً أيها الناس، السكينة السكينة، إن البر ليس بإيجاف الركاب)، يقول ذلك وقد شَنَق راحلته وكبح زمامها، حتى إن رأسها ليصيب مَورك رحله ، فلما وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء جمع تأخير ، ثم نام - صلى الله عليه وسلم - ليلته تلك إلى السحر، بعد يومٍ طويلٍ ، حافلٍ بالأعمال العظيمة .(88/6)
وفي صباح اليوم العاشر ، قام - صلى الله عليه وسلم - مسارعاً إلى صلاة الفجر، فصلاها في غاية البُكور في أول الوقت، ثم ركب راحلته وتوجه إلى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ورفع يديه، يدعو ويلبي، ويكبر ويهلل حتى أسفر جداً، وقاربت الشمس أن تطلع، فدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً هدي المشركين، وأردف ابن عمه الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وأمره أن يلقط له حصى الجمار، فالتقط له سبع حصيات صغار بحجم حبة الحمص أو أكبر قليلاً ، حتى إذا وصل وادي محسّر ، بين مزدلفة ومنى ، أسرع قدر رمية بحجر .
وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى منى ، فبدأ بجمرة العقبة فاستقبلها جاعلاً منىً عن يمينه، ومكةَ عن يساره، فرمى الجمرة بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، وكان في شأنه كله متواضعاً لله ، معظماً لشعائره، وازدحم الناس حوله فقال: (يا أيها الناس لا يقتلْ بعضكم بعضا ، وإذا رميتم فارموا بمثل حصى الخذف، ولتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) .
ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المنحر لينحر هديه، فلما قُرِّبت إليه الإبل لينحرها إذ بها تزدلف إليه وتتسابق أيُّها ينحره بيده الشريفة .. إذا كان هذا هو شعور الحيوانات العجماوات فكيف بقلوب المحبين التي امتلأت حباً وشوقاً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
نحر - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، بعدد سني عمره المبارك، ثم أمر علياً بنحر ما بقي منها، وأن يقسم لحومها وجلودها بين الناس .(88/7)
ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحلاق ليحلق رأسه ، فجاء معمر بن عبد الله ومعه الموسى، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، ثم قال له ملاطفاً: (يا معمر، قد أمكنك رسول الله من شحمة أذنه وفي يدك الموسى) فقال معمر: والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله علي ومنِّه، قال: (أجل) ، ثم دفع شعر رأسه الأيمن للصحابة ، قم قال: أين أبو طلحة؟ أبو طلحة الذي كان بيته كأنما هو بيتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - خدمةً وعناية وحفاوة ، فجاء أبو طلحة، فدفع إليه شعرَ رأسِه الأيسرِ كلَه ، فانطلق أبو طلحة بشعره ، وكأنما أعطي كنزاً من كنوز الأرض .
ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثاً ، فقال: (اللهم ارحم المحلقين) ، ثم قال:( والمقصرين) .
قال مالك بن ربيعة رضي الله عنه : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك وأنا يومئذ محلوقُ الرأس ، فما يسرني بحلق رأسي حمرَ النَّعَم .
وبعد أن حلق - صلى الله عليه وسلم - رأسه ، نزع إحرامه ، وطيبته عائشة رضي الله عنها بأطيب ما تجد من الطيب، ثم ركب إلى البيت ، فلما وصل الكعبة طاف راكباً يستلم الحجر بمحجن كان معه، فلما فرغ من طوافه ذهب إلى سقاية عمه العباس، فاستسقى من أوعيتهم ، فقال العباس: (يا فضل اذهب إلى أمك ، فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها فأبى - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: (لا حاجة لي فيه، اِسقوني مما يشرب منه الناس) ، قال يا رسول الله: إنهم يضعون أيديهم فيه، قال: (اسقني) فسقاه العباس مما يشرب منه الناس .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر ، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر ، والصلاة والسلام على خير من حج واعتمر، ووقف بعرفة والمشعر ، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر ، وسلم تسليماً كثيراً .(88/8)
عباد الله .. وبعد أعمال يوم النحر ، عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى منى، فصلى بالناس صلاة الظهر، ثم مكث بها يومه يصلي الصلوات قصراً في أوقاتها ، ويعمر وقته بذكر الله ، فكان يكبر في قُبَّته ويكبر أهل منى بتكبيره حتى ترتج فجاج منى بالتكبير .
فلما زالت الشمس في اليوم الحادي عشر توجه إلى الجمرات ماشياً فبدأ بالصغرى فرماها بسبع حصيات يكبر الله مع كل حصاة ، ثم تقدم حتى أسهل بعيداً عن زحام الناس، فرفع يديه واستقبل القبلة ودعا وتضرع طويلاً، ثم قصد الجمرة الوسطى فرماها كما رمى الصغرى، ثم أخذ ذات الشمال واستقبل القبلة ورفع يديه داعياً متضرعاً وأطال الوقوف، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها. وهكذا صنع في رمي الجمار في اليوم الثاني عشر والثالث عشر .
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - سمحاً في إقامة المناسك ، فرخص للرعاة أن يرموا يوم النحر ثم يدعوا يوماً ثم يرموا من الغد، ورخص للعباس أن يبيت بمكة لأجل سقايته، وكان يقول لمن قدم وأخر: افعل ولا حرج، فما سئل عن شيء يومئذ إلا قال: افعل ولا حرج .
ولما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج من منى ، تذكر أيام الدعوة الأولى التي شهدتها هذه الأماكن ، فقال : نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ .
لقد اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيف بني كنانة لنزوله ؛ ليظهر جميلَ صنع الله وصدقَ موعوده، فهذا المكان هو الذي تحالفت فيه بنو كنانة مع قريش عَلَى إِخْرَاج النبي - صلى الله عليه وسلم - وَبَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب مِنْ مَكَّة إِلَى هَذَا الشِّعْب , وَكَتَبُوا بَيْنهمْ الصَّحِيفَة الْمَشْهُورَة ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فها هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ينزل في ذات المكان وقد أظهره الله على الدين كله، ونصره وأعزه، وفتح له فتحاً مبيناً .(88/9)
فلما رمى في اليوم الثالث عشر نفر إلى خيف بني كنانة المسمى بالمحصَّب ، فصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم نام حتى كان آخر الليل فاستيقظ وسار بمن معه إلى الكعبة، فطاف طواف الوداع، وصلى بالناس صلاة الصبح يترسل في قراءته بسورة الطور، وكانت هذه آخر صلاة صلاها أمام الكعبة .
ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - من مكة من أسفلها من ثَنيَّة (كُدَي) وهي المعروفة اليوم بالشُّبَيكة، وتفرقت الجموع التي كانت معه في فجاج الأرض ، وما علمت أنه وهو يودعها كان يودع الدنيا، وأن كان في الأيام الأخيرة من حياته ، فلم يمض إلا شهران وأيام حتى لحق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...(88/10)
خطبة ( مملكة سبأ )
الحمد للهِ معزِ أوليائِه بنصره، ومذلِ أعدائِه بقهره، ومصرفِ الأمورِ بأمره، ومديمِ النعم بشكره .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كله، ولو كره المشركون .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ... )
أما بعد .. أتحدث إليكم اليوم عن مملكة .. مملكةٍ كانت من أعظم ممالك التاريخ، سادت ثم بادت, وذهب سلطانها وهيلمانها حتى أصبحت أثراً بعد عين, وغدت روايةً تُحكى, فإلى حديثِ القرآن وهو يعرض قصة هذه المملكة ويسجلُ أحداثها ونهايتها عبرة لأولي الأبصار .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ )) .
كانت مملكة سبأ ، من ممالك اليمن العظيمة .. وكان أهلها في أرضٍ خصبةٍ وثمرةٍ يانعةٍ, جنتان عن يمين وشمال, رمزٌ ناطقٌ بالخضرة والجمال, والرخاءِ والمتاع .
قال قتادة -رحمه الله- : كانت المرأة تمشي تحت الأشجارِ وعلى رأسها مكتل أو زنبيل, فتساقط الثمار فيه من غير حاجة إلى كلفة أو قطاف, لكثرته ونضجه, واستوائه. اهـ(89/1)
ووهب الله قوم سبأ ذكاءً ودهاءً, فتحكموا في القطرِ النازل من السماء .. أقاموا خزّانًا طبيعيًا، جانباه من جبلين عظيمين، وجعلوا بينهما على فم الوادي سدًا كبيرًا به عيون تفتح وتغلق، وهو سد مأرب الشهير!! فكانوا يرتعون فيه, ويسقون زروعهم ومواشيهم, في نظامٍ متقنٍ بديعٍ, لقد كانت حياتهم حياةُ الرفاهية بكل ما تحمله الكلمات من معانٍ, ولم يكن في بلادهم شيء من البعوضِ أو الهوامِ لاعتدال الهواءِ, وصحةِ المزاج, وعناية الله الفائقة بهم, (كلوا من رزق ربكم و اشكروا له بلدةٌ طيبةٌوربٌ غفور), بلدة طيبة معطاء, آمنة مطمئنة رخاء .. ورب غفورٌ, ودودٌ رؤوف, جوادٌ رحيم, فأي عذر بقي لأولئك يحول بينهم وبين حسن القصد والعمل ؟!
ترى ماذا كان يضير سبأ لو أطاعوا ربهم, وآمنوا برسله؟ ، ماذا كان يضيرُهم لو عرفوا للمتين الوهاب حقه, وأدركوا أن ما يتمتعون به من النعيم المقيم, والظل الوارف, والماء المسكوب, هو فضلٌ من الله ومنة؟!! فلم التجبر والطغيان؟؟
((كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) .
(فأعرضوا ) .. هذا هو مَكمَن الخطأ, وبدايةُ النهاية, وبوادرَ الكارثة .. أعرضوا عن شكر النعمِ, وإجابة المرسلين, واستبدلوا بعبودية الله عبودية شمس تشرق وتغرب, ويحجب أشعتها ركامٌ يسير من السحاب!(89/2)
حتى قال عنهم الهدهد لسليمان: (( أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ *إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ )) .
يا لَخيبتهم وتعاستهم !! نِعَمٌ تتنزلُ صباح مساء, وعطاءٌ بلا حدود, وفضلٌ بلا قيود، ثم يُقابَل ذلك كلُه, بتأليهِ شمسٍ مأمورة, لا تنفع ولا تضر.. إن هذا لهو الضلال المبين! .
(فاعرضوا) .. فأرسلنا عليهم سيل العرم، يقتلع أشجارهم, ويُفسدُ ثمارهم, ويقوضُ ديارهم, ويطمسُ زهرة حياتهم.
لقد كان سيلاً مهولاً يحطم كل شيء , ويدمر كل شيء, يحمل في طريقه الصخورُ العاتية, لتحطيم السد العظيم .
(( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) يا سبحان الله ! هكذا في ساعةٍ من نهارٍ, إذ بالجنان الفيحاء والحدائق الغناء, تنقلب صحراءَ قاحلةً وبلاقع هامدة, لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأً!! وإذ بالثمار الناضجة, والظلال الوارفة, تتحول إلى شوكٍ حادٍ, وأثلٍ يابسٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل, مع لوعةٍ في القلب موجعةً, وحسرةٍ في الصدر كامنةً, ودمعةٍ في العين حارة، وما أهون الخلق على الخالق حين يعصون أمره .
وليت الحالةُ البائسةُ وقفت عند هذا الحد .. كلا، فما زالت فيهم بقيةٌ من نعمةٍ تنتظر التدمير والإهلاك .
قال الله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) .(89/3)
لقد كان طريق سبأ، من اليمن إلى الشام، طريقاً مأمون الاتجاهات، محدود المسافاتِ، على جانبيه قرىً متلاصقة, لا يكادُ المسافرُ يخرج من قريةِ إلا يدخلُ الأخرى, فلا يحتاج في الحالة هذه إلى حمل زادٍ أو طعام, ولكن غلبت الشِقوةٌ على الأشقياء من سبأ ((فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ )) ربنا اجعل بين أسفارنا مسافاتٍ بعيدة, ومفاوزَ شاسعة، حتى نشعر بعناءِ السفر ومشقتِه!! .
يا للسفه والجنون! ويا للحماقةِ والطيش! أناسٌ هيئ الله لهم قرىً متقاربة، وطرقاً آمنة, فإذا بهم يتطلبون المسافات البعيدةِ, والقرى النائية .
(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَا هُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .
كان لا بد من وضعِ حدٍ لكبرياء القومِ وغرورهم, وتجبرهم وطغيانهم , فإذا بالجموع المتماسكة, والبيوتِ المتلاقصة, والأسر المتقاربةِ، تتمزق وحدتها, وتتقوضُ سلطتها, فجعلناهم أحاديثَ ومزقنا هم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .
تلكم عباد الله، قصة مملكة سبأ، وإن فيها لآيات لكل صبار شكور .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ..
عباد الله .. لماذا يحدثنا الله حديث سبأٍ, ويقصُ علينا نبأهم؟
حاشاه سبحانه أن يكون حديثه لمجرد التسليةِ أو شُغل الفراغِ, إن الغاية التي من أجلها يقص علينا الله أخبار الأمم هي الاعتبار بالآيات والادكار بالمثلات، كما ختم الله القصة بقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .
إنه لا فضل لنا على سبأ ولا لسبأ علينا, إلا بالإيمان والتقوى, والله لا يحابي أحداً, فمتى حصلَ الكفرُ والطغيانُ, والبطرُ والعدوان,ُ فالعقوبةُ جاهزة، والنقمةُ حاضرة, وما ربك بظلامٍ للعبيد .(89/4)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. فما يعي الدروس, ولا يستلهمُ العبَر إلا من اتصف بالصبرِ والشكر.
أما الصبر: فهو توطين النفس على طاعة الله, وكفها عن محارمه, وبذل النفس والنفيس لإرضاء الخالق جل جلاله !!
وأما الشكر: فما أكثر ما يظلمهُ الناس, ويسيئون إليه, حين يحسبونه تمتمة باللسان, وحركة في الشفاه, دون استشعار لمعناه العظيم, ومفهومه الكبير !
ألا إن الشكر الذي تدوم به النعم وتزداد، وجدانٌ وشعورٌ قلبي, وعملٌ وسلوكٌ واقعي, وثناءٌ جميلٌ على المتفضل بالإحسانِ جل في علاه .
إذا كنت فِي نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
شُكرُ النعم:بالعودةِ الصادقةِ إلى الكتاب والسنة, علماً وعملاً وتحاكماً.
وشُكرُ النعم:يكون بنبذ الأمةِ للمذاهب الهدَّامةِ, والنحلِ الضالة والأفكار المسمومة.
وشكرُ النعم: يكون بتطهير الأموالِ من الحرامِ, وتنقية المكاسبِ من الشبهاتِ.
وشُكرُ النعم:يكون بحفظِ الشبابِ من البؤر المشبوهةِ, والتوجهات المنحرفة .
وشكر النعم: يكون بصونِ المرأةِ عن الفتن والميوعة, والسفور والخلاعة.
الشكر: مفهومٌ عظيم, ومعنى كبير, ولكن كما قال الله : ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )) , (( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُ و فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ )) .
اللهم اجعلنا عن النعماء من الشاكرين ، واجعلنا عن البلاء من الصابرين .
اللهم صل على محمد ...(89/5)
خطبة (منغصات الإجازة )
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
أما بعد .. فموضوع هذه الخطبة : منغصات الإجازة .
الأجازة سلاح ذو حدين ، وكما أن لها فوائدَ وثمرات ، فإن لها منغصاتٍ ومكدرات .
ومن أعظم هذه المنغصات :
ضياع الصلوات :
قال تعالى :[ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيَّا * إلا من تاب ...] .
والإجازة يفترض أن تكون من أعظم أسباب الحرص على الصلوات والمحافظة عليها في بيوت الله كما أمر الله ، وذلك لتفرغ العبد عمَّا يشغله عنها ، فكيف تصبح الإجازة سبباً من أسباب تضييعها والتفريط فيها؟!
ترى بعض الشباب يضيع صلاته لانشغاله بالتفاهات كمتابعة المباريات أو الأفلام والمسلسلات أو لكثرة النوم والجلسات ، وغير ذلك مما يندى له الجبين وينقطع له حبل الوتين .
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في البخاري أنه قال: "مَن تركَ صلاةَ العصرِ فقد حَبِطَ عملُه" .. فكيف بمن يضيع الصلاة تلو الصلاة .(90/1)
كيف يصل إلى السعادة من هجر محراب العبادة ؟! .. وكيف يتمتع بالإجازة من قطع صلته بالله سبحانه؟!
ومن منغصات الإجازة : السفر المحرم .
كالسفر إلى بلاد الكفار بلا حاجة .
فعن جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أنا بريء من كلِّ مسلمٍ يُقيمُ بين أظهُرِ المشركين " رواه الترمذي وصححه الألباني .
وقد أفتى أهل العلم بتحريم السفر إلى بلاد الكفار . واستثنوا من ذلك ما دعت إليه الحاجة كطلب علم دنيوي أو طب أو تجارة أو لدعوتهم إلى الإسلام ونشره بينهم .
ولا شك ان السفر لبلاد الكفر له مفاسد كثيرة .. كم من مآسٍ رجع بها جمع من المسافرين بلغت ببعضهم إلى درجة الردة عن الدين والكفر بربِّ العالمين !
وكم عاد آخرون بالأمراض الفتاكة والأوبئة المهلكة أو بالإدمان على الخمور والمخدرات أو بالهزيمة النفسية والتردي المعنوي والكره للإسلام وأهله ودياره !
ومن السفر المحرم السفر إلى البلاد المسلمة التي يكثر فيها الفساد .
فقد أصبحت الإجازة عند بعض الناس فرصةً للتمرد على أوامر الله ، وموسماً من مواسم تضييع فرائض الله وانتهاك حدود الله ، والتخلي عن كثير من المسئوليات ، والوقوع في عدد من المحرمات ، كالتفريط في الحجاب ، وتضييع الصلوات ، وحضور أماكن الرقص والفجور ، ومواطن الخلاعة والخنى والفواحش والزنى .
ومن منغصات الإجازة :الألعاب المحرمة :
يكثر الناس في الإجازة الصيفية من ألعاب التسلية والترفيه ، ولا شك أن الترويح عن النفس وإجمامها ببعض المباحات أمر مطلوب .
لكن هذا الأمر قد يتحول إلى منغص وأمر سلبي ، من وجهين :
الأول: أن هذه الألعاب قد تستغرق الوقت آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا من العبث الذي يضيع الأوقات ويهدر الطاقات .
ولهذا لا بد من ضبطِ الوقت وإعطاءِ كل أمر حقه .(90/2)
الثاني: اشتمال بعض الألعاب على محظورات شرعية ، كالشطرنج ، أو القمار ، أو الموسيقى ، والصور المحرمة بل الخليعة كما في بعض ألعاب البلاي ستيشن ، وغيرها من المحظورات .
ومن منغصات الإجازة : متابعة المسلسلات والأفلام والقنوات الفضائية :
إنها صورة محزنة لمن مضى عمره هباءً ، وهو ينظر إلى المسلسلات والأفلام والبرامج الترفيهية المليئة بالمنكرات من صور بعض الرجال العصاة والنساء الفاسقات في أوضاع مزرية وصورة مخزية ومناظر مشينة ، يلين لها الحديد ، وتذوب بها الجلاميد ، ويتابعها المحروم في كلِّ يوم ، متغافلاً عن آثارها السيئة وثمارها المرَّة على الفرد خاصَّة والمجتمع بعامَّة .
عجباً لمن يرى الفتنة أمامه فيلقي فيها أقدامه ! .
عن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" في هذهِ الأمَّةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ " فقال رجل من المسلمين : يا رسول الله ! ومتى ذلك ؟ . قال :" إذا ظَهرتِ القيانُ والمعازفُ وشُربتِ الخُمُور " (1)
لقد قادت الفضائيات الكثير من شبابنا وبناتنا إلى مسالك غير سوية.
فحدث عن شرخ التوحيد وتضليل الفكر والتلبيس على عقائد المسلمين .. وحدث عن الفجور وتأجيج الشهوات ، وتحريك الغرائز وظهور السافرات المتبرجات في التمثيليات والأفلام ونشرات الأخبار ، وإفساد الأزواج والزوجات والأبناء والبنات .. وحدث عن العنف وتعليم الجريمة والسرقة والمخدرات .
في تحقيق مع بعض المدمنات في الرياض قالت إحداهن: "رأيت فتيات يشربن كثيرا في الأفلام الأجنبية فحاولت التجربة" .
وتقول أخرى: "أشاهد الأفلام الأجنبية الجديدة وعندما أرى الأمريكيين يشربون ويضحكون أحس بأنهم هم الأشخاص الذين يعيشون حياة حقيقية "! .
__________
(1) صحيح سنن الترمذي (2/242) (1801) .(90/3)
أيها الأحبة .. ماذا نتوقع من أبناء مراهقين وفتيات مراهقات يتسمرون طوال اليوم أمام طبق قيمته 400 ريال في الملاحق والاستراحات يضع بين أيديهم أكثر من 300 قناة ، تعرض الخزي والعار في بيوت المسلمين .
ومن منغصات الإجازة : الذهاب إلى المقاهي لشرب المحرمات كالشيشة والدخان :
فبعض الشباب تمضي عليه الساعات الطويلة وهو جالس على أريكته في هذه المقاهي والملاهي مع غيره ممن هم على شاكلته يلعبون البلوت ، ويشربون الشيشة أوالمعسل ، إن نظروا نظروا إلى المحرمات في القنوات ، وإن استمعوا استمعوا بالمعازف المحرمة والكلمات الآثمة ، وإن تكلموا تكلموا في الغالب فيما لا ينفع ولا يرفع ، ويضر ولا يسر .
الذهاب للأماكن المحرمة كالحفلات الغنائية وأماكن الاختلاط :
فبعض الحفلات الصيفية يكون فيها شيء من المنكرات والمخالفات الشرعية ، كسماع المعازف المحرمة ، والأغاني الماجنة .
وهذه المجالس المحرمة يحرم على العبد المسلم أن يحضر إليها أو يشارك في إقامتها .
ومن منغصات الإجازة : التسكع في الأسواق :
لقد أصبحت الأسواق ـ وهي أبغض البقاع إلى الله ـ أفضل الميادين عند بعض الغافلين ليقتلوا فيها الوقت الثمين ، ويهدروا فيها العمر الغالي ، ويعرضوا أنفسهم لما لا قِبل لهم به من البلايا والرزايا .
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها ، وأبغضُ البلادِ إلى الله أسواقُها " رواه مسلم .
وفي صحيح مسلم أن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال:" لا تكوننَّ إن استطعت أوَّل من يدخل السُّوق ، ولا آخر من يخرج منها ، فإنَّها معركة الشيطان ، وبها ينصب رايته ".
ومن منغصات الإجازة : الاستخدام السيء لشبكة الإنترنت :
الوقت وعاء العمر وإناء الحياة ، وهو أغلى من الدراهم والدنانير .(90/4)
وقد بُلينا بمن يتفنن في تضييع وقته الثمين ، ويبدع في وسائل إهداره ، ويبرع في أساليب تضييعه ، كحال أولئك الذين يمضون الساعات الطوال ، وهم عاكفون على الشبكة العنكبوتية [ الإنترنت ] وهم يتقلَّبون بين الصفحات والمواقع يدفعهم الفضول لاختراق الممنوع ، والبحث عن كلِّ مثير ، فيقعون في شراك هذه الشبكة المليئة بالفتن في دينهم والمضيعة لثمرة أعمارهم دون حدود أو قيود .
تقول إحدى الأمهات : لاحظت تغير سلوك ابنتي اللتين تبلغان من العمر الخامسة عشرة والسابعة عشرة ، وبدأتا تتساهلان في الحجاب ، وعندما راقبتهما اكتشفت أنهما يتحدثان مع بعض الشباب في الشات على الانترنت ، فلفما أنكرت عليهما ثارا وغضبا وقاطعاني لمدة أسبوعين .
وشاب متزوج يقول : أنا شاب في بداية الثلاثينات من عمري، متزوج منذ 8 سنوات، في بداية حياتي الزوجية كنت مضرب المثل في العفة وغض البصر، لكن مع الأسف الشديد في السنوات الثلاث الأخيرة اتخذت اتجاها آخر؛ حيث بدأت أنظر إلى الفواحش في التلفاز وعبر الإنترنت وأصبحت الآن مدمنا، وحاولت جاهدا أن أتخلى لكن هيهات .. لم أرتكب فاحشة الزنى، لكني أشاهد بالعين وأتصل عبر الشات، وكم من مرة أخرج من بيتي للقاء إحداهن وأتراجع في آخر لحظة وأندم عن اللقاء، ثم أعود .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله ، وعلى أصحابه وإخوانه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .
أمام هذا السيل الجارف من الشهوات والشبهات على شبكة الانترنت يجدر بكل من يريد الدخول إلى الشبكة أن يراعي الآداب التالية :
اختيار المواقع السليمة والمفيدة ،وعدم تجاوز الساحات المفيدة المعينة على الخير إلى غيرها.
الحذر من إضاعة الأوقات ؛ فإن عدداً من الناس يستزف معظم وقته في التصفح أو ساحات الحوار.(90/5)
أن يتحلى المشارك في المواقع والمنتديات الإخلاص لله ، والبعد عن حب الثناء أو الإعجاب بالنفس ، أو الانتصار الشخصي .
لا بد أن يدرك الداخل إلى ساحات الحوار أنه يتعامل مع شخصيات كثيرة مجهولة ، ومن المعلوم عند أهل العلم أن المجهول لا يمكن أن يوثّق حديثه ، فكن على حذر من أخبار المجاهيل .
الحذر من الفتوى بغير علم ، وخوض الشاب فيما لا يحسنه ، فقد قال الله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) ، وقال سبحانه: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) .
التزام الأدب الشَّرعي في المحادثة أو الرد أو النقد ، وعفّة اللسان حتى مع المخالف ، وصدق الله تعالى حيث يقول: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) .
تجنب المحادثة بين الجنسين من الذكور والأناث ،لأن الغالب أن يكون ذلك مثيراً لكوامن النفس وإثارة الغرائز والشهوة ، وربما أدى ذلك إلى الفتنة والمفسدة .
عدم الدخول في الغرف المريضة البعيدة عن الأخلاق والقيم الاسلامية ، مثل الغرف الإباحية التي تثير الفاحشة والرذيلة ، وتفسد الشباب عن طريق الشذوذ والانحراف الجنسي .
الابتعاد عن المواقع التي تبث السموم في أفكار الشباب وتزعزع عقيدتهم ، مثل مواقع أهل البدع والفرق المنحرفة ، أو مواقع التنصير . ولا يجوز الدخول على هذه المواقع بدافع حب الاستطلاع ، أو الدخول معهم في المناقشة بلا علم .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين .(90/6)
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة المباركة أجمعين، اللهم واغفر لآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا يا أرحم الراحمين. اللهم واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والكافرين، وعليك بأعدائك أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، يا قوي يا عزيز، انصرهم نصرًا مؤزرًا، وكن لهم يا رب العالمين .
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين عامة وولاتنا خاصة، واجعلهم حصنًا حصينا للدفاع عن دينك ومقدساتك، اللهم وفقهم لتحكيم كتابك واتباع سنة نبيك .
اللهم رد المسلمين إليك ردا جميلاً، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(90/7)
خطبة ( موعظة الموت )
الحمد لله المحيي المميت المبديء المعيد ... يا أيها ... اتقوا الله .. أما بعد .
عباد الله .. ونحن نسير في دروب الحياة ، ونتقلب على هذه الأرض ، كم نحن بحاجة إلى وقفة روحانية ، وقفة، نجدد فيها الإيمان في القلوب ، ونزيل عنها غبار الغفلة والذنوب.
تعالوا بنا اليوم نؤمنْ ساعة .. تعالوا بنا اليوم نجلس مع أنفسنا جلسة تزكية ومصارحة .. نقلب فيها بعض الصفحات .. ونستلهم شيئاً من العظات .. لعل الله تعالى أن يجمعنا في غرفات الجنات .
أتحدث إليكم اليوم عن حقيقة عظيمة من حقائق الإيمان، من أنكرها كفر، و أصلاه الله سقر .. حقيقة عظيمة أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة ذكرها، ومع هذا فالكثير منا يشمئزون عند ذكرها ولا يحبون الحديث عنها.. إنها حقيقة الموت ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (كلّ نفس ذائقة الموت وإنما تُوَفَّوْن أجوركم يوم القيامة.فمن زُحزِح عن النار وأُدخِل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) .
إنها الحقيقة الكبرى .. كل حيٍ سيفنى ، وكل جديدٍ سيبلى .. وما هي إلا لحظةٌ واحدة ، في مثلِ غمضةِ عين ، أو لمحةِ بصر ، تخرج فيها الروح إلى بارئها ، فإذا العبد في عداد الأموات .
ذهب العمر وفات .. يا أسير الشهوات .. ومضى وقتك في سهو ولهو وسبات .. بينما أنت على غيك حتى قيل مات .
عباد الله .. ونحن في غفلة الحياة، كثيرًا ما نفاجأ باتصال أو رسالة أو غير ذلك أن فلانًا مات، وقد كان في كامل صحته وعافيته، وذلك مصداق حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اقتراب الساعة أن يرى الهلالُ قُبُلاً فيقال لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة) . رواه الطبراني وحسنه الألباني .
عجبًا لنا! كيف نتجرؤ على الله وأرواحنا بيده؟! وكيف نستغفل رقابته والموت بأمره ؟.(91/1)
وقد روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد! قال: يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب / متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً و نرجو نتاجها / وعلَّ الردى عمَّ نرجيه أقرب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا / وفي كل يوم واعظ الموت يندب
إلى الله نشكو قسوةً قد عمت، وغفلةً قد طمت، وأياماً قد طويت، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات.. كم من قريب دفناه، وكم من حبيب ودعناه، ثم نفضنا التراب من أيدينا وعدنا إلى دنيانا ، لنغرق في ملذاتها.
بل ربما ترى بعض المشيعين يضحكون ويلهون، أو يكونون قد حضروا رياء وسمعة بسبب الغفلة وقسوة القلوب .
عباد الله .. ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في ذاكرته، ليلةٌ في بيته، مع أهله وأطفاله، منعما سعيدا، في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، ويضاحك أولاده ويضاحكونه .
والليلة التي تليها، بينما الإنسان يجر ثياب صحته منتفعا بنعمة العافية، فرحا بقوته وشبابه، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرج، فبدأ يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه، ويتذكر أموالا جمعها، ودورا بناها، ويتألم لدنيا يفارقها، وذريةٍ ضعاف يخشى عليهم الضياع من بعده، وقد استفحل الداء، وفشِل الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب، (وجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ).(91/2)
ونزلت به السكرات، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون إليه وهم عن إنقاذه عاجزون، (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ) .
ولا يزال يعالج سكرات الموت، ويشتد به النزع .. حتى إذا جاء الأجل، ونزل القضاء، فاضت روحه إلى السماء، فأصبح جثة هامدة بين أهله .
هناك .. ينقسم الناس عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها، ينقسمون إلى فريقين: أما الفريق الأول فحالهم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، ألا تخافوا مما أمامكم من أهوال الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفكم في الدنيا من الأهل والولد والمال، نحن أولياؤكم في الآخرة، نؤنسكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور .
أما الفريق الثاني من الكفار والفجار ، فحالهم: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ).
تزود من الدنيا فإنك لا تدري / إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيرِ علةٍ/وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهم/وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجِها/ وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري(91/3)
أيها المسلمون أيها المسلمات: وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - ((أكثروا من ذكر هادم اللذات، فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها). كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة .
وقد قيل: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة .
واعلموا أن تذكّر الموت لا يعني كثرةَ الحزن وطول النحيب مع الإقامة على التفريط، إن تذكرنا للموت يجب أن يقترن بخوفنا من سوء الخاتمة .
والأعمال بالخواتيم ، كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه يقول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - :(فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
فياليت شعري ، كيف تكون خاتمتنا ، وبم يختم الله أعمارنا وأعمالنا؟
لما حضرت محمدَ بن المنكدر الوفاة بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.
واسمع معي لسعيد بن جبير رضي الله عنه، يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة، كما قال الذهبي في سيره، فيقول: لما مات ابن عباس رضي الله عنه بالطائف، جاء طائر لم يرَ على خلقته مثله فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن إذا على شفير القبر، تالٍ يتلو، لا يُرى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، فيا لها من خاتمة، ويالهُ من مصير.
أين هذه الخاتمة مما وقع لعدد من الشباب، كانوا يستقلون سيارتهم، والموسيقى تصدح بينهم بصوت مرتفع، وهم غافلون، وأبعد ما يفكرون فيه أن يفارقوا هذه الدنيا.(91/4)
وفجأة ، وقع الحادث، وانقلبت السيارة عدة مرات، ثم حمل المصابون على سيارة الإسعاف، وكان أحدهم مصابًا بإصابات بليغة، ويتنفس بصعوبة ، فقال له رجل الأمن: يا فلان قل لا إله إلا الله، يا فلان قل لا إله إلا الله، فرد عليه: هو في سقر.. هو في سقر، ثم أغمض عينيه وأرخى رأسه ومات، فسأل رجل الأمن صاحبيه: أكان يصلي؟ قالوا: لا والله، ما كنا نصلي جميعًا.
فيا من من قطعت صلتك بالمساجد، ماذا تقول إذا بلغت الروح الحلقوم؟! ويا من أنشأت أولادك على الفساد، وجلبت لهم ما يسيء إلى القيم والاعتقاد؟! ويا من أدمنت الخمور والمخدرات ووقعت في الزنا وهتك الحرمات؟! ويا من ظلمت العباد وسعيت بالفساد؟! هل ستوفق للنطق بالشهادتين عند الموت أم يحال بينك وبينها كما فعل بغيرك؟! (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مُّرِيبِ) .
يا هاتِكَ الحرمات لا تفعَل، يا واقعًا في الفواحشِ أما تستحي وتخجَل؟! يا مبارزًا مولاكَ بالخطايا تمهَّل، فالكلام مكتوب، والقولُ محسوب، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) .. والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى ...
عباد الله .. كفى بالموت واعظا.. ووالله لو كان الأمر سينتهي بالموت لهان الأمر، لكنه مع شدته وهوله، أهون مما يليه من القبر وظلمته، وكل ذلك هين إذا قورن بالوقوف بين يدي الله الكبير المتعال، في موقف ترتج له النفوس ، وتنخلع له القلوب .(91/5)
روى الترمذي وغيره وحسنه الألباني أن عثمان - رضي الله عنه - كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه . قال وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت منظرا قط إلا القبرُ أفظعُ منه .
القبر أول منازل الآخرة,فإن كان من أهل الجنة عرض له مقعده من الجنة, وإن كان من أهل النار عرض عليه مقعده من النار, ويُفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا, ويملأ عليه نوراً ونعيماً إلى يوم يبعثون, وأما الكافر فيضرب بمطرقة من حديد ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه .
وروى الطبراني وصححه الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرٍ فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)) وفي رواية قال : ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)).
الله أكبر .. غاية أمنية الميت المقصر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة .. فأين نحن من هذا المقام .
يا غافلاً عن العمل وغرَه طولُ الأمل
الموتُ يأتي بغتةً والقبرُ صندوق العمل
القبر صندوق العمل، وكل ما وضعت في الصندوق سيكون معك بعد موتك .
زر قبَرك في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، ثم قل: هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي.. هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وحسرة.(91/6)
إذا زرت المقبرة قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك. فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا، لتركع ركعة، لتسبّح تسبيحة، لتذكر الله تعالى ولو مرة؟! ها أنت على ظهر الأرض حيًّا معافى فاعمل صالحا قبل أن تعضَّ على أصابع الندم وتصبح في عداد الموتى .
إذا هممتَ بمعصية، تذكّر أماني الموتى، تذكّر أنهم يتمنّون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف تعصي الله؟ .. إذا فترت عن الطاعة، تذكّر أماني الموتى، واجتهد في الطاعة، وبادر إلى التوبة قبل أن يأتيك الموت بغتة، فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي، واعلم أن ملايين الموتى يتمنون مثل الدقيقة التي تمر من حياتك ليستثمروها في طاعة الله، وذكره والتوبة إليه، فلا تضيع دقائق عمرك ، لئلا تتحسر في آخرتك .. (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(91/7)
خطبة (نهاية العام 1426هـ)
الحمدلله الواحد القهار ، جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لأولي الأبصار ، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار ، حكم بفناء هذه الدار ، وأمر بالتزود لدار القرار وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار ، وصحبة الأبرار ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
عباد الله .. عام أفل .. وعام أطل .. فقبل أيّام ودِّعت الأمّة الإسلاميّة عاماً هجرياً ، تصرمت أيامُه ، وقُوِّضت خيامُه ، بالأمس القريب كنا نستقبله ، واليوم وبهذه السرعة الخاطفة نودعه .. العامَ السادسَ والعشرين بعد الأربعمائة والألف من هجرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عامًا، وها نحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا .
إن وقفة التوديع مثيرةٌ للأشجان، مهيِّجةٌ للأحزان، إذ هي مصاحبةٌ للرحيل، مؤذنةٌ بالتحويل .. مضى يا عباد الله من عمر الزمن عام كامل، تقلّبت فيه أحوال، وتصرمت فيه آجال، وإذا كان ذهاب الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين سوى مُضِيِّ يوم ومجيءِ آخر، فإنه عند أولي الأبصار باعثٌ حيٌ من بواعث الاعتبار، ومصدرٌ متجدِّدٌ من مصادر العظة والادِّكار، يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيان قولُ الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك .
إنا لنفرح بالأيام نقطعها / وكلُّ يومٍ مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً / فإنما الربح والخسران في العمل
انقضاء العام انقضاء للأعمار .. قال أحد السلف: (كيف يفرح في هذه الدنيا .. من يومُه يهدم شهرَه ، وشهرُه يهدم سنتَه ، وسنتُه تهدم عُمُرَه ... كيف يفرح مَن عمرُه يقوده إلى أجله ، وحياتُه تقوده إلى مماته) .
عباد الله .. إن عام ألف وأربعمائة وستة وعشرين قد مضى وانقضى من أعمارنا ، ولن تفتح صحيفته إلا يومَ القيامة ، فهل يكون مذكراً لنا بسرعة زوال الدنيا؟.(92/1)
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدراً)
يَنزل الماء من السماء فتخضر الأرض ويربو النبات وتزهو الزهور ويحلو الثمر ، ثم لا يلبث هذا الزخرف والزينة أن يكون هشيماً يابساً ، وحصيداً هامداً ، فينتهي شريط الحياة .. بهذا التشبيهِ البليغِ في سرعة الفناء والزوال ، يضربُ المولى جل وعلا المثل لهذه الحياة الدنيا .
في مثلِ غمضةِ عين ، أو لمحةِ بصر ، أو ومضةِ برق ، يُطوَى سجلُّ الإنسان ، من الولادة ، إلى الطفولة ، إلى الشباب ، إلى الشيخوخة والهرم ، إلى الموت .. فوا عجباً لهذه الدنيا كيف خُدِع بها الإنسان وغره طولُ الأمل فيها ، وهي كما أخبر الله سبحانه (لعبٌ ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) .. (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) .. (يا قومِ إنما هذه الحياة الدنيا متاع ، وإن الآخرة هي دار القرار) .
عباد الله .. حريٌّ بكلّ مسلم ينشد الفلاح والنجاة لنفسِه أن يستفتح عامه بوقفة تأمّلٍ ومحاسبةٍ، يراجعُ فيها نفسه، وينظرُ إلى ما قدّم فيما مضى من عُمرِه، ويلقِي عن عاتقه رداءَ الغفلة ، فإنّ كلَّ يوم ينقضي يدني من الأجل.
يا نفس لله توبي واستغفري من ذنوبي
فقد بدت شمس عامي تميل نحو الغروب
لنتذكر أخواني في الله .. أننا مسؤولون أمام الله عن أعمارنا وأوقاتنا ، فهلموا نحاسبْ أنفسنا ، وننظرْ في كتاب أعمالنا ، كيف طويناه ، وعن وقتنا كيف قضيناه . فإن وجدنا خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن وجدنا شراً تبنا إلى الله واستغفرناه.
لنتذكر تقصيرنا في شكر نعم الله تعالى علينا .(92/2)
عبد الله ، هل تعلم أنك أمضيت في العام الماضي أكثرَ من ثلاثمائة وستين يومًا؟ أي: أكثرَ من ثمانيةِ آلافِ ساعة وما يزيد على خمسمائة ألف دقيقة . فيا عبد الله، كم بربك من هذا الوقت قضيته في طاعة الله وكم في معصية الله ، وكم في لهو مباح، ناهيك عن غير المباح .
عبد الله، هل تعلم أنك شهقت في العام المنتهي نحوَ أحدَ عشرَ مليونَ شهقة، وزفرت مثلها, في كل شهقة وزفرة ، تأخذُ من الهواء الأوكسيجينَ النافع الذي أودعه الله فيه، وتُخرِج إليه كلَ ضار، ولم يتوقف نَفَسُك لحظةً واحدة .
هل تعلم أن قلبك قد نبض في العام المنصرم نحو أربعين مليونَ نبضة ، بدقة متناهية ، وانتظام لا مثيل له؟ فمن الذي صانه؟! ومن الذي حفظه ، وهل سيستمر في النبض في هذا العام أم أنه سيتوقف فتتوقف الحياة؟ ثم هل أعددت العدة للحظة التوقف ، نسأل الله حسن الختام؟ .
عباد الله .. كم ودعنا في العام المنصرم من إخواننا وأحبابنا ، وجيراننا وقرابتنا ، بل ومن علمائنا وملوكنا ، وإنا إن شاء الله بهم للاحقون ، وفي الطريق سائرون ، وعلى ما قدموا إليه قادمون .
الدنيا أيامٌ معدودة ، وأنفاسٌ محدودة ، وآجالٌ مضروبة ، وأعمالٌ محسوبة .. وإنه لجدير بالعاقل الذي يرى ويسمعُ حوادثَ الموت ، أن يفيق من سباته ، وأن يستيقظ من رقاده ، وأن يتدارك لحظاته ، فإن الموت الذي تخطانا اليوم إلى غيرنا ، سيتخطى غداً غيرنا إلينا .
تمر ساعات أيامي بلا ندمٍ / ولا بكاءٍ ولا خوفٍ ولا حزنِ
ما أحلمَ الله عني حيث أمهلني /وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهدا/على المعاصي وعين الله تنظرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها/وأقطع الدهر بالتسبيح والحزن
دعني أسح دموعا لا انقطاع لها/فهل عسى عبرةٌ مني تخلصني(92/3)
عباد الله .. تعالَوا بنا نتساءل عن أحوال أمتنا خلال العام المنصرم .. فلا تزال مآسي المسلمين مستمرةً في كثير من البقاع .. ما هي أخبار المسجد الأقصى المبارك؟ ما هي أحوال أخواننا في العراق والشيشان وكشمير؟ .. مذابح رهيبة ، ومجازر شنيعة ، ودماء جارية ، وأعراض منتهكة .. مساجد هُدمت ، وبيوت خُرّبت ، وأموال انتُهبت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
نسأل الله ان يفرغ على إخواننا صبراً ، وأن ينزل عليهم نصراً ، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يردهم إليه رداً جميلاً ، هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله مسيِّرِ الأزمان ومدبِّرِ الأكوان، {يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الكريمُ المنان ، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيدُ ولد عدنان ، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان ، أما بعد .
أيها الأحبة .. ومع نهاية هذا العام ، كانت نهاية الفصل الدراسي ، وفي يوم غد ، يتوجه كثير من أبنائنا إلى مدارسهم ليروا نتائج الامتحانات وحصائد الأعمال ، بعد أن كانوا قبل أيام في قاعات الامتحان .. يجلس الواحد منهم يُسأل ، وحيداً فريداً لا معين له ولا مُسدد إلا الله ، ثم ما بذله من جهد في الاستعداد والاستذكار .
وما أشبه هذا الموقف بيوم غد ... أتدرون أيَ غدٍ أعني ... إنه يوم الامتحان الأكبر الذي أمرنا الله تعالى أن نستعدَ له ونحاسبَ أنفسنا قبل أن نحاسب فيه .
(يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) .(92/4)
إنه اليومُ العظيم .. يومُ السؤال عن الصغير والكبير ، والجليل والحقير ، السائلُ رب العزة والجلال، والمسؤولُ هو أنت، ومحل السؤال كلُّ ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، فيا له من امتحان!!.. ويا له من سؤال!!.
روى الإمام مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّم،َ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
عباد الله: تذكروا الامتحان العظيم في القبر ، في تلك الحفرةِ المظلمة .. تذكروا إِذَا وُضِعَ الواحد منا فِي قَبْرِهِ .. وتولى عنه أَصْحَابُهُ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ، وجاءه الممتحِنون، وما أدراك ما الممتحِنون .. (مَلَكَانِ يَقْعَدَانه فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّة) ، ِهذه حال الفائز الناجح، أما الراسب الخاسر ، (فَيَقُول: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَال:ُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْن) .
تذكر يا عبد الله .. السؤال العظيم ، عندما يدنيك الله يوم القيامة ويسألك وهو أعلم: (تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟) .(92/5)
وإذا رأيت توزيع الشهادات على الطلاب ، فتذكر يا عبد الله ذلك اليوم العظيم الذي توزع فيه صحائف الأعمال ، فآخذ كتابه باليمين ، وآخذ كتابه بالشمال .
فاتقوا الله عباد الله ، وليكن لكم من مرور الأيام وتصرم الأعوام حسنُ الاعتبار، واعلموا أن الأوقات خزائن، فلينظر كل امرئ ماذا يضع في خزائنه ، وما تضعون اليوم في خزائنكم سترونه في يوم تشخص فيه الأبصار، يوم يقوم الناس لرب العالمين .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها. وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وأعوامنا وأعمارنا.. يا ذا الجلال والإكرام.. واجعل هذا العام الجديد عام خير ونصر وعز للإسلام والمسلمين في كل مكان .(92/6)
خطبة ( نزول المطر )
الحمد لله .. الحمد لله (الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته، وهو الولي الحميد) .. خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى .. السماءَ بناها، والأرضَ دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبالَ أرساها.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. الكرم صفة من صفاته، والجود من أعظم سماته، والعطاء من أجلّ هباته، فمن أعظم منه جودًا سبحانه، يَدُه مَلأَى، لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، بِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ .. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، حبيبُ قلوبنا ، وقرةُ عيوننا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً ، أما بعد .
أيها الناس ، اتقوا ربكم واستغفروه .. (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) .
عباد الله .. نَضَبت الآبار، ويبِست الأشجار، وذبلت الأزهار، وقلت الثمار .. ومات الزرع، وجف الضرع .. الأرض قد قَحِطت، والمواشي قد هَزُلت، والقلوب قد يئست .. وبينما الناس كذلك، إذا برحمة الله تنزل، فرَويت الأرض، وجرت الوديان، وامتلأت الآبار، وسالت العيون، وفاضت السدود برحمة الله وفضله .
وواللهِ، لولا اللهُ ما سُقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا
لقد فرح بهذه النعمة الصغار والكبار، والصالحون والمقصرون .. ترى البهجة والسرور في وجوههم، استبشاراً برحمة ربهم .. بل لم تدع الفرحة فرصة لآخرين، فانطلقوا بسياراتهم ، إلى أماكن اجتماع السيول ونزول الأمطار .
وبمناسبة نزول الأمطار، هذه بعض الوقفات على وجه الاختصار .
(ولقد صرفناه بينهم ليذكروا):(93/1)
أيها المؤمنون، إن في نزول الأمطار وتصريفها بين البلاد، عبرةً لأولي الأبصار، وعظةً للعصاة والفجار، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا) .
علينا أن نتذكر بنزول المطر، أن الله تعالى هو وحده القادر على إنزال الغيث ، وأن من الخطأ العظيم أن يُنسَب إنزالُ المطر إلى غيره من الكواكب والأنواء وارتفاع الضغط الجوي وانخفاضه أو غير ذلك من الأسباب، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) رواه مسلم .
عباد الله، علينا أن نتذكر أيضاً، أن في إنزال المطر وإحياء الله الأرض بعد موتها عبرةً وآية لقدرته تعالى على إحياء الموتى يوم القيامة، قال سبحانه: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
لئن شكرتم لأزيدنكم:
عباد الله، المطر نعمة من نعم الله، تستوجب شكر المنعم سبحانه الذي أنزله الله علينا ، فلولا فضله ورحمته ما سقينا .. اشكروا الله بالثناء عليه بألسنتكم، والتحدث بنعمته، واشكروا الله بالقيام بطاعته والإنابة إليه ،(93/2)
أكثروا من شكره، فهو سبحانه يحبّ الشاكرين، ويزيد النعم عند شكرها، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) .. وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) ..وقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) .
فاللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن برحمتك جعلته عذباً زلالاً، فلك الحمد والشكر لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك .
هل المطر دليل رضا الله؟
إن إنزال المطر ليس بالتأكيد دليلا على رضا الله عن خلقه، فها هي دول الكفر والضلال ينزل عليها المطر يوميًا وعلى مدار العام .
فلا يظن الواحدُ منا أن هذا المطرَ دليلُ رضا الله عن العباد، أو هو جزاءٌ مستحق لما قدمناه من أعمال؟
نقول هذا: وفينا من لا يزال مصراً على الذنوب والعصيان، أو الظلمِ والعدوان، والتقصيرِ في حق الله، أو ظلمِ عباد الله.
ليست القضية بالمكافأة، بل هي رحمة الله الواسعة ، ووالله ثم والله ، لولا رحمةُ الله بنا ، وحلمُه علينا، ما رأينا هذا الخيرَ.
قد ينزل المطر بسبب دعوة رجلٍ صالحٍ أو صبي ، أو رحمةً بالبهائم .. وقد يكون استدراجًا من الله تعالى لخلقه .. وقد تكون تنبيهًا للمؤمنين المقصّرين لشكره وحمده والرجوع إليه .. نسأل الله أن يرزقنا شكر نعمته ، والإنابة إليه .(93/3)
ويشهد لهذه الحقيقة ويبرهن عليها، ما جاء في سنن ابن ماجه بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لم يَنقُص قومٌ المكيالَ والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدةِ المؤنة وجورِ السلطان ، ولم يَمنعوا زكاةَ أموالهم، إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائمَ ما أُمطِروا)) .
كم من تجارنا ممن طبع على الله قلوبهم، فمنعوا زكاة أموالهم؟ .. ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون قارعة تصيبهم في أموالهم أو أهليهم؟ أم ينتظرون أن تصفح أموالُهم صفائح من حديد، فيحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .. نسأل الله السلامة والعافية .
سنن مأثورة :
من السنن النبوية المأثورة ما جاء في بعض الرخص المتعلقة بنزول المطر، ومن هذه الرخص الجمع بين الصلاتين، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين الصلاتين في المسجد، رفعاً للمشقة عن أمته، ومن الرخص أيضاً، الصلاة في الراحلة أو في البيوت عند الحاجة .
ومن السنن النبوية ما علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأدعية والأذكار المتعلقة بالمطر . فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يروي البخاري إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيِّبا نافعا))، وعندما يتوقف المطر يقول: ((مطِرنا بفضل الله ورحمته))، وإذا نزل المطر وخشي منه الضرَر دعا وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر))، وإذا هبت الريحُ نهانا عن سبّها لأنها مأمورة، وكان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به))، وجاء في الأثر بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته).(93/4)
ومن سنن المطر، الدعاء ، فالدعاء عند نزول المطر من الأدعية المستجابة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر)) رواه الحاكم وحسنه الألباني .
ومن السنن المأثورة عند نزول المطر، أن يحسر الإنسان شيئا من ملابسه حتى يصيبه المطر، تأسيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر قال: فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)).
فليحرص المسلم على هذه الأذكار والسنن، وكم هو جميل أن يعلّمها أهله وأطفالَه، ويرغبهم في حفظها والعمل بها .
مظاهر سيئة:
إنه بقدر ما دخلت نفوسنا الفرحة الغامرة بنزول المطر، فإنه يسوءنا ما نراه من بعض المشاهد السيئة التي صاحبت نزول الأمطار .
شاهدنا تجمعات المياه المؤذية في بعض الشوارع والأحياء .. نعم، قد يكون لبعضها ما يبرره، لكن الأمر غير المبرر أن ترى الغش وعدم الأمانة من بعض المقاولين ومنفذي أعمال الطرق ومجاري المياه، وعدم التزامهم بالمواصفات والشروط، فما إن نزل المطر، حتى تجمعت المياه في تلك الطرقات، وجمعت معها الأوحال والأوساخ .
ألا فليعلم منفذو تلك الطرقات بلا أمانة، ومستلموها منهم، أنهم شركاء في الوزر والإثم .. أمام الله أولاً ، ثم أمام ولاة الأمر، وعامة المسلمين المتضررين .
وعلى جانب آخر، وفي بعض المباني، كشفت مياه الأمطار عن غش بعض المقاولين وعدم إحكامهم البناء ، فترى السقف يخر من ماء المطر، أو ترى النوافذ يتسرب منه الماء فتفسد أثاث البيوت .(93/5)
ومن المظاهر السيئة التي تصاحب نزول الأمطار، ما يقوم به بعض المستهترين ممن يسيرون بسرعة جنونية في مياه الأمطار فيؤذيون المارة، ويملأون ثيابهم بالأوساخ .. ألا فليتق الله المسلم، وليعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، وأن يحذر كل الحذر من أذية المسلمين في طرقهم ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما عند الطبراني بسند حسن: (من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم) .
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وجعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين ، والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله المتوحد بالجلال ... الوقفة السادسة والأخيرة:
وصايا وتنبيهات ، لمرتادي البر والمتنزهات .
عباد الله، حول خروج الناس للبر والمنتزهات ، يحسن التنبيه على عدة أمور:
1- المحافظة على الصلوات المكتوبة، ويشرع التأذين لكل صلاة، والحرص على الأهل والأولاد في أداء الصلاة .
2- أن لا يترتب على تتبع السيول والأمطار والبحث عن مضانها تضييع الساعات الطويلة والأوقات الكثيرة .
3- الحذر من تبرج النساء، أو خروجهن بكامل زينتهن، أو كشف الوجه أمام السيارات المارة والمتنزهين الآخرين.
4- القيام بالاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن عند الحاجة إلى ذلك .
5- أن لا يكون هذا الترويح والفرح على حساب الآخرة، وإغضاب الرحمن بالمعصية، فترى بعض الشباب هداهم الله، في عبث بالسيارات، وإيذاء للآخرين، ورفع لأصوات الموسيقى الصاخبة من السيارة، فأين شكر النعمة يا شباب .
6- كم هو جميل أن تشرك أهلك ووالديك في الاستمتاع بمشاهدة هذا الخير، وأن لا تقصر ذلك على الزملاء والأصدقاء .
7- توخّي الحذر أثناء قيادة السيارة خاصة عند انعدام الرؤية أحيانًا، فكم حصلت بسبب هذا الأمر من حوادث مروعة .
8- الابتعاد عن أماكن اجتماع السيول وعدم الاقتراب منها أو السباحة فيها خاصة من قبل الأطفال.(93/6)
9- عدم الغفلة عن الأبناء في ذهابهم مع من يشاؤون بحجة الاستمتاع بهذه الأجواء، فقد يستغلّ ذلك ضعاف النفوس في أمور لا تحمد عواقبها .
عباد الله صلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(93/7)
خطبة ( وانتصف رمضان)
أما بعد ، معاشر الصائمين .. ما أسرع ما تمضي الأيام .. شهر رمضان ، ضيف كريم استقبلناه بالأمس ، وها هو اليوم قد انتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وتشوقت نفسه لنيل الشرف؟
لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، وادخلوا قبل أن يُغلق الباب .. فإنه يوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يُغفَر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي .
رحل نصف رمضان ، وبين صفوفنا الصائم العابد، الباذل المنفق الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر ، فهنيئاً لهؤلاء العاملين ما ادخروه عند رب العالمين .
رحل نصف رمضان ، وبين صفوفنا صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عاملٍ مسكين فأكلت ماله، أو حفنةِ ربا فأخذتها دون نظر إلى عاقبة ، أو تأمل في آخرة .
رحل نصف رمضان ، وبين صفوفنا من فاتته صلوات وجماعات، قد آثر النوم والراحة على كسب الطاعات .. وبين صفوفنا بخيلٌ شحيح، أسودُ السريرة، سيءُ المعشر، دخيلُ النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في نصفهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال ما بقي لهم .
أيها المفرطون في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددثم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط .(94/1)
في صحيح ابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين))، فقال الصحابة: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!!، فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان]
كان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له .
أيها الإخوة المؤمنون ، إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام القنوات ، أو في اللهو واللعب الذي لا يعود علينا بكبير فائدة، بل هو من أسباب البعد عن الله تعالى .
فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان .
أيها المؤمنون، إن شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان ، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لله عز وجل عند كل فطر عتقاء)) [أخرجه أحمد والطبراني وحسنه الألباني .. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أحمد وصححه الألباني : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة يعني في رمضان وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة .
فاجتهدوا – يا رعاكم الله – ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله.
أيها المؤمنون، هذا أوان التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار .
متى يتوب ، من لم يتب في رمضان؟ ورغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له .
إن رمضان فرصة للمذنبين.. فالشياطين مصفدة.. وشهوات النفس مقيدة .. والنفحات ممنوحة .. وأبواب الجنة مفتوحة.(94/2)
قال ابن رجب: وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات . اهـ
وقد روى الطبراني وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" .
الله أكبر .. هذه نفحات القدس قد تنزلت .. هذه نسمات الأنس قد هبت .. هذه بساتين الجنان قد تزينت .. وجدير بالمؤمن أن يشمر ويجتهد .. وحري بالغافل أن يعاجل ، وجدير بالمقصر أن يشمر . وأن يقصر عن التقصير في الشهر القصير .
عباد الله .. ونحن نرى الناس في هذه الأيام يتهافتون على استثمارات الدنيا ، من الأسهم والعقارات ، والمصالح والتجارات .. ما أحرانا أن نستثمر رمضان بالأعمال الصالحة ، والتجارة الرابحة .. وإليكم بعض فرص الاستثمار الرابح .
فمن فرص الاستثمار الرابح في رمضان : بذل المعروف ، ومد يد العون للمحتاجين ، ورعاية الضعفاء والمعوزين .. فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل فيدارسه القرآن ، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما ، والحديث في الصحيحين .
ومن فرص الاستثمار الرابح : صلاة القيام ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه .. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة .. فهنيئاً للقائمين .(94/3)
ومن فرص الاستثمار في رمضان : صلة الأرحام ، وتحقيق معالم التواصل المفقود في حياة الكثير منا .
ومن فرص الاستثمار في رمضان : توسيع دائرة الأخلاق في التعامل مع الآخرين ، فإن دائرة الأخلاق من أوسع الدوائر التي يلج منها الصائم إلى رضوان الله تعالى ، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند الترمذي وغيره : ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن .
إن صاحب الأخلاق الفاضلة يزيده رمضان عطفاً على الآخرين ، واحتراماً لهم ، وتقديراً لظروفهم .. لا كما يفعله بعض الناس ممن تضيق أخلاقهم عند الصوم .
ومن فرص الاستثمار في رمضان : العمرة في رمضان ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم معقل رضي الله عنها: عمرة في رمضان تقضي حجة أو قال: كحجة معي .
ويمكن للمستثمر أن يوسّع دائرة الأجر بالمساهمة في معونة المحتاجين ليؤدوا العمرة .
ومن فرص الاستثمار في رمضان : تبنّي بعض الأعمال الدعوية والاجتماعية ، كتعليم كتاب الله تعالى ، وعمل المسابقات التربوية والاجتماعية للأسر أو الشباب ، وإقامة رحلات العمرة ، ونحو ذلك من الأعمال النافعة .
ومن فرص الاستثمار في رمضان : إحياء شعيرة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان ، فإنها من السنن التي كان يحافظ عليها نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - .
ألا فانتهزوا رحمكم الله هذه الفرص العظيمة ، وما تقدوموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ، إنه هو الغفور الرحيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ..
عباد الله ، ومن فرص الاستثمار الرابح في رمضان : العناية بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وتفسيراً .(94/4)
رمضان شهر تلاوة القرآن، وتدبُّر آي الفرقان، بمدارسة معاني الألفاظ، والرجوع إلى أهل العلم من القراء والحفاظ .
لقد شرفكم الله تعالى وتبارك ، بهذا الكتاب المبارك، فتدبروا آياته، وتفكروا في بيِّناته، وقفوا عند عظاته، وإياكم والهذ والبذّ .
لقد كان السلف الكرام رحمهم الله يكثرون من ختم القرآن، فإذا جاء رمضان ازدادوا من ذلك لشرف الزمان، وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن . وفي آخر عام من حياة سيد الأنام ، عارضه جبريل القرآن مرتين على التمام .
وكان الأسود التابعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان كل ست ليال.
وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
وكان الشافعي رحمه الله يختم في شهر رمضان ستين ختمة .
قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة .
قال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
عباد الله .. إن رمضان فرصة حقيقية للاستثمار الرابح مع الله ، واللبيب يدرك بصدق أن الفرص تلوح ، وقد لا تعود ، فاستثمروا رحمكم الله ما بقي من حياتكم .. وتزودوا لمعادكم قبل مماتكم .. (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ، وبشر المؤمنين) .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...(94/5)
خطبة ( همسات وداع رمضان )
الحمد لله العزيز الوهاب ، الغفور التواب ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
أما بعد .. معاشر الصائمين .. هاو هو شهركم ، قد قرب رحيله ، وأزف تحويله ، فمع نهاية هذا الأسبوع يودعنا هذا الضيفُ الكريم .. شهر كثيرٌ خيره ، عظيم بره، جزيلة ُ بركته . فنسأل الله الذي يسر صيامه وقيامه لنا ، أن يتقبله منا ، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا .
معاشر الصائمين .. ونحن نودع شهرنا الكريم ، هذه همسات الوداع تقول : أحسنوا وداع شهركم .. ضاعفوا الإجتهاد في هذه الليالي ، أكثروا من الذكر ... أكثروا من تلاوة القرآن ... أكثروا من الصلاة ، أكثروا من الصدقات ، أكثروا من تفطير الصائمين ... ففي صحيح مسلم أن رسول الله كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها0
هذه بساتين الجنان قد تزينت .. هذه نفحات الرحمن قد تنزّلت .. فحري بالغافل أن يعاجل ، وجدير بالمقصر أن يشمر . وإن الجياد الأصيلة إذا قاربت الوصول جدت المسير .
همسات الوداع تقول: اطلبوا الليلةَ العظيمة ، ليلةَ العتق والمباهاة ، ليلةَ القرب والمناجاة ... ليلةَ القدر ، ليلةَ نزول القرآن ، ليلةَ الرحمة والغفران ، ليلةٌ خير من ألف شهر ، ليلةٌ من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في البخاري من حديث أبي هريرة ... فيا حسرة من فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية ، ويا أسفى على من لم يجتهد فيها في الليالي القادمة .(95/1)
همسات الوداع تقول ... لا تتركوني من دون القيام ... اتركوا لذيذ النوم ، وجحيم الكسل ، وانصبوا أقدامكم ، وارفعوا هممكم ، وادفِنوا فتوركم . وكونوا ممن قال الله فيهم: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا).
يا أيها الراقد كم ترقد *** قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ من الليل وساعاته *** حظاً إذا ما هجع الرُّقَُد
همسات الوداع تقول : ارفعوا عنكم التنازع والخصام فإنه سببٌ في منع الخير وخفائه ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى " أي تخاصم وتنازع " رجلان من المسلمين، فقال: " خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ) رواه البخاري 0
همسات الوداع تقول: أحيوا سنة الإعتكاف ، فإن هذه السُنَّة بلسمٌ للقلوب ، ودواءٌ لآفاته .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر ، طلباً لليلة القدر .
همسات الوداع تقول: استغلوا ما بقي من شهركم ... فقد ذهب معظمه .. ولا يعلم أحدكم هل سيصوم هذا الشهر في أعوامه القادمة أم سيكون في حفرة مظلمة من فوقه تراب ومن تحته تراب وعن يمينه تراب وعن شماله تراب ، ليس له أنيس ولا جليس إلا عمله الصالح .
همسات الوداع تقول : لا تفسدوا صفو الليالي ببعض المعكرات التي تفسد الجنان ... وتجلبُ الأحزان ... وتؤنبُ الضمائر ... وتقلقُ الخواطر ... فلقد اعتكف بعض الناس في هذه الليالي في الأسواق ومحلاتها ، وتهافتوا على المراكزِ التجارية ومسابقاتِها ، وتسمروا أمام القنوات وشاشاتها .
فيا لله .. ماذا قدموا للآخرة؟ ماذا قدموا للقبور وظلماتها ، والقيامة وعرصاتها ، والنار ودركاتها ، والجنة ودرجاتها .(95/2)
همسات الوداع تقول: القبول القبول ، فقد كان السلف رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل وإكماله ، فإذا عملوا كانت قلوبهم وجلة خائفة من أن يرد عليهم عملهم ، كانوا ما قال الله (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انهم إلى ربهم راجعون) .
ومن هم أهل القبول؟ إنهم الذين وصفهم الله (إنما يتقبل الله من المتقين) جعلنا الله وإياكم منهم .
ويا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه ، ومن المطرود منا فنعزيه .
فيا أيها المقبول هنيئاً لك بقبول الله وإحسانه ، ورحمته وغفرانه ، وثوابه ورضوانه .. ويا أيها المطرود بعصيانه ، وغفلته وخسرانه، لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه.
يا هذا .. متى يُغفَر لمن لا يُغفَر له في هذا الشهر؟ ومتى يقبل من رُد في ليلة القدر؟
متى يتوب من لم يتب في رمضان؟ ومتى يصلح من فيه من الجهل والغفلة مرضان؟ فتب إلى ربك ، واستدرك ما بقي من شهرك ، وابك على خطيئتك ، لعلك تلحق بركب المقبولين .
همسات الوداع تقول: إذا مد الله في أعماركم ، وأدركتم يوم عيدكم ، فاشكروا الله بإكمال عدة شهركم .
كبروا ربكم ، وأدوا زكاة فطركم ، واخرجوا يوم عيدكم فرحين بفضل الله ورحمته ، شاكرين لنعمته ، ومجتنبين ما يسخطه . واعلموا أن للعيد سنناً وآداباً يحسن ذكرها والعمل بها . فمن سنن العيد:
1- التكبير ، ابتداء من دخول ليلة العيد وانتهاءً بصلاة العيد . قال الله تعالى : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون " .
وصيغة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر ولله الحمد .
يجهر به الرجال في المجامع والأسواق والبيوت ، وتسر به النساء لأنهن مأمورات بالستر والحشمة . ومن سنن العيد:
2- الاغتسال لصلاة العيد ولبس أحسن الثياب والتطيب .
3- الأكل قبل الخروج من المنزل على تمرات أو غيرها قبل الذهاب لصلاة العيد ، ويسن أن يأكلهن وتراً .
4- الجهر في التكبير في الذهاب إلى صلاة العيد .(95/3)
5- الذهاب من طريق إلى المصلى والعودة من طريق آخر .
6- صلاة العيد في المصلى إذ هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصلاة في المسجد جائزة .
7- اصطحاب النساء والأطفال والصبيان دون استثناء كما كانت سنته صلى الله عليه وسلم .
8- الاستماع إلى خطبة العيد .
9- التهنئة بالعيد فعن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد ، يقول بعضهم لبعض : تقبل منا ومنك ، قال الحافظ ابن حجر: اسناده حسن .
فاتقوا الله ربكم .. وسلوه من فضله في ختام شهركم ، و(سابقوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
أقول ما سمعوت وأستغفر الله العظيم .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله
إياكم أن تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ..
بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان .. فإذا انسلخ رمضان كان عيدهم إضاعة للواجبات ، ونوم عن الصلوات ، ومقارفة للمعاصي والمنكرات .
يا هؤلاء .. إن كان الله تقبل منكم فليس هذا بفعل الشاكرين !! وإن كان الله لم يتقبل منكم فليس هذا بفعل الخائفين .
يا هؤلاء .. ليس العيد لمن لبس الجديد ، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد .
عباد الله .. كم هي المعاصي والمنكرات التي يقع فيها المسلمون في العيد ، فمنها : إضاعة الصلوات ، وشرب المسكرات والمخدرات ، والعكوف على القنوات الفضائحيات ، ومنها : تزين بعض الرجال بحلق اللحى إذ الواجب إعفاؤها في كل وقت . ومنها: الإسراف في بذل الأموال الطائلة في المفرقعات والألعاب النارية دون جدوى ، وحري أن تصرف هذه المبالغ على الفقراء والمساكين والمحتاجين ، وما أكثرهم ، وما أحوجهم .(95/4)
ومنها : خروج بعض النساء متبرجات بزينة ، متنقبات أو سافرات ، ومن المعلوم أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الرجال متبرجة متزينة متعطرة ، حتى لا تحصل الفتنة منها وبها , قال صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة استعطرت ، فمرت على القوم ، ليجدوا ريحها فهي زانية " [ أخرجه أحمد والثلاثة وقال الترمذي حسن صحيح ] . وعلى الرجل المسلم أن يحذر من الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء ، ومصافحة المرأة الأجنبية ، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " [ أخرجه الطبراني والبيهقي وصححه الألباني ] .
عباد الله .. هذه همسة الوداع الأخيرة تقول: جبر الله قلوبكم بفراق رمضان .. وتجاوز عن ما سلف وكان ، من الذنوب والعصيان .
ترحلت يا شهر الصيام بصومنا#وقد كنت أنواراً بكل مكان
لئن فنيت أيامك الزهر بغتة#فما الحزن من قلبي عليك بفان
عليك سلام الله كن شاهداً لنا#بخير رعاك الله من رمضان
إن القلب ليحزن ، والعين لتدمع ، ونحن نودع هذا الشهر الكريم ، الذي فيه المساجد تعمر ، والآيات تذكر ، والقلوب تجبر ، والذنوب تغفر .
فيا شهرنا .. أتراك تعود بعدها إلينا؟ أو يدركنا الموت فلا تؤول إلينا؟
مساجدنا فيك معمورة ، ومصابحنا فيك مشهورة، فالآن تنطفيء المصابيح ، وتنقطع التراويح ، ونرجع إلى العادة ، ونفارق شهر العبادة .
شهرَ رمضان ترفق ، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق ، عسى وقفةٌ للوداع تطفيء من نار الشوق ما أحرق ، عسى ساعةُ توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرق ، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يَلحق ، عسى أسيرُ الأوزار يُطلق ، عسى من استوجب النار يُعتق .
عسى وعسى من قبل يوم التفرق#إلى كل مانرجو من الخيرنلتقي
فيُجبَر مكسور ويُقبَل تائب# ويُعتَق خطاء ويُسعَد من شقي
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ....(95/5)
اللهم اجعل هذا الشهر شاهداً لنا ، وحجة لنا لا حجة علينا ، اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فأحسن عملنا فيه ، وإن قضيت بقطع آجالنا فأحسن الخلافة على باقينا ، وأوسع الرحمة على ماضينا ، وعمنا برحمتك وغفرانك ، واجعل الموعد بحبوح جنتك ورضوانك .(95/6)
خطبة ( وقفات مع الامتحانات )
أما بعد .. مشهد يتكرر آخرَ كل فصل دراسي .. أبناؤنا وبناتنا يدخلون قاعاتِ الامتحان .
غداً ... وما أدراك ما غداً ... يوم الامتحان .. يوم يكرم فيه المرء أو يهان ... يوم يعلم فيه المجتهد نتيجة جهده ، كما يعلم فيه الكسول نتيجة كسله ... وقد قيل : من جد وجد ... ومن زرع حصد .
ومع مشاهد الامتحانات ، كان لنا هذه الوقفات .. والتي نسأل الله أن ينفع بها الآباء والأمهات ، والأبناء والبنات .
الوقفة الأولى: لماذا ندرس؟ ... ولماذا نُمتحن؟ .. لماذا كل هذا العناء؟ .
هل الهدف من الدراسة هي مجرد تلك الشهادة لتعلق على الجدار؟
أم أن الهدف أن يفتخر المرء بأنه درس وتفوق؟
أم أن الهدف وظيفة مرموقة، وكرسي دوّار وثير؟
يا ترى ما هو الهدف الذي نزرعه في نفوس أبنائنا؟
أيها الإخوة : إن الواجب على كل أب أن يزرع في ابنه حب التفوق لأنه لبنة بناء في مجد الأمة، لأنه مصدر إنتاج في الوطن الإسلامي، لأنه مشعل تستضيء به الأمة في هذا الظلام الدامس الذي انتابها في هذه العهود.
لا يكن هم الواحد منا من الآباء والطلاب مجرد تحصيل الدنيا ونيل أجرها ونعيمها .
يجب أن يتربى أبناؤنا على حمل هم المجتمع، بل الأمة كلها، منذ نعومة أظافرهم، ويعلموا أنهم بناة المجد، وهامة العز، والقوة المنتظرة ، والحصن الحصين لهذه الأمة في شتى المجالات .
كيف نبني؟ ، وكيف نصنع؟ ، وكيف نخطط وننتج؟ ، وكيف نعلّم ونطبّب ونهندس؟ .
كيف نستغني عن الأمم الكافرة التي تسلطت على ديننا ومقدساتنا ، وسامتنا سوء العذاب بسبب ضعفنا وتخلفنا والله المستعان .
وإذا أدركنا أهمية التعلم والتحصيل ، وربينا أبناءنا على ذلك وعلمناهم ، فإننا نقدم للأمة عملاً جليلاً يسهم في نهضتها من جهة ، وهو من جهة أخرى قربة وعبادة لمن احتسبه عند الله سبحانه وتعالى .
وإن من العار على المسلم أن يعيش لوحده ، متناسياً هموم أمته ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .(96/1)
ولهذا ، فإننا نحن نحتاج إلى نوع من الانسجام بين همومنا وهموم أمتنا ، بحيث تكون همومنا الشخصية من الدراسة والوظيفة وغيرها ، لبناتً صالحاتً ضمن الإطار العام لنهضة الأمة ، في شتى المجالات ، من العلم الشرعي والدعوة والطب والهندسة والصناعة وغيرها من فروض الكفايات .
الوقفة الثانية: إخواني الطلاب .. لا تنسوا وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - .. خذوها بقوة ، وصية نبوية عظيمة .. يقول فيها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : (احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
إخواني .. خذوا بأسباب النجاح والتوفيق .. استذكروا واجتهدوا .. فإن تعبتم اليوم فالراحة بعد أيام ، عندما يحزن المفرطون لتفريطهم ، ويفرح الناجحون بنجاحهم .
وإذا درستم واجتهدتم وأخذتم بالأسباب النافعة ، فاعلموا أن أعظم أسباب النجاح وأجمعها هو التعلق بالله ، بأن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فإن أذكى الناس لا غنى له عن ربه .
ولهذا أوصى النبي ابنته فاطمة أن تقول: ((يَا حَيّ يَا قَيُّوم بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن)) والحديث أخرجه النسائي والبزار من حديث أنس بن مالك. وصححه الألباني .
وإن من الظواهر الطيبة التي تكون في هذه الأيام حرص الطلاب على الصلاة في المسجد، وأداء النوافل، وربما قراءة شيء من القرآن ، وكثرة الدعاء والذكر .
إنهم يريدون بذلك التقرب إلى الله سبحانه، عله أن يأخذ بأيديهم فيما هم مقبلون عليه.
وهذا بلا شك أمر حسن، فليس كاشفاً للكرب، ولا ميسراً للخطب إلا الله سبحانه.(96/2)
ولكن المشكلة أن بعض هؤلاء المصلين الذاكرين أيام الاختبارات لا يعرفون المسجد قبلها ولا بعدها! .. ولا أدري كيف غفل هؤلاء عن قوله عليه الصلاة والسلام: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
الوقفة الثالثة : صح عند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (( َمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا )) ، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
الغش في الامتحان خُلُق قبيح ، وتزوير ممقوت ، بل هو جريمة في حق المجتمع، لأننا نخرج طلاباً زوراً وبهتاناً، نخرج أطباء مزوَرين ومهندسين مزوَرين بل ومعلمين مزوَرين فيوسد الأمر إلى غير أهله، وينتشر الضعف في الأمة .
فاستعن بالله أخي الطالب ، ولا تعجز ، وإياك والغش المحرم فإنه لا خير فيه ولا بركة .
وعليك بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وأحال العسير له يسيرًا ، وآتاه خيرًا كثيرًا.
الوقفة الرابعة: وقفة مع الآباء والامهات .
أيها الأب الرحيم، أيتها الأم الرحيمة، أعرف أن كل واحد منكما قد أجهد نفسه من أجل أبنائه، حتى كأنه هو الذي سيُمتحن غداً وليس ابنُه .
وما إن تدخل فترة الامتحان حتى تُعلِنَ الأسر حالة الطواريء في البيوت ، فاللهو ليلة الامتحان مصيبة عظيمة .. والنوم عن الامتحان جريمة لا تغتفر .. ونحن لا نلوم الوالدين والأسرة على هذا الحرص .. لكننا في المقابل نقول: بالله عليكم أين هذا الاستنفار والحرص على الأبناء في أداء الصلوات وهي ركن الدين ، ولا سيما صلاة الفجر.. هل عملنا مع أبنائنا وبناتنا لامتحان الآخرة ما نعمله الآن معهم لامتحان الدنيا؟
كم في بيوت المسلمين من شباب بالغين مكلفين لا يوقظهم أهلهم لصلاة الفجر؟.. وإن أيقظوهم لم يكن هذا الإيقاظ بنفس الحرص الذي يوقظونهم به لحضور الامتحان؟(96/3)
أيها الأب .. تذكر أنك مسؤول عن أبنائك وبناتك ، ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت مسؤول عن نجاحِهم في الآخرة ، ووقايتِهم من أن يكونوا وقوداً لنارٍ وقودها الناس والحجارة .. أعاذنا الله جميعاً من ذلك ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) .
أقول ما تسمعون ، وأسأل الله تعالى لي ولكم ولجميع أبنائنا النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة ، إنه سميع قريب .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما أمر .. والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر .. والصلاة والسلام على سيد البشر ، وشفيعهم في المحشر ، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر . أما بعد . الوقفة الخامسة والأخيرة : وقفة بين الامتحانين .
أيها الأحبة .. أبناؤنا غداً تفتح لهم أبواب قاعات الامتحانات ... ويجلس الواحد منهم يُسأل وحيداً فريداً لا معين له ولا مُسدد إلا الله ثم ما بذله من جهد في الاستذكار.
يُسأل الطالب عما حصله في عامه الدراسي، وحالُهُ في وجل واضطراب .. وما أشبه اليوم بغدٍ ... أتدرون أيَّ غدٍ أعني ... إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغير والكبير، والنقير والقطمير .
السائل هو رب العزة والجلال، والمسؤول هو أنت، ومحل السؤال كل ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، يا له من امتحان!!.. ويا له من سؤال!! وياله من يوم يجعل الولدان شيباً .(96/4)
روى الإمام مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّم،َ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
عباد الله: تذكروا بهذا الامتحان امتحانَ القبور .. تذكروا سؤال الملكين في تلك الحفرة المظلمة .. تذكروا إِذَا وُضِعَ الواحد منا فِي قَبْرِهِ .. وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ وجاء الممتحِنون، وما أدراك ما الممتحِنون .. ((مَلَكَانِ يقعدانه فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّة)) ِهذه حال الفائز الناجح، أما الراسب الذي لم يستعد للامتحان ((فَيَقُول: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَال:ُ لادَرَيْتَ وَلاتَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْن)) .
تذكر يا عبد الله .. ذلك السؤال العظيم ، عندما يدنيك الله يوم القيامة ويسألك: ((تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟)) .. يقررك بذنوبك ، وأنت لا تستطيع الإنكار أو الهرب .
وبعد الامتحان .. إذا رأيت توزيع الشهادات على الطلاب، فتذكر يا عبد الله ذلك اليوم العظيم الذي توزع فيه صحائف الأعمال ، فآخذ كتابه باليمين ، وآخذ كتابه بالشمال .(96/5)
نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويجعلنا من أهل اليمين ، ويجعلنا من الفائزين المفلحين ، إنه خير مسؤول ، وأجود مأمول .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
اللهم وفق أبناءنا وبناتنا في امتحاناتهم ، اللهم يسر لهم كل عسير ، وافتح لهم كل مغلق .. لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً .(96/6)
خطبة ( وقفات مع سورة ق )
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور .. يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.
أيها الإخوة، بين أيدينا سورة عظيمة ، ذات آيات رهيبة، تخاطب العقول، وتشفي أمراض القلوب .
إنها السورة التي كان يقرؤها النبي ، ويخطب بها على المنابر في الجُمَع والأعياد والمجامع الكبار، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. تلكم هي سورة: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: (لقد كان تنورنا وتنور النبي واحداً سنتين أو سنة أو بعض السنة، وما أخذت ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ إلا على لسان رسول الله كان يقرؤها كلَّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس) .
فتعالوا بنا ، نتفيّأ ظلالَ هذه السورةِ إحياءً للسنّة والتماسًا للهداية ووَعظًا للقلوب .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ .
بدأ الله تعالى هذه السورة الكريمة بالقسم بالقرآن المجيد ، ولم يصرح الله تعالى بالأمر المقسم عليه ، بل شرع في بيان الأمر الخطير وهو تعجب الكفار واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك.
سذاجة في التفكير، وقصور في النظر . كيف ينكرون إعادة الخلق وقد خلقوا أول مرة؟ .(97/1)
ولهذا كان الرد عليهم بأعظم مما أنكروه ، (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) ، فالله الذي خلقهم يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم وأشلاءهم ، وكل ذلك مسجل عنده في كتاب حفيظ .
وواقع هؤلاء: أنهم كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج.
إن كل من انحرف عن الحق حاله مختلط، وأمره متخبِّط، تتقاذفه الأهواء ، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك، كما هو حال الكثيرين من الفلاسفة ، والماديين ، والشيوعيين ، والعلمانيين .
ووالله ليس لهؤلاء طريقاً لعلاج هذه الشكوك والهداية إلى الحق إلا طريق القرآن .
ثم ينتقل السياق إلى إثبات البعث بالنظر في صفحات كتاب الكون الذي ينطق بالحق .
التدبر في خلق الأرض والسماء ، والنبات والماء، وكل مبثوث من الجماد والأحياء .
أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذالِكَ الْخُرُوجُ
هذه السماء وما فيها من الثبات والشموخ والجمال .. هذه الأرض ، والرواسي الثابتات، والبهجة في النبات (تبصرة وذكرى) ، تكشف الحجب ، وتنير البصيرة ، وتفتح كل قلب منيب ، يرجع إلى ربه من قريب .
(ونزلنا من السماء ماء مباركاً) .. والماء النازل من السماء آية من آيات الله ، يفرح به الكبار قبل أن يلهو به الصغار ، وتحيا به النفوس قبل أن تحيا به الأرض اليبوس .
يخرج الله به الفواكه والبساتين ، والحب المحصود ، والرطب المنضود في النخل الباسق الطويل . وما أجمل هذا الوصف .(97/2)
كل هذا (رزقاً للعباد) ، فأين الشاكرين؟ .
(وأحيينا به بلدة ميتاً) فكيف نعجز عن إحياء الموتى وهو أهون علينا .
ثم تنتقل الآيات من صفحات كتاب الكون إلى صفحات كتاب التاريخ البشري ، التي تنطق بأحوال الغابرين، وعاقبة المكذبين .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
(أفعيينا بالقلب الأول) .. يا أهل العقول أين عقولكم : كيف تكذبون بالإعادة وأنتم ترون كل هذا الكون وكل هذه المخلوقات شاهدة على الإنشاء والخلق الأول؟
ثم تنتقل الآيات لتثبت قضية البعث بدليلٍ معروف ، ومشهدٍ مألوف ، لكن النفوس كثيراً ما تغفل عنه ، بل ولا ترغب في ذكره، لأنه يفسد عليها شهواتها ، ويقطع عليها لذاتها .. إنه مشهدُ الموت وسكراتِه .. يذكر الله تعالى هذا المشهد مقروناً بمشهد الرقابة الإلهية والإحاطة الربانية التي تحيط بالإنسان من بداية حياته حتى موته .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
أين المفر في الحياة؟ وأنت في قبضة مولاك .. النَّفَس معدود، والهاجس معلوم، واللفظ مكتوب، واللحظ محسوب. رقابة رهيبة مضروبة على وساوس القلب كما هي مضروبة على حركات الجوارح . فلا يفوت فيها ظن ، ولا يفلت منها وسواس .(97/3)
هذه الرقابة وإن كانت كافية لوحدها ، لكن الله تعالى جعل رقابة أخرى ، فإذا الإنسان يعيش ويتحرك ويأكل ويشرب ويتكلم بين ملكين عن اليمين وعن الشمال ، كلاهما موصوف بأنه رقيب أي: حفيظ، وعتيد: أي حاضر . يسجلان كل كلمة وحركة فور وقوعها .
روي عن الإمام أحمد أنه كان يئن في سكرات الموت ، فقيل له : إن الأنين يكتب ، فلم يسمع له أنين حتى مات رحمه الله. فكيف بمن ترك لسانه يفري في أعراض المسلمين ، (وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون) .
(وجاءت سكرة الموت بالحق) .
أين المفر عند الموت؟ وسكرة الموت ، وهي شدته وغشيته لم يسلم منها أحب الخلق إلى الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ثبت عنه أنه لما نزل به الموت كان يمسح وجهه بالماء من ركوة أو علبة بين يديه ، ويقول: ((لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات)) .
الله ارحم ضعفنا ، وأعنا على سكرات الموت .
(ذلك ما كنت منه تحيد) ، والموت هو أشد ما يحاول الإنسان أن يهرب منه ، أو يروغ عنه ، وأنى له ذلك !!
وبعد ذكر الموت وسكراته ينتقل السياق إلى ما هو أشد منه وأفظع ، إنه مشهد البعث ، وهول المحشر، ورهبة الحساب .
وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
إنه تصوير حي، وشاهد قائم، يقول فيه الرسول : ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له)). قالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال : ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) . فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
(وجاءت كل نفس) .. فالنفس هنا هي التي تحاسب وتحاكم بين يدي الجبار جل جلاله ، ومعها ملكان : سائق يسوقها إلى أرض المحشر ، وشهيد يشهد عليها بما عملت من خير أو شر .(97/4)
(لقد كنت في غفلة من هذا) .. كنت في الدنيا غافلاً عن القيامة والوقوف بين يدي الله ، فكشفنا عنك اليوم حجاب الغفلة ، فبصرك اليوم قوي ، فأبصرت الحق وأيقنت ، ولكن هيهات هيهات ، فهذا الملك قد تقدم ليشهد عليك .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ الهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
القرين في الآية الأولى على الأرجح هو الملك الموكل لعمل الإنسان في الدنيا يشهد عليه بما فعل ، فهو يقدم ما لديه من شهادة حاضرة . وبعد هذه الشهادة يصدر الحكم الإلهي (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب ) من كانت هذه أعماله وصفاته في الدنيا ، فهو مستحق للعذاب الشديد .
عند ذلك يقول القرين : (ربنا ما أطغيته) وهو هنا على الأرجح الشيطان الموكل بملازمة الإنسان وإغوائه ، يقول : ما كان لي عليه سلطان ، بل هو الذي ضل وطغا بنفسه .
فيقول الله قوله الحق الذي ينهي كل قول : (لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) ، فالمقام ليس مقام اختصام .
ثم ينتهي المشهد بوصف رهيب لجهنم وهي تحترق تفور ، وتضطرب وتمور ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) .(97/5)
إنها جهنم .. حرها شديد .. وقعرها بعيد .. يلقى فيها كل جبار عنيد .. وهي تنادي هل من مزيد ، هل من مزيد .. المزيد من الكفرة والمنافقين .. المزيد من العصاة والمجرمين .. لا تزال تنادي حتى يضع الجبار جل جلاله قدمه فيها ، فتقول : حسبي حسبي .
ثم ينتقل سياق الآيات مباشرة من مشهد العذاب والجحيم إلى مشهد السرور والنعيم .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .
الله أكبر .. فالجنة تزلف وتقرّب لهم غير بعيد ، فلا يتكلفون مشقة الوصول إليها .
الله يعلم أنكم كنتم أوابين ، حفيظين ، تخشون بكم بالغيب ، وتنيبون إليه . ولهذا ، ادخلوا الجنة بسلام ، سلام من العذاب ، وسلام من الموت و المرض والهرم والأسقام .
لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم ، ولهم فيها ما هو فوق ذلك وهو التمتع برؤية وجه الله الكريم .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب .... النار وما قرب .
اللهم إنا نسألك لذة النظر .... إنك على كل شيء قدير.
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأعاد فأبدى، وأمت وأحيا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .. فقد جاءت خواتم هذه السورة العظيمة؛ لتوجز ما سبق من طرق إثبات البعث، ومراحل الخلق، ومصير الخلائق، ومصارع الغابرين، وأهوال المحشر .(97/6)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
انظر يا محمد في مصارع الأمم التي خلت ، قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط كما ذكر في أول السورة ، وغيرهم من الأمم ، هل نفعتهم قوتهم ، وتنقيبهم في البلاد ، ونحتهم الجبال ، وشقهم الأرض؟ .. (هل من محيص) هل كان لهم ملجأٌ ومهربٌ من قضائنا وعقوبتنا؟ .
إن في مصارع الغابرين ذكرى ، لمن كان له قلب أي كان حي القلب ، لأن من لم تحركه هذه الآيات فقلبه ميت وإن كان يمشي بين الأحياء .
(أو ألقى السمع) ، أي تدبر هذه الآيات بإنصات ووعي ، فيتأثر قلبه .
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ، فاصبر على ما يقولون)
يا محمد لا تأس على هؤلاء الذين ينكرون البعث .. فنحن خلقنا هذه المخلوقات العظيمة التي هي أكبر من خلقهم ولم يصبنا تعبٌ ولا إعياءٌ ولا نصب ، فاصبر وسبح واسجد وصل لربك ، والله يكفيك ويتولاك .
ثم تختم هذه السورة العظيمة بتقرير مشاهد البعث والنشور ، وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليته تجاه منكري البعث .(97/7)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ.
إنه مشهد البعث ، حينما يُنفَخ في الصور ، وهو المراد بالصيحة ، وأما المنادي فإن الله تعالى يأمر ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس : يا أيتها العظامُ البالية ، والأوصالُ المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . فتشقق الأرض ويخرج الناس قبورهم ، كل الأمم من آدم إلى قيام الساعة ، يخرجون سراعاً مبادرين إلى أمر الله .
أما هؤلاء المكذبون يا محمد فـ (نحن أعلم بما يقولون) .
وتأمل الآيتين : هناك قال له : فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وهنا قال سبحانه: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ .
اصبر على ما يقولون ، فالهداية بيد الله غير خاضعة لقوة برهان، أو بلاغة بيان، ، فما عليك إلا البلاغ، وليس عليك هداهم .
أيها المسلم ، أيها العالم ، أيها الداعية : اصبر على ما يقولون
.. اصبر على أذى الكفار والمنافقين ، وتمادي المفسدين، اصبر على التهم الملفقة ، والألفاظ المعلبة المستوردة ، اصبر على اتهام النوايا والتصنيف الغاشم .
(نحن أعلم بما يقولون) فدعهم يقولون ما يقولون ، والله أعلم بما يوعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أما أنت أيها النبي ، أيها المسلم ، أيها الداعية ، فإنما أنت مذكر ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .. ذكّر بالقرآن .. فهو يهز القلوب ، ويزلزل النفوس .
واعلم أنه لا يتذكر بالقرآن إلا من يخاف وعيد الله ويرجو وعده .
ومن لم يؤثر فيه القرآن ، فهو حري بأن لا تؤثر فيه أي موعظة .(97/8)
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا . وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..(97/9)
خطبة ( وقفات مع قصة سليمان )
الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، ورحمة وموعظة للمؤمنين، وشفاءً لما في صدور العالمين، أحمده تعالى على آلائه، وأشكره على نعمائه .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب، وزكى به النفوس، هدى به من الضلالة، وذكر به من الغفلة .. وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي كان خلقه القرآن ، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد ، عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والعلن والنجوى.
عباد الله .. عنوان هذه الخطبة :وقفات مع قصة سليمان عليه السلام .
كان سليمان عليه السلام، نبياً من أنبياء الله، ومع ذلك كان ملكاً من ملوك الأرض في زمانه، وفوق كل هذا فقد منّ الله عليه، وعلمه لغة الحيوان والطير، فكان يفهم ما تتخاطب به هذه الحيوانات والطيور .. يقول الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } .
والوقفة الأولى في هذه الآية: وهي اعتراف داود وسليمان عليهما الصلاة السلام بنعمة الله عليهما بالعلم النافع، ونسبتهم الفضل إلى الله تعالى .
ويمضي السياق القرآني في بيان هذا الفضل: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } .
هذا هو التواضع لله ،فأين علوم المتكبرين الذين احتقروا الخلق بسبب شهاداتهم التي حصلوها في جامعات الغرب0
ها هو سليمان الذي علمه الله منطق الطير فضلا عن ألسن الخلق ، وفهم كلمات النمل، وآتاه الله من كل شيء ؛ يرد الفضل لصاحب الفضل جل وعلا، ويعترف بنعمة الله عليه،وفضله لديه .(98/1)
ثم يبرز السياق القرآني آيات الملك وعلامات السلطان في قوله تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } .
جنود كثيرة هائلة ، من كل الخلائق ، من الجن والأنس ، والطير والشياطين ، يوزَعون يُدبَّرون وينُظَّمون ، فالدين دين النظام لا دين فوضى وتمرد ، وجديرٌ بالناس أن لا يتذمروا من تطبيق النظام في حياتهم وأعمالهم ومدارسهم ، لأن هذا النظام يقوم بمصلحتهم ويحفظ أخلاقهم وحقوقهم.
إن الدعوة إلى التسيب دعوة شريرة ، يتبناها أعداء الفضيلة والنظام، يريدون بها خلخلة المجتمعات وتربيتها على الفوضى والتمرد ونبذ الأخلاق، والاستخفاف بحقوق الآخرين، بدعوى الحرية المزعومة .
ثم قال سبحانه: { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
هذا نداء تحذير ، وصرخة نذير، ونَفَس من أنفاس النصيحة، صدعت به هذه النملة الصغيرة الناصحة، ولله درها، كيف حملت هم هذا الوادي الكبير بما فيه من النمل، وهي الصغيرة في حجمها، الضئيلة في جسمها ، الضعيفة في قوتها، وقفت وقد رأت الجموع الهائلة، فتحركت للنصيحة، ونادت بنداء عذب مؤدب مهذب ، { َيا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَان وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
لقد حذرت هذه النملة من الخطر، وبينت الحل، ولم تكتف بالصراخ والعويل، واللطم والبكاء والشكوى، بل قدمت خطة عاجلة للحل السريع الناجع، ادخلوا مساكنكم .
وكم نحن بحاجة إلى هذه التصور العميق في حل المشكلات ، يجب أن نقدم الحلول بعد تشخيص المشكلات، فالتلاوم والتشكي لا يُزيل المشكلة ، ولا يرفع البلاء .(98/2)
وكم نحن بحاجة كذلك ، إلى أدب النملة عند الخلاف ، وإحسان الظن بالآخرين ، خاصة أهل العلم والفضل والدين، فلا نطير بهفواتهم، ولا نضخم سهوهم أو غفلتهم، بل نحسن الظن ما أمكن، ونقيل العثرة، ونذيب السيئة في بحر الحسنات، وننسى الخطيئة إذا جاءت في صحيفة الفضائل والمكرمات0
ثم قال تعالى: (فتبسم ضاحكا من قولها) ، تبسم سليمان، وعجب من نصحها وحرقتها على بنات جنسها، وأدبها في الاعتذار لسليمان وجنوده، ثم دعا الله تعالى عند هذه النعمة فقال: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } .
ولننتقل إلى مشهد آخر ، من مشاهد الملك والسلطان ، الذي آتاه الله سليمان : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } ، نعم إنها مسؤولية الراعي الجسيمة ، ومهمته العظيمة ، في تفقد الرعية ، أيا كانت هذه الرعية ، صغيرة أو كبيرة ، و(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالرجل) .. هذا المُلك العظيم والحشد الجليل من الجن والأنس والطير لم ينس معه سليمان الهدهد { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } .
وهذا هو العدل ، فسليمان لم يجزم بالذبح، لأنه لا يدري ما هو الذنب ،فإن كان صغيرا عذبه بقدر ذنبه،وإن كان كبيراً يستحق معه الذبح فعل .
ثم قال أو ليأتيني بسلطان مبين: وهذا هو الكمال في الإنصاف والعدل، إن جاء الهدد بحجة قُبِلَتْ ، فإن لصاحب الحق مقالا، ولصاحب الحجة سلطاناً ، وإن الحكم على الغير قبل سماع عذره وتبين أمره، طيش وظلم .
ثم قال سبحانه: { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ } .(98/3)
مع عذر الهدهد الواضح، لم يتأخر كثيراً ، فلما حضر بادر سليمان بعذره ، قبل نفاذ صبره ، فقال: { أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } .
ومعنى هذا الكلام أنني عندي من العلم ما ليس عندك .. فهل غضب سليمان لهذا الكلام؟ كلا، فقد كان سليمان على عظيم علمه يعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا .
ثم ألقى الهدهد خطبة في التوحيد والعقيدة ، كلماتها أحلى من الشهد المصفى ،ألقاها الهدهد بحرقة ولوعة وألم ، على أمة أنكرت ربها ، وجحدت نعمة خالقها ومولاها ، فقال: { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ *أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
سبحان الله .. لقد فاق هذا الهدهد، كثيراً من الدعاة إلى الله في هذا الزمان، ممن يشاهدون المنكرات في مجتمعهم، ويشاهدون المخالفات الشرعية بين ظهرانيهم، ومع هذا لا ينكرون على أقوامهم ، فهل لنا أسوة حسنة في هذا الهدهد، الذي أنكر على ملكة دولة في زمانها، وهي ملكة سبأ، وأين نحن من هذه الهمة العالية، والنفس الطموحة ، التي أقبلت من اليمن إلى الشام ترفع الشكوى من الشرك والوثنية، وتنادي بالإيمان والوحدانية0
وفهم سليمان الخطاب، فلم يبادر بالتصديق ، فالخبر يتعلق بغائب، وهو يحتاج إلى التثبت والتحقيق، وأخذ الناس بمجرد الدعاوى جور وتعد .
{ قال : سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } .(98/4)
الله أكبر ، يعلمه الأدب حتى في انتظار الجواب، ألق الكتاب ثم تأخر عنهم ، فهم يحتاجون للنظر في الكتاب والمشاورة في الأمر .
وطار الهدهد برسالة سليمان إلى بلقيس، وألقاها بين يديها، فتناولت بلقيس الرسالة، وقرأت ما فيها، ثم جمعت أشراف قومها، وقواد مملكتها، وأخبرتهم بالرسالة، وقرأت نصها عليهم، ثم طلبت المشورة، فأجابها الحاضرون بأنهم على استعداد للقتال، مع جند سليمان, وأنهم أصحاب قوة، لكنهم أرجعوا الأمر لها، وإلى هذا تشير الآيات القرآنية:
{ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ *إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ *قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ *قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ .
وههنا وقفة مع قول بلقيس، )ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) .
إن هذه المرأة تكلمت بصراحة، وهو مقتضى الفطرة، ومتى كانت النساء يفتون في الأمور ويقطعونها، خصوصاً ما يتعلق بأمور الدولة، فهذه المرأة مع أنها كانت ملكة سبأ، لكن عند اشتداد المواقف، يتبين ضعف المرأة، وأنها لا تستطيع أن تسوس الأمور، فاستشارت الملأ، { ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ .
أقول ما تسمعون والحمد لله رب العالمين .
... ... الخطبة الثانية
الحمد لله على احسانه ....(98/5)
عباد الله .. بعد استشارة بلقيس لقومها، عزمت على إرسال هدية عظيمة لسليمان عليه السلام، فإن من عادة الملوك أن الهدايا تقع في نفوسهم موقعاً حسناً، فقالت إن قبلها سليمان عرفت أنه ملك يرضيه ما يرضي الملوك، وإن كان نبياً أبى إلا أن نتبع دينه.
ذهب وفد بلقيس إلى فلسطين، يحملون الهدايا لسليمان عليه السلام، فلما رأى ذلك عليه السلام، أنكر عليهم، ورفض الهدية، وقال: إن بقوا على كفرهم، فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها، ولنخرجنهم من مدينة سبأ أسرى أذلاء مستعبدين، قال تعالى: { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ *وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ *فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ *ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } .(98/6)
رجع الوفد أدراجه، وأخبر ملكته بما رأى من قوة سليمان، أدركت بلقيس أن سليمان نبي مرسل، وأنها لا طاقة لها بمخالفة أمره، فتجهزت للسير إليه مع أشراف قومها. فلما عرف سليمان بمسيرة بلقيس إليه، أراد أن يريها بعض ما خصه الله به من معجزات، ليكون دليلاً على نبوته { قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ *قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ *قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ } .
وما هي إلا لحظات إلا وعرش بلقيس مستقراً في مجلسه ، فأمر سليمان عليه السلام رجاله، أن يغيروا هيئة العرش، ليعرف ما إذا كانت بلقيس تتعرف على عرشها وكرسي ملكها، قال سبحانه: { قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ *فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } .
وفي ختام هذه القصة، رأت بلقيس إكرام سليمان الشديد لها، ورأت الحقيقة الساطعة التي كانت محجوبة عنها، فتوجهت إلى ربها: { قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
نسأل الله تعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور ...
اللهم صل على محمد ...(98/7)