لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 1.
وحين حبست الجاهلية المعاصرة روح الإنسان عن النظر في دلالات الكون المادي التي تتجاوز مدى ما تدركه الحواس. وقعت في حيرة وبلبلة في الرد على أسئلة الفطرة عن الخالق وعن مهمة الإنسان في الأرض وعن مصيره بعد الموت واضطرت أن تضع أجوبة زائفة عن هذه الأسئلة التي لا معدى عن ورودها على الفطرة ولا مهرب من الإجابة عنها:
الطبيعة هي الخالق! "وظلت حقيقة الخلق وكنهه وكيفيته محجوبة عن الأبصار، تتهرب من الحديث عنها كل علوم الجاهلية! ".
والإنسان سيد الطبيعة "وهي خالقته" وهو عبد الحتميات: المادية والاقتصادية والتاريخية "وهي من صنع الطبيعة والإنسان المقيد بقوانين الطبيعة"! وهكذا يتأرجح بين السيادة والعبودية للشيء الواحد! ويظل في حيرة بين هذه وتلك، بدلًا من الرؤية الواضحة الصافية المطمئنة حين يكون عبدًا لله وسيدًا للكون المادي الذي خلقه الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2.
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 3.
أما مصيره بعد الموت فهو أمر تتجاهل الجاهلية المعاصرة الحديث فيه، أو تقول كما قالت جاهليات من قبل:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 4.
أما الإسلام فيعطي الإنسان تصورًا كاملًا للبعث والنشور، والحساب والجزاء، كما يعطيه الإجابة الصحيحة لكل ما يرد على الفطرة من تساؤلات حول الكون والحياة والإنسان.
ثم إن حياة المسلمين التاريخية لم يحدث فيها ما يدفعهم إلى إنكار "الغيبيات" من أجل إصلاح الأرض. بل حدث العكس! فإن العرب حملة هذا الدين
__________
1 سورة ص 27-28.
2 سورة البقرة 21.
3 سورة الجاثية 13.
4 سورة الجاثية 24.(2/601)
الأوائل وهداة البشرية إليه -لم ينطلقوا إلى إصلاح الأرض إلا بعد أن آمنوا بالغيب! آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
ولم يكن أولئك العرب شيئًا مذكورًا في الأرض، ولا كان لهم دور في حياة البشرية حين كانوا محجوبين عن الإيمان بالغيب، ولا كانت لهم أهداف ولا آفاق أبعد من واقع الحس القريب.
ولكنهم أصبحوا "خير أمة أخرجت للناس" وقاموا بأكبر حركة إصلاح في الأرض، يوم آمنوا بما تنكره الجاهلية المعاصرة، وانطلقوا يكيفون حياتهم الواقعة بحسب ما يأتيهم من عالم الغيب!
لذلك ارتبط "الإصلاح" الحقيقي في حياة هذه الأمة بالإيمان بالغيب، على الصورة الإسلامية الصحيحة، بقدر ما ارتبط الإصلاح الزائف في حياة أوربا بنبذ الغيبيات والإيمان "بالواقع"!
فإذا كانت الحياة الإسلامية قد انحرفت من القرون الأخيرة وأصابها الفساد، فلم يكن ذلك بسبب الإيمان بالغيب، إنما كان بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الذي تلقاه المسلمون من عالم الغيب، وأصلحوا به الواقع يوم كانوا مستمسكين به على بصيرة:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1.
وأما واقعية السبب الظاهر والنتيجة الحتمية ونفي القدر الرباني المهيمن على الأمور، فقد لجأت إليه أوربا كذلك لذات الظروف السيئة التي مرت بها في قرونها الوسطى المظلمة.
كان يقال للناس في أوربا في جاهلية الدين الكنسي المحرف في القرون الوسطى إن الواقع السيئ الذي يعيشونه قدر من عند الله لا يمكن تغييره ولا ينبغي كذلك تغيره، لأن محاولة التغيير هي تمرد على قدر الله!
فلما حطمت أوربا نير الكنيسة قامت تحاول تغيير الواقع السيئ فلم تجد أنها مغلولة اليد عن التغيير بسبب قدر الله! ثم وجدت أن أحوالها الجديدة خير بكثير -في كل اتجاه بحسب ظنها- من واقعها السيئ الذي كانت تعيشه من
__________
1 سورة يوسف 108.(2/602)
قبل، فآمنت أنه كان ينبغي أن تتحرك لتغييره, ولو كان ذلك تمردًا على قدر الله! وكانت حصيلتها من المعركة أنها اعتقدت أن الذي يفعل في هذا الكون هو السبب الظاهر والنتيجة الحتمية، وأن قدر الله شيء وهمي لا وجود له، وأنه حتى إن كان له وجود فالإنسان موكل بالتمرد على هذا القدر من أجل إصلاح الأرض!! وسميت هذه واقعية!
ونقول هنا كما قلنا هناك إنه لا الإسلام يتقبل مثل هذه الواقعية المنحرفة، ولا كان في حياة المسلمين التاريخية ما يلجئهم إلى قبولها أو اللجوء إليها.
الإسلام قائم على أساس أن الفاعلية الحقيقية في هذا الكون هي فاعلية قدر الله سبحانه وتعالى في كل أمر من الأمور:
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1.
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3.
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} 4.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} 5.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 6.
ومع هذا فإن الإنسان له دور يؤديه، بوصفه الخليفة في الأرض، المكلف بعمارتها والسعي في مناكبها، والحامل للأمانة فيها، والمحاسب في النهاية عن عمله في أثناء وجوده فيها، والذي يجري قدر الله فيها بمقتضى عمله إن خيرًا فخير ,إن شرًّا فشر:
__________
1 سورة يس 83.
2 سورة القمر 49.
3 سورة آل عمران 26-27.
4 سورة يس 33-35.
5 سورة الواقعة 63-65.
6 سورة الأنفال 17.(2/603)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 2.
وبذلك يتوازن في حس المسلم إيمانه بفاعلية قدر الله في الكون وإيمانه بفاعلية الإنسان ومسئوليته عما يعمل، بغير تعارض ولا افتراق:
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} 3.
ثم إن الإسلام يعلم المسلم في ذات الوقت أن مع طلاقة المشيئة بالربانية فإن له سنة جارية تعمل في الكون حسب نواميس معينة غير قابلة للتغيير:
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} 4.
وأن على الإنسان أن يتجنب الاصطدام بهذه السنة ومعارضتها, فإن ذلك يجلب عليه الدمار والبوار، إنما عليه أن يتجاوب معها ويستجيب لها فيكتب له الفلاح.
وهكذا يعمل المسلم في واقع الأرض ملتزمًا بتلك السنن، متوقعًا على الدوام أن يرى نتيجة عمله بمقتضى تلك السنن الربانية الثابتة، ولكنه يدرك على الدوام أنه ليس السبب الظاهر هو الذي يفعل، إنما هو الله. وأن النتيجة لا تأتي تلقائيًّا من السبب الظاهر، إنما تأتي من ترتيب الله لها وتقديره لها بقدر من عنده. وأنه لو شاء الله ألا تترتب النتيجة المعينة على السبب، إنما تترتب عليه نتيجة أخرى، فليس هناك قوة في الكون كله تحول دون ما قدر الله.
ومن هنا لا يتعارض في حس المسلم إيمانه بالسبب والنتيجة -حسب السنة الربانية الجارية- وإيمانه بالمعجزة التي تختلف فيها النتيجة عن السبب الظاهر، وتعمل فيها سنة أخرى من سنن الله هي السنة الخارقة، فيؤمن بالوحي، وبالمعجزات والخوارق التي جاءت على يد الأنبياء والرسل، وبأن الله قادر على تغيير
__________
1 سورة الأنفال 36.
2 سورة الروم 41.
3 سورة آل عمران 165-166.
4 سورة فاطر 43.(2/604)
نظام الكون كله متى شاء. ولكنه في الوقت ذاته يعمل على أساس أن السنة الجارية هي الأقرب احتمالًا. فيعد العدة ويتخذ الأسباب، ثم يتوكل على الله.
ومن هنا كذلك لا يحتاج المسلم -لكي تكون له فاعليته في الأرض، ولكي يغير وينشئ- أن يلغي الإيمان بقدر الله وقدرته. ولا يدفعه إيمانه بقدر الله -على الطريقة الإسلامية الصحيحة- إلى السلبية والتواكل وعدم اتخاذ العدة وعدم اتخاذ الأسباب. إنما كان الانحراف الذي وقع فيه المسلمون في القرون الأخيرة سببه فساد عقيدة القضاء والقدر عندهم، لا تلك العقيدة في ذاتها، لأن هذه العقيدة ذاتها -في صورتها السوية- هي التي دفعت المسلمين إلى تلك الفاعلية الفذة في واقع الأرض، فغيروا فيها -في عالم الحرب وعالم السياسة وعالم العقيدة وعالم الاقتصاد وعالم المادة وعالم الفن ... إلخ- ما لم يتح لأمة أخرى في الأرض في مثل ذلك الزمن القصير!
ولم يكن في حس المسلمين الأوائل قط أن الواقع الموجود لا يمكن تغييره لأنه قائم بقدر من الله! فقد جاءوا هم -بقدر من الله- لتغيير هذا الواقع، بمقتضى المنهج الرباني المنزل عليهم، وبمقتضى الأمانة التي يحملها "الإنسان"، وبمقتضى الفاعلية البشرية المتضمنة في "الخلافة" التي خلق الله من أجلها الإنسان.
ولم يكن في حسهم كذلك أن محاولة تغيير الواقع السيئ أو الواقع المنحرف يكون تمردًا على قدر الله. لأن الله لم يقبل من المشركين قولهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 1.
إنما يتوجه المسلم -صاحب العقيدة السليمة- إلى تغيير الواقع السيئ والواقع المنحرف تطلعًا إلى قدر الله أن ينصره على هذا الواقع ويعينه على تغييره. وهذا معنى التوكل بعد اتخاذ الأسباب:
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 2.
فإذا قال قائل إن أوربا قد أبدعت ما أبدعت في ظل الإيمان بفاعلية الإنسان لا
__________
1 سورة الأنعام 148.
2 سورة آل عمران 159.(2/605)
فاعلية الله، وفاعلية السبب الظاهر والنتيجة الحتمية لا فاعلية قدر الله، فذلك حق، ولكنها كذلك "أبدعت" هذا القدر الرهيب من القلق والاضطراب والحيرة والجنون والانتحار والأمراض النفسية والعصبية والجريمة والإدمان على الخمر والإدمان على المخدرات. لأن صراع السبب والنتيجة لا يأتي دائمًا على ما يهوى الإنسان، ولأن القلوب هناك لا تطمئن بذكر الله كما تطمئن قلوب المؤمنين:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 1
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2.
وقد أبدع هؤلاء المؤمنون ما أبدعوا من حضارة وتقدم في واقع الأرض، دون أن يصيبهم ما يصيب الجاهلية المعاصرة في قلق دائم واضطراب.
أما الواقعية التي تسخر من العواطف البشرية، وتعدها مضيعة للوقت والجهد لا تأتي بعائد مادي، فقد حدثت في أوربا في الواقع نتيجة النضوب الروحي والوجداني الذي أصابهم بعد تنحية الدين من حياتهم، وقطع صلاتهم بالله واليوم الآخر. ولئن كانوا يسمونها واقعية فهم في الحقيقة يحاولون بذلك أن يستروا ذلك النضوب المعيب الذي يغشي حياتهم، والذي يعيشون في ظله آلات تعمل وتنتج دون أن تحس.
بل إنها لتحس!
تحس بالفراغ القاتل فتروح تحاول ملأه باللهو والعبث والمجون، وتحاول ملأه بالمخدرات والخمر، وتحاول ملأه بالإغراق في الجنس. ولتجأ أحيانًا إلى الكلاب! وعدد الكلاب في أوربا وأمريكا يكاد يصل أحيانا إلى نصف السكان!
ثم قالوا إن هذا نتيجة التطور!
ففي المجتمع الزراعي "المتأخر" تكون للناس عواطف ووجدانات، وروابط أسرية واجتماعية، ويتعاون الناس ويتوادون، لأن طبيعة الحياة الريفية تستوجب ذلك! أما في المجتمع الصناعي "المتطور" فتنفك هذه الروابط وتتقطع، لأن
__________
1 سورة الرعد 28.
2 سورة التوبة 51.(2/606)
كل فرد من الناس له استقلاله الاقتصادي، حتى الرجل والمرأة اللذان يكونان زوجًا وزوجة "! " فيصبح لكل منهم عالم مستقل، وتصبح الروابط بينهم روابط "عملية" لا روابط عاطفية ووجدانية! وذلك فضلًا عن أن سكان المدينة المزدحمة بالسكان، الدائمي التنقل من مكان إلى مكان، لا يمكن أن يتعارفوا، ولا أن تقوم بينهم الروابط -إلا تلك الروابط التي يقتضيها العمل- فينفرط عقدهم، ويصبح لكل منهم كيانه المستقل، لا يتدخل في شئون أحد ولا يتدخل أحد في شئونه. حتى الجيران في البيت الواحد لا علاقة لأحدهم بالآخر! ومن ثم لم يعد هناك مجال للوجدانات والعواطف، وانصرف كل إنسان إلى تنمية دخله الخاص، والتمتع بالحياة في حدود كيانه الخاص!
وصدقوا في وصف واقعهم الزري، وكذبوا في تعليله! وكذبوا كذلك في إعطائه صفة الشرعية والأمر الواقع المتسق مع طبائع الأشياء. فما يمكن -في خلق الله السوي- أن يهبط البشر عن إنسانيتهم كلما فتح عليهم فتح علمي أو تقدموا في عالم المادة، بله أن يهبطوا عن إنسانيتهم بمقدار ما يفتح عليهم في ميدان العلم والتقدم المادي!
لا يمكن أن يكون الله قد كتب على البشرية كلما قامت بتسخير طاقات الكون المسخر لها من عند الله، وكلما مشت في مناكب الأرض تأكل من رزق الله، وكلما تقدمت في العلم الذي وهبها الله إياه، أن تنقلب مسخًا مشوهًا لا يمت بسبب إلى "الإنسان" الذي خلقه الله ليكون خليفة في الأرض، وكرمه وفضله ورفعه فوق سائر الكائنات!
إنما يحدث هذا من الكفر بالله واليوم الآخر، ومن إقامة الحياة على غير الأسس الربانية التي أنزلها الله لتحكم حياة البشر على الأرض، ومن عمارة الأرض على غير المنهج الرباني الذي يكفل التقدم المادي والروحي في آن.
كلا! ليس هو التطور، وإنما هو الانتكاس!
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} 1.
__________
1 سورة المائدة 65-66.(2/607)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1.
فإذا كانوا اليوم متقدمين علميًّا واقتصاديًّا وحربيًّا وسياسيًّا وماديًّا برغم هذا الانتكاس في إنسانيتهم، فليس هذا مخالفًا لسنة الله التي عرفنا إياها في كتابه المنزل. إنما هو طور من أطوار تحركهم نحو الدمار:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} 2.
كلا! إنما أراد الله للإنسان أن يتقدم في ميدان العلم، وأن يسخر طاقات السموات والأرض ليقوم بعمارة الأرض والخلافة فيها "أي: السيطرة والتمكن والإنشاء والتغيير" وهو محافظ على إنسانيته الرفيعة التي كرمه الله بها، في كل مجال من مجالات الإنسانية، سواء مجال الحق والعدل، أو مجال العواطف الإنسانية، أو مجال الترابط الأسري، أو مجال الأخلاق.
وذلك باتباع منهج الله.
فحين يتبع الناس الهدى الرباني فسينشئون حضارة متوازنة، يتوازن فيها جانب المادة وجانب الروح. وقد تكفل الله بذلك للناس حين يؤمنون: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم} {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .
أما حين ينسون ما ذكروا به فقد تفتح عليهم أبواب كل شيء فترة من الوقت، وقد يتمتعون ويأكلون كالأنعام. ولكنهم لا يجدون البركة في حياتهم قط ولا يجدون الاطمئنان، لأن الاطمئنان لا يجيء إلا من ذكر الله الذي يرفضون هم أن يذكروه، وأن يباركوا حياتهم بذكره:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 3.
وكذب ما يقولونه من أن العواطف والوجدانات لا مكان لها في عصر التقدم العلمي والمادي!
فما الذي يمنع الناس أن يكونوا آدميين حقًّا حين يتقدمون في ميدان العلم والإنتاج المادي؟!
__________
1 سورة الأعراف 96.
2 سورة الأنعام 44.
3 سورة الرعد 28.(2/608)
ما الذي يمنعهم أن يتعارفوا؟
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1.
وإذا كان أهل المدينة الواسعة لا يستطيعون أن يتعارفوا كلهم، ولا أن يمارسوا التواد والمحبة على النطاق الواسع، فما الذي يمنع الجيران من أن يصنعوا ذلك؟ وما الذي يمنع أهل الحي الواحد، لو أنهم جعلوا ذلك في حسابهم ولم ينظروا إليه على أنه مضيعة للوقت والجهد؟
وأين يذهب الوقت والجهد الذي يضن به هؤلاء على العواطف الإنسانية وعلاقات المودة والقربى؟ أيذهب حقًّا في التقدم العلمي وزيادة الإنتاج؟
فأين إذن الوقت الذي يذهب في الملاهي والمسارح و"علب الليل" ومباءات النهار؟! والذي يذهب في نوادي القمار؟! والذي يذهب في السكر، وفي غيبوبة المخدر؟! والذي يذهب في التخطيط لارتكاب الجرائم، سواء الفردية أو الجماعية أو الدولية، ثم في تنفيذ تلك المخططات؟!
لو التقى أهل الحي في صلاة؟
لو التقوا في عيادة المريض منهم ومواساة المحزون؟
لو التقوا في سمر بريء نظيف يروحون فيه عن أنفسهم بغير مأثم؟
هل يؤثر ذلك في الإنتاج والتقدم العلمي؟!
كلا! إنه ليس التطور وإنما هي الانتكاس.
ومنهج التربية الإسلامية -وهو ينشئ الناس على الواقعية -لا يخفف عواطفهم، ولا ينزع روح المحبة والود بينهم، إنما يجعل ذلك متممًا للإيمان، وقرينًا للإيمان:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} 2.
"ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" 3.
__________
1 سورة الحجرات 13.
2 سورة النساء 36.
3 أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي.(2/609)
"إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى". قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور. ولا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1.
نعم. وكذلك يكون "الإنسان" كما خلقه الله في أحسن تقويم.
على هذا النحو الشامل المحكم يربي الإسلام الإنسان في مرحلة النضج.. يضعه أمام مسئولياته. وفي مقدمتها مسئوليته الكبرى أمام الله، التي تندرج تحتها جميع التكاليف وجميع المسئوليات.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} 2.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3.
ويعمق في حسه معنى التوجه إلى الله بالعبادة والشكر والتوبة والإنابة:
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4.
ويحثه على العمل المنتج وعلى اكتساب الخبرة التي تصل إلى حد الإتقان. ويربي فيه النظرة الواقعية إلى الأمور، بغير انحرافات الجاهلية في نظرتها الواقعية، فلا هو يفصل بينه وبين ربه، ولا بينه وبين مثله وقيمه، ولا بينه وبين أهله وعشيرته، ولا بين دنياه وآخرته.
__________
1 أخرجه أبو داود.
2 سورة الرعد 19-21.
3 سورة النساء 58-59.
4 سورة الأحقاف 15.(2/610)
واقعي. ولكنه لا يحصر نفسه في حدود ما تدركه الحواس. لأن حقيقة الوجود أكبر بكثير وأعظم بكثير من حدود ما تدركه الحواس.
واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في الأرض.. في الحياة الدنيا؛ لأن حقيقة الآخرة أكبر بكثير وأخطر بكثير من حقيقة الأرض. ثم إنه لا انفصال في حسه بين العالم الحاضر والعالم المقبل، لأنها -كلها- رحلة واحدة أولها في الدنيا وآخرها في الآخرة. ولكنهما طريقان مختلفان في الحياة الدنيا يؤديان إلى نهايتين مختلفتين في الآخرة. أولاهما ينتهي فيها الكدح والمشقة والعذاب والجهد، ليبدأ نعيم لا حد له ولا انتهاء، والثانية ينتهي فيها ما قد يكون قد سبق من ألوان نعيم عارض، ثم يبدأ العذاب.
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.
واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في الجانب المادي من الحياة. لأن حقيقة الروح أفسح بكثير وأعمق بكثير من حقيقة الحس وحقيقة المادة. ثم إنه لا يوجد في الحقيقة ذلك الانفصال المتوهم بين عالم المادة وعالم الروح. لا يوجد في حقيقة الإنسان ولا في حقيقة الكون. فأما الإنسان فقد خلق من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ممتزجتين مترابطتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى:
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 2.
وأما الكون فقد أزاح العلم الحديث ذلك الفاصل المتوهم بين المادة والطاقة، ولم يعد أحد اليوم -من العلماء- يتحدث عن المادة بمعزل عن الطاقة أو عن الطاقة بمعزل عن المادة، لأنه لا عزلة في الحقيقة ولا انفصال!
واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في حدود ذاته ولا حتى في حدود أسرته الصغيرة. فحقيقة الترابط في المجتمع وفي الوجود البشري كله أكبر بكثير وأخطر بكثير من حدود ذاته ومن حدود أسرته. ومن ثم فهو -مع اشتغاله بذاته وأسرته- مشتغل كذلك "بالأمور العامة" كما يسمونها في مصطلح هذا العصر.
__________
1 سورة الأعراف 29-30.
2 سورة ص 71-72.(2/611)
ثم إن الإسلام يفرض عليه فرضًا أن يشتغل بهذه الأمور العامة، لأنه ما من موقف للناس في أي شيء من الأشياء إلا واقع في حدود شرع الله. فهو إما واجب وإما مستحب وإما مباح وإما مكروه وإما محرم. وهو مكلف أن يحكم فيه بما أنزل الله، ثم يكون له منه موقف معين بحسب هذا الحكم، فيقره ويدعو إليه، أو ينكره ويجاهده "بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان".
واقعي ... ولكنه ليس جامد الحس متحجر العواطف؛ لأن نداوة العواطف الإنسانية كسب للنفس أعظم بكثير وأروح بكثير من الكسب المادي. إنها هي الوجود الحقيقي للنفس الإنسانية بعد أن تشبع حاجات الجسد وتستقر:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 3.
ثم يطلقه الإسلام يحقق وجوده في الأرض. وجود الخليفة الراشد المكلف بعمارة الأرض بمقتضى منهج الله. يقيم فيها شريعة الله. ويمشي في مناكبها ليأكل من رزق الله. ويستغل الطاقات المسخرة له من عند الله. ويجاهد لإقامة الحق والعدل الذي يأمر به الله. ويكون في أثناء ذلك كله متخلقًا بأخلاق لا إله إلا الله، فيحقق بذلك المعنى الحقيقي لعبادة الله:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
__________
1 سورة الروم 21.
2 سورة التوبة 71.
3 سورة الفتح 29.(2/612)
الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1.
فتكون منه حينئذ تلك الثمرة الجنية التي يحبها الله:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} 3.
ويكون حقًّا على الله أن يهديهم سواء السبيل:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 4.
وبعد فذلك هو المنهج الرباني في شموله وتكامله وعمقه وإحاطته. وتلك هي طريقته في معالجة النفس الإنسانية من الطفولة الباكرة إلى مرحلة النضج.
إنه منهج كفيل بالفعل بإنشاء "الإنسان الصالح" فردًا وجماعة وأمة متكاملة.
كفيل بإخراج تلك الأمة الخيرة التي استحقت ذلك الوصف الرباني:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5.
والتي جعلها الله أمة وسطًا لتكون شاهدة ورائدة لكل البشرية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 6.
ولئن كانت هذه الأمة قد تهاوت -دهرًا- في أداء رسالتها التي كلفها بها الله.
ولئن كان هذا التهاون لم يقف أثره عند هذه الأمة وما أصابها من ضعف وتخلف وهوان وتمزيق على يد أعدائها، بل تعداه إلى البشرية بأجمعها، التي فقدت الهداية الربانية التي كانت ممثلة في هذه الأمة، والتي تستطيع -وحدها- أن تقوم انحرافات البشرية وتصلحها. فراحت من جراء ذلك تتخبط في الظلمات، وتقودها الشياطين إلى مهاوٍ ومزالق لا مثيل لها في التاريخ البشري كله في شناعتها وبشاعة آثارها.
__________
1 سورة البقرة 177.
2 سورة البينة 7-8.
3 سورة مريم 96.
4 سورة العنكبوت 69.
5 سورة آل عمران 110.
6 سورة البقرة 143.(2/613)
لئن كان هذا كله كذلك، فإن هناك اليوم حركات للبعث الإسلامي تبشر بالخير في كثير من أرجاء الأرض.
وحين يتربى جيل جديد من المسلمين على منهج التربية الإسلامية؛ يكون قد تحقق هذا الخير الذي تبشر به حركات البعث الإسلامي. وهو خير مزدوج لا يقف أثره عند هذه الأمة وحدها، وإنما يتعداه إلى كل البشرية. فالبشرية الحائرة اليوم، التي تعاني لذع الضياع والحيرة والقلق والاضطراب. قد بدأت تبحث عن الطريق. ولن يكون الطريق إلا الإسلام. ولن يقدم الإسلام للبشرية الحائرة إلا من خلال بشر يؤمنون به، ويحملونه عقيدة مستقرة في القلب، وقيمًا ومبادئ متمثلة في واقع سلوكي مستمد من هذه العقيدة. وعندئذ ينشرح صدر البشرية الحائرة للإسلام، وتجد فيه طريق الخلاص.
وحقيقة إن هناك عقبات كثيرة في الطريق.
عقبات من القوى المعادية للإسلام في الأرض كلها، تحارب حركات البعث الإسلامي بضراوة، وتكيد لها بكل ما تملك من وسائل الكيد، من تشتيت وتفتيت واحتواء وفتنة وتعويق.
وعقبات من الطغاة الذين يناوئون حركات البعث الإسلامي بكل ما في أيديهم من السلطان، وينكلون بالدعاة في أبشع صورة من صور التنكيل الجماعي شهدها التاريخ، لحسابهم الخاص أحيانًا، ولحساب تلك القوى المعادية في جميع الأحيان.
وعقبات من مدى البعد الشاسع بين واقع هذه الأمة في تاريخها المعاصر وبين حقيقة الإسلام.
وعقبات من توزع الجماعات الإسلامية ذاتها، وافتقارها إلى الرؤية الواضحة، والقيادة الواعية المقتدرة التي ترتفع إلى مستوى المسئولية ومستوى الأحداث.
ولكن المبشرات أكبر من المعوقات!
المبشرات -في داخل العالم الإسلامي- هي هذا التيار الزاخر من الشباب في كل مكان -فتيانًا وفتيات- يريدون الإسلام ويصرون عليه بوصفه البديل الوحيد من كل ألوان الجاهلية المعاصرة، والطريق الوحيد للخلاص ... وهم شباب يعلمون علم اليقين أن الإسلام يحارب، وأن طريق الإسلام مملوء(2/614)
بالعقبات ومملوء بالتضحيات. ومع ذلك يصرون على ارتياد الطريق.
والمبشرات -على مستوى البشرية- هي بدء تيقظ الفطرة البشرية من دوامتها التي غرقت فيها في القرنين الأخيرين، والأخير بصفة خاصة، دوامة النظريات الزائفة والمذاهب المنحرفة والسلوك المجنون. واتجاهها إلى البحث عن بديل من هذه الدوامة يكون فيه طريق الخلاص -كما قلنا- إلا في المنهج الرباني المنزل، وإلا فهو المزيد من الجاهلية، والمزيد من الانحراف الذي يؤدي إلى الدمار.
وهي مبشرات ضخمة سواء في أصالة اتجاهها وارتكازها على رصيد الفطرة ورصيد الحق1، أو في اتساع نطاقها على محيط الأرض.
ولن يكون الأمر بالسهولة التي تكتب بها الكلمات أو تنطق بالأفواه.
إنه في حاجة إلى جهاد مرير وصبر وتضحيات.
ولكن الله هو الذي وعد المؤمنين الصادقين بالنصر حين يستقيمون له على الشرط:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 2.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.
__________
1 انظر "هذا الدين" و"المستقبل لهذا الدين".
2 سورة النور 55.
3 سورة يوسف 21.(2/615)
الباب السادس: مرحلة النضوج
...
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1.
وتوجد في العلماء، وهم ورثة الأنبياء. وليس العلماء هم حفظة العلم. فما أكثر الحفاظ وأقل العلماء! إنما هم العاملون بهذا العلم، الذين يربون بعلمهم الناس، ويعطون في سلوكهم الواقعي ترجمة عملية لما يقولونه لطلابهم من أمور هذا الدين. هم الذين يخشون ربهم حق خشيته:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2.
كما أن تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع المسلم هو بذاته تربية وتوجيه. أما في مجتمعاتنا الجاهلية المعاصرة فالقيادة والقدوة -لمن يريد الإسلام- ما تزال قائمة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته. ثم ينبغي أن تكون في جماعة تندب نفسها للدعوة، وتعطي من نفسها القدوة، وتقوم بدور التربية للناس في مرحلة النضج، وتعينهم على القيام بمسئوليتهم تجاه الله وتجاه الإسلام.
كنا حتى الآن نتحدث عن السمة الأولى -والكبرى- من سمات مرحلة النضج، وهي الرغبة في تحمل المسئولية، واستطردنا منها إلى الحديث عن ماهية هذه المسئولية بالنسبة للإنسان المسلم، والتي تتلخص في إقامة منهج الله في الأرض، وإنشاء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله. فذلك في الحقيقة هو المقتضى الحقيقي لشهادة لا إله إلا الله.
ونعود إلى بقية السمات فنجد الرغبة في العمل والرغبة في اكتساب الخبرة العملية، وهما رغبتان متساوقتان في نفس الإنسان، وموجودتان في الحقيقة منذ الطفولة، ولكنهما يأخذان صورًا شتى.
ففي الطفولة تتخذان صورة اللعب. وعن طريق اللعب يكتسب الطفل كثيرًا من خبراته كما يكتسب كثيرًا من معلوماته. وبذلك يمكن استغلال اللعب في التربية في هذه المرحلة من العمر.
__________
1 سورة الأحزاب 21.
2 سورة فاطر 28.(2/281)
الباب السابع: المحتويات
الجزء الأول: في النظرية
مقدمة الطبعة الثالثة 5
مقدمة الكتاب 7
تمهيد: الوسائل والأهداف 11
خصائص المنهج الإسلامي 18
منهج العبادة 34
تربية الروح 38
تربية العقل 75
تربية الجسم 104
خطوط متقابلة في النفس البشرية 126
الخوف والرجاء 127
الحب والكره 140
الواقع والخيال 148
الحسية والمعنوية 151
ما تدركه الحواس وما لا تدركه الحواس 155
الفردية والجماعية 162
الالتزام والتطوع 168
السلبية والإيجابية 174
من وسائل التربية 180
التربية بالقدوة 180
التربية بالموعظة 187(2/617)
التربية بالعقوبة 189
التربية بالقصة 192
التربية بالعادة 200
تفريغ الطاقة 204
ملء الفراغ 206
التربية بالأحداث 207
المجتمع المسلم 216
ثمرة المسلم 223
بين الواقع والمثال 235
الجزء الثاني: في التطبيق
مقدمة 241
كيف تربت الجماعة الأولى 251
موضوع القدوة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم 313
مع الطفولة حتى الصبا 324
من الصبا إلى الشباب الباكر 432
من الشباب الباكر إلى النضج 481
مرحلة النضوج 564(2/618)