11 أيلول
اختطاف العالم
خطة أميركية
يوسف بعدراني
حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤلف
28-9-2002
الفهرس
المقدمة 5 - 36
المجال الأول: ضوابط السياسة الدولية 37 - 68
أو: قواعد التآمر الدولي
المجال الثاني: صراع الحضارات في حرب أفغانستان 69 - 86
المجال الثالث: تحريف النص الإسلامي في صراع الحضارات 87 – 112
المجال الرابع: بعث الروح العسكرية 113 –135
أو إطفاء الحيوية في الأمة الأميركية
مقدمة
اختطاف العالم
الظلمُ في منتهى قسوته هو ذلك الظلم الذي يوقعه الإنسان على نفسه، فالظالم يمكن أن يظلم غيره دون أن يكفر، لكن لا يمكن أن يظلم نفسه دون أن يكفر. إن الظالم الذي يصر على انتهاك حرمات الله يكون ظالما حق الله في حُرُماته وبذلك يكون كافرا وبكفره يظلم نفسه. ظُلمُ النفسِ لا يكون إلا بعد الكفر، لأنه الحالة التي يكون بها الإنسان قد أحكم طوق النار على عنقه، وهو ظلمٌ للنفس لأن صاحبها يرديها النار دون أن يكون لها في ذلك خيار.(1/1)
ظالمُ نفسه يرفض الخضوع لبرهان العقل في الوجود، لأنه يتبع هواه. عندما يسمح الإنسان لنفسه أن يندفع لإشباع رغبةٍ في نفسه مثل حب التملك أو إشباع رغبته بالجاه، تتَّحِد قواه لتحقيق الإشباع، في هذا التوحُّدِ لقواه يكون العقل والفهم جزءاً من القوى التي تسيطر عليها الرغبة ويبطلُ دوره الطبيعي الذي هو السيطرة على القوى لتنظيم إشباع الرغبة. لذلك مَنْ يتخذْ نفسه إلههُ معناها العملي مَن جعلَ إشباع رغبةٍ فيه مقصدَ حياته أو قصدها، أي غاية وجوده. هذا التقديس لرغبةٍ ما، يوجب جعل إشباعها الدائم محور التفكير وقصده في عمله الدائم. وهو تعطيلٌ لدور العقل الطبيعي في حياة الفرد الذي هو تحديد قِيَمِ الحياة، وتسخير طاقة الفرد لتحقيق تلك القيم التي اقتنع بها العقل. الفرق في نوع الحياة التي يعيشها الفرد في تحقيق قيمٍ اقتنع بها العقل أنها حياة في ارتقاءٍ دائم. والحياة التي يعيشها الفرد في تسخير العقل في إشباعِ رغبة أو رغبات أنها حياةٌ في انحطاطٍ مستمر لا تقف عند أي مستوى في الانحدار.(1/2)
يبيِّن الله سبحانه في قصة نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الحاكم الذي اتخذ الحكم إشباعاً لحب الفخر والجاه والغنى والسلطان، أن رفضه برهانَ الواقع، هو الكفرُ الذي لا يمكن الرجوع عنه بالتوبة للإيمان. وأن نقطة اللارجوع هذه تَثبُتُ عندما يقنع بحجة البرهان ويرفض الانصياع والعمل بمقتضاها مكابرةً وتعاليا عن الخضوع لمقتضيات الحقيقة. هذا الثبات على الباطل في معارضة الحجة التي تكشف باطل الحاكم في قوله وعمله هو الذي ينقل الحاكم من ظالمٍ للناس إلى ظالمٍ لنفسه. وهو بالتالي من أتفه وأحقر رجال الأرض، أتفههم فكراً وأحقرهم كرامة عند الناس وعند الله في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان وصف الكافر بعد تطابق شروط الكفر على قوله وعمله ، وبعد الختم على حياته أنه قضاها مفارقاً لبرهان الواقع في الحياة أنه من القوم الظالمين. أي يُحشر مع من سبقه ومن يكون بعده في ظُلمِ نفسه في موقعٍ واحد في غضب الله عليهم ولعنة الناس لهم. فليس في الدنيا أحطّ من الحاكم الذي يغدر بالشعب الذي وثق به. وليس في الآخرة أشد عذاباً وأذلُّ مقاما من الحاكم الذي يقود شعبه بخداع ومكرٍ للإيقاع به.(1/3)
الفارقُ بين غدرِ الحاكم الأميركي أو الأوروبي بشعبه بأساليب الخداع والمكر والكذب الذي هو تحريف الحقيقة، وغدرِ الحاكم في المسلمين فارق كبير. الحاكم الغربي يخدع شعبه ويمكر به ليسير في تحقيق مصلحةٍ يراها الحاكم للشعب لكن الشعب لا يقتنع بها إما عن جهلٍ أو حجة. غدرُ الحاكم الغربي بشعبه تكون عن رؤيةٍ في مصير شعبه. ومهما كانت نتائج عمله فإنه يستطيع أن يحيا مع تلك النتائج. معنى "يحيا" هنا يتعلق بذكراه لا بسنين عمره، ذلك أن أسباب نجاحه كأسباب فشله ستبقى مادة تراثية في موضوعيتها تُبحث في منابرها وتدرس في معاهدها. لذلك، في غير الأمور التاريخية الطارئة، نجاح الحاكم في عمل لا يؤدي إلى قفزةٍ في مسيرة ارتقاء الشعب ولا الفشل يؤدي إلى تسريعٍ في وتيرة انحدار الشعب. لأن مسيرة الشعب مسيرة تاريخية تنفصل عن نجاح أو فشل عملِ حاكمٍ طارئ. لكن موضوع خداع الحاكم الغربي لشعبه في عمل ناجح أو فاشل يبقى إثراءً لتراث الغرب في عبقرية المكر والخداع والغدر. وهو تراث لا يماثله أو يقاربه تراث أمة أخرى.(1/4)
غدرُ الحاكم في المسلمين يخالف غدرَ الحاكم الغربي في أن الحاكم الغربي ذاتي يأتي من رؤية شعبه لكن بخطته في عمارة وجود شعبه. غدرُ الحاكم في المسلمين يأتي من خطة مفروضةٍ عليه لا من نتاجه الفكري. لأن الإنتاج الفكري يحتاج إلى رؤيةٍ حضاريةٍ والرؤية الحضارية تحتاج إلى أيديولوجية. هذه العناصر متلازمةً، لا يمكن تواجد عنصرٍ دون الثلاثة مجتمعين. من معرفتنا بفكر الحاكم لم يدَّعِ يوما أنه صاحب أيديولوجية أو أن عنده رؤيةً حضاريةً أو أنه صاحب إنتاجٍ فكري حقَّقَ في المسلمين نهضةً أو ارتقاء. أو حتى أوقف فيهم انحدارهم ومسيرة انحطاطهم في جميع مستويات الحياة وعلى كافة جبهاتها. كذلك نحن لا نكتشف ذلك فيه. حاكمُ المسلمين يعرف ويكاد يعلن بالصريح والتورية أنه يمكر بالمسلمين ويخدعهم لأنه مفروض عليه ذلك. المسلمون يعلمون ويعلنون بالصريح والتورية وعلى تلفزيون الحكم وصحافته أيضاً أنَّ حاكمهم يغدر بهم في كل وقتٍ وعمل.
الحاكمُ في المسلمين يهدِمُ عَمارةَ المسلمين في الوجود وهو أخطر بكثير من عدم بناء عمارة الوجود للمسلمين. لذلك مكرُ وخداع الحاكم في المسلمين يؤثر كثيراً في انحطاط المسلمين. في كل مرة يمكرُ حاكمُ المسلمين يفتح طريقا جديداً في مسيرة انحدارِ المسلمين خاصة في تلك الأمور التي تفرضها عليه أكابرُ دول الغرب ولو بوسيطٍ من أحقر دولها.(1/5)
هذا التفريق بين نتيجة وقصد وسبب خداع حاكم أميركا أو بريطانيا لشعبه وخداع حاكمٍ للمسلمين مؤثِّر في فهم سبب وقوف جميع الحكام مع ضرب أميركا لأفغانستان المسلمين. ومؤثر في فهم المكر والخداع في قول بعض الحكام أنهم يريدون أن يكون الضرب بقيادة وإدارة الأمم المتحدة. وهو يعني أن تتحد أصابع جميع حكام الدول في ضغط زر إطلاق الصاروخ الأميركي لتدمير المسلمين في منازلهم! وتشابك أصابعهم في قذف قنبلة الانشطار الأميركي لتدمير المسلمين في أجسادهم! كذلك يؤثر في فهم المكر والخداع في مطالبة الحاكم علينا لأميركا بقصف الجيش المسلم وليس الشعب المسلم. أيضا هذا التفريق يؤثر في فهم لماذا تقصف أميركا الشعب المسلم عن قصد وتقول عن طريق الخطأ أو تقول إنه زعم دعائي. هذا التفريقُ نافذة رئيسة لفهم حقيقة الهدف الأميركي في انتقاء المسلمين في أفغانستان مسرحَ معركةِ أولى حروب القرن، كما سماها غلامُ أبيهِ حاكمُ أميركا.(1/6)
خطةُ أميركا في تفجير الطائرات في أهم موقعين بعد البيت الأبيض والكونغرس، ثم إلصاق ذلك التفجير بحجة الأقوى في مكره وغدره وبطشه بمسلمين، خطة محكمةً لا مصادفة. قرارُ أميركا تدمير النفسية المسلمة في أفغانستان قرار يرتبط بخطة أميركا الدولة في حادث التفجير. لو كان حادث التفجير فِعلَ جهةٍ غير الدولة الأميركية نفسها لتعددت احتمالات الانتقام. عمل الانتقام، وهو عمل إيقاع عقوبة على المعتدي، يحتاج إلى تحقيق وبراهينَ تحدد المعتدي أولاً ثم تدينه. تحقيق أميركا في البداية بدأ كاذباً مخادعا. أذاعت أميركا الدولةُ لائحةَ أسماء ركاب الطائرات الأربع وفيها 18 أو 19 اسماً يُفترضُ أنهم مسلمون من الشعب العربي. بدايةُ الكذب والخداع أن اللائحة في أي رحلة ليست سراً وتتواجد في ملفات عدة دوائر. فورَ إعلان الاصطدام وفي غمرة الحيرة تقول عدة مصادر إعلامية أميركية إنه لم يكن في اللائحة أي اسم مسلم من العرب التي أضيفت إلى اللائحة التي أعلنتها الدولة. برهانُ الفشل في ترتيب الكذب والخداع أن تسعةً أو نصف الذين أُعلنوا من الأشخاص الخاطفين أعلنوا أنهم أحياء في أماكن مختلفة من العالم.
العقوبةُ تأتي بعد التأكد من الجاني والتأكد من برهان الجريمة الذي يربطه. هناك جريمة، تفجير الطائرات جريمة لكن أين البرهان في أن الجاني هم عموم مسلمي أفغانستان وحتى المسلمين في كل مكان! أميركا كذبت أيضاً عندما قالت إنها تذهب إلى أفغانستان فقط لتنتقم من المسلمين هناك بتدمير بنيتهم التحتية وأجسادهم ونفسيتهم على جريمتهم في أميركا. أميركا نفسها أعلنت أثناء انعقاد مؤتمر برلين أن مهمتها في أفغانستان "إعادة بناء أمة". هذا يعني أن قصد التدمير الجسدي والنفسي في أفغانستان هو قصدُ مبرر احتلالها وهو إعادة بناء أمة الأفغان بدون الإسلام!(1/7)
هاجسُ أميركا ودول الكفر ومنها أوروبا هو هاجسُ صراع الحضارات، في أساس موضوعه عدم وجود حجة فكريةٍ في أيديولوجية أميركا تقف بوجه حجة الإسلام. معنى "إعادة بناء أمة" هو فرض فكرٍ جديد عليهم بديل الفكر الذي يجب أن يتخلوا عنه. لأن بناء الأمة لا يكون بالمصانع والأسلحة والاقتصاد والعمران، ذلك قوة الأمة وليس بناءها. الأمة تقوم بفكرها الأيديولوجي الذي يصوغ حضارتَها. عملُ "بناء أمة" لا يكون عمل انتقام ولا مادة في قانون العقوبات. هو عمل أفكارٍ رئيسة في عقيدة الأمم وأيديولوجيتها وحضارتها. هو في واقعه هدمُ بناء الفكر الإسلامي في عقول الأفغان وفرض بديله فكرِ الكفر والضلال الديمقراطي أحطِّ أيديولوجيات الأمم الوثنية عبر التاريخ. ماذا يصدق العاقل؟ أن ذلك جزاء تفجير الطائرات أم يصدق أن ذلك هو رسالة أميركا في خطتها لتحقيق غايتها في معركة "صراع الحضارات"؟
كراهية أميركا للإسلام موثَّقة في فكرها الثقافي، التعليمي، الإعلامي، الخلقي، المسلكي، وأهم من كل ذلك في أساس فكرها السياسي. خطة أميركا في فرض فساد أفكارها على المسلمين في حياتهم أيضاً موثَّقة في كل علاقة مع المسلمين، في كل قضية من قضايا المسلمين، وفي كل اتصال مع الحكام في المسلمين.
موضوعُ فرضِ كراهية الإسلام على الأوروبيين في حقيقتهً لا يتعلق بحدث أو ظرف. هو موضوع خطة مؤامرة تنفذها جميع سلطات الحكم في شعوب جميع دول الغرب لا فرق بين أخبثها وبين أسخفها. هذا المشروع المؤامرة في هدفه يحقق منع العقل الأوروبي من التعرف على الإسلام إلا من المصادر التي تسمح الدولة بتوفرها لشعبها. وهذه المصادر فيها أمران: أن تكون مُضِلَّةً عن الإسلام، وأن تكون سخيفة سقيمة.(1/8)
خطرُ فرضِ منع العقل في الأوروبي من إجراء العملية العقلية في التفكير في معرفة الإسلام في البدايةِ أدى إلى تبرير تعطيل العقل في كثير من أمور الحياة الرئيسة. كثير منها كبيرُ الأهمية في صياغة الحياة وكبير الأثر في شقاء الإنسان وسعادته. وأهم من ذلك أنه منع العقل من فهم الحياة بالموت وفهم الموت بالحياة، وبذلك أفقد الأوروبي رؤية معنى الحياة بانعدام رؤية الحياة بمصير الحياة. وفوق ذلك فإن هذا المنع أو هذا التعطيل لدور العقل في أهم أمور الحياة أدى إلى فقدان الفرد والمجتمع مقاييس الحياة في التمييز بين شرور الحياة وخيرِها وبؤس الحياة وسعادتِها، واضطراره لاستحداث مقاييسَ من عِنديّاته لا تزيده في عيشهِ إلا ضياعاً.
إن أعمال وأقوال الحكام في إخفاء معالم هذه الخطة دائم وعام في جميع مجتمعات الغرب. فالحرص على إنكار مخططِ زرعِ أو فرض كراهية المسلمين على الغربيين أكثر بكثير من الإصرار والحرص على قتل المسلمين في أرواحهم وأرزاقهم وكرامتهم واغتصابهم في بلادهم وفكرهم وثرواتهم. لكن لمَّا كانت قد تأصَّلت كراهية الأوروبيين في النفس الفردية والجماعيةِ في الغرب، أصبح القصدُ الطاغي في خطط فرضِ الكراهية هو الحرصُ على استمرارها وتعميقها وتعميمها في الأجيال الجديدة.(1/9)
هزَّةُ الطائرات أو عاصفة الطائرات لو حدثت في أي دولة لم تكن لتستطيع تلك الدولة جعلها قضية دول الأرض. وليس في مقدور أي دولة غير أميركا أن تفرض عقوبةً على جميع دول الأرض إشباعاً لروح الانتقام فيها وليس اقتصاصاً من الفاعلين. لم يكن في مقدور أي دولة غير أميركا فرض حجم العمل بالحجم الذي تريده أو تحتاجه في خطةٍ وليس بالحجم الذي هو عليه. إمكانية أي دولة لا تسمح بتسخير عملٍ كهذا ـ والحديث دائما عن هزَّةِ الطائرات ـ لفتح عدة جبهات في الموضوع والموقع واستراتيجيا السياسة الدولية. غير أميركا لم يكن يستطيع أن يتهم دولاً وأشخاصاً ومؤسسات دون دليل. أو أن يتهم أشخاصاً ماتوا منذ سنين قبل القيام بالخطف ويفرض على شعبه أن يصدِّق أنهم قاموا من القبر كما قام إلههم ـ باعتقادهم ـ من قبل! أو أن يتهم أشخاصاً بالخطف والموت بالتفجير ثم يعلن الذي أماتوه أنه حي في النصف الآخر من الكرة الأرضية، ومع هذا يصرون على أنه خطفَ وانتحر حرقاً حتى الموت ثم بُعِثَ حياً من القبر! لا أحد غير أميركا يستطيع أن يعلن أن الوثائق الشخصية مزوَّرة ثم يفرضُ تصديقها! كلهم يكذبون على شعوبهم لكن لشعوبهم الحق في التصديق أو تكذيب حاكمها. إلا حاكمَ أميركا يفرضُ على شعبهِ تصديقه أن المسلمين قاموا بقتل الأميركيين فيصدق الشعب. يفرضُ على إعلامهِ "الحر" أن يصفِّقَ لمصداقية الرئيس فيصفق بالكلام المرئي والمسموع في ملايين ومليارات الساعات الإذاعية والأقلام والمقالات الضحلة في فكرها السخيفة في حجتها أن المسلمين قتلوا الأميركيين! رئيس أميركا يٌقسم أنه صادق فيصدقونه. ثم يُقسم أنه كاذبٌ عليهم فيقولون هذا شأنه! رئيس أميركا يقسم إنه سينتقم ممن يكرهه الأميركيون والمتمدنون الغربيون، ثم يقسم أنه سيقتل المسلمين في أفغانستان وكل مكان آخر يجتمع فيه اثنان أو أكثر لا يرتادون مسارح العربدة أو لا يهدرون ساعات حياتهم أمام شاشات النفاق والإفساق وأحذية(1/10)
الأقدام تقذفُ كرةً! ثم يُقسم: لأنتم تكرهونهم وإنني لأكرههم ولأنتم تؤيدونني سأقتلهم لأنكم تصدقون قولي إنهم خطفوا الطائرات! هم، وقد ماتت في معظمهم جذوة الإنسان التي بها يميز الإنسان بين الخير والشر بالفطرة، وبين طريق السعادة وطريق البؤس في حياة النفس، لم يهتموا إلا بإشباع نهم التفوق على الغير. هل يفرِّقُ شيطان الإنس بين صدقٍ وكذبٍ يقوله رئيس أو تكتبه صحيفة أو تذيعه تلفزةٌ وهو في نشوة إشباع كراهيته وحقده وفجوره؟
نحن، لا نعلم بنفسية الشياطين، نعلم ونلتزم فهم الإنسان والتزامه مقاييس الحقيقة في الاقتناع. كثيرون يعرفون الحقيقة. وكثيرون يفرقون بين معرفة الحقيقة وقول الحقيقة، إذْ للمعرفة مقياس وللقول أحكام. هؤلاء لا يتذوقون طعم الحياة، أضاعوا معنى الحياة لأنهم فقدوا إحساسهم الإنساني. هم لا يدرون أهم بشر أم من جنس إبليس؟ يتناسون أن الذي يطمس الحقيقة شيطان أخرس.
قولُ الحقيقة ليس ضد فرد أو ضد جنسٍ من البشر. لا يمكن أن يكون ضد نظامِ حكمٍ أو ضد أمة. إنه ضد الكذب والكذاب وليس ضد أي جهة أخرى. لكن فهم الحقيقة يعارض فهم الخطأ. فالفهم في عفويته وعُمقه أو استنارته يتعلق بمقاييس ولا يوجد إنسان لا يملك هذه المقاييس في حياته. لكن يكثر الناس الذين يضيِّعون هذه المقاييس وخاصة من شعوب وأمم حضارة الغرب الأوروبي بالأمس وحضارة ديمقراطية أميركا اليوم بعد ذوبان الأوروبي في خمرة موسيقى الشريك الأطلسي.
فهمُ الحقيقة ضرورة حياتية في حدثٍ كهذا في ضخامته وقدرة أميركا على تسخيره في اتجاهات وغايات متعددةٍ ولسنواتٍ كما يصرّون، وَقودٌ دائم في خطة تأصيلِ الكراهية الغربية للإسلام والمسلمين. لهذا لم يعد بالإمكان أن نتجاهل توثيق الحقائق في هذا الموضوع الذي سيؤثر إيجاباً وسلباً في كثير من الخطط الدولية والمواقف السياسية التي تمسُّ مباشرةً خطةَ الغرب في صراع الحضارات.(1/11)
مؤامرةُ أميركا في اختطاف العالم الأرضي مؤامرة كبيرة في أفقها متعددة في اتجاهاتها. سِعةُ أفقها تجعلها تستوعب كثيراً جداً من القضايا، لذلك إذا فكر الروسي ـ طبعا إذا وُجِد من يفكر في عهد الحاكم الحالي - في مخاطر هذه المؤامرة عليه يجدها كثيرة لا تُحصى. وإذا فكر الصيني - طبعا إذا سمح الحكم له بالتفكير - في عواقب هذه المؤامرة عليه سيحتار في كيفية مواجهة تهديداتها له. وحال الإنكليزي أسوأ من حال الروسي والصيني في رؤيته لحقيقة المؤامرة عليه، وهو يرى أكثر بكثير من الألماني والفرنسي وبقية "المتمدنين" الأوروبيين. فكل صاحب قضية من الدول تهدده هذه المؤامرة بتجريده من أي سلاح له في قضيته. أما المسلمون فهم أيضا في صلب هدف عملية الخطف لجميع أنظمة الحكم في الدول المائة والسبعين.(1/12)
موضوعنا ليس عن مخاطر أو أهداف مؤامرة أميركا في خطف العالم من أجل القضاء النهائي على أي نفوذٍ أوروبي في العالم، أو القضاء على أي قدرة صينيةٍ في المستقبل للتأثير خارج حدودها ولو قيد بوصة، ولا في هدفها حصر شؤون وصلاحيات الكرملين في الشؤون البلدية لمدينة موسكو، ولا في أن هدف المؤامرة أنه فيما تحدده أميركا بأن تلتزم الدول ـ مَنْ فيها مقومات الدولة ـ سلطاتها في داخل حدودها فقط، حتى لا يفكر نظام حكمٍ بإنتاج أسلحة الدمار الشامل ليبقى ذلك حِكرأً لها. وحدها يجب أن تكون القادرة على القتل والتدمير وصاحبة النفوذ على الأرض . أما على أشباه الدول فقد فرضت على كل حكومة أن تسمح باحتلالها بحجة التعاون ضد الإرهاب أو تدريب جيوش هذه الدول ـ خاصة في بلاد المسلمين ـ على دورها في إرهاب المسلمين، وفي غير بلاد المسلمين لقتل المسلمين. أما الدول التي تسعى لأن تكون فيها حكومة ذات سيادة بعد أن فقدتها منذ انتصار أميركا في الحرب العالمية الثانية فقد جاء هذا الخطف ليعيدها إلى نقطة البداية في سعيها للنهوض من دبدبة الطفل إلى السير المضطرب على الرجلين. هذه الدول على رأسها الدول الأوروبية الكبرى فرنسا وألمانيا وإيطاليا. أما قيمة بقية الدول الأوروبية فترتبط بمدى تجاوبها في التصديق على القرارات التي تعتبرها هذه الدول تؤمن مصالحها الوطنية في الاتحاد الأوروبي. لم نذكر بريطانيا ضمنهم ليس لأنها ليست دولة أوروبية كبرى بل من واقع أنها ما زالت دولة غير إقليمية. الدول الأوروبية الكبرى هي كبرى في أوروبا وحسب. أما بريطانيا فنفوذها الدولي مازال قوياً. معظم المستعمرات التي خرجت منها لم تزل تمسك بنفوذها عليها وقرارها السياسي، وتوجهها في السياسة الخارجية بدورٍ ترسمه لكلٍّ من هذه الدول في خطتها المتكاملة. لذلك بريطانيا هي الدولة الوحيدة الباقية بين دول الأرض التي لها خطة متكاملة في قيادة نفوذ دولي بعد أميركا ولا يوجد دولة(1/13)
ثالثة. أما روسيا فلم تعد أكثر تأثيراً في السياسة الدولية من بلجيكا. والصين لم يكن لها يوماً رؤية في السياسة الدولية ولا حتى في أيام ماو تسي تونغ إلا بقدر حاجة خطة أميركية إلى نفخ رؤية في عصابة القهر الشيوعي. فرنسا رغم وجود نفوذ لها في مستعمراتها الإفريقية إلا أنها ليست ذات رؤية سياسية دولية. لذلك لا تستطيع الاستمرار في حماية نفوذها في تلك الدول ولذلك يسهل على أميركا طردها من دولة بعد دولة دون أن تستطيع فرنسا حتى التصريح بتآمر أميركا لتصفية نفوذها. لأن حماية الوجود الاستعماري بجنود فرنسا أو بعملاءٍ لها لا يكفي لحماية هذه الحالة الشاذة. الحكم المحلي لا يمكن أن يستقر إلا أن يكون جزءاً من خطةِ دورٍ في رؤيةٍ دولية في سياسة دولية. فرنسا فقدت في عهد ميتران تحديداً آخر فتحةٍ في رؤيتها الدولية وتخلَّت عن آخر خطة لها في سياستها الدولية. في وضوح الحقيقة يجب أن يُقال إن فرنسوا ميتران(1)
__________
(1) في أقوال الذين يعرفون فرنسوا ميتران في صباه أنه بدا بالتدرب على الأعمال في إنهاء دور فرنسا في السياسة الدولية منذ كان طالباً في الجامعة في حوالي سن 23 عاماً عندما بدأ تواصله المهني مع جهاز سي آي أي الأميركي.(1/14)
هو الذي أنهى دور فرنسا الدولي في دوره الذي أعمى بصيرة الفرنسيين عن حقيقة مؤامرته عليهم. هو، في دوره، لم يكن ليعارض خطةً أميركية ثم يعود للخضوع لها إلا لإفلاس السياسيين والمفكرين العاملين في الحفاظ على دورٍ ولو واهٍ لفرنسا في السياسة الدولية. وقد نجح في هذا الدور نجاحاً كبيراً حتى إن شيراك الذي بنى حياته السياسية على رؤية دولية لفرنسا اضطر للتخلي عن تلك الرؤية كلياً لتقبل أميركا بوصوله للرئاسة ولو مرةً واحدة. ليس لخيانة منه أو بسبب حقيقة النعوت التي يطلقها عليه الفرنسيون، بل لأنه فقد الأمل كلية في إمكانية وقوف فرنسا برؤية فرنسية. وقد زاد يأسه بل وصل إلى حد الرعب من أن يختفي آخر بريقٍ جنسي لفرنسا في حال وصل إلى رئاستها أخلص أعوان ميتران في خطة تصفية الشخصية الدولية لفرنسا.(1/15)
في أساس مؤامرة خطف دول العالم أنها في مجالها الأول موجهة ضد أوروبا حقيقة ثابتة في سبب عملية الخطف وفي غايته وفي تحديد مسرحه ونوع وَقود مسيرتها. هذه الحقيقة تحتاج إلى توضيحٍ في دراسة عميقةٍ في تفصيلٍ ومستنيرةٍ في تشابكاتها. وهو عمل خاص واجب القيام به بأهله أولاً ولا يفيد أن يقوم أحد عنهم في هذا الدور لأنه لن يؤدي قصده. وكل بحث فاشل في قصده يُعتبرُ فاشلا لا يجوز للعاقل أن يقوم به. لقد جرى البحث في أداءٍ خجولٍ جدا في بعض الدول الأوروبية وكانت أبرز هذه الأبحاث في فرنسا. إلا أنها كانت أبحاث فكرية ولم تكن أبحاث سياسية وهذا يُفقِدها تأثيرها. والفرق بين البحث الفكري والسياسي أولاً في الباحث هل هو سياسي أم لا. لأن السياسي يبحث لاستنباط خطة بينما الصحفي أو المفكر يبحث للفهم فقط. الثاني أن الفكري لا يرتبط بقصد بينما السياسي يجب أن يرتبط بقصد. والبحث الفكري يحصر البحث في الموضوع في عنوانه ومضمونه مهما توسَّع في تفصيلات الموضوع يبقى بحثاً عاماً. بينما البحث السياسي في تفصيلات الموضوع موضوعٌ يُبحَث مستقلاً في معطياته وهي: مبرراته، أدواته، دوره، وليس مستقلاً في غير ذلك. ففي موضوع خطف أميركا للدول مثلاً هو الموضوع أما تفصيلاته فهي الأمور التي يجب أن تُبحث مستقلة حتى يتم استيعاب صورة المؤامرة الأميركية بحجمها وبُعدها وقوتها. أما أمور تفصيلات المؤامرة فهي السبب، الغاية، المسرح ووَقود المؤامرة التي بها يستمر السير. نقول إن البحث في هذه التفصيلات هو مسؤولية كل طرف يتأثر كيانه، دوره أو وجوده بنتائج هذه المؤامرة. ولا ينفع أن يقوم أحد بهذه الأمور نيابة عن الفريق المعني. لأن أي محاولة من فريق غير فرنسي لن يؤثر في إفهام الفرنسي. وأي محاولة من غير ألماني لن يتأثر بها الألماني، وهكذا. لأن الأضواء التي توضح هذه الأمور وتؤدي إلى فهمها هي أضواء تراثية على واقع تراثي لتؤثر في مستقبلٍ تراثي. لذلك ليس(1/16)
مهماً البتة أن أنصح أنا، أو آلافٍ غيري، أمةَ الألمان في حقيقةِ مؤامرةٍ عليهم. أو أن أسعى أنا أو آلافٍ غيري في تنوير الفرنسيين في مخاطر مؤامرة أميركا في خطف العالم على مستقبل وجود أمة الفرنجة وليس على عظمة هذه الأمة لأنهم أصبحوا أمة بدون عظمةٍ منذ أمدٍ بعيد.(1) همُّ فرنسا يجب أن يكون في استعادة المحافظة على سر حيوية الأمم الذي تخلت عنه والذي يحتم المبادرة في تحرك ذاتي من جراء عملية الفهم. وهكذا همُّ جرمانيا كأمةٍ حيةٍ قبل أن تسقط في السبات الذي لا يقظةً بعده. أما الإيطاليون فيكفيهم البحث في مدى قياس تنورةِ المرأة وعلو كعب كِندرتها والابتسام لرئيس وزرائهم الذي يكذب عليهم في قوله إنهم أمة حضارية حتى يبقى هو سائق الجمال فيهم وعلى رأسهم(2)
__________
(1) في تحديد زمن بدء وجود فرنسا بدون عظمةٍ هو يوم نجحت أميركا في تدمير نفوذهم الدولي في معركة ديان بيان فو عندما تم إخراج فرنسا من الهند الصينية للأبد كما قال الأميركيون. ويوم نجحت أميركا في إخراج فرنسا من الجزائر بعد ثورةٍ بتمويلٍ بالمال والعتاد عبر القنوات الدولية التي تديرها أميركا، نجحت في إذلال فرنسا في كيانها للأبد أيضاً كما قال الأميركيون.أما إخراج فرنسا من مستعمراتٍ أخرى وحلول النفوذ الأميركي فيها فلم يعد يؤثر في إذلال فرنسا. لأن المحافظة على النفوذ الفرنسي لم يعد عملاً فكرياً فرنسياً بل أصبح ممارسةً سياسية فقط، ليس أكثر.
(2) حتى يفهم القارئ الموقر مَن هو سائق الجمال يجب أن يفكر أو يسأل. نحن لا نجرؤ على التصريح خوفَ قرار تجميدٍ للأرصدة المصرفية بقرارٍ برلسكوني أولاً ثم أميركي يثنِّي وأوروبي يثلث، لذلك نرجو المعذرة في عدم الإيضاح.(1/17)
. إن أي عملية فهم تحتاج في عناصرها إلى أضواء تراثية وواقع تراثي يجب أن تكون من أهل التراث ويجب أن ترتبط بقصد. فإن لم ترتبط بقصد فلا حاجة للأضواء التراثية والواقع التراثي. من هنا القصد يجب أن يرتبط بقصدٍ في دورٍ تراثي. لهذا لا نرى أملاً في هكذا بحث أو أبحاث ولا نرى أملاً في وجود باحثٍ أو باحثين إلا في أمة الألمان أو الفرنسيين. وإن كان في المفكرين الفرنسيين أكبرُ منه في المفكرين الألمان بسبب أن الضجيج الفكري في فرنسا أكثر منه في ألمانيا. وبسبب أن الدولة بمعنى الوسط السياسي الفرنسي لا يؤثر بمعنى لا يوجِّه الحركة الفكرية الفرنسية باستثناء الصحف التي تخضع لشروط التمويل. بينما في ألمانيا يؤثر الوسط السياسي على الحركة الفكرية لأسباب تتعلق في نشأة الحركة الفكرية وهدف إيجادها وليس بسبب إمساك أو توجيه الوسط السياسي للحركة الفكرية. وإذا أدركنا أن أديناور حاك الوسط السياسي الألماني ليكون نسيجاً متيناً طرفه بيد أميركا أدركنا مدى ضعف مادة الحركة الفكرية ومدى ضعف تأثيرها في تحريك الأمة. ولا نتطرق إلى بريطانيا في هذا الخصوص لأن جنس الدولة فيها ليس من جنس فرنسا أو ألمانيا. ولأن بريطانيا كثيرة هي أرديتها، فمرةً هي برداءٍ إنكليزي وأخرى هي أطلسية وقادرة أن تكون هندية وإفريقية وعربية ساعة تشاء. وفي تظاهرها الدائم أنها يهودية عندها في خِزانة ملابسها رداءً إسلامياً يستطيع "الهاشمي" العربي أو فهد الجزيرة إلباسها إياه متى احتاجت. وتحت عنوان صدق أو لا تصدق علمتُ أنها تحاول أن يكون لها رداءً صيني وآخرَ روسي لكن شريكها الأطلسي ما زال يمنعها من ستر عورتها بأحد هذين الرداءين. لذلك معطيات البحث عندها تخالف ولا تقارب معطيات البحث في ألمانيا وفرنسا.(1/18)
مسلمو هذا الزمن معنيون جداً في هذه المؤامرة لكن في موقعٍ غير موقع أوروبا. أوروبا هدف مؤامرةِ أميركا في عملية الخطف بينما المسلمون معنيون في هذه المؤامرة في موقعين:
الأول: بلاد المسلمين هي مسرحُ المؤامرة.
الثاني: المسلمون هم وَقودُ هذه المؤامرة.
المؤامرة في هدفها إلغاء دور أوروبا في مشاركة أميركا نفوذها في إدارة الدول. لذلك باشرت أميركا سلطتها المنفردة في إدارة سياسات الدول لأول مرة في تاريخها مستقلة عن أي التزام كانت تمارسه في السابق، بقرار مستقل واضح. أعلنت الحرب مستقلة، باشرت الحرب مستقلة وأنهت الحرب دون مشاورات مع أحدٍ منهم. فرضت إجراءات مالية على الدول بقرار من وزير ماليتها وحدها. فرضت مصادرة حسابات مصرفية في الدول بقرار منفردٍ منها. أصدرت لوائح اتهام في كثير من الدول ورعايا الدول وأجرت فرقها منفردة تحقيقاتها في دول كثيرة. أصدرت مذكرات توقيف حول الكرة الأرضية بدون تهمة موثقة أي باتهام دون دليل واعتقلتهم ونقلتهم إلى معتقلاتها ليحاكمهم قضاتها. فرضت إجراءات أمنيه في كثير من دول العالم لم تكن لتستجيب لأي فرضٍ أميركي في السابق في مجال إجراءاتٍ داخلية. وأهم من ذلك كله فرضت إسلاماً جديداً في مناهج تعليم الإسلام في بلاد المسلمين. واستباحت بل باشرت قتل المسلمين دون إعلانِ مبرر. واستباحت بل باشرت تدمير النفسية المسلمة. وأعلنت أن مسؤولية الأمن الفكري والسياسي والمالي والعسكري في بلاد المسلمين تمس الأمن القومي الأميركي مباشرة، لذلك هي مسؤولية الأجهزة الأميركية المعنية مباشرة. أرسلت فرقها من كل مجال لتطبيق قوانينها في المجالات المعنية. وأعلنت بكل صراحة ووضوح عن رغبتها وقدرتها وتصميمها على تدمير أي دولة لا تخضع لقوانين فرقها التي أرسلتها. وأعلنت تصميمها على أن إعلان الحرب على أي دولة هو صلاحية أميركية منفردة. والقيام بالأعمال الحربية مسؤولية "دفاعية" أميركية منفردة.(1/19)
بهذه الصراحة وهذا الوضوح ألغت أميركا الدور التمثيلي الذي كانت أوروبا تحب أن تقوم به للظهور بمظهر الشريك لأميركا في السياسة الدولية. رغم أن حقيقة الأمر لم يكن أحداً من الساسة الأوروبيين يصدق أنه شريك فعلي للولايات المتحدة في السياسة الدولية. قد يتساءل القارئ الوقور؛ إذا كانت أميركا مجرد تستغل أوروبا فلماذا ألغت هذا الدور الذي كان يساعدها كثيراً؟ وفوائده وحسناته لأميركا متعددة وكبيرة، بينما إلغاء هذا الدور يضر ويسيء لأميركا. الجواب بتفصيله كبير وفي موضوعه خطير جدا لا يستطيع فرد تحمل أعبائه الفكرية والموضوعية والمعنوية. لكن في تبسيط القول نقول إن أوروبا بدأت تتململ من تبعيتها المطلقة وهي في حيرةٍ، تريد دوراً ليس عندها خطة له. كما أن أميركا بعد أن استطاعت الانفلات من موازين القوى الدولية تريد المشي برجليها، لم تعد بحاجة إلى عكازات.
أوروبا قارةً، دولها عكازات أميركية ليس لأن حكومات هذه الدول تريد ذلك، وليس لأن الشعوب ترضى بذلك، لأنه لا يوجد عند السياسيين والمفكرين رؤية في دور. أميركا تدرك ذلك. تتلاعب بهم بتغيير فكر الرؤيةِ حتى يقنعوا أنهم شركاؤها في رؤيتها. تلاعب أميركا بفكر الرؤية لدور الأمة الفرنسي، الجرمانية، الإيطالية وغيرها في دوامةٍ كمن يدور حولَ نفسه لا يرى شيئاً بل لا يستطيع نظره أن يثبت على شيء. دوامة العقل، أو عمل العقل في دوامة بمعنى أن يكون في دورانٍ أخطر من دوامة الجسد في دورانه. دوران العقل يكون عندما لا يستطيع الإمساكَ بفكر الرؤية. عندها يفقد المرء والمجتمع والدولة سلاحَ قوة الرؤية الذي هو أقوى أسلحة الحياة.(1/20)
أوروبا لم تفقد بمعنى تضيّع قوة الرؤية، بكل بساطة وضعته على أحد رفوف تراثها الذي علاه الغبار. في دوخة العقل يزيغ البصر أو في دوخة البصر يزيغ العقل، أوروبا منها فرنسا في عقلها دوخه. مترنحةً بين السقوط والجمود تفتِّش عن رؤية لها في دورٍ لا تفتش عن فكرِ الرؤية. الفرق بين البحث عن رؤية لها دور من البحث عن فكر الرؤية أن فكر الدور فكر آني بينما فكر الرؤية هو فكر الحياة. الفكر الآني هو فكر معالجة الواقع. فكر الحياة؛ فكر الرؤية هو فكر معالجة الحيوية في الحياة. فكر الواقع؛ فكر في أمر، في مصلحة، في دور، هو فكر العبور. فكر الرؤية؛ فكر الحياة في الحاضر والمستقبل. إحباط أوروبا في دوختها سببه غير سبب دوختها في انعدام رؤيتها. دوختها سببه فكري، إحباطها سببه سياسي.(1/21)
أميركا بفكر "نهاية التاريخ" أعلنت أنها مجنونةُ الأرض في هذا التاريخ. وحده المجنون يظن أنه بطنُ الحدث، نعم هو المحور للذين حوله يتفرَّجون عليه حتى يروا كيف سينتهي به جنونه. ليس لأنه القدوة أو مصدر الإلهام أو الرجاء. فكرُ فلسفة نهاية التاريخ هو فكرُ جنونِ الفكر. لذلك مفكر أو فيلسوف "نهاية التاريخ" هو فيلسوف في جنونِ الفكر الذي هو فكرُ منحرف. الانحراف في الرغبة هو الشذوذُ في الطبيعة ولذلك يقال عن المنحرف في رغباته أنه شاذ جنسياً، أما الانحراف في الفهم فهو الشذوذ في القول والعمل ولذلك يقال عن المنحرف في عقله مجنون. جنونُ الفكر غير المجنون. إذ المجنون هو الذي يُنتجُ فكراً بغير معطيات التفكير بينما جنونُ الفكر فكرٌ ينتجُ بمعطيات التفكير. الفرق بين الفكرِ وجنون الفكر أن الفكر ينتجُ باجتماع معطيات التفكير بينما جنون الفكر ينتجُ من انفصال معطيات التفكير(1). لذلك لا نقول عن فيلسوف "نهاية التاريخ" أنه مجنونُ الفكر بل نقول عن فكرِ فلسفته أنه فكرٌ في جنون الفكر. فكر فلسفة "نهاية التاريخ" فكرُ رؤية في الحاضر ليس فكراً في أيديولوجية الحاضر. لو كان فيلسوف "نهاية التاريخ" مفكراً في فكر أيديولوجي لكان اهتدى إلى التفريق بين فكرِ الحقيقة في الأيديولوجيا من الفكر المريض فيها. فكر الحقيقة هو ينبوعُ الحيوية في أي أيديولوجيا، حتى الديمقراطية أسخف أيديولوجيات التاريخ. الفكر المريضُ هو الفكرُ الذي يذوي في أقنية الصرفِ النفسي في التاريخ. فلاسفةُ "نهاية التاريخ" في فكرهم لا يفصلون بين فكرٍ مريضٍ وفكرِ الحقيقةِ، ليس لعجزٍ عضوي فيهم ولا لقلة في معلوماتهم أو عدمِ قدرةٍ على الغوص في أعماق الفكر. لا يستطيعون لأنهم لم يتعرفوا غلى مقياس الأفكار. لم يحتاجوا يوماً للاهتداء إليه. كانوا
__________
(1) انفصال معطيات التفكير غير غيابها. انفصال المعطيات يشكل معطيات للتفكير وهو طريقة إنتاج معظم الأفكار الشاذة عند أي فرد.(1/22)
دائماً يثرثرون وحدهم، صدَّقوا أنهم ينتجون فكراً، وهو كذلك، لكن أي نوع من الفكر ينتجون؟ هم لا يعلمون. غيرهم لم يأبه بفكرهم. ظلوا ينتجون فكراً دون أن يبحثوا في جنس الفكر. برعوا في معرفة علوم الأرض والآلة وكل معارف العلوم. كان من الطبيعي أن يبرعوا في معرفة قواعد إنتاج الفكر ومقياس صحة الفكر. براعتهم في العلوم أعمت بصيرتهم عن حقيقة مفارقة استنتاج الأفكار بالطريقة العلمية عن التوصل إلى الفكر بالطريقة العقلية للتفكير. تخلوا عن التفريق في طريقة إنتاج الفكر أولاً وهو أخطر انزلاقٍ عقلي في عملية الفهم. هذا يمنعهم أبداً، مهما حاولوا، من الاهتداء إلى مقياس الحقيقة في الفكر، ويمنعهم من القدرة على التفريق في نوع الفكر. غيابُ مقياس الحقيقة في فكرهم انعدام التمييز بين فكر الحياة وفكر العلوم جعل تراثهم الفكري كما هو؛ جبلَ قُمامةٍ فكرية. أفكارهم خليط عجيب تتصادم بالتقائها، تتعفَّن في افتراقها، تأباها نفس الإنسان في فطرتها، يرفضها حتى الحيوان بطبيعته. لا يستطيع العيش بها إلا الذي لم يفهم طبيعة النفس في الإنسان، ولم يفهم طبيعة الفكر في الحياة. هو ليس إنساناً ولا حيواناً. هو ديمقراطيُّ أميركا، والأوروبيُّ الذي يلحقُ نجاستها الفكرية مع غيره من الذين لم يهتدوا إلى رسالة الحياة فيهم ولا إلى رسالتهم في الحياة.(1/23)
من هذا "الجبل"، جبلُ القمامة الفكرية قام مثقفون، سياسيون، عظماءُ في تاريخهم. في عصر الحاضر تنادى منهم مثقفون، في تعدادهم ستون. عنهم صدر "بيان المثقفين" إلى مسلمين. لم يحددوا إلى مَنً من المسلمين، ليس في هفوةٍ بل من قصد. بيانهم، اتهامٌ عام لأمة الإسلام، في صيغته يمنع المسلمين من الرد عليه، لأن المسلمين عاجزون بطبيعتهم الثقافية عن مجاراتهم في هذا المستوى في الخداع. في ظاهره، بقولهم، أنه مخاطبة فكرية إلى المسلمين. في واقعه نقول إنه مخاطبة فكرية إلى العموم الأميركي خاصة والغربي عامة. يحدد هذا الواقع صيغة الخداع في فكر البيان. أسلوبهم ليس أسلوب من ينتظر جوابنا ولا من يتوقع جواب غيرنا ولا من يكترث بأي جواب. صيغة المكر الكلامي في البيان تبيُّن أن القصد نشر البيان لا معرفة صدى البيان في تجاوب إيجابي أو حتى في رفضه. كذلك قصدُ البيان في نقاطه الكثيرة أنه يتهم من لا يستطيع الإجابة.
ليس عند المسلمين أي كيان فكري أو سياسي ولا أي منبر إعلامي يستطيع الرد على بيان اتهامهم. أميركا، بريطانيا، روسيا، الهند، يهود ومِن ورائهم ما يسمى المجتمع الدولي، الصرب وغيرهم يقتلون المسلمين كل يوم ولا يوجد في المسلمين جيش يدافع عنهم ولا منبرٌ يعترض على قتلهم. فكيف بوجود مؤهلٍ للرد على بيان مثقفين بثقافة "جبل الثقافة" في أميركا. هذا يثبت أن الاتهام في البيان "الثقافي" ليس موجهاً للمسلمين الذين يقتلهم جيش المثقفين إياهم منذ شهور قبل هذا البيان.(1/24)
قصدُ الاتهام أن يطبع في ذهن العامة في أميركا أن عدم رد المسلمين على الاتهام إثباتٌ أن المسلمين قتلوكم. قصدُ الاتهام في غياب منبر ردِّ الاتهام إثباتُ أحقية مبرر الحكومة الأميركية في قتل المسلمين بدون محاكمة أي مسلم وبدون برهان الإدانة في أي بلد. في هذا البيان مبرر السلطة في اتهام جميع مسلمي أميركا باشتراكهم في حادث التفجير. ومبرر اعتقال الآلاف منهم ومبرر اتهام مئات الآلاف منهم. في الحقيقة هو يبرر تعميق خندق الكراهية للمسلمين. اعتقال آلافٍ من مسلمي أميركا عبر الولايات بواسطة أجهزة المخابرات والأمن والبوليس وكأنهم في هجمة يبحثون عن لحم ينهشونه، لم يكن لتوجيه اتهام لهم بل لتكريس عزل المسلمين اجتماعياً. "بيان المثقفين" في بأسلوب "المثقفين" لكن لا نرى فيه ذكاءهم، في قصده تأكيدُ عزل ثقافة الإسلام عن المجتمع الأميركي. كراهيتهم تفوح بأسلوب مكرهم الكلامي.(1/25)
منه اقتطفت خمسين نقطة فكرية للدراسة بقصد فهم عقلية مثقفٍ غربي خاصة من قلب وعقل الناس الذين اختلطت بهم كثيراً وأحببتهم. كل إنسانٍ فيه طيبة في عقله، نقاوة في مشاعره وطهرٍ في لسانه. عرفت ذلك وأحببته في شعوب كثيرة جداً تعرفت إليها، حتى في الإنكليز غير معدومة رغم أنها بنسبٍ أدنى مما هي في الألماني والسكوتلندي. طيبة الإنسان الأميركي تتميز عن جميع الأجناس، وهو في تعاطفه الإنساني ورؤيته الحياتية وثقافته التراثية يختلف ويتباعد جداً عن سلطة الحكم الفدرالية. والأميركي الذي نتأثر جداً بطيبته ونحترم جداً براءته من كل جرائم القتل الجماعي الذي تمارسه سلطته الفدرالية باسم هذا الشعب الطيب، لا يشمل عصابات الإجرام أو عصابات الإرهاب الفكري في المواضيع العامة. خمسون نقطة فكرية في بيانهم الثقافي درسناها للاستفادة في تفتيشنا عن معرفةٍ ولو ضئيلةٍ في نفوسِ كتبة "بيان المثقفين". معرفةُ النفس في أسهل محاولاتها هو في فهم كلام النفس. لكن فهم الكلام لا يمكن إذا انعدم الوصلُ بين الكلام وفكره. كلامُهم في خمسين من نقاطهم في اتهامهم للمسلمين بكل رذيلة في حضارة الجنس البشري لا يتصل بفكر. صحيح أن في كلامهم فكر، في طبيعة الكلام أن فيه فكر، عندما نقول كلامهم نتحدث عن فكر كلامهم، وهو الذي لا يتصل بفكر.
إذ فكر الكلام يحتاج إلى مصدر حتى يكون فصيحاً في معناه وقصده. الكلام، فكر الكلام، إذا لم يرتبط بمصدر الفكر، يكون كلاماً لقصدٍ فقط، هذه لغة المتآمر، المنافق، المثقف بثقافة الكذب لا بثقافة الأميركي الطيب. مثقف بثقافة فاشيةِ الاستعلاء على شعوب الأرض، ثقافة السلطة الفدرالية الأقوى بين عصابات حكم الشعوب، ثقافة مثقفين مثل هؤلاء.(1/26)
لا يوجد كذابٌ يعترف أنه كذاب، في محاولة فهم مبرر الكذاب في كذبه لم أجد كذاباً يصدق أنه كذاب. الكذابُ من الناس تراه دائماً يبرر كذبه بحجة تقنعه، وقد تقنع كثيرين ممن يناقشونه في كذبه، أنه في كذبه لم يقصد كذباً! من سذاجةٍ وطيبةٍ كنت دائماً اصدق رئيس أميركا الفدرالي!
كنت أصرُّ على مَنْ حولي أن بيلي كلينتون طاهرٌ في ذيله. كانوا يسخرون من تبرئتي ويقولون إذا كان نجساً في عقله كيف يكون طاهراً في ذيله؟ كنت أرجوهم أني لا أحتمل الاعتراف أن أحداً يستطيع أن يؤذي الزوجة هيلاري في رؤيتها الحياتية، في عنفوان أنوثتها وفي حيوية قلبها.(1/27)
كانوا يعرفون أني أخاف من الاعتراف بكذب رئيس أميركا حرصاً على الصرح العائلي الذي أحبته السيدة هيلاري(1). خوفي كان على أحلام سيدة أن تحطمها خيانةُ زوجها في صدقية الحياة، في أقدس نواميسها في غير حضارة الديمقراطية، حضارة "المثقفين الستين". حضارتهم في أرقى درجاتها الاجتماعية وعلو طموحاتها الإنسانية كما وصفها أحد أشهر مصممي الأزياء عندهم أن تكون حضارة استبدال اللباس الخارجي باللباس الداخلي!
من هذا المنطلق والمنظور في الطموح الحضاري وقفَ مثقفو أميركا مع الرئيس الذي أصرَّ أن يكون حضارياً في التعامل مع السروال الداخلي أنه السروال الخارجي، حتى يكون السابق الأول في حضارة أميركا الحاضر.
__________
(1) - نكتب عن السيدة الأولى ونحن لا ندري إذا كانت من المثقفين الستين الذين اجتمعوا على نفاق وكراهية للمسلمين. أما إذا كانت فرأينا السابق بها لا يعارض رأينا الحالي في هؤلاء "المثقفين". نحن نجد شراً من اجتماع مثقفي التضليل وفي رسالتهم الفكرية، لكن في كل فردٍ منهم طيبة خاصة وهو يطعم كلبه. وفي كلٍّ منهم عُمق حضاري حتى وهو يكذب على نفسه وعلى غيره دون قصدٍ في ذلك الكذب. دون قصد في الكذب لذاتِه أو في معنى القول. نحن ننزه أيا منهم عن الكذب العمد في فلسفته، فقط في هذا البيان "بيان المثقفين" نتهمهم بالكذب العمد. لذلك، حتى لو كانت السيدة "سابقاً" منهم اليوم، فإننا نستمر في احترام ضياعها في الحياة ونحتقر ممارستها فِعل ترسيخ كراهية ناس أميركا للمسلمين والإسلام. لكن حتى اليوم لا نظن أنها تقبل أن تكون من مثقفي أميركا في ثقافة الخداع الفكري للنفس الإنسانية ومنها بالطبع أو على رأسها النفس الأميركية في المزرعة والمصنع وخلف مقود السيارة لكن ليس بين جدران الكهف الأبيض.(1/28)
موضوعُ الفكر في حضارة السروال الداخلي ليس في موضوع المحافظة عليه كقضية حضارية غربية جديرة في العرض والبحث. نحن نعلم أنه لا يوجد مَنْ يمكنه إعلاء صوته بمعارضة حضارة استبدال الألبسة. نعلم أيضاً أنهم في فكرهم الحضاري يريدون التخلص من سروال أي فضيلة في طبيعة إنسان ابن آدم ليلتصقوا بطبيعة مَنْ ليس له سروال كالكلب والذئب. موضوع الفكر في حضارة السروال التحتي هو قلب ميزان الحقيقة رأساً على عقب في قولِ العقل. لا يمكن لقولِ العقل أن يخرج من لسانٍ أو قلمٍ أو فعلٍ إلا بعد وزنه بميزان الحقيقة في ورشة تجميع فِكْرِه أو أفكاره. لذلك، نحن نصدق مع مثقفي أميركا قول الرئيس إنه عندما كان يتعامل مع غير زوجته كما يلزم ويباح له مع زوجته كان يعالجها جسدياً حتى يفرِّج اضطراباتها النفسية. هم صدقوه، زوجته صدقته وابنته، حتى وزيرة خارجيته صدقته! كذا فعلتُ أنا. لكن ما علاقة تصديق المثقفين بحقيقة الموضوع؟ الموضوع ليس أن نصدق الرئيس، الموضوع هل زنى الرئيس أو لا؟ هل كذب الرئيس أو لا؟ هل هو من أتباع حضارة الرذيلة أو لا؟ ماهية الجريمة في هذا الموضوع هو موضوع الفكر في أي جريمة ومنها جريمة هكذا مثقفين في هكذا بيان.(1/29)
حديثنا ليس في موضوع رجلٍ يخون زوجته في أقدس نواميس الحياة حتى لو كان رئيساً لأقوى دولة في القتل والكذب لكن ليس في المكر والخداع(1). ما زالت غيرها الدولة الأولى العظمى في المكر والخداع ترفض بل تمنع غيرها من مجاراتها مهما كانت قوته، أو غطرسته مثل أميركا. حديثنا في مثقفين انقلب في جماجمهم ميزان الحقيقة رأساً على عقب، ليس بإرادةٍ منهم بل بممارسة برروا فيها لأنفسهم معالجة المسلمين من اضطرابهم النفسي باغتصاب عقولهم. رئيسهم في علاجه النفسي يغتصب الجسد، هم في المسلمين يغتصبون العقل. أيهم أكثر إجراماً ليس موضوعاً عندنا في هذا اليوم الذي كثر فيه غبارُ كذب المثقفين بحضارة السروال التحتي الديمقراطي. موضوعنا برهان فرض الكذب أنه حقيقةً إذا قاله مثقفون بكراهيتنا. موضوعنا هو انقلاب ميزان الحقيقة في جماجم مثقفين(2)، وهو برهان الضلال والتضليل في جميع أفكارهم الحضارية.
__________
(1) ـ لن نتطرق هنا إلى البحث في تفريق معنى المكر عن الخداع لأنه يبعدنا عن موضوع البحث، لكن من يرد معرفة دقائق المعاني يمكنْه دراسة بداية تاريخ بريطانيا في القرن السابع عشر وما بعده…
(2) دراسة بيان "الستين" بأفكاره تدل بإشارات كهروهيلية وليس كهربائية ـ أنهم لا يملكون رؤوساً بشرية كما نعرف رؤوسنا. الصورة الفوتوغرافية تثبت وجود رؤوسٍ فوق أكتافهم، لكن هذا لا يتعارض إذا عرفنا الفارق بين مقومات كيان الرأس ومقومات الجمجمة. المقاييس في العظام هي نفسها لكن الموضوع في الأجهزة. إذا فقدت أجهزة الرأس عفوياً أو إرادياً دورها يتحول الرأس في الحي إلى دور الجمجمة في الميت، لذلك كان إصرارنا أنهم أصحاب جماجم وهم أحياء، أي كأنهم جماجم حية.(1/30)
رسالتنا هذه في "مؤامرة اختطاف العالم" ليست منبراً للرد على "عباقرة" ثقافة أميركا أو "أقزام" الثقافة في منبر الحقيقة أينما وُجد إنسانٌ ينعقُ بما لا يسمع. لكننا في رحلة النظر إلى عجائب الكذابين في دنياهم، دنيا الكذب، نتوقف بل نترجَّل للتأمل في وِكْر الكذابين على طريقة غشِّ ميزانِ الحقيقة في وكرِهم. وِكْرُ الكذاب هو وِكْرُ الصادق لأنه وِكْرُ الإنسان(1)!
من وِكْرِ الرذيلة الفكرية عند "المثقفين الستين" جاء في الفقرة الثانية أو الأولى بعد المقدمة ما يلي:
إننا نشدد على خمس حقائق أساسية تتصل بكل الناس من غير تفرقة:
1 ـ إن البشر يولدون متساوين في الكرامة كما الحقوق.
2 ـ الشخصية الإنسانية هي العنصر الأساسي في المجتمع. وتكمن شرعية دور الحكم في حماية هذه الشخصية والمساعدة على تأمين فرص التفتح الإنساني.
3 ـ يرغب البشر بطبيعتهم في البحث عن غاية الحياة ومقاصدها.
4 ـ حرية الضمير والحرية الدينية من الحقوق التي لا يمكن انتهاكها في الشخصية الإنسانية.
5 ـ القتل باسم الله هو مخالف للإيمان بالله وهو يعد خيانة عظمى لكونية الإيمان الديني.
بناءً عليه، فنحن نحارب للذود عن أنفسنا، ودفاعاً عن هذه المبادئ الكونية. انتهى
__________
(1) اختلف المثقفون ـ طبعاً مثقفو حضارة الغرب الوثني، المسيحي والديمقراطي ـ في موطِنِ هذا الوكر في جغرافية الجسم. بعضهم قال ببرهانه ـ برهان الجاهل ـ إنه في القلب. آخرون قالوا ببرهانهم ـ برهان الافتراض ـ إنه في العقل. بعض آخر قال ببرهانه ـ برهان الذي يحب ويكره ـ إنه في الاثنين معاً. نسمعُ أقوالهم في جميع قواعدهم الفكرية والنفسية لكننا مع كل قراءة جديدةٍ لمقولةٍ منهم نزدادُ ازدراءً لجهلهم في حقائق الإنسان. حتى وِكْر الذات يربطونه بجغرافية الجسم بدل أن يهتدوا إلى موطنه في جغرافية النفس.(1/31)
مثلهم، درسنا هذه الأفكار في الجامعات. يومها، كانت تتملكنا عبارات إنشائية مثل هذه. عندما كنا نترك عاماً أو فصلاً دراسياً للدخول في فصلٍ جديد كنا ننظر وراءنا لنتفحص من سيحل محلنا. كنا نريد أن نتعرف إلى مَنْ سيلحق بنا في الارتقاء الفكري. لم نكن، في الجامعة، ندرس أهمية المقدمة الفكرية عند الكذاب والمخادع والمتآمر. كنا ندرس أفكار هذه المقدمة كما وردت أعلاه بذاتها ولذاتها. ليس بقصد الثراء الفكري والتباهي بالرقي بل للالتزام السلوكي. بعد أن تركنا "الكباريه" الفكري وأصبحنا في المجتمع نغوص تدريجياً في قول وفكرِ عملِ السياسي والتجاري والحقوقي بفكر المقدمة الفكرية اكتشفنا الحقيقة التي لا ينكرها اثنان في أي مجتمع من مجتمعات السوق(1). اكتشفنا أولاً حقيقة الجامعة التي تتفاخر الدول ببنائها وهي أنها كباريه فكري وليست صرحاً فكرياً كما كنا نعتقد ونحن نرتادها. واكتشفنا ثانياً حقيقةَ أن فكر الإيمان الكوني أو الحقائق الخلقية الكونية أو قوانين الطبيعة قد علمونا إياه ليكون فكر المقدمات عند السياسي منا، والتاجر ومغتصب الحقوق والعقول.
__________
(1) - عندنا بالتأكيد أمثال المثقفين الستين من شخصيات مجتمع السوق لأنهم بثقافته يكونون مثقفين بارزين "فلاسفة" وإلا يكونون منبوذين مطاردين متهمين ليس في سلوكهم أو عملهم بل في عقلهم. تماماً كما يحاول هؤلاء الستون وحكومتهم أن يفعلوا بالمسلمين الذين يتمسكون بثقافة الإسلام وهم في مجتمع ذباب الثقافة الستين.(1/32)
الصادق لا يحتاج إلى مقدمة لقوله أو فعله، هذا واضح عندي وعند الكذاب وعند مغتصب العقول وكل فرد في مجاله. لا يحتاج إلى المقدمة الفكرية إلا الذي يحاول تنويم العقل بالإيحاء الفكري بدل التنويم المغنطيسي(1). عندما يريد المخادع أن يصل إلى أن يطمئن المخدوع إليه يحاول محاولات كثيرة، لكن ثبت أن أقصر الطرق هو دغدغة الآخر بما يحب في أحشائه. إنسان سوق اليوم، إنسان أميركا، إنسان ثقافة الستين هؤلاء، في أحشائه يبقى إنساناً من نسل آدم؛ بفطرة الإنسان. في هذه الفطرة بذرة الفضيلة خلقها الله في كل إنسان تطفو مظاهرها أحياناً وتخبو أخرى بحسب قدرة العقل الفاسد على كتم أنفاسها. الإنسان بفطرته التي فطره الله عليها(2)
__________
(1) - العقل عند قسم كبير من فلاسفة الديمقراطية هو أنه من حقلين: الوعي واللاوعي. بعضهم يجعل حركة اللاوعي في الفرد أقوى من حركة الوعي. هنا في تنويم العقل نقصد مجالهم الثاني أي إبطال الحركة في مجال اللاوعي العقلي. نقول هذا بمصطلحهم الذي هو عندنا سخف فكري كمعظم معارفهم الفلسفية. لكن اخترنا هذا التوضيح لسبب مهم: عندهم عقل الوعي له قواعد ولذلك يستطيعون التلاعب به. أما في حقل عقل اللاوعي فلا يوجد له قواعد يفهمونها؛ لذلك حتى اليوم لا يستطيعون التلاعب به أو فيه. من هنا أكثر أفكارهم جرأةً في الصحيح والموهوم تأتي من فلاسفتهم في هذا الحقل ، لأن تلويث هذا الحقل صعب بل مستحيل عند فلاسفة في فلسفة لا تعرف حقيقة الذات في الفرد.
(2) - كثير من فلاسفة الغرب يعتقدون ـ بعد النظر في المرآة ـ أنهم حيوانات أو زواحف أرضية. لقد اهتدوا ـ بمقاييس البرهان عندهم ـ إلى أن أول أجدادهم حيوان. اختلفوا في جنس الحيوانية التي منها ينحدرون. بعضهم برهن ـ لنفسه ـ أنه من حيوانات الزواحف. بعضهم نجح في البرهنة ـ من أجل ذلك منحته الجامعات أوسمة الشرف في الإبداع الفكري ـ أنه من حيوانات ذوات الثدي البحري. بعضهم برهن على أنه من ذي الثدي البري. وغير هذا من السخيف في مقولته، ولكنه واقعياً عند مَنْ حاولَ أن يفهم الصورة في المرآة.(1/33)
، يحب الحديث عن الفضيلة وتستثيره أفكارُ القِيَم الروحية والخُلُقية وحتى أفكار القيمة المادية. من هذه المعرفة بالنفس بدأ فن المقدمة الفكرية يتشكَّل. بدأ أساساً ـ عند المفكرين الديمقراطيين ـ لتبرير الاستنتاج الذي لا تقبله النفس وليس العقل. شروط قبول العقل للفكر غير شروط قبول النفس. لهذا، قواعد التلاعب بالنفس غير قواعد التلاعب بالعقل. في إنسانِ عقلٍ ضعيف قد يكون نفساً قوية، كما في إنسانِ نفسٍ ضعيفة قد يكون عقلاً قوياً. قد يتساويان، لكن التلاعب بالعقل هو غيرُ التلاعب بالنفس. هذا ليس موضوعنا لكن التطرق إليه بهذا الإيجاز ليس شططاً في كلمات. لا يمكن فهم الخداع في مقدمة الستين من دون هذا التوضيح.(1/34)
نرجو القارئ أن يعيد قراءة مقدمة "المثقفين" في تبرير قتل المسلمين وتأسيس قواعد حربية واستراتيجية ومخابراتية في معظم بلادهم. نذكِّر القارئ الكريم في عقله إن الذي يقول هذا التبرير هم "المثقفون" الفلاسفة الذين يديرون لعبة الأفكار في الأمة الأميركية. هم الذين يصوغون فكر الحياة لهذا الشعب الذي نراه ما زال يتشبَّث بقِيم فطرة الإنسان في ذاته. ندعوه لقراءتها بتمعن وتروٍّ حتى يتأكد أنه يحبُّ معانيها ويتمنى العمل بها ويتفهَّم أفكارها كما فعلنا نحن. لأنه إذا وعى حقيقتها، عندها يربطها بجملة أخيرة ملحقة بها "بناء عليه..." يدرك أنها ليست الفكر الذي يحبه ويقتنع به ويتمناه بل هو قول تبرير الجريمة في قتل المسلمين واغتصاب عقله قبل اغتصاب بلاد المسلمين. عندها، في ربط المبرِّر بالفعل يدرك أن مقولة الفكر الذي يتمنى العيش به هو مقدمة فكرية لتنويم العقلين فيه: عقل الوعي وعقل اللاوعي. في ربط فهم انفصال فكر المقدمة عن جنس الحكم الصادر عن المثقفين في وجوب قتل الإنسانية(1) في المسلمين يمكنه أن يفهم المحاولة المكشوفة في دغدغة القِيَم الدفينة في
__________
(1) - في قانون طبيعة الإنسان أن من يستطيع قتل فرد يمكنه أن يستمر في القتل، لأن الامتناع عن القتل يتعلق بالقناعة الفكرية في مبرر القتل لا بقدرة الطبيعة على القتل. لهذا في طبيعة الموضوع أن من يقتل إنساناً عدواناً أو لأمر لا يستحق القتل هو كمن يقتل عشرة أو أكثر لأنه تخلى عن القانون الطبيعي للقتل. وهو كمن يزني مرة أو أكثر ارتكب الجريمة المحرَّمة بعينها. وقد أثبت الله في كتابه الكريم "القرآن" أن من قتل نفسا بريئة كمن قتل الناس جميعاً لأنه قتل الطبيعة في نفسه التي تلجمه عن القتل. قتل الطبيعة التي يمكن قتلها بدون مبرر هي طبيعة عامة في كل كائن مخلوق إنساناً أو حيوانا. لذلك واقع أميركا في قتل المسلمين بدون مبرر ترضاه أدلة الجريمة أنها تقتل الإنسانية لا المسلمين وحدهم.(1/35)
إنسان أميركا للسيطرة عليه في نفسه. السيطرة على نفس الآخر لا تأتي إلا من خداع النفس أو خداع العقل. النجاح في خداع نفس الآخر يؤدي إلى تغييب دور العقل فيه. النجاح في خداع عقل الآخر يؤدي إلى اغتصاب النفس فيه.
في انتقاد هؤلاء المثقفين كثيرون أسهبوا في تفصيل تاريخ الحكومة الأميركية الحافل في قتل كل شعب وكل فردٍ تمسك بأي حقيقة من هذه الخمس. لقد أذهلنا ذخر إنسانية حكومات أميركا. أذهلتنا حروب أميركا في جيلنا في قتل الإنسانية في كل شعب. أذهلتنا مقدمة المثقفين في آخر موجات قتل الإنسان أكثر مما أذهلنا تصميم الحكومة الأميركية على قتل كل مَنْ يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأكثر مما أذهلنا قتل الجيوش الأميركية للإنسان الفرد منذ نصف قرنٍ في مسيرة قتلٍ متواصلة دون مبررٍ من مثقفين. أيقظنا من ذهولنا صوت مؤذِّن الصلاة(1)
__________
(1) مؤذن الصلاة هو نداء الصلاة يعلو به صوت مسلم يدعو إخوانه المسلمين لمشاركته صلاة التعبد إلى الله خمس مرات في اليوم. في هذه الصلاة يقرأ المسلم آيات قرآنية محددةٍ من الله ويقول بأدعية الاستغفار لذنوبه أيضا محددة بنصها. ينتصب، ينحني، يسجد ويقعد، كلها حركات محددة بالشكل والتتالي. كل حركة ترتبط بقول من أقوال التمجيد لله التي في مقصدها عهد تجديد الولاء بالطاعة لله والإخلاص بالتزام أحكامه في مسيرة الحياة وتصرفاته. وتجديد عهدٍ لله بتركِ السوء الذي عرَّفه أو أدانه القرآن، والسعي بالفضيلة في كل عمل وظرف.(1/36)
. أيقظنا من قراءة الخاطر في سجل حروب أميركا القوية التي لم تحتجْ يوماً ولا مع أي خصم إلى تبرير تدميره ولو بحجة غير موضوعية وغير واقعية. لم تحتج أميركا القوية بل الأعظم في قوتها إلى مجلس مثقفين من أثقل عيارٍ محلي وعالمي يبرر لها قتل فئة واحتلال بلاد مئات الملايين من البشر. الرابط بين الحقائق والمبرر غير موجود. الرابط بين فكر الحقائق الخمس وبين فكر إجراء الحرب فلسفياً، موضوعيا وفي غايته غير موجود، مفقود. بل الفكران منفصلان كلية في طريقتيهما وإجراءيهما وغايتيهما. لماذا احتاجت أميركا إلى تبرير حربها على المسلمين من مثقفين وهم الفئة التي في طبيعتها لا علاقةَ لها بالحرب؟ ثلاثة أسباب رئيسية نستعرضها، وغيرها مما يزيد عن ذلك فروع عنها لن تتطرق إليه نترك لخصوبة عقول غيرنا الإسهاب فيه:(1/37)
1 - قضية البيان ليست قضية حربٍ لقتل المسلمين فلو كانت هذه غاية أميركا الحقيقية فإن تبرير الحرب له قنواته ومؤسساته الرسمية فقط. لم يحصل في أي حرب أن استنفرت فئة المثقفين عقولها بصياغة تبريرٍ لحرب وكأنها هي صاحبة القرار في إعلان الحرب وقيادة الجيوش. ثم، ماذا يشكل هؤلاء الستون من بحر المثقفين الأميركيين؟ فجأة يلتقون، يصوغون بياناً، يوقعونه ويعلنونه وكأنهم هم القائمون على الأمة الأميركية ومؤسسة الحكم الأميركي. في هذا دليل على أن مؤسسة الحكم دعتهم بأشخاصهم للاجتماع والتوقيع على البيان. لكن لا يوجد أي دليل على أن الأمة الأميركية دعتهم للاجتماع أو فوَّضتهم عنها في هذا الإعلان. هذا لا يعني أنهم يخونون أمتهم عندما يتحدثون باسمها، ولا يعني أننا نفترض أن هناك معارضة عارمة أو غير عارمة لبيانهم. لكن ترتيب الحقائق يلزم في فهم أي موضوع فكيف بأمرٍ بهذه الخطورة وهذا الخبث في إخفاء حقائق الموضوع. هذه الحقائق تثبت أن قضية البيان هي غير قضية الحرب. القضية الحقيقية في البيان أوضحها البيان بما يزيد عن عشرين موقعاً بصيغٍ فكرية متعددة. لا نستطيع تعدادها لأن ذلك يخرج الكتاب عن حجمه، لكن نأخذ ما يكفي منها في وضوحها وتعبيرها:(1/38)
يعددون قيمهم ويجعلونها قيمُ الأمة الأميركية ومؤسسات الحكم في أميركا(1) ثم يقولون عنها: "بالنسبة إلينا، إن العنصر الضارب في هذه القيم هو أنه يمكنها أن تنطبق على كل الناس". وفي آخرِ بحثِ موضوعِ فرض قيمهم يقولون: "...وهو يقدم بذلك قاعدة ممكنة لما ننشده من مجتمع عالمي يستند إلى السلام (بالخضوع لقيم أميركا) والعدل (بين عبيد الطاعة لأميركا)(2). بين قيَمها الافتراضية والتي جعلوها مبرراً لقتل المسلمين واحتلال بلادهم وبين خطتهم في إيجاد مجتمع عالمي بمواصفات سلمهم وعدلهم يضعون جسراً بين القيم التي أصبحت أميركا بين عشية وضحاها تمتلكها وتقنع بها وتمارسها، وبين المجتمع العالمي الذي بسبب أنها تدعو إليه تفرض على كل دولةٍ منفردة الإذعان بفتح مجالها الأرضي والجوي والبحري ليكون قاعدة لارتكاب الجريمة الأميركية في شعب الدولة وجيرانها، وبفتح خزائن ثرواتها للنهب والخضوع المطلق لمصالح الشركات الدولية. تفرض حضارة أميركا التي تمارسها وتعيش بها لتكون الأنبوب الذي به تنتقل القيم التي اكتشفوها عشية بيانهم في 12/2/2002 إلى كافة البشر في المجتمع الدولي الذي يريدونه لخير المسلمين. عفواً، ليس لخير المسلمين فقط بل لسكان أوروبا أيضاً(3)
__________
(1) الذي يقرأ إيضاحهم لهذه القيم تثور فيه عصبية الإهانة، كأنه تلقى صفعتين من كفين على الخدين في آن واحد. لكنه سرعان ما يتذكر أن الذي يصفعه هم "صفوة" مثقفي الغرب في زمن هذا الشقاء الإنساني. عندما يتذكر ذلك يدرك أنها لم تكن صفعتين على خديه بل استهانة مزدوجة الحدين: استهتار به كإنسانٍ يمكنه أن يفهم، واستهتار بحقه كإنسان أن يرتبط بقيم تراثه لا بقيمٍ يكذبون بها على غيرهم. عندها يرى أن الصفعتين ليستا له بل لجميع أجناس البشر، عندها يحزن أو ينفجر.
(2) - ما بين الهلالين ليس من نص البيان بل كلام توضيحي اقتضاه مصطلح السلم والعدل في هذا البيان.
(3) - لم نذكر بقية سكان الأرض من الروس وأهل الصين لأن أميركا لم تعد تعاملهم كبشر. في اعتقاد أميركا أن البشري يجب أن يكون له قضية في الحياة حتى يصنَّف أنه بشري وهذا صحيح لأنه شرط في طبيعة الحياة وفي طبيعة الإنسان وهو بحث لن ندخل فيه هنا. لذلك، بعد أن نجح يلتسن في حبس أمة الروس بالمرحاض ونجح بوتين بإغلاق باب المرحاض لم تعد أميركا تنظر إليهم كبشر. أما بشر الصين فموضوع سقوطهم من قطار الجنس البشري قصة متعددة الجوانب لن نخوض فيها أيضاً هنا.(1/39)
. يقولون لنا فقط السر في خلاصنا، ليس للأوروبيين حتى لا يتذكر الأوروبيون أن أميركا سرقت هذا الكنز(1) منهم. يقولون: "نعترف بالطابع الناجز لحضارتنا".
موقعٌ حضاري آخر هو قولهم: "إن ما يميز نشاط الإنسان هو تلك القدرة على التقويم والاختيار وامتلاك تعليلات تفسر اندفاعه وراء ما يطمح إليه أو يحبه. وجزء من هذا النزوع الرغبوي إلى التعرف يتناول الاستفهام عن سبب مجيئنا إلى هذه الدنيا، وعما سيحصل بعد مفارقتها. وهذا ما يقود إلى البحث عن حقيقة الغايات النهائية؛ ما يعني بالنسبة إلى كثيرين، طرح مسألة الله." بعد طرح قيمهم والمجتمع العالمي الذي يسعون إليه وحضارتهم عبّارة القيم للإنسان في الحظيرة الأميركية التي يسمونها "المجتمع الدولي" يقررون في جواب الغايات النهائية للإنسان في حياته وموته أنه يجب أن يصدق ويعتقد ويعيش لأنه يكفيه أن يرضى بقاعدة فصل الدين عن الدولة(2) أو فصل "مسالة الله" عن ممارسته الحياتية. ثم
__________
(1) - وصف حضارة أميركا والغرب الأوروبي بأنه كنز وصفٌ كذب واضح في غشه. وهو كمن يقول عن الكذاب إنه صادق لكن بين مزدوجين، لا يقوله للكذب بل بأسلوب قول المراد بالمحال وهو من صيغِ الاستهزاء الأدبي.
(2) - في مخاطبة المسيحي يستعملون لفظ فصل الكنيسة عن الدولة، لأن واقع الثورة كان على ظلم الكنيسة أو أحبار الكنيسة للناس في فرنسا وغيرها، لم تكن الثورة ثورة على فكرة التثليث بل على الذين يستغلون سلطة الغفران والحرمان في التسلط على أرواح وأرزاق وسلوكيات الإنسان في ألمانيا وغيرها. لكن عندما يخاطبون المسلمين يستعملون "فصل الدين عن الدولة"، وهو يعني فصل الدين عن الحياة. عند المسلمين هذا يعني التخلي الجزئي والكلي عن جميع أفكار الإسلام لأن فكر الإسلام هو فكر للحياة التي يكون الموت جزءاً منها أي من الحياة. لا يوجد في الإسلام فكر للحياة منفصلةٍ عن الموت، ولا يوجد فكر للموت منفصلٍ عن الحياة، بعكس الفكر المسيحي.(1/40)
يبحثون في خُلقِيّاتٍ لسانية(1). نسميها كذلك لأنها أبحاث ليس فيها فكر عندهم، عبارات خلقياتهم كعبارات الذي يفتش عن شيء ليصفه. ليست أبحاثا فكرية في عبارات بل عبارات في أفكارٍ بدون بحث. هذا ما يبدو في عرضهم للخلقيات وهذا سببه جوهري وليس تدجيلياً أو من جهل. نحن نتحدث عن طريقة صوغهم أبحاثهم الخلقية وليس في طريقة بحثهم الخُلُقي بل في صياغته فقط. الخُلقيات عندهم هي السلوك العملي في تبرير الفعل، لذلك تكون خُلُقياتهم هي مَرْكَبَةُ أو وسيلة نفاقهم ومؤامراتهم ومادة غدرهم بغيرهم. لهذا هي ألفاظ وصفية وليست أبحاثاً فكرية. البحث العلمي عندهم لتطوير معادلة يقتلون بها غيرهم أو يزدادون بها كسباً بسبب جهل غيرهم لهذه المعادلة. كذلك أبحاثهم الفكرية في الخلقيات أبحاث لإنتاج مبررات للغدر بغيرهم. لذلك يجعلونها مبرر القتل عندما يقولون: "باسم المبادئ الخلقية الإنسانية العامة وبوعي كامل لقيود ومتطلبات الحرب العادلة، نؤيد قرار حكومتنا ومجتمعنا باستخدام حد السلاح ضدهم". وصف حربهم بأنها "الحرب العادلة" هو مثال واقعي لخلقياتهم في إيجاد صفةٍ للموصوف. ليس ألفاظ خُلقيات عن أفكارٍ خُلقية. هذا لا يمكن تحديده إلا من تناقض أقوالهم في الخلقيات. عندها فقط يمكن معرفة أو تمييز خُلُقيات الفكر وهي خلقيات يتوصل إليها الإنسان بالبحث الفكري لتكون جزءاً من معتقده الحياتي، عن الخلقيات اللسانية التي يحتاج إليها في غدره بعقل غيره.
__________
(1) - بعض الزواحف تصطاد بمعنى تغدر بفريستها بلسانها الطويل ميزها الله بسرعة حركة عضلاته. وهذا هو الدور الرئيسي لهذا اللسان فيها. عند الأميركي السياسي والمثقف وليس الفيلسوف الأوروبي دعوة الأخلاق هي عنده وله كلسان هذه الزواحف لاصطياد فريسته في غفلتها عن هذا العضو القاتل. لذلك نسميها خلقيات لسانية وليس لفظية. إذ دور اللفظ باللسان غيرُ دور الغدر باللسان. لكلِّ دورٍ أحكام وقواعد مفارقة وخاصة.(1/41)
من فهم الربط التبريري في مواقعه الفكرية نكتشف أن السبب الأول في إصدار هذا البيان ليس تبرير الجريمة الدموية للجيش والسياسيين الأميركيين. الهدف الرئيسي يكمن في الحكم على المسلمين بالإفلاس الإنساني من أي قيمة نفسية ومن أي فكرٍ حضاري. هو من أجل أن يفرضوا على المسلمين أن يصدقوا أنهم بشرٌ مفلسون(1). كما الإفلاس المادي يقضي على كيانٍ فردي، مادي أو سلطوي في دولة، كذلك إفلاس الفكر الحضاري يقضي على كيانٍ فردي، اجتماعي أو حضاري في أمة. سبب حرب أميركا على المسلمين يكمن فهمه في معرفة غاية القتل الجسدي والمادي للمسلمين. سبب التبرير الحضاري في بيان المثقفين لقتل المسلمين يكمن في فهم غاية فرض الإفلاس الحضاري على المسلمين ولو بتلفيق تهمة الإفلاس وتزوير برهانه وتنفيذ حكمه بالقوة القاهرة. الغايتان في معنَيَيْهما يتوحدان عندما يتحقق استسلام المسلمين حضارياً باعترافهم بإفلاسهم الحضاري ويخضعون لأفكار المقدمات الحضارية الأميركية أو الغربية أو أياً كانت. بيان المثقفين محاولة حضارية أميركية لهزيمة المسلمين بالضربة الحضارية الخادعة. قضية البيان قضية اغتيال حضاري للمسلمين، ليست قضية تبرير حرب قتل المسلمين.
__________
(1) - إفلاس الإنسان الفرد موضوع فلسفي في مجالين: في عمقه وفي مداه. أخفق الفلاسفة الغربيون عموماً في مداه وهو سبب إخفاقهم في عمقه. سبب ذلك أنهم عدّوا مداه مجالاً واحداً بينما هذا الموضوع يحتاج إلى تحديد مجالات المدى. هم بسبب خلطهم مواضيع الطبيعة الإنسانية - لعدم قدرتهم على تمييز مظاهرها في جذورها - ضاعوا في التفريق بين العمق والمدى أو متى يلزم الربط بين العمق والمدى في الموضوع.(1/42)
ثانياً: اتهام المسلمين ليس فيه برهان ما اقتضى استبدال قوة الرأي العام بقوة البرهان المعدومة. اتهام المسلمين بالقنابل الطائرة كما جاء في فقرات بيان المثقفين ليس له ما يبرره عند أي فئة من فئات أي اختصاص. بمعنى أن فئة المخابرات حتى اليوم لا تصدق أن أحداً من خارجها يمكنه اختراقها والقيام بهذا التفجير دون أن تعلم به قبل حدوثه. كذلك العاملين في الردع الصاروخي، وفي فئة الدفاع الجوي وإدارة الحركة الجوية وفي فئة الهندسة النفاثة والعمرانية وكل مجال. لا أحد يمكنه التصديق ببرهان الحدث، لذلك كان الاتهام بالفرض(1). كل اتهام يحتاج إلى مصدر قوة. قوة الاتهام يجب أن تكون في برهانه لا في حجته. هذا في طبيعته أما عندما يكون اتهاماً مزوراً فتكون قوته في قوة الجهة التي تصوغه. لكن، الاتهام بالفرض ليس له مصدر قوة في طبيعته. حتى يبقى اتهاماً يلزمه الالتصاق بمصدر قوة. هذا الالتصاق إذا نجح في خداع العقل يمكنه حجب الرؤية في بحث برهان الاتهام بنقل البحث إلى حجة الاتهام. كذلك يمكنه الاستغناء عن حاجته إلى قوة الجهة التي تصوغ التزوير في البرهان وهي في هذه الحالة أميركا الدولة وليس المثقفين. حاجة الاتهام الأميركي ـ الدولة ـ إلى مصدر قوة هو سبب بيان الموظفين في صيغته التي جاء بها، يحدد أن الدولة والمثقفين والأميركيين الرعايا هم وراء الاتهام بالفرض. بذلك يستعيضون عن قوة البرهان المعدومة في اتهام المسلمين
__________
(1) - الاتهام بالفرض هو الاتهام بغير برهان، الذي هو غير الاتهام ببرهان مزور. أميركا ـ سلطة الحكم ـ حاولت تزوير برهان الاتهام لكنها سرعان ما تخلت عن تزوير البرهان بعد أن كادت أن تصبح أميركا ـ الكيان ـ تصبح أضحوكة الجنس البشري. بها الناس يسخرون بدل أن تستمر بقدرتها الإعلامية الهائلة على الاستهزاء بهم. لذلك عمدوا إلى الاتهام بالفرض كما يجري قتل المسلمين في احتفال زواج بحجة أنهم يبتهجون ببدء ولادة إرهابي جديد!(1/43)
بقوة الرأي العام المتوحِّد في اتهام المسلمين. هم، "مثقفي البيان" يفرضون أنهم والشعب الأميركي هم الذين اتهموا وأعلنوا الحرب على المسلمين وبذلك قامت القوات المسلحة الأميركية بتنفيذ طلب الشعب وأمر المثقفين للموظفين العسكريين بقتل المسلمين. استبدال قوة الرأي العام بقوة البرهان محاولة يائسة لأنها آخر محاولات خداع مقاييس الحقيقة في الفهم. لكنها أسخف المحاولات لأنها تفقد عناصر الخداع اللازمة في محاولة الخداع. محاولة الخداع تلزمها شروط الخداع أو عناصره. أول وأهم شروط الخداع في محاولة الخداع أن تتلاءم العناصر في أصل الموضوع مع بديله. مثلاً الخداع في البرهان قد يكون في خلط وقائع البرهان بمعاني الحجة، فعناصر الشيئين متلائمة في الموضوع. أو باستقواء معاني الحجة على وقائع البرهان وبذلك تبقى المحافظة على تلاؤم العناصر في محاولة تزييف الحقائق. أو يمكن الاكتفاء بمعاني الحجة وفرضها كبديل لوقائع البرهان، وبذلك يكون الاستبدال بعناصر متلائمة أيضاً. غير هذا كثير في الخداع الناجح وهو الذي يكون واضح الحجة ويمكن تمريره بقناعة من الناس. لكن الخداع السخيف هو الخداع الذي يكون غير واضح الحجة أو الذي يكون جنس عناصر حجته من غير جنس عناصر برهانه. عندها فقط يظهر الاتهام أنه اتهامُ منافق، مخادعٍ، لا يصدرُ إلا عن متآمرٍ يحتاج إلى الكذب في خداعه. الكذب غير الخداع في النفاق. الكذبُ جنس من النفاق يختلف عن جنس الخداع من النفاق. عناصر الكذب غير عناصر الخداع. عدة الكذاب غير عدة المخادع. عندما يختلط الكذب مع الخداع في محاولة واحدة فهذا يعني شيئاً واحداً فقط وهو أن عناصر الكذب وحدها ليست كافية، ولا عناصر الخداع وحدها كافية. لكن اجتماع الجنسين يبقى اجتماع زانيين لا اجتماع زوجين. والفرق بين الاجتماعين كبير وهائل نفترض أن المثقفين يعرفونه رغم أن ثقافتهم تدعو إلى عدم التفريق بين حياة زانيين وحياة زوجين. في البيان(1/44)
الثقافي عنهم أثبتوا أنهم يجهلون الفرق بين عناصر الكذب وعناصر الخداع، ويجهلون الفرق بين اجتماع جنسين للزنا أو في الزواج. هل فعلوا ذلك عن وعيٍ أو عن غفلة أو جهل حقيقي؟ لا ندري ومن الصعب التحديد، غير أنه ليس مستحيلاً بالطبع، لكنه ليس مهماً في نتيجة معرفة حقيقته، المهم أنهم لم يفرقوا. إنهم في محاولة الخداع بحثوا في جمع الكذب والخداع في نتاج يسدون به حاجتهم الحضارية. لم يبحثوا في عناصر الكذب وعناصر الخداع. أعمتهم الحاجة عن ملاحظة الافتراق في العناصر. لذلك كان نتاج محاولتهم في الخداع الحضاري عارياً من أي سترٍ يخفي الخداع فيه. همهم كان استبدال قوة الرأي العام بقوة البرهان لتغطية انعدام البرهان في اتهام المسلمين بالجريمة والإفلاس الحضاري وفرض تصديق التهمة على المسلمين وعلى الأميركيين وعلى الأوروبيين، لكن ليس على إنكليز ولا على يهود!(1)
__________
(1) قد نتطرق في موقع آخر إلى سبب فشل أميركا في فرض تصديق التهمة على الإنكليز وكيان يهود.(1/45)
ثالثاً: الإيقاع بين العقل الأميركي وثقافة الإسلام. برامج فرض كراهية الغربي للإسلام بعيدة في التاريخ إلى ما قبل الحروب الصليبية. تلك الحروب كانت مرحلة من أعمال فرض الصدود عن الإسلام. هذه البرامج بدأت مسيحية وكان يجب أن تنتهي مع انتهاء الحكم المسيحي لكنها الإرث الوحيد الذي تناقلته أيدي ثوار الديمقراطية وعقول فلاسفة الديمقراطية من الإرث الكنسي الذي قامت الثورة بسبب كراهية الناس له. تناقل برامج فرض كراهية الإسلام على الأوروبيين بين سلطة الحكم المسيحي وسلطة الحكم الديمقراطي بكل عناية وحرص كان يجب أن يوقِظَ عقول "المثقفين" إلى حقيقة هذه البرامج. إذ لو كانت برامجَ تتعلق بغايات أيديولوجية لاندثرت هذه البرامج باندحار أيديولوجيتها. ولو كانت تتعلق برؤية اجتماعية لكان يجب أن تغيب مع تبدل الرؤية. ولو كانت تتعلق بفلسفة أيضاً كان يجب أن تتوقف مع توقف تلك الفلسفة عن التأثير في الناس. ولو كانت إرثاً مسيحياً كان يجب عزله كما تم عزل الكنيسة. لكن في الوقائع منذ عزل الكنيسة ومسيحيتها تم تفعيل وتحديث برامج كراهية الإسلام في نفس كل فردٍ غربي. حتى تنجح أنظمة الحكم الديمقراطية في الغرب في فرض كراهية الإسلام على كل أميركي وألماني وإنكليزي وفرنسي وغيرهم في أوروبا، تم دمج تلك البرامج في برامج التثقيف الجماعي. في جميع منابر الإعلام وفي جميع برامج التثقيف المدرسي.(1/46)
برامج فرض كراهية الإسلام على الغربي ومنه الأميركي برامج تتلاعب بالعاطفة ليس بالعقل، لأنه ليس فيها مادة الحجة ولا برهان الحجة. لذلك تحتاج أجهزة الحكم في ألمانيا، فرنسا، إنكلترا وغيرها إلى برامج دائمة ومرحلية ظرفية في إذكاء هذه المشاعر في كراهية الإسلام، لمنع عقل الغربي من التفاعل مع الإسلام. في ساحة صراع الحضارات كانت قواعد الصراع أن هناك فريقين؛ فريق الغرب الأوروبي وملحقاته في ما وراء البحار ومنه أميركا وأوستراليا سلاحه كراهيته للإسلام. وفريق الإسلام، وسلاحه برهان القول والحجة والواقع. من الواضح أن سلاح كل فريق من جنس مختلف. قوة الكراهية تنبع من لهب الحقد الشيطاني. قوة الإسلام تنبع من قناعة النفس في برهان العقل. لا يوجد تكافؤ بالقوى ولا بمدد القوى. الكراهية تعطِّل العقل وتوقد النفس. القناعة تهنأ بها النفس وتوقِدُ العقل.(1/47)
بيان المثقفين عمد إلى هذا الخلل في ميزان قوى فريقَيْ صراع الحضارات. يحاول في محاولة الخداع التي قام بها أن يعدِّل في عناصر القوى. فريق الكراهية للإسلام قصد في محاولته إلى إقناع العقل الأميركي بالمبررات الحضارية لغدر المسلمين بالأميركيين؛ وأن هذا الغدر بالأميركيين جزء من عقيدة المسلمين؛ وأن قتل الأميركيين يبرره المسلمون لأن الأميركيين شاذون جنسياً شاذون فكرياً، يعتقدون الباطل حقاً، يزنون بحرية، ينهبون غيرهم، يسرقون بحرية، يكذبون كما يحلو لهم. وأن المسلمين يختلفون عنهم بمسلَّمات الطبيعة والعقل، إذ المسلم لا يؤمن بالسلم والعدل الذي يؤمن به الأميركي. والمسلم لا يؤمن بالأخلاق الكونية والإنسانية وتلك التي عند الحيوان أيضاً. وأن المسلم يرتكب الجريمة لارتكاب الجريمة، وليس بحاجة إلى تبرير لجريمته. وأن المسلم ليس له غاية في الحياة ولا يبحث في مقاصدها لأنه ليس إنساناً. وهو لا يؤمن بأن البشر متساوون في الحقوق والكرامة، وغير هذا مما يؤثر في اهتزاز ركائز العقل في الأميركي. اهتزاز الركائز يؤدي إلى وقوع البنيان الذي يقوم على هذه الركائز. لكن بنيان العقل لا يمكن أن يقع كما وقع مبنى مركز التجارة العالمي. الإيقاع بين العقل الأميركي وثقافة الإسلام هو مبرر إيجاد الاهتزاز في ركائز العقل الأميركي. رفع مستوى برامج فرض كراهية الإسلام في عقل الأميركي هو غاية الإيقاع بين عقل الأميركي والإسلام.(1/48)
بيان مثقفي أميركا الستين نقبله من مثقفين في ثقافة الغدر بالعقل الأميركي، ليس من ثقافة الأميركي. نتفهمه أنه من رجال خداع الفكر السياسي، ليس من رجال الفكر الثقافي. نتعامل معه أنه من حضارة تأصيل الكراهية في النفوس وتضييع العقول في الحاضر والمصير، ليس من حضارة رجالٍ يعرفون قِيم الإنسان في الحياة والموت. لا نكرههم في كذبهم على شعبهم، ولا نحقد عليهم في استهزائهم بعقل الأوروبي، لكننا نحتقر استهزاءهم عقل الإنسان في أميركا، أوروبا والإنسان المسلم. إنهم لا ينافقون على أحد، لأن المنافق ينافق في نفسه على نفسه، كذا الكذاب والمخادع لكن ليس المتآمر. جريمتهم التي لا يغفرها لهم الإنسان من أي لونٍ وجنس وحضارة هي تبريرهم جريمة كذابٍ، مخادع متآمر على أهله. أهل المتآمر كأهل القاتل هم الذين عليهم يتآمرون ومنهم يقتلون. هم في مسرح الجريمة سواء، بل هم وقود الجريمة، أداتها وسلاحها. هل عرف التاريخ متثقفين مثل هؤلاء قبلوا أن يكونوا مثل هؤلاء؟
كتابُنا ليس للرد على محاولة مثقفين بثقافة الفكر الديمقراطي الأجوف بل لتناول الموضوع الحدث في 11/9 في خطته السياسية لتغيير الموقف الدولي. ليس من منطلق تحريمه الشرعي في الإسلام. حجمُ الأقوال في هذا صدرت من كل من يستطيع أن يصل إلى مذياع أو يكتب في صحيفة حتى بلغ ذلك حدَّ الابتذال. ومن جميع علماء لَيِّ الأحكام الشرعية في غير غايتها فكيف إذا كان في سانحةٍ فيها مبرِّرٌّ شرعي في قول حقيقةٍ! وليس لبحث أبعاده السياسية ولا لبحث رد الفعل السياسي أو لبحث ردِّ فعله الإرهابي. ليس لبحث سبب أو حيثيات عُمق القرار الأميركي في قتل المسلمين في أفغانستان. أو في بناء تحالف دولي ضد الإرهاب بينما تنفرد في عملياتها في قتل المسلمين وتفرض على حاكم كل دولة أخرى أن يفرض على إعلامه وساسته التباري في التباكي والتفاخر في تذلله لإعلان مداخلته بوقوفه وشعبه مع أميركا في ذبح المسلمين.(1/49)
أيضاً، لن نبحث لماذا اختارت أميركا قصف المسلمين بالقنابل الانشطارية بدل القبض على الفاعلين، ولا لماذا لم تعلن عن أدلة تورُّط طالبان أو القاعدة. ولن نحاول أن نفهم لماذا أذلَّت في ردِّ فِعلها كل رئيس دولة في العالم. ولا لماذا لم يقف رئيسٌ واحد أو نظامُ حكمٍ يتبنى كشف الخبث والدهاء في مؤامرتها باختيار كيانٍ من طين عدوّاً لها وللعالم أجمع. كيف ولماذا رضيت دول العالم وأنظمة حكمه والسياسيون والإعلاميون وخاصة برلمانيوه وأحزابه ورؤساءُ الحكم فيه هذا الاستخفاف بعقولهم وهذا الامتهان لكرامة شعوبهم وهذا الإذلال العلني لمفهوم السيادة في تراثهم. ولا كيف يكون عدواً لدولة بين شروقِ شمسٍ وبزوغ قمرٍ يتحول إلى عدوٍ لدول الأرض قاطبة.
ما هي أهداف اختيار طالبان وهي صنيعةُ أميركا وتحت السيطرة المطلقة تديرها المخابرات المركزية الباكستانية لتكون عملاقَ العالم كما الأشكال من مطاط تُنفخُ أحجامها بهواء؟ لماذا تفرض أميركا على العالم برؤساء دوله وحكوماته وأحزابه أن يتخذ من طالبان عدواً شخصياً ووطنيا وقوميا ودينيا وإنسانيا؟ لماذا هذا التذلل الذي يتسابق فيه رؤساء دول العالم لسكب كرامتهم وكرامة دولهم وشعوبهم في المرحاض الأميركي؟ ما هو سر المكر البريطاني في استجدائها إرضاء أميركا بكل أنواع التذلل والتقرب لإشراكها في قتل المسلمين؟ ما هو سر الصفقة الأميركية الروسية لموافقة روسيا على احتلال أميركا "المؤقت" لبلاد المسلمين في وسط آسيا؟ ما هو سر إذلال أنظمة الحكم في بلاد المسلمين إلى درجة تحويلها إلى بوق من أبواق الإعلام الأميركية وإلى مخافر شرطةٍ تعمِّم الرعب والجبن في المسلمين؟ أولى حروب القرن أم آخرها؟ أهي حربٌ على الإرهاب أم فرضٌ لاحتكار أميركا لسلاح الإرهاب؟ كل هذا ليس موضوعاً في هذا البحث إلا أن يكون على علاقة بموضوع الحقيقة الكبرى في خطة أميركا تغيير مجرى التاريخ.(1/50)
تغيير مجرى التاريخ موضوع أكبر من أميركا لأنه موضوع في طبيعته يرتبط بفكر حياتي ورؤية كونيةٍ في أصل الحياة وسبب وجود الإنسان ومصير العالم. أميركا تدرك أنها لا تملك هذا الفكر ولا هذه الرؤية. هي تدرك أن فكرها الحياتي فكر مبتور كسيح ليس له رأس وليس له أرجل، وأنه في جنسه فكر سطحي تافه لا يقنع به مفكر ولا تسعد به روح. أعلنت أن أحداث أيلول ستغير مجرى التاريخ حتى تخفي حقيقة قصدها وأبعاد خطتها التي وضعتها قبل أن تفتعل أحداث 11/9 لتكون مبرراً لهذه الخطة. عندها، استبدال الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين بالسيطرة العسكرية أجدى لأميركا من السيطرة العسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية مجتمعة. أو إضافة الاحتلال العسكري إلى سيطرتها المطلقة على بلاد المسلمين يزيد في قوة أميركا وسيطرتها على العالم. هذا التوجه أو هذا التغيير ليس له مبرر فكري، لذلك لا يستند إلى فكر. واقع هذا التوجه أنه يستند إلى قوة فقط لأن تبريره هو القوة وحدها. وقد حدَّد رئيس القوة في أميركا جورج بوش(1) ذلك بقوله في مناسبات كثيرة: إن ذراع القوة الأميركية ستصل إلى أي مكان نريده.
__________
(1) - تسميته رئيس القوة الأميركية لأنه عندما تقوم أمة على بناء خطتها في العالم على عنصر القوة وحده فهذا يعني انعدام وجود طاقة فكرية عندها من أجل هكذا خطة. وفي أميركا بعد غياب الرئيس بيل كلينتون ومجيء هذا الرئيس بدا واضحاً خلال فترة إدارته قبل حادث التفجير خلو هيكل الرأس في الإدارة الأميركية من أي فكر. كنا نرى هذا الفراغ الفكري في رأس الرئيس وإدارته ونتساءل، لماذا أتى الرئيس بهذا السخيف لإدارة العالم؟ لماذا أتى بهذا الشرير الذي يتغذى بالقتل وترقص عيونه طرباً لسفك الدماء؟ لماذا في نظرات الرئيس غباء ظاهر؟ ماذا تستطيع جبلة حكمٍ من سخيف، شرير وغبي في نظراته أن تفعل أو تتصرف في قدرات أميركا الهائلة؟ لم لتصور هذا السقوط.(1/51)
قليل كتبوا في تقنية الحدث، أي في وقائع أحداث التفجير، وبها أثبتوا أن قوة الحكم في أميركا وراء حادثة التفجير. براهينهم لا يمكن نقضها لعنصرين: الأول أنها وقائع من الحدث نفسه وليست استنتاجًا من الوقائع. الثاني أنها تنقضُ بمعنى ترد على أقوال السلطة التي تصطنع وقائعاً. واقع الحدث دائماً هو مقياس الحقيقة الذي يرد مقولة الذي يزعم واقعاً. قوة الحقيقة تنبع من واقع الحدث لذلك هي دائمة المصدر فقوتها لا تتلاشى. قوة القول المفروض كحقيقة تنبع من قوة الكذاب الذي يفرضه لذلك هي متقلبة ومعرضة للاضمحلال تبعًا لطبيعة الكذاب في عناصر نجاحه وفشله، وتلاحم عقله ولسانه، وتغلب مكره على نفسه، واتحاد إرادته وقلبه في تبرير الكذب والخداع حتى يراه صدقاً ونزاهة. لكن الموضوع يحتاج إلى أكثر من هذا الجهد الفردي الذي يجب أن يتكاثر في كل اللغات. إظهار الحقيقة يحتاج إلى قوة من جنسها وحجمها. كشف مؤامرة أميركا في احتلال العالم تحتاج إلى منبر دولي وإن كان طريق ذلك جهداً فردياً. لذلك جُنَّ عقل حكام أميركا من محاولة رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب في أميركا مطالبتهم رئيس أميركا ونائبه ووزير دفاعه ورئيسة مخابراته ـ مجلس الأمن القومي ـ إطلاعهم على المعلومات التي كانت لديهم قبل التفجير. رئيسي الأكثرية في مجلس الشيوخ والنواب لم يكن عندهم أدنى شك أو تخمين أنه تفجير من عمل الحكومة الفدرالية. قدموا طلبهم فقط من أجل الحصول على معلومات تمكنهم من وضع خطة لتلافي هكذا حدث في المستقبل. بكل براءة وإخلاص لدورهم السياسي، لم يخطر ببالهم انهم بهذا الطلب يهددون الكيان الفدرالي الأميركي أو الكيان السياسي الدولي لأميركا. عندما اتهمهم الرئيس ونائبه ورئيسة أجهزته الأمنية أنهم سيكونون متهمين أنهم غير وطنيين إذا استمروا بطلبهم، وعندما رأوا جنون رد الفعل على طلبهم أدركوا أن التفجير من صنع الإدارة. معرفتهم الجديدة التي اكتشفوها بالصدفة(1/52)
وبراءة وعفوية كانت أكبر حجماً من بنيتهم الجسدية وقدرتهم الاستيعابية، انهاروا، أمام الخوف ارتجفت بهم الساق، قعدوا على الكرسي صامتين. صمتهم الرهيب كان أكثر إيضاحاً للحقيقة في سبب جنون الحاكم في أميركا من مطالبتهم العلنية الصريحة، صمتهم، تراجعهم الفوري هو برهان أنهم لم يكونوا شركاء في المؤامرة، تخليهم عن مطالبتهم بممارسة أساس حقوقهم وصلاحياتهم في دورهم الدستوري برهان أنهم تحولوا إلى شركاء في طمس حقائق المؤامرة والتستر على المتآمرين. المسؤولون، أبطال المؤامرة في التغيير، في جنون رد فعلهم أثبتوا أنهم صانعو أحداث التفجير وصانعو ردات الفعل عليه.
حقائق المؤامرة هذه لا يمكن طمسها مهما حاولوا لأسباب تتعلق بطبيعة هذه المؤامرة. في كل مؤامرة طبيعة ذاتية لأن خصائصها في سببها ونتائجها ووقائعها تختلف. الاختلاف هنا لا يجب ربطه بالظروف وإن اختلفت الظروف فيها بل هو يتعلق أساساً بالمصدر الذي منه تنبثق الخصائص. والمتآمر مهما بلغ من الذكاء والدهاء والعبقرية، ونحن نعترف له بها في هذه العملية، لا يمكن أن يصل إلى التلاعب في طبيعة المؤامرة التي يرتكبها. لأن طبيعة المؤامرة تنشأ نشوءاً بعد العمل وليست وجوداً تنشأ عنه. طبيعة المؤامرة من ممارسة المتآمر، لذلك هي طبيعة تتشكل بالحدث بما فيه من سبب ونتيجة وواقع. عجز المتآمر عن التلاعب بخصائص المؤامرة ليس عجزاً فكرياً بل عجز طبيعي.(1/53)
كشف مؤامرة تفجير الطائرات في البرجين بعد أن أثبتت الوقائع أن البنتاغون لم تصله طائرة بل أطلقوا عليه صاروخاً من طائرة عسكرية تتعلق بأمور كثيرة. أهم الأمور التي يمكن أن تكشف عن حقيقة التفجير أنه مؤامرة من أصحاب قرار القوة والقرار في الحكم السياسي لأميركا هي البراهين الموثقة بالواقع. مجالات هذه البراهين تتنوع في أنها تقنية، سياسية أو حضارية فكرية. الكتابات في المجال التقني لكشف عنصر التآمر الحكومي في التفجير هو أهم تلك الأعمال وأسهلها وأسرعها لكشف الحقيقة للرأي العام الأميركي والدولي(1). ألماني كتب في ذلك، فرنسيان أو أكثر وسياسي بارز من أميركا وسياسي متقاعد آخر وصحفيان أبدعوا في كتابتهم وبرهان الواقع في بحثهم أن قلب وعقل الحكومة الفدرالية هو الذي قام بحوادث التفجير في 11 أيلول. نرجح أن هناك أكثر من هؤلاء بكثير كتبوا أيضاً لم نعلم بهم، لكنا نعلم أنه لم يكتب إنكليزي أو هولندي أو إيطالي أو سويدي أو غيرهم(2). هل هناك هذا المستوى من الجدب الفكري في أوروبا وأميركا؟ الحقيقة المؤلمة أن هناك جدب فكري عام في أوروبا وأميركا، لكن هل هو سبب إحجام كثيرين عن الفهم أو أن سبب إحجام كثيرين عن نشر الحقيقة غير سبب
__________
(1) - قد يتساءل بعض القراء الذين بلغوا مستوى رفيعاً في النضج الفكري: هل هناك رأي عام أميركي أو دولي؟ في نضجهم الفكري يعرفون جيداً أن صانعي القرار السياسي الأميركي هم الذين يملكون وسائل تشكيل الرأي العام الأميركي. بسبب هذا يعتقدون أن الرأي العام الأميركي يصطنعونه اصطناعاً وليس فيه عناصر التكون الطبيعي، لذلك ينفون وجوده كما يجب أن يكون عليه. لكن وجوده أداة بيد صانعي القرار لا ينكره السؤال ولا ينكرونه هم.
(2) - لم نذكر اليونان لأن الرأي العام الأوروبي خصوصاً ثقافة الدول الأوروبية الكبرى تعتبر أن اليونان سقطت في سلة مهملات التاريخ. عندهم من يسقط في تلك السلة لا يستطيع الفكاك من حبالها ثانية.(1/54)
الجدب الفكري؟ نعلم، لا نجد جدوى من التفصيل في هذا. نأمل أن تتكاثر أصوات قول الحقيقة من أهل سكوتلنده والدانمرك وغيرهم. نحن يائسون من صوتٍ هولندي أو إيطالي لأن خصوبة تربة الفكر تتصحَّر سنة بعد سنة حتى وصلت برأي خبرائهم سن اليأس في حياة الأمم.
الكتابةُ في كشف حقائق حادثة التفجير في أميركا أنه عمل أصحاب القوة في حكومة أميركا لا يؤذي أميركا أو حتى يخدشها. أهميته ليس في تأثيره على أميركا في اقتصادها أو سياستها أو قوتها. وليس في تأثيره على دول العالم من أجل الوقوف في وجه أميركا. هي، أميركا، أقوى من أن يؤثر بها حادث خارجي أو ضغط خارجي. وحكام دول العالم كثير منهم عملاء لها ومن ليس عميلاً لها يراعيها ويجاريها طمعاً وخوفاً. ليس لها عدو حقيقي بعناصر العداء. ما يقال عن العراق وليبيا وكوبا في الحقيقة نسيج قصصي. في قصة كل منهم دور لبطل ليس أحداً منهم عدو لأميركا بل كل منهم خائف من أميركا. كل منهم يريد أن يكون تابعاً لأميركا لكن ضمن خطة يشارك في تحديد مداها، مواضيعها وأهدافها. لذلك أميركا تعتبرهم أعداء وتستعد يهم وتريد تدميرهم. صحيح أن جميعهم في حظيرة نفوذ غربي غير خطيرة النفوذ الأميركي لكن هذا ليس سبب أن يكونوا هم أعداء لأميركا بل سبب عداء أميركا لهم. نعود إلى أهمية الكتابة في كشف حقائق التفجير الأميركي أنه من فعل أصحاب القوة في الحكم الأميركي. أهميته ليس في تأثيره على أميركا الدولة وسياستها ولا على الدول التي تقف معها في قتل غيرهم. أهميته تكمن أن المجتمع يحتاج إلى مواضيع فكرية لتحريك عقله، وهذا الموضوع، خطة أميركا في مصادرة رأي وصوت وعقل كل مجتمع ودولة في العالم موضوع خطير جداً على كل شعب وكل أمة في العالم حتى ولو كانت قبيلة مثل روسيا وصريبا وإيطاليا. خطورة هذا الموضوع فيها زخم إحداث تحريك فكري في أي مجتمع ينام فيه العقل ويصحو. لذلك أهمية بحثه العلني في المجتمعات هي في تحريك العقل(1/55)
الفردي والجماعي العام وليس في تأثيره على القرار الأميركي أو على سلطات حكم البلد الذي يجري فيه البحث. أهمية هذا البحث تكمن أنه يشترط النزاهة المطلقة في ترتيب المعطيات والبرهان والنتائج. إذ هذه النزاهة هي التي تفتح آفاق العمق الفكري في البحث. فالبحث بدون نزاهة هو البحث لتركيب حقيقةٍ لا يمكن أن يؤدي إلى معرفة حقيقة، وهو طريقة المخادع لا طريقة إيقاظ العقل. النزاهة هنا تكون بالتزام قواعد طريقة العقل في الفهم لأنها وحدها تشترط النزاهة عنصراً في طبيعة إجرائها. وهي في إجرائها طبيعة حمايتها لعنصر النزاهة بدوام حاجتها لوجوده. أهمية هذا البحث أنه في موضوعه وطريقة بحثه إذا تيسر له المنبر العلني يمكنه أن يُحدث الحركة الفكرية التي يحتاجها كل مجتمع وأمة يتوق أن يصحو فيه العقل أكثر مما يغفو.(1/56)
كتابنا أردناه بغير منبرٍ ليكون صالحاً لكل منبر في كل أمة أو دولة أو مجتمع. في المسلم منها يمكن أن يؤخذ وفي غير المسلم مثل الديمقراطي والمسيحي والبوذي والصيني وغيرهم مثل الإنكليز يمكن أن يؤخذ. فكر البحث فيه فكرٌ إنساني أي فكر عقل الإنسان الفرد وليس فكر نتاج عقل الفرد. فكر العقل في طبيعته قبل أن يُستنتَج لأنه يتعامل مع الفهم بحسب طريقة العقل الطبيعية في الفهم. لذلك طريقة تفكيره هي طريقة الإنسان في الفهم وفي أفكاره يكون طبيعياً أن تخالف أفكار ضد الإنسان أو أفكاراً تعادي طبيعة الإنسان. لهذا مخالفته في أفكاره لغيره من الأفكار مخالفةَ طبيعةٍ إلى شذوذ في الطبيعة. هكذا يمكن تصنيف أفكاره في رفض أفكار شذوذ العقل في السياسيين الأميركيين وأوروبا والعالم. واحتقاره شذوذ العقل في المثقفين بثقافة أولئك السياسيين. أساس بناء الاختلاف والافتراق الفكري يكمن في مصدر الفكر لا في حجة الفكر الذي ينتج عن المصدر. فكر المثقفين في تبرير قتل المسلمين يقوم في مصدره من فكرٍ يفترض أن المسلمين هم وراء حادث التفجير. دون البحث في صحة هذا الافتراض أو خطأه، عندنا جعل أي افتراضٍ أساسًا للتفكير خطأ جوهري. يؤدي إلى إنتاج فكرٍ فيه كل احتمالات ومبررات الخطا، الفساد، النفاق، الكذب، التآمر وغيره كثير من أجناس الجرائم الإنسانية. لكنه بحقيقة قاطعة لا يُنتج فهماً سليماً، صحيحاً أو مفيداً. وهو سبب افتراقنا في فكرنا عن فكرهم وهو سبب خداعهم الدائم في فكرهم وسبب قبولهم الخداع الفكري أنه طريقة عيشٍ في دنيا ضلالهم وتضليلهم.(1/57)
بحثنا هذا امتدادٌ لأبحاث غيرنا من دول أوروبا، أميركا وبلاد المسلمين. ليس فيه شيء حكر لنا أو ينطلق منا ابتداء. صحيح أنه ينفرد بتبويبه أو ترتيب مواضيعه، ويتميز بتمسكه بالفهم بطريقة ربط الفكر بمصدره لا بمنطلَقِه وأن خصائص قوة الفكر في مصدره غير خصائص قوة قائل الفكر في فرضه. لكن هذا التفرد والتميز هو للوصول إلى العمق الفكري الذي يحتاجه أي بحث في طبيعته أنه ثقافة للإنسان أميركياً، فرنسياً، ألمانياً، وثقافةً للمسلم الذي يعلو على انحطاط ثقافة الحاضر في مجتمعه. العمقُ الفكري هو أيضًا ضرورةً للبعد الفكري، فالفهم بعمق دون بعدٍ لا يؤدي إلى فهم الحقيقة بل يؤدي فقط إلى الغوص في الحقيقة. لذلك هذا التفرد والتمايز ينتج من طبيعة البحث الفكري في طريقته وليس بقصدٍ أو علمٍ أو اصطناعٍ منا.(1/58)
البحث عن الحقيقة في كل موضوع هو كالبحث عن كنز، هكذا هو عندنا ولن نناقش غيرنا في مخالفته. لأن الحياة يجب أن تكون بحقائق الحياة، وكل حقيقةٍ في الحياة هي كنز للفرد في حياته. سر الحقيقة ليس بمعرفتها بل في معرفة خصائصها. كل فيلسوف كل سياسي، كل فرد يمكنه أن يدعي أنه يعرف حقيقةً أو حقائقَ حياتيه، لكن هل هناك من يدعي أنه يعرف خصائص الحقيقة الحياتية؟ قلة من المفكرين والفلاسفة يدعون لكن أكثرهم ـ أكثر هؤلاء القلة ـ يتوهمون معرفة وضعوها هم في خصائص الحقيقة. معرفتهم خصائص الحقيقة وهماً لأنهم استنتجوها من حركة الحقيقة في انتشارها وانحباسها وقبولها ورفضها في أثرها وتأثيرها. لذلك فهمهم يزيد المثقفين بمعرفتهم جهلاً بحقيقة الحياة وحقائقها، ومن هنا أيضاً في الأساس يبدأ افتراقنا عن مثقفي أميركا والغرب ويستمر ما داموا هم من وهْمِ المعرفة يتثقفون. تمسكنا بمعرفة حقيقة الحياة الكبرى هو سبب حقدهم علينا. تمسكنا بمعرفة خصائص الحقيقة الحياتية هي سبب كراهيتهم لنا. جهلهم هو سبب خداعهم لنا في طمس الحقيقة في كل أمر. حقدهم، كراهيتهم وجهلهم هو سبب مشاريع قتل المسلمين في كل مكان. لا نبحث في نوع القتل أو سببه أو الذي يعيش عليه. لا فرق بين أن يكون القاتل إنكليزياً، فرنسياً، روسياً، صربياً، صينياً، أميركياً أو حتى مقدونياً، يونانياً أو غيره. سبب القتل واحد عداء من حقد وكراهية وجهل. حقدهم في قلبهم وكراهيتهم في قول لسانهم وجهلهم في عقلهم هو الذي يجعلهم يعيشون حياة أغبى من عيشة بهائم الأرض. الفرد الذي يكون في حياته أغبى من بهائم الأرض هو الذي يعيش بدون معرفة غاية الحياة أو الذي يعيش بدون العمل لتحقيق غاية الحياة. بهيمة الأرض تولَد وتعيش وتموت على تحقيق غاية الحياة. إنسان فكر المثقفين الغربيين، إنسانُ انحطاط الفكر المثقف بثقافة بدون غاية يعيش بدون غاية، ويموت وفي ظنه لإطعام ديدان الأرض!(1/59)
مواضيع هذا البحث تكتمل مع مواضيع أبحاث غيرنا سبقتنا وأبحاثٍ تلحق بنا. مواضيعنا لا تحيط بالموضوع لأنه لا يمكن الإحاطة بهذا الموضوع في بحث واحد. نحن، اكتفينا في حصر بحثنا في مجالات خطة المؤامرة لا في كل المؤامرة لأنه ليس في قدرتنا ذلك. حصرنا البحث في أربع مجالات فقط لكنا لا ندعي أننا نجحنا في استيعاب جميع أبعاد المؤامرة. تحديد مجالات المؤامرة ليس تحديداً لموضوع المؤامرة بل تحديداً لموضوعٍ في المؤامرة وفي وجهٍ من أوجهها. وهو تركيزٌ لجهد البحث الفكري في موضوع معين حتى تتحقق الغاية الفكرية من البحث في تعميم فائدة المعرفة. لهذا بحثنا يخدم أبحاث غيرنا في غير هذا الوجه ويساعده على التشعب والتوسع والاستمرار. إذ ما نكتبه هو بقصد محدد يحدد إطاره المرئي، العملي أو الاستنتاجي. طريقة بحثنا في فكر الأعمال والظروف التي فرضتها خطة وغاية مؤامرة أميركا على العالم كان من الطبيعي أن تزيل حدود الموضوع وتجعله في موضوعيته مادة فكرية للجميع، فيلسوفاً، صحفياً، متعلماً أو غير متعلم أن يثرى بها أو يزيد في ثرائها.(1/60)
تسمية الكتاب كان في بحثنا أن تكون "هزة العالم" قبل كتابته. لكنّا في سطور مراحله اكتشفنا أن هزة العالم التي قصدتها المؤامرة إنما قصدتها لتكون حالةً تسمح بتمرير المؤامرة. لم يكن إحداث الهزة المصطنعة هو خطة المؤامرة بل هو إيجاد الحالة التي تسمح بتحقيق غايات المؤامرة. في سطور فكرِ الكتاب سيكتشف القارئ أن فكر عنوان الكتاب "اختطاف العالم" هو تعبير من جنس فكر مؤامرة أميركا في محاولتها اختطاف العالم وفيه اختطاف عقل الكاتب والقارئ، أيُّ كاتب عن أسرار هذه المؤامرة، وأيُّ قارئ عن خداع هذه المؤامرة. لكن ليس اختطاف عقل المثقفين الأميركيين في بيانهم في تبرير قتل المسلمين. ليس لأنهم أثبتوا أنهم بدون عقل بل لأنهم أثبتوا أن عقولهم تعمل بطريقة الدراجة الهوائية لا تتحرك إلى الأمام إلا برفس أرجلٍ قوية، أو بالدفع الذاتي في انحدار مستمر!
يوسف بعدراني
المجال الأول
ضوابط السياسة الدولية
أو
قواعد التآمر الدولي
خطةُ أميركا في مؤامرة خطف الطائرات تُشبِعُ طموحَ أميركا في الانفراد بالسيطرة على العالم في أربعة مجالات.(1/61)
المجال الأول: ضوابط السياسة الدولية التي يلزم أن ترتبط بقواعد والتزامات وأعراف هيكل الشر الدولي "الأسرة الدولية" كما جرت الأمور بتسمية إطار المشاورات التي تجري قبل إعلان اتفاق في خطة عمل دولية. أميركا فرضت الأعراف التي تقضي بإنتاج خطط أو مشاريع في السياسات الدولية، وفرضت الأعراف التي تقضي باحترام هذه الخطط التي تنتج عما فرضت أميركا وجوده عُرفاً "الأسرة الدولية". لقد خدمت أعراف التشاور الدولي خطط أميركا في السيطرة على العالم جيداً في النصف الثاني من القرن الماضي على فترة خمسين عاماً تقريباً. لكن بعد حرب الخليج الثانية بدت وكأنها خرجت منها مترنحة أي فاقدة التوازن كما يكون حال الأرستقراطي بعد إفراطه في شرب بول الشيطان خمرة الأوروبيين. فاقدة التوازن ليس من خسارة أو بسبب انتصار بل بسبب انعدام رؤيةٍ لها في حرب الخليج فكان انتصارها منفصلاً عن رؤية أي لا يتكامل في مخطط، كأنه عمل مبتور. مثلها في ذلك كمثل المخمور. المخمور، أو أثر الخمرة، ليس في أنها تؤثر في البصر فتمنع المخمور أن يرى. أثرها في تغشية تقدير الأمور وحقيقة الأبعاد. فالمخمور يرى الكرسي ولكنه يرتطم به لأنه فقد حسه بأبعاد موقع الكرسي. كذلك المخمور يفقد القدرة على تقدير الأمور لأن مقاييس الضبط في الفهم والإرادة والعمل تنسل من عقله فلا يعود يستطيع التمييز بين حق وباطل ولا بين خير وشر ولا بين فعلٍ إنساني يرتقي به وفعلٍ شيطاني ينحط به.(1/62)
هكذا خرجت أميركا مترنِّحة، لم تستطع أن تحدد قيمة فعلها في تلك الحرب، أو هكذا وجدت نفسها بعد فترة من دراسة تقويم فشلها أو نجاحها حتى جاءت الضربة التي قضت على البوش. إخراج أبيه بخسارته أمام فاتن النساء ـ البعض يقول زير النساء(1)ـ أكدت تغليب رأي فشل أميركا في حرب الخليج الثانية، حرب أميركا على العراق أو صدّامه كما يحبون أن يدّعوا. حيثياتهم في ذلك أن الشعب الأميركي لو كان اقتنع بانتصار بوش الهزيل في جسمه لأعاد حتماً انتخابه رغم الملايين من النساء التي اقترعت لخصمه.
__________
(1) نحن فضلنا لقب كلارك غيبل على ألفاظ السوقية وإن كانت تلك أكثر واقعية.(1/63)
خسارة بوش كان دليلا على خسارة أميركا غير المعلنة في حرب الخليج الثانية. إذاً سبب خسارة أميركا هو الذي يلزم القضاء عليه لأنه سيسبب خسارة أخرى في كل وقت في أمرٍ مشابهٍ آخر. في زهو انتصاره في حرب الخليج الثانية، منذ البداية، أعلن بوش فخره، كفردٍ بوشي، إنه أول وأكبر ائتلافٍ دولي في حربٍ من دون معركةٍ أو في معركةٍ بدون حرب. إذ لم يكن بين أميركا والعراق حرب، حتى أن الكونغرس الأميركي حقق(1) في تهمة أحرجت أميركا كثيراً وهي أن أميركا أغرت أو حثت صدام في غزو الكويت لتتدخل في إخراجه، وتبرر احتلالها العسكري لدول الخليج. وأنه بسبب هذه المؤامرة الأميركية اضطرت أميركا إلى بناء الائتلاف العسكري الدولي بما كانت تفرضه الأعراف الدولية من الخضوع للمساومات الدولية. شرط حرب الخليج للانتصار كان إخراج جيش صدام من الكويت، هذا في المساومة أو خارج المساومة الدولية. لأنه الانتصار الطبيعي في مثل هذه الحال. لكن الواقع الذي نتج يخالف طبيعة الانتصار الطبيعي على أي معتد. بعد فترة، بدأ الوسط السياسي ينتقد الفشل الأميركي في حربها ضد صدام لأنها لم تغز العراق لاحتلاله وقتل أبنائه وتدميره وجيشه من أجل قتل صدام وخدمه وحرسه! علماً أن هذا الأمر لم يطرحه بوش أبو الابن
__________
(1) غني عن القول أن الكونغرس يحقق في مثل هذه الأمور ليس لأنه يجهل حقيقة تطورات الأحداث السياسية، أو لأنه لا يعلم بالأعمال السياسية التي تقوم بها الرئاسة الأميركية، بل لغرضٍ أسمى بعيد عن ذلك وهو فرض البرهان على الرأي العام المحلي والدولي أن في أميركا من يعبأ ويكترث بالحقائق ويحافظ على مصداقيته في تبرير قوله وعمله. فدور الكونغرس في مثل هذه التحقيقات ليس للبحث عن الحقيقة بل لطمس الحقيقة بمطالعة نهائية منه لا يكون لأحد بعده في التاريخ أن يكشف حقيقة الجريمة في عملٍ رئاسي، شهد عليه الكونغرس بالموافقة المباشرة أو بإقفال التحقيق في موضوعه راضياً عن خلاصته.(1/64)
ولم يطرحه ديك تشيني وزير دفاعه ولا جيمي بيكر أعلى رجال السياسة الخارجية في زمنه وإن لم يكن أذكاهم. أما نائبه ـ نائب الرئيس في حينه ـ فلا أظن أحداً اليوم يتذكر اسمه إلا إذا اضطر إلى ذلك في مسابقة "المليون".
النقاد الأميركيون اصطنعوا تهمة الفشل لاصطناع قاعدة للتفكير والتخطيط. قاعدة منها ينطلقون لتغيير أحكام لعبة السياسة الدولية. في فهم الحاجة لتغيير الأحكام يجب أن تفهم ـ حضرة القارئ ـ أن أميركا في حرب الخليج الثانية قصرت الانتصار الذي تريده على إيجاد التحالف الدولي. وقد نجحت في هذا نجاحاً مذهلاً حتى اليوم الذي سبق الحادي عشر. أما موضوع غلبة صدام في شخصه وتصفيته في جسده فلم يكن هو موضوع انتصار أميركا أو الائتلاف على الإطلاق. لأن أحداً لم يشك في قدرة الذئب على مجابهة الأرنب. التشكيك في ذلك على أنه الانتصار الحاسم في حساب انتصار أو عدم انتصار أميركا في أفغانستان هو نفسه في الماضي القريب في إخراج صدام من الكويت، حساب دعائي لتبرير الفظاعة والمكر في الجريمة. الانتصار الثاني والحقيقي لأميركا في حرب الخليج هو احتلال مشيخات الخليج ـ بدأت بالتحول إلى ممالك ـ بحجة حماية أو تموين أو تدريب. أو حتى من أجل استمتاع البحرية الأميركية بخمر الخليج، وبيوته الحضارية ونسائه المستوردات بعناوين الانفتاح والحرية والعصر. حتى من أجل التفاعل مع إسلامٍ منفتحٍ ـ برأي "المثقفين" بفساد الفكر الإنساني ـ على زبالة الحضارات ومتفتحٍ أيضا بفساد الحضارات الأخرى أخصها الديمقراطية التي تقوم على ضد الإسلام في كل شيء. وقد تم الانتصار هذا على أكمل وجه دون اعتراض من الدكتور عالم الشريعة آكل السحت على فتات موائد اللئام.(1/65)
انتصار مع انتصارٍ لم يشف غليل الساسة الذين يرفضون فرحةَ المذاق بعصير الورد ويفضلون مرارة المذاقِ في بول الشيطان، عصيرُ البصل يظنونه. إنهم يريدون انتصاراً دون توافقٍٍ مع "الأسرة الدولية" التي فرضوها لتكون عصا البطش بأيديهم. يريدون انتصاراً بدون مساومات دولية تراعي حاجة الأوروبيين إلى هواء يتنفسونه، خاصة أولئك أجداد بوش وكلينتون. انتصارُ أميركا بدون مساوماتٍ أو مراعاةِ خواطرِ الأسرة الدولية التي أصبحت دميةً أكثر تطلباً للاستمرار بعطاءات الخضوع للسياسات الأميركية أصبح ملحاً عندهم. فلو لم يكن ملزماً في حرب الخليج لاستطاعت أميركا احتلال العراق أبدياً كما تفعل في أفغانستان. بذلك كانت تستطيع إعادة تشكيل "الأمة" في العراق كما تحاول أن تفعل في أفغانستان إيجاد أمة بدون حضارة الإسلام وبدون حضارة الديمقراطية بالطبع ولو أصبح الحكم انتخابيا. بذلك تجعل من أهل أفغانستان كما تريد أن تفعل بأهل العراق زبالةً بشريةً بين شعوبِ الأرض مثالاً على جنس المسلمين في مستقبلهم.(1/66)
في هذا المجال وجد الساسة الكبار فيها حاجة أميركا للانعتاق من الأعراف الدولية التي تضبط انحرافها الوحشي في استعمال قوتها. لقد استعملت "الأسرة الدولية" في بداية مخططها للسيطرة على العالم لأنها كانت هي خارج الأسرة الدولية التي تستعمر وتسيطر على سياسة الدول. الأسرة الدولية وأعرافها وقوانينها كانت كلها أوروبية على رأسها بريطانيا وفي وسطها فرنسا والباقي أيدٍ وأرجل وأصابع في اليدين والقدمين لكن بدون أذنين ولسان. أميركا نجحت بخطة مشاركة "الأسرة الدولية" أن تطرد بريطانيا وفرنسا من بلاد كثيرة لتنفرد ببسط سيطرتها المطلقة على أكثر دول الأرض. لكنها في كثير من الأحوال تضطر إلى خداع الدول الأوروبية والمناورة عليهم حتى التآمر عليهم وعلى مصالحهم. هذا كان يضطرها في كثير من الأحوال أن تكون متهمة في الأعمال التي تضرب مصالح شعب بريطانيا أو أمة فرنسا أو أوروبا مجتمعة. في أحوال كثيرة أيضا كانت تضطر لاصطناع خلافات مع حكومات أو منظمات عميلة لها لخداع الأوروبيين والظهور بمظهر البريء من التآمر عليهم. كما حصل في ثورة الضباط على الجيش الإنكليزي في مصر وثورة المشايخ على الشاه في إيران وثورة المليون شهيد لإخراج فرنسا من الجزائر، وغيرها لا يمكن حصره هنا. كل هذه الثورات كانت أميركا وراءها لضرب النفوذ الإنكليزي أو الفرنسي. لكن أميركا لم تستطع أن تظهر بوضوح أنها وراء هذه الثورات حرصا على مركز الزعامة للأسرة الدولية التي كانت تخونها في كل صباح ومساء. في أحيان كثيرة كانت أميركا تحرك هؤلاء العملاء ليجهروا بعدائهم لأميركا حتى يكون ذلك شهادة براءة من الواقع أنها لا تغدر بالأوروبيين.(1/67)
محافظة أميركا على عفتها في العلن يضطرها إلى كثير من اللف والدوران الذي يستغرق وقتا ومجهوداً جبارا. ضرره أنه يمنعها من التقدم بما يتزامن مع طاقتها في التقدم. يجدون أن حال أميركا في كثير من الأمور الدولية أقل أو أضعف بكثير من حجم أو قدرة أميركا الدولية. مثلاً أطراف الصراع في موضوع قبرص هم الأتراك واليونان. مضى على أميركا عشرات السنين وهي تحاول تسوية قضية قبرص دون جدوى. أطراف النزاع على المسرح لا شيء ولا بأي نسبة في القياس يقاربون حجم أميركا الدولي في أي شيء. لكن حسابات العمل الدولي من ضمن مجموعة دولية متعددة المصالح يُبطِلُ هذا التمايز الأميركي عن بقية الدول خاصة أعضاء "الأسرة الدولية" وهم دول أوروبا الكبرى. مثل موضوع قبرص العشرات من القضايا الدولية العالقة التي لم تستطع أميركا التأثير في حلها. حتى تلك التي تدعي أنها كانت سيدة الأمر فيها خرج الأمر من يدها بعد أن رعت حلها مثل موضوع تفكيك يوغوسلافيا وحرب البوسنة. ومثل كامب ديفيد الذي أرادته بين العرب وإسرائيل فإذا به يتحول بين عميل لها ومتمردٍ عليها. ومثل موضوع ثورة الأكراد وما آلت إليه في مصير أوجلان وحزب العمال الكردستاني الذي كانت تموله وتزوده بالسلاح والمعلومات. ومثل ثورة السودان حتى اليوم، وكثير كثير غيرها. جميع هذه الأمور لم تنجح فيها أميركا لاضطرارها للتخفي في مساعدة عملائها خوفَ أن تكتشف شعوب أوروبا غدر أميركا بهم وبمصالحهم.
الأوروبيون كانوا يعرفون جيداً خيانة أميركا لهم وتآمرها عليهم منفردين ومجتمعين. لكنهم لم يجرؤوا على فضح أميركا أمام شعوبهم. هم أيضاً كانوا يخونون سيدتهم، خيانتهم كانت أقل خطراً من خيانة أميركا لهم. أميركا تستطيع سحقهم، هم يعلمون. هم في جمعهم أو تفرقهم لا يقدرون على أكثر من خدشِ أميركا في مصالحها مهما حاولوا، هذا أيضاً يعلمونه.(1/68)
لذلك ارتضوا أن يخضعوا لأحكام دور الخيانة التي كانت تفرضها أميركا. مع مرور الزمن، نصف قرنٍ من السنين، وجدت أميركا أن أحكام التآمر التي فرضتها هي لن تسمح لها بالسيطرة المطلقة على دول الأرض إلا بعد مائة سنة على أقل تقدير. إذ لن تستطيع أميركا إخراج بريطانيا وفرنسا من الدول التي تحافظ فيها على المصالح الأوروبية بحسب معدلات النجاح في خمسين سنة مضت إلا بعد مائة سنة. بعض خبرائها يقولون أنها لن تستطيع ذلك حتى ولا بعد ألف عام.
هذا اضطر أميركا إلى التفكير بتغيير قواعد التآمر الدولي في تصفية النفوذ البريطاني والفرنسي لضرب المصالح الأوروبية في استقلاليتها أولاً. ثم للإمساك بخناق أوروبا مجتمعة ومنفردة حتى التحكم بمقدار الحاجة للهواء، حجم الغذاء ـ وهو المصالح ـ، وفاعلية الدواء ـ وهو حرية القرار ـ في أي موضوع سياسي، تجاري، مالي وأمني.(1/69)
الأوروبيون في مجموعهم يفهمون هذا لكن هذا الفهم المنتشر بين أكثر الأشخاص عملت أجهزة الحكم الأوروبية، كل في نطاق شعبه، على حصره في صدر الفرد. أجهزة الحكم لم تمنع الفرد الأوروبي أن يفهم أن أميركا تريد تحويله إلى لا شيء في الوجود الحاضر. لكن منعته أن يبحث هذا الموضوع مع غيره. لم تتدخل في قناعة الفرد لكن منعت تفاعل هذه القناعة مع الآخر. نجحت في جعله موضوعاً يتعلق بالفرد لا بالمجتمع. منعته أن يكون موضوعاً عاماً. الموضوعُ العام هو الموضوع الذي يهم الرأي العام. من صفاته أنه موضوع يؤثر في حياة الفرد جماعياً. إذ الإنسانُ في طبيعة فرديته أنه كائن اجتماعي. اجتماعي تعني أنه يحب العيش مع غيره وليس منعزلاً أو منفرداً. هذه طبيعة فيه ما زالت حيةً حتى في إنسان حضارة الديمقراطية الأوروبية، خاصة الأميركية، التي تحاول أن تفرض عليه أن يتحول إلى ذئبٍ متفرِّدٍ في شراسته لا يختلط بغيره إلا بعد دراسة الذئب لقوة وحركة فريسته حتى ينقض عليها انقضاض الموت. وكلما ازداد شذوذُ فكر الفردية في الفرد الأوروبي وخاصة الأميركي نرى في المقابل تحركاً في عاطفة الاجتماع عند الفرد بسبب اضطرار الطبيعة للتوازن مع غيرها.(1/70)
لذلك، المواضيع التي توصف أنها اجتماعية هي تلك المواضيع التي تؤثر في اجتماع الأفراد بداية. أما المواضيع التي تؤثر في تفريق أفراد الجماعة فهي يجب أن تكون مواضيع غير اجتماعية لأنها تفكك الجماعة بضرب المصالح التي يجتمع عليها الأفراد، وتهدم القناعات التي تفرض اجتماع الأفراد، وتقضي على الرغبة التي تولد مع الفرد في وجوب الائتلاف مع آخرين في الفكر والمصلحة والعلاقة. لكن، في خضم الفوضى الفكرية العارمة في أوروبا وأميركا خاصة، برَّر بعضُ المفكرين جعل موضوع تفريق المجتمع من مواضيع المجتمع. ليس من قبيل بيان خطر عوامل تفكيك المجتمع كما يمكن للبسطاء أن يحللوا بل من قبيل المساواة في قوة حجة الهدم وهو الفردية مع قوة حجة بناء المجتمع وهو التقاء الناس في رؤيةٍ للعلاقة والمصلحة والرغبة.(1/71)
الفوضى الفكرية العارمة حالة يلزم بيان حجتها حتى يستمر القارئ الرصين في المحافظة على خيط الضوء الذي يلزمه لفهم ما نقول. الفوضى الفكرية لها شرط واحد حتى تتحقق بالفعل والواقع، لكن لها حالات متعددة. الفرق بين شرطها وحالتها أنه لا يمكن معالجتها بدون التعامل مع شرطها. معالجتها تعني القضاء عليها، أي لا يمكن الخروج منها إلا بمعالجة السبب الذي أوجدها والسبب هو واحد وليس عدة أسباب. الذي يقول أن هناك عدة أسباب للفوضى الفكرية هو ذلك الذي لا يفرق بين السبب والحالة. السبب هو شرط الوجود، الحالة هي مظهر الوجود. في توضيح ذلك نأخذ مثلاً التملك. حبُّ التملك في الفرد طبيعةً فيه، لا يوجدُ إنسان لا يوجد فيه حب للتملك. الزهدُ هو فعلُ كبتٍ وليس طبيعةً والكبت للطبيعة يحتاج إلى قوة خارقة من الذات أو من الغير. كلاهما قهر لطبيعةٍ في الفرد. الزاهد يكبت في نفسه الطاقة التي اختار عدم التجاوب معها أي إشباعها. إذا قرر كبتَ حب التملك تخلى عما يملك وعاش دون سعي للمزيد من التملك. لكن حتى هذا يبقى نجاحه نسبياً لا مطلقاً، لأن التملك طبيعة إنسانية وليس اكتساباً فردياً فلا بد من الإشباع ولو بأحطِّ مستوياته. الزهد لا يعني التخلي المطلق عن التملك بل يعني القناعة بالتملك القليل. لذلك نرى الزاهد يحتفظ بثوب يستر عورته ومكانٍ ينام فيه ووعاءٍ يأكل منه. حتى أكثر الزهاد شذوذاً تراه يحمل كوبه لا يشارك به غيره لكن إمعاناً في شذوذه قد يشارك فيه كلبه. مع هذا يبقى الزهدُ شذوذاً أو فضيلةً حالةً مكتسبةً لا طبيعة. لهذا نرى الرأي العام يحتقر من يدعو إلى كبت طبيعةٍ في الإنسان، ويزداد احتقاراً لمن يفرض كبت طبيعة في الإنسان بقوة القهر. مثلاً أكثر الناس المحتقرين في التاريخ الحديث هم لينين وستالين والشيوعيون الذين فرضوا كبتَ عاطفة الأمومة عند النساء. فالأمومة طبيعة في المرأة ليست نتيجة اكتساب معرفة. يليهم في المرتبة بين المحتقرين(1/72)
أولئك المفكرون ـ الفلاسفة ـ الذين دعوا أو يدعون إلى كبت هذه الطبيعة في أنثى الإنسان على رأسهم أفلاطون ومن اتبعه في شذوذ فكره. الطبيعةُ شرط الوجود، أي أن شرط الحياة أن تكون بقانون السعادة حتى تتحقق غاية الحياة(1)، فالتملك والأمومة والبنوة والأبوة وغيره كثير طبيعة وليس مظهراً لطبيعةٍ. الفرق بين الطبيعة والمظهر أن الطبيعة أصل لا يمكن التلاعب فيه، والمظهر حالة يمكن التلاعب فيه.
__________
(1) قد يتوقف القارئ طويلاً عند هذا القول ويظن أننا نسطره دون إدراك معناه. الحقيقة أننا نقوله كما نقول أي كلمة أخرى بوضوح معناها وبقصد لكن الترجمة في بعض الأحيان واللغات التي نجهلها تضعف الوضوح والقصد. في هذا الموضوع نحن واعون أن الحياة وُجدت وفي شرطها السعادة. الذي يحيا بدون سعادة هو الذي يحيا بغير قانون الحياة. حتى يسعد الإنسان عليه معرفة قانون الحياة أولا. نحن لا نوافق المفكرين الأوروبيين وخاصة الأميركيين الذي يضللون شعوبهم في حقيقة السعادة، رغم إدراكنا أن تضليلهم ليس مؤامرة منهم على الرأي العام بل بسبب حقيقة جهلهم. المفكر الجاهل أخطر على مجتمعه من جيش العدو. لم يبتل الله أمةً بجهل مفكريها مثلما ابتلى أمة المسلمين بمفكريها اليوم. لكن رحمة الله بهم أنه بتراثهم إمكانية قيام مفكرين بحقائق الحياة تنقذهم من تضليل فساد المثقفين بزبالة الفكر الإنساني.(1/73)
التفريقُ بين الأصل والمظهر أو عدم التفريق أساسٌ في فكر المفكر أنه مفكر في جهلٍ أو مفكرٌ في معرفة. المفكرُ في جهلٍ إذا بلغ به الجهل أن يكتب فكره ويدعو إليه أصبح مفكراً في التضليل بدل مفكراً في جهل. وإذا تحول المفكر في معرفة إلى داعية لفكره أصبح مفكراً في هداية. سبب رفضنا للفكر الغربي الأوروبي الفلسفي وخاصة الأميركي هو عدم فهم طبيعة الإنسان. كيف يكون الإنسان إنساناً دون أن يفهم طبيعته؟ جهلُ المفكر الأوروبي والأميركي في طبيعة الإنسان هو الذي جعله يصف نفسه أنه حيوان. العامة صدَّقت مفكِّرها أنه حيوان، لحاقاً به اقتنع جمهورُ الأوروبيين والأميركيين أنهم حيوانات في حديقة حيوان المفكرِ الذي يقودهم في زي الحيوان الأول؛ عاريا من القيم والفضيلة! حين نظر للمرآة ورأى أنه أول من اكتشف نفسه حيواناً باسم إنسان، تماماً كما حيواناً باسم الذئب، أو حيوانً باسم الثعلب. وشيئاً فشيئاً بدأ تبرير الاتصاف العملي بأفعال الذئب والثعلب، وبذلك تحولت المجتمعات بالجهد المستمر النابع من قناعة الناس في الغرب أنهم حيوانات إلى مجتمعات تبيح كل الأفعال الحيوانية.(1/74)
فكرُ المفكرين الغربيين لا يمكن محاجته في طروحاته، لأن الطروحات هي في الفروع. مظاهر الطبيعة مواضيع في الفروع لا في الأصول. دحضُ فكرِ الفروع لا يؤدي إلى دحض فكر الأصول إذا وُجِد وهو عند الغرب نادر في وجوده. أيضاً، لا يؤدي إلى تغيير قناعات الناس. قناعاتُ الناس هي خشبةُ العوم للفرد في المجتمع، وخشبة العوم للمجتمع في الحياة. تمسك الفرد بالقناعات مثل تمسك المجتمع بالقناعات مظهر من مظاهر الخوف من الغرق، أيُّ محاولةٍ لضرب هذه القناعات لن تنجح إلا بفرض موضوعِ أساس هذه القناعات أن يكون هو موضوع البحث. هذا يستحيل دون مفكرين من جنس أولئك المفكرين الغربيين. عدم التفريق بين حاجة الإشباع ومظهر الإشباع هو الستارة السميكة التي تفصل بين النور والظلام عند الفلاسفة والمفكرين من أي جنس كانوا. حبُّ التملك طبيعة أما حجم التملك، نوع التملك، غاية التملك، كيفية التملك هو فعلُ الطبيعةِ أي مظهرُ الطبيعة أو يتعلق بها. المظهر أو المظاهر يمكن التلاعب بها بالقناعات الفكرية وبمدى نجاح هذا التلاعب يكون الاقتناع بتحقيق إشباع الغاية. مقياس صوابية التلاعب بمظاهر الطبيعة والتوافق مع الإشباع هو تحقق السعادة من إشباع هذه الطبيعة.(1/75)
شرطُ الفوضى الفكرية أن تكون الأبحاث الفكرية تجري في أمرٍ فرعي دون إحكام ربطه بفكرٍ أساسي. لا يوجدُ عند الإنسان فكرٌ حياتي لا يرتبط بفكرٍ أساسي. إحكامُ الربط يعني البحث الفكري في ضوء الفكر الأساسي لذلك البحث. خطأ أو فسادُ الفلسفة الغربية أن أبحاثها الفكرية الغنية والكثيرة تبحث في الحالة باستقلاليةٍ بل تعتبر فَرْضَ الفصلِ عبقريةً وهو في الواقع شذوذٌ فكري وفي حقيقته جنونٌ فكري. بهذه المعرفة نجحت أجهزةُ الحكم في الأوروبيين في إبطال فاعلية معرفة الفرد الأوروبي بتآمر أميركا على دوره في الحياة أولاً وعلى دوره السياسي ثانياً وعلى مصالحه ثالثاً. لا يمكن الجزم، على الأقل عندنا، أن أجهزة الحكم تقوم بذلك عن وعي لحجم خيانتها لشعبها. رجاحةُ عوامل الجهل أكثر من عوامل الخيانة، مهما كان السبب فإن تحقيق قصد العمل تحقق. قصد العمل هو أن يكون الموضوع موضوعاً فردياً لا موضوعاً من المواضيع العامة. الفرقُ بين الموضوع الفردي والموضوع العام هو أن الموضوع الفردي لا يؤثر في الرأي العام. الرأي العام هو الذي يفرض التغيير أما الرأي الفردي فلا قيمة له إن لم يصل إلى درجة التأثير في الرأي العام. أجهزةُ الحكم نجحت في منع الرأي العام من التأثر بالقناعة الفردية عند الفرنسي والإنكليزي والألماني والإيطالي ومن يلحق بهم. لذلك تبقى أميركا في منأى عن تعبيرٍ أوروبي جماعي عما يجيش في نفس الفرد الأوروبي من حسرة في ضعفه وجبنِ حكومته بسياسييها وأجهزتها عن الوقوف بوجه خطة أميركا لتطويعهم واستخدامهم في تطويع غيرهم. وهذا هو برهان القائل أن أجهزة الحكم في الدول الأوروبية تنفذ الخطة الأميركية في السيطرة على مفاصل التفاعل في مفاعل(1)
__________
(1) كلمة مفاعل ترتبط في أذهاننا بالمفاعل النووي وهي تعني المصنع الذي فيه تتفاعل المواد وهو غير المصنع الذي ينتج مواد. فالاختلاف في طريقة الإنتاج وأدواته لكن ليس في أنه مصنع يُنتج. الرأي العام في أي مجتمع أثبت التاريخ أنه يُحدث التغيير الجذري في حياة المجتمع عندما يجتمع على رأي في ذلك. كما أثبت أنه وراء سقوط أكابر مجرمي البشر الذين حكموا بالبطش والقهر ملوكاً، رؤساءَ جيوشٍ أو رؤساءَ ديمقراطيين منتخبين بنسبة 51 ـ 99%. استعرنا لفظة "مفاعل" لأن الرأي العام في أي بلد أوروبي هو قنبلة موقوتة قابلة للاشتعال إذا أُعيد تفعيل مفاصل التفاعل المعطلة في المجتمع بفضل هيمنة القصد الأميركي على خطة أجهزة الحكم الأوروبي.(1/76)
الرأي العام. كذلك، عمل الأجهزة الأوروبية، منع انتشار كراهيةٍ جماعية تكتسح الرأي العام في حظائر الشعوب الأوروبية، كان يمكن أن تقلب موازين قوى الربع الأخير من القرن العشرين.
القلمُ يسطرُ في كثير من الأحيان اتجاهاً في موضوع لم يكن في كلامية الكاتب قصدٌ فيه. وفي هذه المقدمة كثير من الشواهد على ذلك وخاصة، أو منها، موضوع أجهزة الحكم. عنها، أردت أن أضع حاشية في معناها أولاً وفي دورها ثانياً وفي اختلاف نشوئها ثالثاً. عجزت، إرادياً، عن ذلك لأن البحث يستحق بجدارة أن يُقرأ بقياس حرف الكتاب وليس بقياس حرف الحاشية(1). أما أنه يستحق بجدارة فهو لأهميته الذاتية في موقع هذا البحث وليس لعمق البحث، لأن تناوله من أجل فهم موضوع المقدمة فهم إحاطة وليس تناوله من أجل كشف أسراره أو جلاءِ حقائقه أو الإحاطة به كموضوع.
أجهزة الحكم تعني أساساً أدوات الحكم وليس ركائز الحكم أو أركانه ولا جهاز الدولة. هي المؤسسات التي تقوم برعاية مصالح الرعية، حمايتها وتنميتها، تنظيم علاقات الناس، توجيه حركة المجتمع تحديد مسار التفكير في فرضِ قواعد أفكار الفرد، تخصيص دور القِيَم والعوامل المؤثرةِ في سلوك الفرد والجماعة، تفصيل غايات قوى الرأي العام في وجودها والحرص على تحقيق غاياتٍ متفارقةٍ تقنع بها قوى المجتمع المتفارقة. هكذا تكون هذه الأجهزة في مهمتها لا تختلف بين بلد وآخر في معناها وغايتها وخطتها.
__________
(1) سبب هذا التبرير أن البحث قد يتجاوز الفقرة العادية في عدد أسطرها مما يجعل قراءته بحرف الحاشية وهو بقياس 8 أو 9 أمراً يؤثر في تبرير تحاشيه. أما علاقة ذلك بأهمية البحث فليس ذلك وارداً ولا يجوز أن يرد ذلك. إذ لا يجوز للكاتب أن يكتب مهماً وغير مهم، أو أن يكتب بمسؤولية وبغير مسؤولية، لذلك الحاشية، في رأينا، منبرٌ لفكرٍ في غير موقع الصدر في مسرح الخطاب.(1/77)
دورُ أجهزة الحكم يتأثر في نشوئها لا في مهمتها، فالدور يتغاير من بلد لآخر بينما المهمة بمعنى المسؤوليات والصلاحيات لا تتغاير لأنها تتعلق بمعناها لا بدورها ولا بنشوئها. أجهزة الحكم في أوروبا كانت موجودة قبل الثورة ـ– ثورة الحريات(1) ـ فجاءت الثورة على الحاكم ثورة عليها أيضاً. هيجانُ الفكر في المفكر كهيجانِ الثائر في ثورته، يرى من عينٍ كما الثائر في ثورته يكون أعورَ في سمعه. الأصلُ أن يبصر المفكر ببصيرته لا من عين واحدة ولا من اثنتين، والأصل في الثائر أن يرى بعينه لا أن يرى بما يسمع. الأوروبيون ثاروا على الحاكم وأجهزة الحكم، لذلك بعد انتصار الثورة أعاد الثوار بناء الأجهزة على مفهوم أن لا تكون عدوة للشعب.
حمايةً لهذا الهدف وُجِدَت قوانينها لإخضاعها الدائم للثوار المنتخبين فيما بعد من الشعب. نشأتها تحتم دورها في أنها خاضعة للحكم لا شريكة فيه وليست من جنسه. والشعب الثائر في دم أحفاده ما زال شديد الحساسية تجاه هذه الأجهزة والحكم الديمقراطي شديد المراقبة لها.
__________
(1) هذه التسمية فيها كثير من الاستهتار بعقول الأوروبيين وفيها الكثير من التدجيل الفكري على الأوروبيين وغير الأوروبيين. نحن نستعملها بلفظِ التضليل الذي ألصقوه بثورة الأوروبيين وأولاها في فرنسا، وليس بحسب معرفتنا في حقيقة سبب الثورة وفكرها ونتيجتها أنها في واقعها مؤامرة جديدة في تطوير مسار عبودية الأوروبيين للحاكم في مراحلها أو حقبتها الثلاث: 1 ـ حقبة تأليه الحاكم الروماني في شخصه. 2 ـ حالة تقديس طاعة الحاكم الروماني في المسيحية وتقديس كاهنها في شخصه. 3ـ حالة تأليه الذات في طاعة الحاكم العلماني أو الديمقراطي وتقديس الطاعة للنظام.(1/78)
ثورةُ أميركا قامت بغير معطيات ثورةِ الفرنسيين والأوروبيين. ثوارُ أوروبا ثاروا في موطنهم على حكامٍ منهم. ثوارُ أميركا ثاروا في غير موطنهم على حكامٍ ليسوا منهم، حكامٍ يستعمرونهم، إنكليزَ في عرقهم. الاستعمارُ في تعريفه يفرض كراهية المُستعْمَرِ للمُستَعْمِر. تعريفُ الاستعمار في كنهِه فرضُ السيطرة للاستغلال. تعريفه في ممارسته نهبُ ثروات الآخرين وما يفرضه ذلك من قبول الإنسان بسرقته بعد قطع لسانه وفقءِ عينيه وقطع شريان الوريد التاجي. هكذا كان الإنكليز يستعمرون سكان أميركا الأوروبيين وليس الأصليين. الإنكليز والأسبان والبرتغاليون نجحوا قبل ذلك بدهر طويلٍ من الذبح والبقر والبترِ في إبادة سكان أميركا الشمالية والجنوبية. مع نجاح حملة إبادة السكان المحليين كان الإنكليز يستقدمون زبالةَ أوروبا البشرية لتسخيرهم في زيادة منافع الإنكليز. حتى أن من هذه الزبالة البشرية كان إنكليز وآرشيون وسكوتس وألمان وفرنسيون ومن كل مجتمع كان يكثر فيه المرذولون اجتماعياً. ثورةُ عبيدٍ على أسياد تختلف في كل شيء عن ثورةِ شعبٍ على حاكم. كيانُ السيد الحاكم على عبيد يختلف في مقوماته عن كيان السيد الحاكم على شعبه. كذلك يختلف واقع المجتمع في تطلعاته وأهدافه وقدراته. ثورة المُستَعْمَرين على مستعمِريهم لم تكن ثورة ناسٍ على حاكم له أجهزة حكمٍ، كانت ثورة على أجهزة الحكم مباشرة. شخصُ المهزوم في هذه الثورة غير شخص المهزوم في ثورة فرنسا. الثائرُ هنا غير الثائر على المتفحش في فرساي. ثائرُ أميركا أجلى حاكمها عن أرضه، أزال كيانَ الإنكليز في غير أرضِ الإنكليز. في انتصاره لم يرث أجهزةً انتصر عليها، وانتصاره كان على أرضٍ ولم يكن انتصاراً على شعب. لم يبقَ بعد المعركة فريقان غالب ومغلوب، بقي فريق واحد أهل الأرض فقط، إذ في غياب المغلوب كيف يكون غالب؟ ثوارُ ارض أميركا بدأوا في إنشاء أجهزة الحكم كما بدأو في إنشاء جميع منشآت الحياة(1/79)
للمجتمع والدولة والأمة. لهذا كان بإمكانهم الزمني والظرفي وضع تصورٍ لمهمة ودور كل جهاز. كان بناء الجهاز جزءاً من بناء المجتمع والدولة والأمة، هذه في شروط بنائها تحتاج إلى رؤية في الحاضر والمستقبل وإلى غاية في الوجود وطريقةٍ في النهضة. هذا كله اجتمع في بناء كل جهاز لأن بناء الجهاز تزامن مع بناء المجتمع والدولة والأمة.. من البداية نشأت هذه الأجهزة برؤية وغاية وطريقة الدستور الأميركي في قيَمِه ومقاييسه وحيثياته.
وهذا هو سببُ نشوءِ أجهزة الحكم جزءاً من نشوء المجتمع والدولة والأمة بنفس المفاهيم والقيم والغايات. وهو أيضاً سبب وجودها الطبيعي في جهاز الدولة مما جعلها شريكةً في الحكم في دورها وأداةً في مهمتها، لا انفصال بين الدور والمهام كما في دول أوروبا. دورها في شراكة الحكم يجعلها مؤسسة من مؤسسات، من هذا التنظيم تُقدم للحاكم دراستها في موضوع مهمتها، ومن رؤية الأمة في مهمتها تقدم للحاكم اقتراحها في دراستها، ومن قِيَمِ الدستور ومقاييسه تبيِّن للحاكم أهدافها في اقتراحها. لم تنشأ أجهزةُ حكمٍ في التاريخ كما نشأت أجهزة الحكم في دولة الإسلام. ولم تنشأ أجهزةُ حكم في التاريخ كما نشأت أجهزة الحكم في دولة أميركا. الاثنان لا يتشابهان والخوض في المقارنة ليس مجاله غروب هذا الزمن في دجل سياسييه وضلال مفكريه وظلم قضاته.(1/80)
أجهزةُ الحكم التي في أميركا في واقعها أجهزة تشارك في الحكم بمعنى أنها من أركان الدولة. أجهزةُ الحكمِ في أوروبا(1) في واقعها أجهزةُ دولةٍ بمعنى أنها من أدوات الدولة. الجهازُ الذي يشارك في الحكم يشارك في التفكير ابتداءً عند تحديد الهدف ودراسةِ الواقع ورسمِ الخطة في تحريك المفاعيلِ المؤثرةِ، انتهاء بالنجاح في تغيير الواقع وتقويمِ قيمةِ العمل في نتيجته ومعطياته في مستقبله. هذا الفارق ليس تقنياً كما يصر التقنيون على تصنيفه في أبحاثهم لأن الموضوع ليس موضوعاً تقنياً إنه موضوع أيديولوجية الحكم ورؤيته وهيكله. الفارق، في طبيعته أنه تقني أو أيديولوجي، عنصر فعال في قوة الحكم، استقلاليته، تماسكه في خطة استمرار الكيان. لذلك لا يوجد وجه مقارنةٍ بين قوة الحكم في أميركا وتلك في ألمانيا أو إيطاليا مثلاً. البعضُ يقارنون لأنهم يقارنون بين واقعين أي حقيقتين في الوجود. المقارنةُ بين
واقعين لا تُحدِث أثراً في الفهم لأنها هي بذاتها عملية فهم فقط فهي في نتيجتها تبقى حبيسة الفهم، أي تبقى مادةً للدراسة. المقارنةُ التي تُنتجُ فهماً هي المقارنةُ التي تجري في عناصر الواقع. لا يوجد وجه مقارنةٍ نعني أن عناصر الواقع في أيديولوجية الحكم في أميركا تفارق كلية في الأساس والطريقة والرؤية تلك التي في أوروبا. المقارنة تكون لإيجاد المقاربة أما إذا كانت دراسة في المفارقة فهي تختلف في سببها وهدفها وعمقها.
__________
(1) أوروبا هنا لا تشمل بريطانيا ليس لأننا نعتبرها غير أوروبية بل هي أوروبية في جغرافيتها. لكن في الأبحاث التي في طبيعتها أنها دولية بريطانيا تنفصل فعلياً عن أوروبا في رؤيتها وخطتها السياسية وقواها وأهدافها. هذا الانفصال قد يرد معنا عدة مرات في هذا الكتاب دون الإشارة ـ للأسف ـ إلى استثناء الإنكليز. لكن القارئ يستطيع استبانة ذلك من الموضوع هل هو دولي في طبيعته أم غير ذلك.(1/81)
بحث هذه النقطة، نقطة الأجهزة، لم يكن في ذاته مقصوداً عندنا بل مقصده بيان عامل أساسي لعله أكثر العوامل تأثيراً في حالة انهزام الحكم في دول أوروبا أمام التسلط السياسي الأميركي عليها. وتوضيحها يلقي ضوءاً على مستقبل التفكير السياسي في أوروبا في مواجهة الحالة الدولية الجديدة التي تفرضها أميركا دولياً، وليس أطلسياً، لإنهاء النفوذ الأوروبي الدولي. الأملُ والإحباط كلٌّ بعناصره وقواه ووسائله موجود في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، نراهُ غائباً في بعضها. الأمل والإحباط يتوازن في حجته ومنبره، فالأمل ينقصه الطموح والإحباط ينقصه اليأس. صاحبُ عدَّةِ الأمل كصاحب عدَّةِ الإحباط؛ خائف. خوفُهُ ليس من ضعفٍ في عناصره. خوفُهُ من حاضرٍ بدونِ رؤيةٍ في حياة. رؤيةُ الحياة هو مستقبلها في واقعين. واقع العيش بإدراكٍ فوق التراب وواقعُ العيش في جسدٍ تحت التراب. السياسي في خوفه من حياةٍ بدونِ رؤيةٍ غير خوف الفرد مثلي ومثل صاحب المتجر وزارع الأرض وفارسٍ بدون حصانٍ عربي. السياسيُّ الأوروبي يستطيع أن يكذب على نفسه. العاديُّ من الناس وأنا، لا نستطيع الكذب على ذاتنا. سببُ الفارق أن الكاذب على نفسه يكذِّبُ الحقائق في ذاته، بمعنى أنه يتجاهل الحقائق في طبيعته، يخادع طبيعته كما يخادع شريكه أو زوجته أو رئيسه. سائقُ التاكسي وعازف البيانو وأنا نحب العيش بطبيعة الذات فينا، نهنأ بتوافق الفكر والفهم والقول مع طبيعة الذات. خادعُ نفسه يكذب على غيره، علينا. مثلنا، إذا استمر في عدم الكذب دون معرفةِ مقياسِ الصدق والكذب يعيش في كذبٍ من حيث لا يدري.(1/82)
نجاحُ أميركا في خطة إرهاب العالم وهي تحمل راية "أميركا في حرب" في رأس حربتها الأول سمٌّ وفي رأس حربتها الثانية قنبلة. السمُّ لأوروبا والقنبلة للمسلمين. المسلمون في جميع الأرض حالهم كحال المسلمين في فلسطين، يتألَّم العقلُ في معرفة حالهم، فكيف بوصفهم بأسطرٍ وكلمات. في بحثنا عن كلمات لوصف حاكمٍ يتفرجُ على ذبحِ رعيته عبرَ شاشةٍ في غرفة مخدعه لم نجدها في قاموسِ البشر. رضيعٌ، عفواً، جنينٌ في بطنٍ بقروه أشار بإصبعه إلى كهف الشيطان. ركضنا بعد أن مات، قبل أن ننسى الطريق، تعثَّرنا وقام منا رشيدٌ يسأل هل تريدون قاموس الشيطان لتتعلموا كلماته في وصف حاكمٍ في المسلمين يسلِّم بقتل المسلمين؟ قال الذين تعثروا ـ لم أكن معهم، أخطأتُ في قولِ تعثرنا ـ "نعم". قال وهو يتلاشى في اضمحلال لونه ـ كنت أراهُ من علٍ فوق شجرة ـ "أيها الشياطين، يا أبناء الأفاعي والشريرين تقولون ولا تفعلون، مَن أشرُّ منكم". حتى غاب في الهواء، من قوله عرفت أن هؤلاء المسلمين لن يسلموا من مرض الخوف من قنبلة أميركا. خوفهم لا يمنعهم من التفرج على حربة السمِّ تطعن الأوروبيين، يريدون أن يعرفوا هل يستسلمون مثل حكامهم؟ الأوروبيون يهزأون بالمسلمين في خوفهم. يعاملونهم معاملة الأعداء، يديرون لهم ظهورهم، في ضياعهم في سكرة اللامبالاة بحالهم يضحك المتفرجون عليهم.
مسرحُ السياسة في أوروبا هو مسرحُ السياسيين، مسرحُ متحرِّكين، هل يتحوَّل المتحرِّك إلى مفكِّر؟ علمُ الطبيعة يقول لا، علمُ الفلك يقول انتظر. أن يتحوَّل السياسي إلى مفكر أمرٌ فيه نظر، أن يتحوَّل الشعبُ أو كبراؤه إلى مفكرين أمرٌ كبيرُ الخطر على حربة السمِّ الأميركية.(1/83)
مقوماتُ القوة العقلية في أوروبا كبيرة لكنها اصغرُ بكثير من حجم الكرة الدماغيةِ الأميركية. هذا في مقارنة الكرتين لكن هذه المقارنة في غير زمن الموضوع أو في غير موضوع زمن الحاضر. مقارنةُ اليوم هي في حجم العقل الأوروبي تجاه حربة السم الأميركية، الصراع ليس مشرعاً لكل الإمكانات ولا على كل المستويات. محدودٌ في أداته وفي سقفه وهو لم يصل إلى مستوى الصراع بعد، أرادته أميركا رميةَ سهمٍ وحكامُ أوروبا يتعاملون معه أنه رمية سهم. هذا من جهلٍ وخوفٍ فيهم لا من استعدادٍ لاتقاء السهم. فالتعامل مع الحدث لا يُجدي إن كان تعاملاً مع حجم الحدث فقط، لا بد في الانتصار من التعامل مع زخم القوة الدافعة للسهم وليس فقط في حمل درعٍ لاتقاء السهم.
انتصارُ أميركا في رميةِ سهمٍ على أوروبا يمكن ترجيحه إذا كان الترجيح بين قوى لا علاقة لها في قوة محاولة أميركا. عوامل القوة في محاولة أميركا لتطويع أوروبا بالضربة القاضية ضعيفة لأنها تفقد عناصر الدفع الذاتي، عناصرها مصطنعة. هذه المحاولة يلزمها، بمعنى ينقصها، القدرة على المواجهة باستقلاليةِ حجتها. هذا الضعف في طاقة حجتها هو عنصر الدفع الذاتي القوي لأي محاولةٍ تعتمد على الفكر، أو المناورة الفكرية لتحييد قدرة التوازن في الفريسة.
مؤامرةُ أميركا في اختطاف العالم تحتاج كأي مؤامرة كبيرة أو صغيرة في حجمها إلى إعداد عدتها في ثلاثة دوائر بعد تحديد غاية العمل.
الأولى دائرة التخطيط، الثانية عناصر العمل، الثالثة مؤونة العمل.
في التخطيط يجري فهم الوضع أو الحالة التي يجب التعامل معها أولاً، ويجري درس القوى الفاعلة أو المؤثرة فيه. ومن بعدُ يجري تحديد مجال الحركة وهو الموقع أو المسرح حتى يصل المخطّط أو المفكر في التخطيط إلى وضع خطة الاختراق.
عناصر العمل هي المبرر، رجال العمل، فكر الخطة، القوى اللازمة.(1/84)
مؤونةُ العمل هو الطاقة على الاستمرار في العمل حتى يتحقق الهدف، حماية فكر العمل والحرص على الهدف.
طاقة أميركا في التخطيط لأي عمل طاقة لا يجاريها فيها أحد من دول الأرض. أثبتت ذلك في كثيرٍ جداً من المجالات المختلفة لكن في مجال التآمر السياسي أثبتت تفوقاً مطلقاً وعبقرية فذَّة في معظم المؤامرات التي خططت لها ونجحت في تحقيق هدفها. نعترف لها، في مؤامرة أو خطةِ اختطاف العالم، بعبقريةٍ نادرةٍ أو معدومة في رجال حكومات دول اليوم، أعضاء "الأمم المتحدة". عبقرية جديرة بالدراسة في كل جامعة في الصين وروسيا وألمانيا وبعض كباريهات العلم في فرنسا ومدارس روضة أطفال أفغانستان. ذكاءُ أميركا في التخطيط والتسويق والتآمر ذكاءٌ خارق نعترف به بكل صدق واحترام دون أي استهزاءٍ في هذا الموضوع. والذي يعارض هذا بحجج كثيرة تدل على غباء الساسة الأميركان نرد عليه قوله أن دوائر عقله اختلطت فمجال الغباء الأميركي في هذه المؤامرة ليس في دائرة التخطيط. يوازي طاقة أميركا الهائلة في التخطيط المحبوك أو يتفوق عليه هو قدرتها الهائلة في حشد طاقات هائلة مؤونةً للعمل الذي تقوم به. لا أظن أحداً يشك في قدرات أميركا في التأثير على اتجاهات اقتصاد العالم ككل فكيف في أي دولة منفردة. أو يشك في قدرة أميركا على التلاعب في اي سوق للأسهم في العالم. أو في قدرتها على التأثير في عقول الجنس البشري بتغيير نظرتهم إلى المرأة مما هي عليه في طبيعتها أنها أمٌّ وأختٌ وخالة ومن بعدُ زوجةٌ وابنة ومحارم. إلى أن تكون كما تريدها أميركا عاهرةً بقانونٍ يبيحها للجميع بدون أجر. أما إذا طلبت الأجر في زناها فتكون عاهرة خالفت قانون تعميم الفحش الاجتماعي، تُعاقَبُ عليه بالسجن أو أن تستحصل على ترخيص يسمح لها ممارسة العهر بأجر ومخالفة القانون العام الذي يفرض العهر بدون أجر. أو في قدرتها على التأثير في نقد ـ عملة ـ أي دولة في العالم، ومجالات لا يمكن حصرها.(1/85)
قدرةُ أميركا في التخطيط وتوفير مؤونة أي عمل موضوعان لا يختلف عليهما عاقلان. منعاً للملل وعزوفاً عن الثرثرة في جرَةِ قلمٍ لا نجد حاجةً إلى بيان ذلك في تفصيله بل نكتفي بالإشارة إليه فيما سبق.
نبقى في بحث عناصر العمل وهي المبرر، رجال العمل، فكر الخطة، قوى العمل. حتى لا يكون الكلام عاماً نبدأ في بحث موضوعٍ في خطة أميركا اليوم في هذا الزمن التي أطلقت هي عليها اسم "أميركا في حرب". سأل رجل الثلج رئيس "أميركا في حرب": مع من سيدي الرئيس؟ بعد كل هذه الشهور من إصرار الرئيس أن أميركا في حرب، وبعد ملايين الكلمات التي لاكها لسانه وكل الأيمان الغليظة التي أقسم بها أن يعتقل "الإرهابيين" يفاجئه هذا السؤال. ليس لأن الرجل طوال هذه الشهور لم يسمع جواب الرئيس بل لأن الرئيس بوش وجد نفسه أنه بحاجة إلى تكرار مقولته "أميركا في حرب مع الإرهابيين" بعد أن أذاعتها محطات التلفزة 10078 مليون مرة(1). قهقه الرئيس بحماس ظاهر حتى وضع يده على اسفل بطنه(2)
__________
(1) 1 - هذا هو قيمة رقم مؤشر أسهم داو النيويوركي بالنقاط وليس بالدولار وهو رقم سجله في تسلسل هبوطه حتى بلغه يوم الإثنين.
(2) 2 - قريباً من المكان الذي كانت تحبه مونيكا في بطن رئيس منهم.(1/86)
. وأحنى قامته كأنه يريد أن يُخرج ما في بطنه. هدأ واستقام واستعاد جديته وسأل سائله: ألم تعلم أن أميركا في حرب أيها الأميركي الأحمق؟ أجاب الأميركي الذي لم يكن أحمقاً بل كان أحمراً: "أعلم سيدي الرئيس، أريد أن تقول لي مع من وأين حتى أتطوع في حملةِ قتله". عادت القهقهة من بطن الرئيس حتى استقام ثانية وقال وعيناه قد انتصف إغلاقها وبدتا لؤلؤتين أكثر منهما بصّارتين: كيف لي أن أعرف، ارحل عني، اذهب إلى دونالد رامسفيلد ربما يقتلك إذا سألته" وانفجر في القهقهة ثانية. عندما سمع حارس الأمن اسم رامسفيلد هرع إلى الرئيس ليتأكد أن الرئيس لم يفضح وزير "أميركا في حرب" وسأله: "هل قلت شيئاً سيدي الرئيس" أجاب: "لا، أرسلته إلى دونالد هدفاً سهلاً ليطلق عليه صاروخاً، عنده كثير يريد تفجيرها، لكن هذا غير مسلم! يا ربي أطلبه بالهاتف الجوال …"(1/87)
هذه ليست قصة حادثة تشاهدها حضرة القارئ للتسلية، في حقيقتها سر فشل خطة أميركا في محاولة مصادرة حق الأوروبيين بالعيش أحراراً بدون طوق العبودية الذي يلف شعوب العالم الثالث. البحث في المبرر لا في رجال العمل، والبحث في قوى العمل لا في فكر الخطة. مبرر أميركا في مؤامرة "اختطاف أوروبا أو اختطاف العالم" مصطنع. لم يصدر عن رجلٍ عنده عقل يعمل في موطنه، جمجمة رأسه، إلا وقال إن "عاصفة الطائرات" في أيلول حادث مصطنع، لا أحد يمكنه القيام به إلا السلطة التي تسيطر على الاتصالات والسلام الجوي الأميركي. لا يوجد عاقل إلا واعتبرها جريمة نكراء يلزم محاكمة منفذيها. وحدها الحكومة ترفض محاكمة منفذيها. مبررُ أميركا غامضٌ في عناصره. تقول إن التفجير عملٌ إرهابي إسلامي، قال المسلمون لها لكن الإسلام في فكره وأحكامه يمنع قتل الأبرياء في هكذا عمل وأسلوب وظرف. قالت إذن هم إرهابيون مسلمون لكن جميع المسلمين مسؤولون مباشرة بأموالهم وأرواحهم. أذاعت أميركا 19اسما في لائحة قالت إنهم إرهابيون مسلمون فجَّروا أنفسهم في تفجير الطائرات. تسعة منهم صرخوا من زوايا الأرض السبعة أنّا نحن هنا أحياء منذ شهر وسنة وثلاث سنوات. لم تعتقل الأحياء ممن قالت إنهم أموات، لم تتراجع عن لائحتها، لم تخجل من فعلتها في العلن، حتى ينسى العالم ضعف حجتها في مبررها "تفجير الطائرات" بدأت في حرق جثثِ أحياء المسلمين في أفغانستان. التعجيل في قتل المسلمين في أفغانستان في أهدافه الحيوية بدء مسيرة احتلال بلاد المسلمين حيث أوروبا ـ بريطانيا وفرنسا ـ صاحبة نفوذ فيها تخضع لأجواء عصبيةٍ تقضي بفرض الصمت المطلق على أي معارض لخطة "اختطاف العالم"، أو حتى غير مصدقٍ لائحة الاتهام الأميركية.(1/88)
قوة المبرر إما ذاتية تكون في حجته قولاً وبرهانه عملياً، أو مصطنعةً مفروضةً من قوة أقوى من قوة الطرف الآخر. قوةُ المبرر إذا كانت ذاتية صادقة الفكر والبرهان تكون ينبوع قوة دائمٍ للدولة التي وقع بيدها. أما إذا كان المبرر مزوراً في إيجاده وواقعه وهو ما نسميه مزوراً في فكره أو حجته، ومزوراً في برهانه وهو يعني دليله وحيثياته وظروفه فإنه يكون كعبَ أخيلليس دائم.
كعبُ أخيلليس يذكِّرنا بالخرافات والأساطير الإغريقية والرومان الآلهة وأباطرة الرومان. يتذكر القارئ أساطير الإغريق فيضحك من سخافة إنسان الإغريق الذي كان منه فيلسوف وفلكي وغبي لم يقبل أن يحجب الإسكندر عليه نور شمس في ثوانٍ يستزيد بها معرفة. هل يكون صاحب معرفة مَنْ لا يشارك فيها غيره؟ هل يكون صاحب مالٍ من لا يُنفقه؟ نعم، بعضكم يقول، الحمار يحمل ذهباً لا ينفقه! الحقيقة تقول إن الحمار لا ينفق ذهبه لأنه ليس في طبيعة استطاعته أما الإنسان ففي طبيعته القدرة على إنفاق ماله. إذا خالف طبيعة قدرته يكون قد قرر العيش بطبيعة الحمار(1). هكذا حال المفكر الذي يمنع الآخرين من فكره. هذا حال القوي الذي يفرض
__________
(1) 3 - الحمار هو حيوان اشتهر عند الإنسان بكمال أوصاف مظاهر الغباء في بشاعة لفظه وعدم تجاوبه مع أوامر سيده وظهوره في عمله أنه لا يعلم لماذا يعمل، أي لا يعلم بفائدته. لذلك، إذا أراد أحد الناس الأقوياء إهانة غيره يصفه بالغباء يقول عنه حماراً، عادة بعد هذه الإهانة يستعد الطرفان للعراك المادي. غير أن هذا التراث في أمم الإنسان لم يصل أميركا بسبب المحيط الأطلسي والباسيفيكي. أحد الحزبين الحاكمين لا أدري ـ دون الرجوع إلى الموسوعة ـ أيٌّ منهما اتخذ الحمار شعارهُ الوطني. الأميركي يتفاخر في قوله إنه وحده يتخذ الحمار مثلاً أعلى له في حياته من دون بقية البشر، بغض النظر عن نجاح وصول صاحب صورة حمار الحزب إلى البيت في المزرعة أو المدينة أو إلى مكب النفايات.(1/89)
مبرراً مزوَّراً في فكره وواقعه. الذي يصطنع نفسه في سلوكه حماراً هو الذي يقوم بتشويه طبيعته أو تشويه مظهرٍ من مظاهر طبيعته أو يفرض على غيره تشويهاً في الطبيعة أو مظهرها.
نضحكُ من أساطير الإغريق ليس من ذكاءٍ في وقتنا بل من حقيقةٍ في معرفتنا. بهذا نتذكر الأوروبي في بطش فسادِ فكر الرومان بعقولهم وبصائرهم وقلوبهم. لم يعرف الجنس البشري إنساناً منذ نشوئه وحتى اليوم ـ يوم كتابة هذه السطور ـ عاش ممنوعاً عليه أن يفكر في حقائق حياته كما فُرضَ على الأوروبي. أباطرةُ الرومان فرضوا عليه أنهم آلهة فوق آلهة البشر. لما رفضت قبائل الجبال والأدغال أن يكون صنم الإمبراطور أكبر من صنم إلههم قتلهم الرومان بتهمة أنهم همجيون(1) بربريون وثنيون. الرومان أكذب أمم الأرض في وثنيتهم وأكثرهم فحشاً في القتل والنهب والكذب يتهمون الذين لا يفرضون وثنيتهم ـ لأنهم لا يستطيعون ـ أنهم وثنيون. تماماً كما تفرض أميركا على المسلمين أنهم إرهابيون حتى تقتلهم وتحتل بلادهم أو تصادر دوائر استخباراتهم وعمليات جيوشهم وسجلات مصارفهم وأحزابهم وجمعياتهم وجوامعهم، وتغير برامج مدارسهم وجامعاتهم، وتفرض معايير فكرهم ومقاييس فهمهم وقِيمَ حياتهم. عندما لم يبقَ في مجال الرمحِ الروماني مَنْ يقتله لأنه وثني(2)
__________
(1) 1 - الهمجي تعني المتخلف عن السير في مسيرة الحضارة التي تسيطر بغض النظر عن رقي أو انحطاط تلك الحضارة. أيضاً دون اعتبارٍ لقناعة المتخلف بخطأ أفكار وغايات وواقع هذه الحضارة. هكذا أصبحت تعني الذي يقاطع التمدن؛ غير المتمدن.
(2) 2 - ذلك بعد إذعان الجميع للطلب الروماني أن تكون كرامة الروماني فوق كرامة الوثني وأن يكون صنم الإمبراطور أكبر من صنم الإله، أي إله. تماماً كما تطلب أميركا من دول الأرض أن يكون أمن أميركا قبل أمنها وأن تكون كرامة حياة الأميركي فوق كرامة إنسان رعيتها.(1/90)
، بدأ الموت يسري في حياة الروماني. إذ الإنسان يكون بدوره في رسالة الحياة. مَنْ لا رسالة له في الحياة لا دورَ له. مَنْ لا دور له في رسالة الحياة يعيش روحاً بدون حياة. أو يعيش جسداً لا تلتقي فيه غايةٌ مع فكرٍ من الحياة والموت، أو فكرٍ للحياة والموت. يحيا جسداً بدون معنى يفهمه من روحه، أو يحيا روحاً بدون فهمٍ لدورها في جسد.
إحباطُ القوي يكون في عدم وجود ضعيفٍ يقتله، إذ لا يكون في صفته قوياً إن لم يقارَن مع قوة غيره. قانون الطبيعة يحتاج إلى ضد، قوي وضعيف. لكن في قانون الرومان ـ واليوم الأميركان ـ القانون هو الأقوى والأضعف. قانون القوي والضعيف هو قانون التعايش بين القوي والضعيف. قانون الأقوى والأضعف هو مبرر الأقوى لقتل الأضعف. عندما أصبح حال الرومان أن القوي يجب أن يتعايش مع الضعيف تحول الصراع ليكون بين عناصر قوى القوة الرومانية.
هكذا أصبحت الزوجة تغدر بروح زوجها بعد أن كانت تغدر بعفته. الأخ يمكر بأخيه بعد أن كان يحسده. الابن يقتل أباه ليستولي على أمواله. شريك القوة يخون شريكه مع شريك آخر. كان على الرومان إيجاد عدوٍ يوحّدهم في جريمة قتله، لم يجدوا. تحوَّلوا إلى إيجاد مبرِّر يصطنع عدواً. نبشوا عقولهم لم يجدوا عرقاً أخضر يمتصون منه رحيقاً. نظروا في الأرض فرأوا في زاويتها المهملة بقايا عظامٍ من أتباع فكر نصرانية عيسى معجزة الله خالق الكون، في أرض الإنسان، عليه وعلى الحواريين أتباعه سلام الله ورحمته(1)
__________
(1) 6 - الكاتب يرجو الله أن يجعله ممن يستحقون سلامه ورحمته كما استحقه حواريو عيسى نبيِّ الله وعبده وإن كان يعلم أن الله قد خصهم بمنزلة أتباع النبيين التي لا يقترب منها إنسانٌ مهما علت درجاتُ ذكائه وإخلاصه وجرأته في طاعة الله.(1/91)
. أرسلوا شاؤول شرطياً سياسياً ـ يوازي عميل المخابرات المركزية الأميركية اليوم ـ في شرطة هيكل الصدوقيين في يهود حتى يعيد تجميعهم في خدمة الرومان وهو في دور الذي يلاحقهم حتى يقتلهم ويسجنهم. بعد أن اكتملت رؤيتهم في خطة إحياء أمة الرومان في جحافلها، أمروه فتحوَّل في لون فكره ودوره ورسالته. مِن فكره أنتج المسيحية التي استبدل النصرانية بها. في دوره استبدل سَجْنَ فلول النصارى أتباع الحواريين بأن يكون هو بديل عيسى وداعية المسيحية. استبدل دعاة النصرانية بدعاة المسيحية بعد أن بثَّ الرعب في دعاة النصرانية. أما رسالته فكانت أن يجعل عيسى عبد الله ونبيه إلهاً صنماً مثل أصنام الوثنيين في الماضي والحاضر.
بعد ثلاثة قرون أو يقل من بدء تحول شاؤول في اسمه إلى بولس لم تعمَّ المسيحيةُ شعوبَ وثنيي الإمبراطورية كما كان يأمل الرومان.(1/92)
حاربوها خداعاً في العلن، رعوها سراً لتعميمها بين الأمم ـ الوثنيين ـ لتكون بديل ديانتهم، لاحقوا قلائل من أتباعها في ظروفٍ معلومة حتى يقبل بهم المعارضون ويلتحقوا بهم. خطة الرومان في المسيحية كانت واضحة عند المعارضين والوثنيين والرومان أن المسيحية مشروع روماني سياسي يديره مجلس الشيوخ بموافقة الإله إمبراطور القوة في الألوية الرومانية. فشلُ المسيحية في انتشارها كان فشلاً ذريعاً في الإدارة السياسية الرومانية لإحياء الأمة الرومانية. لم يلتفت الإمبراطور إلى أن سبب الفشل في عدم انتشار المسيحية هو انعدام الفكر وحجة الفكر وواقع الفكر في دعوتها. ليس عن جهلٍ لم يتوقف عند ذلك بل لسببين رئيسيين أولهما أن هذا السبب لا يمكن معالجته أيضاً لسببين الأول أنه فكرُ طبيعة أي فكرٌ به نشأت المسيحية وبه نمت أفكارها وعليه قامت دعوتها. أيُّ مساسٍ به يكون قاتلاً لها. ثانياً أنه لا يوجد لدى الإمبراطورية تربة فكرية تُنتجُ فكراً بديلاً. السبب الثاني بعد الأول عند الإمبراطور أنه كان يقتنع أن قوته تستطيع أن تفرض الباطل حقاً والخطأ صواباً متى يريد وأينما يريد. تماماً كما تحاول أميركا اليوم فرضَ الإرهاب عدواً لها وللجنس البشري الذي يقبل أن يتعامل معها تعامل العبيد بجلادهم.(1/93)
فجأةً، كما في فُجأةِ تحول شاؤول إلى بولس، قرر الإمبراطور أن يتحوَّل قسطنطين من إمبراطور القوة التي تفرض صنمه إلهاً في معابد الوثنيين إلى إمبراطور القوة التي تفرض تقديس الطاعة له. تقديس الطاعة هو العبودية في معناها وفي ممارستها وفي جزائها. العبودية الحقيقية ليست الأغلالِ في الأعناق والأيدي والأرجل، إنما هي الطاعة بالقناعة الفكرية، بالعمل ونتيجته، وفي الأمل ومبرره. فجأةً، وليس في أمة الرومان ولا في الأمميين قبائل الوثنيين أكثر من خمسةٍ بالمائة منهم مسيحيين على ديانة بولس وأغوسطين، الذي أيضاً تحوَّل فجأة من عاهرٍ زنديق، فاسق فاجرٍ إلى قديسٍ سيد الفكر المسيحي في عصره الذي تعالى على عصر بولس وأوصيائه. يتحوَّل قسطنطين من إمبراطورٍ إلهٍ إلى إمبراطورٍ يصنع إلهاً بمعنى يفرض الإله الذي يفرضه إلهاً للآخرين.(1/94)
قسطنطين، عندما تحوَّل فجأة مسيحياً لم يتحوَّل إلى المسيحية كما تقول كتابات أكابر المسيحيين ويصدَّق مسيحيو اليوم. تحوُّل قسطنطين كان حتى يتولى الإمبراطور شخصياً، فردياً بسلطته السياسية، العسكرية والدينية حسم فكر ألوهية المسيح وفكر طقوس المسيحية وفكر الكنيسة المسيحية. صادر المسيحية فكراً، دعاةً وأتباعاً. دعاهم جميعاً، كتبة تعاليمها وتفسيرها ودعواها إلى نيقيه. أمر بكتاباتهم فأحرقها، عرض كتابه رفضوه. أمر بقتل وتشريد أو تعليق من لا يُقِرُّ مواده في معدن المسيح ودوره. لم يستسلم ما يقرب من 2085 مجتمعاً في أول لقاء علني يعقده لاهوتيو المسيحية غير حوالي ثلاثمائة. ما يقارب ألفاً وثمانمائة متدينٍ مفكرٍ مُتفلسفٍ بالمسيحية صدر الحكم الإمبراطوري والكنسي فيهم إلى الأبد(1) أنهم زنادقةٌ شياطينٌ مرتدون منافقون. هكذا أيضاً وصف المعلَّقون والمشردون الإمبراطور واللاهوتيين القلة الذين وافقوا معه أنهم منافقون مرتدون شياطين زنادقة(2).
__________
(1) 1 - طبعاً هذا كان قبل ولادة البروتستانتية بعمليةٍ قيصريةٍ وصفوها، قبل أن يكتشف الإنكليز طريقة القولون في التوليد أو طريقة الأنبوب.
(2) 2 - هكذا أيضاً وصفت كنيسة روما كنيسة بريطانيا التي وصفت أيضا كنيسة روما أنها كنيسة المنافقين المرتدين الشياطين الزنادقة لأنها لم توافق أن زنا ملك بريطانيا مباحاً في تعاليم الكنيسة ونصوصها التي تجعل الحاكم سيف الله، سيف الخير والشر مقدساً في طاعته وعمله ومنه زناه ومصادرته أموال رعيته.(1/95)
الإمبراطور الوثني قسطنطين حامي صنم جوبيتر يقرر فجأة أنه صاحب الحق في صياغة عقيدة المسيحية. يتحول إلى إمبراطور مسيحيٍّ أول، يدعو إلى مجمَعٍ لاهوتي أول، يعرض صياغته على مسيحيين منذ عشرات السنين يدينون بها، يدرسونها، يدعون لها ويجولون البلاد يبشِّرون بها. عندما يرفضون تحريفه وتدليسه وشذوذه في فكر العقيدةِ يقتلهم ويشردهم في الوديان، ممالك الذئاب، طعاماً لهم. قلَّة تفضّله على كهوف الذئاب، تخضع له وتصدّق بالتصويت الديمقراطي على صياغة الوثني قسطنطين لعقيدة المسيحية ولم يمر على تحوله من وثني يقدس جوبيتر ومن واقعه إلهاً فوق آلهة الأمم سنة أو سنتان. من هنا قول "القديس" أنسليم: "يجب أن تعتقد أولاً ما يعرض على قلبك بدون نظر ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت".(1/96)
قاعدة أنسليم هذه هي قاعدة تعطيل دور العقل في أهم أمور الحياة الأساسية. ليس في الحياة موضوع أهم من معرفة سبب الحياة، غاية وجود الإنسان، مصير الحياة والإنسان. لأن السبب والغاية والمصير أمور تتعلق بالوجود ومنه وجود الإنسان، فلا بد أن يأتي بيانها من المصدر الذي منه جاء الوجود. عقل الإنسان يعجز عن التفكير بها لأن العقل يرتبط عمله بعناصر أربعة دونها لا يستطيع أن يعمل. فالعقل لا يستطيع التفكير إلا في واقع محسوس بذاته أو بأثره. أما الوقائع غير المحسوسة فإن العقل يعجز عن التفكير فيها إلا إذا حصل على معرفة موثقة في مصدرها. واقع غاية الإنسان وسبب الحياة ومصيرها أنها غير محسوسة لذلك معرفتها يجب أن تأتي من مصدر موثوقٍ موثَّقٍ في مصدره متوحِّدٍ مع مصدر الوجود نفسه، أي صانعُ الوجود وخالق الحياة وصاحب مآل المصير. منع توثيق علاقة الفكر بمصدره يعني منع ربط حجة الفكر بصحته، ومنع إجراء العملية الفكرية في ربط برهان الواقع بالفكر وبرهان الفكر بمعناه. قاعدة أنسليم أو قاعدة قبول المسيحية ديناً تُلغي البحث في توثيق مصدر المعرفة الأساسية للإنسان وتُلغي البحثَ في أهلية المصدر الذي نُسبت إليه المعرفة. يمنع الربط بين أهلية المصدر وشروط المعرفة في صياغتها وفهمها ودورها. يمنع البحث الفكري في علاقة المعرفة(1)
__________
(1) 1 - المعرفة هنا هي معارف ما وراء الحياة أو معارف خضوع الإنسان في علاقته مع الله الخالق. عند الملحدين تكون معارف الإلحاد. هذه المعرفة إذا انبثقت كما في طبيعتها يجب أن تكون ـ من الخالق تسمى دينًا. أما إذا وضعها أفلاطون أو بوذا أو أنسليم أو أي إنسان آخر تكون وثنيةً لا يصح تسميتها دينا. شرط الدين أن يكون من الله؛ نظام للإنسان في طاعة الله. وهو غير نظام الحيوان أو النبات أو المعادن أو النجوم أو غيرها في طاعة الله. إذ لم يُخلق شيء إلا وله دور في طاعة الله. هذا عند مَنْ يؤمن بدينٍ موثَّقٍ في مصدره وفكره وطريقته.(1/97)
بمصدرها لأنه لا يوجَدُ أفكار موَثَّقةٌ عن علاقة المعرفة بمصدرها. يمنع البحث الفكري في المعرفة الأساسية للإنسان لأنها لا تخضع لعناصر عمل العقل. فكرُ المعرفة الأساسية كأي فكرٍ يجب أن تكون معانيه واقعاً محسوساً، يحتاج فهمه إلى معلومات سابقة تفسره، ذكاء يربط المعلومات بمعاني الأفكار أو واقعها، وإحساس ينقل الواقع إلى الدماغ حتى تجري عملية اختيار المعلومات المناسبة من المعلومات السابقة التي تتعلق بهذا الواقع. كل هذا يتعلق بعملية فهمٍ واحدة كبيرة أو صغيرة لا يهم، لكنه لا يتعلق بالصواب والخطأ. هذه عملية فهم فقط وعناصرها أربعة فقط إن نقصت لا تُنتج فهماً مهما كان الإنسان عبقرياً، فيلسوفاً أو مفكراً في ألقاب، تُنتجُ وهماً. عملية فهم الصواب والخطأ تتعلق بمقياس الصواب والخطأ هي أمر آخر ليس هنا مجاله لأننا لا نبحث هنا في صواب وخطأ الفكر المسيحي. نبحث في تعطيل دور العقل في الفرد الأوروبي، في الأمة الألمانية، في الأمة الإيطالية، الفرنسية، الإنكليزية، وغيرهم. في تعطيل دور العقل في أفكار الحياة الأساسية وهو مضطرب في وثنيته، في مسيحيته، في ديمقراطيته وفي تصديقه لكذب أميركا عليه في محاربتها الإرهاب. لذلك البحث في ضياع الأوروبي بسبب نجاح سلطة الحكم فيه منذ ألفي سنة في منعه من معرفة طريقة التفكير في أهم أمور حياته. فالسلطة السياسية تتلاعب بعقله منذ أن وُجِد في كيانٍ مجتمعي. لكن التلاعب بعقله اليوم أخبث مما كان فأساليب سلطة الحكم أكثر ذكاءً وتأثيراً لأنها اليوم بخبراتها المتراكمة وقدراتها الهائلة تستطيع تسخير طريقة الرومان الوثنيين والرومان المسيحيين والديمقراطيين الرأسماليين.(1/98)
طريقة الديمقراطية(1) في منع العقل(2)
__________
(1) 1 - كان يجب أو كان يمكن أن نقول هنا طريقة المفكرين في الثورة الديمقراطية الرأسمالية بدل طريقة الديمقراطية. لكن لأن الفكر هو فكر عام وفكر أساسي فإنه يصبح فكراً عقدياً أو فكرَ مبدأ. هذا النوع أو هذا الفكر في جنسه أنه يتبع أيديولوجية محددة إما أنه يوجدها ابتداءً أو يؤثر فيها مباشرة. لذلك، ولو أنه أساساً انطلق من شخص إلا أنه ينفصل عنه في نموه وتناميه وتأثيره ونتيجته، ليلتحق بالمجرة الفكرية التي من جنسه، أو التي تزداد به نضجاً أو إنضاجاً. فكر الفرد في نشوئه فقط أنه فكرٌ فردي أما في فهم معناه وبحث دوره في سلوك الفرد والمجتمع فإنه يصبح جزءاً من أفكار وجهة النظر في الحياة التي تعلقت به أو تعلق بها. فالوصف الأدق هو التعبير الذي اخترناه في أعلى الصفحة، أو هكذا نظن.
(2) 2 - المنع هنا دائماً يتعلق بعقل الفرد الأوروبي أساسا، أما المسلم الذي تخلى عن إسلامه وأعلن أنه ديمقراطي فهو لم يكن مقصوداً. هو إذا ادَّعى أنه ديمقراطي وهو جزء من نظام حكم يكون كذاباً لأنه لا يوجد نظام حكم ديمقراطي. أما إذا لم يكن طرفاً في حكم فهو أيضاً كذاب في أمر وصادق في أمر. صادق أنه تخلى عن الإسلام ديناً. كذاب أنه ديمقراطي لأنه يدعي شيئاً لا يفهمه. حتى الأوروبي عليه أن يصدق أنه على دين الديمقراطية دون أن يفهم شيئاً من فلسفتها للحياة لأنه إذا فهمها تركها.(1/99)
من التفكير اختلفت جذرياً عن طريقة الإيمان بالمسيحية التي منعت العقل من البحث عن حجة الإيمان أو إجراء العملية الفكرية في برهان المسيحية. فلاسفةُ الديمقراطية أنكروا واقع البحث بدل أن يمنعوا التفكير في برهان البحث. لا يوجد في فلسفات المفكرين في أيديولوجيات البشر أن اجتمعت عقولهم على إنكار واقعِ أساسِ الفكر كما فعل فلاسفةُ فكرِ ديمقراطية أوروبا الحديثة. مفكروا المسيحية لم ينكروا قاعدةَ فِكرِ الأفكار إنما منعوا البحث فيها لعدم وجود برهانٍ عندهم أو منهم لها. كانوا أكثر واقعية وأكثر فهماً. قاعدة فكر الأفكار في المسيحية غيرها في الديمقراطية، لكن هذا لا يؤثر على المقارنة لأن مواصفات قاعدة الأفكار تتعلق بطبيعة القاعدة الفكرية التي هي طبيعة واحدة. لا تتعلق بنوع الفكر، لا بصوابه ولا بخطئه. فلاسفة الثورة على المسيحية أنكروا واقع عقيدة أفكار الإنسان للحياة والوجود والمصير لأنهم أيضا لا يملكون برهان البحث.
جهلهم برهان البحث ليس عن عدم قدرة على الفهم كما هو حال فلاسفة(1) المسيحية بل كراهية وحقداً وإمعاناً في انفصالهم عن الكنيسة. ثورةُ المفكرين أساساً كانت ضد ظلم الكنيسة لهم، وتضليلها عقولهم وتلاعبها في مصيرهم. ثورتهم كانت لتخليص الشعب من الظلم والتضليل وتخليص الفرد من تلاعب الكنيسة بمصيره إلى جنة أو نار. هذا الهدف، مع الكراهية والحقد سبباً أساسُ الوحدة بين المفكرين والشعب وليس فكر الفلاسفة ولا قناعة الشعب بفكر الفلاسفة.
__________
(1) 1 - فلاسفة المسيحية لاهوتيوها. عندما احتاجت الكنيسة إلى معانٍ تخالف المعاني الإنجيلية اعتمدت طريقة الفلسفة في التفكير لإنتاج معانٍ من نصوص لا تحتمل هذه المعاني، لكنهم يصمونها أنها مسيحية بعد تمريرها في أقنية التفلسف.(1/100)
قاعدةُ فكر المبدأ الديمقراطي(1) تتناول قاعدة حياة الإنسان الأولى وهي كما في أي مبدأ للحياة تتعلق بفكر سبب الوجود وغاية الإنسان(2)
__________
(1) 2 - المبدأ الديمقراطي هو الاسم الأول الأساسي وليس المبدأ الرأسمالي الذي يُعرف به اليوم. ذلك لأن سيطرة رأس المال كانت أبرز أفكار النظام الاقتصادي في المبدأ حيث أن نظرية النفعية هي أحد أبرز أسس النظام الاقتصادي الرأسمالي طغت على بقية أبحاث أو نقاط النظام. تبعاً لقاعدة يُعرفُ الشيءُ بأبرز ما فيه أضيفت الرأسمالية على الديمقراطية فأصبح اسمه المبدأ الديمقراطي الرأسمالي أو الرأسمالي الديمقراطي عند الذين لا يكترثون للتدقيق. لكن سرعان ما وُجدت آلية عند الدولة للتحكم بالديمقراطية في معناها وممارستها ودورها فكان أن أفقد الكلمة سحرها وليس جوهرها لأنها أساساً كانت كلمة جوفاء لا مادة فكرية لها. بالرغم من استمرار استعمالها للتضليل إلا أن اسم المبدأ الواقعي اليوم أصبح المبدأ الرأسمالي. نحن هنا نستعمل الاسم التضليلي الأول لأن بحثنا فكري يتعلق بعقيدة المبدأ الديمقراطي التي تبقى عقيدته في تغيير واقعه أنه المبدأ الرأسمالي.
(2) 3 - نستعمل غاية الإنسان بصيغة المفرد ونعني غاية الحياة في الإنسان وليس بمعنى أن للإنسان غايات عليه تحقيقها مثل تحقيق طموحه في الوصول إلى منصب أو جمع ثروة أو تكوين عائلة للإنجاب وما هنالك. هذه في حقيقتها غايات للإنسان في إشباع رغباته لكنها ليست جميعها غاية الحياة في الفرد، إذ يستطيع الإنسان أن يحقق إشباع جميع هذه الرغبات دون تحقيق غاية الحياة التي من أجلها وُجد الإنسان. لكن تحقيق غاية الحياة في الإنسان أو غاية الإنسان في الحياة يؤدي حتماً إلى الاكتفاء بالقناعة أن جميع رغباته تم إشباعها في الحياة بالنسبة التي ترضيه دون البحث في كمية تلك النسبة. إذ دور مقاربة نسبة إلى مطلق ينعدم في غياب مقياس مشترك.(1/101)
ومصير الحياة؛ من أين جاء الإنسان، لماذا وُجد وإلى أين يكون هو الفكر الذي يحدد وجهة نظر الإنسان في كافة الأمور. لما تخلت الديمقراطية عن بحث هذه المواضيع هي في الحقيقة ألغت واقعا. غير أن الفلاسفة رأوا استحالة ذلك على الإنسان لأن الإنسان بطبيعته يحتاج أن يعرف من أين جاء أو كيف وُجد. لماذا جاء أي ما هي الغاية التي يلزمه السعي لها، وإلى أين يذهب في رحلة الموت أو ماذا يكون مصيره بالموت. هذه المواضيع يتفرع عنها نقاط بحث، لذلك أفكار المواضيع الرئيسية مع أفكار النقاط الفرعية تشكل معرفة الإنسان بحل العقدة الكبرى التي على كل فرد واجبٌ طبيعي وحاجة ملحة للتفكير بها. قال الفلاسفة عن موضوعي من أين جاء الإنسان وأين يصير بعد الموت إنه موضوع فردي لكلٍّ أن يقتنع بما يريد لأن معرفته لا علاقة لها بالحياة. لم يقولوا لا علاقة لها بسبب ومصير الحياة لأن ذلك يدينهم في حقيقتهم أنهم ليسوا مفكرين. فصلوا بين واقع الحياة وسبب الحياة وهو رغم ما فيه من ضياعٍ ليس بعده ضياع إلا أنهم احتاجوا إلى هذا الفصل. همهم كان التخلص من نير الكنيسة وكهانها والتحرر من الجهل الذي تفرضه عليهم أفكار المسيحية. لم يكن همهم إيجاد هذه المعرفة ولم يكن عندهم النفسية التي تسمح لهم بالتفتيش عنها ولا الوعي الفكري للاهتداء إليها. واقعهم أنهم مفكرون في قيادةِ غوغاءٍ لا مفكرون في الحياة والإنسان والكون. لم يكن أحد يعلم الفرق بين الكون والعالم كما نعرفه اليوم، إذ لم يكن لهذا التفريق ضرورة أو في أقله حاجة فكرية. قصروا بحثهم على دور الإنسان في إشباع حاجاته ورغباته ومسؤولياته في هذا الإشباع بدل البحث العام في سبب وجوده وغاية وجوده ومصير هذا الوجود. بذلك سفّهوا غاية الحياة وجعلوا العقل طاقةً مسخّرةً في تحقيق إشباع الغرائز بدل أن يكون طاقة مُنظِّمة لهذا الإشباع. ولأن ذلك مستحيل أيضاً في طبيعة الإنسان والعقل والإشباع عمدوا إلى وضع صِيَغٍ(1/102)
كلاميةٍ سموها قوانين وأنظمة لتنظيم تحقيق هذا الإشباع. ولأن ذلك أيضاً مستحيل في الإشباع والإمكانيات انتقلوا إلى موضوع الحريات فأطلقوها. ولأن ذلك مستحيل في حياة المجتمع حوَّلوا القوانين والأنظمة في تنظيم الإشباع أو تحقيق الإشباع إلى قوانين وأنظمة تضبط الحريات وتقيدها. هذا بدوره ألغى الحريات وحوَّل إنسان الديمقراطية إلى حيوان داجنٍ يرعى في نهاره لينام في ليله.
فوضى فكر عقيدة الحياة في الديمقراطية، عقيدة إنسان ألمانيا وفرنسا وأميركا وإيطاليا وبقيتهم لا يوازيها فوضى فكر عقيدة أخرى. إلا أن هذا ليس موضوعنا هنا لا في الأساس ولا في الفرع. تناولناه بمنتهى الإيجاز لما له من علاقة في حقيقة الضياع الفكري الذي يعيش فيه إنسان الغرب والأميركي خاصة، لمعرفة كيف جاء تعطيل دور العقل في الإنسان الأوروبي منذ وجوده همجي يقتل ليعيش، في ثورته على روما حتى الموت، في قانون قسطنطين بقتل المسيحي الذي لا يقبل مسيحية الإمبراطور الذي أصبح قانون كل حاكمٍ مسيحي ولو بغير مسيحية قسطنطين. في قانون ثيودوس بقتل غير المسيحي إذا لم يتحوّل إلى المسيحية، في سيطرة الكنيسة على السلطات السياسية. وأخيراً في ثورته على الكنيسة واستقرارِ حاله عبداً لنظام حكمٍ لا يسمح له إلا بإشباع غرائزه ولا يسمح له بالتفكير في حل عقدة الإنسان الكبرى؛ من أين جاء، لماذا جاء، إلى أين يذهب. ويمنعه من التفكير حتى في الأمور الفرعية التي ترتبط بالفكر الأساسي هذا.(1/103)
هذه العراقة في منع العقل في الأميركي والأوروبي من التفكير في الأمور الأساسية، وهذه العراقة في قبول الأوروبي للعيش جاهلاً معرفة الأمور الأساسية في وجوده هو الذي يجعل مهمة أميركا في فرض مبررها في إرهابها في خطةٍ جديدة، مهمة سهلة في ناس أميركا وقطعانهم في كانتونات أوروبا. يلزم التنبيه هنا إلى وجوب تحديد مجال الجهل أنه فقط في الناس الذين تحكمهم قلة من الذين يسيطرون على أدوات سلطة الحكم، السياسيون. هؤلاء، يديرون خطة منع عقل الأوروبي من العمل في بيئته الطبيعية، يصطنعون له بيئة ليعمل فيها، في خطتهم لا يمنعونه من العمل لأن هذا أيضاً مستحيل أن يتحقق. لذلك، سياسيو أوروبا عصابة فكرية أكثر منها عصابة نهب وظلم. هي، قوى الحكم التي تمسك حقيقةً بسلطات الحكم تدعي أنها تحمي حقوق الناس وترعاهم. هذا، ادعاءُ حقٍّ نعترف به لكنهم لا يقولون ممن يحمون الناس ومصالحهم في هذه البيئة الفكرية التي أصبح كثير من الناس يصدق أنها البيئة الطبيعية للإنسان. بينما البعض قد يصل إلى أن يرى أنها المرحاض العصري الأفضل للإنسان العصري الأفضل؛ الأوروبي أو الأميركي.
قوى الحكم في أوروبا تفهم مؤامرة أميركا عليها في مبرر محاربة الإرهاب الدولي. تعي حقيقة أبعاد الخطر عليها وعلى دورها في المحافظة على مصالح رعيتها الذين استسلموا للعيش في حضّاناتها الفكرية. بهذه المعرفة والوعي على خطر مبرر بطش أميركا في دول الأرض بحجة كاذبة تصرح وتعلن أنها مع أميركا في هذه الحرب. حجتهم الظاهرة أنهم لا يستطيعون الوقوف بوجه أميركا، فهي أقوى منهم مجتمعين عسكرياً واقتصادياً ومالياً. هذا صحيح في بحث موازين القوى، لكن لا علاقة له في معدن القوة، وهنا تكمن قوة أوروبا، وهو كعب أخيلليس في مؤامرة أميركا على أوروبا!(1/104)
عاصفة الطائرات خطة أميركا في فرض حالة دولية جديدة فيها من القوة ما يلزم إيجاد الصدمة في كل فرد ومجتمع وأمة. في غياب دور الفرد والمجتمع والأمة في لعبة الخداع السياسي فيما يسمونه الدولة الديمقراطية لم تحصل الصدمة في الفرد أو المجتمع أو الأمة، لكنها حصلت في الدولة، سلطات الحكم وأجهزته. الحكم في دول أوروبا أخافته الصدمة حتى أفاقته كما يفيق النائم مذعوراً من كابوس. في استيقاظه رأى بنية أميركا الدولية التي تحجب ضوء النور عنه كما حجبه الاسكندر عن ذلك الحكيم. بدا حاكم أوروبا ذليلاً وهو يقارن قوة ذلك المعتكف في برميل وضعف ذلك الجبار إبن فيليب. هكذا بدأ صفاء الذهن وقرار النفس في ذليلِ أوروبا.
خطة أوروبا في يقظتها أولى ثمرات الصدمة التي أرادت بها أميركا قتل روح اليقظة في الجنس البشري. استيقاظ أوروبا ـ تعني الحاكم في أوروبا ـ هو العامل الأول الرئيسي الذي يمكنه تمزيق الشباك التي ألقتها أميركا لاصطياد دول العالم. الصدمة التي أيقظت الحكم في أوروبا هي أخطر عوامل فشل خطة أميركا في خداع حكام الأرض لابتلاعهم لقمة واحدة. معالم خطة أوروبا في وقوفها بوجه الخطة الأميركية بدأت مترنحة لكن تتابعها أظهر أنها جدية. بدأت ضبابية لكن تعددها أظهر أنها محددة، بدأت مبعثرة لكن ثباتها أظهر أنها ذكية. وضوح معالمها اليوم يكاد يكون جلياً في حركة أوروبا السياسية. وما مسرحية لوبان واليمين المتطرف في فرنسا ومنع جوسبان وحزبه من الانتصار في الانتخابات(1) إلا واحدة في محاولات أوروبية لتنظيف نوافذ قصر بعد قصر من قصور الحكم الأوروبي من غبار أميركا النووي الذي غطاها عقوداً طويلة.
__________
(1) - منع لوبان في الحقيقة هو منع للحزب الاشتراكي بقيادة الهزيل جوسبان لكن الغباء في الاشتراكي منعه من رؤية حقيقة المؤامرة عليه. حتى اليوم لا يبدو على أحد منهم ـ الاشتراكيين ـ أنه تخلى عن لغة الغباء أو حتى مظاهرها.(1/105)
تفاصيل الخطة وأدوار أبطالها ودوائرها ليس هنا في هذا البحث لأنه يجب أن يكون موضوع كتابٍ منفصل في حجمه وغايته على الأقل. الموضوع المهم في يقظة أوروبا هل ستستمر وتنجح أم أنها عابرة؟ الجواب ليس تنبؤاً بالمستقبل بل بحث في المعطيات، هذا أيضاً لا مكان له في هذا الموضوع. لكن في نتيجة بحث المعطيات أن أميركا حتى الآن فاشلة في خطتها ضرب ضوابط السياسة الدولية التي تقضي على الدور الأوروبي وأصبح من المؤكد أن هذا الفشل سيستمر. من جهة أخرى يرافق هذا الفشل تماسك قوي في أوروبا لفرض قولٍ في سياسات أميركا في فرض هيمنتها أو احتلالها لهذه الدولة أو تلك. وإذا نجحت خطة إيجاد مَحاوِرَ فاعلةٍ في الساحة الأوروبية فسترقى أوروبا إلى مستوى الشريك الفعلي لأميركا في السياسة الدولية وستكون أكبر ضربة توجه لاستراتيجية أميركا الدولية منذ خروجها من الشرنقة. بهذا خطة أميركا في خدعة تفجير 11 أيلول تكون وبالاً على أميركا في تحقيق أهدافِ مجالها الأول.
خطة أميركا في تغيير قواعد سياسة موازين القوى الدولية خطة فيها تحقيق هدفين:
1 – إلغاء دور أوروبا في السياسة الدولية.
2 – استبدال النفوذ الأميركي في البلاد التي ما زالت بريطانيا وفرنسا لها النفوذ الأول.(1/106)
الهدف الأول: الفشل في نجاح الهدف الأول أصبح واضحاً في متابعة الأعمال السياسية التي تقوم بها أوروبا وفي اتجاه الحركة السياسية الأوروبية في كثير من الأمور. ويمكننا القول أن أوروبا برهنت في الشهور الأخيرة أنها تستطيع إذا حزمت أمرها أن تكون شريكاً فعلياً لأميركا في السيطرة على العالم لا شريكاً نائماً لأميركا في جريمتها. كما برهنت على ذكاء متقدم في اصطناع مشاكل خطيرة في العالم لتكون عوائق في عرقلة سير الخطة الأميركية للانفراد بالسيطرة الدولية. فأحداث الشرق الأوسط الأخيرة بدت وكأنها تفريغ للخطة الأميركية من زخمها. وموقف الهند الذي ساندته أوروبا علناً وبحزم بدا وكان المناخ السياسي الدولي الجديد يسمح أكثر مما يمنع بروز قوى عظمى إقليمية. ولولا أن أميركا وقفت موقفاً حازماً بوجه الهند وأعلمتها أنها ـ أي أميركا ـ بنفسها وسلاحها ستقود معركة باكستان لما تراجعت الهند عن محاولتها إخراج نفوذ أميركا من باكستان بتغيير نظام حكم باكستان. حجة أميركا في فرض سيطرة القوي على الضعيف لمنع إرهاب الضعيف للقوي حجة تصلح لكل دولة أقوى من دولة. كما يمكن لكل دولة أن تعلن الحرب على غيرها كما فعلت إسرائيل وكما حاولت الهند أن تفعل مبررة فعلها أنها تنفذ القانون الأميركي الدولي الجديد ولذلك هي بحماية أميركا وليست ضد التوجهات الأميركية. بالتأكيد هناك وقائع متعددة ليست موضوعنا إلا كمثال توضيحي لما تجري به الأحداث بعد مباشرة أميركا في خطتها الدولية الجديدة.(1/107)
في الساحة الأوروبية تغير الجو السياسي العام من رتابة الجدول الموضوعي والزمني ليصبح وكأنه جو سياسي محموم يكاد يختلط جهد نهاره بتفكير ليله. فالساحة الأوروبية تحولت في بضعة أسابيع إلى ما يشبه خلية نحل يتحرك فيها الجميع ليس الكبار فقط كما في السابق. وقد تلقفت أوروبا فكرة أميركا الخيالية في جعل الإرهاب الشبح المخيف وأضافت إليها موضوع الهجرة غير القانونية والمشاعر الوطنية التي سمتها اليمين المتطرف. كلا الموضوعين لا علاقة لهما بالإرهاب ولم يكونا موضوعاً ملحاً، لكن فجأة تجعلهما الدوائر الأوروبية موضوعي الساعة. تحريك الموضوعين مصطنع حكومياً وأغراض ذلك متعددة ومتنوعة. باقتضاب نوضح أن أهمية ذلك تكمن في إيجاد أرضية محلية للتحرك السياسي في غير موضوع الإرهاب ومشتقاته مثل الهجرة الممنوعة.(1/108)
المساعي السياسية الحثيثة أوضحت أن الموضوع السياسي الأهم في الحركة الأوروبية الجديدة هو توحيد آراء الأنظمة السياسية في القضايا الدولية، الاتفاق على خطة عمل في المجال الدولي، توزيع المسؤوليات والأدوار في عرقلة الهجمة الأميركية إن لم يكن في إفشالها والوقوف بوجهها. أهم من ذلك وضع خطة في مجال السياسة الدولية وإيجاد آلية التحكم بهذه الخطة. على الصعيد الداخلي الأوروبي نجحت الخطة كثيراً حتى الآن خاصة في نتائج انتخابات فرنسا، كذلك يجري بحثها في هولندا وقررت ألمانيا والسويد وبلجيكا السير بهذا الانعطاف التاريخي في مسيرة أوروبا. برلسكوني يريد مرافقة بريطانيا واليونان لكنه ما زال يخاف من قدرة أميركا على تحريك الشارع العمالي ضده. شرويدر أيضاً يخشى من قدرة أميركا على تحريك العمال ضده لكنه حسم أمره لأنه يعلم أن الحزب الديمقراطي المسيحي سيطيح به فقرر إيقاظ الوطنية في الأمة. نجاح أوروبا في اجتماع كلمتها على خطة سياسية دولية يعتمد على استقرار الوضع في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا. لكن الموضوع في ألمانيا يتعلق بأكثر من استقرار الوضع لأن المسرح السياسي ما زال أميركياً صرفاً بخلاف مسارح إسبانيا وفرنسا وإلى حد ما إيطاليا. اشتراط الاستقرار سببه ليس سياسياً بل موضوعي وهو أن أنظمة الحكم الأوروبية أصبح فيها قابلية التفاهم بالحوار أكثر من أي وقت مضى في تاريخها. لكن الاضطراب الاجتماعي أو السياسي يضرب أو يلغي الفرصة التي تسمح بالتوافق. لذلك ليس لدى أميركا قدرة على منع تفاهم أوروبي في خطة عمل دولي تعارض الخطة الأميركية أو تؤثر في تحقيق أهدافها إلا إثارة الاضطراب الاجتماعي أو السياسي في فرنسا أو إسبانيا وحتى إشعار آخر في إيطاليا. أما في ألمانيا فبعد أن فاز شرويدر بمناداته بالاستقلالية الألمانية فإن أميركا أغرقت نفسها بصراعات أخطر بكثير مما كانت تواحهها.(1/109)
ضعف خطة أوروبا من أمرين في طبيعة الخطط السياسية:
1 ـ أنها خطة طارئة وليست خطة أصيلة. هذا يعني أنها نشأت كردة فعلٍ للوقوف بوجه خطةٍ خطرة. لذلك هي خطة في طبيعتها أنها تتعلق بظرف وهدف، فهي خطة مؤقتة وليست دائمة. الخطط التي ترتبط بظرف وهدف ليس فيها قابلية الحياة الدائمة. قد تنجح وقد تفشل لكن لا يمكن مقارنة زخمها بزخم خطة أميركا التي نشأت نشوءاً طبيعياً ولو في حضانة مثل حضانات تفقيس الصيصان.
2 – أنها خطة بدون رؤية. في طبيعة الخطة أنها تحتاج إلى رؤية تنشأ منها، إن لم يكن لها رؤية فليس لها وقود لذلك تعتمد في استمرارها على ظروف ملائمة تبعث فيها الحياة المؤقتة. أما إذا كانت الظروف غير ملائمة فإنها سرعان ما تتغيّر وكأنها لم تكن. كان يمكن أن يكون لها رؤية لكن أسباب عدم حصول ذلك تتعلق بسر حضاري وسياسي تم دفنه في جمجمة أبو الهول منذ عقود طويلة(1). لا نرى أننا أهل لكشفه ولا هذا المنبر يصلح للحديث عنه كما أنه لا فائدة من ذكره وخارج عن موضوع مؤامرة أميركا في لف العالم بالعلم الأميركي.
__________
(1) - الرؤية السياسية جزء من الرؤية الحضارية أو تنبثق منها، في طبيعة الرؤية أنها خاصةً بالفكر الحضاري. البشر في انفصالهم إلى أمم إنما ينفصلون بحضارة كل منهم. خصوصية الرؤية تمنع إعارتها وهي من أخص خصوصيات الأمم.(1/110)
الهدف الثاني: محاولة أميركا طرد بريطانيا وفرنسا من مواطن نفوذها واقعهُ أنه خطة أميركية منذ دخولها الحرب العالمية وليس بعد خروجها. لكن الجديد في مرحلته أنه بعد أن عجزت أميركا عن إخراج بريطانيا من معظم مناطق نفوذها والقضاء على النفوذ الفرنسي في بقاياه المبعثرة أرادت تغيير الواقع إلى واقع تكون فيه الأقوى فكان واقع محاربة الإرهاب. في ظروف مقاومة الإرهاب "الشبح العالمي" فرضت أميركا الظروف التي تسمح لها باحتلال أي بلد تتهمه ولو زوراً. فالكيفية الأميركية بالفرض لا تسمح باعتراض أو احتجاج الفريسة التي قررت أميركا التهامها. وإذا تجرأت دولة أو نظام الحكم فيها على الاعتراض فذاك دليل على إرهابية النظام وحجة في وجوب تدميره. كما أن الموقف الدولي العام لا يسمح لأي دولة بمساعدة أخرى إلا بالكلام الرخيص(1) الذي لا تبالي به أميركا. هذه الطريقة في تغيير ظروف الصراع طريقة أميركية قديمة فمثلاً إنشاء الأحلاف الإقليمية في الحرب الباردة لم يكن في حقيقته من أجل محاربة روسيا عسكرياً أو مادياً. تلك كانت حجته الظاهرة أمام الدول لكن حقيقته كانت إلغاء دور أي دولة لا تخضع للنفوذ الأميركي وحده. هذا يعني فرض الجو السياسي الدولي الذي يمنع بريطانيا أو فرنسا من التفرد بأي خطة سياسية في أي منطقة لهم فيها نفوذ أقوى من النفوذ الأميركي. في الماضي نجحت أميركا في إخراج بريطانيا من كثير من الدول مثل باكستان، مصر، سوريا، إيران ولفترة محدودة من تركيا. ونجحت في إخراج فرنسا أيضاً من كثير من الدول أبرزها الجزائر والهند الصينية. فالخطة الجديدة ليس فيها جديد من أدوات وقوى، فقط تغير الظروف التي قد تسمح باختراق بعض الثغرات. لكن في الغالب معظم الأنظمة العميلة أصبحت محصنة ضد اختراق الآخر لها. من الواضح أنه منذ الثورة الإيرانية لم تنجح
__________
(1) - الكلام الرخيص هو الذي لا يمكن مساندته لجهود مادية يتطلبها الكلام بشروط التزام مواقفه.(1/111)
أميركا في اقتلاع نفوذ الإنكليز من مكان آخر. بل إن بريطانيا ردت عليها باسترداد دولٍ أخرى كانت قد أخرجتها منها. فالوضع الجديد في صراع دولتي الأطلسي ليس فيه معطيات التغيير إلا بقدر غفلة الآخر وليس بقدر قوة الآخر. أميركا تريد فرض معادلة جديدة في الصراع أن يكون بين طرفٍ أقوى وطرف ضعيف، لهذا إصرارها أن تحل الخلافات بالقوة العسكرية أي أن تدمر من يعارض خطة من خططها مثلما تحاول أن تتعامل مع العراق. فهي تقول بكل استهزاءٍ بعقل الجنس البشري أنها لا تستطيع النوم في الليل لأن صدام قد يفكر في اليوم التالي أنه يحب أن يمتلك قنبلة نووية. لا تخاف من محاولته امتلاك أو أن عنده مصنعاً ينتج بل لأنه قد تتحرك فيه ميول! مثل عذراءٍ تبكي في نيفادا خوفاً من صوصٍ قد يولد في سيبيريا ويريد أن يغتصبها.
عنصر ضعف الخطة الأوروبية في مقابلته مع عنصر ضعف الخطة الأميركية يجعل ميزان القوى يميل إلى الخطة الأوروبية. خطة أميركا صحيح أنها تنبع من رؤية أميركا الحضارية في السيادة على العالم إلا أنها تبقى محاولة جديدة تخضع في كل شيء إلى أحكام وظروف وأدوات النجاح في أي محاولة.(1/112)
خطة مصطنعة لتغيير المسرح الذي عملت أميركا على ترسيخه خمسين عاماً. إلا أن موقع المسرح وأضواءه وقواعده ليست كلها من صنع أميركا. حتى مقاعد المتفرجين لكذا ومائة دولة لا تمتلكها، أميركا صنعت كثيراً من هذه المقاعد لكن أوروبا صنعت أكثر بكثير. بقدرة المافياوي في فرض الخوَّةِ سرقت أميركا ملكية كثير من المقاعد لكن أوروبا كانت قد بدأت تعمير ورشة إصلاح المقاعد التي تهترئ أو يصيبها العطب. طبعاً أميركا تنبهت وأنشأت منشأة تعمير للكراسي لكنها بنتها على عجل ولذلك منشأتها كانت دائماً تحتاج إلى مساعدة من خارجها مثل الطائرات والسفن الحربية وآلاف أطنان المتفجرات أو أموال طائلة تنفقُ في ليلٍ أو يوم مطير. عناصر ضعف خطة أميركا أكثر من عناصر ضعف خطة أوروبا، أميركا تريد أن تهدم بطائراتها قواعد السياسة الدولية. أوروبا تريد المحافظة عليها لكن بأجساد غيرها إن اقتضى الأمر. لذلك أعلنت أميركا الحرب على لا أحد، تماماً كما فعل دون كيشوت بسيفه لأنه تخيل ظل شفرة المروحة هاجماً عليه. الفارق بينه وبين أميركا أنه فعل فِعلته وهو في اضطراب بصري، أميركا تفعل ذلك بتصميم وبعد تفكير طويل. دون كيشوت في محاربة ظلٍّ كان يحارب شيئاً يراه، أميركا تصطنع ظلاً لا تحاربه. القارئ الأوروبي يضحك من تجربة دون كيشوت والمتفرج الأوروبي يحزن من رؤية دون كيشوت متوهماً على المسرح. أما في حرب أميركا على شبحٍ بدون ظلٍّ فالأوروبي الذي يقرأ أو يتفرج يحتقر الذي يهزأ بعقله ويحتقر الذي يتجاوب مع ثرثرة المجرم في إجرامه، إنه يعلم أنها تريد الغدر به بالخدعة الأخيرة. يتذكر الأوروبي قصة العشاء الأخير وهي في صيغة المذكر، ويرى الخدعة الأخيرة في إغرائها وهي في صيغة الأنثى، عندها يدرك أن دورة حياتها اكتملت. اكتمال دورة الحياة في الأمة، يعلم الحاكم والفيلسوف والعادي من الناس، تعني أن ظروف الموت اكتملت.(1/113)
فشل الهدف الثاني في الخطة الأميركية لطرد النفوذ الأوروبي من بقية أشباه الدول بدأ يتأكد في كل دولة وكل اجتماع دولي. أيضاً لن ندخل في تفاصيل أحداثٍ سياسية تحتاج إلى مؤلَّفٍ منفصل، لكن نقول أن المعطيات السياسية في المسارح المحلية جميعها تؤكد أن انتصار أميركا سيكون ثرثرة رئاسية لكن ليس على أرض الواقع. والتصميم الذي ينفخه الرئيس في كلامه هو نفخ في الهواء لا ينطلي على عمالقة الحكم الأوروبي. الأوروبيون ـ رجالهم في الحكم ـ يدركون أن الرئيس مفلس في حجته منذ البداية. المفلس في حجته مفلس في عقله. يتساءلون في اجتماعاتهم وهم يتدارسون ما قيمة الثروة في مفلس العقل، وما قيمة القوة في إفلاس الحجة؟
الانعطاف التاريخي في مسيرة أوروبا اليوم أكثر أهمية وجدية في حياة أوروبا من تأثير الانعطاف التاريخي في مسيرة أميركا اليوم في حياة أميركا. أميركا بدأت انعطافها التاريخي بخداع ونفاق وقتل. أوروبا تبدأ انعطافها التاريخي بجرأة الذي يعرف غدر شريكه في الجريمة، ويعرف طمع الذي كان يشاركه غنائم نهب الآخرين. قبول بريطانيا بمشاركة فرنسا وألمانيا وحتى إسبانيا وإيطاليا بقيادة العالم يعتمد على قبول أولئك الأربعة وعناصر أخرى(1). لكنه إذا تحقق ولو في الرد على خطة أميركا الجديدة في إلقاء مظلَّة كبيرة على العالم سيجعل محاولة أميركا ورقة خريف بين غصن الشجرة وتربتها(2).
__________
(1) - عناصر اشتراك أوروبا في خطة سياسية دولية متعددة لا نستطيع التطرق إليها هنا لأن البحث ليس في واقع أوروبا ولا في مستقبل أوروبا واحتمالات مستقبلها. الموضوع هو التعاون في خطة لكن المثير في هذا الشأن هل يكون هذا التعاون في خطةٍ مؤثراً في لفت انتباه أوروبا أو الأربعة الآخرين إلى التعاون في الخطة الكبرى؟
(2) 2- ورقة الخريف في سقوطها قبل أن تصل إلى الأرض حيث تدوسها الأقدام حتى تحللها.(1/114)
متابعة أحداث العلاقة الطارئة مع أوروبا في خطة أميركا الجديدة يُظهِر بوضوح تقلب المواقف الأميركية حتى في الموضوع الواحد. ويلاحظ المفكر السياسي أو رجل السياسة في أوروبا والعالم أن أميركا تغير مواقفها مع أوروبا وبسرعة في ظروف معينة أو قضية محددة. لكن هذا لم يكن في الماضي ولم يحصل إلا بعد 11 أيلول. هذا الاضطراب لا يأتي من جبن أميركا بل من خوف! نشارك القارئ هزؤه من قول أن أميركا تخاف. خوف الأقوى لا يكون من قوة غيره بل من معرفة في عناصر الصراع لأنها هي التي تحدد جنسَ القوة في الصراع. السلطة في أميركا(1) نعلم أنها اصطنعت شبحاً سمته الإرهاب، وأن نفخها الحياة أو الروح في هذا الشبح يلزمها أمرين:
1 – أن تصدق أوروبا خدعة أميركا. تصديق أوروبا ليس لمساعدة أميركا عسكرياً أو دولياً بل حتى لا يكتشف أحد أن موضوع الإرهاب خدعة وكذبة دولية كبيرة. لكن بسرعة تكتشف أميركا أن دولة واحدة في أوروبا تعلم بتفاصيل خطة أميركا ولديها كل المعلومات عن حقيقة الذين قاموا بعملية 11 أيلول أنها دوائر سياسية عليا وليس عمر وعبيد من عملاء الاستخبارات في أفغانستان. وتوالي الأحداث بسرعة أدى إلى اضطرار هذه الدولة الأوروبية إلى إعلام الحكم الأميركي أنها تعرف كل الحقيقة الموثقة عن مؤامرة التفجير. تحصيناً لموقفها قامت هذه الدولة باطلاع بعض الأقوياء في أجهزة الحكم في أوروبا وهم أهل الحكم الذين لا يتغيرون بالانتخابات. هذا هو مبرر الخوف الذي يظهر في صمت أميركا بين الحين والآخر في أمور كانت أعلنت موقفها منها. صمت أميركا وتراجعها عن موقف معين لا يكون إلا من خوف لا من عجز(2).
__________
(1) 3 - لا نقصد في هذا رئيس أميركا بل القوى الحاكمة في أميركا.
(2) - لو كان كتابنا في العلاقة الأميركية الأوروبية كنا أعطينا أمثلة كثيرة عن مواقف الخوف الأميركي وتراجعاتها في صمت.(1/115)
2 – أن تنجح في فرض الأجواء الدولية التي تحوِّل المسرح السياسي الدولي إلى مسرحٍ لا قولَ فيه إلا قول القوة العسكرية. هذا أيضاً يتطلب موافقة أوروبا لأن الرأي العام الأوروبي إذا وقف بوجه عمل عسكري أميركي سيسقط القناع الذي يخفي الوجه المفترس لأميركا. سقوط القناع الأميركي يفرض على أميركا أن تعلن أنها ضد كل أجناس البشر وأنها تريد قتل جميع الناس طبعاً باستثناء أمثال السادات ومشرف وكرازي وبوتين ومئات وآلاف أمثالهم لا نجرؤ على تعدادهم حتى لو سمح لنا الزمان والمكان. خطة أميركا تحتاج إلى استمرار نفخ الحياة فيها لكن هل في قدرة أميركا هذا المعين من الحياة. أميركا في خطتها اعتمدت أسلحتها ينبوع الحياة لخطتها. فجأة تكتشف أن ضخ الحياة يحتاج إلى نربيش وأن اثنين من "أخلص" حلفائها يستطيعان أن يثقبا هذا النربيش ساعة يحتاج أحدهما إلى ذلك. تعهدت لهما بتأمين مصالح كل منهما في خطتها الجديدة شرط أن لا يقوم أحدهما بفضح حقيقة الأحداث في 11 أيلول. هذا التعهد الضمني وهذا الخوف الظاهر في أقوال الرئيس "البطولية" دلائل في أن خطة أميركا في أوروبا في طور الموت التدريجي. وأن نجاحات أميركا في هذه الخطة في أفغانستان أو غيرها ستشاركها فيها أوروبا. وأن أوروبا ستستطيع أن تؤثر أكثر مع الأيام في اتجاه خطة أميركا. هذا يعني أن أوروبا ستكون المستفيد الأكبر في خطة أميركا وليس أميركا هي المستفيد الأكبر. أميركا كانت اللاعب الأكبر في العالم وأوروبا من اللاعبين. تغيير المسرح الدولي للعمل السياسي في خطة أميركا أدى على غير توقع من أميركا إلى تحويل أوروبا إلى لاعب شريك لأميركا. هل كان ذلك غباءً من أميركا أم غلطة في حساب أميركا؟ نقول لا هذا ولا ذاك لأنه في طبيعته يتعلق بقواعد العمل السياسي. أميركا ربطته بالعمل العسكري والقوة العسكرية وتصديق الناس لنفاق القوي؛ الخطأ لم يكن في حساب بل كان في معرفة، لم يأتِ من غباء بل من ربط.(1/116)
أميركا قد تواجه إحباطاً إن بقي رامسفيلد يقودها وقد تواجه إخفاقاً إن قوي دور باول، وفي بقاء الحال ستبقى حائرة بين قتل هذا أو ذاك في المسلمين. تحاول اصطناع عدو تخيف به العالم من غير المسلمين لا تجد أحداً. تعرفت إلى كيم في شمالي كوريا لكن أحداً لم يصدقها. ما زالت تفتش بعيني بوش لكنهما أصغر من حبة زيتون، أو بعيني رامسفيلد لكنهما بزجاجتين. لا نقول إنها تتصرف كالعمياء لكنها تتصرف بخيلاء حتى تمنعنا من فهم حقيقة مشكلتها. عيب خطة أميركا أنها تعتمد على كذب وخداع وقتل. هذه قوة في خطط عصاباتٍ لا نهجاً في علاقات الدول.
وقوف أوروبا بوجه خطة أميركا يحيي الدور الأوروبي في العالم، إخفاق أميركا في خطتها ليس ضربة مميتة لدور أميركا في العالم لكنه ليس خسارة جولة بل أكثر حجماً من ذلك لأن تفاعلاته ستستمر بغير قانونٍ حسابي. صدقَ الرئيس بغير قصد عندما قال أن العالم بعد 11 أيلول غير العالم قبل 11 أيلول. لكن فروج روسيا لم يعرف عند قوله وجه هذا التغيير ولا وجهته. التغيير وقع لكن في مصلحة من؟ أوروبا تريدها لمصلحتها، إسرائيل تعلن أنها تريدها لمصلحتها؟ لاعبان في المسرح باستقلالية جديدة: أين الكرة؟ هل ينجحان في أن تكون أميركا وخطتها كرة تتقاذفها……؟(1/117)
أثبتت أميركا في حرب البلقان؛ في البوسنه وكوسوفا وفي فلسطين(1) أنها يمكن أن تكون كرة تتقاذفها … وترضى بهذا الدور. وأثبتت الإدارات الجمهورية والديمقراطية(2) أنها تستطيع أن تخفي عن شعبها تبعيتها السياسية في القضايا الدولية بتحويل الموضوع السياسي إلى موضوع عسكري حتى تمنع العقل الأميركي من العمل في البيئة الطبيعية للأمور. أوضحُ دليلٍ على قدرتها على تحويل الموضوع السياسي إلى موضوع عسكري هو موضوع اليوم على الساحة الدولية. موضوع العراق في طبيعته الراهنة أنه موضوع سياسي، لكن بسبب فشلها في التعامل معه بمعطياته السياسة تحاول فرضه موضوعا عسكرياً بإلصاق معطيات عسكرية بقوة الفرض لا الحجة. دول العالم قاطبة أعلنت أن الموضوع سياسي، عناصر الموضوع سياسية، لكن العقل في الإدارة الأميركية لا يعمل في ميكانيكيته إلا من منظار القوة العسكرية. كم من دولة في التاريخ حاولت أن تكون إسبارطةَ زمانها، عملت بعملها وسارت على درب حتفها بقوتها الذاتية! أميركا، ليست أكثر من إسبارطة بسلاح نووي، بيولوجي، كيميائي، وسلاح أقوى في الخداع إعلامي. سلاح أيديولوجية أميركا إما القتل أو الخداع والتضليل. هذه الازدواجية لم تمتلكها إسبارطة، هل هذه عناصر هدم أسرع في حياة الأمم؟ هذا يقودنا إلى موضوع آخر ليس في هذا الموضوع؛ هل تقوم الأمم بالكذب والقتل أم تقوم ببرهان الواقع في الفهم وحجة القول؟ هل تقوم بفكر الحياة أو تقوم بإفرازات الحياة؟ ما هو الفرق بين فكر الخداع وفكر الحقيقة في الموضوع والطريقة؟ مواضيع لم يتطرق إليها الفكر الغربي وخاصة وريثه
__________
(1) كما أثبتت ذلك في قضايا ومواقع أخرى ليس هنا مجال تعداده لأنها ليست موضوعاً في هذا البحث، ما أوردناه مثالاً أخير وفلسطين مثالاً حياً في الحاضر كما في الماضي.
(2) نحن نجد هذا التفريق في الأسماء أيضاً خداعاً دائما للشعب في الأسماء يساعد الإدارة الدائمة في دغدغة تطلعات الشعب إلى حياة أفضل.(1/118)
الفكر الأميركي، هل بسبب جهلٍ أو بسبب عجز؟ أيضاً موضوع ليس من شأننا بحثه في هذا المجال، لكن إلى متى تستطيع إسبارطة النووية والبيولوجية والكيميائية في درعها وفأسها أن تستمر في تضليل شعبها هو شأن محلي خاص بها. هكذا يصر سياسيوها، جنرالاتها ومثقفوها على سياسة الجزمة العسكرية بالتعامل مع أوروبا قبل التعامل مع أفريقيا. هل هو استخفاف بأوروبا أو احتقار لسياسيي أوروبا أو أنه إذلال للأوروبي؟ بحث مستفيض لا يستطيع غير الأوروبي القيام به لكن هل يستطيع ذلك وهو في المستنقع الفكري منذ قرون؟
المجال الثاني
صراع الحضارات
في
حرب أفغانستان
يصدم المتتبع للأخبار وتتابع الأحداث كثرة التحليل للخبر والحدث في وسائل الإعلام العالمية والمحلية التي لا يفهم منها علاقة ما يجري بما حدث ولا هي تدّعي أنها تستطيع إفهامه. يعلِّقون ويبحثون فيما حدث وما يحدث. أي في عاصفة الطائرات وفي قصف أميركا للمسلمين وقتلهم. ويبحثون في مؤتمرات إذلال المسلمين وتصريحات المسؤولين بالموافقة على تحويل دولهم إلى حظائر تبيت فيه شعوب المسلمين بانتظار التفتيش الأميركي صباحا. لكنهم لا يبحثون في علاقة ما حدث بما يحدث، ولا في عدم علاقة ما يحدث بما حدث. كأن العلاقة أو انعدامها أمر سري أو ممنوع بحثه. كان يكفي أخذ واحد من هذه المواضيع للدراسة والفهم حتى يُكتشف حجم الخداع والكذب في تبرير قصف المسلمين وقتلهم قرابين على مذبح آلهة الدجل بالحرية والمكر بإرهاب المسلمين. فكأن جهل الإعلام جزء من خطة أميركا في إخفاء مقاصد خطتها.
إن الحقائق التاريخية في واقع الحاضر الذي وقعت فيه أحداث 11/9/2001 كثيرة لكن يهمنا منها حقيقتين وما يندرج تحت كل منها من وقائع وحقائق تؤثر فيها أو تتفرع عنها.
الحقيقة الأولى: واقع حركة طالبان في نشوئها وفي اكتساحها خصومها واستمرارها منتصرة حتى 11/9، ونقاط من حرب أميركا عليها لاكتساحها.(1/119)
الحقيقة الثانية: موضوع فرض كراهية الإسلام على الإنسان في الغرب وتحريف معاني نصوص الإسلام في خطة فكرة صراع الحضارات.
في الحقيقة الأولى تناولتها الأقلام والألسن بكثير من المقالات والتحليلات حتى اختلطت الوقائع بأهدافها فعميَ فهمُ السبب. وعندما يضيع السبب يستحيل تفسير الواقع أو الحدث.
للفهم نستعيد تسجيل وقائع:
1 ـ الملا محمد عمر اسم مغمور كمجاهد ضد الروس. أيضا مغمور كأستاذ في مدرسة من آلاف مدارس تعليم الإسلام في بلاد أفغان. لم يبدأ ذكر اسمه والتعريف فيه إلا بعد اجتماعه بوفد مخابرات أميركا المركزية سي آي أيه. أما الذريعةُ المصطنعة أو المعلنة لهذا الاجتماع فهو بحث أميركا عن قوة تساعدها في وقف إنتاج المخدرات وتصديرها إلى أميركا. واسطة التعريف بالملا أو تسلسل الوصول إليه هو طلب سي آي أيه أميركا من سي آي أيه باكستان انتقاء أو ترشيح شخص يستطيع أن يتزعَّم أفغانستان. لكن سي آي أيه باكستان لم يكن عندها هكذا شخص فاستعانت بأحد شيوخ المدارس الذي وافق على تقديم شخص. رافق الوفد الأميركي الذي حضر لمقابلة الشيخ "الجليل"(1) أحد كبار ضباط المخابرات الباكستانية. بعد بحثٍ وتفكير في مواصفات الشخص المطلوب اقترح أحد تلامذته الذين يثق بهم جداً وهو يلبي حاجتهم. هكذا تواعدَ وفدُ أميركا مع "الشيخ" بمشاركة باكستان كمراقبٍ للذهاب إلى منزل تلميذ "الشيخ" محمد عمر في أفغانستان.
__________
(1) الذي كان يستقطب كثيراً من الأفغان الذين يأتون إليه لدراسة الإسلام دون أن يعلموا أنه عميل للمخابرات. هل يكون الإسلام الذي يدرسه شيخ برضى سي آي أيه باكستان إسلام حضارة وأيديولوجية تستطيع أن تقف بوجه حضارة الغرب وأيديولوجيته؟(1/120)
قام الوفد المخابراتي الأميركي يرافقه وفد مخابراتي باكستاني برئاسة هذا المدرِّس العالم ويسمونه في عالم الجهلاء "مولانا"، بزيارة التلميذ محمد عمر في منزله. وهكذا بدأت مسيرته في البطولة والانتصار، واليوم يتهمونه بالإرهاب العالمي. وبعده بدأ نجمه يعلو باسم الملا محمد عمر رئيس حركة طالبان. وتوالت انتصاراته ضدَّ بقية الجيوش لإقامة حكم الإسلام بقدر ما تعلَّم من الشيخ الذي قدمه إلى سي آي أيه أميركا لتوافق على صلاحه ليكون أميرَ مؤمنين مَن يتوقُ إلى وجود أميرٍ للمؤمنين. كأنَّ الأمر الشرعي باللقب والعمامة أو أنه يجوز بتنصيب أميركي! وإلى ما وصل إليه في حاله اليوم من استقطابه لروح الجهاد في الإسلام، ووقوفه لوحده في مواجهة الكفر كله، وإعلانه معركة الإيمان ضد الكفر الفاصلة في التاريخ!
2ـ في مسيرته القصيرة في التاريخ كان معروفاً في الداخل والخارج أنه رئيس تنظيم أو ميليشيا تديره المخابرات العسكرية الباكستانية. معنى تديره هنا تشمل إدارته اللوجستية، إدارة عملياته، تمويله، تدريبه، تسليحه، وضع خططه وأهدافه، تسويق آرائه وتنظيم مخابراته. توثيق هذه المعلومات متوافر في كل مخابرات دول العالم، في كثير من صحف الدرجة الأولى في كل لغة. وفي تصريحات الساسة الباكستانيين ورجالات الحكم وكبار العسكريين في عهد حكام باكستان السابقين كما في عهد الحاكم الحالي الذي لا نقول عنه أنه الملعون(1) الذي سيكب مع مَن سبقوه وإن كان غيرنا يقوله. نحن لا نقول ذلك لأننا نهينا عن قول ذلك في الأحياء حتى يموتوا على كفرهم كما فعل حكام باكستان السابقين.
3ـ منذ إيجاد طالبان وترئيس محمد عمر عليها ولا يساعده ولا يعترف به وبمنظمته غير المملكة السعودية والإمارات وبالطبع باكستان.
__________
(1) الملعون هنا تعني كما في أصل معناها: المطرود من رحمة الله. فهي ليست شتيمة لهم بل كثير منهم قد يفتخر أنه علماني لا يطيع الله، ويمكن تتبع ذلك في تصريحاتهم.(1/121)
4ـ أميركا كانت تتهم بن لادن وهو في حضن طالبان بتدبير تفجير السفارتين في عام 1999. وطالبت بتسليم بن لادن لها، استجابت طالبان ووافقت وبدورها طلبت حسب الأعراف الدولية لإنقاذ ماء وجهها تقديمَ الدليل على تورط بن لادن لتسليمه بعد ذلك. لكن أميركا لم تقدم دليلا حسب الأعراف الدولية وبقيت مسألة بن لادن معلَّقة غير محسومة. لكن بتصرف غريبٍ لم يفسَّر حتى اليوم عمدت أميركا على صعيد الإعلام في منابره العالمية التي تسيطر عليه إلى أن تستغل اتهامها بتورط بن لادن بالإرهاب لتنفخ الهواء في دميته المطاطية؛ بدل الدخول في إجراءات الاتصالات المباشرة لتسلم المطلوب حسب أعرافِ التعامل في مثل هذه الأمور. كما أنها لم تطلب من باكستان التدخل لدى طالبان. لو طلبت أميركا من باكستان تسليم بن لادن لم تكن باكستان بحاجة للضغط على طالبان إذ بن لادن ومجموعته ليسوا أكثر من قليل في قطيع طالبان الذي ترعاه باكستان صباحا في خروجه ومساءً في رجوعه ومبيته.
5 ـ باكستان أثبتت على مرأى من جميع دول العالم أنها ليست دولة مستقلة ذات سيادة بأي معيارٍ أو مقياسٍ ولا بأي نسبة مهما كانت ضئيلة إلا بقدر ما تسمح لها أميركا بذلك. فأميركا هي التي تعطي باكستان حجمها النووي أو الإقليمي أو تصغِّر ذلك الحجم بتفريغ الهواء من ذلك الشكل حين يلزم أميركا ذلك. وقد أثبت رئيس باكستان بمواقفه وتصريحاته وقراراته وتعهداته، وبطريقة التراجع والتخلي عنها وإنكارها، أنه رجل ليس له حرية القرار إلا في التعامل مع جسده في مثل متى يأكل ومتى يدخل المرحاض وماذا يلبس. ليس في متى يبتسم ومتى يكفهر! أميركا أيضا أثبتت أنها لا تتعامل مع باكستان على أنها دولة، ولا مع جيشها أن له قيادة، ولا مع رئيسها أنه حاكم ذو سلطان إلا في الأمور التي تسمح له فيها أن يكون ذا سيادة ورجولة وبطشٍ في قهر شعبه الإرهابي!(1/122)
عندما احتاجت إلى إعلان حقيقةِ العلاقة بباكستان ـ جهاز الحكم ـ أثبتت أنها تديرها كما تدير أحد أجهزتها أو إداراتها العامة. وأثبتت أن جيشَ باكستان ليس فيه قيادة ذات سيادة وأنها تديره كما تدير أحد قيادات جيوشها تأمره فيطيع. ومع رئيسِ باكستان أصرت أميركا على إظهاره بمظهر الحاكمِ المتلوِّن الذي لا يخجل من الكذب الصريح على شعبه والعالم. ولا تأبى نفسه إذلالَه العلني في الخضوع لأميركا، فقد كانت تتركه يعلن عن موقفٍ ما ثم تعلن عن موقفٍ له مخالف لموقفه المعلن، فيتصدى للإعلان ثانية عن الموقف الجديد الذي يخالف ويناقض موقفه السابق. ولا يكاد يُسجَّلُ له موقف دون أن يكون لأميركا فيه قصد إظهار حقيقة الحاكم لباكستان.
6 ـ طلبت حكومة المملكة السعودية من طالبان تسليمها "المذكور"(1) قبل ثلاثة أشهر من أحداث السفارتين. وافقت طالبان، لكن بعد التفجير طلبت أميركا تسليم أسامه لها لم يعد طلب السعودية هو الموضوع ما استوجب إهماله. تجاوبت طالبان مع أميركا وطلبت تقديم ملف الطلب رسميا من أميركا. لكن أميركا أهملت التجاوب مع الإجراءات الطبيعية في هذه الحال وأبقته مادة للحديث في خطب رئيسها عندما يلزم في المناسبات. واستمرت علاقة باكستان، والسعودية عبر باكستان، بطالبان كما كانت قوية دون أن تتأثر بالموقف الأميركي.
__________
(1) هكذا سمى رئيس المخابرات السعودية السابق أسامه بن لادن في مقابلة أجرتها معه فضائية الشرق الأوسط التابعة للحكومة أو لأحد مواطنيها كما يفضلون، في مقابلة بتاريخ 3/11/2001.(1/123)
7 ـ واقعُ طالبان أنها ميليشيا وليست كيان دولة في جميع مستويات إدارتها. فهي كأحد ميليشيات أفغانستان وإن كانت الأقوى تبقى خاضعة لعوامل إيجاد واستمرار أي ميليشيا في أفغانستان. هذا أمر لا يحتاج إلى بحث لأن قادة الميليشيات يعلنونه كل يوم فلا يوجد ميليشيا للأفغان. كل المليشيات لدول غير أفغانستان. رشيد دوستم يعلن أن روسيا تدعمه، أحمد شاه مسعود، قبل اغتياله، كان يعلن أن طاجيكستان تدعمه دون علم روسيا! برهان الدين رباني رضي أن يكون متسولاً على أعتاب أي شيطان يتصدق عليه. يبقى - غير طالبان - مَن لا قيمةً ميدانية لهم مثل حزب الوحدة تدعمه إيران، وقلب الدين حكمتيار يدعي أن حزبه ـ الحزب الإسلامي ـ أكبر حزب وأكبر شبكة تجسس منظمه في أفغانستان وقد وافقت إيران ـ ودعته ـ للإقامة فيها ووافق. هل هو يسيطر على إيران أم أن إيران تسيطر عليه حديث نتركه لمحبي الثرثرة الذين جعلوا موضوع هل بن لادن يسيطر على طالبان أم أن طالبان تسيطر عليه موضوعاً جديراً بالبحث. يبقى طالبان التي أيضاً لا تحتاج لأي برهانٍ على مدى ارتباطها بولاية(1) باكستان. فقد بلغ الوضوح في معرفة الجميع بمدى ارتباط طالبان بباكستان أن الفضائية العالمية " الجزيرة " بقيت تعلن على مدى أيام تعبيراً عن حيرتها في فهم الحدث أو تعبيراً عن منعها من قول الحقيقة: "إن باكستان هي الرحم التي منه خرجت طالبان." نحن كنا نعلم ذلك لكن بدون شهادة ميلاد موثقة ولا يمكن اعتبار تصريح "الجزيرة" وثيقة لأنه يبقى قولٌ في تحليل. الوثيقة جاءت عندما تيسر لنا أن نطلع على شهادة الأب الجنرال نصير الله بابار وزير داخلية بني ظير
__________
(1) قبل تفجير أميركا للواقع الذي تسيطر عليه في أفغانستان كنا نعتقد أن باكستان يحكمها زمرة من الضباط كشبه كيان دولة ذات سيادة. أميركا أثبتت أنها تدير باكستان كأحد ولاياتها لذلك استعمال كلمة ولاية وليس لأنها في شرع الإسلام يجب أن تكون ولاية إسلامية.(1/124)
بوتو في أوائل عام 1995م، عندما كانت رئيسة وزراء باكستان، قبل هروبها خوفا من تهمة الفساد والرشوة ونهب الأموال العامة. فقد صرح إلى وفد سعوديٍّ رفيعِ المستوى أن طالبان هم أبناؤه وفي الأبعد مثل أبنائه. أي أن طالبان ربيبته، في حضن وزارة الداخلية نشأت بالرضاعة والمشي ومن بعدُ بالنطق بما تعلمته. يبقى أن نعلم أن هذا "الجنرال" كان أكثر ارتباطا بالمخابرات العسكرية الباكستانية منه برئيسة الوزراء. وأن تفقيسهُ لِ طالبان لا يعني أنه الدجاجة، بل تبقى الدجاجةُ هي المخابرات العسكرية وهو مراقبُ بيضة الدجاجة. ميليشيات أفغانستان جميعها عميلة لأنظمة حكم طاغوتية لا تحكم بالإسلام، لا تدَّعي إسلاماً بل تحارب كل الإسلام. المفارقة العجيبة أن جميع الميليشيات باستثناء دوستم وحكمتيار تدعي نصرة الإسلام والمسلمين بما فيهم "صوص" بيضة بابار!
بهذه النشأةِ من حُضن كفرِ المخابرات العسكرية الباكستانية، ومن هذا العمق، من بئر المخابرات الأميركيةِ تم تفقيسُ طالبان بعمامة محمد عمر. عمامة لم يعرفها أحد أنها عمامة غير أميركية. تظهر وتنتصر باسم إسلامٍ ليس له فكر وليس له نظام وليس له طريقه! بمثل هذه المفاجأة بالأسلوب والطريقة تظهر طالبان مرة أخرى في التاريخ أنها عدوة العالم وعلى رأسه أميركا وأوروبا. وأيضا أنها عدوة الإنسانية وعلى رأسها أميركا وأوروبا. وكذلك أنها عدوة المسلمين وعلى رأسهم الأميركان والأوروبيين!(1/125)
8 ـ قبل أن تتهم أميركا القاعدة بالاعتداء عليها أعلنت أن هذا الاعتداء يحتاج إلى إمكانيات دولية، ذات إمكانيات استراتيجية وتكنولوجية متقدمة جداً وإلى جهاز مخابرات عالمي لا يتوفر إلا للقليل جدا في العالم. وصرح بمثل هذا معظم رجالات السياسة والفكر والاستراتيجيات والمخابرات في العالم. ولحق بهذا الموقف صحافةٌ وإعلامٌ والحكامُ الأبواق في دول العالم الثالث والعاشر، إلى المائة والتسعين كما سيكون تعدادهم بعد فصل تيمور الشرقية عن بلاد المسلمين برضى 56 نظام سلطة تجتمع في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي! لكن في حركة مذهلة تتخلى أميركا عن هذه التخمينات وتفرض على جميع دول العالم أن ينسى رقي التخطيط والتدبير والإمكانيات التي يتطلبها العمل. وينسى طلب البراهين والإثباتات والأدلة على المتآمر، ويخضع بالتصديق لمن تفرضه أنه "الإرهابي" ولو دمية من ورق، أنه العدو الذي قام بتفجير أميركا. ولا تملك دول العالم الدمى من الثاني والثالث إلى المائة والتسعين إلا أن يهلل لهذا الإنجاز الأميركي في التحقيق السريع. وعلى وقوفه ببنادقه وعصيه وعكازاته مع القنابل الانشطارية الأميركية وطائرات ب52 وطائرات ستيلث وحاملات الطائرات والغواصات النووية. وقد بلغ من حماسة الإنكليز أن كادوا يطالبون بقيادة القوات الأميركية للانتقام لأميركا!
حيرةُ طالبان وباكستان في التعامل مع الطلب الأميركي بتسليم المتهم كان مهزلة أيضاً احتارت بتفسيرها المراقبات الفضائية. استجابت طالبان لطلب تسليم المطلوب حيا أو ميتا في ثلاثة مواقف:(1/126)
1 – طلبت تقديم أدلة تدينه بأي عمل إرهابي. طالبان طلبت الأدلة عن سذاجة وليس طلبا لإثبات. هي تعلم أن المتهم منذ اتهامه بتفجير السفارتين وهو تحت المراقبة الدائمة وحتى الإقامة الجبرية. مثله مثل عرفات أوسلو لا يستطيع التحرك إلا بإذن السلطة التي تديره وتؤويه وتحميه. حتى إن المتهم أعلن مستخفاً بتهمة أميركا أنه لا يستطيع أن يستعمل جهاز الهاتف دون إذنِ محمد عمر. سذاجةُ طالبان تجلَّت في هذا الطلب لأنها كانت تظن أن أميركا لا تعلم أن المتهم ليس بوسعه أن يدبِّر شؤون مطبخه فكيف بتغيير مطبخ أميركا! في هذا الطلب كانت تقول إن المتهم ليس الذي دبَّر هذا الاعتداء الذي يحتاج إلى قدراتِ دولة عظمى لا تملكها حتى الصين ولا فرنسا ولا حتى ألمانيا.
2 – عرضت طالبان على المتهم إعطاءه حرية السفر ليغادر إلى الجهة التي يريد. هذا يعني أنه فعلياً كان سجيناً ولم يكن له حرية السفر. لكنها بسرعة أسقطت هذا الخيار ولم يبدر عن المتهم موقف تجاه هذا الخيار أو لم يُعطَ الفرصة لذلك. هذا أيضا دل على جهل طالبان بحقيقة التهمة الأميركية أنها لاصطناع عدوٍّ دائمٍ من ورق وليس للقبض على المتهم.(1/127)
3 – انعقد مؤتمرٌ غريبٌ في اجتماعه وموضوعه وتسميته قوامه ألف رجل سمُّوهم "علماء" بما يزيد عن ألف "عالم"! غيري بحث طويلا في بلاد المسلمين أعلمني أنه لم يجد واحدا يستحق هذه التسمية، إذ العالِم في رأيه بشرطه أنه الذي يعلمُ ويقولُ بما يعلم ولا ينافق فيما يعلم. صحيح أنه هناك كثيرون يعلمون لكن أحداً منهم لم يقف يقول كلمة حق كاملة عندما اجتمعوا في مؤتمر حكام المسلمين وعلماء المسلمين في رابطة أو مؤتمر "دول" العالم الإسلامي. فقد اجتمعوا ليوافقوا ويؤيدوا ويُسعِدوا وزير خارجية أميركا بمشاوراتهم وقرارهم الحازم بدعم حرب أميركا على المسلمين، لكن مع التحفظ! ويُسعِدوه بمستوى علمهم وعمق فقههم وكثرة تصريحاتهم بالمعارضة وتوضيح الإبهام واللبس في موقفهم الإسلامي! قرار مجلس شورى طالبان "علماء أفغانستان" هذا طلب من أسامةَ الخروج لتجنيب الشعب مشقة الحرب والتشريد والقتل. لكن "المذكور" لم يستجب لطلب العلماء وطالبان لم تفرض تنفيذ طلب العلماء. هل تعلم طالبان انهم علماء سلاطين بمستوى علماء مؤتمر أنظمة حكم المسلمين؟ لم تعلن، لكن أسقطت قرارهم من مواقفها أيضاً بسرعة.
تجاوب طالبان كان إلى أبعد الحدود في ضوء إحجام أميركا عن الأمر سراً باعتقال المتهم. وقد فهمت طالبان عدم اعتقال المخابرات الباكستانية التي تدير طالبان للمتهم أنه مناورة
أميركية غير واضحة فتجاوبت معها بكل المجال المتاح لها وهو غير مجال اعتقال بن لادن رغم أن أميركا تطالب علناً بذلك. وفي كل موقف إيجابي كانت أميركا تقلب الطاولة بوجه طالبان وعبر القنوات الباكستانية كانت تأمرهم بالتراجع عن الموقف أو عدم تنفيذه. عندها بدا واضحاً لطالبان أن أميركا لا تريد أسامة بن لادن بل تريد أن يكون الموقف هو المطالبة به وعدم تسليم طالبان له هو المبرر لإنهاء دور طالبان في الحكم أو حتى في الوجود.(1/128)
9 – تغيير المسار التاريخي للعلاقة بين أميركا من جهة والباكستان وطالبان من جهة كان عندما أعلنت أميركا عن دعوتها لتحالف دولي ضد الإرهاب في العالم، ومن لا يأتلف معها فهو ضد العالم مع الإرهاب. وأعلنت عن بدء الاستعداد العسكري لإعلان الحرب على المسلمين الذين اختاروا تسميتهم طالبان. في الحقيقة لم يكن استعداد لشن حرب على مسلمين بل بكل بساطة تهيئة العالم لمشاهدة مجزرة قتل جماعي للمسلمين بموافقة الحكام المسلمين والعلماء المسلمين بمعايير الموافقة على محاربة الإرهاب العالمي الذي يحدثوننا عنه ولا نراه إلا كلاما. من أجل ذلك طلبت أميركا من باكستان تلبية الشروط التعجيزية التي خضعت باكستان لها الواحد تِلو الآخر رغم رفضها الصريح للأول والثاني والثالث. حتى الرئيس البطل المقدام قبل 11/9 وقف مذهولاً من المطالب الأميركية وقرارها وهدفها.
لم يفهم أحد، حتى اليوم يحتار الجميع ـ اللهم إلا القلة من السياسيين الكبار ـ في لماذا جيَّشت أميركا العالم ضد ميليشيا هي صنعتها إنشاءً من عدم وجود، وهي ترعى استمرار وجودها ودون هذه الرعاية تتلاشى. الجميع يعلم أن أميركا كانت تستطيع تسخير طالبان لأي عمل. والجميع عنده الإثبات القاطع أنها سخَّرتها في تفريخ مقاتلين لمحاربة روسيا في الشيشان. وسخَّرتها في تفريخ مقاتلين للعمل في قلب نظام الحكم في ماليزيا، وفي الصين وغيرها. وفي عشرات الأعمال التي لا مجال لتعدادها وأن فوائد خدماتها كثيرة.(1/129)
أدركت طالبان أن بن لادن ليس الموضوع، وأدركت أن تصفية طالبان ليس الموضوع فاستنتجت أن الموضوع هو أن أميركا بحاجة إلى إعلان الحرب وبناء وترسيخ قوةٍ عسكرية هائلةٍ في الدول المحيطة بها، دول شرق آسيا. فهمت طالبان، أو خمَّنت أنه بعد فشلها في القيام بدورها في إيجاد ثورات وزعزعةِ استقرار الدول المحيطة بها مثل طاجيكستان، أوزباكستان، كازاخستان وغيرها، قررت أميركا القيام بهذا العمل بنفسها. ولأن ضخامة هذا العمل تحتاج إلى عدو ضخم بل أضخم من هذه الدول مجتمعة اضطرت أميركا إلى منع طالبان من تنفيذ أي قرارٍ يُلغي أجواء الحرب عليها. واضطرت أميركا إلى نفخ طالبان والقاعدة إلى عملاق يوازي قوات روسيا. وإلى تخويف سكان الكرة الأرضية من احتمال وجود نية لدى بن لادن لامتلاك قنبلةٍ نووية بعد ألف عام ضوئي! بهذا فهمت طالبان أو استنتجت أن ضرب أفغانستان أمر ضروري للخطة الأميركية في تنظيف الجوار الأفغاني من أعداء صانعي طالبان. يشكُّ البعض في أن طلبان فهمت أو خمَّنت لأنه يعتقد أن طالبان ليست عندها القدرة لفهم مثل هذه الأمور. تشكيكهم يقودهم إلى الاقتناع أن باكستان أفهمتهم بعد أن فهمت هي أو بعد أن أفهموها بعد زمنٍ أن الحرب وقتل الأفغان بحجةٍ هو الهدف الذي يجب إعلانه حتى لا تفهم روسيا لعبة أميركا!(1/130)
10 – الحرب كانت من جهة واحدة: أميركا وحدها تقصف وتقتل مسلمين. أميركا تقول إنها قتلت الأطفال والنساء وكبار السن والأبرياء من كل افتراءٍ عليهم بأي تهمة، بالخطأ! أو، في أحسن مظاهر إنسانيتها، تُنكِر صور أشلاء جثث المدنيين أنها لبشر! إنهم فقط مسلمون. تقتل الأجساد المسافرةَ بأرواحها في حافلات أو شاحنات أو عربات تجرها حمير أو بغال بحجة أنها كانت تظن أنها تقل عسكريين هاربين من كهف إلى مغارة. قتلت الآلاف من المدنيين قبل أن تقتل أي عسكري. قامت الطائرات باستخدام أعتى وأقوى قنابلها وصواريخها غير النووية والبيوليجية ضد عدو لا يملك حتى رصاصة تصيب طائرة! ضد عدو رصاصاته وصواريخه لا تهرب منها حمام أفغانستان التي تخاف من الصقور. ضد عدو اتهمته أميركا أنه يمكنه تهديد أميركا نوويا وبيوليجيا لكنه لا يستطيع أن يتكلم بهاتف أو مذياع إلا بإذن ضابط مراقبته من المخابرات الباكستانية التي تديرها أميركا مباشرة! أميركا أغرقت العالم في خوفها من ميليشيا لا تملك رصاصة واحدة تصل إلى طائراتها حتى تطوعت إيطاليا وبريطانيا واليونان أيضاً بمساعدتها. قصفت بنفسية الذي أصيب بهستيريا الخوف حتى تبرر فرض الخوف على جميع دول العالم في مواكبة أشرس قصف في التاريخ(1)
__________
(1) بالتأكيد بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال، روسيا، الصين ، هولندا، إيطاليا، صربيا والعديد غيرهم قتلوا أعداداً من المسلمين أكثر بكثير مما تقتل أميركا في قصف أفغانستان. إذاً، لما نقول في التاريخ نعني منذ مجزرة المسلمين السابقة. وهي منذ مجزرة الصرب العزل للمسلمين بتغطية بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وموافقة أميركا. الصرب بتحريك من الإنكليز قتلوا، ذبحوا، قطعوا أطراف وبقروا بطون ما يزيد على 200000 مائتي ألف مسلم غير مسلح. حاصروا مسلمي البوسنة من كل الجهات، منعت بريطانيا وصول أي سلاح أو مؤونة إليهم. خدعتهم ألمانيا بمساعدات من بطانيات وتآمرت عليهم فرنسا بكلام إنساني حتى تم تصفيتهم جسدياً وعددياً في قرية بعد قرية بصمت من حكام المسلمين في 56 دولة! طبعا باعتراض أميركي لأن الأوروبيين لم يسمحوا لها بالمشاركة الفعلية في إبادة المسلمين جماعيا بحجة توزيع الأدوار.(1/131)
. حتى تبرر فرض قوانين على جميع دول العالم بأمرٍ واحدٍ للجميع. أمرت بتوزيع نسخ من القوانين الجديدة على جميع دوائر الحكم في العالم. تسابقت الأنظمة بوضع القوانين الأميركية موضع التنفيذ متفاخرة في دخولها في ذُلِّ الخضوع للشيطان الأكبر!
11 – في تصريح صريح وموضوعي لوزير الدفاع الأميركي في 7 تشرين الأول 2001 يقول على عادته وصراحته في موضوع خطة الرد على التفجير، وهي خطة فرض الاستسلام المطلق على جميع دول العالم لجميع مطالب أميركا. وخطة فرض التعاون المطلق في كافة المجالات التي تحددها المصلحة الأميركية للأبد لأن الحرب طويلة الأمد لن تنتهي. قال عن هذه الخطة: إننا خططنا عبر سنوات لهذه الخطة." من يضع خطة يحتاج إلى ظروف يتحكم بإمكانياتها وليس مطلق ظروف. فمثلا لما احتاجت دولة عظمى إلى مبرر لإشعال حربٍ عالمية لم تترك لعابر سبيلٍ أن يقوم باغتيال دوقٍ بل كانت هي وراء هذا في ظروف تتحكم بإمكانياتها. هكذا أميركا في اعترافها بخطة تحويل سلطات الحكم في العالم إلى مخافر لا بد أن تكون وضعت خطة إيجاد الظروف الملائمة.(1/132)
12 - الصندوق الأسود أهم أداة في فهم ماذا جرى على الطائرات منعوا الحديث الإعلامي عنه. أربعة صناديق اختفت ، دون أن يعلنوا عن حجة لسبب الاختفاء. لم يحدث ـ فيما نعلم– أن صندوق طائرة اختفى أو احترق. طائرة البنتاغون حادث عادي في حوادث وقوع الطائرات. وحادثة الطائرة الرابعة أيضا حادث عادي يشابه حوادث الطائرات العادية. كل الطائرات فيها وقود وتحترق وتنفجر لكن في كل حادثة يبقى الصندوق عنصرا مهما في الدلالة على الحادث من الحديث المسجل أو حتى من ثبات عدم وجود كلام. لم يعلنوا عن محتوى أي صندوق وكأن هذه الطائرات بدون صندوق؟ هل كانت فعلاً بدون صندوق؟ الدلالة من عدم وجود صندوق أو لوجوده مع عدم الكشف عن محتواه، أو وجوده وإعلان عدم وجود شيء فيه يدل على الخطف أو الخاطفين، كلها دلالة واحدة. هي بذاتها دليل على أن الفاعل هو الذي كان وراء عدم وجود الصندوق أو وراء عدم الإعلان عن محتوى الصندوق أو وراء وجود الصندوق مع خلوه من أي دليل.(1/133)
13 – عدم وجود الصندوق مستحيل لأنه لو ثبت يشكل فضيحة تفوق قدرة أميركا على استيعابها وتمرير خطتها في السيطرة على جميع أنظمة الحكم في العالم بمسرحية مكافحة الإرهاب. لذلك البحث يقتصر في منع الاستدلال بمحتوى الصندوق، وهذا فيه أمران: الأول تفاصيل المجادلة في عملية الخطف. الثاني عدم وجود تفاصيل لعدم وجود مجادلة. في الفهم السليم الاحتمال الأول يثبت ادعاء أميركا في هوية الخاطفين وأن هناك خاطفين فعلاً من لحم ودم وهو يعطي دليلا لأميركا والعالم دون أي جهد في إنكار أو إثبات الذي وراء الخطف. الاحتمال الثاني : إذا ثبت أنه ليس هناك مجادلة فهذا يعني أنه لم يوجد خاطفين داخل الطائرة. وهذه هو السبب الحقيقي للشك عند كل قادر على التفكير في العالم. وهو سبب امتناع معظم المفكرين في العالم وفي مقدمتهم الأوروبيين والأميركيين عن التأييد والتصفيق لاتهام ليس له برهان حتى اليوم. بل حتى اليوم تجري محاولات لصيغة برهان سرعان ما يذوي في مجاري الرذيلة الفكرية(1).
__________
(1) مجاري الرذيلة الفكرية هي أقنية الكذب.(1/134)
14 – أقوى برهان على عدم وجود دليل يثبت في المحكمة على أن طالبان أو القاعدة أو كلاهما وراء التفجير هو التعليق الذي ظهر في الإعلام الأميركي لإذاعة بن لادن نفسه شريطاً مصوراً. بهذا الشريط سارع الساسة الكبار والمحللون السياسيون الموجَّهون كما في دول الحضيض إلى الفرح بهذا الإثبات أنه بما جاء فيه دليل أنه مرتكب أو وراء التفجير. كيف يكون اتهام قبل الحصول على دليل؟ لقد اتهموه قبل إذاعة شريطه الذي اعتبروه دليلاً دون أن يقدموا دليلا. وشريطه الذي اعتبروه دليلا لا يقبل عدلٌ أن يعتبره دليلَ اتهام، وإن إعلامهم الموجَّه ليتساوى مع إعلام أي دولة من دول حكم العصابات العميلة لهم في هذا الموضوع. اعتبار شريط بن لادن اعترافاً هو دليل خلو اتهامهم من الدليل وهو دليل أن الاتهام جزء من مؤامرة إخفاء حقيقة المتآمر في التفجير. لأن فرض نظام جديد في خضوع دول العالم لأميركا يفترض اتهام متهم ولو بالقوة. ومن مواصفات قوة الاتهام أن يكون المتهم عاجزاً عن رد الاتهام إما لضعف في إمكانية إسماع صوته أو بقدرة المدعي على كتم صوت المتهم.
15 – فهم شريط بن لادن لا يتعلق فقط بمحتوى الشريط ، من الخطأ اعتباره وثيقة للفهم كمصدر بذاته. لا بد عند المفكر والمؤرخ أن يُفهم الشريط في علاقته بتاريخ بن لادن وهو دميةٌ تحرِّكه أميركا مباشرة. وتاليا وهو حبيس طالبان تديره أميركا عبر طالبان وفي حالته وقد قررت أميركا التضحية به بعد أن غدرت به وانتهكت كافة أعراف وخلقيات وقيم الخيانة والخائنين. فهذا التصريح هو متعلق بعلاقة ووجودٍ مضى وحاضرٍ ومستقبلٍ مبهمٍ في دوره أو مصيره وليس حالةً في واقعٍ منفصل.(1/135)
16 – في غياب دليل أميركي عن حقيقة الفاعلين أيا كانوا. وفي انعدام الدليل على أن طالبان أو بن لادن وراء عاصفة الطائرات، وانعدام التوازن في حالة بن لادن تصدر عنه مباركة العمل الإرهابي وهو، في أحسن أحواله، ينتظر اعتقاله أو قتله بين طلقة مدفع أو انطلاق صاروخ من طائرات الذي غدر به. في هذه الظروف يقوم البعض ليعتبر هذه المباركة التي هي محاولة يائسٍ لركوب موكب مجدٍ لمن وقع في بئرٍ لا قعر له أنها دليل على الفاعل. إذا كان بن لادن هو الفاعل ويقوم هو بإعطاء الدليل "لعدوه" الذي لا يملك دليلا عليه يكون معناه أحد أمرين. الأول أنه لا يملك التصرف بإرادته كأن يكون ما زال تحت الإقامة الجبرية عند أحد عملاء أميركا كما كان حاله في عِهدة طالبان. الثاني أنه أكثر إخلاصا لأميركا منه لربه وأمته، وهذا جائز بل شرط لمن ترضى به أميركا عميلاً لها. بل أكثر من ذلك يجب أن يكون أكثر إخلاصاً لأميركا ولو على حساب حياته الشخصية يضحي بها ليثبت خيانته لربه وأمته ونفسه. هذا أيضا جائز وعام فيمن ترضى به أميركا عميلاً لها في حكم مسلمين. لكن هذه النتيجة تُبطِل فاعلية الدليل أنه دليل سليم ليدخل في طبيعة الدليل المفبرك. بينما إذا كانت دلالة الشريط ملتصقة بطبيعة المناسبة والنفسية والتاريخ ـ تاريخ الشخص ـ إنه مجرد مباركة فلا يعدو عن أن يكون ردة فعل للانتقام ممن غدر به لا يؤثر في سير خطةِ أميركا. وأيضا هو يرسخ العرف بالاستهزاء بكل من يفكر ويقول بقول الإسلام الذي صبغوا بن لادن به وهو عميلٌ لهم وأيضا وهم قد غدروا به.(1/136)
17 – كانت أميركا قبل 11/9/2001 تصرُّ على أنها قبلة أنظار المقهورين في بلادهم التي يحكمها عصابة من أراذل مجتمعهم. حيث الفساد والرشوة ونهب خيراتهم والظلم والكذب أهم صفات الذي يريد الوصول إلى مراكز السلطة. كانوا، في تصديقهم، يهربون لأميركا ويتطلعون ويأملون أن تطيح أميركا بحكامهم. بعد ذلك اليوم أصدرت حكومة أميركا قوانين رئاسية وفرضت إجراءات مثل تلك التي تمارس في بلاد جورةِ الظلم؛ إعتقالات تعسفية، إعتقالات بدون تهم، محاكمات بدون أدله، إذلالٌ بغير مبرر، تجريم بالشبهة أو بالتخمين، عزل اجتماعي وقهر معنوي وإرهاب نفسي. الجميع سأل لماذا تفعل أميركا ذلك وتشوِّه صورتها الدعائية هذا التشويه خصوصا وان ذلك خدم مصالحها جيدا؟ سبب ذلك أن أميركا في خطتها التي أعدتها عبر سنوات حسب إعلان وزير دفاعها وكانت أحداث أيلول فرصة سانحة لتنفيذها باشرت فورا بتحويل دول العالم حظائر لشعوبها. وحوَّلت أنظمة الحكم في هذه الشعوب إلى مخافر شرطة أميركية. لم تعد بحاجة إلى سمعة الدولة العادلة في العالم التي كانت تقيد تصرفها في احتلال العالم فعليا وتقيد حريتها في قصف البلد الذي تريد وتغيير الحاكم الذي تغضب عليه. كانت تفعل ذلك بالتآمر أو بتحريك عميل لها. لم تعد بحاجة إلى أن يتطلع إليها المظلومون في إحباطهم بعد أن قررت أن تصبح مباشرة الظالم الأوحد. وتمارس سلطتها مباشرة على الشعوب وليس عبر الحكام في الشعوب. لهذا صدرت القوانين الرئاسية باضطهاد المسلمين على أراضيها. حتى تفرض اليأس المطلق من احتمال التخلص من عصابة الحكم في أي بلد طالما ينفذ سياستها في قهر شعبه.(1/137)
18 – قصف أفغانستان كان له نتائج كثيرة وأحدث تغيرات كتب عنها مئات بل آلاف المحللين في شتى اللغات، لسنا هنا بصدد تعداد هذه النتائج. لكن أبرز هذه النتائج ما أشار إليه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي في ظهوره الصحفي الروتيني قبل أواخر أيام شهر كانون الأول 2001م في رده على سؤال ماذا حققتم من قصف أفغانستان ولم تعتقلوا فلان ولا فلان. قال فوائد الحرب كبيرة جداً ومهمة جداً وليس مهماً اعتقال هذا أو عدم اعتقاله، المهم أننا نقصف أفغانستان ونعتقل من نريد في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وهذا إنجاز ضخم.
19 – من نتائج الحرب المفروضة من طرف واحد أو فوائدها لأميركا أنها أوجدت الظروف الضرورية لتفرض على كل دولة ونظام سياسي قائم ملء قسيمة تحتوي معلومات محددة لتقديمها إلى الدوائر الرسمية الأميركية ـ عبر الأمم المتحدة ـ لتقرر أميركا بضوء الأجوبة على هذه القسيمة استحقاق هذه الدول أو النظام بالبقاء أو تعديل وجوده أو إلغاء وجوده. لكن قبل تقديم هذه القسائم فرضت أميركا على جميع الأنظمة التي تتحكم بالمسلمين في بلاد المسلمين، وضع إجراءات مالية وقضائية ومخابراتية وإعلامية وثقافية موضع التنفيذ. حتى تكون جديرة بملء قسيمة طلب قبول خضوع هذه السلطات في طاعة عمياء مطلقة للسماح لها بالوجود. الجميع نفذ الإجراءات الجديدة وألحقها بظهور مسؤول رفيع المستوى مصرحاً أن الدولة لم تقم بهذا الإجراء بضغط أميركي بل لأنها ترى مصلحة البلاد في ذلك!(1/138)
20 – في تخبطٍ هو من جنس تخبط السابح الذي يرجَّح فوزه في مباريات سباق طويل لكنه تعب من التواءِ عصبٍ وهو ما زال في نصف المسافة، بدت أميركا وهي تنشر لوائح الإرهابيين. معظم اللوائح التي نشرتها لم تعطِ دليلاً واحداً على أحدٍ منها، سواء الجمعيات أو الأفراد. جميعها لا يوجد مبرر لاتهامها، إذ معظمها يعمل تحت بصر ومراقبة وتوجيه السلطة السياسية التي تدين لأميركا بالولاء والتبعية. المبرر الوحيد هو أن أميركا بحاجة إلى متهمين ومن ثم ليكافحوا لإثبات براءتهم بالحجة والإنفاق الضخم الذي تحتاجه هذه المكافحة. وإلى ما يحتاجه الظهور بمظهر البريء من تزلف وسكب ماء الوجه لاسترضاء القوة العظمى في الظلم والبطش بالتبني الرخيص لمواقفها في محاربة الإرهاب. والتأكيد على أنهم مع أميركا في حملتها، وإنهم يدعون للتعايش بالخضوع المطلق لأنظمة العلاقات الدولية وأنظمة الحكم السياسية في بلدهم. وإنهم جزء من نسيج مجتمع الشيطان الذي يعيشون فيه بل جزء مؤثر في استقراره. الذين اتهمتهم أميركا ينفذون خطة أميركا في مجال نشاطهم بتعميم ثقافة تجهيل المسلمين وتضليلهم وتضييع طاقتهم بغير طائل. لا فرق بين الحزب السياسي أو حزب الميليشيا وبين الجمعية الخيرية أو التثقيفية. معظمهم بل جميعهم لا يرتبط بفكر إسلامي أساسي ولا بنظرة إسلامية شمولية. يرتبطون بفكر إسلامي في مرحلة يحتاجون إلى زخم هذا الفكر في فترة من عملهم في خطة أميركية أو أوروبية. أو يرتبطون بفكر إسلامي مبتور من فكر عام لاستعارة صدقيه أو شرعيةٍ يلصقونها بعملهم الذي فيه كل عوامل إفساد الشرع. حاجة أميركا ستبقى دائمة إلى إيجاد متهمين بأي تهمة لأن خطتها تتوقف على وجود متهمين. وهي بحاجة من بعد الاتهام للنزاع المهزلة في المحاكم والإعلام. الاتهام والنزاع هو وقود خطة فرض السيطرة المباشرة على الأرض والناس.(1/139)
21 - من مهازل الاتهام أن سلطات الحكم البوسنية اعتقلت ستة أفراد شكَّت بأمرهم دون دليل بل على الطريقة الأميركية الجديدة في تعبئة العالم ضد شبحٍ لا يراه إلا وزير الدفاع الأميركي. جرت محاكمة هؤلاء بمنتهى الفعالية لأن سلطات البوسنة أرادت أن تسجل سبقاً في هذا المضمار أن تكون أول دولة في العالم تقدم أدلة على أن هناك إرهاباً ضد أميركا. بعد محاكمة مستفيضة خابت آمال حكومة البوسنة فاضطرت إلى الحكم ببراءتهم لكنها لم تخلِ سبيلهم فأقاموا دعوى أمام المحكمة العليا التي أمرت بإخلاء سبيلهم. وهكذا أطلقتهم سلطات الأمن بحكم المحكمة العليا للبلاد ذات السيادة! لكن أميركا بعد أيام قليلة فرضت تسليمها هؤلاء الأبرياء بالحكم! لتعيد محاكمتهم هي بتهمها هي حسب خطتها. هذا يثبت أن الاتهام الذي توجهه أميركا ليس تبريره ـ إذا كان له تبرير، حتى اليوم لم يُعط ولم يثبت تبرير لحالة واحدة ـ مواد الاتهام بل تبريره فائدة الاتهام. المقصود من الاتهام ليس الإدانة أو البراءة كما فهمت محاكم البوسنة. المقصود الأول إذلال سلطات الحكم في البوسنة والكويت والسعودية واليمن والصومال ولبنان وسورية وحيث يرد الاتهام الباطل. ومقصود هذا الإذلال إعلامٌ عالمي أن أميركا هي المباشرة للحكم في بلاد المسلمين. المقصود الثاني هو إبقاء جو الاتهام من أجل إبقاء جو الخوف سائداً في العالم. هل تضرب أميركا ناس الصومال الذين يحتمون تحت ورق الموز بحجة إنهم يتخفون من القنابل العنقودية التي تريد أن تقتلهم بها؟ أم أين؟ تعميم القدرة على الاتهام هو تعميم للخوف من الاتهام. إخفاء الهدف التالي للقصف في حملة الرعب على العالم هو فرضٌ للخنوع ـ وليس للخضوع لأن الجميع خاضع ـ أنه ثوب المفاخرة بين حكام الدول ومنظمات وأحزاب المجتمع في دول العالم المقصود في هذه الحملة.(1/140)
22 –في الحملة العالمية للتشويش الفكري لتمرير الدجل الفكري يبرز بين الحين والآخر مفهوم على لسان إحدى المنظمات العالمية وكلها تابعة لأميركا مباشرة أو عبر الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية، لإثبات أن ليس كل شيء كما تريده أميركا. غرض هذا الفرد أو المنظمة أولاً استرجاع مصداقيتها التي ضاعت بظهورها كداعم مطلق لحق أميركا بقتل الآخرين وإن كان بزعم إرهابٍ غير موجود أصلا إن لم تدعمه هي أو حليفتها بريطانيا. وثانياً تضييع الناس؛ شعوب الأرض، في حقيقة الموقف. أميركا تعتقل المئات وترسلهم إلى حظيرة في قاعدة عسكرية تغتصبها دون اتهام بل بحجة الحصول منهم على معلومات عن المتهم، عن أفكاره وميوله ومقاييس طموحه لا مقاييس جسده التي استطاعوا معرفتها بعبقرية خارقة من صورته في الإعلام المرئي. دون السماح بوجود مستشار قانوني لأي من المتهمين أثناء التحقيق، وهو المفخرة التي كانت تتباهى بها عبر نصف قرنٍ من برنامج دعائي لتعميم ناموس أميركا في العدل وتقديس الحرية الفردية. بعد أن داست أميركا على كل مفاخرها ومثلها وقيمها وهشَّمت وقبَّحت صورتها بسلاحها الأقوى، رأى أحد أبواق النطق في المسرح العالمي سكرتير الأمم المتحدة أن تشويه صورة أميركا عند العالم أصاب منظمته. إخلاصاً منه لأميركا، وإيمانا منه أنها قادرة على إعادة تجميل تلك الصورة قرر النطق بنصيحة لأميركا. غاية تلك النصيحة ليس إنقاذ أميركا بل إنقاذ منظمته من وصول التشويه القاتل إليها لتستطيع بالحد الأدنى من مصداقية أن تكون أداة مساعدة لأميركا عندما تريد ذلك. أذاع بوق منظمة الأمم المتحدة ورددت الأبواق الإعلامية كلها: لا يمكن مبادلة الحرب ضد الإرهاب بحقوق الإنسان والديمقراطية." جاء تصريحه هذا يوم السبت 19/1/2002 مباشرة بعد تسليم الستة الذين حكمت المحكمة العليا في البوسنة ببراءتهم من أي تهمة. وبعد قتل ما يزيد على خمسة عشر ألف مسلم في بيوتهم المبنية من الطين،(1/141)
وبعد صدور لوائح اتهام عشرات وعشرات دون دليل بحجة عدم تعريض المخبر للخطر. تصريحه في توقيته وغايته ليس الحفاظ على أكذوبة حقوق الإنسان والديمقراطية أنها خشبة خلاص الإنسانية. هذه المقولة يعلم هذا الطويل في قامته أنها سقطت في مستنقع الأفكار العفنة عند جميع المفكرين في العالم الغربي والإسلامي. لكنه يقولها لنقل موضوع اهتمام الرأي العام الإسلامي في هذا الظلم العجيب إلى اهتمامه بالرأي العام الغربي العجيب بحقوق الإنسان والديمقراطية بقدر ما يلزم في حملة تضليل شعوبهم للانقياد السلس لحكوماتهم. فالخطر على الغرب أن تنكشف حقيقة فظاعة جريمة حكوماته في تضليل شعوبها في موضوع الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
23 - معركة العالم ضد الإرهاب فرضت مسرحاً دولياً جديداً في كثيرٍ من المعايير والأمور. أحد هذه المعايير: ما يحق لأميركا لا يحق لغيرها. بدون أي دليل، ولو واحد يثبُتُ في أي محكمةٍ تمَّ اتهام ومحاكمة وإصدار حكمٍ على حكومةٍ وشعبٍ وميليشيا. لكن خطة تنفيذ الحكم كانت خطة انتقام من جميع شعوب الأمة الإسلامية، وفرضت تدمير شعبٍ لمجرد حاجة أميركا إلى من تجعله هدف انتقامها في تبرير خطة السيطرة المباشرة على أجهزة الأمن في بلاد المسلمين. بهذا ولهذا أوجدت وعممت قاعدة مشروعية محاربة وتدمير الدولة التي ينطلق منها "الإرهابي"، ولو هي اصطنعت هذا الإرهابي!(1)
__________
(1) وضع أميركا اليوم أنها توجد الإرهاب، تدربه، تطعمه، وتسلحه. عندما تحتاج إلى عمل ضد دولة ما تحركه ضدها. إذا استسلمت الدولة المعارضة لطلبها تكشف أميركا إرهابييها أو تقوم بتصفيتهم تماماً كما في الأفلام. هذا كان والكل يعرفه لكن اليوم أضافت أميركا استغلالاً جديداً لجريمتها. يمكن لها اليوم أن تجعل منظمتها الإرهابية مبرراً لاحتلال التي كانت تعمل فيها أو منها لتغيير النظام أو الحاكم ولو بعد عشر سنين.(1/142)
فجأة قامت مجموعة بتدمير مبنى برلمانٍ هندي وقُتل بضعة عشر نفراً في الحدث. بالأدلة والإثباتات ادَّعت الهند أنهم باكستانيون من منظمات تعمل في المسرح الباكستاني الذي تُمسك المخابرات الباكستانية بجميع أطراف اللاعبين أشباه الدمى المتحركة بحسب شدِّ حبالها أو إرخائها. حسب القانون الدولي الجديد للعلاقات الدولية الذي فرضته أميركا يحق للدولة فريسة الإرهاب الانتقام من الدولة حاضنة وحامية المنظمة وإن كانت الدولة لم تدبر، مباشرة أو غير مباشرة، هذا العمل. قامت الهند بالتعبئة العسكرية لمعاقبة باكستان. لكن أميركا جنَّ جنونها أنَّ أحداً في العالم يصدق أن قانون أميركا العالمي هو قانون للجميع. حاولت مع الهند بكل وسائل الإقناع لثنيها عن خطتها. لكن الهند وقد اتفقت مع إسرائيل على هذه الخطة ومع أسياد إسرائيل لم تخضع للضغط الأميركي بل دأبت على التصريح اليومي رفضها الوساطة الأميركية في أي شكل وعلى أي مستوى. عندها لم تر أميركا بداً من إفهام الهند حقيقة دورها الطفيلي في السياسة الإقليمية قبل الدولية. صدر التصريح الرسمي: إن أميركا لن تسمح بالحرب بين الهند وباكستان. بعد هذا التصريح انقلب موقف برويز مشرف "صقر" جيش باكستان الذي أمضى أسابيع في التذلل والتسليم بكل مطالب الهند. أعلن بلهجة الأبطال من الرجال في حديث متلفز بثته أميركا ليومين متتاليين عبر قناة CNN يومي الجمعة والسبت في 18 و19/1/2002 ما نصه: إنني فعلت أكثر مما يجب! يعني مما طلبته الهند استرضاءً لها، لكنه انتهى من ذلك بعد وقوف أميركا ضد الهند في التصعيد. تغيرت ملامح وجهه من ملامح الخائف الذي ركبه العار إلى ملامح المقدام الجريء صاحب الحق الذي يحافظ على كرامة الشعب. وبدأت الهند في محاولة الحفاظ على موقعها المتعالي والمتعاظم وهو بداية التقهقر. لكن إلى موعدٍ آخر حيث تكون الضغوط الأميركية قد أفلست من حجتها فلا يكون لها من سبيل غير المقايضة لإنقاذ ماء(1/143)
وجهها من قدرة الهند على ابتزازها.
هندوستان تملك برهان الفعل وبرهان الفاعل. ليس عند أميركا حتى شبهة دليل عن الفاعل. مجرد افتراض ظنون في برهان الفاعل بل تلفيق افتراض. أميركا دمرت شعباً بكل مقوِّماته وتفرض تدمير أمة بكل مرتكزات عقيدتها بظنون هي فرضتها، لا علاقة لها بافتراض الاتهام شبهة فكيف بتهمة على جميع المسلمين! وفرضت إجراءات الحرب على كل فردٍ مسلم، ليس على أنظمة الحكم في المسلمين. لكنها منعت الهند بقوة السلاح من الانتقام من فاعلٍ محقق. أين التساوي بين الدول في تنفيذ القانون الدولي الجديد؟ إسرائيل اتخذت ذريعة باطلة ضد مسلمي فلسطين. تبنت القانون الدولي الجديد وفرضت تطبيقه بتدمير جميع مقومات المجتمع في فلسطين كما فعلت أميركا في أفغانستان. أميركا عارضت ذلك بشدة بكل ما تستطيع دون توجيه الإنذار العسكري. لماذا تستطيع توجيه هذا الإنذار إلى الهند ولا تستطيع توجيهه إلى إسرائيل؟ لماذا يسمح لإسرائيل بصلاحية القانون الجديد ولا يسمح للهند؟ لماذا تحتفظ أميركا لنفسها ولمن هي تسمح له حق تطبيق هذا المبدأ العالمي الجديد في مبررات الحرب؟ الأجوبة تثبت أن حرب أفغانستان هي لفرض هذا الحق أنه خاص لأميركا وليس حقاً عاماً لدول العالم. ويثبت أن إسرائيل تعرف جريمة أميركا في 11 أيلول وخوف أميركا من قدرة إسرائيل على فضح أدوار أقوياء الحكم من أبطال مؤامرة التفجير!(1/144)
24 – الحملة العسكرية على الإرهاب كانت فردية في قوتها أنها أميركية صرف. أميركية صرف في إدارة العمليات وفي تحديد السلاح والهدف والزمن في مسرحه. وكل من يشارك تحت هذه المظلة لا يعتبر شريكاً في ائتلافٍ حربي. لذلك لا يقال إن مشاركة بريطانيا كانت مشاركة الشريك ولا يقال إنه ائتلافٌ دولي في حملة عسكرية. الحملة العسكرية على المسلمين في أفغانستان أميركية بحتة ومن شارك ليس له صفة الشريك عند أميركا لأنه كان دوراً محدداً بالتعليمات اليومية التي تصدرها أميركا. لكن بريطانيا تعتبر نفسها شريكاً من منظار هدفها من المشاركة. هدف بريطانيا لم يكن أكثر من دور المراقب الذي يريد تسجيل ما تفعله التي يدعي أنه حليفها وليس الذي يمكر بها. المراقب هنا هو تسمية مؤدبةٌ للجاسوس ليس أكثر. لكن رافق الحملة العسكرية حملة إعلامية أنها ائتلاف دولي لمحاربة الإرهاب. واقتنع الجميع أن جميع الدول ستشترك مع أميركا في حملتها العسكرية أولاً في أفغانستان وبعدها حيث تقرر أميركا بالتشاور مع حلفائها. لكن، لم يحصل أبداً أن أحداً شارك مع أميركا في حملتها. بلغ الحال بكثير من المسؤولين السياسيين في الصف الأول في السلطات الأوروبية أن أظهرت امتعاضها وغضبها ـ لكن ليس رفضها ـ إهمال أميركا لها، وأن أميركا لا تطلعها على شيءٍ وأنها لا تعرف شيئا مما يجري. مع هذا الفصل بين ادعاء الإعلام أنه ائتلاف دولي ضد الإرهاب وما يجري في الواقع بقي العمل أميركياً أحاديا في مشروع محاربة الإرهاب. هذا الفصل يعني في حقيقته أن أميركا وحدها صاحبة خطةٍ أطلقت عليها محاربة الإرهاب. وأن أميركا تعني بالائتلاف الدولي ضد الإرهاب معنى واحداً هو الخضوع الدولي لحاجة أميركا في حجتها محاربة الإرهاب.(1/145)
25 – حملة أميركا ضد الإرهاب ليس لها مسرح لأنه ليس هناك إرهابي أو إرهابيون. ضعف أميركا يكمن في أنها لم تحضِّر عدداً كافياً من الإرهابيين لترسل الجيوش لاحتلال بلادهم بحجة قتلهم. لا نقول لمحاربتهم لأنه بتسليم الجميع ليس هناك من عنده العقل الذي يقول سأحارب أميركا. جميع الحكام والإرهابيين الذين قد تريد أميركا محاربتهم هم من ذوي العقول التي تقول لا نريد محاربة أميركا. جيش أميركا لم يدخل حرباً بل قام بمجزرةٍ، فهو استعمل في قتل الناس صواريخه وقنابله بدل ذبحهم بالسكاكين وهم نائمون. لا يمكن تسميتها حربا، وشعار محطات التلفزة الدولية "أميركا في حربٍ" إعلامٌ كاذب. لا نقول إنه مخطئ لأن هذه التسمية لا تأتي إلا عن قصد. وقصدها يتحتم أن يكون نتيجة فكرٍ من خطةٍ سياسية. لذلك، التسمية ينقضها الواقع الذي يقول إنه لا يوجد من يحارب أميركا. من أجل تدعيم وتطويل نفس خطة أميركا في محاربة الإرهاب، احتاجت أميركا إلى تحديد إرهابيين من لحمٍ وعظم لا من شراشف بيضاء تموج في الهواء لا يراها إلا هم. قبل أن ينفد صبر العالم "المتحضر" والمتخلَّف أصدرت لائحة بأسماءِ أحزابٍ وجمعيات وأفراد أنهم إرهابيون. الجميع كان ينتظر هذه اللائحة، لكن أحداً لم يتوقع أن تكون أميركا بهذا السخف والسذاجة أن تعتقد أننا سنصدق أن لائحتها المعلنة تستحق هذا الائتلاف الدولي وتجييش كل هذه الأساطيل، ورصد هذه الميزانيات الطائلة من أجل محاربة رجلٍ أو جمعيةٍ تساعد لاجئ الكوارث أو تتصدق على فقراء. أو ميليشيا مضى عليها سنوات لا يصل حجم قوتها إلى قدر يذكر من حجم طالبان التي لم تستطع إطلاق رصاصة على جندي أميركي. بل لم تستطع الاختباء في جحورها. أو حزبٍ معروفٍ أنه يخضع لسيطرتها المطلقة أو تنظيمٍ "جهادي" تعلم ونعلم أنه لا يجاهد إلا بأمرٍ منها أو من حليفتها.(1/146)
إن الذي يراقب لائحة قدرات الإرهابيين التي أعلنتها أميركا مع قدرات أميركا والائتلاف الدولي أو مع شروط ومستلزمات العمل الجدي يصل إلى الحقيقة في القصد من إعلان الحملة على الإرهاب. في المقارنة بين قدرات أميركا ولائحتها التي تريد شن حربٍ عليها يميل الذي ينظر في اللائحة إلى القول إنها تستخف في عقله أو إنها هي نفسها سخيفة. الحقيقة ليس هناك استخفاف مقصود وإن أميركا ليست سخيفة. لم يكن في خطة أميركا قصد إجراء المقارنة لكنها لم تستطع تجنب هذا الاحتمال لأنه ليس لها طريق آخر لتبرير استمرار حملتها. بدت سخافة اللائحة متلازمة مع سخافة الإجراء ضد أصحاب اللائحة. طلبت منهم كشف حساب مصرفي وفرضت على بعضهم تجميد حساباتهم وترجو بعضاً آخر الكف عن عملياته لأنها لا تريده أن يكف. أما في الحقيقة فهذه كلها أعمال للتغطية على حقيقة المساعي الأميركية التي تتمثل في وفود القوى الأمنية التي تجوب دول الخليج والشرق الأوسط وشرق إفريقيا. حجتها التعاون الأمني والمخابراتي والإعلامي. هذه الوفود تفرض على الدول الخضوع المطلق في هذه المجالات. إذا ظهرت صورها في الاستقبالات الرسمية تكون دون الحديث عن موضوعاتها. إذا تردد نظامُ حكمٍ في التسليم المطلق لفتح ملفات الدولة في أي موضوع أو اختصاص لهذه الوفود، سرعان ما تبدأ تسريبات احتمال وجود إرهابيين في هذا البلد تطفو. إرسال هذه الوفود الأمنية جاء بعد أن سارع الحكام إلى سن القوانين التي تؤدي إلى فرض الإجراءات العملية التي فرضتها أميركا في المعاملات النقدية والتربوية والإعلامية والأمنية. هي رسالة علنية للشعوب أن لجاننا اليوم هي التي تحكمكم مباشرة في كيف تفكرون أولاً وماذا تتعلمون ثانياً. وماذا تقولون أولاً وماذا تسمعون ثانياً. وكيف تنفقون أولاً وأين تنفقون ثانياً. وأهم من كل ذلك مخابراتكم تحصي لحسابنا ألفاظكم وحركاتكم وكيف تشبعون غرائزكم! رسالة إلى الشعوب: إننا كنا نحكمكم(1/147)
مباشرة عبر سياسييكم، اليوم نحكمكم مباشرة عبر مخابراتكم. رسالة إذلالٍ للحكام وإجراءاتُ إذلالٍ للناس. أميركا ليست بحاجة لهذه الإجراءات لكنها بحاجةٍ إلى حالةٍ متجدِّدةٍ في إحباط المسلمين!
المجال الثالث
تحريف معاني النص الإسلامي
في
صراع الحضارات
الحقيقة الثانية: صراع الحضارات في خطة فرض كراهية الإسلام على الأوروبيين وتحريف معاني نصوص الإسلام. خطة فرض هذه الكراهية كانت ضمن فكرة وطريقة صراع الحضارات الذي يمتد منذ مئات السنين. صراع الحضارات في جوهره وحقيقته خلافٌ فكري في قاعدة الأفكار المتعلقة بالحياة، وخلاف فكري في طريقة العيش المنبثقة عن هذه النظرة الأساسية للحياة. من طبيعة هذا الفكر أن الإنسان لا يأخذه إلا اقتناعاً أي لا يمكن فرضه. ومن طبيعة هذا الفكر أن تكون طاقته ذاتية من تفاعل أفكاره مع طبيعة الإنسان، أي مع ميوله ورغباته. صراع الحضارات في معناه هو صراع الأفكار التي من أصلٍ مختلف. لأن الحضارة ـ على خلاف ما يظنه السطحيون ـ هي الثروة الفكرية للأمة أو للفرد أو للمجتمع. وصراع الأفكار لا يكون إلا بين أفكارٍ متغايرة في نظرتها إلى الموضوع نفسه. النظرة إلى الموضوع تكون في تحديد واقع البحث وصفات هذا الواقع ودور هذا الواقع في الحياة. فلو أخذنا مثلاً غريزة الجنس نجد أنها من المواضيع التي تغاير نظرةُ الإسلام إليها نظرةَ الرأسمالية الديمقراطية. وهي جزء من طبيعة الإنسان مثل قدرة الإنسان على التفكير، ونظرة الإسلام إلى هذه القدرة المستودعة مغايرة لنظرة الرأسمالية الديمقراطية إليها. ولو أخذنا موضوع الخمر وهو من خارج طبيعة الإنسان، ونظرة الإسلام إليه مخالفة للنظرة الرأسمالية الديمقراطية إليه. أو أخذنا موضوع تنمية المال وزيادته وهو أمرٌ يتعلق بنظام وليس بطبيعة من الإنسان ولا بطبيعة من خارجه، نجد أن نظرة الرأسمالية الديمقراطية إلى تنظيم هذا العمل تغاير وتختلف عن تنظيم الإسلام له. كذلك إذا أخذنا(1/148)
أساس علاقة المجتمع الإسلاميـ في ظلِّ نظامِ حكمٍ يحكم بإسلامِ القرآن لا بإسلام أميركا أو أوروبا أو إسلام الفضائيات– مع غيره من المجتمعات، فإنه يختلف عن أساس العلاقة بين مجتمعٍ يقوم على الرأسمالية الديمقراطية وغيره. وهكذا الاختلاف في النظرة إلى كل طبيعة في الإنسان أو ما هو من غير طبيعته، أو تنظيمٍ لأي علاقة.
اختلافُ الأفكار العقدية هو أساس صراع الحضارات، ومقارعة الحجة بالحجة هو الإطار الطبيعي لهذا الخلاف. وقد حافظ المسلمون على هذا الإطار للخلاف في مختلف عصور وجودهم حتى زوال دولتهم. فلم تُعرف حادثة في التاريخ الطويل لسيادتهم على المعمورة أن قتلوا أحداً لأنه على غير دينهم أو فرضوا على أحدٍ أن يتحوَّل إلى دين الإسلام. لكن التاريخ أثبت أن جميع أمم الكفر كانت تقتل المسلمين وتغدر بهم لأنهم مسلمين. وكانت تفرض على المسلمين التحول عن الإسلام إلى كفر الآخر. وفي جميع مراحل تاريخ وجود مسلمين كانت أمم الكفر تغدر بالمسلمين قِتلةً وذبحاً. وآخر حادثةٍ في الغدر بالمسلمين هي ذريعة نقض أميركا لاتفاقية قبولها بطالبان عميلة في رداء البرقع الأفغاني. غدرت أميركا بعميلتها حركة طالبان لتقتل المسلمين الأبرياء من جميع ذنوب الخيانة. ليس لجريمة فعلوها بل لنقل صراع الحضارات الذي تخوضه مع فكرِ الإسلام من مسرحٍ إلى مسرحٍ آخر تكون لها فيه عناصر الغلبة بالضربة القاضية. من مسرح الحجة والبرهان على ضلالهم وكفرهم وجهلهم رغم علمهم وقوتهم وسيطرتهم. إلى مسرح معركةٍ عسكرية بين أمةٍ أضاعت ارتباطها بعقيدتها وهو دينها فتجردت من قوتها، وأمة اتخذت ضلالها وكفرها وجهلها عقيدة لها وبنت قوتها لفرضها.(1/149)
أجمعَ محللو السياسة في العالم؛ وهم قنوات التلفزة والإذاعات والصحف، أن سبب مغالاة أميركا إلى أقصى الحدود في نفخ حجم ‘خطر الإرهاب’ إلى حدود الخيال واللامعقول هو سبب سياسي مصطنع. وأجمعوا أنه هو نفسه سبب شراسة القصف وشدته، وسبب القتل العشوائي للمسلمين المتفرجين بالآلاف الذي لا تبرره أي حاجة عسكرية أو استراتيجية. كذلك، هو السبب نفسه في إطالة الحرب حتى بعد قتل كل طائر ونعجة وفأرٍ في أفغانستان. أما السبب فيقولون إنه ظاهر واضح وهو تطبيق النظام العالمي الجديد وفرض تنفيذ خطواته وتطبيق إجراءاته بعد سنِّ قوانينه قبل إسكات المدفع الأميركي في أفغانستان. إن سقف الحرب في أفغانستان محدود بهدفين: الأول قدرة ‘العدو’ والثاني القبض على الشخصين. بعد الاعتراف بتدمير قدرة العدو ووصول جيوش أوروبا لاحتلال أفغانستان ليأخذ احتلال أميركا صفة الاحتلال الدولي، فإن أميركا مضطرة لنقل أساطيلها إلى مسرح آخر تقتل فيه مسلمين بقنابل طائراتها وصواريخها. ذلك أن قتل المسلمين بهمجية وشراسة ليس لها سابقة في التاريخ الحديث، هو وقود زخم فرض النظام العالمي الجديد الذي تريد فرضه على العالم. فأميركا في دور التفتيش عن المكان الثاني لاستمرار عملياتها العسكرية، هل تختار المسلمين الذين يقطنون العراء متخفين من المطر تحت أوراق شجر الموز؟ أم تقتل المسلمين الذين تمنع عنهم حتى الهواء منذ اثني عشر عاما؟ خياراتها كثيرة لكن حتى تقرر لا تستطيع طي ملف الشرط الثاني لوقف قتل المسلمين في أفغانستان. اعتقال الشخصين لا تستطيع القيام به قبل تقرير مَنْ ستقتل من فئات المسلمين؛ أحمرها أم أسودها؟(1/150)
وجهة النظر هذه تكاد تكون عامة عند المفكرين والسياسيين والإعلاميين وهي لا شك صحيحة في رأينا أيضا. لكن هذا في واقعهِ سبب يتعلق بخطة القتل وخطة تطبيق النظام وليس بسبب فرض النظام. الجميع يعلم أن الإرهابَ حجةَ أميركا لفرض النظام الجديد هو حجة سخيفة وكاذبة تستهزئ بعقول الجنس البشري خاصة مفكريه وسياسييه وعسكرييه. هم ينقسمون فئتين: فئة تقتنع أن أميركا، بمراكز القوة الحقيقية فيها، هي افتعلت هذه الحجة؛ أي افتعلت تخطيطا و تنفيذا عاصفة الطائرات. على رأس هذه الفئة ليندون لاروش مرشحاً ليكون مرشحَ الحزب الديمقراطي للرئاسة في أميركا في عام 2004. جميع الحكام والبارزين في مجالهم الفكري، السياسي والعسكري لا يجرؤون على التصريح العلني أو الكتابة بما يعرفون من حقائق خوف إيقاع أميركا بهم بعد أن أصبحت جميع الملفات الشخصية في جميع الدول مفتوحة للأجهزة الأميركية بحجة التعاون المخابراتي في مكافحة الإرهاب.(1/151)
الفئة الثانية ترفض البحث فيمن كان وراء تدبير عاصفة الطائرات وتعتبره شأنا أميركيا. تحصر بحثها في رد فعل أميركا فقط. سبب هذا الفصل عند هؤلاء يختلف من حاكم لآخر ومن منبرِ إعلامٍ لآخرَ أيضا. كذلك يختلف عند السياسيين والعسكريين. ليس مهمًّا معرفة سبب حاكمٍ ومقارنته بسبب حاكم آخر وليس مهمًّا تعداد هذه الأسباب عند هذا الفريق أو ذاك. المهم أن القاسم المشترك عند جميع هؤلاء، المتزلف منهم أو الجبان، المنافق أو الملوث بالرذيلة المخبأة في ملفه الذي وصل للمخابرات الأميركية أو يمكن فضحه، عاملٌ واحد. إن هذا الفصل يمكِّن الذي يُبدي رأيه في رد الفعل فقط دون البحث في أصل الفعل أن يستطيع أن يفعل ذلك وهو مطمئن إلى أنه في هذا المجال لن تغضب عليه أميركا الغضبة القاتلة. والأهم أنه في هذا المجال يستطيع أن يكذب أكثر ويتملق أميركا بدل انتقادها وهو مطمئن إلى أن شعبه لن يكتشف كذبه، لأنه يركب موجة التيار الإعلامي العام. يبقى أن هذه الفئة تقول إن أميركا تغالي بردة فعلها وأن انتقام أميركا العسكري وقتلها للمسلمين يجب أن ينتهي في أفغانستان. عندهم، فرض النظام العالمي الجديد لا يحتاج إلى قتل مزيدٍ من المسلمين.(1/152)
في الفئتين يبرز تصميم مشترك، كما في الإعلام الذي تسيطر عليه أميركا وهو أكثر الإعلام العالمي. كذلك في الإعلام الذي توجهه بريطانيا وهو أكثر الإعلام في بلاد المسلمين. التصميم والتركيز في أميركا وبريطانيا هو أن أميركا بطائراتها وصواريخها وقنابلها التي تسوِّي الجبال تقتل المسلمين. الإعلام الغربي في بلاده والإعلام في بلاد المسلمين ـ وجميعه إعلام موجه مخابراتياً وتشرف عليه مباشرةً سلطة الحكم السياسية ـ يركز على قتل أميركا للمسلمين. الجميع، رغم رؤيته وسماعه لهذا الإعلام، ورغم رؤيته وسماعه تصريحات حاكمه في تذلله وخنوعه وخضوعه في تأييد أميركا في قتل المسلمين وهما موقفان متناقضان في الساحة نفسها ومن السلطة نفسها، لا يستطيع الربط بين الموقفين. تراه يلعن حاكمه الخانع المتذلل في خضوعه المطلق لأميركا وإذا عارض نقطة أو إجراءً أو تصريحا فبإذنٍ مسبق لتزيينه بورقة توت حتى لا تفتك به شياطينُ قصره. في الوقت نفسه يمدح ويمجِّد الإعلامي التابع للنظام الذي يبرِزُ ويستثير الهمم ويدعو لجمع الصفوف في كراهية أميركا وبريطانيا والغرب. لا ينتبه إلى أن الإعلامي من خبثٍ ومكرٍ لا يدعو إلى جمع الصفوف لإقامة كيان يقف بوجه هجمة الغرب لقتل المسلمين، ولا يبيِّن كيف تجتمع الصفوف بطبيعتها. بل يدعو لجمع الصفوف لكره الأوروبيين الذين يقتلون المسلمين.(1/153)
نعود إلى الفصل بين سبب خطة قتل المسلمين وسبب فرض النظام الأميركي للعالم. قتل المسلمين أو خطة قتل المسلمين وسيلة فرض النظام. كما أن عاصفة الطائرات هي الحجة أو الوسيلة لفرض قتل المسلمين. في الربط المنطقي: إذا كانت هذه الحلقات متلازمة غير قابلة للانفكاك عن بعضها، وإذا كانت متوحِّدةً في وِحدة وجودها، أي إن الأولَ عاصفةَ الطائرات سببُ الثاني قتلِ المسلمين. والثاني سبب الثالث أي قتل المسلمين سبب النظام العالمي الجديد. عندها يكون الفهم السليم أن الذي صنع الثالث ‘النظام العالمي الجديد’ ابتداءً هو الذي احتاج إلى الثاني ‘ قتل المسلمين ’ فصنعه. هذا عام في الخطط كلها. فالخطة لا تنشأ قبل الهدف، ولا يُفكَّرُ بها قبل تحديد الهدف. الأصلُ أن يتمَّ تحديد الهدف ثم يُبحثُ في خطة تحقيق الهدف وصنع الوسيلة. هذا في طبيعة عمل القول، وفي الخداع يمكن غش الطبيعة لا تغييرها.(1/154)
بعد كل هذا يبقى البحث في أساس الموضوع مغيبا، لا يتطرق إليه أحد وكأنه من الممنوعات. أساس الموضوع هو: ما هو سبب حملة أميركا على الإسلام كفكرٍ عقدي ومبدأٍ لأفكار الحياة كلها عبر حملة ظالمة تبررها بأكاذيب تفرضها على أنها حقائق بهدير الطائرات وتحريك الأساطيل والقصف المدمر، والاعتقال على الساحة الدولية والضجيج اللفظي في ترويع المسلمين ونشر اللوائح العشوائية في تركيبها والتهديد بخيارات أميركا في قصف عدد لا يحصى من بلاد المسلمين؟! ما هو سبب حملة أميركا في خطة تأليب العالم وجعله تحالفا دوليا ضد الإسلام بحجة أن فِكره الأيديولوجي يصنع إرهابيين؟! لماذا في أساس خطتها ثلاثة أركان بارزة في التصريحات والأعمال والمؤتمرات؟ الركيزة الأولى: الإصرار على استباحة دماء المسلمين بأقصى درجات القسوة، والتفاخر بقتلهم، والكذب المكشوف في تفصيل وبيان سبب هذا القتل. الركيزة الثانية: الإذلال العلني للمسلمين في وجودهم كأمة وفي كيانهم الفكري وفي إيمانهم النفسي. الركيزة الثالثة: الدعوة الصريحة لتغيير معاني ألفاظ آيات القرآن والسنة وتغيير معاني أفكار القرآن والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.(1/155)
سبب حملة أميركا على الإسلام هو الموضوع الذي لم يتطرق إليه أحد في أبحاثه وتعليقه إن كان مع هذه الحملة أو ضدها. لا أميركياً و لا أوروبياً، ولا أحد من المنافقين بين المسلمين الذين يُسمح لهم بالظهور كمفكرين علمانيين ومفكرين "إسلاميين"، ولا أي سياسي تطرق إليه بلسانه أو تعالى إليه بموضوعه. نعم تطرقوا إليه على أنه يتعلق بصراع الحضارات، لكن لم يجرؤ أحد على القول إنه للانتهاء من صراع الحضارات. خطة أميركا في قتل المسلمين حول الكرة الأرضية ليست موضوعا في صراع الحضارات ولا جزءاً أو مرحلة في موضوع صراع الحضارات. إنها خطة في الانتهاء بالضربة القاضية من صراع الحضارات، أي من صراع كفر الفكر الديمقراطي الرأسمالي مع فكر إيمان الإسلام. لذلك كانت الخطة تعتمد على ثلاث ركائز: 1- قتل المسلمين بتصميم نادر في زخمه. 2- إذلال المسلمين علنيا وهي خطة التدمير النفسي. 3- فرض تحريف معاني الإسلام بأفواه أصحاب العمائم.
بحْثُنا في موضوعه يرتبط في صراع الدول الكبرى بإمكاناتها الهائلة مع فكر الإسلام الذي ليس له دولة ولا إمكانات اللهم إلا الحجة العقلية والبرهان المحسوس. صراع الفكر الديمقراطي الرأسمالي بأهله مع فكر الإسلام من دون أهله. أهل الفكر ليسوا حملته أو معتقديه بل القوة التي تحمي حَمَلَةَ فكره. ظرفُ البحث غير موضوعه. ظرفُه اليوم هو تصميم أميركا على قتل المسلمين جسديا، إذلالهم لقتلهم معنويا، وتحريف الإسلام بغير طريقة تحريف التوراة والنصرانية للقضاء على فكره.(1/156)
موضوعُ صراع الحضارات بقي منذ ابتدائه قبل مرحلة الحروب الصليبية فكريا مقارعة برهانِ الإسلام بأقوال المسيحية. الحروب الصليبية كانت لنقل الصراع من فكريٍّ بين فكرٍ في برهانٍ وافتراضٍ في قولٍ إلى فرض كراهية الإسلام والمسلمين على الأوروبيين. الكراهيةُ تقضي على امتياز الإسلام في برهان فكره على أقوال المسيحية في غياب برهان قولها. هكذا عاش الأوروبي في حصن كراهية الإسلام والمسلمين منذ الحروب الصليبية التي كانت لترسيخ هذه الكراهية، حتى زوال دولة الإسلام في عام 1924م. بعد هدم دولة الخلافة وهي سلطة الحكم التي تقوم على أساس نظام الإسلام بقي فرضُ كراهية الإسلام على الأوروبيين ومنعِ الإسلام أن يكون له منبر. حتى إن المنع طاول أي فرد مؤمن. في احتلالهم بلاد المسلمين قام الإنكليز باصطناع أحزاب وجمعيات وزعماء بإسلام مجتزأ، مبهم، مختلط بغير إسلام ـ كفرـ لإيهام المسلمين أنهم ما زالوا يصارعون الكفر. لأن صراع الكفر ـ أفكار غير الإسلام ـ جزء أساسي في فكرِ الإسلام، وفرض أساسي في فروض الإسلام. لكن هذه الأحزاب "الإسلامية" والجمعيات والزعامات "الدينية" كانت في خبثٍ ومكرٍ وخيانةٍ مصمَّمَةٍ لهدر طاقات الأمة الإسلامية والتلاعب بمقدرتها. وقد استمر هذا الحال حتى دخول أميركا المسرح السياسي العالمي.(1/157)
أميركا لم يكن عندها خطة سياسية للعالم أو لسيطرتها على العالم. لذلك دخلت المسرح بقوتها العسكرية واستمرت على المسرح السياسي الدولي بقوتها العسكرية، لكن دائما بدون خطة سياسية للعالم(1). أميركا لم تقنع يوما أن هناك مقوّمات للصراع العسكري تغاير مقومات الصراع الفكري أو الصراع السياسي أو الصراع الاقتصادي. أميركا لم تنتصر يوما من دون سلاحها العسكرِي. لذلك عندها، حسمُ أي صراع لا يمكن أن يتم إلا بصراع عسكري. أو إن الصراع العسكري هو نهايةُ كل صراعٍ حتى ولو كان صراعاً على نظافة البيئة، أو صراعاً مع قوى تمنع تفشي الرذيلة في مجتمعها وتصر على العيش بقيمٍ وفضائل. حتى إنها في صراع الحضارات لم تفهم أنها أكذوبةٌ في خطة أوروبية ـ بعد أن أبدلوا أوروبية بإنكليزية تهذيباً ومكراً وخداعاً ـ في تضليل المسلمين عن حقيقة الصراع وتحويلهم عن حقيقة الهدف الإسلامي في وجود أمة المسلمين. أميركا صدّقت الكذبة الأوروبية ـ الإنكليزية ـ أن هناك
__________
(1) كان عند أميركا أن حقها الطبيعي هو وراثة الاستعمار الأوروبي للعالم، هذا كان غاية أميركا وسبب دخول أميركا للحرب. لكن هذا ليس خطةً بل هدفاً يحتاج إلى خطة. فيما بعد وضعت أميركا خططاً كثيرة لمناطق مختلفة من العالم لم تتجاوز أن تكون خططاً إقليمية لا خطة للعالم. لما أدركت ضعفها في هذا وحاجتها إلى خطة للعالم قامت بتجميع خططها الإقليمية لكن هذا أيضاً لا يجعل هذا التجمع خطة للعالم. كذلك في خطتها لاستيعاب الوجود الروسي الدولي في جلبابها وإنهاك روسيا عسكرياً في سباق التسلح واقتصادياً في سياسة الحرب الباردة كانت خطة إقليمية لكن في منبر المسرح الدولي وليس خطة للسيطرة على العالم. اصطناع الإرهاب شبحا مخيفاً ونفخ الروح فيه في كل يوم بعد اصطناع أحداث التفجير في أيلول هو أول خطة سياسية متكاملة لأميركا في محاولة السيطرة على العالم بغض النظر عن ضعف هذه الخطة أو قوتها وفشلها أو نجاحها.(1/158)
صراع حضارات بالمعطيات التي فرضوها!
كذلك، أميركا لم يكن عندها قضية سياسية عندما باشرت السياسة الدولية. لما دخلت المسرح الدولي وجدت دول أوروبا تفرض سيطرتها على بلاد المسلمين وغير بلاد المسلمين لتستغل طاقاتهم وتنهب ثرواتهم. لم يكن أمامها بحسب اعتناقها للنظام الرأسمالي غير المشاركة في هذا الاستغلال وهذا النهب. أما ادعاء أميركا أنها تحمل الديمقراطية للشعوب فهي ليست أكثر من مادة لإثارة الشعوب لتتخلص من حكامها عملاء الحكومات الأوروبية المستعمرة وإبدالهم بحكام من عملاء أميركا في تلك الشعوب. وقد نجحت في هذا في بلادٍ كثيرة من أبرزها في بلاد المسلمين مصر، إيران وإندونيسيا. هذا عن طريق الثورات الشعبية، أما عن طريق شراء ذمم ضباط الجيش لتسليمها البلاد بكل ما فيها فقد نجحت أيضا في بلاد كثيرة لكن استمرار نفوذها في هذه البلاد ما زال يعتمد على الجيش ولم تنجح في أخذ الشعب ليسير معها.
بعد مرور ستين عاما على دخولها للمسرح الدولي وجدت أميركا أنها في وتيرة سيطرتها على الدول الخاضعة لبريطانيا وفرنسا تحتاج إلى قرون قبل تصفية هذه الدول من نفوذها وسيطرتها على دولٍ كثيرةٍ في العالم. لذلك كان لا بد لقوة الحكم في أميركا من إعادة درس خطتها في دورها في المسرح الدولي. لقد بلغ من ضعف أميركا في رؤيتها السياسية ودورها الذي تفرضه تلك الرؤية أن أميركا بكل طاقاتها لم تستطع وقف تلاعب سياسيي دولة يهود بها وكأنها كرة تتقاذفها أقدام أولئك الأقزام في تجمع الليكود والمخادعين في حزب العمل. لقد بلغ من ضياع أميركا في رؤيتها وقضيتها أن قام رئيسها بكل طاقته لإطفاء ثورة شعب أيرلندا لتحرير بلاد أيرلندا من احتلال الإنكليز لها. علما أن أميركا التزاما برؤيتها ودورها أثَّرت كثيراً بتحريك تلك الثورة لتحرير أيرلندا من احتلال الإنكليز.(1/159)
ضياعُ أميركا في عهد كلينتون جعله ذليلا في تعامله مع سياسيي دولة يهود. إذلاله في شخصه تجاوزه ليكون تسفيها لرؤية أميركا ودورها. تبعية أميركا لخطط غيرها في حرب البلقان أذلّت أميركا في دورها وقوتها ذلك أنها في تلك الحرب لم تكن ذات رؤية ولا قضية. إذلال أميركا في البلقان أيضا تجاوزه ليكون تسفيها لدورها وقوتها العسكرية في العالم.
في هذا الضياع وقع التفجير ووقع الاتهام وبدأ قتل المسلمين بدون ذنبٍ ارتكبوه إلاّ أنهم مسلمين، رغم أنهم مسلمون بدون فكر الإسلام بدأوا بقتلهم. ورغم أنهم عزّل من سلاحٍ يماثل سلاح المعتدي أنشئوا حلفا دوليا لقتل المسلمين. أثناء القتل الجماعي الهمجي يصرح أحد أقوى أطراف الحكم في الرئاسة الأميركية أنه مع غيره خططوا منذ مدة لهذا العمل!(1)
__________
(1)
( الموضوع الذي كان يقصده المسؤول الأميركي هو ليس عمل 11 أيلول بل فرض الاحتلال المباشر للعالم بفرض مشروع محاربة الإرهاب.(1/160)
لكن هذا العمل جزء من خطة فلا بد أن حكام أميركا قاموا سرا في عهد كلينتون بوضع خطة تقلب موازين القوى في العالم. أميركا لا تريد الانتهاء من المسلمين فالمسلمون أنهت بريطانيا كيانهم الدولي منذ زمن بعيد. أميركا لا تريد الانتهاء من الإسلام كعقيدة في النفوس لأنها تعلم أن ذلك ليس في مقدور البشر أن يفعلوه. لأنه ثبت لديهم أن الشيطان حاول وفشل وهو سيدهم فكيف بهم. أميركا قررت أن استمرار وجودها ككيان ودولة وقوة عظمى يقتضي ضرب العقيدة الإسلامية ليس في صدور المسلمين بل في صياغة فكر العقيدة. فكر العقيدة هو ماء الحياة للمؤمن قبل أن يكون ماء الحياة للعقيدة. لأن عقيدة الإسلام في جوهر وجودها، وهو غايتها في دورها وتأثيرها، أنها تؤدي إلى إحياء الإنسان الذي يعتقدها. أميركا تعتبر أنه في غياب دولة الخلافة التي تطبق أحكام الإسلام مجال صراع الحضارات محصور بين غير متعادِلَيْن صاحبِ فكرٍ وصاحبِ سلاح. إن المعركة التي وجدت أميركا نفسها في خضمّها بعد فشلها في أن تكون القوة السياسية الوحيدة في العالم، حتى بعد تسليم روسيا المطلق لأميركا بدون شروط، هي أن بريطانيا نجحت في تحريك دول أوروبا العظمى في مشروعها لتشارك أميركا فعليا في المسرح الدولي. رغم أنها القوة العسكرية الوحيدة في العالم كانت دائما في حاجة إلى دعم أوروبا والإنكليز خصوصا في قهر المسلمين وقتلهم. ساحة المعركة هذه التي تصارع فيها أميركا للسلطة السياسية في العالم لم تكن في معاييرها أميركية ابتداء. حتى اليوم لم تنجح في مصادرة معايير ساحة المعركة للسيطرة على السياسة الدولية؛ ومعايير الساحة هي نفسها المعايير الثلاثة لأي مسرح.(1/161)
خطة أميركا في ركائزها الثلاث هدفها نزع سلاح الإسلام من الإسلام. سلاح الإسلام فكرُ عقيدته لا يمكن نزعه لأنه جزء من طبيعةٍ، مثل قلب الفرد لا يمكن للفرد أن يحيا بدون قلب. كذلك عقيدة الإسلام لا يمكن أن تكون عقيدة فردٍ دون فكرها. لذلك تقول عقيدة الإسلام إن من يدّعي أنه مسلم دون فكر العقيدة هو مُكذِّب بنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام منافق في دين الله مرتد عن دين الإسلام؛ بغض النظر عن كون هذا الكذاب المنافق المرتد بعمامة أو بغير عمامة، مثقفاً بشهادة دكتوراه بالإسلام أو بتربة الأرض. أو كونه حاكما انتخبه البرلمان أو فرضه ضباط جيش. نزع سلاح الإسلام سارت فيه أميركا على ثلاث جبهات:
الجبهة الأولى: قتل المسلمين بتصميم نادر في زخمه.
الجبهة الثانية: التدمير المعنوي للنفسية الإسلامية.
الجبهة الثالثة: فرض المباشرة في نزع سلاح الإسلام بتحريف معاني الإسلام بأفواه أصحاب العمائم والمثقفين في فنِّ دجلِ الكلام.(1/162)
هذه الجبهات الثلاث، البعض يقول إنها جبهة واحدة وحجته في ذلك أن أميركا دمجتها مع بعضها. قولهم صحيح وهذا ما تحاول أميركا أن تفعله في الظاهر. لكن الأوروبيين فهموا أن هذا الدمج مصطنع لتمرير المؤامرة عليهم. المؤامرة في حقيقتها على الأوروبيين وعلى رأسهم الإنكليز، ليست على المسلمين. المسلمون ليسوا طرفا في أي نزاع لا دولي ولا إقليمي ولا داخلي. لكن سبب أميركا في فتح هذه الجبهات الثلاث هو اصطناع مسرحٍ جديد في ساحة السياسة الدولية تكون عناصره الثلاثة من صناعتها وحدها. ساحة المعركة في السياسة الدولية فيها مسارح عدة ، لكن هذا المسرح هو المسرح الوحيد الذي تصطنعه أميركا ليطغى على بقية المسارح لأنه المسرح الوحيد الذي ـ تظن وتريد ـ أن ترقص فيه لوحدها وتكون فيه دول أوروبا متفرّجة في المقاعد. دول العالم الأخرى بما فيها روسيا والصين في الكواليس خدمٌ لمسح الأحذية وخياطة الثياب ومهندسو صوت وإضاءة، أما الصين فهي تكنس الغبار وروسيا ليست أكثر من مصفف شعر! هذا المسرح تريده أميركا دائماً لذلك تحتاج إلى رواية متسلسلة وهذا هو سبب تصنيفنا لجبهة أميركا أنها ثلاث جبهات.(1/163)
الجبهة الأولى: قتل المسلمين بتصميم نادر في زخمه. القتل هو القتل والتصميم على القتل هو نفسه في كل قتل. التصميم على القتل ضروري لتحقيق الهدف. الزخم غير التصميم وغير القتل فهو يتعلق بغير هدف التصميم وغير هدف القتل، له هدف خاص به. هدف الزخم الذي وراء القصف الذي وصل في شراسته أن كان يُقصف قِنّ دجاج بصاروخٍ من أجل قذف الرعب في قلب كل مسلم يؤمن بالله ورسوله والقرآن كما أنزله الله للناس أجمعين هدى لهم ورحمة بهم. هدى لهم لأن التزام هدي القرآن والسنة النبوية يؤدي إلى سعادة العيش في الدنيا والخلود في جنات النعيم السرمدي. رحمة بهم لأنه ينقذهم من شقاء العيش وتعاسته وبؤسه في الدنيا وعذاب الآخرة في لعنة الله. هذه الشراسة في القتل رافقها حملة إذلالٍ لكل حاكم في بلاد المسلمين. لم يكن هناك مبرر لإذلال الحاكم في بلاد المسلمين إذ لم يصدر عن مجموعهم موقف يعارض قتل المسلمين لا في السابق ولا في الحاضر. لكن قصد إذلال الحاكم كان إذلال الفرد المسلم. كأنه قول صارخ من أميركا: اعلم أيها المسلم أن الذي يقدر على إذلال حاكمك وحكومتك قادر على إذلالك ومصادرة أموالك. وحتى مصادرة حريتك بالاعتقال وروحك بالقتل الصاروخي بموافقة حاكمك وتعاون قواد الجيوش ووزراء الحكم وعلماء الحكومات في بلادك! إذا اقترن فهم الزخم النادر أو ربطه في التصميم على قتلٍ غير مبرَّرٍ للمسلمين، مع إذلالهم غير المبرر في وسيلته، يتضح أن مقصود هذا الاقتران بالعمل هو قلب طاولة التاريخ في موضوع كراهية الأوروبيين للإسلام أنها في بدايتها مؤامرة الحكم الأوروبي ليمتنع الأوروبي عن التحول لاعتناق الإسلام، لتصبح أن إعلان الغرب الأميركي عداوته للإسلام حتى يعلن المسلمون خضوعهم لشروط هذه العداوة بكراهية!(1/164)
مسرحُ الكراهية بين الأوروبيين والمسلمين أنه كان دائما باتجاهٍ واحد: الأوروبيون يكرهون المسلمين. في التاريخ كله مجرى الكراهية في اتجاه واحد: الكفر يكره الإيمان، أهل الكفر يكرهون أهل الإيمان. لم تمر في التاريخ حقبة يَكرَهُ فيها المؤمنون. الكراهيةُ دائماً حرام في كل إيمان. هكذا كانت محرّمة في إيمان عبّاد الله وأنبيائه عيسى ويعقوب وموسى إلى آدم، وهكذا تجلت في صريح آيات القرآن الكريم الذي به نُسِخت أديان الله السابقة له كلها. وهكذا اكتمل بيان أحكامها في سنة محمّد صلوات الله عليه التي ألغت أحكام سنن جميع أنبياء الله من قبله. هذه الكراهية المستمرة في غياب مواجهة إسلاميةٍ ماديةٍ أرهقت النفس الألمانية والفرنسية والسلافية وعموم نفوس الأعراق الأخرى. طبعا باستثناء النفس الإنكليزية لأسباب تتعلق بارتباط هذه النفس بغير علم النفس الإنسانية. منذ نشوئها ارتبطت ـ بفرض من الحاكم ـ في تكوينها ورؤيتها في تشكيل نفسية خاصة، لذلك نستثنيها في هذا الموضوع. أثقل أحمال النفس البشرية البريئة تأتي من مواجهة الحق بباطل. أو إيقاع الذنب على بريء، أو ظلمِ من لا يستطيع ردّ الظلم. لا تحمل هذه الأحمال إلا نفس من جنس نفس إبليس أو نفس حاكم يستبيح كل شيء لاستمراره في الحكم.(1/165)
النفس الأوروبية نفس بشرية في طبيعتها، بريئة في بدايتها كنفس المسلم. لكن في تراثها وثقافتها ترتوي من أفكار الباطل لتتشكل عقليتها بما عليه عقلية برلسكوني وشيطانةُ الإنكليز. عقلية تستبيح ظلم الحق في كل قولٍ وإنكارِ برهانِ الواقع في كل فكر. عندما أنكرت سيدتهم حق المسلمين بالاحترام لم تقل ذلك اعتباطاً بل قناعةً أن جنس الشياطين خيرٌ من جنس البشر. بمعنى أنَّ فكرَ الكفرِ وعقيدةَ التضليلِ خيرٌ من فكرِ الإيمان وعقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام. وعندما أنكر برلسكوني حقَّ المسلمين بالمساواة بإنسانٍ من جنسه، جنسُ مزوِّري حقيقة الوجود، لم يقل ذلك اعتباطاً بل قناعةً أن اللص خيرٌ من الذي يسكت عن سرقته أو من الذي يمكن سرقته. بمعنى أن مفاخرته واستعلاءه بحضارته عن حضارة المسلمين هو في واقعه أن حضارةَ الغرب منذ بدءِ تلك الحضارة مع الإمبراطورية الرومانية في وثنيتها ومسيحيتها كانت حضارة نهبٍ وسرقةٍ لكنوزِ الشعوب المغلوبة. لا تتساوى مع حضارة الإسلام التي كانت تمنع النهبَ والقتلَ للنهب، وتحملُ أفكارَ الحياة والموت والبعث للنفوس الحائرة في سبب وجودها وسبب موتها. فحضارة الإسلام تطرح حياة السعادة بديلَ شقاء الحياة أمام كل عقل. وهي ليس لها في ثروة الناس شأن إلا أن يكون دور تلك الثروة مزيداً في قدرة تعميم الخير على الغني والفقير، وسبيلاً من سبل الحياة في طاعة الله صاحب قرار المصير في جنةٍ أو نار. حضارةُ برلسكوني التي يتعالى بها برلسكوني وسيدتهم تاتشر وقد يلحق بهما مئات من أسياد الجيوش وملايين ومئات ملايين من أبناء الأرض الذين يفنون على الضلال. حضارةُ اغتصابِ عِرضٍ ومالٍ وحقيقةٍ في عقلٍ وبرهان. لا حاكمٌ ولو واحد ولا سياسيٌّ واحد أو فضائية أو صحيفة أو منبرٌ إعلاميٌّ من آلافها في بلاد المسلمين وقف وِقفةَ حاكمٍ ولو في نعاجٍ يردُّ الباطل بالحق! فعلامَ إذلال الحاكمِ فينا؟(1/166)
نعترفُ أمام برلسكوني وهو مَنْ هو فيمَ يُتَّهم به. نعترفُ أمام الابن في البيت الأبيض الذي يبرُّ أباه في حفظِ تراث العائلة في قتلِ المسلمين. نعترفُ أمام سيدتهم. نعترفُ أمام آلاف الملايين وأسياد الجيوش التي تقتلنا، وأسيادِ الجيوش فينا الذين يتفرجون على قتلنا: إننا حضاريين على غير نهجِ حضاريي الديمقراطية. وإننا على حضارة الإسلام التي أكرمنا الله بها لنحيا عليها بِفِطرة الإنسان. وإننا مصممون أن لا نجاري حضاريي أوروبا بالعيش في وِديان الانحطاط الفكري والشقاء النفسي الذي تعيش فيه شعوبهم. ولن نهوي للعيش في حضارة الضلالِ والتضليلِ التي يتبناها ويعيش بها أمثالهم. وإن الفرق بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب هو الفرق بين الكفر والإيمان، هو الفرق بين العاقل وغير العاقل. أو كالعيش من دون روح أو الموت من دون جسد. وننصحكم حيث النصيحةُ في ديننا صدقةٌ للكافر كانت أو للمسلم. إذ هي تصدرُ بقولٍ شرعي من مصدرٍ(1) شرعي. ننصحكم أن تستعجلوا النظرَ في مصدر حضارة الإسلام ومصدر حضارة فرضِ السيطرةِ للاستغلال؛ حضارتكم، هل يلتقيان؟ وننصحكم بالنظر في وِجهة نظرِ الحياة في حضارة الإسلام ووِجهة نظرِ الحياة في حضارة فصل المصير في الموت عن طريقة العيش في الحياة، هل يلتقيان؟ وننصحكم بالنظر في قول حضارة الإسلام بمصير الإنسان في الموت وعلاقة عمل الحياة بدوام الحياة، وفيما تقول به حضارةُ الغباء في علاقة الحياة بما بعد الحياة، هل يلتقيان؟
__________
(1) المصدر الشرعي هنا ليس الكاتب بل تتعلق بمصدر القول أنه من المصادر الشرعية.(1/167)
هكذا نستطيع أن نستمر بالنصح، لكن هل ينفع النصح مع الشياطين وسيدتهم؟ أو سادتهم، وهم قادرون على قتلنا في غياب دولةٍ منا ولنا؟ الله يخبرنا أن الخير بِذْرةً في كل إنسان، لا يدري الإنسان متى تنبت فيه. كما لا يدري الذي هداه الله إلى طريقِ الخير متى تنبت في الكافر الضال. حتى الذي يُضِلُّ مثل تاتشر وبرلسكوني وعشرات الآلاف بل الملايين غيرهم، يأمرنا الله أن لا نلعنهم بكراهيتهم وضلالهم وجهلهم قبل أن يموتوا على هذا الكفر. حتى الذين يقتلوننا مثل بلير وتشيني ورامسفيلد وعائلة بوش التي بَنَت مجدها في قتل المسلمين، لا يستطيع المسلمُ لعنهم قبل أن يموتوا غيظاً على كفرهم. مظنةُ الخير فيهم واجبة بأمرٍ من الله الذي خلقهم وليس لأننا نرى فيهم بصيص خير. مظنَّةُ الخير فيهم تمنعنا أن نكرههم، تفرضُ علينا مصارحتهم بضلالهم، ومشاركتهم نبتة الخير التي أنبتها الله فينا. نعرضُ(1) عليهم سعادة الدنيا والحياة إذا ارتقوْا للتوفيق بين
__________
(1) ليس للمسلمين في الوقت الراهن منبر منه يعرضون عروضهم على دول الكفر وشعوبها، لكن عرض الهداية هو حمل الدعوة بالتزام أحكام الإسلام وهو فرض قائم على المسام حتى آخر نفسٍ فيه. منبر هذا الفرض هو النفس في الإنسان، وهو وضوح الإيمان في العقل، وهو القدرة على النطق، والكتابة من أدوات أو صيغ النطق. لذلك لا يعجبن القارئ المسلم أننا في ضعفٍ أو من ضعفٍ نعرض. غير المسلم، في مسيحيته يتذكر أن المعلق على صليبه بقي يعرض خلاصه على يهود الذين أصروا على صلبه رغم معارضة الرومان، لذلك هم يعلمون أن المؤمن لا يحتاج إلى منبرٍ لأن مسرح الإيمان هو العقول والقلوب ليس المدفع والطائرة. أما غير المسلم، في ديمقراطيته، يتذكر حجة القول التي يقرأ عنها ولا يعرف لها مواصفات. يتذكر حرية القول ولا يعرف لها فائدة. يتذكر حرية الحياة والموت في عقيدته من دون غايةٍ فيتذكر أن منبر الحجة هو برهانها، وأن منبر الفكر هو مقولته.(1/168)
سبب الدنيا والموت وسبب الحياة في المصير.
في طبيعة زخمِ التصميم النادر في قتل المسلمين أنه لا يبحث فيمن يقتل. لا يتأثر في كم يقتل، لأن القتل هنا لا يتعلق في نوع المقتول ولا في عدد القتلى. إنه القتل الذي يُبرِز الزخمَ الذي يجري به القتل، فالزخم هو العنصر الأساسي في مؤامرة تبرير قتل المسلمين بعد تلفيق اتهامهم باجتماعهم وتآمرهم على قتل 2800 أميركي ربعهم من المسلمين. مع هذا الزخم النادر في التصميم على قتل المسلمين نشطت أجهزة الإعلام الدولية والإقليمية والمحلية في قلب البلاد الإسلامية في موضوعٍ إعلامي لم يسبق أن تطرقت إليه في خطة متكاملة، متوازنة الإيقاع، منسقة في تفصيلاتها وتحليلاتها ومجراها. هدفها: بعد أن فرضت أميركا على العالم أن يصدق أن أحد عملائها انقلب عليها ودمرها بغفلة منها. وبعد أن فرضت بالمنع الجسدي أيَّ مذياعٍ ولو من فم فردٍ أن ينطق برفضه أن يصدق افتراء أميركا. وبعد أن منعت الحديث ولو من أخرسٍ يطالب بدليل واحدٍ على أن مسلماً واحداً فقط كان مشاركاً فعلياً لا مشاركاً ملصقاً بالعملية زوراً. وبعد أن فرضت على جميع حكام الأرض الإعلان عن تصديقهم اتهام أميركا أن المسلمين قاطبةً قاموا بهذا التدمير الذي يخالف دين جميع المسلمين دون أن يعلنوا عن دليل واحدٍ حتى اليوم. بعد أن نجحت أميركا بإلصاق تهمة التفجير زوراً بمسلمين، ونجحت بتعميم التهمة لإلصاقها بالأمة الإسلامية أسودها وأحمرها. بسكوت وطأطأةِ رأسٍ من حكامٍ في المسلمين وقوادِ جيوشهم. هدفها: بعد أن كان الأمر صدودَ الأوروبيين عن الإسلام بسبب برامج الكراهية التي فرضها الحكام عليهم في برامجهم التعليمية والإعلامية والسياسية فقط أن يتلازم معه فرضُ كراهية الأوروبي على المسلمين، بتحويل المسلمين إلى كارهين!(1/169)
جدارُ كراهية الأوروبي للإسلام كان وهماً فرضه سياسيوهم عليهم في خطة الحرب الصليبية. بقيت خطةُ فرضهِ ناجحةً ألفَ عام وما زالت ناجحةً في منع الأوروبي من محاولة فهم الإسلام. فجأة أرادت أميركا تدعيم هذا الجدار بخطة لا تخطر إلا على بال من مثل الذين كانوا وراء قتلِ مواطنيهم في أميركا. ثم لفقوا تهمةً ألصقوها بتسعة عشر اسماً مسلماً خمسةً منهم ثبتَ أنهم أحياء في مناطق أخرى وأربعة ماتوا من زمنٍ قبل إيقاع ضربتهم، والتسعة الباقون لم يثبت أي دليل أنهم كانوا بالطائرة. بل الحقيقة أن الإثبات القانوني أنهم لم يكونوا بالطائرة وعجزهم عن الرد أن الأجهزة قامت بتصفيتهم قبل إلصاق التهمة بهم. ثم عمدوا إلى تحويل التهمةِ إلى أمة المسلمين. ثم قرروا إن المسلمين مجرمون يقتلون الأبرياء يجب قتلهم قبل أن يكثروا في الأرض.(1/170)
فرضت أميركا اتهام المسلمين ـ بموافقة الأوروبيين في هذا الموضوع ـ أنهم يقتلون الأميركيين لأنهم يكرهون أميركا. وانطلقت أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في مؤامرة البحث عن سبب كراهية المسلمين لأميركا والغرب قاطبة. لم يتركوا جاهلاً أو مرتداً أو منافقاً أو مثقفاً بثقافتهم من المسلمين إلا واستحضروه ليدلي برأيه في سبب كراهية المسلمين للغربيين، ليس للكفار بل للأميركيين والأوروبيين حصراً. وتناولت أجهزة الإعلام الغربية موضوع كراهية المسلمين للأوروبيين بكثير من التفصيل. وتألفت وفود أميركية ووفود أوروبية تجول في بلاد المسلمين. في تفتيشها عن سبب كراهية المسلمين لهم تُثبِتُ التهمةَ على المسلمين وتفرضُ عليهم كراهيةَ الغربِ فرضاً. إعلاميون أوروبيون وأميركيون بعد أن صدمهم الواقع الذي يرد تهمتهم خافوا فشل خطة أميركا في تحويل المسلمين إلى كارهين. أخذوا يصرخون كالكلب الذي عُضَّ في ذيله: لماذا تكرهوننا أيها المسلمون؟ أحدهم مسعوراً في غضبه؛ مثلَ كلبٍ كَلِبَ بداءِ الكَلَب، تعب من جهله في سبب عضِّه لغيره. أرهقه عويله لماذا يكره المسلمون الأميركيين والإنكليزَ والفرنسيين والسلاف وكل البشر دون أن يجد لذلك سبباً يقنعه. طلب ـ أو فرض وجيوش أميركا من ورائه وأمامه وحاخامات العالم من فوقه ومن تحته ـ أن يجتمع مع "مثقفين" وأكاديميين وجامعيين في بلاد الحرمين الشريفين. وافق خادم الحرمين الشريفين على الأمر ووضع مرافقين من التشريفات في تصرفه وهيأ له لقاء مع "مثقفين" مسلمين. سألهم: لماذا تكرهوننا ونحن لم نفعل لكم شيئاً؟ قام أحد "المثقفين" وذكّره بقتل السلاف لمئات الآلاف من المسلمين في الأمس القريب في البوسنة والهرسك وكوسوفا. وكيف قتل الفرنسيون مليوناً من المسلمين بالأمس في الجزائر. باحتلال بريطانيا لجميع بلاد المسلمين وقتلها الآلاف لترسيخ احتلالها وإزالة دولة الخلافة من الأذهان، ونهب خيراتِ المسلمين(1/171)
وإيجاد إسرائيل. وقتل إسرائيل للمسلمين منذ عشرات السنين بإدارة إنكليزية وتمويلٍ أميركي. واليوم أميركا تقتلنا في أفغانستان بالآلاف دون مبررٍ أو دليل اتهام. عقله المريض في خبثٍ من غير جمرة لم يستطع أن يحتمل "مثقفاً" يئنُّ من قتل أخيه وأبيه وأمه وبنيه لكنه لا ينطق بكراهية ولا بسبب. في هربه من ألم التذكيرِ لا من ألم الفعلِ يقاطعُ المتكلم بوقوفه المعترض وفي خروجه من القاعة بدا وكأنه يصرخ بقول مصاصي الدماء: نترككم تعيشون لكنكم تحزنون على قتلنا أهلكم وإخوانكم وجيرانكم؟ أنتم عنصريون تكرهوننا لأننا نقتلكم! أنتم ساميون أو أنتم لا ساميون، أأنتم بشر! لا أنتم عرب، يا للهول، يا لمصيبة البشر! إنهم عربُ الإسلام الذي لا تموتُ فيهم عزتهُ ولا حجتهُ أو الاهتداء بسيرة نبيه. إنكم ما زلتم تصدقون الله ربكم في وعده نصر الذين ينصرون دينه بعد كل هذا الذل الذي ألبسناكم إياه! ما زالوا يميزون بين الكفر والإيمان والصحيح في دينهم من التضليل الذي نفرضه عليهم بناطورنا عليهم. ما زلتم ترفضون سلطة الكافر بدينكم أو حكم الكفر برجل منكم لأن ربكم الله يحرِّمُ عليكم ذلك في القرآن! ما زلتم تصدقون القرآن أن الجنة لا يدخلها إلا الذين أطاعوا الله وحده في هذه الدنيا ولم يُشرِكوا بطاعته أحداً أو هوى نفسٍ وأنَّ هذا جزء من توحيد العبودية لله! لأشكونَّكم إلى الابن، بوش..!!(1/172)
كراهية الأوروبي للإسلام منعته من فتح عقله لحجة الإسلام ومنعته من فتح قلبه حتى يحب غيره. لكن كراهية الأوروبي للمسلم لم تمنع المسلم من التواصل مع الأوروبي ومنه الأميركي. أميركا قررت فجأة أن توقف هذا التواصل. خطتها في قتل المسلمين أنى وُجدوا إذا اعترضوا على قتلهم أو تألموا من قتلهم وهم من دون جيشٍ يدافع عنهم أو نظام حكمٍ لهم يرعاهم بأحكام دين الله، تقضي بأن يتحوَّل مَن يبقى حياً إلى كارهٍ للأميركي يمتنع عن التواصل معه. أميركا تريد إيجاد الواقع الذي يضطر فيه المسلم إلى أن يكره أميركا والأميركيين وحلفاؤها الأوروبيين حتى يكون لها مبرر في قتل أي فردٍ أو جماعة مسلمةٍ بحجة أنهم يكرهون أميركيين. بهذه الذريعة تستطيع أميركا تطويعَ أي نظام ليقهرَ شعبَهُ في عبودية مطلقةٍ لأميركا كما حصل فعلاً في بلاد المسلمين. وبهذه الذريعة يتوقفُ المسلم عن حمل الدعوة الإسلامية للناس أجمعين وهذا ما حصل في الواقع. وبهذه الذريعة تحصرُ التواصل بين الإسلام والغرب في قنوات من صناعتها وبأفكارٍ من صياغتها برجالٍ يُرضونها في غضب الله، يحرِّفون كلام الله عن مواضعه أي فيما نزل فيه، وفي معناه أي في علته، وفي غايته أي في أثره. حتى إذا نجحوا بخداعِ أميركيٍ بقبول الإسلام يكون قد أسلمَ بفكرٍ أقرب إلى فكر المسيحية أو البوذية منه إلى الإسلام. بهذه الذريعة تستطيع تسخير "علماء الحاكمين" أو "علماء العصر" في هدفها الأكبر تحريف الإسلام!(1/173)
الجبهة الثانية: التدميرُ المعنوي للنفسية المسلمة أكثر خطرا من قتل المسلمين بحماسٍ بلغ نسبة 90 بالمائة من مجموع الشعب الأميركي. أعلى نسبة إجماعٍ على قتلٍ جماعي في القرن الماضي. خطة تدمير النفسية المسلمة لم تعتمد إيقاعَ القتل لوحده. جعلت القتل يترافق مع حملة تخويفٍ بالتصفية الجسدية لكل مسلم في وجوده وماله وأهله. الشعبُ المسلم لم يأبه لحملة التخويف الأميركية. الحاكم في المسلمين في أي مستويات الحكم أو مستويات السلطة العسكرية لا يملك مقوِّمات الخوف والجرأة. ولا يملك حقَّ القبول أو الرفض في أي أمر تأمره به الدولة صاحبة النفوذ. في حملة قتل المسلمين تعهدت جميع أجهزة الحكم في المسلمين بالموافقة على قتلهم عندما تدعو حاجة أميركا إلى ذلك. كل واحد منهم كان "المشرَّف" برويز في موقعه، أدى دوره في تذليل العقبات والتدجيل على المسلمين في أنَّ السير مع أميركا في عملية قتل المسلمين أمرٌ لا بد منه. حملة تخويف النفس المسلمة من أجل تدمير النفس المسلمة اقتضت ليس انحياز الحاكم أو نظام الحكم إلى أميركا بل استقالة الحاكم أو النظام من دوره في حماية رعيته. حتى إن أي نظام حكم لم يجرؤ حتى على التظاهر أنه بجيشه الشجاع موجود ولو في الثكنات والأقبية. حكومة، جيشاً حاكماً بمؤسساته وأجهزته اختفى من مسرح خطة التدمير المعنوي للنفسية المسلمة. لم يبق إلا أجهزة إعلام الأنظمة التي تبنت تبرير خطة التخويف لتفرض الخوف فرضاً في نفس المسلم التي انتزعوا منها كل لباسٍ يقيها الخوف. لباس النفس المسلمة من الخوف هو تقواها أولاً، وحاكمها ثانياً، وثالثها جيشها وما يلحق بذلك من أردية لا يملك المسلمون منها شيئاً. وإذا ملكوا شيئاً يمنعها الحاكم عنهم. في حملة التخويف للتدمير النفسي اضطرت أميركا إلى إصدار لوائح بأسماء مسلمين على أنهم إرهابيون. وإلى تصنيف جمعيات خيرية بحجة أنها تموِّل إرهاباً. لما ضجَّ المسلمون بهذا الإذلال طالبوا(1/174)
الحاكمَ بأدلة على هذه الأقوال، بذلك وافق الحاكم على القرار الأميركي الجديد في حق المسلمين؛ إن كلَّ مَنْ يعارض أميركا في قول من أقوالها أو يجابهُ مؤامرةً أميركية في نهب ثرواتِ المسلمين هو إرهابي. لذلك أجابت أميركا أنه ليس لديها أدلة على أيٍّ من المصنفين أنه إرهابي. لكنها تشك أنهم يكنون مشاعرَ غيرَ ودية لأميركا وبذلك هم يجب أن يُصنفوا إرهابيين! حكامٌ بموافقة وزرائهم ونوابهم الذين انتخبهم الشعب أو الذين عينوهم في مجلسٍ سمّوه "شورى". وبموافقة "قواد" جيوشهم وافقوا على اتخاذ إجراءات التعامل مع لوائح أميركا الإرهابية حسب البرنامج الذي وضعته لهم أميركا. جميع الحكومات فرضت تجميد أرصدة الأفراد والجمعيات الذين شكّت أميركا بنياتهم. جميع الأجهزة استدعت وحققت مع مَن عندها من الأفراد والجمعيات المصنفين. الحكام تبرؤوا من هذه الأسماء حتى إنَّ البعض حاول أن ينكر مواطَنَتَهم بالاسم بعد إنكارها بالفعل. والبعض الآخر كحاكمِ اليمن قرر إعلان "الجهاد" العام ضدهم. جرَّد الجيوش لقتلهم لا لاعتقالهم لأن التحقيق معهم قد يكشف كذبَ أميركا في العالم أن تصنيفها ليس هدفه المصنفين بل الذين هم خارج التصنيف؛ عموم أمة المسلمين. تماماً كما كان قتل المسلمين في أفغانستان ليست غايته قتل مَن جرى قتله بل موت مَن لم يُقتل بأن يحيا ميتا!(1/175)
حملةُ تدميرِ النفسية في المسلمين حملة في تسويق الخنوعِ المطلق لأميركا قامت بها لتحقيق هدفين؛ الأول إبدال خوف الله في قلوب المسلمين بالخوف من معصية أوامر أميركا أو معارضة خطة سياسة أميركا في بلاد المسلمين. الهدف الثاني تحويلُ أنظمةُ الحكمِ العميلة لها أو العميلة للإنكليز إلى مخافر شرطةٍ تأتمر بإدارة الأجهزة الأمنية الأميركية مباشرة. ووضع الملفات الشخصية والمالية لجميع المسلمين تحت المراقبة المباشرة لأميركا في كل وقت. الهدف الثاني سلَّمت به أكثر الأنظمة وخضعت له وأضافت له رغبتها واستعدادها لتسليم أي فردٍ من رعيتها لظلم الافتراء الأميركي. لكن هذه الإضافة أو الإمعان في ظهور الحاكم أنه العدو الأول لشعبه لم يكن كذا في حقيقته. تمَّ إخراجُ هذا الأمر بهذه الصورة الخيانية لإقناع المسلمين بالفعل الملموس أن أميركا هي التي تحكمهم بجزمتها وأن الحكم لها ومنها وليس للمسلمين ولا منهم. وأن الحاكم الذي يحكمهم بالقهر والتجسس والسجن والتعذيب إنما يحكمهم بالجزمة الأميركية. هذا التشويهُ المقرف لواقعِ الحاكم في المسلمين كان ضرورةً في خطة التدمير المعنوي للمسلمين. خاصة في قبول الحاكم هذا الإذلال دون أن يتظاهر حتى بالتذمر! ليس لأنه لا يحس بالإذلال بل ليفرض على المسلمين التسليم بقبول الإذلال والرضا بالعيش به وبما يفرضه من التسليم المطلق لسياسة التدمير للشخصية الإسلامية في نفوس المسلمين.(1/176)
الضياعُ المعنوي هو من نتائج حملة التدمير النفسي، لكنه لا يتحقق إلا إذا انفلتت النفسُ من رباطها بفكرها العقدي. بقدر وضوح الفكرِ العقدي في المسلم يكون مستوى فشل أميركا في حملتها في تدمير نفسية المسلم. وبقدر غموضِ الفكر العقدي يكون مستوى نجاحها في تدمير هذه النفسية. خيانةُ الحاكم للمسلمين التي فرضت أميركا على الحاكم أن يتلبَّسها لم يؤدِّ إلى ما كانت تهدف إليه أميركا عندما فرضت عليه إما أن تكون معي في قتل المسلمين أو أنك تكون ضدي. فالمسلمون يعيشون حالة قتل الحاكم لهم منذ عشرات السنين. لذلك لم يُفقدهم صوابهم أن يصرِّح ويجهر حاكم فيهم أنه مع أميركا في حملتها لقتل المسلمين حتى التسليم المطلق لسياسة الاستعبادِ التي تفرضها عليهم في كل مكان. كذلك إذلالها للحاكم لم يؤدِّ إلى شعور المسلم برفع الغطاء عنه إلى درجة استسلامه. فالمسلم يعيش أيضاً منذ عشراتِ السنين وهذا الحاكم يغتصبه في ماله وعرضه وعقيدته وفكره. والحاكمُ في ديمقراطيته الشيطانية ـ طبعاً هذا لمن يصر أن هكذا حاكم موجود في الواقع ـ لم يحلَّ للمسلم مشكلةً واحدة حلاً شاملا. لا يوجد في أي بلد إسلامي ناحية واحدة من نواحي الحياة انتظمت تنظيما شاملاً ولو بحسب نظام الكفر الذي يحكم به الحاكم. اللهم إلا موضوع إفساق المرأة ومساعدتها في مسيرة التحوُّل من أم وأختٍ وخالة وعمةٍ وابنة إلى متفحِّشة تُضيِّعُ الأنساب وتستبيح المحرمات الإسلامية. بل فرض أقنيةٍ اجتماعية تفرض على المرأة العيش في حياة الفجور برضىً منها أو بغير موافقتها. لهذا أيضاً لم يؤثر إذلال أميركا لحاكمٍ في المسلمين وقوادِ الجيش في تحقيق الدرجة العالية من ضياع المسلمين. تصميماً في تدمير النفسية المسلمة كانت خطة أميركا في فرضِ المباشرةِ في نزع سلاح الإسلام بتحريف معاني الإسلام بأفواه نخبةٍ من أصحاب العمائمِ والمثقفين في فن دجل الكلام كما هو في الجبهة التالية.(1/177)
الجبهة الثالثة: فرض المباشرة في نزع سلاح الإسلام بتحريف معاني الإسلام بأفواه أصحابِ العمائم والمثقفين في فنِّ دَجَلِ الكلام.
سلاحُ الإسلام نقصد به قوة الإسلام وهو وضوحُ فكرِ عقيدةِ الإسلام. فكرُ العقيدة هو فلسفةُ الحياة في الإسلام. فلسفةُ الحياة هي التي تضبط أعمالَ الإنسان مهما كانت أفكار تلك الفلسفة مبهمة، مشوشةً أو مشوَّهة بعيدةً عن أصلها. كذلك أعمال الإنسان مهما كانت مهمة أو تافهة، جيدةً أو فاسدة في منابعها الأربعة: مادية، خلقية، إنسانية أو روحية لا تتأتى من هباء. جميعها تنطلق من فلسفة الحياة في الإنسان ولو بدون وعي الفرد على أفكار تلك الفلسفة في عقله، يكفيه الوعي على معاني تلك الأفكار. قوةُ الإسلام تأتي من قوة المبدأ. قوة المبدأ تكمن في موافقة فكره الفلسفي ـ وجهة النظر في الحياة ـ لطبيعة الإنسان أو لطبيعة القوة في الإنسان. قوة الطبيعة في الإنسان هي قوة الحجة التي أقنعته بفكر فلسفة الحياة. وليس مجرد القناعة بفكرِ وجهة النظر في الحياة. وجهةُ النظر في الحياة أو فلسفة الحياة لا بد لها من فكرٍ وحجة. هذه العناصر لا علاقة لها بصحة وجهة النظر ولا بواقعية الحجة ولا بنوعية الفكر أنه جيد أو فاسد. صحة وجهة النظر، واقعية الحجة وجودة الفكر هي عناصر قوة المبدأ وعناصر قوة الإنسان وعناصر السعادة في الحياة. مستوى الصواب والخطأ هو الذي يحدد صلاح هذه العناصر أو فسادها أما القوة فتتعلق بالقناعة ومستوى وضوح حجة الفكر بمعزل عن صلاح الفكر أو فساده. لهذا نجد للفكر الفاسد أيضاً مقتنعين يموتون دفاعاً عن قناعاتٍ وحججٍ فاسدةٍ بمقياس الحقيقة والواقع.(1/178)
بعد استيلاء بريطانيا وفرنسا على بلاد المسلمين بالاحتلال المباشر بعد تفكيك جيش المسلمين وإزالة دولة الخلافة، استطاع الغرب مصادرة عقول المسلمين. خطة الغرب اعتمدت أولاً على إيجاد سلطاتِ الحكم من أفراد فيهم الجرأة على إنكار إسلامهم بالممارسة الفعلية. وعلى أن تكون حاشية الحكام من غير المسلمين أو ممن يتبرأون من إسلامهم بالصريح اللفظي. هذا كان طريقاً في فرض تطبيق أنظمةِ الحكم التي هي نقيض أحكام الإسلام التي كانت سائدة. هدف بناء جيوش الحكام كان لحماية الحاكم وحاشيته في فرض أحكام الكفر. على خطٍ آخر كان في خطة الغرب وعلى رأسهم الإنكليز والفرنسيون تجهيل المسلمين بإسلامهم. قام الحكم العميل لهم أو الأجير عندهم باستقطاب علماء "رجال دين" قبلوا تبني نشر أفكار غير إسلامية بصيغةٍ تقرِّبها من عقول المسلمين. وقاموا بنشر أفكارٍ صريحةٍ في مخالفتها أحكام الإسلام على أنها أفكار من واقع العصر يلزم الأخذ بها للسير في طريق النهوض وأقنعوا المسلمين بقواعدَ أفكارٍ تناقض قواعدَ أفكار الإسلام حتى يصبح كل فرد عاجزاً عن اللحاق بمجتمعه دون استنباط أفكارٍ من قواعد أفكار الكفر التي عمموها في وسائل الإعلام ومن على المنابر. لإقناع المسلمين بأفكار وقواعدَ أفكارِ غير الإسلام كان رجالُ دينٍ من أصحاب العمائم ـ الكهان ـ يذكِّرون الناس أنهم ورثة الأنبياء. تماماً كما يفعلون اليوم إذ يقولون إنهم يتكلمون من على منبر رسول الله ( وهم يطمسون قوله ويحرِّفون دينه.(1/179)
بعد عقودٍ وعقودٍ من تضليل السياسيين والإعلاميين والحكام وعلماء الحكام للمسلمين عن أحكام الإسلام نجح الغرب نجاحاً منقطع النظير في تضليل أمة كاملة بمجموع أفكارها. ومن أجل التنفيس عن الإحباط من الواقع الفاسد الذي أوجدته الأفكار التضليلية التي صدقها المسلمون. أنشأ الغرب عشرات بل مئات الحركات الإسلامية في عموم بلاد المسلمين حتى تصرف غضب المسلمين في أقنية مجارير الصرف الشعبي. ولهذا وبهذا لا يتأثر أي جيشٍ من غضب المسلمين ونقمتهم عليه وإحباطهم من أفكار غير الإسلام. لهذا وبهذا لا يتأثر أي جيشٍ أو ضابط جيشٍ من عشرات آلاف الضباط في بلاد المسلمين ولا يتفاعل مع الحركات الإسلامية لأنه يعلم أن مخابرات الجيش والحكم هي التي تحرك هذه الحركات. لكن هذا الصرف النفسي لإحباط المسلمين في قنوات رسميةٍ تتعهدها أجهزة الحكم بالرعاية والتطوير لاستيعاب تقلب التيارات من المسلمين لا يزيل الإحباط. هي فقط تصرف طاقته بغير طائلٍ في تغيير أي واقعٍ أو التأثير في أي إجراء. الغربُ مطمئن أنه يستطيع الاستمرار في قهر المسلمين بواسطة جيشِ الحاكم مئات السنين. ومطمئنٌ أنه يستطيع الاستمرار في تضليل المسلمين عن حقيقة أفكار الإسلام بواسطة علماء الحكام مئاتٍ من السنين. وأكثر من ذلك كله مطمئن إلى أنه يستطيع الاستمرار بالتلاعب بقوى الأمة الإسلامية بواسطة الأحزاب والحركات الإسلامية مئاتِ السنين.(1/180)
اطمئنان الغربِ هو في الأساس اطمئنانُ الإنكليز والفرنسيين ويلحق بهم دول أوروبا التي أوجد لها الإنكليز والفرنسيون مصالح لهم في بلاد المسلمين لتقف معها في الساحة الدولية في إبقاء الطوق الدولي حول رقاب المسلمين. أميركا اللاعبة الجديدة في الساحة الدولية لم يكن لها رأي في صياغة طوق أوروبا لاستعباد المسلمين بسلطة حكمٍ تكفر بالإسلام، وأحزابٍ وحركاتٍ وجبهاتٍ وجهادٍ لخيانة المسلمين، وعلماء ومفكرين وإعلاميين لتضليل المسلمين عن الإسلام. في امتداد نصفِ قرنٍ من العمل الجبار وبذلِ الإمكانيات الهائلة ما زال الطوق الاستعماري ليس بيد أميركا وحدها. ما زال دور أميركا أو واقع سلطتها أنها تشارك بالإمساك بهذا الطوق في بعض مناطق بلاد المسلمين. أميركا في إحباطها رأت الطوق الإنكليزي ـ الأوروبي الذي يُطبق على أنفاس المسلمين بواسطة الحكام والجيوش والحركات الإسلامية هو في حقيقته سداً يمنع النفوذ الأميركي من الإمساك بالقرار السياسي في حياة المسلمين. في إحباطها قامت أميركا بإشعال معظمِ الحروب في بلاد المسلمين حتى تستطيع القفز فوق السور. فشلت في معظمها إن لم يكن في جميعها إلا في واحدةٍ منها ويبدو أنه أيضاً مؤقت. لا علاقة لتعداد هذه الحروب في موضوع تحريف معاني الإسلام بأفواه "المثقفين".(1/181)
في كل قولٍ أو فعلٍ أو اقتراحِ عملٍ تقوم به دول الغرب مجتمعة أو من دولةٍ تبدر منها مبادرة يكون مبرر القول أو الفعل أو الاقتراح من مرتكزات صراع الحضارات. قاعدة سياسة الاقتصاد الدولية وسياسة استراتيجية كل دولة غربية وكل قرار سياسي أو عسكري أو ثقافي أو اقتصادي أو اجتماعي، وفي مبرر كل قرارٍ بإجماعٍ دولي ضمان سيطرة الغرب على المسلمين في صراع الحضارات. هذا الضمان يعتمد أساساً في البداية والنهاية على منع المسلمين من امتلاك أي عنصر من عناصر الكفاح في صراع الحضارات. هم لا يريدون ضمان استمرار تفوقهم في قوى صراع الحضارات، يريدون أن يكونوا أصحاب كل عناصر القوة دون أن يكون للمسلمين أي عنصر قوة. وقد نجحوا في تحقيق ذلك نجاحاً كاملاً مذهلاً فالمسلمون منذ عقود مجردون من أي عنصر من عناصر القوة في صراع الحضارات. هذا هو الواقع في صراع الحضارات والجميع يعرفه؛ حكام وسياسيو الغرب والمسلمون بمن فيهم مفكروهم وعلماؤهم وأحزابهم العلمانية الملحدة "والإسلامية". في هذا الواقع لم تجد أميركا لها دوراً في صراع الحضارات أو رأت أنها استنفذت قدرتها أو طاقتها في هذا المجال. فهي كانت وراء فرض قوانين تحرير المرأة من أي فضيلة، وقوانين فرض فتح جميع مجالات الفسق والرذيلة لكل امرأة مسلمة. وهي كانت وراء مؤتمرات "الإسلام" أو "المسلمين" لإعطاء صفة شرعية لكثير من القرارات التي كان يعتبرها المسلمون أنها أعمال خيانة للإسلام والمسلمين. نفاذ القدرة أو الطاقة في السياسات الحية يعني الإفلاس وليس الفشل. عناصر الإفلاس غير عناصر الفشل. الدول تستطيع العيش مع الفشل لكن لا تستطيع العيش بالإفلاس.(1/182)
أميركا، في موضوع صراع الحضارات، رأت وجوب إخراج صراع الحضارات من واقعه الذي صاغته بريطانيا والدول الأوروبية إلى واقع جديد. نقل الواقع أو تغييره يؤدي إلى أخذ زمام المبادرة في أعمال الواقع الجديد. أميركا في خطتها أن تكون اللاعب الأوحد أو العدو الأوحد أو الأقوى في مجابهة المسلمين في مسرح صراع الحضارات. هذا الانفراد الأميركي بالمسلمين يفرض على الأوروبيين الانسحاب من مسرح الصراع وبالتالي انفراد أميركا بالنفوذ على المسلمين. خطة فرض أميركا نفسها عدواً شرساً وحيداً في عداوته وقدراته بكراهية ظاهرةٍ تفوق كراهية غيره تحتاج إلى مادة فكرية يقاومها المسلمون ولا تستطيع أوروبا مقاومتها. هذه الخطة تفرض واقعاً لا تستطيع فيه أوروبا إلا الإذعان لمادته الفكرية وسيحتم استسلام المسلمين له بسبب فقد المسلمين لأي قوة تمكنهم من مجابهة أميركا وليس مجابهة المادة الفكرية في الخطة. لقد نجحت أميركا في تهميش دور أوروبا في صراع الحضارات ونجحت في فرض مادتها الفكرية على المسلمين، بهذا الإفلاس الأوروبي تحاول أميركا أن توجِد حقلاً جديداً لقدرتها وطاقتها.(1/183)
المادة الفكرية الأميركية في خطة صراع الحضارات تتهم الفكر الإسلامي بأنه فكر إرهابي بعد اتهام المسلمين أنهم إرهابيون. اتهام المسلمين تبعته خطوات المحاكمة بالفرض وتبعه صدور الأحكام بقتل المسلمين واحتلال بلادهم بلداً بعد بلد. وقد تم تنفيذ حكم القتل بشعب أفغانستان وستستمر أميركا ولا شك في تنفيذ بقية أحكام القتل حسب توافق الظروف مع ذلك القتل. أو حسب قدرتها على اصطناع ظروف لذلك القتل. أما موضوع اتهام الفكر الإسلامي فالغرض منه إجراء محاكمة فكرية أيضا ًبالفرض وإصدار حكم بقتله في نتيجة خلاصةِ المحكمةِ التي تجري على غرار توزيع أدوار الإدعاء والدفاع بين أميركي وعميل فدراليي أميركي. لكن المحكمة الفكرية هي بين فكر أميركي ومفكر بثقافة الفكر الأميركي. أي أن أميركا تجري محاكمة الفكر الإسلامي في معهد الفكر الأميركي. اتهام الفكر الإسلامي ومحاكمته على مرأى ومسمع كل مسلم بفكرٍ أو بدون فكر. أمام كل مسلم سياسي أو حاكمٍ عميلٍ لأميركا أو غير عميل لها. يفترضون أو يفرضون أن يشارك كل مسلم عالم أو غير عالم في الرد على لائحة الاتهام ، بحق وبغير حق. لكنهم أبطال في قبول الاتهام والمشاركة في إجراءات المحاكمة التي انتهت بإصدار حكم الإعدام على فكر الإسلام. لم يبق أمام الحكام في بلاد المسلمين إلا الأمر بتنفيذ هذا الحكم مع كل مظاهر المرارة والامتعاض من أدوات التنفيذ أو سلطاته؛ المفكرين، الإعلاميين، الجامعات، أساتذة الشريعة وعلمائها، خطباء المساجد، الكتاب "الإسلاميين" أصحاب الفضيلة، الأحزاب والحركات الإسلامية، الجمعيات والمعاهد، أصحاب العمائم واللحى الطويلة والقصيرة.(1/184)
قتل فكر الإسلام هو زرع عوامل الاندثار والتلاشي في أي فكر، هو في تحريف معاني نصوصه بعد أن عرفوا أنه يستحيل تحريف نصوصه. أحبار يهود حرفوا نصوص التوراة من أجل أن يكون لهم الحق في رعاية شؤون قومهم كما يريدون هم لهم لا كما يريد الله. أما الرومان فقد حرفوا نصوص النصرانية لتكون مطية لهم أو مبرراً لهم في فرض توحيد قدسية الطاعة للإمبراطور على رعايا الدولة وعبيدهم في البلاد المحتلة. في الإسلام لا يمكن تحريف النصوص لأن هذه النصوص تتناقلها الأمة كما تتناسل فيها الأرواح. ليست كتباً تورَّث وليس كنزاً للعالِمِ دون بقية الناس وليست مادة فكرية للذكي دون الجاهل. الإنسان الحي من جسدٍ وروح لكن شخصية الإنسان من عقلٍ ونفس. العقل يحتاج إلى روح كالجسد، والنفس تحتاج إلى روح كالعقل. روح عقل المسلم هو الإسلام؛ القرآن والسنة وعمل الصحابة. كذا روح نفسِ المسلم هي الإسلام: القرآن والسنة وعمل الصحابة. لذلك نصوص الإسلام كالروح لا يمكن التلاعب بها. لكنها، كنصوص رأت أميركا في حكم محكمتها بقتل فكر الإسلام أن كيفية القتل تكون بفرض تغيير معاني الإسلام أي تغيير معاني نصوص القرآن والسنة وأعمال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. معاني نصوص القرآن والسنة هي أفكار الإسلام.(1/185)
تحريف معاني الإسلام ليس عملاً جديداً في خطة صراع الحضارات أو تأمراً أميركياً أو غربياً جديداً. في التاريخ والوثائق وأعمال كل يوم نمط جديد في التحريف أو فكر محرِّف جديد تصوغه عقول الغربيين أو عقول مسلمين مثقفين بثقافة الغربيين وتسوِّقه بالفرض الإعلامي والتثقيفي والتطبيقي جميع أجهزة الحكم. الجديد في تحريف الإسلام هو الزخم الجديد الذي تدفعه به أميركا. التحريف كان يجري قبل التفرد الأميركي بجعله موضوع اليوم في سياستها ليلاً ونهاراً لكن دون تبنٍّ ظاهرٍ واضحٍ من قبل الهيئات المسؤولة عن الإسلام في مجتمعات بلدان المسلمين. خطة تحريف معاني نصوص الإسلام تفرض أميركا تبنيها بكل وضوح وشفافية من كل مَنْ يريد أن يُسمَح له أن يكون "إسلامياً" مفكراً بعمامة "شيخ" أو بدون عمامة، لكنه إسلامياً يرضى عنه النظام وفتح له مسارح منابره لأفكاره وآرائه وفتاويه. يجب أن يعلن كل داعية للإسلام "إننا بحاجة إلى تطوير نظرتنا الإسلامية" أو "تطوير أفكارنا الدعوية" أو "تغيير رؤيتنا إلى الإسلام، وإلى الآخرين، وإلى أن تكون رؤيتنا إنسانية". على كل إنسان مسلم أن يعلن للكفار أنه إنسان مثلهم يستحق الحياة.على كل جهاز حكم أن يمنع بالإرهاب المعنوي، النفسي والجسدي وجودَ مَنْ يُصِرُّ على تعلم معاني الإسلام من القرآن بقواعد تفسيره التي هي جزء من فكره، ومن السنة بقواعد ارتباط قول الرسول عليه الصلاة والسلام بالحدث، ومن أعمال الصحابة الكرام في اجتماع قولهم وإفراد حجتهم.(1/186)
زخمُ الحملة الأميركية الجديدة في تحريف معاني نصوص الإسلام يعتمد على تجاوب "علماء" المسلمين و"مفكريهم" أولاً وآخراً وليس على قدرة أميركا في قتل المسلمين. تجاوب "العلماء" و"المفكرين" مع أميركا في تحريف الإسلام يعتمد على مدى ارتباطهم بأجهزة الحكم في بلاد المسلمين. من المسَلَّم به لدى الناس أن أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تحتاج إلى ترخيص من السلطات الرسمية وتخضع لمراقبة أجهزة رسمية. لا أحد ينكر أن كل شيء تقوله هذه الوسائل الإعلامية يرتبط بسياسة الدولة. لا أحد أيضاً يستطيع أن ينكر أن هذه الوسائل لا تستطيع أن تسمح لأحد بالظهور إذا كان ظهوره بما يمثله أو قوله بما يعنيه في غايته يخالف غاية الدولة ومخططها التوجيهي. الناس يفهمون أن ندوات الرأي الآخر والاتجاه المعاكس كلها مسرحيات فكرية لبيان عجز الإسلام الفكري عن الوقوف بوجه الفكر المعاصر أو السائد أو الغربي. يفهمون أن جميع التعاليم الإسلامية التي تبثها الوسائل الإعلامية هي لتعميم شعور الحاجة إلى تحريف معاني نصوص الإسلام بالإصرار على عدم جواز التلاعب بالنصوص. أيضاً يفهمون أن جميع المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية تهدف إلى تعميم معارف تحريف معاني نصوص الإسلام وبالتالي تعميم ثقافة إسلام جديد. أصبح في بريطانيا منهج فكري إسلامي يستطيع التعامل مع المجتمع. هكذا في أميركا إسلام خاص من صناعة المجلس الفقهي الأميركي. هكذا في فرنسا وفي كل دولة أخرى إسلام خاص بالمسلمين الذين يعيشون فيها. هكذا أيضاً في كل بلد من بلاد المسلمين إسلام يختص بفهم الحاكم للإسلام ورؤيته "الإسلامية" بما يتوافق والموضوع الدولي المعروض. إسلام أميركا أو الإسلام الذي تسمح به أوروبا هو الذي يقبل معتقده طرح الغرب في أي موضوع ويتبنونه بعد اعتماد فتوى تجيز الكفر أو الحرام الظاهر فيه.(1/187)
هذا الزخم هو في أوج طاقته وإفرازاته الفكرية في تنفيذ حكم أميركا بقتل فكر الإسلام في خطة صراع الحضارات. الجميع يتفرج على آلاف المناورات الكلامية اليومية بل في كل ساعة في كل مدرسة ومنبر للقول أو للفكر في بلاد المسلمين في ممارسة اغتصاب فكر الإسلام بتحريف معانيه عن المقاصد الشرعية التي أنزله الله لها. قوانين الحكومات تتغير وتتعدل كل يوم وفي كل جلسة تشريعية من أجل مواكبة مرحلة الإعدام الفكري لحضارة الإسلام. مع كل هذا الزخم والقوانين والتنفيذ التسلسلي بقتل فكرٍ بعد فكر، وضجيج الإعلام في بيان عورة الفكر الإسلامي والإصرار على عجزه وهشاشته وفشله وتخلفه، ترى الجميع غير فرحٍ بهذا الانتصار الساحق الماحق في آونته لأميركا والمفكرين والعلماء والمشايخ "الإسلاميين". جميعهم غير فرحٍ لأنه حذر يخاف من الفشل. حذره يأتي من معرفته أن الذي يسمعه يقارن قوله بقول عمالقة الفكر الإسلامي الذين سخرهم الله لحفظ فكر الإسلام أمثال جعفر الصادق والشافعي والقرطبي والبخاري وأبن هشام وعشرات ومئات مثلهم وآلاف من تلامذتهم. عندما يتذكر هذه المقارنة يتحول حذره إلى يقين أن الذين يسمعونه يعرفون أنه منافق. عندها يتحول حذره إلى حيرة. حيرته تجعل كلامه ثرثرة. الثرثرة هي القول الذي لا يرتبط ببرهان أو يرتبط ببرهان مزوَّر. البرهان المزور هو البرهان الذي يُلصقُ بالقول لأنه ليس من جنسه أو ليس في موضوعه. لذلك ترى "العالم" الذي يتبنى تحريف الإسلام محتاراً في موقعه؛ في ارتباطه بقوله وفي تبرير غايته في معنى تحريفه أنه من أجل مصلحة المسلمين. المنافق في حيرته يجعل مصلحة المسلمين فوق مصلحته في علاقته مع الله. هل يوجد أكثر جهلاً من هكذا عالم؟ أو هل يوجد أكثر نفاقاً من هكذا مخلص لغيره؟(1/188)
تحريف معاني نصوص الإسلام خطة دائمة في بلاد المسلمين. ترعاها أنظمة الحكم والمنظمات العالمية في كل بلاد المسلمين وغير بلاد المسلمين. ترعاها أنظمة الحكم والمنظمات العالمية في كل بلد ومجتمع. قوة هذه الخطة في إمكانياتها وأدواتها هي قوة دول المجتمع الدولي كافةً لذلك لها ينبوع طاقة لا ينضب. لذلك أيضاً لا توجد قوة مادية تستطيع أن توصد باباً بوجهها أو تنشئ سداً يمنع أو حتى يشوِّش على تعميم تحريفها. إنهم يعرفون قدرتهم الهائلة في خداع المسلمين بواسطة سياسيي ومفكري وعلماء المسلمين. يعرفون أنهم نجحوا بتحريف معاني نصوصٍ يكاد يكون في كل أمرٍ وقضية. يقيسون نجاحهم بمدى تعميم الجهل بأفكار الإسلام بين المسلمين. يعتبرون ترك المسلمين أو ترك مسلمين لفرض التثقف بأفكار الإسلام هو نجاح لحملة تحريف معاني النصوص الإسلامية. بمعنى أن ذلك ثمرة من ثمرات برنامج تحريف الإسلام بل هو نتيجة أو هدف أهم في خطة تجهيل المسلمين بإسلامهم. ترك المسلمين لفرض معرفة الحكم الشرعي لعمل قبل مباشرة العمل هو في واقعه ارتداد عن طريقة عبادة الله في الحياة. لكن يبقى التحريف هو العمل الرئيسي في تضييع المسلم الذي يصر على الالتزام بأحكام الإسلام وهو سبب الخطة الدائمة في برامج التثقيف الدائمة للرأي العام المسلم.(1/189)
برامج تحريف الإسلام تنفذها الدول الغربية صاحبة النفوذ في بلاد المسلمين مباشرة منذ احتلال بلاد المسلمين وحتى اليوم. هذه البرامج عامة شاملة؛ عامة في جميع مراحل الحياة؛ في المدارس وفي المنابر. مع تعليم معاني ألفاظ القرآن إلى ما يكتب ويذاع. شاملاً جميع أمور الحياة، تحريف أفكار الإسلام في الحكم يجري كما يجري تحريف أفكار الإسلام في الاقتصاد أي في الزراعة والصناعة والتملك والمال أو الحرب في الدفاع والهجوم أو الجمارك أو الصيد أو الاجتماع أو الاستشفاء أو أي أمر من أمور الحياة الأخرى. حتى في نصوص لباس المرأة جرى التحريف وتعميم قبول المرأة بالتزام هذا التحريف في لباسها على أنه من التقوى!
مع هذا النجاح الهائل في فرض أفكارِ كفرٍ أنها أفكارُ إسلام؛ برزت أميركا فجأة وكأنها تكتشف حاجة العالم إلى تحريف الإسلام. فجأة تعلن أن الأمن القومي الأميركي في خطر وسلام دول العالم قاطبة يعتمد على وجوب تغيير التراث الإسلامي بإسلام معاصر. لكن في الواقع لا يوجد إسلام تراثي وإسلام معاصر. "الإسلام" السائد هو "الإسلام" العصري. منذ عشرات العقود لا يسمح لأي "عالم" بلحية أو بنظارة، ولا لأي شيخ بعمامة أو بشهادة أن يكون داعية لإسلام أو متحدثاً بإسلام وأن يكون له مريدون وأتباع إلا إذا كان مثقفاً بإسلام "معاصر". أي مثقفاً بإسلام محرَّف. أجهزة حكم دول الغرب في بلاد المسلمين لا تسمح بإسلام على الساحة السياسية وهي أطراف الحكم والمعارضة إلا من نوع الإسلام الذي توافق عليه.(1/190)
الزخم الجديد الذي تفرضه أميركا على برامج تحريف معاني الإسلام ليس له مبرر في الواقع ولن يزيد شيئاً في برامج التحريف ولن يفرح به أي شيطان ولن يزيد عدد المرتدين عن الإسلام ولا عدد المُجهَّلينَ بالإسلام. لكن في خطة الزخم برامج تعميق للتحريف وهو سبب مسارعة كل حاكم في بلاد المسلمين للإعلان من باب حرصه على الإسلام وضع يده على معاهد تدريس الإسلام لإنقاذ الإسلام من الذين يحرفونه. خطط إصلاح هذه المعاهد هي خطط في تغيير مناهج ومادة التدريس. هذا لا يعني أن المناهج التدريسية الجديدة والمادة الإسلامية الجديدة هي أحسن أو أسوأ من المادة الفكرية السابقة. فالمناهج التدريسية السابقة والمادة الإسلامية التدريسية السابقة هي التي عممت بل أوجدت هذا الجهل العام بأفكار الإسلام. وهي التي ضيَّعت مقاييس التفريق بين فكر الشريعة وفكر تحريف الشريعة. وهي كانت وكيلة الحكم وأجهزته في تثقيف الناس بإسلام يرضى الحكم عنه. اليوم قرر الحكم أن يستعيد سلطته الإدارية المباشرة في إدارة ثقافة الإسلام. ثقافة تحريف الإسلام بعينها لن تتغير لأنها في خصائصها وأهدافها لا يمكن إجراء تغيير فيها. لذلك تكون أهمية الزخم في هدفه لا في خطته.(1/191)
أميركا أمرت الدول، عفواً، أجهزة الحكم في بلاد المسلمين، بإدارة مدارس تدريس الإسلام مباشرة. هي تعرف أن هذه المدارس لا تدرس غير الإسلام الذي تسمح به أجهزة الحكم، وأن هذه المدارس من أجهزة وبرامج تضييع المسلمين عن إسلام القرآن وإسلام محمد ( ضرورية. لكن هذا التغيير في الشكل كان ضرورياً لإخفاء هدفها، خطة أميركا في فرض تصديها لمكافحة الإرهاب في العالم ينقل سلطة الحكم المركزية لأميركا لتكون سلطة الحكم المركزية لدول العالم وخاصة "دول" العالم الإسلامي. فرض أميركا إيجاد تشكيل "مكتب مكافحة الإرهاب" في كل بلد من بلاد المسلمين كانت غايته في إيجاد الأرضية التي يحق لأميركا منها السيطرة على الأمن في تلك الدول. أمن الدول مثل سياسة الدول، فالسياسة تقوم على المسرح السياسي للبلد والحكام هم السياسيون من هذا المسرح. المسرح الأمني للدولة هو عناصر قوة الحكم وعناصر قوة القوى التي تؤثر في الحكم. أهمية مكتب مكافحة الإرهاب الذي فرضته أميركا في كل بلد من بلاد المسلمين ليست في دوره في مكافحة الإرهاب. هذا المكتب تم تشكيله بفرز عناصر من منشأة موجودة لمكافحة أي إرهاب. أجهزة أمن الحكم في كل بلد ليس لها دور غير مكافحة أي عمل ضد الحكم ووأده في مهده. لم يكن من مبرر في خطة استتباب الأمن في بلاد المسلمين إيجاد مكتب لمكافحة الإرهاب. المبرر هو في دور المكتب أو في غاية أميركا التي لا تتحقق إلا بوجود هكذا يافطة على باب في مبنى. غاية أميركا السيطرة المباشرة على أجهزة قوى الدولة من خلال فرض مبرر إيجاد مكتب مكافحة الإرهاب هدفاً أعلى في السياسة الأمنية العليا. هذا يعطي أميركا التغطية القانونية لفرض اعتبارها شريكاً أمنياً رئيسياً في المسرح الأمني المحلي في كل بلد على حدة . هذا يجعلها صاحب الحق الأول في صياغة البرامج الأمنية وما يشمله من تمويل وتدريب وتسليح وصلاحيات وممارسات وغايات. وهذا يجعلها مباشرةً الفريق الأمني(1/192)
الأقوى على الساحة الأمنية في كل بلد على حدة، ما يعطيها السيطرة المطلقة على قوى أمن الدول وقوى أمن القوى التي تؤثر في أمن الحكم والبلاد.
غاية أميركا في أن تتسلم أجهزة الحكم المحلية في بلاد المسلمين معاهد تدريس الإسلام الخاصة هي مثل غايتها في إيجاد مكتب مكافحة الإرهاب في كل بلد. تسلُّم السلطات مباشرةً سلطة صياغة معاني الإسلام يعني ببساطة أن صاحب هذه الخطة، أميركا، يريد أن يباشر هو تعليم الإسلام في بلاد المسلمين. أميركا نجحت كثيراً في صياغة إسلام أميركي يمكن لأي أميركي أن يقتنع به دون أن يخرج من دائرة الأيديولوجية الأميركية للحياة. لم تترك المعاهد أو الجمعيات أو مراكز الأبحاث والدعوة أو السلطات أو المفكرون "الإسلاميون الأميركيون" فكرَ كفرٍ ينبع من الأيديولوجية الديمقراطية إلا وألصقوه بفكرٍ إسلامي زوراً أو تحريفاً لإسلام. هذه التجربة الناجحة في هدم الإسلام في أميركا تريد مباشرة تنفيذها في بلاد المسلمين عبر جعل صياغة الإسلام مهمة تتعلق بالأمن القومي الأميركي. لكن كما في حال مكتب مكافحة الإرهاب غاية هذه المباشرة هو أن تكون أميركا ـ منفردةً ـ المسؤولَ عن السياسة الثقافية في بلاد المسلمين.(1/193)
أهمية خطة تحريف الإسلام الأميركية تكمن في أنها جزء أصيل في خطة أميركا الأساسية باقتلاع نفوذ الإنكليز ومن يلحق بهم من الأوروبيين من بلاد المسلمين والانفراد بهذا النفوذ. عندما وجدت أميركا أنها لن تستطيع النجاح في اقتلاع نفوذ الأوروبيين ـ بحسب التعبير السائد ـ عمدت إلى تقسيم المسرح السياسي في بلاد المسلمين إلى دوائر أربع: الأمن، الحسابات المصرفية، الإجراءات القضائية والثقافة الإسلامية. بهذا تأمل عن طريق إدارة المرافق والقوى والخطط في كل دائرة مباشرة عبر الإشراف على الممارسة المحلية أن تنجح في فرض نفوذها الكلي. لذلك نقول إن أميركا لن تستطيع أن تكون أكثر نجاحاً في تحريف معاني نصوص الإسلام من ممارسة الشياطين المباشرة لهذا العمل. وطلبها تحريفاً جديداً للإسلام خدعة أميركية تخدع بها شركاءها بالنفوذ. وأن أميركا تحرص على المستوى السائد في التحريف لأنها الثقافة التي تساعدها على إيجاد تيارات إسلامية مثل تلك التي أوجدتها في الجزائر وتركيا وأفغانستان وإيران وغيرها. وهذا الإسلام "العصري" أو "الأصولي" هو الذي تستطيع به أن توجد زعامات إسلامية مثل الملا وبن لادن والظواهري وأربكان ومدني وعشرات غيرهم. يبقى أن تحقيق غايتها بالتفرد في السلطة أو التسلط على أنظمة الحكم في بلاد المسلمين عبر أكذوبتها العالمية أن العالم يريد إسلاماً حضارياً يتماشى مع العصر. وعبر خدعتها أن أمنها القومي بحاجة إلى إصلاح برامج التدريس الإسلامية في لعبة خداع الكبار ستفشل في تحقيق هدفها. قوى الساحة السياسية المحلية في بلاد المسلمين كما قوى الساحة السياسية الدولية تعي حقيقة الخدعة والأكذوبة الأميركية. هذا الوعي وإن كان ما زال محصوراً في أعلى مراتب الحكم إلا أنه يكفي لإفشال هذه الهجمة الأميركية. هذا يجعل فشلها الحتمي في المناورة يصاحبه إصرار أعمى على اختيار فرض الحرب على الدول التي لا تستطيع مصادرتها بالخدعة الفكرية أو(1/194)
الثقافية أو الأمنية أو غيرها. لهذا نرى خيار الحرب جزءاً من خطة اغتصاب العالم حين لا ينفع الكذب، الخداع أو تمويه الحقائق. ونرى الإصرار على تحديث مناهج تحريف الإسلام بوصف المناهج أنها شريرة لجعل عدم التحريف تهمةً جزءاً من لائحة الاتهام في ملف الدولة التي تهيئ لضربها واحتلالها وتفكيكها بتهمة الإرهاب عندما تحتاج ذلك ولو بعد حين.
المجال الرابع
بعث الروح العسكرية
أو
إطفاءُ حيوية الأمة الأميركية
حيوية الفرد، حيوية المجتمع والأمة مثل حيوية الفكر والنفس والحياة تتواجد أو تنمو وتتلاشى ليس بذاتها بل بحسب شروطٍ أو نظام خاص بها. الحيوية في الفكر والنفس والحياة أو في الفرد والمجتمع والأمة أصدق تشبيه حسّي لها هو الزهرة في النبتة. الزهرة ليست جزءاً من حياة النبتة فالزهرة تنبعث وتذبل ثم تسقط وتبقى النبتة. وقد تكون النبتة ولا تزهر، النبتة أساس الزهرة في وجودها لكن لا علاقة للنبتة في عمرها بعمر الزهرة. كذلك تعهد النبتة في تربتها وسقايتها شرط لحياة النبتة وانبعاث الزهرة. الحيوية كالزهرة تخضع لنظام دقيقٍ في ذاتها يرتبط بنظام دقيقٍ آخر في نبتة ترتبط بتربة. فالحيوية ليست نظاماً ولا طريقةَ عيشٍ ولا فكراً بل نتيجة تنبثق من نظام وطريقة عيش وفكر. هذا، ببساطة، واقع الحيوية التي تطبع الفرد، المجتمع، الأمة، الفكر، النفس والحياة. لكن تبقى الحيوية أغلى كنوز الذات في الوجود.(1/195)
التلاعب بالحيوية له قواعد غير قواعد التلاعب بالفكر أو النفس أو غيرها. لذلك إيجاد الحيوية في الفرد أو الأمة غير إيجاد الفكر في الفرد أو المجتمع وغير إيجاد السعادة وتعميمها في نواحي الحياة. ظروف الحيوية أو شروط انبثاقها في النفس أو المجتمع غير شروط بناء النفس والمجتمع. لذلك هو أمر خطير جداً التلاعب بحيوية المجتمع أو الأمة دون وعي كامل على طبيعة الحيوية في النفس أو الأمة. والنفس الأميركية هي نفس إنسانية وليست نفسا شيطانية كما يحاول النظام الفكري الهوليوودي أن يجعلها. والأمة الأميركية تبقى أمة بشرية وليست أمة من القتلة اللصوص الذين يعتمد وجودهم الحياتي على امتصاص دماء غيرهم ونهب ثرواتهم كما يحاول مثقفوهم أن يجعلوا منهم. لذلك محاولة السياسيين والحكام بعد 11/9 التلاعب بحيوية الفرد والمجتمع والأمة الأميركية بهذا الجهل المطلق بطبيعة الحيوية أمر أخطر بكثير من نجاحهم في تغيير أدوار عملائهم أو تفريخ عملاءٍ لهم جدد في حكم أفغانستان. جميع إجراءات بعث الحيوية في الفرد والمجتمع الأميركي بعد 11/9 إجراءات تثبت جهلهم أولاً وتثبت أنهم استغلوها لتضليل الأمة الأميركية لإخفاء جهلهم ثانياً. جريمتهم في التاريخ والمستقبل ليست جهلهم وخداعهم للفرد الأميركي والمجتمع والأمة بل ضرب الحيوية نفسها. أما جريمتهم اليوم فتبقى على ما هي عليه خداعاً وتضليلاً ليس للعالم بل فقط للأميركي. إنسان العالم، إنسان غير أميركا، اقتنع بوضوح أن محاولة حكام أميركا بعث الحيوية في الأمة الأميركية بعد أحداث 11/9 لم يكن في أساس غايات خطة التفجير أو نتائجها بل كان عملا لاحقا استوجبه العمل في المجالات الثلاثة الأخرى. إجراءات بعث الحيوية في المجتمع الأميركي قام بها الحكم لإخفاء عثراته وفجوات خطته وللاستقواء على غيره في المجالات الثلاثة الأخرى. جميع إجراءاته لم ترتبط ببحث فكري ولا أيديولوجي، ولما اصطدمت مع دستوره الذي كان يفرضه(1/196)
بقدسية تعلو على قدسية كتاب متّى أو رسائل بولس، تخلى عن دستوره! بل فرض التهويل بالسجن والتعذيب على كل من يحترم ذلك الدستور. جميع إجراءاته ليست لها علاقة بموضوع حيوية الأمة أو النفس، بل ضدّ لطبيعة الحيوية في ذاتٍ فكريةٍ كانت أو في مجتمع. بعث الحيوية لم يكن في غايات خطة الحكم بل جاء ملحقا، تمّ توضيب خطته بعجل لذلك كان التفكير في الإجراء وليس في الحيوية، ولذلك جاء بهذا الجهل الذي يُخزي هؤلاء الساسة في مكانتهم التاريخية. وأيضاً هذا الجهل هو سبب الجريمة التي ستعاني منها أميركا؛ فردا، مجتمعا وأمة فترة طويلة لا يستطيع أحد في هذه المرحلة التنبؤ بعواقبها أو مراحلها.(1/197)
موضوع حيوية الأمة ليس موضوعنا في هذا المجال الرابع ولا في هذا الكتاب. موضوعنا في المجال الرابع هذا إجراءات الجريمة وأقوال الكذب وأعمال الخداع في موضوع جريمة الحكم في واقع حيوية الأمة الأميركية. حيوية أميركا مثل حيوية أي أمّة تنبثق من تراثها وحضارتها وفكرها الأيديولوجي. وقد كانت مصادر الحيوية في أميركا غزيرة قبل 11/9 وبعد 11/9، ولا يمكن لأحداث مثل أحداث 11/9 أن تؤثر في حيوية الأمة ولا في مصادرها. وكان يمكن لأي حكم أن يواجه تبعات أحداث 11/9 بأي إجراء يعالج طبيعة الحدث ونتائجه دون أن يصل إلى تعريض هذه الحيوية أو مصادرها للخطر. فالأمران منفصلان في كل معطياتهما خاصة في إجراءات مواجهة عوامل وقوى ونتائج. عمل 11/9 عمل تدمير، تخريب أمن وقتل جماعي. دون البحث فيمن قام به من داخل أميركا أو من خارجها، من داخل الحكم أو خارجه، تبقى إجراءات مواجهته إجراءات مواجهة مجرم والتعامل مع جريمة. فليس من طبيعة الموضوع أن يؤدي إلى ضرب مفاهيم الحياة أو ضرب أنابيب الحيوية في الأمة. ليس هناك علاقة بين إجراءات مواجهة هذه الجريمة وبين الحيوية في الأمة. الإجراءات عمل أجهزة من أجهزة الحكم، الحيوية عملية تجري في الأمة عشرات وعشرات من السنين. الحيوية ليست عمل حكم وليست عمل أمة بل ثمرة ارتباط الأمة بفكرها الأيديولوجي وثمرة نمو فكرها الحضاري.(1/198)
أميركا، شعبا وثقافة كانت تفخر بالمبادئ التي قام عليها دستورها. مع استمرار هذه المفاخرة أخذ الدستور الأميركي في فكر الحضارة الأميركية موقعا لم يأخذه دستور دولة أخرى في العالم. رغم أن أميركا لم تكن يوما ملكية إلا أن دستورها أو مفاخرتها به كدولة، ومفاخرة الشعب به كإنجاز له جعله تاجًا على رأس الدولة والفرد، يعلو فوقَ تيجان الممالك الأخرى. هذه العراقة للدستور في ثقافة الأميركي جعلته قاعدة نمو الفكر الحضاري الأميركي، كما جعلته قلب المادة الكلامية الفلسفية والقانونية والسياسية. هكذا، كان من الطبيعي أن تكون مبادئ الدستور الأميركي معيناً من ينابيع الحيوية للفرد والمجتمع والأمة. وكان من الطبيعي أن يكون تمسك الحكم في أميركا(1) به والمحافظة الشديدة على الالتزام بممارسته حتى عندما لا يخدم توجهات الحكم وغاياته فهو مصدر الحيوية المهم في نظام الحكم وممارسته ورسم غاياته. الوسط السياسي كان يدرك دائما دور الدستور في حيوية الحكم، ويدرك دائما سبب كونه مصدراً من مصادر الحيوية للأمة الأميركية. لم يقم حاكم في أميركا يجعل مصلحةً لأميركا في إلغاء دور الدستور الأميركي الذي هو مصدر من مصادر حيوية أميركا قبل حاكمِ اليوم. بل لم يجرؤ حاكم في أميركا على التفكير في خطة تتضارب غايتها مع دور الدستور في المحافظة على حيوية أميركا قبل حاكم اليوم. لم تكن أميركا يوما بحاجة إلى خطة تقضي على مصدر من مصادر حيويتها قبل خطة الحكم الحالي في قيادة شعب أميركا لمحاربة إرهابٍ من عملائهم ومنظماتٍ أوجدوها هياكل جوفاء بحجة محاربتها يسيرون بخطة الرومان في احتلال العالم مرة ثانية.
__________
(1) الحكم نقصد به الوسط السياسي في البلد.(1/199)
عمَلُ حكمِ "محاربة الإرهاب" دولياً بطريقة دون كيشوت ليس عملا خاطئا أو عملَ جريمة يرتكبها بغيره من الشعوب بل جريمة في عقل ونفس وتراث الفرد والمجتمع والأمة الأميركية مثل جريمته بقتل مسلمين يهزجون بفرح بحجة أنّ فرح المسلمين موقف قتالي ضد طائرات القتل الأميركي.
خداع الحكم لشعبه ليؤيده في مشروع سياسي لقهر غيره أو ليوافقه في مشروع اقتصادي لنهب غيره من الشعوب، أو ليسير معه في حرب لقتل غيره من الأمم أمر سارت عليه معظم أنظمة الحكم التي تقوم على قاعدة النفعية في النظام الرأسمالي. يكاد لا يوجد نظام حكم رأسمالي يستطيع قهر غيره أو نهبه أو قتله ولم يفعل ذلك بعد موافقة شعبه على معاونته في قهر ونهب وقتل غيره. لكن لم يتواجد في دول الحكم الرأسمالي الديمقراطي من يخدع شعبه بإثارة حماسه في أمور مصطنعة من أجهزة الحكم لضرب الحيوية في الأمة مثلما فعل هذا الحكم في خطة تدريب فرقة بوليس في اليمن أو الفليبين لمكافحة إرهاب لا تراه إلا عين صقر يلبس نظارة. هل حاكم أميركا أو صقرها بالنظارة أو صقورها كانوا يدركون هذه الجريمة التي يرتكبونها في مجتمعهم وأمتهم ؟ لماذا لم يكتشف مثقفو أميركا عمق هذه الجريمة ويجتمعوا لوضع خطة تسد الطريق على خطر هذه الجريمة في الفرد والمجتمع؟ مَنْ أكثر إجراما؛ سياسي أو حاكم يفرض عليه توالي ظروف في خطة يسيطر على مقوماتها ولا يسيطر على ترابطها أن يرتكب جريمة لم تخطر في باله وليست في حساباته، أو مثقف يسير مع الحاكم في تغطية حقيقة جريمته؟.(1/200)
المجال الرابع في خطة أميركا لاحتلال العالم بسبب أحداث 11/9 ليس للغوص في جريمة أميركا جيشاً وسياسيين وشعبا بقتل المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين وفي العراق أو في غيرها. وليس في موضوع خطة فرض دين جديد على المسلمين وعلى الأوروبيين الذين يقتنعون بفساد الفكر الغربي أميركياً كان أو أوروبيا. أيضا ليس في موضوع تصميم أميركا في خطة محاربة الإرهاب "الدولي" الذي أوجدته أساسا من أجل إلغاء الدور الأوروبي على المسرح الدولي. هذا المجال هو في فهم كيف ارتكب الحكم جريمة البدء بتجفيف مصادر الحيوية في الأمة الأميركية دون قصد منه ودون تنبّه المثقفين الأميركيين على هذه الجريمة والاستنفار لوقفها أو منع خطرها اللاحق قبل الحاضر. نحن نفترض أنّ حكام أميركا اليوم ارتكبوا هذه الجريمة التاريخية دون وعي منهم أو تصميم لسببين:(1/201)
الأول، أنّ هذه الجريمة نتيجة في الإجراءات التي اتخذوها بعد 11/9 وليست غاية لهذه الإجراءات. واضعو أية خطة يضعونها لتحقيق غاية، لكن في حسابهم لتحقيق الغاية يبحثون في نتائج العمل المحتملة. الأمر الطبيعي أنّ العقل لا يستطيع أن يحدد كافة النتائج لكن يتم تحديد النتائج الكبيرة، وما يبقى لا يكون أثره كارثة أو خطيرا على الغاية والمخططين أهل الحكم. لكن إذا كان تحقيق الغاية هو الأهم أصبحت الظروف ثانويةً بمعنى أنّ الغاية هي الأساس وما عداها ثانوي يمكن استيعابه. فإذا كان هذا هو الرأي الذي يسيطر على بحث النتائج عندها يمكن أن تكون النتائج أسوأ من تحقيق الغاية. وهذا ما وقع فيه حكام أميركا عندما جعلوا أحداث 11/9 خلفيةً لتحقيق غايةٍ بإجراءاتٍ ليس لها علاقة بالغاية، وإن كان يمكن اعتبار التفجير أجواء صالحة للقيام بها وفرضها. هنا أيضا لم يدرك أهل الحكم الأميركي أنّ انفصال الإجراء عن الغاية أو تجاوزه كثير الضرر وخيم العواقب؛ لا بل هو في كل زمن حجة على كل أقوال وتبريرات الرئيس ونائبه وسكرتير عدليته وسكرتير الدفاع في ربط الإجراءات الداخلية بالهدف.(1/202)
الثاني، أنّ أهل الحكم المؤثرين، وهم الرئيس، نائبه، سكرتير دفاعه ومستشار الأمن القومي، جميعهم كانوا كأعضاء الكورس بدون مايسترو. كل يصرح بدوره بما قاله غيره. بدوا وكأنهم عصابة حكم أكثر منهم رجال حكم يعملون بطريقة كشفِ خططٍ كبديل عن إعلان هدف. هذه طريقة سائدة في العمل السياسي وتنم عن ذكاء؛ لكن إذا كان كشف الخطط أو الإجراء – مثل تدريب سائقي الشاحنات لمكافحة الإرهاب الذي يمكن أن يواجهوه – هو ذاته الهدف فهذا يدل على سطحية في التفكير وسذاجة في الحاكم لم نعهدها إلا في حاكم جمهورية الموز. نحن نعتقد أنّ أهل الحكم المؤثرين لم ينتبهوا أو يدركوا أنهم يرتكبون أخطر جريمة يمكن أن يرتكبها حاكم بشعبه في أي زمن بسبب أنّهم سطحيون ليس في أحدهم صفة السياسي وليس عند أحدهم رؤية الحاكم. جميعهم أعمت حماسة تحقيق الغاية بصيرتهم في عقلِ الأمور.(1/203)
أميركا بلد المؤسسات، مرجعيات للحكم لا تُعد ولا تحصى، مستشارون بالمئات والآلاف، مجالس للدراسات، معاهد للتفكير ودوائر للتخطيط في كل مجال. أميركا، يفترض الناس في داخلها وخارجها أنّها محمية من الخطأ في التفكير والتخطيط والتنفيذ. هي، يظنون أنّها أيضا محمية من وصول الحاكم السطحي في فكره، الساذج في عقله لكن ليس من الحاكم الماكر في عمله. يقولون إنها محمية من الحاكم الغبي أيضا بوجود المؤسسات وخاصة مجلس الشيوخ والنواب. هنا يأتي دور الحاكم عندما يستمع إلى المؤسسات أو يُلغي دورهم في مراقبته ونصحه. الدستور الأميركي يفرض على الحاكم أن يستمع للمؤسسات وخاصة الكونغرس، ويفرض على الكونغرس مراقبة الرئيس وأعوانه ومحاسبتهم بالقلم أو بالزجر. عندما يعمل الرئيس منفردا تبدأ الدولة بالتفكك. الرئيس عندما يعطل دور مؤسسات الحكم يتحول في ممارسته من حاكم يرعى مصالح شعبه إلى متسلط يفرض إجراءات تنفيذ خطته: بداية مسيرة في عداء الشعب. دور الرئيس في إلغاء دور المؤسسات يكون بطريقتين: باستعمال جميع صلاحياته الدستورية في كل أمور الحكم؛ أو بإيجاد رأي عام حماسي وراءه يعطل فعالية التفكير في المؤسسات ويضعف دور الكونغرس في التأثير السياسي.(1/204)
إجراءات الحكم داخل أميركا – مثل فرض تمارين وإجراءات على رجال الإطفاء والممرضين وسائقي القطارات لمكافحة الإرهاب – كانت غايتها إيجاد الحماس الذي يعطل دور العقل في الأمة والمؤسسات ومنها الكونغرس. لكن عندما لم تفلح تلك الإجراءات في تعطيل دور الكونغرس، جاء دور أعمال مثل تفشي " الجمرة الخبيثة " في مبانيه والمستشفيات. دور " الجمرة الخبيثة " كان تعميم الرعب والخوف في الأمة من أجل الموافقة على إجراءات الحكم دون تردد من الكونغرس. أيضا عندما بدأ دخان " الجمرة " يتلاشى بفعل حرارة الحقيقة ورأى الناس بأم أعينهم أنّه لا يوجد " جمرة " بل يوجد خبث في ترويع الناس، تنادى رجال الكورس في كلامية جديدة لكن بدون موسيقى(1). كل بدوره(2) يظهر على الشاشة ويردد: " الموضوع ليس إذا كان عمل إرهابي سيقع أم لا. السؤال هو: متى وأين وكيف؟ ترديدة ببغاء ظنها أو وصفها بعض المفكرين؛ نحن نراها ترديدة أصم، والأصم هو الذي لا يسمع. هل يعقل أن يردد نائب الرئيس هذا القول لو سمع أنّ سكرتير الدفاع قاله؟ أو أن يردد كل واحد من الأربعة هذا القول لو سمع أحدا غيره يقوله؟ الترديدة لا يقولها واحد إلا وهو يقوم بدور. عندما يقول الترديدة أكثر من واحد، تكون الغاية في الترديدة لا في المعنى. غاية هذا الترديد كان إذكاء أجواء الخوف والرعب في الأمة وتأمين وقود جديد في حملة تعميم الرعب والخوف في الأمة.
__________
(1) ـ الموسيقى الجماعية دائما تحتاج إلى مايسترو
(2) ـ طبعا أولهم الرئيس حتى يظهروا أنّ هناك مايسترو، لكن هذا الإخراج كان مصطنعا جدا.(1/205)
خطة تعميم الرعب والخوف في المجتمع أو الأمة هي خطة في ارتكاب أخطر الجرائم الاجتماعية والسياسية والحضارية. عواقب هذا النوع من الجرائم لا يمكن حصرها، أذاها لا يمكن وقفه ونتائجها لا يمكن تعدادها. إنّه من السهل جدا على أي حكم في أي بلد أن يعمم الخوف والرعب في مجتمعه. وهو عمل لا يحتاج إلى أي ذكاء بل يشترط الغباء المطلق في الحاكم أو الخيانة المتناهية للمجتمع والأمة. خطط أميركا السياسية جميعها تقوم على دراسات وأبحاث من رجال عباقرة في مجالهم. لا ينكر هذا أحد لأنّه واقع محسوس يستحيل نقضه. لكن دراسات أهل الفكر عندهم مقيدة بطريقة التفكير أو بغاية التفكير أو بتمويل التفكير. لا يسمح الموضوع أن نخوض في هذه القيود لأنّها ليست موضوعنا لكن نوضح أنّ التفكير الذي يجري يفترضون أنّه لا تحكمه حدود سلفا. هكذا يقولون ويعتقدون بكل صدق وإخلاص. لكن هذه القيود بطبيعتها تضع حدودا للفكر دون معرفة المفكر، وهذا شر عظيم ليس على المفكر بل على الذي يأخذ هذا الفكر على أنّه يقيني لأنّه نتيجة دراسة مفكر. هذه الحدود تبدو واضحة في أي عمل أو فكر أو خطة للمجتمع أو تؤثر فيه. الدراسة تبحث في الخطة بتفاصيلها وتبحث في نتائجها أو تأثيراتها على المجتمع أيضا بتفصيل متناه. فإذا كان فهم المجتمع في تركيبته فهما خاطئا أو منقوصا جاءت دراسة تفاصيل التأثيرات للخطة كلها أو بعضها خاطئة أو ناقصة. وإذا كان فهم المفكر للمجتمع فهما سليما كانت دراسته صحيحة في العمل أو الخطة ونتائجها. هكذا دراسة يعتبرونها كاملة صحيحة محكمة إذا اكتملت أو اشتملت على كافة التفاصيل في شقيها أي في العمل والنتائج. هم يدرسون احتمالات النتائج بتفاصيلها لأنّ الدراسة تشمل العمل ونتائجه الاجتماعية. هذه الدراسة بطبيعتها حسابية أو تستعير مشابهة من الطريقة العلمية. هذه الطبيعة لا تسمح ببحث تفاعلات النتائج أو ائتلاف التفاصيل في النتائج. في الأعمال التي تطال المجتمع،(1/206)
الخطر لا يكمن في نتائج العمل لأنّه يكون محسوبا، بل يكمن في تفاعلات النتائج، وهذا أمر عسير جدا على أي مفكر وإن كان ليس مستحيلا بالمطلق لكنّه مستحيل بالواقع، خاصة على المفكر الأميركي أو الغربي الذي يعتمد قواعد أفكار نقلها عن غيره دون إجراء العملية الفكرية في برهانها واكتفى بإجراء العملية الفكرية في فهمها. هذه طريقة فهم الأفكار لا طريقة أخذ الأفكار؛ ومن البديهي أنّ شروط الأمرين من طبيعتين مختلفتين.
خطة أميركا في ترويع المجتمع الأميركي هي جزء من خطة ترويع الجنس البشري وليست غاية في ذاتها. لذلك لم يكترثوا في بحث نتائجه وتفاعلاته. في حسابهم أنّه مرحلة عابرة يسهل تجاوزها بعد ركوب الحكم لموجتها. ينظرون إليها أنّها حالة مصطنعة تضمحل بمجرد وقف اصطناعها. هم أسياد اللعبة يسيطرون على قوى التأثير في المجتمع الذي كانوا يديرونه بأجهزة الحكم ومؤسساته، وأصبحوا يتحكمون به بفرض أجواء الرعب فيه عندما يحتاجون إلى ذلك. إيجاد حالة الرعب في المجتمع الأميركي يصلح في خطتهم ليكون قاعدة لانطلاقهم في خطة ترويع العالم وفرض حالة الخوف والرعب في الأجناس البشرية الأخرى أو الدول التي يريدون اقتناصها وهي غارقة في حيرتها، ليس لأنّ أميركا تخاف من قوة تلك الدول بل لإرباك الرأي العام الأميركي والعالمي وتضييعه عن حقيقة سبب خطة التهويل والتخويف فلا يكون لخطتها في الاحتلال والقتل والنهب معارض. خوف أميركا من معارضة الرأي العام العالمي لها ليس خوفا من طائراته ومدافعه. بل خوفها من أن يوقظ روح الحيوية في فكر الأميركي، الروح التي قتلوها أو دفنوها في قلب الذي فرضوا عليه الخوف والرعب بإجراءاتهم الاحتياطية ضد الإرهاب(1)
__________
(1) ـ وقف الرئيس ـ رئيس تخويف الأميركيين بحجة مكافحة الإرهاب ـ يخطب في تلامذة فسألهم: هل تعرفون إلى من يتبع مكتب خفر السواحل؟ لما عجبوا من سخافة السؤال لم يستطيعوا الإجابة فصمتوا. ظنهم بلهاء فأجابهم: إنهم يتبعون وزارة المواصلات! قالها وكأنّه اكتشف البارود، وبدا عليه الذهول والتعجب المتناهي وكأنّه لم يعلم الإجابة إلا في تلك اللحظة. التلامذة، من براءةٍ وذكاء، ظنوا أنّ رئيسهم لا يعلم ما يعلمونه وأنّهم أكثر علماً منه فلم يتمالكوا أنفسهم من الانفجار بالضحك وضرب اليد بالأخرى تعبيرا عن سرورهم ببراءة رئيسهم من معلومة حتى هم، الصغار، يعرفونها. هل كان الرئيس غبياً كما ظنه الذي كان يستمع إلى سؤاله؟ طبعا لا، تعجب الرئيس من ارتباط خفر السواحل بالمواصلات لم يكن عن جهلٍ به بل كان تلاعباً بنفسية المستمع حتى يفقد قدرة معارضة تبرير الرئيس في إجراءات إرهاب الأميركيين بحجة منع الإرهاب!(1/207)
. في خطة تعميم الرعب في الأمة الأميركية تمكنت أميركا من إطلاق خطتها في إرهاب العالم واستعدائه.
عداوة دول العالم لأميركا حالة ضرورية لأي دولة قوية تريد أن تبطش بدولة أضعف منها قوة. اتهامات أميركا التي توزعها يمينا وشمالا ليست عملا من أعمال الجنون الأميركي بل تندرج في خطة استعداء العالم. أميركا تفرض على أخلص تابعيها وأضعف عملائها وأحطّ الذين عيّنتهم في حكم شعوبهم أن يستجيبوا لحالة الاستعداء لتعميم العداوة عند الدول وشعوبها لأميركا. حالة العداء الدولي تسمح لأميركا أن تتصرف مع أي دولة أو شعب تصرف العدو مع العدو وهذا يلغي قواعد تصرف القوي مع الأضعف. أهم من ذلك، يلغي دور قواعد التعامل بين الدول القوية والضعيفة؛ يلغي دور البرهان في الجريمة والبراءة. كذلك يلغي دور الدبلوماسية ودور الأحلاف والحلفاء، ويلغي دور أميركا السابق ليوم 11/9. إلغاء هذه القواعد كلها يوجد الظرف والشرط لإعلان دور أميركا الجديد، دور الحكم في أميركا ودور أميركا في العالم. أميركا قررت تغيير دورها لتكون مفترس العالم الوحيد: لها وحدها الحق في القتل والنهب وامتلاك المال والسلاح. لهذا يصرح المسؤول والمفكر والعسكري والسياسي فيها: لا خيار لدى أميركا غير ضرب العراق وتغيير صدام؛ أو: لا يمكننا أن نسمح بحرب بين الهند وباكستان؛ أو: لسنا بحاجة لأي حليف أو حلفاء لضرب أي بلد منه تطلع رائحة الإرهاب أو فيه تصب؛ أو: إنّ ضرب أي بلد مسألة تتعلق بالأمن القومي الأميركي وحده.
نجاح خطة أميركا يعتمد على نجاحها في التخلص من شروط الالتزام الدولي ومن علاقاتها أو قواعد علاقاتها مع حلفائها أولاً قبل نجاحها في استعداء العالم. أما نجاحها في استعداء عملائها فأمر مسلّم به، وهو أمر ضروري لتوجد مبرر ضرب أي بلد مهما كان مطيعا في تبعيته أو متمردا. في خطتها إعادة صياغة لكثير من دوائر الحكم في بلاد المسلمين.(1/208)
إنّها خطة جديدة في غزو العالم؛ إنّها مرحلة جديدة في الانفراد بالسيطرة على العالم دون عون أو مشاورة أو معرفة أي دولةٍ في العالم خاصة الأوروبية وبالأخص بريطانيا. هذا هو السر في قول رئيس روسيا الذي لم يكشفه عندما قال قوله(1)
__________
(1) مع هذا القول بدا الناس في وصف رئيس روسيا أنّه " فروج " روسيا. في هذا القول يفصح أنّه لم يعد لروسيا دور في العالم. في الماضي كان يطالب بدور لروسيا يتناسب مع حجم قوتها لا مع حجم ذكائها أو غبائها! في هذا التصريح تخلى عن المطالبة بأي دور. لكن قوة الرئيس بوتين ارتبطت ليس بدور روسيا بل بدوره في منع الفروج الأميركي من الوصول إلى أسنان أهل روسيا. ظهور قوة الرئيس في موضوع الفروج وتخليه عن قوة روسيا الدولية أوحى بلقب " فروج روسيا " في الفكر الكاريكاتوري. لكن يبقى هذا اللقب خاصاً به وليس بكل رئيس لروسيا. اللقب السابق كان " دبّ روسيا "، دائما نعوت بأسماء لا يعرف في أصحابها ذكاء.(1/209)
. أميركا تريد أن تكون وحش العالم الذي يقتل ولا يوجد من يمنعه لانعدام القوة في غيرها؛ أو أن تكون مجنون العالم الذي لا يوجد فيه من عنده العقل ليقف بوجه جنونها. أميركا تريد التفرد بالسيطرة على العالم لا أن تكون المسيطر الأكبر على ثروات العالم. التفرد وحده يحوّل أمثال توني بلير أو الذين يأتون بعده إلى دور ناظر ملعب المدرسة، ويحوّل دور المستشار أيا كان إلى دور مختار، ودور رئيس فرنسا إلى ما يشبه دور مدير نادي الليدو. أما رئيس روسيا فأقل من رئيس جورجيا ورئيس الصين يساوي رئيس تايوان. هذا التفرد هو الذي يسمح لها بقتل صدام وتقسيم العراق وتركيا. وهو الذي يسمح لها بالقضاء على نسل عبد العزيز وتقسيم بلاد المسلمين الواحد تلو الآخر. غاية خطة أميركا بالتخلص من قيود السياسة الدولية تؤدي إلى فرض السياسة الفردية بالأمر الواقع. غايتها تحويل علاقة إنسان بإنسان إلى علاقة قاتل بإنسان أو علاقة لص بإنسان أعزل يسير على عكاز!.(1/210)
خطة أميركا في السيطرة على العالم منفردة تقتضي أن تقف دول العالم البارزة في منطقتها بوجهها. هكذا نرى أميركا تستعدي أخلص حلفائها في المنطقة التي تريد ضرب بلد فيها. تفرض على أخلص عملائها مهاجمة ضعف الحجة الأميركية وسياستها العدوانية وكذبها على الشعوب. تعطيهم المبرر تلو المبرر بل تدوس كرامتهم وكرامة شعوبهم(1) لاستفزازهم للوقوف بوجهها ووجه خطتها. أميركا تصطنع أعداء من عملائها لتبرز تفردها بقتل من تريد ولتحتل البلد الذي تريد. أميركا في خطة التفرد بالسيطرة على العالم تحتاج إلى أعداء تقتلهم باستمرار وإذا لم تنجح في إيجاد حالة عداء دولية لها تفشل في صنع من تقتله وتفشل في مبرر احتلال البلد الذي تريد. لذلك نجد أخلص عملاء أميركا أكثرهم هجوما ومعارضة وربما عداء لسانيا لها. يهاجمونها بكل العبارات والحجج الإعلامية ثم يقفون بالصف ينتظرون مقابلة " كرزاي " يتبرعون له ويعتبرونه " بطل " الإنقاذ و" رجل " الاستقرار و" أمل " السلام ويصرحون أنّهم يدعمون مسيرته(2)!. أخلص عملاء أميركا تراه يقف ضد أميركا وضد خطتها بضرب العراق. هل يستطيع عميل استخبارات أن يكون عدواً لإدارة الجهاز وللجهاز وخططه إن لم يكن ذلك الموقف جزءاً من خطة إدارة الجهاز؟
__________
(1) أو ما تبقّى منها، لأن ليس للحاكم العميل كرامة وليس للشعب الذي يحكمه عميل طوعا أو كرها كرامة.
(2) لا يوجد بلد في العالم اليوم توقفت فيه مسيرة الحياة مثل أفغانستان ولا يوجد رئيس بدون عمل يتعلق بمسيرة شعبه مثل رئيس أفغانستان. المسيرة في أفغانستان اليوم هي مسيرة أميركا في أفغانستان وليست مسيرة أفغانستان؛ وعمل الرئيس ما زال كما هو عمل رئيس تحميه القوات(1/211)
حالة العداء العالمي لأميركا هي خطة أميركا لبعث الحيوية في أميركا الدولة وسياستها الدولية وفي مؤسستها العسكرية. بعث الحيوية هو حجر الزاوية في سياسة أميركا العدوانية تجاه دول هذه الكرة الأرضية أو أجهزة الحكم على شعوبها.
جميع إجراءات الحكم الأميركي بعد 11/9 كانت تنصب على بعث الحيوية في ألوية الجيش الأميركية لا في الأمة الأميركية ولا في المجتمع أو الفرد. لذلك نرى جميع إجراءاته ليس لها علاقة بالحدث نفسه ولا يأتي الحكم وسلطاته على ذكر حادثة التفجير في 11/9 إلا بالإشارة ليكون المبرر في تحريك الآلة العسكرية. جميع الإجراءات وردود الفعل الرسمية الأميركية كانت تهدف إلى توجيه الشعب لتأييد ترتيبات وخطط تحريك وتشغيل الآلة العسكرية قبل تحديد مجال العمل. فرض الكرة الأرضية كمجال عمل للقوات الأميركية ليس تحديدا لمجال عمل بل إعلان احتلال العالم بدون عمل. هذا القول لا يعني أنّهم يريدون احتلال العالم هذا العام بل يعني أنّهم يريدون أن يضربوا بلدا ويحتلوه ليس لخوفهم منه بل ليبدؤوا باحتلال العالم منه.(1/212)
بعث الحيوية في القوات العسكرية طريقهُ بعث الحيوية في الأمة أولا. بعث الحيوية في الأمة عملية منفصلة في فكرها وإجراءاتها، قد يكون من نتائجها بعث الحيوية في القوات العسكرية لكن ذلك ليس شرطا لأنّه يرتبط بغايات الفكر في حيويته. الارتباط بين الاثنين ليس فكريا بل في الغاية؛ لهذا نجد الحروب لا ترتبط بالفكر الحضاري بل بغايات الفكر الحضاري إن وجد وإلا فبغايات الحكم لا بتراث الأمة. وهذا ما يفسر أنّ إجراءات الحكم الأميركي في حقيقتها لا علاقة لها ببعث الحيوية في الأمة الأميركية لا من قريب ولا من بعيد. إجراءات حراسة الجسور وتنبيه سائق الشاحنة إلى كيفية التعرف على الإرهابي، وترويع الناس بالتفتيش عن "الجمرة الخبيثة "، وتعطيل الدستور بمنع رئيس أكثرية مجلس الشيوخ من القيام بدوره الدستوري وتهديده باتهامه أنّه " غير وطني "، لا علاقة لها بالحيوية، جميعها تبرر سيطرة القوة العسكرية على عقلية الحكم.(1/213)
الجيش، في البلاد المتخلّفة، يقوم بالسيطرة المادية ـ بالدبابة والمدفع ـ على مباني وأجهزة الحكم. الحاكم الضعيف في الدول المتقدمة يخضع للقوة العسكرية؛ بذلك يسيطر على عقل وقلب الحكم دون احتلال بالدبابة والمدفع لمباني الحكم. كلا الأسلوبين يؤدي إلى سيطرة العقل العسكري على العقل السياسي. إجراءات الحكم الأميركي بعد 11/9 ليس فيها فكر بعث الحيوية في الأمة ولا بعث الحيوية في القوة العسكرية بقدر ما كانت في أساس غايتها ترمي إلى سيطرة العقلية العسكرية على العقلية السياسية. بهذا الفهم، يكاد يقول جميع الساسة والعسكريين والمفكرين في الشأن العام أنّ انقلابا عسكريا وقع في أميركا وأنّ الذي يحكم هم العسكريون. الحقيقة أنّ السياسيين ما زالوا يحكمون لكن بمقاييس العقلية العسكرية لا بمقاييس الحاكم السياسي الذي يسخّر الطاقة العسكرية. بهذا بدأت أميركا مسيرة إما أن تكون معي أو تكون ضدي. مهزلة فكرية قبل أن تكون مهزلة سياسية في نهايتها مهزلة عسكرية. بيان المثقفين الأميركيين إلى المسلمين مهزلة فكرية. منع زعيم أكثرية مجلس الشيوخ من حقه الدستوري بتهديده باتهامه بالخيانة أو " الغير وطنية " مهزلة سياسية. تصريح الرئيس وكَوْرَسَهُ أن لا خيار لنا إلا تغيير النظام العراقي لأنّه يهدد الأمن الأميركي القومي والعالمي، مهزلة عسكرية. هذا الاستهزاء بالعقل العالمي بأسلوب فرض منطق التفوق العسكري يمهد الطريق لانتصار عسكري أميركي في كل الحسابات. الاستهزاء بالعقل العالمي بمنطق المتفوق العسكري لا يؤثر على انتصار عسكري أميركي لكنه قد يصيب مقتلا في عقل وقلب الفرد والمجتمع الأميركي.(1/214)
بعث الحيوية في الروح العسكرية لا يحتاج إلى ذكاء. فصلها أو ربطها بحيوية الأمة هو الذي يحتاج إلى ذكاء. ذكاء الفصل غير ذكاء الربط. ذكاء الفصل الذي تسير فيه أميركا هو ذكاء هتلر. ذكاء هتلر أدى إلى تجفيف مصادر الحيوية في الأمة الألمانية لأنّه قضى على الجذوة الفكرية فيها. في مسيرة أميركا جميع عوامل وعناصر تجفيف مصادر الحيوية الفكرية والنفسية. بوعي من العقلية العسكرية التي تسيطر على الحكم في أميركا منذ 11/9 أو بجهل منها بدأت عملية تجميد الحيوية في الأمة بوضع سقف محدود لها. حدود سقف الحيوية الأميركية هو إجراءات التفتيش للمسافرين في المطارات وتعليم الممرضين كيف يتعرفون على المريض، هل هو إرهابي أم لا.(1/215)
الطائرات لم تنفجر بفعل تفجير قنبلة تمّ تهريبها عبر ترتيبات تفتيش الركاب أو خارج هذه الترتيبات. الطائرات انفجرت بفعل اصطدامها بمبان؛ ما علاقة الاحتياط من عمليات صدم بتفتيش الركاب؟ ليس هناك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين الضجة الإعلامية الهائلة حول أنّ أمن أميركا يتعلق بمضاعفة إجراءات تفتيش الركاب عشرة أضعاف وبين محاربة الإرهاب. حتى الإرهاب الشبح الذي يفرضون تصديقه، لا يوجد أي علاقة بين محاربته وبين هذا الإجراء الذي مسّ بالضرر حياة نصف أفراد الأمة الأميركية ونصف مصالح المجتمع الأميركي. لكنّه ضروري في إيجاد الواقع الذي يسمح بإسكات زعيم الأكثرية في مجلس الشيوخ وزعيم الأكثرية في مجلس النواب. ضروري للإعلان الواضح أنّ العقلية العسكرية هي التي تتحكم بالماكينة السياسية بعد اليوم. ضروري جدا لإيجاد مصادر للروح العسكرية في غياب مصادر المجتمع والأمة. هو برهان واقعي على انفصال الحكم بعقليته العسكرية عن بيئته الطبيعية التي هي المجتمع والأمة. برهان أيضا على أنّ اضمحلال الحيوية في الأمة الأميركية مسيرة بدأت بعد 11/9 وستستمر ما دام الحكم يستطيع أن يقول للسياسي اخرس وإلا اتهمتك أنّك " غير وطني." لن تتوقف بوقوف سياسي آخر يرفض أن ينصاع كما انصاع " توم داشل " للتهويل. ولن تتوقف بعودة العقلية السياسية للحكم، لأنّ نتائج سكوت " داشل " وخنوعه وخوفه ستستمر في السريان في أوردة أفراد المجتمع وأروقة مباني الحكم ومجلس الشيوخ والنواب مدة طويلة بعد زوال أركان مربّع أو مسدّس الحكم.(1/216)
ناسُ أوروبا(1) مثل ناس فرنسا عرفوا أن الحكم في أمريكا بإجراءاته في أميركا التي ألغت الحقوق الدستورية للمواطن والسياسي ورئيس أكثرية مجلس الشيوخ يريد تفريغ الفرد الأميركي من رؤية سياسية في المستقبل. وناسُ ألمانيا عرفوا مثل ناس فرنسا أن تخويف الجنس البشري بشبح أسطوري سموه الإرهاب و"قنبلة أسامة" و"نووية صدام" عرفوا أن هدفه تفريغ الفرد الفرنسي والألماني من أي أملٍ في الحياة. يعرفون أن قتل الأمل في النفس معناه قتل الحيوية في الأمة الألمانية والأمة الفرنسية وبقية الأمم الأوروبية. ناس أميركا بدأوا يدركون خطر تفريغ الفرد من رؤية سياسية في المستقبل. تنادي منهم ألفان(2) ـ مثقفون ـ ليعارضوا خطة الحكم في فرض السيطرة العسكرية على العالم للتحكم المطلق بالقرار السياسي الأوروبي. هؤلاء لم يعارضوا حباً بالمسلمين أو بالأوروبيين. المثقفون الستون لا يرون أهمية دور الرأي الفكري في الرؤية السياسية. هؤلاء الألفين يعتقدون بأهمية الدور ويجعلونه قبل مصلحة الصقور بالتحليق لوحدهم في رحلة صيد ثمين. عندهم دور الفكر في الرؤية السياسية هو من مصادر الحيوية في الفرد والأمة. فصلُ الفكر يُظلِمُ الرؤية في دور الفرد في الحياة وهو طريق اضمحلال الأمم. هم أدركوا أن تحويل أميركا إلى دولة عسكرية في العالم مؤامرةٌ يوافقون عليها لكن بثقافتهم أدركوا أن هذا العمق التآمري خطره أكبر من ثمره. ثمرته تذوي لكن خطره يبقى. خطره ارتدادي أي يبدأ بعد تحقيق الهدف وخطره يكبر باستمرار مع الزمن. مصدر خطر اضمحلال الأمة يبدأ عندما تبدأ تيارات أو طبقات في الأمة اكتشاف كذب الحاكم
__________
(1) 1 – هنا تعني سياسيو أوروبا الحاكمون في الدولة وسياسيو أوروبا في إدارة الاتحاد الأوروبي.
(2) - هذه صفتهم بادعائهم، هم بالتأكيد مثقفون من جبل ثقافة الستين الذين طوتهم الصفحات. مثل أولئك دورهم سياسي بقناعٍ ثقافي لأنهم يعارضونهم بالرأي الفكري في الرؤية السياسية.(1/217)
عليها. عندهم، يتوقف هذا الخطر مع توقف الكذب على الأمة، قد يحصل هذا في الواقع وفي الحقيقة لكن ليس في قواعد تفاعل العوامل في النفس الإنسانية.
خطط أميركا بوجوب احتلال بلاد المسلمين بجيوشها وحدها إن لم تشاركها أوروبا تبررها استراتيجيتها الجديدة في مكافحة الإرهاب. تقول عن هذا الإرهاب إنه يمتلك قنابل نووية وبيولوجية وكيميائية. وتقول إنه يمتلك صواريخ عابرة للقارات. جميع خططها في محاربة الإرهاب تفترض احتلال بلاد المسلمين. خططها تقوم على أن جميع المسلمين في أي بلد إسلامي قام بأحداث التفجير أو يستطيع أن يقوم بمثله. بدون تحقيق، بدون أدلة، بمجرد أقوال فارغةٍ من أي برهان، بألسنة رخوةٍ رخيصة تنطق بكلام لا يرتبط بواقع ولا يقبله برهان العقل تتهم وتحاكم. لكن الذين تصدر عليهم أحكام الموت وتقتلهم منذ أشهر في أفغانستان غير الذين تتهمهم. حتى اليوم لم يتجرأ أحد في أميركا من الوقوف وقفة مؤثرة في حملة فكرية تكشف عورة الحاكم الأميركي بالربط بين الاتهام وعدم المحاكمة وبين الاتهام والقتل بدون محاكمة. كثير من السياسيين والمفكرين بدأوا يخشون استمرار بناء خطط على قاعدة في مادتها التناقض بين الواقع والقول وفي بنائها مزيج من تضليل إعلامي ونفاق فكري. خشيتهم ليس من نجاح الخطة أو فشلها، خشيتهم من أن هكذا قاعدة لا تثبت أمام الزمن ولا تثبت في الرأي العام المحلي. في معرفتهم أن وقف الخطة اليوم لمنع انهيار قاعدتها غداً يمنع الرأي العام الأميركي من معرفة الحقيقة في أحداث 11/9 ويمنع انفصال الرأي العام الأميركي عن الحكم وبالتالي يوقف انهيار الأمة الأميركية. برأيهم أن الخطط الاستراتيجية يجب أن تكون على قواعد فكرية صريحة في حجتها وحيثياتها حتى تكون خططاً مشترِكَةً في قاعدتها بين الحكم والمجتمع. كم يجب أن تكون غايات هذه الخطط غايات صريحة ترتبط بغايات الأمة والحكم وتنبثق من رؤية الحكم والأمة. هم يرون أن استراتيجية(1/218)
الحكم الجديدة تنفصل في غايتها أو غاياتها وقيمها عن حجتها وحيثياتها أولاً. وتنفصل في رؤيتها عن رؤية الأمة الأميركية في دورها الدولي وعلاقاتها الدولية ثانياً. وأن الحكم قد استقل برؤيته واستراتيجيته وغاياته عن تلك التي في عقل وقلب الأمة ثالثاً. لذلك هم يخشون الشرخ الذي لا يمكن رأب صدعه. يخشون أن يتحول كيانهم إلى كيان يشبه كيانات العالم الثالث حيث الشعب يتمنى تغيير الحاكم ومحاكمته وحتى شنقه.
خوف الأميركي(1) الدفين ليس من أن يتحوًَل الحكم إلى حكم عصابة فالكل يعلم أنه حكم عصابة. هم لا يريدون أن يتحول الحكم إلى حكم رئيس عصابة. الفرق بين حكم عصابة وحكم رئيس عصابة أنه يمكن تغطية حكم العصابة معنوياً وإعلامياً بالاعتماد الظاهري لرأي مؤسسات الحكم، حكم رئيس العصابة لا يمكن تغطيته ولا يمكن إخفاء حقيقته عن الشعب. حكم العصابة يتلاعب بالمؤسسات بينما حكم رئيس العصابة يلغي دور المؤسسات تماماً كما جرى بمنع رئيس الأكثرية في كلٍ من مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأميركي من ممارسة حقهما وسلطاتهما الدستورية. تهديد أركان الحكم بأعلى المستويات لأهم شخصية في أهم مؤسسة دستورية، سياسية، تشريعية وتمثيلية للشعب بمحاكمته بتهمة "عدم الوطنية" في حقيقته إلغاء دور جميع مؤسسات الحكم في أميركا. جبن رئيس الأكثرية واستسلامه ليس خوفاً مادياً على جسده وأعضائه فقط بل خوفاً أن يؤدي إصراره على حقه الدستوري إلى وقوف الشعب معه ووقوف القوات العسكرية مع الحكم. فهذا أخطر ما يمكن أن يهدد الحيوية في الأمة والحياة في المجتمع. عدم ثقة الشعب بالحكم يؤدي إلى اختلال العلاقة بين القوة العسكرية والمجتمع. هو مسرح الحرب الأهلية بين فصيل المجتمع الذي يريد المحافظة على الدستور وحكمه ومؤسساته وفصيل الحكم الذي لا يكترث بالدستور ويريد المحافظة على هيمنته ومواقعه وقدرته على مصادرة سلطات غيره.
__________
(1) - هنا تعني السياسي والمواطن لكن ليس العسكري.(1/219)
سواء كان أولئك الذين فجروا 11/9 أو أولئك الذين أطلقوا خطتهم في تغيير قواعد السياسة الدولية أغبياء أم أذكياء، إن قبول البرهان في توثيق الوقائع التي تفرض اتهام أجهزة الحكم في أميركا بالقيام بنفسها بعملية التفجير أو رفض ذلك البرهان، أوقع أميركا في مأزقين لن تستطيع الخروج منهما في المستقبل المنظور.
المأزق الأول: أميركا ستبقى مُتَّهمة أنها هي التي قامت بتفجير البرجين والبنتاغون والطائرة الرابعة. ستبقى متَّهمَةً بالوثائق والحقائق والبراهين التي لم تستطع أي دائرة في الحكم تفنيدها أو الرد عليها. ستبقى متَّهمَةً لأنها امتنعت عن إجراء أي تحقيق بالحادث وامتنعت عن القيام بفتح المحاكمة القانونية للمتهمين. ستبقى متَّهمةً لأنها قتلت الآلاف ولم تعتقل متهماً واحداً يثبتُ عليه الدليل أنه شارك بالتآمر في أحداث التفجير. ستبقى متهمةً لأنها قتلت الآلاف بحجة أنها كانت تظن أنهم متهمون وهذا يعني أنه لا يوجد لديها مواصفات للمتهمين وأن اتهامها خداع وتضليل عن حقيقة هدفها بالقتل. ستبقى مُتَّهمةً لأنها قتلت آلاف الأبرياء بوحشية بالغة مما سيحتم أن الوحشية بقتلها قصد في خطةٍ لتحقيق غايةٍ وليس إجراءً في عملٍ انتقامي. ستبقى مُتَّهمةً لثلاثة أسباب لم يعد بإمكان أميركا إلغاءها أو التلاعب بمعطياتها أو تمويه حقائقها أو تغيير وقائعها.
الأول: لم تُجرِ الحكومةُ المحاكمة في الجريمة ولم تسمح للرأي العام الأميركي بإجراء المحاكمة الفكرية فيما حدث ولو بأي هامش.
الثاني: الطرح المتكامل والمفاجئ لخطة عمل استراتيجي دولي برؤية دولية جديدة لدور أميركا في قيادة العالم خلال ساعات وأيام بينما هكذا خطة تحتاج إلى أشهر وسنوات.
الثالث: انعدام العلاقة بين الأعمال التي قامت بها للانتقام والأعمال التي تعلن تصميمها على القيام بها للانتقام وبين أحداث 11/9.(1/220)
المأزق الثاني: استراتيجية أميركا الجديدة أوجدت المسرح السياسي الذي يسمح بنزع أقنعة شخصياته (1). هكذا وُجدت في دول العالم الكبرى والصغرى فكرة الانفصال عن السياسة الأميركية. الظروف التي أوجدتها أميركا سمحت لكثير من الدول القيام بأدوارٍ ـ تمثيلية في بدايتها لتحسس المسار، جدية في نهايتها - ناجحة في الوقوف باستقلالية بعيداً عن أميركا لأول مرة في تاريخ ما بعد القنبلة النووية الأميركية.
__________
(1) شخصيات المسرح السياسي الدولي هي دوله.
( قبول الهيمنة يضع سقفاً لقدرة العقل على الإنتاج الفكري. لذلك في ظل الهيمنة الأميركية على أوروبا كان المفكرون الأوروبيون يميلون إلى الاستراحة من عناء الجهد الفكري حتى شح عندهم إلى المستوى الذي قارب الانقراض.(1/221)
كانت أميركا تهيمن على قرار دول أوروبا دولةً بجوار دولةٍ حتى بريطانيا كانت مضطرة للتظاهر بقبول الهيمنة الأميركية عليها. هيمنة أميركا على أوروبا سياسية, عسكرية, استراتيجية, اقتصادية وإلى حد كبير فكرية (. سياستها الدولية كانت سياسة أحادية في طريقتها وموضوعاتها وهدفها. كانت دائماً وحدها سيدة القرار وصاحبة الفكرة وأدميرال البحر تفرض اصطناع الحدث والأزمة والحل. لم يكن في مقدور زعيم دولة كبرى أو صغرى أن يقول وهو يلوِّح بيده: "لن ننصاع لأميركا بعد اليوم ولن نرضى أن نبصم على القرارات الأميركية". باتصال هاتفي مع أي رئيس دولةٍ(1) كانت دولةُ ذلك الرئيس تغير مسارها 90 درجة إلى اليمين أو اليسار لاتباع المسار الجوي الذي تفرضه خطة تبعيتها للحاق بمسار الذيل الأميركي. صحافة بريطانيا تصف رئيسها في مجلس العموم اليوم بعد عودته نصف ناجح من مهمته في السير على حبلٍ معلَّقٍ بين قارتين بل عالمين من أحدهما كان الأسياد وفي الآخر كان العبيد: { رجع "بودل"(2) أميركا }. المستشار قال "لا" وجعل موضوعه الانتخابي للنجاح والسقوط لحزبه ورؤيته ومنهجٍ سياسي أخطر موضوع في حياة أية أمة اليوم وأهمها على الساحة الدولية "استقلال ألمانيا في رؤيتها ومنهجها السياسي ومعارضتها لأميركا في خططها السياسية الدولية والإقليمية والعسكرية". حتى بلجيكا واليونان والسويد تطاولا بلسانهما في معارضة أميركا والوقوف بوجهها. وزير دفاع أكبر دولة أوروبية يقول: "لن نتحالف عسكرياً مع أميركا ما دمت وزيراً للدفاع". ويجعل هذا القول شعار حزبه السياسي في خوض
__________
(1) لا ندري إذا كان القارئ ما زال يعرف تعريف الدولة النظري بعد أن غاب ذلك التعريف عن الواقع.
(2) جنس من الكلاب صغير في حجمه معروف بالوداعة وحبه للدلال، مِغناج سهل الانقياد بالأوروبيةpoodle شكله لا يزعج الإنسان على الإطلاق، حتى الطفل لا يخاف منه. الوصف لرئيس وزرائهم ورد في ديلي تلغراف.(1/222)
الانتخابات العامة!.
موضوع انفصال ألمانيا عن أميركا أو استقلالها ليس هو الموضوع الذي يزعزع كيان أميركا الدولي. الموضوع في هذا الانفصال هو في طرح هذا الموضوع. حتى اليوم ألمانيا الدولة ـ مؤسسات الحكم فيها ـ لا تستطيع السير في هذا الانفصال لأن كثيراً منها يرتبط بأميركا مباشرة أو غير مباشرة. انفصال ألمانيا يحتاج إلى قرار شعبي أو أكثرية شعبية، هذه هي القوة الوحيدة التي هي أكبر وأقوى من سلاسل التقييد الذي عاشت ألمانيا بأسر سِواره أكثر من نصف قرن. بناء الإرادة الشعبية للوقوف بوجه أميركا هو هدف الطرح وهو من أجل إيجاد مطرقة حديدية تستطيع كسر القيد الحديدي الذي قيَّدت به أميركا ألمانيا طوال نصف قرن. هذا الطرح من أكبر دول أوروبا طاقةً وحجما(1) ـ ليس سياسياً أو عسكرياً ـ جديته وخطره على المكانة السياسية الدولية لأميركا أنه فكر يتناقل كالفيروس مع الهواء في مختلف الموجات الصوتية. خطره ليس في مكانه بل بانتشاره وتكاثر سامعي صوته وفكره والحنين إلى الذات والأهل والوطن. في نشوئه رغبة فردية بوقفة عزٍّ متساوية مع الأميركي والإنكليزي والفرنسي، وجوعةُ أمة للاعتراف بها بين الأمم، وحاجة دولة تعرف وجهتها السياسية، وحكم يعرف قوته وحلفاؤه، واقتصاد يبني علاقاته. فكر هذا الطرح كان موجوداً مكبوتاً في الحنجرة والقلم والصورة, أوروبا ومن بعدها العالم ينتظر من يعلق الجرس.
__________
(1) في السكان والاقتصاد.(1/223)
المفكرون كانوا يتوقعون أن تنبثق شعلة الثورة الأوروبية على أميركا من فرنسا. لم يكتشفوا أن شعلة الفكر في فرنسا انطفأت للأبد. اكتشاف فوكوياما مثلاً هو كمن لم يفهم لماذا يصيح الديك. هل يصيح الديك لإيقاظ النائم قبل انبلاج الفجر لمباشرة يومه في طاعةٍ لله قبل شروق الشمس؟ هل يصيح الديك عند التناوب بين الملائكة في مهماتها؟ هل لأنه تعب من الحراسة أو شبع من النوم أو أنه يوقِظُ دجاجةً لتراه في وقت تباهيه؟ في تعب فكر هكذا مفكر وصل إلى الحقيقة أن الديك يصيح لأنه آن وقت أن يبيض! بعد أن سكنت جوارِحُ رأسه في اهتزاز فرحتها سمعت أذناه قرينَهُ يقهقه ويضرب جنبيه بكفيه(1) ويتحشرج بلسانٍ يسأل: هل ديك فوكوياما يبيض! عندها هرع إلى القلم ليكتب إلى نيويورك تايمز قبل حلول ذكرى 11 أيلول بثلاثة أيام أو أربعة يسأل قبل أن يبحث في استهزاء قرينه به: هل ديكك يا فرنسيس يبيض؟ سأل في مقالته: { ماذا يحصل هنا؟ المفترض أن "نهاية التاريخ" عنت انتصار القيم والمؤسسات الغربية….. وقد خاض الحرب الباردة تحالف قام على القيم المشتركة في الحرية والديمقراطية. إلا أن هوة كبيرة انفتحت بين التصورين الأميركي والأوروبي للعالم… فيما تراجع بشكلٍ متزايد الشعور بالمشاركة في القيم{ في موقع لاحق بعد أن تتتابع في سطوره مقدمات لا يجد القارئ سبيلاً إلى فهم موقعها في عقله؛ هل هي قناعات عنده تؤدي إلى وصف استنتاجه كارثةً فكريةً، أم أنها تكرار يؤدي إلى وصف استنتاجه إحباطاً فكرياً؟ كارثة أو إحباطاً يصل إلى استنتاجٍ مهين للقارئ العادي والسياسي والذكي بل صفعة للمؤرخ الغربي أولاً وأستاذ الألسنية في معهد مساتشوستس للتكنولوجيا "عبقري الليبرالية" الثاني ـ حيث لا يوجد أول ـ أو مَنْ هو مِنْ جنسه في فكره
__________
(1) منه أخذت العاهرات عادة ضرب الجنبين في رقصة المجون وهي حركة تشمئز منها النفس وتنفِّر بدل أن ترغِّب، لكن متى تفرق الشياطين بين الترغيب والتنفير.(1/224)
ثانياً، يستخلص: " من هنا على سبيل المثال، فإن قوات حفظ السلام في يوغوسلافيا السابقة لا تمثل ترتيبات آنية بين حكومات بل إنها تعبير أخلاقي عن إرادة وقيم المجتمع الدولي الأشمل". إن هذا القول يدل على أن قائله لم يفهم لماذا كانت حرب يوغوسلافيا؟ مَنْ أشعلها، كيف تشكلت قوات حفظ السلام ولخدمة أية أهداف؟ مَنْ كان اللاعب الأول بالنار ومَنْ كان يتفرَّج؟ أين كانت روحه عندما كانت دول القِيَمِ في حفظ السلام تتفرج على قتل المسلمين؟ أين كانت أذناه وعيناه عندما توزعت دول القِيَمِ الديمقراطية والإنسانية أدوارَ منع وصول السلاح للمسلمين حتى يكتمل مخطط تقطيع أوصالهم؟ مفكِّر يتحدث عن انتصار القِيَمِ الغربية ثم يجد فجأةً أن القيم الغربية وهم توهَّمه ليس لها في الواقع وجود. كان يفهم أن الحرب الباردة كانت من أجل القيم المشتركة في الحرية والديمقراطية! لم يفهم الحرية ولم يفهم الديمقراطية لأنه لو فهم واقع الحرية والديمقراطية لفهم أن الحرية والديمقراطية تمنع الاعتراف بأي قيمةٍ غير النفعية وتمنع وجود إنسان يريد أن يحيا بقيم. لأن هذا "المفكر" عنده خيال خصب، كان يتوَّهم أن قِيَمَهُ الموهومة لها واقع، لما أفاقه صياح الديك من ضياعه في حقل سراب الفكر صدمته الحقيقة في خطة سكرتارية الحكم الفدرالي التي تفرض عالماً بدون قيمٍ وديمقراطية وحرية.
النزاهةُ والصدقُ ونُبلُ القصد عند المفكر صفات عامة في المفكرين ليست خاصة بالأميركيين، لكن التفاوت بمقاييسها هو الذي يرفع بعضهم فوق بعض. التفاوت بالمقاييس غير التلاعب بها، التلاعب هو الذي يوجد مفكرين من أمثال الستين الذين وجهوا نداءً للمسلمين فيه كل التلاعب بمقاييس النزاهة والصدق والنبل في القصد. أمثالهم ليسوا معنيين في سؤالنا: لماذا أو كيف يصل المفكر إلى هذا الإحباط وخيبة الأمل الذي وصل إليه أرقى مفكري المجتمع الأميركي؟(1/225)
هل هي جريمة الفكر أم جريمة الحكم؟؟ هل يأتي من صدقِ الحاكم أم من كذبه؟ هل هو نتيجة ممارسة الحكم أم نتيجة فرض حجة الحكم في سبب ممارسته؟
كثير من الإيضاحات في هذه المواضيع وردت متفرقة في صفحاتٍ سابقة لا حاجة لذكرها. لكن في موضوع ممارسة حاكم أميركا أهمية خاصة في بعض نقاطها يلزم فهم تأثيرها على إحباط المفكر الأميركي. لا نتوقف لاهتمامنا بالمفكر الأميركي بل لأن إحباط المفكر ينتقل إلى الأمة تدريجياً. أيضاً لا نتوقف لاهتمامنا بمعالجة الإحباط في الأمة الأميركية فهذا شأن مَنْ بقي من سياسييهم خارج قفص الخوف الذي نجح "أنكل" بإدخال كثير منهم فيه. نحن نتوقف عند هذه الممارسة حتى يفهم معنا فيلسوف "نهاية التاريخ" بداية نهاية تاريخه. عندما قرأنا فكره في نهاية التاريخ سقط عندنا فكره في دلوِ التافهين في التاريخ. إحباطه من مفاجأة اكتشافه ـ ليس تصديقه ـ انعدامَ وجود قيمٍ في سياسة أميركا وأوروبا بعث إشارةً إلى أن فيه نزاهةً وصدقاً ونبلاً وهو غير الجهل والوهم والضياع. هكذا يبقى باحثاً عن نجاةٍ مهما كانت وعورة طريقه يبقى الأمل فيه وله مثلما في غيره أو لهم واجباً في طبيعة الإنسان قبل أن ينجح حكم أميركا اليوم في تشويهها.
نعدد بعض نقاط في ممارسة الحكم الأميركي بعد 11/9 لتشويه هيكل الإنسانية في جسد إنسان أميركا. دون أن يفرق الحكم بين مفكر أو سطحي، ديمقراطي بحريةٍ أو حرٍّ بدون ديمقراطية، أميركي إنسان بقِيَمٍ أو يفتش عنها ولا يجدها، أميركي مُحبَط في تصديقه للحاكم أو أميركي محبط لأنه يعرف أن حاكمه يكذب عليه. نستعرض بعض هذه الممارسات أو قوانينها أو نتائجها ليس بالبحث بل بالتعداد وليس بالترتيب الزمني ولا بالأهمية:
قانون الأمن الوطني Patriot Act بموجبه يمكن إسكات أي فرد حتى TOM DASCHL
تحويل الفرد الأميركي إلى جاسوس متطوع، يراقب بشك كل مَنْ حوله ومعه.(1/226)
إخضاع السجلات الشخصية الطبية والتعليمية والمالية وسجل القراءة في المكتبات إلى إدارات الاستخبارات المتعددة.
قانون المدعي العام بالاحتجاز والاعتقال بدون توجيه تهمة أو تحديد مهلة.
قانون المحاكمات السرية ومنع كشف الأدلة.
فرض تدهور عام لمستوى الحريات المدنية.
تعميم الرقابة على الفرد باستباحة جميع الوسائل بإلغاء القوانين التي تمنع ذلك.
إطلاق العنصرية بدعوى الوطنية لاستهداف أعراق المسلمين.
استبدال المحاكم العسكرية بالمحاكم المدنية في محاكمة المتهمين مع التفويض لكل الوسائل في التحقيقات بما فيه التعذيب.(1/227)
الواقع الذي تفرضه هذه القوانين هو الذي يجعل أميركا تسير مسرعة ـ لأنه بقرار حكومي ـ في انحطاطٍ يتشابه كثيراً مع دول العالم الثالث. أو هو الذي يسمح لوزير خارجية أميركا السيد باول أن يقول: "إن أميركا بحاجة إلى أن تتعلم من الإجراءات الأمنية المصرية". وهو الذي يسمح لرئيس سوريا بنصح أميركا بقوله: "إن أميركا تستطيع أن تتعلم من سوريا في إجراءاتها الأمنية". هذا الواقع الذي أوجدته ممارسة الحكم الأميركي ليس واقعاً منحطاً بل مسيرة دائمة بالانحطاط لتعطيل العقل تلقائياً فيه أو لفرض تعطيل العقل عند مَنْ يصر على التعبير عن دهشته من هذا الانحطاط، أو للتعبير عن خيبة أمله من كبت إنسانية الإنسان الأميركي. هذه الممارسة في أهدافها فرض تحويل المجتمع الأميركي إلى مجتمع مرعوب حتى تستطيع أن تمارس الحكومة الفدرالية قتل البريء بدون أن تُتَّهم بجريمة العمد والدافع والقصد. المجتمع المرعوب لا يحاسب مَنْ يدافعُ عنه، في رعبه يبارك قتل غيره. في ضياعه يجعل القاتل منه سيد مجتمعه. هذا هو الانحطاط في مسيرته المستمرة التي يريد الحكم الأميركي إيصال الأمة الأميركية إليها في ممارسته القانونية والسياسية والعسكرية. هذه المسيرة التي يفرضها الحكم الفدرالي دون مبرر سياسي أو فكري أو قِيَمي هو الذي يسمح للمفكرين والسياسيين في العالم، خاصة الأوروبيين، أن يقارنوا بعفوية وموضوعية وقناعة بين رئيس النازية ورئيس أميركا.(1/228)
المفكر والسياسي الأوروبي في واقعه يستطيع أن يرفض الممارسة الأميركية. المفكر الأميركي الذي ضاع بين فكر البداية وفكر النهاية وجد نفسه أمام فكر الواقع ذليلا في تخلفه عن زميله. أدرك أن الهوة ستتسع في انحطاطه بعد أن نجحت حكومة أميركا في عكس المسار من تصاعدي يتفوق على أوروبا إلى انحداري تعلو عليه فيه أوروبا. كذا السياسي الذي اختار البقاء خارج الفدرالية لا يعرف مصيره؛ هل يتلاشى وجوده بسياسة التخويف أم بسياسة التهميش. ممارسة الحكم الأميركي حوَّلت مجتمع أميركا إلى مجتمع مرعوب. فشلت في فرض هذا الرعب على مجتمعات أوروبا. تحاول أن تفرض هذا الرعب على مجتمعات المسلمين بممارسة قتلهم والتهديد بقتلهم واحتلال بلادهم، لكن مع كل هذا القتل ومناورة حكام المسلمين لتبرير هذا القتل فشلت أميركا في فرض الرعب على الأمة الإسلامية أو الفرد المسلم. نجاحها في الداخل وفشلها في الخارج جعل الغرب غربين اثنين. يقولون أيضاً جعل حضارة الغرب حضارتين لكنهم يقولون ذلك من خبثٍ حتى يغطوا حقيقةً: أن مصالح الغرب بين فريقين. الحقيقة أن حضارة كليهما الرأسمالية وفي مقياسها النفعية، الصراع بينهما على الانتفاع وليس بين مَنْ هو حضاري وغير حضاري.(1/229)
حجة أميركا في محاربة الإرهاب "الإسلامي" هو في حقيقته ليس محاربة الدور الدولي لأوروبا وتهميشه بل هو تهميش للوجود الأوروبي. يثبت هذه الحقيقة قول أميركا في الإرهاب "إنه ليس كيان, ليس له حدود". هذا يعني أن العالم كله مكان محتمل للإرهاب. أميركا تعلن أنها ستحارب الإرهاب في حروب ستمتد إلى سنوات طويلة لا أحد يعرف متى تنتهي. هذا يعني أن أميركا تنوي فعليًا احتلال العالم لوحدها دون أوروبا لأن محاربة الإرهاب هو قضية أميركا وحدها لأن طالبان والقاعدة هاجمتا أميركا وقتلت منها. الأوروبيون يعرفون أن طالبان والقاعدة صنيعةٌ أميركية في البداية وعندما وقع التفجير وحتى اليوم طالبان والقاعدة وجميع قياداتهما حتى اليوم عملاء لأميركا ولا يتحركون ولا ينطقون إلا ضمن دورهم المرسوم في خطة أميركا لإرهاب العالم. وإن "الانتصار" باعتقال أربعة أو عشرة أو واحد مهمٍ من القاعدة كله يجري بتوقيت وعلى آمادٍ طويلة ومساعٍ مستمرة من أجل أن يكون الحدث مبرراً لخطط محاربة الإرهاب التي تقضي باحتلال العالم. كذلك الكتابات الصحفية التي تنطلق في أبحاثها وتحليلاتها من التسليم بأن القاعدة وطالبان هم وراء الأحداث ليصلوا في تبريراتهم النهائية إلى قبول ما تقوم به أميركا، أو إلى شرعنة رد الفعل الأميركي. المفكرون يدركون اليوم أن الاعتقالات التي تجري وحتى الاعترافات مهما كانت مفصلة وواقعية وصحيحة ليست الموضوع. أميركا تستطيع أن تنتج فيلماً أكثر مشابهة للحقيقة من فيلم "الجزيرة" في تصوير المطعم الذي أكل فيه فلان والفراش الذي أوى إليه رفيقه وحتى الحمام الذي لم يستعملوه. الموضوع ليس أن طالبان أو أميركا هي التي قامت بالتفجير في أميركا. الموضوع أنه إذا كانت أجهزة مخابراتية أمنية قامت بالتفجير أو قامت به طالبان أو القاعدة فإن الذي قام به في النهاية إدارة أميركية وليس إدارة غير أميركية. الحقيقة التاريخية التي لا يمكن نقضها بأي واقع أو إثبات(1/230)
أن القاعدة وطالبان جزء من الجهاز الأمني الأميركي في العالم. كل ما يصدر عنهما في الحاضر والمستقبل، كما في الماضي، وهو بتخطيطٍ وإشرافٍ أميركي مباشر. لا يقال غير مباشر بواسطة باكستان لأن التخطيط والإشراف الباكستاني هو تحت التخطيط والإشراف الأميركي المباشر. هذا الارتباط في تاريخ طالبان والقاعدة موثَّق بكل الوقائع حتى باتهام القاعدة بتفجير البارجة الأميركية والسفارتين. حتى في رد فعل أميركا وقصفها لمصنع أدوية وغرفة أو أكثر بدون سقف بحجة من هنا مرَّ أسامة. حتى لو قبضوا على عشرات الأشخاص واعترفوا أنهم قاموا بالتفجير. الواقع ينقض تفسير الحدث بغير ارتباطاته، والواقع يرفض سوء تفسير الحدث السياسي بغير قواعد الفهم السياسي. كشف التفاصيل وإرهاب العقل بتفاصيل الحدث وسائل لتوجيه العقل في غير منحى الحدث. لذلك أحداث الاعتقالات حول العالم والكشف باستمرار عن تفاصيل خطة أعدها فلان الذي اجتمع بفلان الذي يعرفه عن طريق فلان أو لأنه تزوج فلانة أمور لن تنتهي. لأن إشغال عقل الإنسان بهذه الأمور لتصديقها أو عدم تصديقها أو لفهمها هو إلهاء للناس عن أن يتذكروا حقائق البحث وقواعده التي تجزم اليوم ـ كما بالأمس ـ كما ستبقى تجزم بالمستقبل أن عمل التفجير عمل عصابة تحاول السيطرة على العالم وليس عمل جماعة يريدون إيذاء أميركا.(1/231)
قصص التاريخ الذي يتناقله الوثنيون أن " كول " الذي عاد من جزيرة الثلج ليسترجع ملكه نجح بعد أن انتصر على الشيطانة التي خدعته بأخذ الملك منه، قتلها بقبلة منه طاهرة. في مراسم تتويجه انزلق من تحت التاج الذي كان كاهن المعبد يهم بوضعه على رأسه وتوجه إلى لوحة الطين التي عليها حُفِرت قوانين الحكم. أخذ فأسه وضرب الحجر الذي كانوا يقدسون كلماته ضربة فتَّتته وبعثرته. رجع إلى منصة التتويج، لكن الكاهن كان مشغولاً باعتراضه أن هذا مخالف للقوانين، فما كان من كول إلا أن رفع فأسه ثانية وضرب صولجان الكاهن ـ عصا السلطة الكهنوتية عند الوثنيين منذ القدم ـ فكسرها نصفين. صمت الحبر الأعظم وعلامات الرعب محفورة في وجهه. عندها انفردت ملامح وجه رامسفيلد ـ عفواً ـ ملامح وجه كول، رفع فأسه وقال كلمة تشيني المأثورة ـ عفواً ـ كلمة كول المأثورة: بهذا الفأس سأحكم.] هل بسبب هذا الفأس جنَّ الرعب في امرأة العدل الألماني وهداها إلى حقيقة الإجرام في فأس ـ عفواً ـ صاروخ بوش فجعلها تصرخ صرختها التي ستتناقلها الشابات والنساء في أوروبا أنشودة للأطفال سكنى السرير؟(1/232)
أغنية أميركية تقول بالفم الملآن: " في أتلانتا تموت روحك ولا تشرق الشمس." سأل تابع الحكيم معلمه: متى تموت الروح؟ أجاب المعلم: عندما يعيش الإنسان بدون أمل. سأل التلميذ: متى تتوقف الشمس عن الشروق على الإنسان؟ قال المعلم: عندما يجهل الإنسان معنى الشروق لا يفرق بين الشروق والغروب، عندها لا يحس بالشروق ويعيش في ظلام الغروب]. ثلاثي الحكم في أميركا يحاول أن يقتل روح الحياة في الأميركي، هل ينجح؟ يسأل الجميع. لا، لن ينجحوا. نقولها بثقة ووعي لأنها خطة بدون فكر. فالفكر الذي يتراءى فيها هو خداع المكر لا خداع الفكر. مهما حاولت وسائل الإعلام التي معهم أو ضدهم أن تثبت أن فيه فكراً، نقول ليس فيه فكر، حتى ولا فكر المكر، كله خداع بدون فكر. المتتبع لجميع أقوال الثلاثي ومنابرهم وتابعيهم لا يستطيع أن يجد في محاولتهم قتل روح الحياة في الأميركي أي فكر. لا، لن ينجحوا. لأن في المجتمع الأميركي حيوية ما زالت ـ حتى إشعارٍ آخر ـ تسمح بطاقتها الذاتية للمفكرين الأفذاذ بالمقاييس الأميركية أو الغربية للتحرك. تحرك المفكر يكون بتحرك الفكر في استنباط الحجة التي تدمغ الحكم بخداع شعبه. مفكرو أميركا الكبار أمثال فوكوياما وتشومسكي وقلائل غيرهم لا فخر في ذكرهم يستطيعون التحرك بذكاء نادرٍ فيهم لوقف محاولة الحاكم الأميركي قتل روح الحياة في الأميركي. هم أيضاً حتى اليوم يستطيعون بعث الأمل في النفس الأميركية التي تموت في أتلانتا وتضاريس تكساس. هل يملكون الفكر أو الجرأة؟ موضوع تذبل في بحثه أهداب جفون كل إنسان من غير طينة زوجة العدل الألمانية. موضوع للإنسانية جمعاء أن تطرحه، لكن هل يمكن طرحه في دوخة خوف العقل وهو ينظر إلى الفأس الأميركية؟ نعم، عندما يتجاهل الناس هذه الفأس يكتشفون حقيقتها كما أعلنتها امرأة من قبيلة جرمانيا، حقيقةً عاريةً من ثوب الرياء السياسي والخداع الفكري والنفاق الاجتماعي.(1/233)