m
مقدمة :
الحمد لله الذي خلق الإنسان وكرمه ، وشرفه وفضله ، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين .. وبعد :
فإن قضية "حقوق الإنسان" من أكبر القضايا التي تشغل العالم اليوم بمختلف دوله وشعوبه ، ودياناته وجنسياته ، وفئاته وطبقاته ، بين محقّ فيها ومبطل ، واستناداً لهذا المصطلح "حقوق الإنسان" ، ضيعت حقوق وواجبات ، وأشعلت حروب وأزهقت نفوس ، بل وأزيلت دول واستبدلت أنظمة ، ونتيجة لتسلط العالم الغربي بطرحه الفكري والإعلامي وقوته المادية ، شاب هذه القضية الشوائب ، واستغلت من قِبَله أبشع استغلال.
ولا شك أن دراسة قضية "حقوق الإنسان" مهمة للغاية لما ذكر آنفاً ، وقبل ذلك لأن الشريعة الإسلامية قد راعت حقوق الإنسان أفضل مراعاة ، وسبقت بذلك القوانين الدولية والأنظمة الوضعية ، ذلك أن الإسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله ديناً سواه ، وهو المنهج الشامل الكامل الصالح لكل زمان ومكان ، قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } (1) وقال سبحانه : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (2) وقال أيضاً : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } (3) .
ونظراً لما تقدم من أهمية هذا الموضوع فقد رأيت بيان شيء من منهج القرآن الكريم في مراعاة حقوق الإنسان ، مشاركة مني في مؤتمر ( حقوق الإنسان في السلم والحرب ) الذي تنظمه جمعية الهلال الأحمر السعودي ، ضمن المحور الخامس :( القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان من منظور إسلامي ) وقد جعلت عنوان المشاركة:
( حقوق الإنسان : مفهومه وتطبيقاته في القرآن الكريم )
ويمكن تلخيص أسباب اختياري للموضوع في النقاط الآتية :
__________
(1) آل عمران : 19 .
(2) آل عمران : 85 .
(3) المائدة : 3 .(1/1)
1) أن الإسلام هو أفضل شريعة وأقوم دين وأعدل منهج راعى حقوق الإنسان ، قال تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } (1) وقال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } (2) .
2) استغلال العالم الغربي لهذه القضية وتجييرها لتحقيق أهدافه المعلنة والخفية ضد الإسلام وأهله .
3) وجود فرق شاسع ، وبون واسع ، بين منهج القرآن ، ومنهج القانون الدولي في مفهوم حقوق الإنسان وتطبيقاته العملية .
أما منهجي في هذه الدراسة فكان على النحو التالي :
1- جمعت الآيات القرآنية ذات العلاقة بموضوع البحث ، سواء كانت دلالتها صريحة أو متضمنة .
2- درست تلك الآيات وصنفتها تصنيفاً موضوعياً بحسب مباحث الدراسة .
3- راجعت أشهر كتب التفسير وأسلمها منهجاً للوقوف على معنى الآية والتأكد من صحة الاستدلال والاستنباط .
4- جعلت الأصل الذي أحتكم إليه وأقوم عليه القوانين : هو النص الشرعي : (الكتاب والسنة) وفق فهم السلف الصالح له .
5- حرصت على أن يكون منطلق الدراسة هو آيات القرآن التي جمعتها في الموضوع ، ولذا فقد التزمت بعدم الاعتماد على الكتب المعاصرة المؤلفة في "حقوق الإنسان" لبعد كثير منها عن هذا المنهج ، وخشية التأثر ببعض طرحها ، وإنما اطلعت على بعضها بعد إنهاء البحث لتتميم بعض ما نقص منه .
6- والتزاماً بمنطلق الدراسة: "آيات القرآن" وطلباً للاختصار فإني لم أكثر من إيراد الأحاديث النبوية إلا ما لزم ذكره . علماً بأن جمع الأحاديث المتعلقة بحقوق الإنسان تكوّن رسائل علمية متعددة ، والله أعلم .
7- اطلعت على نصوص القوانين الدولية مثل :( الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) ، و (إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام) ، وغيرها من المعاهدات والمواثيق الدولية، لتعلقها بموضوع البحث .
__________
(1) الإسراء : 9 .
(2) الأنعام : 115 .(1/2)
8- اختصرت أسماء الكتب في الهوامش لطولها وتكرارها ، مثل: "تفسير الطبري" بدل "جامع البيان في تأويل القرآن" ونحوه .
9- تركت ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في ثنايا البحث اختصاراً ، ولشهرتهم، واكتفيت بذكر المصنفين منهم في فهرس المراجع والمصادر .
10- استنبطت النتائج المتعلقة بموضوع البحث وسطرتها في مباحثه ولخصت أهمها في خاتمته .
11- ذكرت قائمة بالمراجع والمصادر التي أفدت منها في هذه الدراسة .
وأما خطة البحث فهي على النحو الآتي :
المبحث الأول : مفهوم "حقوق الإنسان" ويتضمن الآتي:
المطلب الأول: مفهوم "الحقوق" وإطلاقاته في القرآن الكريم .
المطلب الثاني: مفهوم "الإنسان" وإطلاقاته في القرآن الكريم .
المطلب الثالث: تأصيل مفهوم "حقوق الإنسان" في القرآن الكريم .
المطلب الرابع: مفهوم "حقوق الإنسان" في القانون الدولي .
المطلب الخامس: مقارنة بين المفهومين .
المبحث الثاني: تطبيقات "حقوق الإنسان" في القرآن الكريم ، ويتضمن الآتي :
المطلب الأول: تكريم الإنسان في القرآن الكريم .
المطلب الثاني: أصناف الناس بالنسبة للحقوق في القرآن الكريم .
المطلب الثالث: أنواع الحقوق التي راعاها القرآن الكريم .
المطلب الرابع: تقويم تطبيقات القانون الدولي في ضوء القرآن الكريم .
وأخيراً الخاتمة وفيها أهم النتائج ، ثم قائمة المراجع والمصادر .
والحمد لله رب العالمين .
المبحث الأول :
مفهوم "حقوق الإنسان"
المطلب الأول: مفهوم الحقوق وإطلاقاته في القرآن الكريم :
أولاً: تعريف الحقوق لغة :
قال الجوهري :( الحق: خلاف الباطل ، والحق: واحد الحقوق ) (1) . وقال ابن منظور
:( الحق: نقيض الباطل ، وجمعه حقوق وحقاق ) (2) اهـ .
__________
(1) الصحاح: 4/ 1460 .
(2) اللسان: 3/ 255 .(1/3)
إذاً فالحقوق جمع حق ، والحق له إطلاقات عديدة في اللغة ، منها ما ذكره الفيروز آبادي حيث قال :( الحق: من أسماء الله تعالى أو صفاته ، والقرآن ، وضد الباطل ، والأمر المقضي ، والعدل ، والإسلام ، والمال ، والملك ، والموجود الثابت ، والصدق ، والموت ، والحزم ، وواحد الحقوق . والحَقَّةُ أخصُ منه وحقيقة الأمر . وقولهم: عند حقِّ لقاحها ويكسر أي حين ثبت ذلك فيها ) (1) .
ومن خلال ما تقدم من معانٍ لهذه المفردة "الحق" ، يمكن القول بأن المعنى اللغوي الأقرب لموضوع البحث من تلك الإطلاقات ، هو أن "الحق" معناه: الأمر الواجب ، والشيء الثابت .
ويدل على صحة هذا الإطلاق اللغوي ، قول الجوهري :( وحق الشيء يحِقُّ بالكسر ، أي وجب ، وأحققت الشيء ، أي أوجبته ، واستحققته ، أي استوجبته ) (2) ويؤيده قول ابن منظور :( وحق الشيء يحقُّ ، بالكسر ، حقاً: أي وجب ، ... واستحق الشيء: استوجبه ) (3) اهـ .
وقال الفيومي :( الحق: خلاف الباطل ، وهو مصدر حق الشيء من بابي ضرب وقتل إذا وجب وثبت ، ولهذا يقال لمرافق الدار حقوقها ... وفلان حقيق بكذا بمعنى خليق وهو مأخوذ من الحق الثابت ) (4) .
وقال المناوي :( الحق لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ) (5) .
ثانياً: تعريف الحقوق اصطلاحاً :
تطلق "الحقوق" اصطلاحاً على معان عدة ، وباعتبارات مختلفة ، وترجع تلك الإطلاقات إلى معنيين أساسين :
__________
(1) القاموس المحيط: 3/ 228 .
(2) الصحاح: 4/ 1461 .
(3) اللسان: 3/ 258 .
(4) المصباح المنير: ص55 .
(5) التوقيف على مهمات التعريف: ص287 .(1/4)
1) المعنى الأول باعتبار مادتها فتكون هي: مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال (1) .
وهي بهذا المعنى تقارب معنى (الحكم) في اصطلاح الأصوليين (2) ، ومعنى (القانون) في اصطلاح القانونيين (3) .
2) المعنى الثاني باعتبار أثرها ومن تجب له ، فتكون هي: المطلب الذي يجب لأحد على غيره (4) . وهي بهذا المعنى تقارب تعريف "الحكم" في اصطلاح الفقهاء (5) .
وقد عرف "الحق" بمعناه العام بأنه : اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً (6) .
قال الجرجاني :( الحق في اللغة هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وفي اصطلاح أهل المعاني هو الحكم المطابق للواقع . يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ) (7) .
ثالثاً: إطلاقات "الحق" في القرآن :
ورد لفظ "الحق" ومشتقاته في القرآن الكريم في 288 موضعاً (8) ، وأطلق على عدة معان منها :
__________
(1) المدخل الفقهي العام ، لمصطفى الزرقا : 3/ 9-10 ، وانظر زيادة في التعريفات في : "الإسلام وحقوق الإنسان" ، د/ القطب محمد : ص35 ، المدخل للفقه الإسلامي ، د/ عبدالله الدرعان : ص237 وما بعدها .
(2) انظر: علم أصول الفقه ، لعبدالوهاب خلاف : ص100 ، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي : ص7 .
(3) انظر التشريع والفقه في الإسلام ، لمناع القطان : ص13 .
(4) المدخل الفقهي : 3/ 9-10 ، "الإسلام وحقوق الإنسان" ، د/ القطب محمد : ص35 .
(5) انظر علم أصول الفقه ، لخلاف : ص100 .
(6) المدخل الفقهي : 3/ 10 ، "الإسلام وحقوق الإنسان" ، د/ القطب محمد : ص35 .
(7) التعريفات ، للجرجاني : ص89 .
(8) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ص208-212 .(1/5)
1- الله سبحانه وتعالى ، على أنه اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، قال تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم ... } (1) الآية ، وقال : { فتعالى الله الملك الحق } (2) ، وقوله تعالى
: { ذلك بأن الله هو الحق } (3) ، وقوله أيضاً : { فذلكم الله ربكم الحق } (4) .
2- الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كما في قوله تعالى : { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم } (5) على أحد الأقوال فيها ، وقوله تعالى : { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ... } (6) الآية .
3- القرآن : كما في قوله تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل } (7) على أحد الأقوال فيها ، وعلى قول آخر في آية الأنعام المتقدمة :( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ) .
4- الدين القويم : قال تعالى : { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } (8) ، وقال : { وتواصوا بالحق } (9) .
5- العدل : كما في قوله سبحانه : { وقضى بينهم بالحق } (10) ، وقوله : { والوزن يومئذ الحق } (11) .
6- الصدق واليقين : قال تعالى : { إن هذا لهو القصص الحق } (12) ، وقال : { فورب
السماء والأرض إنه لحق } (13) ، وقال : { وعد الله حقاً } (14) .
__________
(1) المؤمنون : 71 ، وانظر تفسير الطبري : 9/ 234 .
(2) المؤمنون : 116 ، وانظر تفسير الطبري : 9/ 253 .
(3) لقمان : 30 .
(4) يونس : 32 ، وانظر تفسير الطبري : 6/ 559 .
(5) الأنعام : 5 ، وانظر تفسير الطبري : 5/ 149 .
(6) القصص : 48 ، وانظر تفسير الطبري : 10/ 79 .
(7) الإسراء : 81 ، وانظر تفسير الطبري : 8/ 138 ، زاد المسير : 5/ 78 .
(8) المؤمنون : 70 ، انظر فتح القدير ، للشوكاني : 3/ 492 .
(9) العصر : 3 .
(10) الزمر : 69 .
(11) الأعراف : 8 ، وانظر تفسير الطبري : 5/ 432 .
(12) آل عمران : 62 ، وانظر تفسير الطبري : 3/ 296 .
(13) الذاريات : 23 .
(14) النساء : 122 ، وانظر تفسير الطبري : 4/ 286 .(1/6)
7- النصر والتأييد : كما في قوله سبحانه : { حتى جاء الحق وظهر أمر الله } (1) .
8- الواجب كما في قوله تعالى : { حقاً على المتقين } (2) ، وقوله : { حقاً على المحسنين } (3) .
9- التوحيد : كما في قوله تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } (4) .
10- الحجج والبراهين : قال تعالى : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } (5) ، وقال أيضاً : { نزل عليك الكتاب بالحق } (6) على قول فيها .
11- الأمر الواضح : كما في قوله تعالى : { قالوا الآن جئت بالحق } (7) .
12- الواقع المتحقق : كما في قوله سبحانه : { قد جعلها ربي حقاً } (8) ، وقوله
: { ذلك اليوم الحق } (9) .
13- الخبر اليقين: كما في قوله تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } (10) .
هذه بعض إطلاقات "الحق" في القرآن الكريم ، مع ملاحظة أن بعضها قد يدخل ضمن بعض ، فمثلاً حين نفسر "الحق" بالدين القويم لابد أن يدخل في معناه: القرآن ، والرسول ، والعدل ، والصدق ، ونحو ذلك ، وهنا تختلف أقوال المفسرين اختلاف تنوع لا حرج فيه ، كما قرره أهل العلم (11) .
__________
(1) التوبة : 48 ، وانظر تفسير الطبري : 6/ 385 .
(2) البقرة : 180 ، وانظر تفسير الطبري : 2/ 121 .
(3) البقرة : 236 ، وانظر تفسير الطبري : 2/ 553 .
(4) الزخرف : 86 ، وانظر تفسير الطبري : 11/ 218 .
(5) البقرة : 42 ، وانظر تفسير الطبري : 1/ 295 ، فتح القدير : 1/ 75 .
(6) آل عمران : 3 ، وانظر فتح القدير : 1/ 312 .
(7) البقرة 71 ، وانظر تفسير الطبري : 1/ 396 .
(8) يوسف : 100 ، وانظر تفسير الطبري : 7/ 304 .
(9) النبأ : 39 ، وانظر تفسير الطبري : 12/ 417 .
(10) البقرة : 252 ، وانظر تفسير الطبري : 2/ 648 .
(11) انظر مقدمة أصول التفسير لابن تيمية : ص11-14 .(1/7)
فائدة : دلت بعض آيات الحقوق في القرآن الكريم ، على أن الله تعالى أوجب على نفسه حقوقاً وواجبات للعبد ، وذلك على سبيل التفضل والإنعام والإحسان والامتنان منه سبحانه وتعالى ، وليس على سبيل المقابلة ، فإن الله لا مكره له ، وليس فوقه آمر بأمره أو ناه ينهاه ، وأمثلة هذه الحقوق ما جاء في قوله تعالى : { وكان حقاً علينا نصر
المؤمنين } (1) ، قال ابن كثير :( أي حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً ) (2) ، ومنه قوله تعالى : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } (3) ، قال القرطبي :( أي أوجب ذلك بخبره الصادق ووعده الحق ) (4) ، وقال ابن كثير :(أي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً) (5) ، ومنه ما جاء في حديث معاذ - رضي الله عنه - حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :( يا معاذ ، هل تدري حقَّ الله على عباده وما حق العباد على الله ، ... إلى أن قال :( ... وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً ) (6) ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :( كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ، ليس هو استحقاق مقابلة ، كما يستحق المخلوق على المخلوق ) (7) اهـ .
المطلب الثاني :
مفهوم "الإنسان" وإطلاقاته في القرآن الكريم
أولاً: تعريف "الإنسان" لغة :
__________
(1) الروم : 47 .
(2) تفسير ابن كثير : 3/ 446 .
(3) الأنعام : 54 .
(4) الجامع لأحكام القرآن : 6/ 435 .
(5) تفسير ابن كثير : 2/ 140 .
(6) أخرجه البخاري : ك الجهاد ، باب اسم الفرس والحمار (الفتح : 6/ 58) واللفظ له ، ومسلم : ك الإيمان (30) .
(7) نقلاً عن مفتاح دار السعادة لابن القيم : ص430 .(1/8)
قال الجوهري :( الإنس : البشر ، الواحد إنْسيٌ وأنَسِيٌ ، فتكون الياء عوضاً من النون ، وقال تعالى : { وأناسيَّ كثيراً } (1) وكذلك الأناسية ، مثل الصيارفة والصياقلة . ويقال للمرأة أيضاً إنسان ، ولا يقال إنسانة ، والعامة تقوله ) (2) اهـ .
وقال الفيروز آبادي :( الإنس : البشر كالإنسان ، الواحد إنْسِيٌّ وأنَسِيٌّ ) (3) اهـ .
وقال الفيومي :( والإنسان من الناس اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع، واختلف في اشتقاقه مع اتفاقهم على زيادة النون الأخيرة ، فقال البصريون : من الأنس، فالهمزة أصل ووزنه فعلان ، وقال الكوفيون : مشتق من النسيان ، فالهمزة زائدة ووزنه افعان على النقض ، والأصل: إنسيان على إفعلان ، ولهذا يرد إلى أصله في التصغير ، فيعال أنيسيان ) (4) .
وقال في تعريف "الناس" :( الناس: اسم وضع للجمع ، كالقوم والرهط ، وواحده إنسان من غير لفظه ، مشتق من ناس ينوس ، إذا تدلى وتحرك ، فيطلق على الجن والإنس ، قال تعالى : { الذي يوسوس في صدور الناس } (5) ثم فسر "الناس" بالجن والإنس فقال : { من الجنة والناس } (6) اهـ .
ثانياً: تعريف "الإنسان" اصطلاحاً :
قال الجرجاني :( الإنسان: هو الحيوان الناطق ) (7) ، ويعني بالناطق هنا: الفاهم ، أي الذي يعقل ويفهم .
ثالثاً: إطلاقات "الإنسان" في القرآن :
ورد لفظ "الإنسان" ومشتقاته في القرآن في (90) موضعاً (8) وتكرر لفظ (الناس) الذي واحده "إنسان" -من غير لفظه كما تقدم (9) - : (241) مرة .
ومجمل الألفاظ التي جاءت ومعانيها على النحو الآتي :
__________
(1) الفرقان : 49 .
(2) الصحاح : 3/ 904 .
(3) القاموس المحيط : 2/ 205 .
(4) المصباح المنير : ص10 .
(5) الناس : 5 .
(6) المصباح المنير : ص241 .
(7) التعريفات : ص38 .
(8) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن : ص93-94 .
(9) أي في قول الفيومي في المصباح المنير : ص241 .(1/9)
1- الإنسان : وتكرر (65) مرة ، والغالب فيها إطلاقه على جنس البشر ، كقوله تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفاً } (1) ، وقوله : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإٍ مسنون } (2) ، وقوله : { إن الإنسان لفي خسر } (3) ونحوها .
كما أطلق لفظ "الإنسان" على أفراد من البشر بأعيانهم ، وتبين لنا هذا التخصيص من خلال المرويات الصحيحة لأسباب نزول الآيات ، على أنه لابد من إعمال قاعدة
:( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) (4) ، وكان ذلك الإطلاق على ضربين :
أ) إطلاقه على فرد مسلم : ومثاله قول الله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ... } (5) الآية .
- فهذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، قال :( قالت أم سعد لسعد : أليس الله قد أمر بالبر ، فوالله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر ، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ، ثم أوجروها (6) ، فنزلت هذه الآية
: { ووصينا الإنسان بوالديه } ) (7) .
- كما جاء في روايات أخر أن آية العنكبوت قد نزلت فيه أيضاً ، وهي قوله تعالى
:
__________
(1) النساء : 28 .
(2) الحجر : 26 .
(3) العصر : 2 .
(4) انظر: الإتقان للسيوطي : 1/ 102 ، البرهان للزركشي : 1/ 24-32 .
(5) لقمان : 14-15 .
(6) معنى (شجروا فاها) أي: أدخلوا في شجْره عوداً حتى يفتحوه به ، والشجْر: مفْتح الفم ، وقيل: هو الذقن . (انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير : 2/ 446 ، وقوله: (أوجروها) : الوجور: أن تسقى من وسط الفم . (انظر غريب الحديث لابن الجوزي : 2/ 455 .
(7) أخرجه الطبري في تفسيره: 10/ 211 ،البخاري في الأدب المفرد برقم 24 (وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص40) .(1/10)
{ ووصينا الإنسان بوالديه حسناً ... } (1) الآية (2) .
ب) إطلاقه على فرد كافر : ومن أمثلته :
1- قوله تعالى : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } (3) إلى آخر السورة .
فهذه الآية وما بعدها نزلت في العاص بن وائل السهمي ، فعن سعيد بن جبير قال: جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائل (4) ، ففته بين يديه ، فقال: يا محمد أيبعث الله هذا حياً بعدما أرم ؟ قال: نعم يبعث الله هذا ، ثم يميتك ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم ، قال: ونزلت الآيات : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } (5) . وقيل إن الآية نزلت في أبي بن خلف الجمحي ، بنحو هذه القصة (6) .
2- قوله تعالى : { كلا إن الإنسان ليطغى ( أن رآه استغنى } (7) إلى آخر السورة .
__________
(1) العنكبوت : 8 .
(2) انظر: صحيح مسلم برقم 1748 ، الترمذي : 5/ 341 ، تفسير البغوي : 6/ 234 .
(3) يس : 77 .
(4) "بعظم حائل" : أي متغير قد غيره البِلى . (انظر النهاية في غريب الحديث : 1/ 463 .
(5) أخرجه الطبري في تفسيره : 10/464 ، والحاكم في المستدرك : 2/ 429 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وصححه مقبل الوادعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" : ص125 .
(6) انظر: تفسير الطبري : 10/ 464 ، أسباب النزول للواحدي : ص423 .
(7) العلق : 6-7 .(1/11)
فهاتان الآيتان وما بعدهما ، نزلت في أبي جهل ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قال فقيل: نعم ، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، أو لأعفرنّ وجهه في التراب . قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلّي ، زعم لِيطأ على رقبته ، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه . قال فقيل له: ما لك ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ) . قال فأنزل الله عز وجل : { كلا إن الإنسان ليطغى ... } إلى آخر الآيات (1) .
- ومما يلحظ في إطلاق لفط "الإنسان" في القرآن وصفه بصفات مذمومة ، أي إطلاقه على الإنسان المتمرد على طاعة ربه ، أو المقصر فيها ، بينما ذكر الإنسان المسلم السوي في مئات المواضع من كتاب الله (2) ، ووصف بصفات محمودة فاضلة ، كلفظ :( المؤمنين ، المسلمين ، المتقين ، المحسنين ، الصابرين ، الصادقين، ... ) ونحوها .
ومن تلك الإطلاقات الموصوفة للفظ (الإنسان) في القرآن ما يلي:
- قوله تعالى : { إن الإنسان لظلوم كفار } (3) .
- قوله تعالى : { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } (4) .
- قوله تعالى : { وكان الإنسان قتوراً } (5) .
- قوله تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } (6) .
- قوله تعالى : { ... وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } (7) .
__________
(1) أخرجه مسلم : برقم 2797 (4/2154ك صفات المنافقين) ، البغوي : 8/ 480 وغيرهما .
(2) أطلق لفظ (الإيمان - المؤمن) ومشتقاتها في القرآن في نحو 400 موضع . (انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن : ص81-93 .
(3) إبراهيم : 34 .
(4) الإسراء : 11 .
(5) الإسراء : 100 .
(6) الكهف : 54 .
(7) الأحزاب : 72 .(1/12)
- قوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } (1) .
- قوله تعالى : { إن الإنسان لربه لكنود } (2) .
2- "الناس" : وهو جمع للفظ "الإنسان" من غير لفظه (3) ، وتقدم أنه تكرر في القرآن
(241) مرة ، والغالب إطلاقه على الإنس من البشر ، وقد يطلق على الجن والإنس (4) ،
كما في قوله تعالى : { الذي يوسوس في صدور الناس ( من الجنة والناس } (5) .
فالأصل في إطلاقه إرادة جنس البشر ، فيدخل فيه المؤمن والكافر والعاصي والفاجر ونحوهم ، كقوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم .. } (6) الآية. وقوله : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه .. } (7) الآية . وقوله : { إن الله لا يظلم الناس شيئاً } (8) .
- كما أطلق لفظ (الناس) على قوم معينين ، كإطلاقه على المنافقين خاصة في قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين } (9) ، وإطلاقه على الكفار خاصة في قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } (10) وإطلاقه على المؤمنين خاصة كقوله تعالى : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } (11) .
- كذلك أطلق هذا اللفظ على أفراد بأعيانهم ، إما مسلمين كما في قوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } (12) فقد جاء في تفسير المقصود "بالناس" في الآية أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، قال به ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك (13) .
__________
(1) المعارج : 19 .
(2) العاديات : 6 .
(3) انظر تفسير الطبري : 1/ 149 .
(4) انظر المصباح المنير : ص241 ، وتقدم قريباً .
(5) الناس : 5-6 .
(6) البقرة : 21 .
(7) آل عمران : 9 .
(8) يونس : 44 .
(9) البقرة : 8 .
(10) البقرة : 165 .
(11) البقرة : 143 .
(12) النساء : 54 .
(13) انظر تفسير الطبري : 4/ 141 ، تفسير البغوي : 2/ 236 .(1/13)
وأطلق كذلك على أفراد كافرين ، كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا .. } (1) الآية .
فالمراد بـ"الناس" الأول نعيم بن مسعود ،كما قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما (2) .
3- "الإنس": وقد ورد في القرآن في (19) موضعاً (3) ، وهو يطلق في مقابلة "الجن" (4) ،
لذا فجميع المواضع المشار إليها قرن فيها بين اللفظين :(الإنس ، الجن) ومنها :
- قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن } (5) .
- قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } (6) .
- قوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } (7) .
4- "أناسي":وهو جمع إنسان (8) ، وقد ورد مرة واحدة في قوله تعالى : { ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً } (9) .
5- "أناس": وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده "إنسان" (10) ، وقد تكرر خمس مرات في القرآن ، منها قوله تعالى : { قد علم كل أناسٍ مشربهم } (11) .
المطلب الثالث:
تأصيل مفهوم حقوق الإنسان في القرآن الكريم
__________
(1) آل عمران : 173 .
(2) انظر تفسير البغوي : 2/ 138 .
(3) انظر المعجم المفهرس : ص94،93 .
(4) انظر المصباح المنير : ص10 .
(5) الأنعام : 112 .
(6) الأعراف : 179 .
(7) الرحمن : 74 .
(8) انظر تفسير الطبري : 9/ 397 .
(9) الفرقان : 49 .
(10) انظر تفسير الطبري : 1/ 347،149 .
(11) البقرة : 60 .(1/14)
لقد تقدم فيما سبق بيان معنى "الحقوق" اصطلاحاً ، وتطبيقاً لذلك المعنى بإطلاقه على ما ورد في القرآن الكريم ، يتبين لنا أن هناك نصوصاً شرعية كثيرة وردت على سبيل الإلزام في تنظيم علاقات الناس فيما بينهم من النواحي الشخصية والاجتماعية والمالية وغيرها ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي الأول "للحقوق" ، كما أن هذه النصوص نفسها حددت المطالب الواجبة لأحد أو لصنف من الناس على غيرهم ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي الثاني "للحقوق" ، وفيما يلي أذكر بعضاً من تلك النصوص الشرعية القرآنية، مشيراً إلى تطبيق هذين المعنيين من خلالها :
1) قول الله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون } (1) فهذا النص القرآني يتضمن ذكر واجبات ومطالب ، جاءت على سبيل الإلزام المؤكد بأخذ الميثاق والعهد الشديد على بني إسرائيل بأن يؤدوا ما أمروا به وافترض عليهم في الآيات (2) ، وقد تقدم في السورة نفسها ذكر هذا الميثاق والأمر بالأخذ به بجد وقوّة ، كما قال تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } (3) .
قال الطبري :( فتأويل الآية إذاً : خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض فاقبلوه ، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه ، من غير تقصير ولا توان ، وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة ، بجدٍ ) (4) اهـ .
__________
(1) البقرة : 83-84 .
(2) انظر تفسير الطبري : 1/ 432 ، البغوي : 1/ 117 .
(3) البقرة : 63 .
(4) تفسير الطبري : 1/ 368 .(1/15)
وظاهر من خلال الآيات أن بعض ما ذكر فيها ، إنما ورد في تنظيم علاقات الناس فيما بينهم من الناحية الاجتماعية كالأمر بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين ، والأمر بالقول الحسن ، أو من الناحية المالية كالأمر بإيتاء الزكاة ، أو من الناحية الشخصية كالنهي عن قتل النفس ، وكل ذلك داخل في مفهوم "حقوق الإنسان" تطبيقاً للمعنى الاصطلاحي .
وقريب مما جاء في تلك الآيات ؛ ما ورد في الآيات الجوامع للوصايا والحقوق والواجبات ، ومنها :
2) آية الحقوق في سور النساء ، وهي قوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم } (1) .
3) ومثلها آيات الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام ، وهي قوله تعالى : { قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } (2) .
4) ومثلها أيضاً وصايا سورة الإسراء ابتداء من قوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً .. } إلى قوله : { .. كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } (3) .
__________
(1) النساء : 36 .
(2) الأنعام : 151-152 .
(3) الإسراء : 23-38 .(1/16)
- وجملة ما في الآيات المتقدمة : أنها تتضمن حقوقاً ومطالب وواجبات ، أُمر بها المسلم على سبيل الإلزام ، جاءت لتنظيم علاقات الناس فيما بينهم من النواحي المختلفة ، فقد أشارت الآيات إلى بعض حقوق أصناف من الناس كالوالدين والقرابة واليتامى والمساكين والجار القريب والجار الغريب والصاحب الصديق والمسافر المنقطع والعبيد والإماء ، فلكل صنف من هؤلاء حقوق خاصة به ، أشير إليها بإجمال في الآيات ، كقوله مثلاً : { وآت ذا القربى حقه } (1) ، وحقه : صلته وبره والعطف عليه (2) ، وقد جاء تفصيل تلك الحقوق وبيانها في آيات أخر وفي السنة النبوية ، وظهر تطبيقها العملي في السيرة العطرة ، وأفرد العلماء كتباً وأبواباً ومصنفات لجمع تلك الحقوق وشرحها وتوضيحها وبيان أحكامها (3) .
- ومن جهة أخرى: فقد تضمنت الآيات حقوقاً عامة جاء الأمر بها والنهي عن ضدها على سبيل الإلزام ، منها: العدل ، والوفاء بالعهد ، وحفظ النفس ، وتحريم قتلها بغير حق، ووفاء الكيل ، والميزان بالعدل والقسط ، ونحوها .
5) ومن النصوص القرآنية التي وردت على سبيل الإلزام في تنظيم بعض "حقوق الإنسان" المالية ، وبيان أصناف الناس المستحقين ؛ آية الصدقات ، وهي قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } (4) .
__________
(1) الإسراء : 26 .
(2) انظر تفسير الطبري : 8/ 67 .
(3) ومن تلك الكتب المفردة على سبيل المثال : (الآداب الشرعية والمنح المرعية) لابن مفلح ، (أدب الدنيا والدين) للماوردي ، إضافة إلى كتب ضمن مصنفات العلماء مثل: كتاب (الأدب ، الزكاة ، الفرائض ، النفقات ) ونحوها من صحيح البخاري وغيره .
(4) التوبة : 60 .(1/17)
فهذه الآية ذكرت المطلب الواجب وهو (الصدقات) ، ثم حددت الأصناف الثمانية التي تصرف لها هذه الصدقات ، ثم أكدت الإلزام بذلك التحديد بقوله تعالى
: { فريضة من الله } : أي حكم مقدر لازم ، قسمة الله وفرضه على عباده ونهاهم عن مجاوزته (1) .
6) ومن الآيات العامة التي وردت في تأكيد حق المرأة -خاصة- على الرجل ؛ قول الله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } (2) ، والمعنى: أي للنساء على الرجال من الحق ،مثل ما للرجال عليهن ،فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف (3) .
إن تلك النصوص القرآنية وغيرها ، إضافة إلى أضعافها من النصوص التفصيلية الواردة في السنة النبوية ، تؤصل بمجموعها مفهوم "حقوق الإنسان" في الإسلام ، كما أنها تحدد هذه الحقوق وتبين أنواعها وتفصل أحكامها ، وأقسام الناس بالنسبة لها ، كما سيأتي تفصيله .
المطلب الرابع :
مفهوم "حقوق الإنسان" في القانون الدولي :
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير : 2/ 366 ، فتح القدير للشوكاني : 2/ 373 .
(2) البقرة : 228 .
(3) تفسير ابن كثير : 1/ 271 بتصرف يسير .(1/18)
إن من الثابت تاريخاً وواقعاً ، أن فكرة "حقوق الإنسان" ظهرت جزئياً لدى العالم الغربي في القرن الثالث عشر الميلادي ، الموافق للقرن السابع الهجري ، وكان ذلك نتيجة ثورات طبقية وشعبية في أوروبا ، ثم ظهرت في أمريكا في القرن الثالث عشر الميلادي ، لمقاومة التميز الطبقي والتسلط السياسي والظلم الاجتماعي (1) ، أي أن الفكرة ظهرت متأخرة أصلاً ، وأنها كانت نتيجة معطيات وإفرازات وممارسات سلبية شاعت في المجتمع الغربي ، وحلاً لتلك المشكلات تولدت قضية "حقوق الإنسان" ، وهذا المنطلق للفكرة وحده يعد كافياً في بيان مدى الخلل والقصور ، الذي لحق مفهوم "حقوق الإنسان" في القانون الدولي الذي تنادى له العالم الغربي ، وبقراءة نص "الإعلان العالم لحقوق الإنسان" الصادر من هيئة الأمم المتحدة في 10ديسمبر عام 1948م (2) ، يمكن أن نستخلص الأتي فيما يتعلق بمفهوم "حقوق الإنسان" في القانون الدولي :
1- أن معنى "الحقوق" في القانون الدولي هو عبارة عن مجموعة من القواعد والنصوص التي تهدف للوصول إلى المستوى المشترك في توطيد احترام الإنسان وتحقيق الحرية والعدل والسلام في العالم .
__________
(1) انظر "حقوق الإنسان" للزحيلي : ص101 .
(2) انظر نص "الإعلان" في ملحقات البحث ، وهو مأخوذ من موقع الأمم المتحدة على شبكة الإنترنت : www.un.org/arabic .(1/19)
وهذا المعنى يؤخذ من موضعين في ديباجة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" فقد جاء في أولها :( لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم .. ) ، وجاء في آخرها :( .. فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع -واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم- إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات .. ) الخ .
2- أن هذا المعنى يتفق مع المعنى الاصطلاحي "للحقوق" بإطلاقية ، من جهة كونه مجموعة مواد ونصوص وضعت لتنظيم بعض علاقات الناس ، ومن جهة كونه يشتمل على مطالب لأحد على غيره ، لكنه قد يختلف من جهة أخرى مهمة ؛ وهي كون مواده ونصوصه عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية غير واجبة ولا ملزمة ، فالإعلان العالمي نفسه ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم ، وليس له ضمانات تحميه من الانتهاك والتعدي عليه (1) .
ولذا فإن الدول الكبرى تمارس عليه حق النقض (الفيتو) متى شاءت ، وخاصة إذا كان الأمر متعلقاً بحقوق المسلمين كما هو الحال في قضية فلسطين وغيرها (2) .
3- أن هذا المفهوم ينطلق من شعارات الديمقراطية المشهورة :(الحرية ،الإخاء ،المساواة) ، ويظهر هذا جلياً من خلال ديباجة "الإعلان العالمي" ومواده ، والتي منها على سبيل المثال:
- جاء في الديباجة :( لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ) .
__________
(1) انظر "حقوق الإنسان" للحقيل : ص88-89 .
(2) انظر "حكم الزنا في القانوان وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب" ، د/ عابد السفياني : ص78-79 .(1/20)
- وفيها أيضاً :( وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة ) .
- وفيها :( وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية ) .
- وجاء في المادة الأولى منه :(يولد جميع الناس أحراراً ، متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء).
- وجاء في المادة الثانية منه :( لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان ، دون أي تمييز ، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين ... ، دون أي تفرقة بين الرجال والنساء ) .
إلى غير ذلك من المواد التي تقرر هذه المبادئ ، والتي احتاجها العالم الغربي لنقل شعوبه من حضيض "اللا إنسانية" التي كان يعيشها في ظل النظام الإقطاعي الرأسمالي ، إلى أن يصبح الفرد "إنساناً" له اعتبار وحقوق ، ويعامل في بعض جوانب الحياة معاملة "الإنسان" ، فنال من خلالها بعض الحقوق : كحق الانتقال ، وحق العمل ، وحق التعليم، وجملة من الحقوق السياسية : كحق الانتخاب ، حق الترشيح ، حرية الكلام ، حرية الاجتماع ، حق الاحتجاج (1) ، وغيرها .
ونظراً لأن الشعارات المذكورة : (الحرية ، الإخاء ، المساواة ) قد أطلق لها العنان ، من غير ضابط ولا زمام ، فقد انقلبت بعضها -كالحرية- في تطبيقاتها العملية إلى ويلات تئن منها المجتمعات الغربية اليوم ، واحتالت حياة الغرب في ظل هذا الانفلات إلى علمانية في التدين ، وبهيمية في الأخلاق ، ونفعية في العلاقات الاجتماعية ، ومادية في التعامل بين الناس ، ومصلحية حزبية في الحكم والسياسة .
__________
(1) انظر "مذاهب فكرية معاصرة" لمحمد قطب : ص200 وما قبلها .(1/21)
والكلام سيطول جداً لو أردنا أن نفصِّل حقيقة تلك الشعارات وآثارها السلبية وما تقتضيه من هدم للدين والخلق والعلاقات الاجتماعية وغيرها ، (وقد جربنا الكلام عن الإنسانية والتسامح والسلام وحقوق الإنسان في عصرنا ، فوجدناه كلاماً يصنعه الأقوياء في وزارات الدعاية والإعلان ليَنْفَق ويروج عند الضعفاء ، فهو بضاعة معدة للتصدير الخارجي ، وليست معدة للاستهلاك الداخلي، لا يستفيد منها دائماً إلا القوي ) (1) ، وتأكيداً لهذا أنقل جزءاً من نص بروتوكولات يهود بخصوص هذا الموضوع ، فقد جاء في البروتوكول الأول منها ما معناه :( كنا أول من اخترع كلمات الحرية والمساواة والإخاء، التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي ، وهي كلمات جوفاء لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف بل التناقض الذي يشيع في مدلولها . إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا ) (2) اهـ .
إذاً فهذه الشعارات التي يؤكدها (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) في كل مادة من مواده ونصوصه ، ما هي إلا أضاليل يهودية ، تهدف إلى سحق الأمم الأخرى عقدياً ومعنوياً ومادياً .
وأذكر هنا مثالاً واحداً من إفرازات تلك الشعارات ، ليتبين خطرها على الدين خاصة ، ففي ظل حمأة المناداة بهذه الشعارات نشأت دعوات متعددة -حتى في بعض بلاد الإسلام- إلى "وحدة الأديان" ، و "زمالة الأديان" و "التقارب بين الأديان" (3) ونحوها ، كما ظهرت الدعوة إلى إيجاد "دين عالمي جديد" ، يقول كالفرلي -وهو أحد المستشرقين الغرب- :( وحينما يصبح في مقدور الجميع الوقوف على كل المعلومات المجردة عن
__________
(1) نقلاً عن "الإسلام والحضارة الغربية" ، د/ محمد محمد حسين ، ص: 192 .
(2) انظر برتوكولات حكماء صهيون : ص38 بتصرف .
(3) انظر تفصيل هذه الدعوات في "أهمية الجهاد" د/ علي العلياني ، ص416-459 .(1/22)
الهوى ، وحينما يصبح الجميع أحراراً في تفكيرهم ، لهم من الشجاعة ما يجعلهم يتقبلون ما هو خير وعدل وجميل ، عندئذ يكون من المحتمل أن يسود العالم دين واحد ، وإني سأكون سعيداً باتباع دين عالمي موحد ، تنبع مصادره من حقائق التاريخ ، وتشمل مبادئه العدالة الاجتماعية ، وتقوم بفضله مظاهر الحب والإخاء على أنقاض الكراهية
والخصومة ) (1) اهـ .
المطلب الخامس :
مقارنة بين المفهومين :
إن إجراء المقارنة بين مفهوم "حقوق الإنسان" في القرآن الكريم ، ومفهومه في القانون الدولي أو غيره من مواثيق وتشريعات البشر ، لا يجوز أن يكون أساسه ظن أو توهم المساواة أو التقارب بين المفهومين ، فلا ينبغي بحال أن نقرن النظام الرباني إلى نظام جاهلي ، وإن وجود بعض أوجه الشبه العارض في بعض النقاط بين النظامين أو المفهومين، لا يجوز أن ينسينا الفارق الضخم في القاعدة ، ذلك أن القاعدة التي يقوم عليها الإسلام تختلف اختلافاً جذرياً عن القاعدة التي تقوم عليها النظم الجاهلية ، من ديمقراطية وغيرها ، ففي الإسلام يُعبدُ الله وحده دون شريك ، وتحكم شريعة الله واقع الحياة ، وفي تلك النظم يُعبد غير الله ، وتحكم شرائع البشر في عالم الواقع ، وفي الإسلام يزكي الإنسان نفسه ليحتفظ بإنسانيته في أحسن تقويم ، وفي هذه النظم ينكس الإنسان فيهبط أسفل سافلين (2) ، حتى يكون أضل من الأنعام ، كما وصف الله أهل الكفر بقوله
: { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } (3) ، وقوله أيضاً
: { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } (4) .
__________
(1) نقلاً عن "الإسلام والحضارة الغربية" : ص132-133 .
(2) ملخصاً عن "مذاهب فكرية معاصرة" : ص251-252 .
(3) الأعراف : 179 .
(4) الفرقان : 44 .(1/23)
- ولكن مادمنا بصدد الكلام ضمن محور :( القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان من منظور إسلامي ) ، فألخص أبرز الفروق بين مفهوم "حقوق الإنسان" في الإسلام ، وفي الوثائق والقوانين الدولية ، ضمن النقاط الآتية :
1) أن الشريعة الإسلامية سبقت كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقات والقوانين الدولية في تناول وتأصيل "حقوق الإنسان" منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ، وإن ما جاء به "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" ونحوه من المواثيق ، ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنته الشريعة الإسلامية (1) .
2) أن "حقوق الإنسان" في الإسلام ، مصدرها الوحي الرباني ، المتمثل في كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فهي مبرأة من كل عيب أو نقص أو جهل أو هوى (2) ، قال تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } (3) ، وقال سبحانه : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (4) ، أما مصدر "حقوق الإنسان" في القوانين والمواثيق الدولية ؛ فهو الفكر البشري الذي لابد أن يتأثر بطبيعة البشر من الهوى والضعف والعجز والقصور (5) والجهل والخطأ ، قال تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفاً } (6) ، وقال تعالى في وصف الإنسان : { إنه كان ظلوماً جهولاً } (7) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) (8) .
__________
(1) انظر "حقوق الإنسان" للحقيل : ص87 .
(2) انظر "خصائص التصور الإسلامي" ، سيد قطب : ص53 .
(3) الأنعام : 38 .
(4) النساء : 82 .
(5) انظر "حقوق الإنسان" للحقيل : ص89 ، "التشريع والفقه في الإسلام" لمناع القطان : ص21 .
(6) النساء : 28 .
(7) الأحزاب : 72 .
(8) أخرجه الترمذي : ك صفة القيامة ، باب 49 حديث 2499 ، ابن ماجه : ك الزهد ، باب ذكر التوبة حديث 3428 ، وحسنه الألباني (انظر صحيح ابن ماجه : 2/ 418 ، مشكاة المصابيح : 2/ 724) .(1/24)
3) أن "حقوق الإنسان" في الإسلام , حقوق أصيلة ثابتة أبدية ، لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا تغييراً ولا نسخاً ولا تعطيلاً ، قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (1) ، أما في القانون الدولي فهي تخضع لأهواء البشر وعقولهم ، وتقبل التغيير والتبديل بما تمليه تلك الأهواء والعقول ، التي تفسد ولا تصلح ، قال تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } (2) .
4) أن "حقوق الإنسان" في الإسلام ، ملزمة وواجبة شرعاً ، لأنها جزء من دين المسلم ، لا يمكنه ولا يحق له أن يتنازل عنها أو يفرط فيها ، وإلا لحقه الإثم ، وتعرض للجزاء والعقاب ، وللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على أداء هذه "الحقوق" باعتبارها فريضة من الله تعالى ، بينما الحال في القوانين الدولية : أن تلك الحقوق مجرد توصيات وأحكام أدبية ، يُنادَى بها ويُعلن عنها ويُحث عليها ، وتعتبر حقاً شخصياً لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه (3) .
وقد تقدمت بعض الآيات التي تدل على هذا الغرض والإلزام في شريعة الإسلام ، كقوله تعالى : { حقاً على المتقين } (4) ، { حقاً على المحسنين } (5) ، وقوله : { فريضة من الله } (6) ، ونحوها .
5) أن "حقوق الإنسان" في الإسلام ، شاملة لجميع أنواع الحقوق التي يحتاجها البشر في حياتهم ، ولجميع أصناف الناس (7) ، قال تعالى : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } (8) . أما "الإعلان العالمي" فيظهر عليه النقص والخلل الكبير كما هي طبيعة البشر .
__________
(1) الروم : 30 .
(2) المؤمنون : 71 .
(3) انظر "حقوق الإنسان" للحقيل : ص88-89 .
(4) البقرة : 180-241 .
(5) البقرة : 236 .
(6) النساء : 11 .
(7) سيأتي في المبحث الثاني تفصيل لأنواع الحقوق وأصناف الناس بالنسبة لهذه الحقوق .
(8) يس : 12 .(1/25)
6) أن "حقوق الإنسان" في الإسلام ، قد أحيطت بضمانات لحمايتها من الانتهاك ، واعتمد المنهج الإسلامي لتحقيق هذه الحماية على أمرين أساسين هما:
أ) إقامة الحدود الشرعية ، التي من أهم مقاصدها: المحافظة على حقوق الأفراد ، وحفظ الضرورات الخمس لهم :( الدين ، النفس ، المال ، العرض ، العقل ) .
ب) تحقيق العدالة المطلقة التي أوجبها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } (1) .
قال ابن عطية في تفسيرها :( والعدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق ) (2) اهـ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -
:( لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيفُ فيها حقَّه غيرَ متعْتَع ) (3) .
أما في القوانين الدولية ، وبمراجعة "الإعلان العالمي" يظهر جلياً عدم تحديد أية ضمانات تحمي هذه الحقوق من الانتهاك ، وكل ما فيه التحذير من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة (4) .
__________
(1) النحل : 90 .
(2) المحرر الوجيز : 2/ 416 .
(3) أخرجه ابن ماجه : ك الصدقات ، باب "لصاحب الحق سلطان" برقم 2426 ، وصححه الألباني (صحيح سنن ابن ماجه : 2/ 55) .
(4) انظر "حقوق الإنسان" للحقيل : ص89 .(1/26)
7) وإضافة إلى ذلك فإن "حقوق الإنسان" في الإسلام ، يقترن أداؤها بجزاء أخروي ، إضافة إلى الجزاء الدنيوي ، وكذا يترتب على إهمالها والتقصير فيها عقاب دنيوي وأخروي ، بل إن الأصل في أجزية الشريعة الإسلامية هو الجزاء الأخروي ، ويترتب على هذا أن الفرد المسلم يخضع لأحكامها وواجباتها خضوعاً اختيارياً في السر والعلن ، رغبة فيما عند الله وخوفاً من عقابه ، حتى لو استطاع أن يفلت من عقاب الدنيا (1) ، وعلى سبيل المثال: فإن من الحقوق التي جاء التأكيد على مراعاتها في القرآن ؛ حق اليتامى بالإحسان إليهم وحفظ أموالهم ونحو ذلك ، فقال تعالى في شأنهم : { وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى ... } (2) الآية ، واقترن به الوعيد في قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } (3) .
المبحث الثاني :
تطبيقات "حقوق الإنسان" في القرآن الكريم
لقد تقدم في المبحث السابق ، بيان مفهوم "حقوق الإنسان" وتأصيله في القرآن الكريم ، وبيان مصدر الحقوق وبعض خصائصها ومعالمها في دين الإسلام ، وخلصنا بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن القرآن قد عني بقضية "حقوق الإنسان" عناية متميزة ، فجاءت النصوص القرآنية العامة الجامعة لمجمل "الحقوق" وأنواعها وأصناف الناس المستحقين لها ، كما جاءت النصوص المفصّلة الخاصة ببعض "الحقوق" أو بصنف من الناس ، وقبل ذلك فقد وردت الأدلة القرآنية القاطعة على تكريم الله لجنس "الإنسان" .
وإتماماً لما سبق أعرض في هذا المبحث بعض التطبيقات القرآنية لحقوق الإنسان ، ضمن النقاط الآتية :
المطلب الأول :
تكريم الإنسان في ضوء القرآن :
__________
(1) انظر "المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية" ، د/ عبدالكريم زيدان : ص44 .
(2) النساء : 36 .
(3) النساء : 10 .(1/27)
لقد كرم الله "الإنسان" ، وخصه بسمات تميزه عن سائر المخلوقات ، وأنعم عليه بخصائص ترقى به إلى أعلى الدرجات ، وهذا التكريم هو تأصيل لمبدأ "حقوق الإنسان" في دين الإسلام ، ويتبين ذلك من خلال المظاهر الآتية :
1) إحسان خلقه وصورته :
* قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } (1) ، قال ابن عباس :( في أعدل خلق) وقال :( خلق كل شيء منكباً على وجهه ، إلا الإنسان ) . وقال مجاهد وغيره
:( في أحسن صورة ) (2) .
وقال ابن كثير :( إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها ) (3) . وقال ابن القيم :( { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } أي في أحسن صورة وشكل واعتدال ، معتدل القامة ، مستوي الخلقة ، كامل الصورة ، أحسن من كل حيوان سواه . والتقويم: تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التأليف والتعديل، وذلك صنعته تبارك وتعالى ... ) الخ كلامه (4) .
* وقال تعالى : { الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين } (5) .
فقوله { صوركم فأحسن صوركم } يدل على إحسان خلقه كما تقدم ، قال الطبري
:( يقول: وخلقكم فأحسن خلقكم ) (6) وهو قول مقاتل (7) . وقال ابن عباس :( خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده ، وغير ابن آدم يتناول بفيه ) (8) .
وقال ابن كثير :(أي فخلقكم في أحسن الأشكال ، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم) (9) .
* وقال تعالى : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ( الذي خلقك فسواك
__________
(1) التين : 4 .
(2) انظر هذه الأقوال في تفسير الطبري : 12/ 636-637 .
(3) تفسير ابن كثير : 4/ 527 .
(4) بدائع التفسير : 5/ 270 .
(5) غافر : 64 .
(6) تفسير الطبري : 11/ 74 .
(7) انظر تفسير البغوي : 7/ 157 .
(8) نفس المصدر : 7/ 157 .
(9) تفسير ابن كثير : 4/ 86 .(1/28)
فعدلك } (1) ، وقرئت (فعدّلك) بتشديد الدال ومعناها : أي ( جعلك معتدلاً معدل الخلق مقوماً ) كما ذكره الطبري (2) .
وقال ابن كثير :( أي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة منتصبها ، في أحسن الهيئات والأشكال ) (3) .
2) النفخ فيه من روحه :
* قال تعالى : { فإذا سويته ونخفت فيه من روحي } (4) ، وقال أيضاً : { ثم سواه ونفخ فيه من روحه } (5) .
قال البغوي :( "فإذا سويته" عدّلت صورته ، وأتممت خلقه ، "ونفخت فيه من روحي" فصار بشراً حياً، والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان، وأضافه إلى نفسه تشريفاً) (6) اهـ.
وقال الواحدي :( وأضاف روح آدم إليه إكراماً وتشريفاً ) (7) اهـ .
3) أمر الملائكة بالسجود لآدم :
* قال تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } (8) .
قال الطبري:(وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله ،لا عبادة لآدم)اهـ، ثم أورد قول قتادة:(فكانت الطاعة لله،والسجدة لآدم،أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته) (9) اهـ .
وقال ابن كثير :( وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم ، امتن بها على ذريته ، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ) (10) اهـ .
ومما يؤكد هذا التكريم: قول إبليس معترضاً عليه { قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ .. } (11) الآية .
__________
(1) الانفطار : 6-7 .
(2) تفسير الطبري : 12/ 479 .
(3) تفسير ابن كثير : 4/ 481 .
(4) الحجر : 29 ، ص : 72 .
(5) السجدة : 9 .
(6) تفسير البغوي : 4/ 380 .
(7) الوسيط للواحدي : 3/ 45 .
(8) البقرة : 34 .
(9) تفسير الطبري : 1/ 266 .
(10) تفسير ابن كثير : 1/ 80 .
(11) الإسراء : 62 .(1/29)
وقد ورد الأمر بالسجود لآدم في سبعة مواضع من القرآن الكريم ، خمسة منها باللفظ المذكور في الآية السابقة : { اسجدوا لآدم } (1) ، وفي موضعين بلفظ : { فقعوا له
ساجدين } (2) .
4) تعليم آدم الأسماء كلها :
* قال الله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
الحكيم } (3) .
وقد اختلف في الأسماء التي علمها آدم : فقال ابن عباس :( علم الله آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ،وأشباه ذلك من الأمم وغيرها )اهـ . وبمثله قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة (4) .
وقال غيرهم: هي أسماء الملائكة ، وقال أخرون : هي أسماء ذريته ، وقيل: أسماء الأجناس دون أنواعها (5) . ولعل الأقرب للصواب والله أعلم أنه علّمه جميع ذلك ، تمسكاً بظاهر الآية ، وهذا ما ذهب إليه ابن كثير حيث قال :( الصحيح أنه علّمه أسماء الأشياء كلها ذراتها وصفاتها وأفعالها ) (6) اهـ .
__________
(1) وهي: البقرة : 34 ، الأعراف : 11 ، الإسراء : 61 ، الكهف : 50 ، طه : 116 .
(2) وهما: الحجر : 29 ، ص : 72 .
(3) البقرة : 31-32 .
(4) تفسير الطبري : 1/ 252-253 .
(5) انظر زاد المسير لابن الجوزي : 1/ 63 ، تفسير القرطبي : 1/ 194 .
(6) تفسير ابن كثير : 1/ 72 .(1/30)
ثم أورد شاهداً لذلك حديث الشفاعة وهو عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا ، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا إلى ربك حتى يرحمنا من مكاننا هذا ... ) (1) الحديث .
قال :( فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ) (2) اهـ .
والمقصود أن الله تعالى فضل آدم على الملائكة بتعليمه الأسماء المشار إليها في الآية، ولذا لما ظهر فضله عليهم بذلك ، قال الله لهم : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } (3) .
قال ابن كثير :( هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم ) (4) اهـ .
وقال ابن القيم :( أنه سبحانه لما أراد إظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم فعلمه الأسماء كلها ) اهـ .
وقال :( ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خصه به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريماً له وتعظيماً له وإظهاراً لفضله ) (5) اهـ .
5) جعل الإنسان خليفة في الأرض :
* قال تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري : ك التوحيد ، باب قول الله تعالى : { لما خلقت بيدي } برقم 7410 ، مسلم : ك الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم 322 .
(2) تفسير ابن كثير : 1/ 73 .
(3) البقرة : 33 .
(4) تفسير ابن كثير : 1/ 72 .
(5) بدائع التفسير : 1/ 303،299 .
(6) البقرة : 30 .(1/31)
قال الطبري بعد أن أورد قولاً لابن مسعود وابن عباس ما نصه :( فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه ) (1) اهـ .
وقال البغوي :(والصحيح أنه خليفة الله في أرضه ،لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه) (2) اهـ.
وقال القرطبي :( والمعنى بالخليفة هنا -في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل- آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ) (3) اهـ.
وقال ابن عاشور :( وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ، ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس ) (4) اهـ .
والخلاصة : أن الله تعالى كرم الإنسان بهذه المنزلة الرفيعة ، التي منحه إياها ، حين اختاره دون سائر المخلوقات ، ليكون خليفته في هذه الأرض ، وتظهر هذه القيمة الكبرى ، والمكانة العليا ، التي أعطاها الإسلام للإنسان ، بإعلانها العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، وبما تبعها من النفخ فيه من روحه ، والأمر بالسجود له ، وتعليمه الأسماء كلها ، ومن هذا التكريم الإلهي تنبثق نظرة الإسلام للإنسان ، وأنه سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها (5) .
6) تفضيل الإنسان على سائر المخلوقات :
* قال تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } (6) .
__________
(1) تفسير الطبري : 1/ 237 .
(2) تفسير البغوي : 1/ 79 .
(3) تفسير القرطبي : 1/ 182 .
(4) التحرير والتنوير : 1/ 400 .
(5) انظر "في ظلال القرآن" : 1/ 60 .
(6) الإسراء : 70 .(1/32)
قال ابن كثير :( يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } (1) أن يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ، ويأكل بفمه ، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً ، يفقه بذلك كله وينتفع به ، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية ... ) إلى أن قال: [ "وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة"] (2) .
وقال الشوكاني :( أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه ، فأفاد ذلك أن بني آدم فضَّلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته ... ) وقال :( والتأكيد بقوله "تفضيلاً" يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين ، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من
كفرانه ) (3) اهـ .
7) تسخير المخلوقات للإنسان :
* قال تعالى : { ألم تروا ، الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } (4) ، وقال أيضاً : { وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } (5) .
قال الطبري :( يقول تعالى ذكره "ألم تروا" أيها الناس "أن الله سخر لكم ما في السموات" من شمس وقمر ونجم وسحاب "وما في الأرض" من دابة وشجر وماء وبحر وفلك وغير ذلك من المنافع ، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذكم ، تتمتعون ببعض ذلك كله ، وتنتفعون بجميعه ) (6) اهـ .
__________
(1) التين : 4 .
(2) تفسير ابن كثير : 3/ 51 ، وانظر تفسير القرطبي : 5/ 190-191 .
(3) فتح القدير : 3/ 244-245 .
(4) لقمان : 20 .
(5) الجاثية : 13 .
(6) تفسير الطبري : 10/ 217 .(1/33)
وقال ابن سعدي في آية "الجاثية" :( وهذا شامل لأجرام السموات والأرض ، ولما أودع فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات ، وأنواع الحيوانات ، وأصناف الأشجار والثمرات ، وأجناس المعادن ، وغير ذلك مما هو معه لمصالح بني آدم ، ومصالح ما هو من ضروراته ) (1) اهـ .
8) إرسال الرسل وإنزال الكتب :
إن من أعظم مظاهر تكريم الله للإنسان ، أنه لم يخلقه عبثاً ، ولم يتركه هملاً ، بل أرسل إليه الرسل من بني جنسه تترى ، وأنزل عليهم الكتب والشرائع ، التي تحقق للإنسان إنسانيته المنضبطة بشرع الله ، التي تحفظه من الانحطاط والسفول .
ولقد أشار بعض أهل التفسير إلى هذا النوع من التكريم ، استنباطاً من بعض الآيات السابقة وغيرها .
- فمنها قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } (2) .
نقل الطبري عن أبي عالية في قوله { وأني فضلتكم على العالمين } قال :( بما أعطوا من المُلك والرسل والكتب ) (3) .
- وقال السعدي في تفسير قوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } (4) ما نصه
:( وهذا من كرمه عليهم وإحسانه ، الذي لا يقادر قدره ، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام . فكرمهم بالعلم والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وجعل منهم الأولياء والأصفياء ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ) (5) اهـ.
- وتعليقاً على آيات سورة البقرة : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن : 4/ 477 .
(2) البقرة : 47 .
(3) تفسير الطبري : 1/ 303 .
(4) الإسراء : 70 .
(5) تيسير الكريم الرحمن : 3/ 123 .(1/34)
خليفة ... } (1) وما بعدها ، يقول سيد قطب :( كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته ؛ إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته ، فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ... } (2) ، وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية ، هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ، ولا تطغى على تلك القيم العليا ) (3) اهـ .
والخلاصة : أن القرآن الكريم قد دل على تكريم الله للإنسان غاية التكريم ، ظهر ذلك من خلال ما تقدم من هذه المظاهر وغيرها ، في الوقت الذي تنادى فيه القوانين البشرية اليوم بـ "حقوق الإنسان" ، وهي تهدر كثيراً من كرامته :( وما من شك أن كلاً من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان ، تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان، وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها ، وطبيعية تكريم هذا الإنسان أو تحقيره .. وليس ما نراه اليوم في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره ، إلا أثراً من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض ) (4) اهـ .
المطلب الثاني :
أصناف الناس -بالنسبة للحقوق- في القرآن الكريم
__________
(1) البقرة : 30 .
(2) البقرة : 38 .
(3) الظلال : 1/ 60-61 .
(4) نفس المصدر : 1/ 60 .(1/35)
إن المتأمل في آيات القرآن التي ذكرت الحقوق بأنواعها -إجمالاً أو تفصيلاً- يجد أن القرآن لم يترك صنفاً من الناس إلا ذكره ووضح حقوقه في هذا الدين العالمي القويم ، وصدق الله القائل : { ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ } (1) ، كما أن السنة النبوية المطهرة ، قد بينت ما أُجمل في القرآن من هذه الحقوق لتلك الأصناف . ومن المعلوم أن هذا الدين يقوم منهجه على أساس أداء حقين رئيسين وهما :
1) حق الله على عباده ، وهو توحيده وعبادته وحده لا شريك له .
2) حقوق العباد بعضهم على بعض . وهي تختلف بحسب أصنافهم وأقسامهم .
ومما لا شك فيه أن تفصيل الكلام عن هذه الأصناف وما لها من الحقوق ، يطول جداً ، بل يعجز مؤلف أن يحويه ، ولذا فسأكتفي بالإشارة إلى مجمل الأصناف والأقسام ، مع إيراد الآيات القرآنية التي تدل على بعض ما لها من الحقوق ، وذلك على النحو الآتي :
أولاً: قسّم القرآن الناس أساساً إلى ثلاثة أصناف رئيسة ، وهم :[ المؤمنون ، الكفار ، المنافقون ] . ودليل ذلك ما جاء في أول سورة البقرة ، حيث ذكر الله المؤمنين وبعض صفاتهم في أربع آيات : من قوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين .. } إلى قوله : { وأولئك هم المفلحون } (2) ، ثم ذكر الكافرين في آيتين : { إن الذين كفروا سواء عليهم ... } إلى قوله : { ولهم عذاب عظيم } (3) ، ثم ذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية ،من قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله ... } إلى قوله : { إن الله على كل شيء قدير } (4) .
ثانياً: جعل الله للناس بجميع أصنافهم حقوقاً عامة يشتركون فيها ، منها على سبيل المثال : حقهم في التملك ، وحقهم في الاستفادة مما سخر لهم في الأرض ، ومنها العدل في معاملة بعضهم بعضاً ، والعدل في الحكم بينهم ، والإحسان لهم في القول ، وهكذا .
__________
(1) الأنعام : 38 .
(2) البقرة : 2-5 .
(3) البقرة : 6-7 .
(4) البقرة : 8-20 .(1/36)
وهذه الحقوق المشتركة يستدل لها بالآيات العامة التي دلت عليها ، دون التفريق فيها بين صنف منها ، كقوله تعالى : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } (1) ، وقوله : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } (2) ، وقوله : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع على حين } (3) ، وقوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } (4) ، وقوله : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } (5) . وقوله تعالى : { وقولوا للناس حسناً } (6) ونحوها .
ثالثاً: جاءت النصوص الشرعية في الكتاب والسنة على اعتبار حقوق خاصة بغير المسلمين وهم أصناف ثلاثة : مشركون ، أهل كتاب ، منافقون ، وسأقتصر على ذكر بعض ما ورد في القرآن ، في حق كل صنف منها ، دون الدخول في تفصيلات المسائل والخلاف الفقهي فيها .
أما المشركون : فقد أشارت الآيات إلى بعض الحقوق التي وردت بشأنهم ومنها:
1- الوفاء لهم بالعهد الذي بينهم وبين المسلمين إذا كان محدداً بمدة : لقوله تعالى : { إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } (7) .
قال الطبري في تفسير الآية : { فأما من كان عهده إلى مدة معلومة ، فلم يجعل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلاً ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وفى له بعهده إلى مدته ، عن أمر الله إياه بذلك ، وعلى ذلك دل ظاهر التنزيل ، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (8) اهـ .
__________
(1) الجاثية : 13 .
(2) البقرة : 168 .
(3) البقرة : 36 .
(4) النساء : 58 .
(5) المائدة : 8 .
(6) البقرة : 83 .
(7) التوبة : 4 .
(8) تفسير الطبري : 6/ 308 .(1/37)
2) إعطاء المشرك الأمان إذا طلبه لحاجة : قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } (1) .
وهذه الآية رجح الطبري أنها محكمة غير منسوخة (2) ، ومعناها :[ أي إذا استأمنك مشرك فأجبه إلى طلبه ، حتى يسمع كلام الله ، وهو آمن مستمر الأمان ، حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه ، ومن هنا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً أو في رسالة ، كما جاء يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، منهم : عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو، وكانوا يترددون بينه وبين المشركين ، وكذا جاءه رسول مسيلمة ، ولما سأله: أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال: نعم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - :( لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ) (3) ، والخلاصة : أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً مادام متردداً في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه ] (4) .
3) البر والإحسان إلى غير المقاتلين منهم :
قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } (5) .
__________
(1) التوبة : 6 .
(2) تفسير الطبري : 6/ 322 .
(3) أخرجه أحمد : 3/ 487 ، أبو دواد : ك الجهاد ، باب في الرسل برقم 2761 ، 2762 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5328 .
(4) مخلصاً بتصرف من تفسير ابن كثير : 2/ 337 .
(5) الممتحنة : 8 .(1/38)
وقد ورد في سبب نزولها قصة أسماء بنت أبي بكر قالت :( أتتني أمي راغبة، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفأصلها ؟ قال: "نعم" . قال ابن عيينة: فأنزل الله عز وجل فيها : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } (1) .
قال الطبري في الآية :( عني بذلك : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم ، وتقسطوا إليهم ، لأن الله عز وجل عمّ بقوله : { الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصص به بعضاً دون بعض ، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه قرابة نسب ، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب ؛ غير محرم ولا منهي عنه ، إذا لم يكن في ذلك دلالة له ، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراعٍ أو سلاح ) (2) اهـ .
وقال السعدي :( أي لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينصبوا لقتالكم في الدين ، والإخراج من دياركم ، فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة لا محذور فيها ولا تبعة ) (3) اهـ .
4) رد الصداق على الزوج المشرك الذي أسلمت زوجته :
قال تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا } (4) .
__________
(1) أخرجه: البخاري : ك الهبة ، باب الهدية للمشركين : 5/ 233 ، مسلم : ك الزكاة برقم 1003 ، والبخاري في الأدب المفرد برقم 25 وهذا لفظه .
(2) تفسير الطبري : 12/ 63 .
(3) تفسير السعدي : 5/ 222 .
(4) الممتحنة : 10 .(1/39)
قال الطبري :( وقوله { وآتوهم ما أنفقوا } يقول جل ثناؤه : وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات إذا علمتموهن مؤمنات فلم ترجعوهن إليهم ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق ) (1) اهـ .
وبذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري وغير واحد (2) .
5) بر الوالدين المشركين وصحبتهما بالمعروف :
قال تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً .. } (3) الآية .
قال الطبري :( يقول: وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه بينك وبين ربك ولا إثم ) (4) اهـ .
وقال البغوي :( "معروفاً" أي: بالمعروف ، وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ) (5) اهـ .
ويؤكد هذا المعنى حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- المتقدم قريباً .
وأما المنافقون : فقد كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم : أنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأن يغلظ عليهم، قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } (6) ، وأمره أيضاً أن يعرض عنهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ويعظهم ، كما قال تعالى : { فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } (7) .
إذاً فقد كان للمنافقين من الحقوق الدنيوية الظاهرة مثل ما للمسلمين تماماً، مع ما ورد من التحذير منهم كقوله تعالى : { هم العدو فاحذرهم } (8) ، وما ورد في عقوبتهم الأخروية ، كما قال تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم
نصيراً } (9) .
__________
(1) تفسير الطبري : 12/ 66 .
(2) انظر تفسير ابن كثير : 4/ 351 .
(3) لقمان : 15 .
(4) تفسير الطبري : 10/ 211 .
(5) تفسير البغوي : 6/ 288 .
(6) التحريم : 9 .
(7) النساء : 63 .
(8) المنافقون : 4 .
(9) النساء : 145 .(1/40)
- وأما أهل الكتاب ، فهم على أصناف: فمنهم المحارب ، ومنهم المعاهد ، ومنهم الذمي، ولكلٍ منهم حقوقه وأحكامه ، وهي مفصلة في كتب الفقه وغيره، بل أفرد بعض أهل العلم مصنفات خاصة في بيان أحكامهم (1) ، وجاءت آيات عديدة تنصف طائفة من أهل الكتاب وتثني عليهم ، كقوله تعالى : { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } (2) ، وقوله أيضاً : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } (3) .
رابعاً: وإذا كان الإسلام راعي حقوق أعدائه من أصناف الكفرة والمنافقين ، فلا شك أن مراعاة حقوق المسلمين أولى وأهم وأجدر ، ولذا فقد تعددت الآيات وكثرت في ذكر أصناف وفئات مختلفة من المسلمين ، وبيان ما لهم من الحقوق والواجبات ، وهذا مما يطول ذكره جداً لكثرته ، ولكن سأقتصر على ذكر أمثلة لذلك على سبيل الإجمال ، مكتفياً بإيراد نصوص القرآن ، مشيراً إلى بعض ما فيها من الحقوق ، وقبلها أذكر حديث الحقوق العامة لكل مسلم ، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس ) (4) . وفي الحديث الآخر :( حق المسلم على المسلم ست ) وزاد عما في هذا الحديث قوله :( وإذا استنصحك فانصح له ) (5) .
__________
(1) ككتاب "أحكام أهل الذمة" لابن القيم ، ونحوه .
(2) آل عمران : 113 .
(3) آل عمران : 199 .
(4) أخرجه البخاري : ك الجنائز ، "باب الأمر باتباع الجنائز" ، برقم 1240 ، مسلم : ك السلام ، باب "من حق المسلم على المسلم رد السلام" برقم 2162 .
(5) أخرجه مسلم : ك السلام ، باب "من حق المسلم للمسلم رد السلام" برقم 2163 .(1/41)
وفي حديث البراء - رضي الله عنه - قال :( أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع : أمرنا باتباع الجنائز ، وعيادة المريض ، وإجابة الداعي ، ونصر المظلوم ، وإبرار المقسم، ورد السلام ، وتشميت العاطس ... ) (1) الحديث .
أما أصناف المسلمين الذين ذُكرت لهم بعض الحقوق في القرآن الكريم ، فمنهم ما يلي :
1) ولي الأمر : ومن حقوقه : الطاعة في المعروف ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } (2) .
2) الوالدان : ومن حقوقهما: البر والإحسان ، والميراث الواجب لهم ، قال تعالى
: { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } (3) وقال : { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } (4) ، وقال أيضاً : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك .. } (5) الآية .
3) الزوجان : ولكل منهما حق على الآخر ، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :( ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ) (6) ، وهناك حقوق مشتركة بينهما ، كما دل على ذلك قوله تعالى : { ولهن مثل الذين عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة } (7) ، ومما يدل على حقوق الزوج ، قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } (8) . ومما يدل على حقوق الزوجة ؛ قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } (9) . ونحو ذلك .
__________
(1) أخرجه البخاري : ك الجنائز ، باب الأمر باتباع الجنائز ، برقم 1239 .
(2) النساء : 59 .
(3) الأحقاف : 15 .
(4) لقمان : 15 .
(5) النساء : 11 .
(6) أخرجه الترمذي : ك الرضاع ، باب "ما جاء في حق المرأة على زوجها" برقم 1179 ، وابن ماجه : ك النكاح ، باب "حق المرأة على الزوج" ، برقم 1850 ، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" برقم 2030 ( 7/ 96) .
(7) البقرة : 228 .
(8) النساء : 34 .
(9) النساء : 19 .(1/42)
4) الأولاد : ومن حقوقهم: النفقة عليهم ، وحسن تأديبهم ، والميراث المقسوم لهم ، والعدل بينهم في العطية ، ونحو ذلك ، ومما يدل على حقوقهم قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... } (1) الآية .
وقال : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً .. } (2) الآية . ومن حقوقهم إرضاعهم صغاراً ، لقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن ... } (3) الآية .
5) ذوو القربى : ومن حقوقهم: صلة الرحم ، ومودتهم والإحسان إليهم ، كما دلت الآيات على ذلك :
قال تعالى : { وآت ذا القربى حقه ... } (4) الآية ، وقال سبحانه : { وبالوالدين إحساناً وبذي القربى ... } (5) الآية ، ونحوها .
6) اليتامى : وقد جاء التأكيد على حقوقهم ، والوعيد على تضييعها في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة ، ومن آيات القرآن في ذلك : قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى } (6) ، وقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً } (7) . وقال : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } (8) ، وغيرها .
7) الجيران : ومن حقوقهم: الإحسان إليهم ، كما في قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً ... } إلى أن قال : { والجار ذي القربى والجار الجنب } (9) .
8) الأصحاب : ومن حقوقهم الإحسان إليهم أيضاً ، بدلالة الآية السابقة وقوله فيها
: { والصاحب بالجنب } .
9) ابن السبيل : وهو المسافر المنقطع ، وجاءت الوصية بالإحسان إليه في الآية السابقة أيضاً : { وابن السبيل } ، وقال : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } (10) .
__________
(1) النساء : 11 .
(2) التحريم : 6 .
(3) البقرة : 233 .
(4) الإسراء : 26 .
(5) النساء : 36 .
(6) النساء : 36 .
(7) النساء : 2 .
(8) النساء : 127 .
(9) النساء : 36 .
(10) الإسراء : 26 .(1/43)
10) الفقراء والمساكين : ومن أهم حقوقهم: الإنفاق عليهم من الزكاة وغيرها، كما دلت عليه الآية السابقة ، وقال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين .. } (1) الآية .
11) ملك اليمين : من العبيد والإماء ، وقد تكررت الوصية بهم في الكتاب والسنة ، كما في الأمر بالإحسان إليهما في آية النساء المتقدمة : { وبالوالدين إحساناً .. } إلى قوله : { وما ملكت أيمانكم } (2) ، مع أنهم في حكم المتاع ، وقد يكونوا غير مسلمين أصلاً .
12) المطلقة : وقد جاءت عدة آيات في بيان بعض ما لها من الحقوق ؛ ومنها الإحسان إليها عند عدم الرغبة في إمساكها قال تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } (3) ، وقال : { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } (4) ، ومن حقوقها: عدم عضلها ومنعها من الزواج ، لقوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن .. } (5) الآية ، ومن حقوقها: البقاء في بيت الزوجية حتى انقضاء عدتها ، قال تعالى : { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ... } (6) الآية .
وبعد : فهذا غيض من فيض ، مما ورد في نصوص الوحي ، من أصناف الناس الذين راعى الشارع حقوقهم ، وأؤكد مرة أخرى بأني اقتصرت على بعض نصوص القرآن ، إلتزاماً بموضوع البحث ، وما تركته من نصوص السنة أضعاف أضعاف ذلك ، ولا أدل على ذلك من أن كل صنف مما أشرت إليه -تقريباً- قد أفرد بالتصنيف أو التبويب في كتب العلماء قديماً وحديثاً (7) .
__________
(1) التوبة : 60 .
(2) النساء : 36 .
(3) البقرة : 229 .
(4) البقرة : 231 .
(5) البقرة : 232 .
(6) الطلاق : 1 .
(7) ينظر على سبيل المثال "كتاب البر والصلة" في الصحاح والسنن ونحوها .(1/44)
وخلاصة هذا المطلب : أن الإسلام قد أعطى "الإنسان" حقوقه ، ولم يترك صنفاً من الناس -مؤمناً أو كافراً ، رجلاً أو امرأة أو طفلاً ، أو غير ذلك- إلا ونص القرآن على حقه ، وفصلت السُنّة ذلك وبيّنته ، مما لم يوجد في دين أو منهج غير الإسلام .
المطلب الثالث :
أنواع الحقوق التي راعاها القرآن الكريم :
لقد تقدم في المطلب السابق ، بيان أصناف الناس وأقسامهم ، بالنسبة للحقوق المذكورة لهم في القرآن الكريم ، وتبعاً لكثرة تلك الأصناف ، فقد تعددت أنواع الحقوق التي راعاها القرآن لها ، ويمكن تقسيم هذه الأنواع بعدَّة اعتبارات على النحو الآتي :
التقسيم الأول: باعتبار غاياتها ومقاصدها وعلاقتها بحفظ الضرورات الخمس التي اجتمعت عليها جميع الشرائع والرسالات ، وهي حفظ "الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال" (1) ، وهي من الدين المشترك عند الأنبياء عليهم السلام .
وإذا تأملنا تلك الحقوق التي راعاها القرآن ، نجد أنها ترجع في نهايتها إلى تحقيق هذه الضرورات ، وقد شرع الإسلام لتحقيقها نوعين من الأحكام :
1- أحكام تكفل إيجادها وتكوينها .
2- أحكام تكفل حفظها وصيانتها (2) .
ويتبين ذلك من خلال ذكر هذه الضرورات والتمثيل عليها من نصوص القرآن على النحو الآتي (3) :
1) "الدين" : وقد شرع لإقامته العقائد والعبادات ، ومن حق الإنسان أن يتدين بالدين الحق الذي شرعه الله ، قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. } (4) الآية.
__________
(1) انظر "الموافقات" للشاطبي : 2/ 19 .
(2) انظر "علم أصول الفقه" ، عبدالوهاب خلاف : ص200 .
(3) انظر تفصيل الكلام عنها في: "المدخل لدراسة الشريعة" لزيدان : ص48 ، "علم أصول الفقه" لخلاف : ص201 .
(4) الشورى : 13 .(1/45)
كما شرع الله لحفظ الدين إقامة الجهاد ، لإزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين دخولهم في الدين الحق قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
لله } (1) . وعندما يتحلل الناس من ضغط وتأثير الطواغيت عليهم ، عندها يكون "لا إكراه في الدين" (2) أي :[ لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ، ورضاه بحكم الإسلام ] (3) .
2) "النفس" : وقد شرع لإيجادها حق الإنسان في الزواج والتوالد : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء .. } (4) ، وشرع لحفظها وإبقائها ؛ حق الإنسان في استعمال ما سخر له في الأرض من نعمة الطعام والشراب والسكن واللباس ونحوها كما قال تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } (5) ، ونحوها من الآيات ، كما حرم على الإنسان الإلقاء بنفسه إلى التهلكة : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } (6) .
3) "العقل" : وقد جاءت الآيات التي تدعو الإنسان للتكفر والتأمل والتدبر ، كقوله تعالى : { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } (7) ، { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } (8) ، فهذا من حق الإنسان أن يستخدم عقله فيما فيه مصلحة نفسه ، كما شرع لحفظ العقل مثلاً تحريم الخمر وعقوبة شاربها لإضراره بعقله ، قال تعالى
: { يسئلونك عن الخمر والمسير قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من
نفعهما } (9) .
__________
(1) البقرة : 193 .
(2) البقرة : 256 .
(3) تفسير الطبري : 3/ 19 .
(4) النساء : 3 .
(5) البقرة : 168 .
(6) البقرة : 195 .
(7) البقرة : 73 .
(8) البقرة : 266،219 .
(9) البقرة : 219 .(1/46)
4) "النسل" : وقد شرع لإيجاده حق الإنسان في التزوج كما تقدم ، وشرع لحفظه عقوبة الزنى والقذف ، ويتحقق بذلك أيضاً حفظ "العرض" . قال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } (1) ، وقال : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ... } (2) الآية .
5) "المال" : وقد شرع لتحصيله حق الإنسان في السعي في الأرض والتعامل بأنواع المعاملات من بيع وشراء وشراكة ونحوها ، وشرع لحفظه تحريم أكل أموال الناس بالباطل، بالربا والرشوة والسرقة ونحوها . قال تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } (3) ، وقال : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } (4) ، وقال : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } (5) .
- وهكذا سائر حقوق الناس ، إنما ترجع لحفظ ضرورة من هذه الضرورات التي اتفقت الشرائع عليها .
التقسيم الثاني : باعتبار من تجب له ، وفي نظري أنه يمكن تقسيم مجمل الحقوق التي راعاها القرآن ، إلى أنواع أخرى ، مع ضرورة استحضار وجوب تقييد جميع هذه الحقوق بضوابط الشريعة الإسلامية ، وسأشير إلى بعض الآيات التي يمكن الاستدلال بها لكل حق على النحو الآتي :
أولاً: حقوق شخصية (فردية) :
وأعني بها الحقوق الخاصة بكل فرد ، ويدخل فيها على سبيل المثال ما يلي :
1) حق الإنسان في الحياة : قال تعالى : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } (6) ، وقال : { إني جاعل في الأرض خليفة } (7) .
__________
(1) النور : 2 .
(2) النور : 4 .
(3) البقرة : 275 .
(4) البقرة : 188 .
(5) النساء : 10 .
(6) هود : 61 .
(7) البقرة : 30 .(1/47)
2) حقه في التدين وعبادة الله : قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) ، وقال : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استختلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم مناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } (2) .
3) حقه في التمتع بما سخر الله له في الأرض : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } (3) .
4) حق التملك : وتدل عليه كثير من الألفاظ القرآنية ، التي تنسب أشياءً إلى الإنسان كلفظ "أموالكم" في قوله تعالى : { فلكم رؤوس أموالكم } (4) ، وكلفظ "بيوتكم" في قوله تعالى : { أن تأكلوا من بيوتكم } (5) ، إضافة إلى الآيات التي تدل على مشروعية وسائل التملك كالبيع والشراء والتجارة ونحوها ، ومنها قوله تعالى : { وأحل الله البيع } (6) ، وقوله : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } (7) .
5) حق التعلم : قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات } (8) ، وقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } (9) .
6) حق التزوج والتناسل : قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } (10) .
7) حق التنقل : قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } (11) .
8) حق العمل والكسب المشروع : قال تعالى : { يا أيها الذين أمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } (12) .
__________
(1) الذاريات : 56 .
(2) النور : 55 .
(3) الجاثية : 13 .
(4) البقرة : 279 .
(5) النور : 27 .
(6) البقرة : 275 .
(7) البقرة : 282 .
(8) المجادلة : 11 .
(9) النحل : 78 .
(10) النساء : 3 .
(11) التوبة : 6 .
(12) البقرة : 267 .(1/48)
9) حق التعبير عن الرأي : قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس بأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } (1) ، وقال تعالى : { وشاورهم في الأمر } (2) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - :( الدين النصيحة ... ) (3) الحديث .
وكل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبداء المشورة وإسداء النصيحة ، نوع من التعبير عن الرأي وحريته .
ثانياً: حقوق اجتماعية :
وأعني بها جملة الحقوق التي تجب على المجتمع لفئات معينة منه ، ويدخل ضمن ذلك ، ما تقدم من أصناف المسلمين الذين ذُكرت لهم بعض الحقوق في القرآن الكريم ، وسأعيد ذكر بعضهم ، دون إعادة الآيات التي تقدمت :
1) حقوق الوالدين . ... ... 2) حقوق الأولاد .
3) حقوق الزوجين . ... ... 4) حقوق ذوي القربى .
5) حقوق الفقراء والمساكين . ... 6) حقوق اليتامى .
7) حقوق الجيران . ... ... ... 8) حقوق الأصحاب .
ثالثاً: حقوق عامة :
وأعني بها الحقوق المشتركة بين أمم الأرض ، والتي ينبغي أن تسود العالم أجمع ، ويجب أن تراعيها كل أمة ، بأفرادها ومجتمعاتها وشعوبها ودولها ، مما يمليه منطق الفطرة والعقل السليم ، ومن أمثلتها:
1) العدل : قال تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا } (4) ، وقال : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } (5) .
__________
(1) آل عمران : 110 .
(2) آل عمران : 159 .
(3) أخرجه مسلم : ك الإيمان ، "باب بيان أن الدين النصيحة" برقم 95 .
(4) الأنعام : 152 .
(5) المائدة : 8 .(1/49)
2) المساواة : وأعني به المساواة بين أفراد الأمة الواحدة في الحقوق والواجبات ، ولقد جاء القرآن بهذا المبدأ فجعل الناس متساوين في التكاليف والأحكام وفي المساءلة والعقاب ونحو ذلك (1) ، ولم يجعل التفاضل بينهم إلا بالتقوى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (2) ، فانتزع الإسلام جذور التعصب للون أو الجنس أو اللغة ونحوها ، وهذا لا يلغي التفاوت الذي يقره الإسلام بين الذكر والأنثى ، فلكل خصائصه وما يترتب عليها من واجبات وأحكام ، قال تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } (3) .
3) الحرية : وهي تحرير الناس من عبودية بعضهم بعضاً ، ويكون ذلك بالإقرار بحق الله في الحكم وحده : { ألا له الخلق والأمر } (4) .
4) الأمن : قال تعالى : { ... ولأبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } (5) ، وقال : { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته } (6) .
5) توفير مقومات الحياة الأساسية الأخرى : كالطعام والشراب والمسكن ونحوها، في مقابل محاربة الفقر أيضاً ، قال تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } (7) ، وقال : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } (8) .
6) المحافظة على الفضيلة ومحاربة الفساد والرذيلة : قال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } (9) ، وقال : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلية } (10) وهذه الآية مما جمعت مكارم الأخلاق كما ذكر أهل التفسير (11) .
__________
(1) انظر "المدخل لدراسة الشريعة" : ص40 .
(2) الحجرات : 13 .
(3) آل عمران : 36 .
(4) الأعراف : 54 .
(5) النور : 55 .
(6) البقرة : 283 .
(7) الأعراف : 31 .
(8) النحل : 80 .
(9) النحل : 90 .
(10) الأعراف : 199 .
(11) انظر قول الزمخشري فيها: الكشاف : 2/ 139 ، وقول السعدي : 2/ 182 .(1/50)
7) نشر العلم ومحاربة الجهل والتخلف : قال تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } (1) ، وقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } (2) .
8) الحوار لبيان الحق والدعوة إليه (3) : قال تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } (4) ، وقال : { وجادلهم بالتي هي أحسن } (5) ، وقال : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } (6) .
التقسيم الثالث : وهو باعتبار حقيقتها وواقعها العملي ، ويمكن تقسيمها إلى نوعين :
أولاً: حقوق معنوية : ويدخل ضمنها مما سبق ذكره على سبيل المثال ما يلي :
1) حق الحياة . ... ... ... 2) حق العبادة .
3) حق التعلم . ... ... ... 4) حق العدل .
5) حق الأمن .
- وقد تقدمت الآيات الدالة على هذه الحقوق .
ثانياً: حقوق مادية : ويدخل فيها على سبيل المثال ما يلي :
1) النفقة على الزوجة والولد : قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } (7) ، وقال : { لينفق ذو سعة من سعته } (8) .
2) الزكاة المفروضة : قال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... } (9) الآية .
3) الكفارات : قال تعالى في كفارة اليمين : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ... } (10) الآية ، وقال في كفارة الظهار : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً } (11) .
__________
(1) الزمر : 9 .
(2) النحل : 78 .
(3) انظر "الحوار : آدابه وضوابطه" ، د/ يحيى زمزمي : ص44-45 .
(4) العنكبوت : 46 .
(5) النحل : 125 .
(6) الحجرات : 13 .
(7) النساء : 34 .
(8) الطلاق : 7 .
(9) التوبة : 60 .
(10) المائدة : 89 .
(11) المجادلة : 4 .(1/51)
4) المواريث : قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين .. } (1) الآيات ، إلى غير ذلك من الحقوق المادية ، مما تقدمت الإشارة إلى بعضه كمراعاة مال اليتيم وتحريم أكله ، وأداء الأمانات ونحوها .
- هذه بعض أنواع الحقوق وأقسامها ، وهي تدل على أن الإسلام قد راعى جميع الحقوق وبجميع الاعتبارات ، مما فيه صلاح الدين والدنيا ، وصدق الله إذ يقول : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } (2) .
المطلب الرابع :
تقويم تطبيقات "القانون الدولي" في ضوء القرآن الكريم :
لقد تبين لنا بجلاء من خلال ما سبق ، منهج القرآن الكريم في قضية "حقوق الإنسان" التي تشغل العالم اليوم ، وهذا المطلب إنما هو تتمة للفائدة ، أهدف من خلاله إلى الوقوف وقفات عابرة ومختصرة مع مجمل مواد "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" والنظر في تطبيقاتها الواقعية وبعض آثارها العملية ، وتقويم ذلك في ضوء منهج القرآن في هذه القضية .
ولا أقصد هنا التفصيل في نقد "الإعلان العالمي" وبيان مخالفاته لمنهج الإسلام ، فإن هذا بحث واسع ، بل يشكل بحوثاً ورسائل ، ولكني قصدت النظرة الإجمالية ، بما فتح الله عليّ ، وألخصه في النقاط الآتية :
أولاً: بالنظر في ديباجة "الإعلان العالمي" يتبين لنا مخالفته لمنهج القرآن ، من حيث : واضعه ومنطلقه ودوافعه وغاياته ، فواضعه هو "الإنسان" ، الموصوف بالظلم والجهل ، الذين هما أصل كل بلية وشر (3) ، قال تعالى : { إنه كان ظلوماً جهولاً } (4) ، ومنطلقه : أن "الإنسان" إله نفسه ، ومشرع منهج حياته ، فمبناه على الإلحاد وإنكار الخالق ، أو على الفصل بين الدين والحياة ، إنطلاقاً من قولهم :( دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر )
__________
(1) النساء : 11 .
(2) الملك : 14 .
(3) انظر في ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" : ص32 .
(4) الأحزاب : 72 .(1/52)
أو ( الدين لله والوطن للجميع ) أو نحوها من الشعارات ، وقد بين القرآن أن الذي له الحق المطلق في التشريع للناس : هو رب الناس وحده ، قال تعالى : { ألا له الخلق
والأمر } (1) ، وقال سبحانه : { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه } (2) ، وقال في بيان جهل الإنسان وقصوره : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } (3) .
- وأما من حيث دوافعه : فإنه وضع حلاً لمشكلات طارئة ، فهو حل جزئي ينظر للقضية من خلال هذه الجزئيات ، فقد جاء هذا النص في الديباجة :( ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان ، لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم ) اهـ . وهذا الدافع يختلف جذرياً مع النظرة الشمولية التي جاء بها منهج القرآن ، الموضح في مثل قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } (4) ، وقوله : { وكل شيء فصلنا تفصيلا } (5) .
- وأما من حيث غاياته : فمن أصرح مخالفاته أنه ينص على غاية التحرر من الدين ، وحرية الكفر والإلحاد ، ففي ديباجته :( وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر : انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ، ويتحرر من الفزع والفاقة ) اهـ . وهذه الغاية تناقض منهج الله وحكمته في خلق الإنسان وتسخير ما في الأرض له ، ومنحه تلك الحقوق وغيرها ، قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (6) .
__________
(1) الأعراف : 54 .
(2) يوسف : 40 .
(3) البقرة : 216 .
(4) الأنعام : 38 .
(5) الإسراء : 12 .
(6) الذاريات : 56 .(1/53)
ثانياً: بالنظر في مواد "الإعلان العالمي" ، ثم آثاره في الواقع العملي ، يتبين بوضوح إهداره لكثير من الحقوق والضوابط والأحكام ، المتعلقة بحفظ الضرورات الخمس التي أجمعت عليها الشرائع ، فلا اعتبار فيه لحفظ الدين أصلاً، كما تقدم في ديباجته :( يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ) ، وجاء في المادة الثامنة عشرة :( لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته ) اهـ ، كما أن تطبيقات القانون الدولي ومواد هذا الإعلان العالمي ، قد لامس وهدد بل ونقض حفظ سائر الضرورات بعد الدين ، ونظرة عابرة في أحوال الغرب توضح ما آل إليه الحال من انتشار جرائم القتل والاعتداء على الممتلكات ، والجرائم الخلقية وحوادث الزنا واللواط والاغتصاب والشذوذ ونحوه ، ناهيك عن حالات السكر والمخدرات (1) ، وانتشار التعامل المالي الرأسمالي من خلال البنوك وشركات التأمين وأنظمة الضرائب ونحوها ، وهذه المظاهر التي تتمتع بحماية القانون في كثير من أحوالها ، هي النقض العملي لضرورة حفظ النفس والمال والعرض والعقل ، وتلكم نتيجة حتمية للإعراض عن منهج القرآن ، كما قال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً } (2) .
__________
(1) لدي كثير من الإحصاءات والقصاصات من تلك الجرائم والانتهاكات ، آثرت اختصار بعضها في الهوامش ، ومنها على سبيل المثال :[ في أمريكا: 4 جرائم في كل ثانية ما بين خطف وسرقة ، 1.5 تريليون دولار سوق البغاء في أمريكا ، 75% من النساء والغربيات يتعاطين المخدرات ، 13 مليون أمريكي يتعاطون الماريونا (نوع من المخدرات) ، أكثر من 50 مليون أمريكي مدمنون على الخمر ] جريدة النخبة / عدد محرم 1424هـ .
(2) طه : 124 .(1/54)
ثالثاً: إن تطبيق تلك المواد والقوانين المشابهة لها ، أفسد حياة الناس في جوانبها الدينية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية ، ولعل ما أشير إليه في الفقرة السابقة يؤكد هذا بوضوح ، وإضافة إليه : فإن انفلات الناس من الدين ، في ظل حرية التدين التي نصت عليها تلك القوانين ، أفسد الجانب الديني التعبدي لديهم ، ذلك أن الإنسان فُطِر على حب التدين والتعبد ، وإهمال هذا الجانب أو تهميشه أوقع الناس في عبادة المادة بمختلف صورها وأشكالها ؛ فصنف عَبَد الدولار وآخر عَبَد الجنس ، وثالث عَبَد الشيطان ، ومن هذا الفراغ الروحي ، انتشرت حالات القلق والأمراض النفسية وكثرت حوادث الانتحار ونحوها (1) .
وهكذا كان الشأن في الجانب الأخلاقي ، الذي أدى تطبيق الحرية المطلقة غير المنضبطة فيه ، إلى فساد خلقي عظيم ، فالحرية الشخصية احتالت إلى إباحية جنسية ، ونشر للفاحشة والرذيلة بجميع أشكالها وصورها (2) .
__________
(1) من الإحصاءات في هذا الجانب (30.000) ثلاثون ألف حادث انتحار في أمريكا في عام واحد ، 73% من فتيات بريطانيا حاولن الانتحار فعلاً ، 75% من طلبة المدارس في فرنسا يشكون من القلق الحاد والتوتر العصبي ، 75% من نساء أمريكا يشعرن بالقلق لانهيار القيم والتفسخ العائلي . [انظر مجلة الأسرة : العدد 51 ، جريدة النخبة ] .
(2) من الإحصاءات :[ 80% من الأمريكيات يعتقدن أن الحرية هي سبب الانحلال والعنف ، وفي أمريكا: مليون طفل سنوياً من السفاح ، مليون ونصف حالة إجهاض سنويا ، ثلث المواليد في العالم الغربي يأتون من الزنا ] جريدة النخبة ، مجلة الأسرة : عدد 51 .(1/55)
وأما في الجانب الاجتماعي ، فقد تقطعت أواصر المحبة والمودة ، وتنكّر الولد لأبيه وأمه ، وتمرد على أسرته وعائلته ، وامتلأت دور العجزة والمسنين ، بسبب تخلي الأبناء عنهم ، وكثرت حالات الطلاق والخيانات الزوجية وغيرها من مظاهر التفكك الاجتماعي ، ومن أبرز أسباب ذلك : الحرية الفردية الشخصية ، التي لم يضبطها دين أو منهج مستقيم (1) .
وأما في الجانب الاقتصادي ، فإن حرية التملك والتعامل الاقتصادي غير المنضبط ، أدى إلى استبداد الأغنياء بالمال ، وتعميق المنهج الرأسمالي ، الذي استولى على مقدرات الأمم والشعوب ، واستنزف خيرات البلاد ، واستغل طبقات الفقراء والعمال ، ومن خلال ذلك ازداد الأغنياء غناءً ، وازداد الفقراء فقراً وحاجة (2) .
رابعاً: قد يقول قائل: إن رغم تلك السلبيات والمخالفات ، إلا أن الناس في الغرب يتمتعون بحريات لا توجد في بلاد الإسلام اليوم ، كحرية الرأي والتعبير والانتخاب والاحتجاج ونحوها ، وهذا أمر لا يُنكر ، ولكن لا يعني ذلك أنه هو البديل عن الدين الحق ، والمنهج العدل الذي شرعه الله ، وذلك لأمور :
__________
(1) في دراسة أمريكية عام 1417هـ :[ 79% من الرجال يضربون زوجاتهم ، 85% من الزيجات في الدول الغربية تنتهي بالطلاق، 6 ملايين حالة ضرب شديد من قبل الوالدين لأولادهم في أمريكا ، 3 آلاف منهم يؤدي بهم الضرب إلى الموت ، مليون حالة طلاق سنوياً في أمريكا ] مجلة الأسرة ن عدد 43 ، جريدة النخبة .
(2) تؤكد الإحصاءات هذا الأمر : ففي أمريكا 5.6 تريليون دولار يمتلكها 1% من العائلات الغنية ، 36 مليوناً يعيشون تحت خط الفقر . (جريدة النخبة) .(1/56)
1) أن منهج الإسلام قد تكفل وضمن تلك الحقوق والحريات وأكثر منها ، كما تقدم في ثنايا البحث شيء من ذلك ، ولكن مشكلة المسلمين اليوم في سوء التطبيق أو عدمه ، وكذا فلا يحتج على الدين بسوء تصرفات أتباعه ، وحتى نعلم صدق ذلك فلننظر إلى التطبيق العملي الصحيح لتلك الحقوق ، من خلال سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه وهدي خلفائه من بعده ، وعندها سيتبيّن لنا بحق أنه لا مجال للمقارنة أصلاً بين منهج الإسلام ومناهج الجاهلية : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } (1) .
2) أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان ، ولم ينته دوره -كما يزعم أهل الإلحاد وغيرهم- ، ومنهجه في تقرير قضية "حقوق الإنسان" واضح بيّن لمن أراد الحق والهدى ، ولم يأت القانون الوضعي بخير ، إلا وقد جاء الإسلام بأفضل منه وأكمل ، قال تعالى
:
__________
(1) المائدة : 50 .(1/57)
{ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً } (1) ، وقال سبحانه : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } (2) ، فلئن اهتدى أهل القانون الدولي وغيرهم إلى هدي قويم من العدل والخير ، فإن القرآن يهدي لما هو أقوم منه وأفضل (3) . وما الآيات الكثيرة وأنواع الحقوق وأصناف وفئات الناس التي تقدم ذكرها في البحث ، إلا دليل على ذلك ، إضافة إلى الجهود المبذولة لتقديم "حقوق الإنسان في الإسلام" (4) الذي تم إجازته من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1411هـ/1990م ، والذي حاول كاتبوه تجنب كثير من سلبيات "الإعلان العالمي" ، وتقييد بعض مواده ، بما يوافق الشريعة الإسلامية ، إضافة إلى نص المادة الرابعة والعشرين على أن :( كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية ) اهـ ، وكذا المادة الخامسة والعشرين وهي :( الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة ) اهـ .
نسأ الله أن يوفق دول الإسلام للعمل بهذه المبادئ وسائر شرائع الدين ، ليقدموا القدوة العملية للعالم ، الذي يعيش حال الضياع والانفلات في قالب الحضارة والتقدم ، ولا خلاص له إلا بدين الإسلام : { أفغير دين الله يبغون ( وله اسلم من في السموات والأرض طوعاً وكَرهاً وإليه يُرجعون } (5) والله أعلم .
الخاتمة
__________
(1) الفرقان : 33 .
(2) الإسراء : 9 .
(3) انظر بعض هدايات القرآن للتي هي أقوم في "أضواء البيان" : 3/ 409-457 .
(4) انظره في ملحقات البحث .
(5) آل عمران : 83 .(1/58)
وبعد هذه الجولة العطرة في رحاب "القرآن الكريم" ، الذي لا تنقضي عجائبه ، ولا تنفد علومه ومعارفه ، كيف وهو كلام الله القائل : { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً } (1) وبعد هذا الجهد المتواضع اليسير ، في محاولة تأصيل قضية "حقوق الإنسان" ، التي تشغل العالم اليوم، أخلص إلى الآتي :
أولاً : أهم النتائج :
1) أن القرآن الكريم قد عُني "بالإنسان" عناية متميزة ، تحقيقاً لإنسانيته ، وحفظاً لكرامته، وتأكيداً لخلافته .
2) أن القرآن الكريم قد راعى "حقوق الإنسان" وأصّلها بمفهومها الواسع ، مما لا يوجد في غير منهج الإسلام ، وجعل تلك الحقوق واجبات إلزامية ، يترتب عليها الثواب والعقاب .
3) أن القرآن الكريم قد سبق القانون الدولي بمختلف مواثيقه ومعاهداته وإعلاناته ، في منح "الإنسان" حقوقه ، من حيث الزمان والأصالة ، والشمول والكمال ، والثبات والضمانات ، واقتران الجزاء الدنيوي والأخروي بأدائها .
4) أن مظاهر تكريم الله للإنسان في القرآن الكريم ، واضحة ومتعددة في جميع مراحل حياته ، بدءاً من خلقه في أحسن تقويم ، ثم جعله خليفة لله في أرضه ، وتفضيله على بقية المخلوقات ، وتسخير ما في الكون له ، وانتهاءً بأعظم إكرام : إرسال الرسل إليه ، وإنزال الكتب والشرائع عليه ، وذلك التكريم هو تطبيق عملي لمبدأ "حقوق الإنسان" .
5) أن القرآن الكريم قد راعى "حقوق الإنسان" -رجلاً كان أو امرأة ، صغيراً أو كبيراً، حياً أو ميتاً- لمختلف أصناف الناس فجعل لكل صنفاً حقوقه : فحقوق للمسلمين ، وهم أصناف وأقسام : كولي الأمر والوالدين والزوجين والأولاد واليتامى والمساكين والجيران وغيرهم ، وحقوق لغير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين وهكذا .
__________
(1) الكهف : 109 .(1/59)
6) أن الحقوق التي راعاها القرآن الكريم لها أنواع وأقسام متعددة ، وباعتبارات مختلفة : سواء من حيث مقاصدها وغاياتها ،أو باعتبار من تجب له ،أو باعتبار حقيقتها وواقعها العملي .
7) إن تطبيقات القانون الدولي لحقوق الإنسان عليه مآخذ كثيرة ، فهو علاج جزئي لمشكلة وقتية ، على حساب إهمال جوانب أخرى ، يئن العالم اليوم من ويلاتها ونكباتها ، ولا منقذ له من التخبط والضياع ؛ إلا بدين الإسلام .
ثانياً : التوصيات :
1) أوصي إخواني من الباحثين أن يعنوا عناية خاصة بدراسة قضية حقوق الإنسان في ضوء القرآن الكريم ، غير متأثرين بالمناهج البشرية والقوانين الوضعية ، المخالفة لمنهج القرآن.
2) أوصي دول الإسلام متمثلة في الهيئات والمنظمات الإسلامية ؛ بتفعيل إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام ، الذي أجيز من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1990م ، لما حواه من منهج شرعي متميز ، يتوافق مع منهج القرآن .
3) أوصي المعنيين بتطبيق مبادئ حقوق الإنسان في بلاد الإسلام ؛ أن يحذروا الخضوع للضغوط الغربية وما شابهها ، في قضية "حقوق الإنسان" ، مما قد يؤدي بالبعض إلى تجاوز الحدود الشرعية ، والخروج عن منهج القرآن .
هذا والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين.
المراجع والمصادر
1- الألباني : محمد ، ناصرالدين / "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" / المكتب الإسلامي - بيروت / ط الثانية 1405هـ .
2- الألباني: "صحيح الجامع الصغير" /المكتب الإسلامي - بيروت /ط الثانية 1406هـ.
3- الألباني: "صحيح سنن ابن ماجه" /المكتب الإسلامي-بيروت /ط الأولى 1407هـ.
4- الألباني: "صحيح سنن الترمذي" /المكتب الإسلامي-بيروت /ط الأولى 1408هـ .
5- الألباني: "صحيح الأدب المفرد" /دار الصديق - السعودية /ط الثانية 1415هـ .(1/60)
6- الألباني: "مشكاة المصابيح" /المكتب الإسلامي -بيروت /ط الثانية 1405هـ .
7- البخاري : محمد بن إسماعيل / "الأدب المفرد" / مكتبة الآداب - القاهرة .
8- البخاري : "الجامع الصحيح" - صحيح البخاري / دار المعرفة - بيروت .
9- البغوي: الحسين بن مسعود/"معالم التنزيل" /دار طيبة-الرياض/ط الرابعة 1417هـ.
10- ابن الأثير : المبارك بن محمد / "النهاية في غريب الحديث والأثر"/ ت: طاهر الزاوي، محمود الطناحي / المكتبة العلمية - بيروت .
11- ابن تيمية: أحمد بن عبدالحليم/"اقتضاء الصراط المستقيم"/دار الحديث بالأزهر-مصر
12- ابن تيمية: "مقدمة في أصول التفسير"/ دار مكتبة الحياة -بيروت/1980م .
13- ابن الجوزي : عبدالرحمن بن علي /"زاد المسير في علم التفسير" / المكتب الإسلامي - بيروت / ط الثالثة 1404هـ .
14- ابن الجوزي : "غريب الحديث" ، ت: د/ عبدالمعطي قلعجي / دار الكتب العلمية - بيروت / ط الأولى 1405هـ .
15- ابن حجر : أحمد بن علي /"فتح الباري بشرح صحيح البخاري" / مراجعة: عبدالعزيز بن باز / دار المعرفة - بيروت .
16- ابن حنبل : أحمد بن محمد / المسند / المكتب الإسلامي - بيروت /ط الرابعة .
17- ابن عاشور : محمد الطاهر / "التحرير والتنوير" / الدار التونسية / ط 1984م .
18- ابن القيم : محمد بن أبي بكر / "زاد المعاد من هدي خير العباد" / مؤسسة الرسالة - بيروت / ط الثانية 1401هـ .
19- ابن القيم : "مفتاح دار السعادة/مكتبة حميدو-الإسكندرية /ط الثالثة 1399هـ .
20- ابن كثير: إسماعيل ، الدمشقي/ "تفسير القرآن العظيم"/ دار إحياء الكتب العربية / فيصل البابي الحلبي .
21- ابن ماجه: محمد بن يزيد/ "سنن ابن ماجه"/ دار الفكر للطابعة والنشر .
22- ابن منظور: محمد بن مكرم/ "لسان العرب"/ دار إحياء التراث العربي - بيروت /ط الثالثة 1413هـ .(1/61)
23- أبو داود: سليمان بن الأشعث/ "سنن أبي داود" / ومعه "معالم السنن للخطابي"/ دار الحديث - بيروت / ط الأولى 1391هـ .
24- الترمذي: محمد بن عيسى/ "سنن الترمذي = الجامع الصحيح"/ مطبعة مصطفى الحلبي / ت: إبراهيم عطوة /ط الثانية 1395هـ .
25- الجرجاني: الشريف علي بن محمد/ "كتاب التعريفات"/ دار الكتب العلمية - بيروت 1416هـ .
26- الجوهري: إسماعيل بن حماد/ "الصحاح" / دار العلم-بيروت /ط الثالثة 1404هـ.
27- حسين: د/ محمد محمد/ "الإسلام والحضارة الغربية" / المكتب الإسلامي - بيروت /ط الأولى 1399هـ .
28- حقي: د/ إحسان / "ترجمة (بروتوكولات حكماء صهيون)/ دار النفائس - بيروت /ط الثانية 1410هـ .
29- الحقيل: د/ سليمان بن عبدالرحمن/ "حقوق الإنسان في الإسلام" / مطابع الفرزدق - الرياض /ط الأولى 1414هـ .
30- خلاف: عبدالوهاب / "علم أصول الفقه" / دار القلم /ط الرابعة عشر 1401هـ.
31- الدرعان: د/ عبدالله / "المدخل للفقه الإسلامي"/مكتبة التوبة/ط الأولى 1413هـ.
32- الزحيلي: د/ محمد / "حقوق الإنسان في الإسلام" / دار القلم - دمشق .
33- الزرقا: مصطفى أحمد/ "المدخل الفقهي العام" / دار الفكر ، ط التاسعة .
34- الزمخشري: محمود بن عمر/ "الكشاف" / ت: محمد الصادق قمحاوي / مطبعة مصطفى الحلبي - مصر .
35- زمزمي: يحي بن محمد/ "الحوار: آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة/ دار التربية والتراث - مكة المكرمة / ط الأولى 1414هـ .
36- زيدان : عبدالكريم/ "المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية" / دار عمر بن الخطاب - الإسكندرية /ط السادسة 1401هـ .
37- السعدي: عبدالرحمن بن ناصر/ "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" / دار المدني - جده / 1408هـ .
38- السفياني: د/ عابد بن محمد/ "حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب"/ مؤسسة المؤتمن - الرياض .(1/62)
39- الشاطبي: إبراهيم بن موسى/ "الموافقات في أصول الأحكام"/ المكتبة الفيصلية - مكة المكرمة .
40- الشنقيطي: محمد الأمين بن المختار/ "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"/ دار الباز - مكة المكرمة .
41- الشنقيطي: محمد الأمين/ "مذكرة أصول الفقه"/ المكتبة السلفية - المدينة المنورة .
42- الشوكاني: محمد بن علي/ "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"/ دار الفكر - بيروت / 1403هـ .
43- الطبري: محمد بن جرير/ "جامع البيان في تأويل القرآن"/ دار الكتب العلمية - بيروت /ط الأولى 1412هـ .
44- عبدالباقي: محمد فؤاد/ "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" / دار الحديث - القاهرة / 1407هـ .
45- العلياني: علي بن نفيع/ "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية"/ دار طيبة - الرياض /ط الأولى 1405هـ .
46- الفيروز آبادي: محمد بن يعقوب/ "القاموس المحيط"/ المؤسسة العربية للطباعة والنشر - بيروت .
47- الفيومي: أحمد بن محمد بن علي/ "المصباح المنير" / مكتبة لبنان - بيروت .
48- القرطبي: محمد بن أحمد/ "الجامع لأحكام القرآن" / دار الكتب العلمية - بيروت /ط الأولى 1408هـ .
49- القطان: مناع خليل/ "التشريع والفقه في الإسلام" / مؤسسة الرسالة - بيروت /ط الثانية 1407هـ .
50- قطب: سيد / "في ظلال القرآن" / دار الشروق - القاهرة / الطبعة الحادي عشرة 1405هـ .
51- قطب: محمد/"مذاهب فكرية معاصرة"/دار الشروق-القاهرة/ط الرابعة 1409هـ.
52- القطب: د/ القطب محمد/ "الإسلام وحقوق الإنسان : دراسة مقارنة"/ دار الفكر العربي /ط الثانية 1404هـ .
53- محمد: يسري السيد/ "بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية"/ دار ابن الجوزي - السعودية /ط الأولى 1414هـ .
54- المناوي: عبدالرؤوف/ "التوقيف على مهمات التعريف" / ت: عبدالحميد صالح / عالم الكتب - القاهرة /ط الأولى 1410هـ .(1/63)
55- النيسابوري: مسلم بن الحجاج/ "صحيح مسلم" / ت: محمد فؤاد عبدالباقي / دار الفكر - بيروت 1403هـ .
56- الواحدي: علي بن أحمد/ "أسباب النزول" / ت: عصام الحميدان / دار الإصلاح - الدمام / ط الأولى 1411هـ .
57- الواحدي: علي بن أحمد / "الوسيط في تفسير القرآن" / ت: محمد أبو العزم / المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية .
58- الوادعي: مقبل بن هادي/ "الصحيح المسند من أسباب النزول"/ دار الأرقم /ط الرابعة 1405هـ .
59- ونسنك: د/ أ.ي / "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" / مكتبة بريل - ليدن 1936م .
مواقع على شبكة الإنترنت :
60- " الأمم المتحدة " www.un.org/arabic
61- "مكتبة حقوق الإنسان" / جامعة منيسوتا :
www.umn.edu/humanrts/arab
62- "منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان" :
www.hrw.org/arabic
ملحقات البحث(1/64)