فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم
أنواعه - شروطه - أسبابه - مراحله وأهدافه(/)
الإهداء
إلى العلماء العاملين ..
والدعاة المخلصين ..
وطلاب العلم المجتهدين ..
وأبناء الأمة الغيورين
أهدى هذا الكتاب سائلاً المولى عَزَّ وَجَل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يكون خالصًا لوجهه الكريم.
{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن موضوع فقه التمكين في القرآن الكريم يحتاج لبحث تحليلي عميق لخطورته ولأهميته في حياتنا المعاصرة حيث إن الأمة تمر بفترة عصيبة من تاريخها, فهي في أشد الحاجة لفهم فقه التمكين حتى ترسم أهدافها وتسعى لتحقيق آمالها وفق سنن الله الجارية في الشعوب والأمم والمجتمعات والدول، ولقد لاحظت في دراستي للقرآن الكريم أن أصول فقه التمكين واضحة المعالم في كتاب الله الكريم, فما على الباحث إلا أن يجمعها ويرتبها ويحللها ويبين أثرها على حياة الأمة عندما حرصت على تطبيقه في كل شئون حياتها، وماذا أصابها عندما ابتعدت عن كتاب ربها وسنة نبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن وصول الأمة الإسلامية في هذا الزمان إلى التمكين ليس بالأمر السهل، ولكنه كذلك ليس بالأمر المستحيل، إذ على الرغم من التضييق الشديد والحرب الضروس التي تشن على الإسلام والمسلمين، فإن كثيرًا من المسلمين يرون أن التمكين لدين الله قاب قوسين أو أدنى من ذلك، ومهما رأى(1/5)
الأعداء أن التمكين للإسلام بعيد يشبه المستحيل فإن المسلم واثق بوعد الله أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وهذا ليس من باب الأحلام والتمنيات، ولكن من باب الثقة في الله تعالى، واليقين بوعده، إن كثيرًا من علماء الأمة وطلاب العلم فيها أجادوا في التصنيف في فنون متعددة ومتنوعة من علوم الدين، كما أنهم أفادوا الأمة في شرح الداء الذي أصيبت به الأمة, وفي بيان المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل اليهود والنصارى وأعداء الإسلام، وبينوا شراسة الحملة التي شنها أعداء الإسلام بضراوة، وبكل الصور والأساليب على الأمة الإسلامية لتثبيط المسلمين، وخنق الأمل في صدورهم، وبث روح الهزيمة النفسية بين جوانحهم حتى لا ترتفع رؤوسهم، ولا تقوى عزائمهم، فيظلون في ذلك الضعف والهوان الذي صاروا إليه، فيصل بهم الأمر إلى الذوبان، والضياع، والتمزق بين سطوة الأمم التي تداعت عليها كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها، لقد تحدث بعض الخطباء والوعاظ عن مشاكل
الأمة، وفساد أحوالها، بصورة تنشر اليأس وتوصد أبواب الأمل في وجه أبناء الأمة الغيورين، وشاعت روح الهزيمة بين صفوفهم، وأصبحنا كثيرًا ما نسمع من يقول: ماذا نفعل؟ ضاع الإسلام والمسلمون! .. ويقفون على ذكريات الماضين ويتغنون بأمجادهم، فأدركت أن الأمر كبير, والقضية خطيرة ورأيت أن الأمة في أمسَّ الحاجة إلى ما يرد إليها ثقتها بربها، ومنهجها، في حاجة إلى من يوقظ الإيمان في قلبها، ويرشدها للأخذ بأسباب التمكين وشروطه، ويبين لها طبيعة الطريق، وكيفية السير فيه، ويوضح لها المعالم لتعرف كيف تعمل؟ وإلى أين تسير؟
إن الأمة في أشد الحاجة إلى فقه التمكين والعمل به، وعلى حد إطلاعي المحدود على هذا الفقه تعتبر أبحاثه جديدة؛ حيث بدأت الكتابة فيه والإشارة إلى أهميته مؤخرًا، وقد ظهرت بعض الكتب القيمة كالرسالة العلمية التي قُدمت للأزهر الشريف للباحث محمد يوسف بعنوان التمكين للأمة الإسلامية في ضوء(1/6)
القرآن الكريم، وما كتبه الدكتور على جريشة في كتابه: دعوة الله بين التكوين، والدكتور على عبد الحليم في كتابه: فقه الدعوة إلى الله، وفقه المسئولية، وقد رأيت أن مادة فقه التمكين من أهم الأبحاث والأطروحات التي يجب أن يهتم بها الباحثون، ولذلك استعنت بالله ثم بشيوخي الكرام, وأخص بالذكر الدكتور أحمد محمد جيلي للخوض في بحر فقه التمكين.
إن مادة فقه التمكين في القرآن غزيرة جدًا بحيث نجد أن القرآن الكريم تكلم
عن أنواع التمكين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} [يوسف: 21]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ... } [يوسف: 56].
فإذا تأملت في الآيتين تلاحظ أن الآية الأولى أشارت للتمكين الجزئي ليوسف عليه السلام، والآية الثانية للتمكين الكلى في حقه، كما نجد أن القرآن الكريم أشار إلى أسباب التمكين المعنوية والمادية في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، وأشار القرآن الكريم إلى شروط التمكين في قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
وأشار القرآن الكريم إلى مراحل التمكين في قصة بني إسرائيل من زمن موسى عليه السلام إلى العصر الذهبي في زمن داود وسليمان عليهما السلام.
وأشار القرآن إلى أهداف التمكين في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] , كما أشار القرآن الكريم إلى سيرة بعض المصلحين من الأنبياء والمرسلين وبين صفاتهم التي أهلتهم إلى أن أكرمهم الله بالتمكين كيوسف عليه السلام، قال تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].(1/7)
وكسليمان عليه السلام في قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ - فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ... " إلى أن قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 36 - 40].
وأشار القرآن الكريم إلى تمكين الله لذي القرنين وصفاته الربانية وشكره لله على نعمة التمكين، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، وقال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95].
وأشار القرآن الكريم إلى صفات جيل التمكين، قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54].
لقد قمت بدراسة الآيات السابقة من خلال أقوال المفسرين والعلماء والفقهاء وحاولت أن أنزلها على واقع المسلمين المعاصر حتى يتضح شيء من معالم فقه التمكين الذي نحن في أشد الحاجة إليه، وحاولت أن أستشهد بسيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التطبيقات العملية لفقه التمكين, وحرصت على دراسة السيرة النبوية دراسة متأنية مع التأمل بالإضافة لسيرة الخلفاء الراشدين حيث يعتبر عصرهم مدرسة مهمة في تطبيق هذا الفقه وتعرضت للحركات الإسلامية التي كان لها أثر في القرنين الماضيين والتي تركت معالم نيرة في فقه التمكين والتي توارثتها الحركات الإسلامية المعاصرة محاولاً إبراز فقه التمكين عندها ومناهج الإصلاح والتغيير التي انتهجتها في سعيها لتمكين الإسلام في هذا الزمان.
لقد كان اختياري لهذا الموضوع لأسباب من أهمها:
1 - رغبتي في بحث يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فيقدم ما ينفع لعصرنا مما قرره علماء التفسير، فيكون فهمنا لفقه التمكين مستفادًا من فهمهم، فيجمع بذلك بين حفظ أقوالهم، وتقديم الحلول الصحيحة للمشكلات التي تتعرض لها الأمة في سعيها للتمكين.(1/8)
2 - بيان ضوابط وقواعد، ورسم معالم وحدود نفهم بها حقيقة فقه التمكين من خلال إبراز أنواعه وأسبابه وشروطه، ومراحله وأهدافه.
3 - محاولة لم شَعْثِ موضوع فقه التمكين في رسالة علمية، تعطى فكرة متكاملة
عن موضوعه.
4 - دحض شُبه المغْرضين، وتفنيد آراء المغترين، الذين يتهمون ديننا بالجمود والقصور وعدم الوفاء بمتطلبات العصر, وأنه ليس له القدرة على خوض معارك التغيير والوصول بالأمة نحو التمكين الشامل لدينها من خلال دولة تحكم بشرع الله تعالى.
خطة البحث:
لقد اقتضت طبيعة الموضوع منى جعل البحث في:
مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة، وتفصيلها على النحو التالي:
أولاً: المقدمة:
تكلمت فيها عن أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والخطة التي سرت عليها، والمنهج الذي سلكته في معالجة مسائل البحث.
ثانيًا: التمهيد:
وتكلمت فيه عن مصطلحات عنوان البحث من الناحية اللغوية والشرعية.
ثالثًا: الأبواب:
الباب الأول: أنواع التمكين في القرآن الكريم، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: تبليغ الرسالة وأداء الأمانة.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أصحاب القرية.
المبحث الثاني: أصحاب الأخدود.(1/9)
المبحث الثالث: تمكين الله تعالى لرسول الله لتبليغ الرسالة في مكة.
الفصل الثاني: هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين ونصرهم في المعارك.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: قصة نوح عليه السلام وهلاك قومه.
المبحث الثاني: موسى عليه السلام مع فرعون.
المبحث الثالث: طالوت عليه السلام مع بنى إسرائيل.
المبحث الرابع: الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع قومه.
الفصل الثالث: في المشاركة في الحكم، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أدلة المانعين وأدلة القائلين بالجواز.
المبحث الثاني: شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة.
الفصل الرابع: إقامة الدولة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.
المبحث الثاني: فقه التمكين عند ذي القرنين.
الباب الثاني: شروط التمكين وأسبابه، وفيه فصلان:
الفصل الأول: شروط التمكين، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الإيمان بالله والعمل الصالح.
المبحث الثاني: تحقيق العبادة.
المبحث الثالث: محاربة الشرك.
المبحث الرابع: تقوى الله.
الفصل الثاني: أسباب التمكين، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد.(1/10)
المبحث الثاني: الأسباب المعنوية.
المبحث الثالث: الأسباب المادية.
الباب الثالث: مراحل التمكين وأهدافه، وفيه فصلان:
الفصل الأول: مراحل التمكين، وفيه خمسة مباحث.
المبحث الأول: مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام.
المبحث الثاني: مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة.
المبحث الثالث: مرحلة المغالبة.
المبحث الرابع: مرحلة التمكين.
المبحث الخامس: الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين.
الفصل الثاني: أهداف التمكين، وفيه مبحثان.
المبحث الأول: إقامة المجتمع المسلم.
المبحث الثاني: نشر الدعوة إلى الله.
رابعًا: الخاتمة, وفيها أهم نتائج البحث.
* منهجي في البحث:
لقد كانت كتابتي في هذا الموضوع ضمن منهج معين التزمت به قدر الإمكان، وهذا المنهج فيما يأتي:
1 - الرجوع إلى المصادر الأصلية في البحث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
2 - الحرص على التزام الأمانة العلمية في عزو الأقوال إلى قائليها، وبذل الجهد في نقل قول كل قائل من مصدره على قدر المستطاع.
3 - الحرص على تدعيم البحث بالنصوص الشرعية من الكتاب والسُنَّة، ونصوص العلماء مع تمييز كل ذلك بعلامات التنصيص، والأقواس.(1/11)
4 - بيان مواضع الآيات القرآنية الكريمة في المصحف الشريف، وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية.
5 - تخريج الأحاديث النبوية الواردة في ثنايا الرسالة من كتب الأحاديث المشهورة.
6 - تخريج الأبيات الشعرية من دواوين قائليها إن تمكنت من ذلك، وإلا ذكرت مَنْ ذكرها من العلماء.
7 - الترجمة للأعلام الواردة أسماؤهم في الرسالة.
8 - شرح المصطلحات والكلمات الغريبة.
9 - وضع فهارس علمية في آخر الرسالة تسهل الاستفادة منها وهي كالآتي:
أ- فهرس المصادر والمراجع.
ب- فهرس الموضوعات.
هذا، وإني بذلت ما في وسعى في معالجة قضايا هذا الحديث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، غير أن قِلّة بضاعتي، وصعوبة هذا البحث، وتشعب مباحثه أثنتني عن كثير مما أردت.
ولا يفوتني - في الختام - أن أتقدم بجزيل الشكر إلى أستاذي وشيخي الجليل فضيلة الدكتور: أحمد محمد جيلي الذي أكرمني الله تعالى به للإشراف على هذه الرسالة، ولقد كان - حفظه الله- مثالاً حسنًا للأخلاق الفاضلة، ونموذجًا حيًا للصدق والإخلاص، والتواضع، والكرم، وبشاشة الوجه.
ولقد أفادني بتوجيهاته المفيدة، وآرائه السديدة، وتعليقاته النفسية، ولقد أعطاني من وقته وتوجيهاته ما ذلل أمامي عقبات كثيرة في البحث، لقد كان -حفظه الله تعالى - بعد الله - عونًا مخلصًا، وكنت إذا ما واجهتني مشكلة في البحث، أتصل به، فأجد من فضيلته كل ترحيب وتقدير.(1/12)
فالله أسأل أن يثيبه وأن يجزيه أحسن الجزاء، وأن يطيل عمره في طاعته وأن يبارك له في وقته وأهله وماله.
كما أتقدم بالشكر إلى أساتذتي وإخواني الذين وقفوا معي بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا البحث, ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر إلى جامعة أم درمان الإسلامية على ما تبذله من عطاء متجدد للأمة الإسلامية، وغرس للعقيدة الصحيحة في نفوس أبنائها، وقد أكرمني الله بالدراسة فيها, فأسأله سبحانه أن يجزى القائمين عليها خير الجزاء، وأن يعينهم على أداء واجبهم, إنه سميع قريب.
كما أسأله سبحانه أن يمن علينا بنعمة الإيمان والعيش مع القرآن والعمل للإسلام مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأن يجعل ما قدمنا حجة لنا لا حجة علينا .. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * *(1/13)
تمهيد
هذا تمهيد مختصر يعطى نبذة موجزة عن المصطلحات المتعلقة بعنوان البحث:
أولاً: الفقه: له معنيان، معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي.
أ- والمعنى اللغوي فيه ثلاثة أقوال:
1 - الفقه: مطلق الفهم سواء كان غرضًا للمتكلم أم لغيره، وهذا الذي عليه أئمة اللغة، واستدلوا له بما ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى في شأن الكفار: {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، ومثل قوله تعالى على لسان قوم شعيب عليه السلام: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} [هود: 91] فيستفاد ويفهم من الآية الأولى أن فهم أي حديث ولو كان واضحًا سمي فقهًا، ويفهم من الآية الثانية أن قوم شعيب عليه السلام كانوا يفهمون بعض كلامه. (1)
ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي - يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28].
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين». (2)
2 - الفقه: هو فهم غرض المتكلم من كلامه سواء كان الغرض واضحًا أم غير واضح، فلا يسمى فهم ما ليس غرضًا للمتكلم فقهًا كفهم لغة الطير مثلاً.
3 - الفقه: هو فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا والأرض تحتنا (3)، وهذا مردود بما قاله أئمة اللغة: إن الفقه هو مطلق الفهم، وامتناع قولهم فقهت السماء والأرض إنما هو من ناحية أن الفقه يتعلق بالمعاني لا بالمحسوسات، والسماء والأرض من قبيل المحسوسات.
_________
(1) انظر: لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين بن منظور (ج 11كتاب الهاء فصل الفاء/ 522).
(2) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين (1/ 30) رقم 71.
(3) شرح الأسنوي (ج1/ 15)، أصول الفقه لأبي النور زهير (1/ 6).(1/14)
والراجح من هذه المعاني هو المعنى الأول للفقه، الذي هو مطلق الفهم، ويقال فقه بكسر القاف: أي فهم، وفَقُهَ بالضم: صار الفقه له سجية وملكة، وفَقَه بالفتح: سبق غيره إلى الفهم. (1)
ب- المعنى الاصطلاحي للفقه:
يراد بالفقه في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. (2) أو هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. (3)
ج- التطور التاريخي لكلمة (فقه):
أذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض الصحابة في الاجتهاد بعد أن توافرت فيه شروطه وبسبب ابتعادهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعذر مراجعتهم له حين حدوث الواقعة كمعاذ بن جبل رضي الله عنه (4) حين بعثه إلى اليمن معلمًا وقاضيًا, وكان الصحابة الذين يجتهدون في بعض الوقائع الخاصة يعرضون اجتهادهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنية إقرارهم أو توجيههم إلى الصواب، ومع ذلك لم يشع إطلاق اسم الفقهاء عليهم، وإنما كانت هذه الكلمة ترد في توجيهات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى ألسنة الصحابة والتابعين، وكان معناها عندهم يقصد به أصحاب الفطنة والبصيرة النافذة في أحكام الدين ومعاني النصوص من الكتاب والسُنَّة، ففي الحديث يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه» (5)، فذل الحديث على تفاوت الناس في فهم معاني النصوص وما ترمى إليه عند استخلاص الأحكام منها. (6)
_________
(1) انظر: أصول الفقه الإسلامي، د. حسن الأهدل ص10.
(2) انظر: المفردات للراغب الأصبهاني ص384.
(3) انظر: شرح الكوكب المنير للفتوحي ص11.
(4) هومعاذ بن جبل الخزرجى الأنصاري البدرى من أعلم الصحابة بالحلال والحرام, توفى في طاعون عمواس سنة 18هـ وعمره ست وثلاثون سنة، سير أعلام النبلاء (1/ 443 - 460).
(5) أبو داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3/ 322) رقم 3660.
(6) انظر: المدخل إلى الفقه الإسلامي، د. عبد الله الدرعان ص31.(1/15)
ومن هنا يتضح أن إطلاق كلمة (الفقه) كانت تعنى العلم بأحكام الدين على وجه العموم والشمول سواء كان فقه العقيدة، أو فقه التفسير أو فقه الحديث أو فقه الفتيا في أمور العبادات، والمعاملات، فيكون المقصود (بالفقهاء) هم العلماء في أمور الدين الإسلامي جملة، أما في أوساط عهد التابعين، فقد أخذت كلمة (الفقه) مدلولاً أخص من مدلولها الأول، فلا تطلق إلا على علم الأحكام الشرعية العملية التي يتوصل العلماء إلى استنباطها من الأدلة التفصيلية، واشتهر من اشتغل بهذا الجانب (بالفقهاء) فقيل: فقه الإمام أحمد (1) , وفقه الإمام الشافعي (2) , وفقه الإمام مالك, وفقه الإمام أبى حنيفة (3) وهكذا (4).
ثانيًا: التمكين في اللغة والاصطلاح:
أ- التمكين في اللغة:
مصدر الفعل (مَكَّن) الذي يتكون من الحروف (م، ك، ن) ومنه (أمْكَنَه) منه بمعنى استمكن الرجل من الشيء، وتمكّن فلان من الشيء، وفلان لا (يُمْكِنه) النهوض أي لا يقدر عليه. (5)
ومن التمكين المَكِنَة تقول العرب: إن بنى فلان لذو مَكِنة من السلطان أي تمكَّن (6). وتسمى العرب موضع الطير مكنة لتمكن الطير فيه (7) , والمكانة عند العرب هي المنزلة عند الملك، والجمع مكانات، لا يجمع جمع تكسير، وقد مَكُن مَكانةً فهو مَكين، والجمع مُكنَاء, ونُمكّن - تمكُّن.
_________
(1) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد الشيباني ولد عام 164هـ وتوفى عام 241هـ, انظر: تقريب التهذيب ص84.
(2) هو محمد بن إدريس بن هاشم المطلبى ولد عام 150هـ، وتوفى عام 254هـ, تقريب التهذيب ص 467.
(3) هو النعمان بن ثابت الكوفي فقيه مشهور مات عام 150هـ, تقريب التهذيب ص 563.
(4) انظر: المدخل إلى الفقه الإسلامي، د. عبد الله الدرعان، ص 31.
(5) انظر: مختار الصحاح لأبي محمد الرازي، ص 635.
(6) انظر: لسان العرب (ج13، فصل النون، باب مكن ص414).
(7) نفس المصدر، (ج13، فصل النون، باب مكن ص414).(1/16)
والمتمكن من الأسماء: ما قبِلَ الرفع والنصب والجر لفظًا. (1)
فالتمكين في اللغة: سلطان وملك.
وقد أشار المولى عَزَّ وَجَلَّ في قوله تعالى عن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84].
والمعنى: أن الله مكن لهذا العبد الصالح في الأرض، فأعطاه سلطانًا قويًا، ويسر له كل الأسباب التي تدعم هذا السلطان، وأعطاه من كل شيء مما يحكم السلطان ويقويه، وكذلك الشأن في حديث القرآن الكريم، عن نبي الله يوسف بن يعقوب، عليهما السلام، فقد مكن الله ليوسف في الأرض {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 56، 57].
ب- التمكين في الاصطلاح:
دراسة أنواع التمكين وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس.
وقد عرفه الشيخ الدكتور على عبد الحليم، بقوله: (هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام، فالدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها، والحركة وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال، والتنظيم، وما يستهدفه في الدعوة والحركة، والتربية بكل أبعادها وأنواعها وأهدافها ووسائلها بحيث لا يختلف على ذلك الهدف الأكبر أحد العاملين من أجل الإسلام، كل العاملين مهما اختلفت برامجهم - بشرط أن تكون هذه البرامج من العاملين نابعة من القرآن الكريم والسنَّة المطهرة، وليس فيها شيء مما يغضب الله - لا يستطيعون أن يختلفوا في أن التمكين لدين الله في الأرض هو الهدف الأكبر في كل عمل إسلامي (2) , حتى يكون سلطان
_________
(1) نفس المصدر السابق، ص415.
(2) انظر: فقه المسئولية، ص358.(1/17)
الدين الإسلامي على كل دين, ونظام الحكم بهذا الدين على البشرية كلها وهذا التمكين يسبقه الاستخلاف والملك والسلطان، ويعقبه أمن بعد خوف) (1).
وعرفه الأستاذ محمد السيد محمد يوسف بقوله: (دراسة الأسباب التي أدت إلى زوال التمكين عن الأمة الإسلامية، والمقومات التي ترجع الأمة إلى التمكين، والعوائق التي تعترض العمل للتمكين، دراسة طبيعة الطريق إلى التمكين، وكذلك المبشرات على هذا الطريق، وذلك كله في ضوء القرآن الكريم مع الاستعانة بأحاديث النبي العظيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). (2)
وعرفه الأستاذ فتحي يكن بقوله: (بلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة، وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأييد الجماهير والأنصار والأتباع، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض، وعلو الشأن) (3).
ثالثًا: القرآن الكريم في اللغة والاصطلاح:
أ- معنى القرآن في اللغة:
القرآن من مادة قرأت, ومنه قرأت الشيء فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم، ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقة جنينًا، أي لم تضم رحمها على ولد (4).
قال أبو عبيدة (5) - رحمه الله -: ( ... وإنما سمي قرآنًا لأنه يجمع السور فيضمها, وتفسير ذلك في آية القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]، أي: تأليف بعضه إلى بعض ... ) ثم قال: وفي آية أخرى: {فَإِذَا
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (2/ 713، 714).
(2) التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، ص13.
(3) انظر: مجلة المجتمع العدد 1249 - 6محرم 1418هـ 13/ 5/1997م.
(4) انظر: الصحاح للجوهري، مادة قرأ (1/ 65).
(5) هو معمر بن المثنى التميمي مولاهم البصري، النحوي، صاحب التصانيف، ولد سنة 11هـ ومات سنة 209هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 445).(1/18)
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98]، أي: إذا تلوت بعضهم في إثر بعض، حتى يجتمع، وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى بقول عمرو بن كلثوم: (1)
ذراعي حرة أدماء بكر ... هيجان اللون لم تقرأ جنينا (2)
أي لم تضم في رحمها ولدًا قط (3) , فيسمى القرآن قرآنًا، لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور: بعضها إلى بعض (4).
يذكر أبو بكر الباقلاني (5): أن القرآن يكون مصدرًا واسمًا: مصدرًا كما في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] واسمًا كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإسراء: 45] ويروى عن الشافعي - رحمه الله - أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة والإنجيل. (6)
قال القرطبي (7) - رحمه الله-: (والصحيح الاشتقاق في الجميع) (8) أي في القرآن والتوراة والإنجيل.
ب- معنى القرآن في الاصطلاح:
القرآن الكريم: هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله محمد
_________
(1) هو عمرو بن كلثوم التغلبي: من أصحاب المعلقات السبع ومن كبار شعراء الجاهلية. انظر: شرح المعلقات السبع ص180.
(2) انظر: شرح القصائد السبع الطوال، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنبارى، ص380.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر التميمي (1/ 1 - 3).
(4) انظر: لسان العرب، كتاب (أ-ب) فصل الهمزة، باب أقرأ (1/ 128).
(5) هو إمام المتكلمين ورأس الأشاعرة أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني البصري المالكي صاحب المصنفات, وكان له حظ في العبادة توفى سنة 403هـ، انظر: شذرات الذهب (3/ 167).
(6) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ج2/ 298).
(7) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، تفقه على مذهب الإمام مالك، واعتنى بتفسير القرآن الكريم, توفى رحمه الله سنة 671هـ انظر: المذهب لابن فرحون (318،317).
(8) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 298).(1/19)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو اسم لكتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب (1)، وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله.
ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قبل الزنادقة، وفرق المبتدعة، احتاج أهل السُّنَّة إلى تعريف القرآن تعريفًا يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفة الكلام خاصة، ومنه القرآن, مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية (2) والمعتزلة (3) وغيرهم.
قال أبو جعفر الطحاوى (4) -رحمه الله -: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا, وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر فقد كفر) (5).
* * *
_________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) هم أتباع جهم بن صفوان الخراساني توفى عام 128هـ انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 26).
(3) أتباع واصل بن عطاء وهم يقولون بخلق القرآن وغير ذلك من البدع، والملل والنحل (1/ 43).
(4) هو أحمد بن سلامة الأزدي المصري من صعيد مصر توفى عام 321هـ. انظر: البداية والنهاية (11/ 174).
(5) شرح الطحاوية (ص 121، 122).(1/20)
الباب الأول
أنواع التمكين
في القرآن الكريم
تمهيد
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غافر: 51].
وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وقال تعالى: {إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ - وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].
إن هذه الآيات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل الإيمان ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء كان الداعية رسولاً كريمًا أو أحد المؤمنين، وهذا الإعزاز والانتصار والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
ونجد في القرآن الكريم والسنُّة النبوية المطهرة، أن من الأنبياء من قتله أهل الكفر والشرك، كيحيي وزكريا عليهما السلام وغيرهما، ومنهم من حاول قومه قتله إلا أن الله نجاه منهم كنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعيسى ابن مريم عليه السلام، وكإبراهيم الذي ترك قومه وعشيرته مهاجرًا إلى الشام, ونجد من أهل الإيمان على مر العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب وفيهم من يلقى في خدود الأرض المليئة بالنيران المحرقة، ومنهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟ وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟ (1)
يقول سيد قطب - رحمه الله -: (ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل:
_________
(1) انظر: حقيقة الانتصار، ص (13، 14).(1/21)
إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان والاعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الإيمان هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة .. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها .. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار, كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد .. فأما في الحقيقة قريب من قريب). (1)
(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال). (2)
_________
(1) انظر: الظلال (5/ 3086).
(2) المصدر نفسه، (5/ 3086).(1/22)
(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) (1).
إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها؛ تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.
_________
(1) المصدر نفسه، (5/ 3086).(1/23)
الفصل الأول
تبليغ الرسالة وأداء الأمانة
إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم، تمكين الله تعالى للدعاة، بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، واستجابة الخلق لهم، وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك:
المبحث الأول
أصحاب القرية
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ - قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ - قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ - وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ - قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 13 - 18].
إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين، ومضوا في كفرهم وعنادهم غير مبالين، وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب الأليم، والمتأمل في الآيات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر والتمكين، التي حققها المرسلون، وبذلك يكونون قد نصروا نصرًا مؤزرًا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، إن معاني النصر ظهرت في الحقائق التالية:
1 - تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته، ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أولاً، وتهديدهم ثانيًا، وهذه هي مهمتهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.
2 - إن استجابة رجل من أهل القرية لهم، وتأييده لدعوة التوحيد علانية يعد(1/24)
نصرًا وانتصارًا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفًا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.
3 - إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوب الناس من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فأصبحت حافزًا محركًا لأهل الإيمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سببًا في فوزه الأبدي بدخول الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26].
لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حريصًا على هداية قومه، فلم يحمل حقدًا ولا ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله، وهذا انتصار عظيم على النفس البشرية: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ - بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27].
إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من الصدق والإخلاص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة التوحيد.
4 - إن انتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من أقصى المدينة توجت بهلاك القوم الذين كذبوا بدعوة المرسلين {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ - إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 28، 29].
إن الدعاة إلى الله في أمسِّ الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها. إنني أريد أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن الإيمان في قلبه, ماذا فعل في نفسه ذلك الإيمان العظيم، لقد وفق سيد قطب رحمه الله في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب لدعوة(1/25)
الرسل، وحلل نفسيته الخيرة، فقال: إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة، واستقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.
فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنّه سعى بالحق الذي استقر في ضميره, وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويتهدّدون.
وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفّهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبّوه على المرسلين.
وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنّها العقيدة الحيّة في ضميره، تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها. (1)
ولقد أجاد الإمام الفخر الرازي (2) في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص .. وأنقل إليك بعض هذه المعاني:
1 - إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:
أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل
_________
(1) الظلال: (5/ 2962 - 2963).
(2) هو العالم الأصولي المفسر فخر الدين بن عمر بن الحُسين الرازي, اشتهر بعلم الأصول والنحو والشعر والوعظ, وكان يوعظ باللسانين العربي والعجمي وكان كثير البكاء, توفى عام 606هـ انظر: الوفيات (4/ 248).(1/26)
الساعي، وعلى هذا ففي قوله: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ" بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.
الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2 - في تنكير {رَجُلٌ" فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.
الثانية: أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنَّهم تواطأوا.
3 - في قوله: {يَسْعَى" تبصير للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، ساعين فيه، مقتدين بالرجل الذي جاء يسعى.
4 - في قوله: {يَا قَوْمِ" معنى لطيف, حيث يشير إلى إشفاقه عليهم، وإضافتهم إليه دليل على أنه لا يريد بهم إلا خيرًا.
5 - في قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين، ولم يقل: اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر، وذلك لأنه جاء من أقصى المدينة، ولم يكن معهم ولا بينهم، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل، وأوضحوا لهم السبيل.
6 - جمع في قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" بين إظهار النصيحة في قوله: {اتَّبِعُوا" وإظهار الإيمان في قوله: {الْمُرْسَلِينَ" وقدّم النصيحة على الإيمان لكونه أبلغ في النصح.
7 - في قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ" معنى حسن لطيف، واستخدام لأحسن الأساليب في النقاش والجدال والإقناع، حيث نزل فيه درجة لإقناعهم، وكأنه يقول لهم: افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ولا هداة، ولكنهم(1/27)
مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق، ثم هم لا يسألونكم أجرًا ولا مالاً، وهذا الأمر يدعوكم إلى اتباعهم والاستجابة لهم.
8 - في قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" استفهام استنكاري، وفيه إشارة إلى أن الأمر من جهة عبادة الله وحده لا خفاء فيه، وعلى الذي لا يعبده أن يقدّم السبب الذي يمنعه من عبادته، أما أنا فلا أجد مانعًا يمنعني من عبادته.
9 - وفي قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" لطيفة أخرى، حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه، والحكمة في ذلك، وهو أنه لا يخفى عليه حال نفسه، ولذلك فهو لا يطلب العلة والدليل من أحد آخر، لأنه أعلم بحال نفسه.
10 - جمع في قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" بين أمرين يتعلقان بإيمانه بالله.
الأول: هو عدم المانع الذي يمنعه من الإيمان في قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي".
والثاني: هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى الإيمان، وهو في قوله: {الَّذِي فَطَرَنِي"، فالله الخالق مالك ومنعم, وعلى العبيد عبادته وشكره.
11 - قدم عدم المانع من الإيمان على المقتضى الذي يدعوه للإيمان في قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه هو الأهم من المقصود من السياق.
12 - قال: {فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه يتحدث عن نفسه وليس عنهم، ولتناسقه مع قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ"، حيث أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه.
13 - يتضمن قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" الخوف والرجاء في عبادة الله، فمن يكون إليه المرجع والمآب، يخاف منه ويرجى.
14 - هناك حكمة لطيفة من الالتفات إليهم في قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله، فرجوعه هو إلى الله ليس كرجوعهم هم.(1/28)
رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله، ولهذا رجوعه للإكرام والإنعام، أما رجوعهم هم، فهو رجوع الكافر العاصي، ليحاسب ويعاقب ويعذّب, فرجوعهم للعذاب والإهانة وشتان بين رجوعين.
15 - في قوله: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى كمال التوحيد، فقوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" إشارة إلى وجود الله، وفي قوله: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره.
16 - في قوله: {مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة لطيفة، فالدونية هنا مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود، فكل غير الله هم {{دُونِهِ"" وهؤلاء جميعًا مشتركون في كونهم مخلوقين ضعفاء، محتاجين إلى الله، مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا جميعًا عابدين له، وبما أنهم كلهم (من دونه شركاء في الدونية) فكيف يكون من بينهم آلهة؟!
17 - في قوله: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ" يخاطب الجميع، سواء كانوا من المرسلين أو من أهل القرية، لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية، حيث يثبت لهم أن الله وحده ربُّهم.
18 - في قوله: {فَاسْمَعُونِ" ما يدل على أنه كان مترويًا مفكرًا، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، فإنه يتفكر فيه، كما أنه يقصد أن يُسمعهم ليقيم الحجة عليهم، وكأنه يقول لهم: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك، ولو أظهرت أمرك لاتبعناك.
19 - المراد بالسماع في قوله: {فَاسْمَعُونِ" ليس مجرد سماع الصوت، بل قبول الدعوة، والاستجابة لصوت الحق والدخول في الإيمان. (1)
إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلاص التوجه، والحرص على الهداية، وظهور الشجاعة، وترتيب الأفكار، وقوة المنطق ترجع إلى تمكن الإيمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل الرباني، كما أن المرسلين الذين استطاعوا
_________
(1) انظر: تفسير الرازي (26/ 54 - 60) مع التصرف.(1/29)
أن يضموا إلى موكب الإيمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص لَدلَيل على نصر الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم. إن دعوة الله يستجيب لها من اتصف بصفة الرجولة, وهناك فرق بين الرجولة والذكورة، فإن الذكورة تقابل الأنوثة، فالزوجان هما الذكر والأنثى.
والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إلا؛ لكنّ الرجولة تشير إلى الشدة والقوة والتحمُّل والشجاعة والثبات، فهي تشير إلى صفات نفسية، ومزايا معنوية، وفضائل أخلاقية.
ولعله لأجل هذا وردت صفة الرجولة في مقام مدح وثناء وإشارة، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ ... } [القصص: 20].
وقال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].
وقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28].
وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ - رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36، 37].
وقال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موقفًا إيمانيًا عظيمًا، وتدل على أن الحياة فعلاً مواقف، وأن الرجال بمواقفهم لا بأعمارهم، لقد آمن في وقت المحنة والشدة والابتلاء، واتَّبع المرسلين وهم مستضعفون، وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة، وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه، مع أنه يرى الخطر أمامه،(1/30)
ويتوقع أن يناله الأذى والمكروه، وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق روحه، ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه، واستعد لتحمل نتيجة موقفه. (1)
إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه الصفات الجميلة إلى صفوفهم.
إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبراسًا ومعلمًا بارزًا على طريق الدعوة، يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه والدعوة إليه، ولسان حال أحدهم يقول للآخرين: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ".
إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه، يحتاج إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الآخرون، إن جمال الحياة ورونقها البهي وحلاوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل في حصونه.
وإن المواقف الإيمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في الدنيا والآخرة.
إن أصحاب المواقف الإيمانية هم دائمًا الرابحون، فعندما يدفع الإنسان المؤمن حياته وعمره ودنياه، وهو هبة ومنحة وعطية وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود الأبدي يكون ربح ربحًا وفيرًا وفاز فوزًا عظيمًا.
إن أهل الإيمان يكظمون غيظهم، ويحلمون على الجهلة والصبر على دعوة الأشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم, ويبتعدون عن الشماتة بالأعداء, ألا ترى كيف تمنى الرجل الرباني الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبده أصنام. (2)
إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين، واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لأولياء الله.
_________
(1) انظر: مع قصص السابقين للخالدى (7/ 256).
(2) المصدر السابق، (7/ 260).(1/31)
المبحث الثاني
أصحاب الأخدود
إن قصة الغلام مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلىَّ غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، قال: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بنى أنت أفضل مني, ستبتلي، فإن ابتليت فلا تدل علىَّ؛ فكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم بإذن الله, وكان للملك جليس فعمى، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال: ما أنا أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، ربي الله وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بنى، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال:(1/32)
ما أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: أنا؟ قال: لا.
قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب لم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبي، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوا، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهو، أجمعون، وجاء الغلام يلتمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله - تعالى -, فبعث به مع نفر في قرقور في البحر، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال: الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل, وضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدَّد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبرى يا أمّاه فإنك على الحق». (1)
_________
(1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب أصحاب الأخدود (3/ 2299) رقم 3005.(1/33)
لقد انتصر الغلام بعقيدته على الملك الكافر، وتمكن منهجه الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر, وثبتوا على عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى من معاني الانتصار.
قال سيد قطب رحمه الله: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان, وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان.
في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام, ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون - جميعًا - هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضًا - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرّية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.(1/34)
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق, وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. (1)
إن المتأمل في قصة الغلام يجد أن الغلام انتصر بعقيدته ومنهجه, وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في مقابل أن تزهق روحه، أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.
إن الراهب والأعمى قد خلّدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدًا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم فعلوا ذلك من أجل الدين.
لقد كان الغلام ذكيًا ألمعيًا, وحين سنحت له فرصة عظيمة في تبليغ رسالة ربه، اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر والتمكين.
لقد انتصر الغلام بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان, وانتصر عندما وفق لاتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيًا جميع العقبات، ومستعليًا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا، وانتصر على هذا الملك المتجبر المتغطرس، الذي أعمى الله قلبه، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الغلام كان عبقريًا عندما خطط لإهلاك الملك الكافر وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله.
_________
(1) انظر: معالم في الطريق: فصل: هذا هو الطريق، ص173.(1/35)
لقد كان الانتصار العظيم في المعركة بين الكفر والإيمان لصالح موكب التوحيد، لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت برب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.
لقد انتصر الغلام عندما جعله الله قدوة لمن بعده، وأبقى له ذكرًا حسنًا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين، لقد كانت انتصارات متلاحقة ووصلت إلى ذروتها عندما آمن الناس برب الغلام, آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنالك جن جنون الملك، فقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.
ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب, إذا نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار ولا غريب، لأن الإيمان بث في نفوسهم الشجاعة، والثبات, وها هم يجدّون في اللحاق بالغلام، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداءً لعقيدتهم ودينهم.
إن الإيمان الحقيقي يصنع بالأمم الغرائب, ويبدد الظلام الطويل الذي عاشوه، والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها الطغاة، ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها الإيمان إلى النفوس إلا أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه الأمة السعيدة التي آمنت برب الغلام، وكأنهم عرفوا المنهج وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره، أو تربوا عليه كما تربي الغلام في صباه.
إن حقيقة الإيمان عندما تخالط بشاشة القلوب، وتلامس الأرواح تفعل العجب.(1/36)
لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا برب الغلام انتصارًا جماعيًا مباركًا يدل على صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم لحقيقة الانتصار.
إننا لا نجد في القرآن ولا في السُّنَّة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا, ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا (1) .. نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10].
قال الحسن البصري (2): «انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة». (3)
أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، مَنْ المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحُرّق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله - إن لم يتب - إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟
هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني .. حريق الدنيا وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حُرّقوا في الدنيا، فـ {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} [البروج: 11]، وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها ولا جدال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أليس هذا هو الانتصار؟ (4) هذا في الآخرة, وفي الدنيا تمكن المنهج من قلوب الناس وتم ظهوره.
_________
(1) انظر: حقيقة الانتصار ص (13، 14)
(2) هو سيد التابعين الحسن بن أبي الحسن يسار البصري الأنصاري مولاهم زاهد فاضل ثقة, كان من أفصح الناس وأجملهم, توفى 110هـ وهو ابن 88 (تهذيب التهذيب 2/ 263 - 270).
(3) تفسير ابن كثير (4/ 496).
(4) انظر: حقيقة الانتصار ص (55).(1/37)
المبحث الثالث
تمكين الله تعالى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتبليغ الرسالة في مكة
بعد الإعداد الرفيع الذي قام به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتربية أصحابه, وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية، وبعد أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق، نزل قول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»، فاجتمعت إليه قريش، فقال: «يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟» قالوا: ما جربنّا عليك كذبًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك، أما جمعتنا إلا لهذا, ثم قام فنزلت هذه السورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
من الطبيعي أن يبدأ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. (1)
ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، ولقد اشتد الصراع بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم
_________
(1) دراسة في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل ص124، 125.(1/38)
فيه أشد وألد أعدائها، ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يُسَلِّمون بدعاوى القرشيين، بل كان يوجد من مختلف القبائل من يتابع الأخبار، ويتحرى الصواب فيظفر به.
وكانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصبح هذا الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان، وبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة، والانتقال بها إلى مواقع جديدة، وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل، والخروج للطائف، وهجرة الحبشة.
لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم: قريش وأهل مكة وبالأخص عشيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأقربين فوجه إليهم الدعوة من خلال هذا المنبر العلني، وأنذرهم عذاب الله وبأسه إن لم يؤمنوا (1).
ولكن قريشًا رفضت الاستجابة والانقياد للحق المبين, وكان موقفهم كموقف الأقوام السابقة من رسلهم، فحاربوا الدعوة الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.
لقد فكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها:
1 - البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها، حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها.
2 - البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقًا لأمر الله بالتبليغ للعالمين (2).
_________
(1) انظر: الغرباء الأولون ص 167، سلمان العودة.
(2) المصدر السابق، ص168.(1/39)
فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة، فكانت الأولى في شهر رجب سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة خرجوا مشاةً إلى البحر فاستأجروا سفينة.
وقد صورت أم سلمه زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى - الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة فقالت: (لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه, فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار, أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا) (1).
لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد سياسية وإعلامية ودعوية, وكان اختيار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحبشة في غاية الدقة وبعد النظر؛ لأنه (التفت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ما يحيط به من الداخل والخارج، وما ينتظر دعوته من أخطار، فوجد أن جذورها قد امتدت في أعماق الجزيرة العربية، بين مؤمن قوى الإيمان، وبين كافر معاند شديد الحرص على زعامتها، عظيم الحقد على الدعوة وصاحبها).
وأما خارج الجزيرة، فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها دخان النار، وإمبراطورية الروم وقد عبدوا الملوك ودنياهم، أما الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه السلام، وأن بها ملكًا لا يُظلم أحد بأرضه (2).
وهذا يدل على اهتمام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يدور حوله ومعرفة الدول وطبائعها.
_________
(1) ابن هشام (1/ 334).
(2) انظر: الوفود الإعلامية في العصر المكي لعلى الأسطل، ص (111).(1/40)
ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل الإعلام في الإسلام؛ لأن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة، يخلق تساؤلاً كبيرًا في المجتمع المليء
بالكذب والأراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد، وخرجوا وقد تركوا تساؤلاً في أذهان الناس: ما الذي حملهم على ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه
لأمر عظيم.
لقد خرج الوفد الإعلامي الإسلامي الأول للحبشة بخطة محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة الإسلامية وإعلانها في كل مكان, حيث إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل كتابًا للنجاشي يشير فيه إلى البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى الإسلام (1).
وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة والهروب من شدة العذاب فقط، بل كان بعضهم في حماية قبيلة يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك (2).
وكان الوفد الإعلامي الأول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة لكنها تحمل شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتعمل جاهدة على نشره، لقد كان الهدف الأول من هجرة المسلمين إلى الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش، ودفع غربتهم المعنوية، وتأمينهم على دينهم، وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله يشرف عليها المهاجرون، والحط من مكانة قريش عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحَمَلتها، يجعل الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية، لا يضير أن يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة، منها: أن إيواء الحبشة للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش، فضاعفت من حربها ومكرها، وعداوتها (3).
_________
(1) انظر: الوفود الإعلامية في العصر المكي لعلى الأسطل، (114).
(2) المصدر نفسه، ص (115).
(3) انظر: الغرباء الأولون ص (171).(1/41)
وعندما تسامع المهاجرون بأن قريشًا قد أسلمت، وكفت عن إيذاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجعوا، فوجدوا الأمر أشد مما كان، فأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهجرة الثانية، فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا هناك (1).
لقد ذكر ابن إسحاق (2) دوافع الهجرة الثانية، فقال: (فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة) (3).
لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي طالبين إليه إعادة من هاجر من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها الملك كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى ونصوم، ولا نعبد غيره).
فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال جعفر: نعم.
قال: هَلُمَّ فاتلُ علىَّ ما جاء به.
فقرأ عليهم صدرًا من كهيعص (4)، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته،
_________
(1) المصدر نفسه, ص (169).
(2) هو محمد بن إسحاق بن يسار من كتاب السيرة (انظر: سير أعلام النبلاء 7/ 34).
(3) السير والمغازي لابن إسحاق، ص 213، تحقيق: سهيل زكار.
(4) سورة مريم.(1/42)
وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى .. انطلقوا راشدين.
ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم، أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف المسلمين من عيسى عليه السلام، فقال للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا, فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فقال النجاشي: ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود, وأعطى النجاشي الأمان للمسلمين، فأقاموا مع خير جار في خير دار كما تقول أم سلمة رضي الله عنها (1).
إن مسارعة قريش لإرسال وفد لاستعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه، والحبشة نصرانية، وملكها عرف بالعدل، وهي قريبة من مكة، وكل ذلك يشكل خطرًا على قريش في المستقبل.
لقد فتحت جبهة جديدة لقريش انهزمت فيها معنويًا وسياسيًا وإعلاميًا أمام
ضربات المسلمين الموفقة، وخطواتهم المتزنة، وأساليبهم الرصينة من أجل تبليغ دعوة الله وإبلاغ رسالته.
لقد قاد المعركة السياسية والدعوية والعقدية جعفر بن أبي طالب، وكان صادق اللهجة، فصيح اللسان، قوي البيان، فتأثر النجاشي من قوله وخابت آمال قريش، وظهرت ملامح الإيمان في وجه النجاشي.
إن جعفر رضي الله عنه قاوم حملة قريش الإعلامية المضللة بكل دقة وموضوعية وصدق ونقل الأخبار والحقائق من مصادرها، فأعلن رضي الله عنه ما سمعه من
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردًا على سؤال النجاشي في أمر عيسى عليه السلام دون مداهنة أو مواربة أو
_________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام.(1/43)
نفاق، لقد تلألأ وجه النجاشي بالإيمان الصادق دون بطارقته وقال للمهاجرين: (اذهبوا فأنتم شيوم أرضى آمنون، من سبكم غرم -كررها ثلاثًا-، ما أحب أن لي دبرًا (1) من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها, فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين ردّ علىّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه).
وقد امتلأت القلوب حقدًا وغيظًا على الإسلام والمهاجرين الذين اطمأنوا في عبادتهم ونشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد آمن النجاشي ملك الأحباش وكسبت الدعوة أنصارًا جددًا, وتوسعت دائرة المسلمين وكسبوا معارك سياسية وإعلامية، ودعوية بتوفيق الله تعالى لهم (2).
لقد بقى المسلمون في الحبشة إلى أن استقر الإسلام في المدينة فهاجر بعضهم إليها وبقى جعفر ومن معه (3) إلى فتح خيبر سنة 7هـ.
وحاول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يوسع مجال دعوته؛ فخرج إلى الطائف وعرض الإسلام على زعمائها إلا أنهم رفضوا ذلك وبالغوا في السفه وسوء الأدب معه، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عندهم، وقصد مكة ليواصل تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ونصح الأمة, ولم يدخل مكة بدون تخطيط أو دراسة مستوعبة لكل الملابسات والظروف المحيطة به، بل درس الأمر وخطط للمرحلة القادمة، ورأى بثاقب بصره وبعد نظره أن يتصل بمطعم بن عدى سيد قبيلة بنى نوفل بن عبد مناف وطلب جواره, فاستجاب لطلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه زيد بن حارثة في حراسة بنى نوفل الذين تحلقوا حوله بالسلاح وهو يصلي في البيت الحرام وذهبوا في حراسته حتى دخل بيته.
_________
(1) انظر: ابن هشام (1/ 338).
(2) انظر: الوفود في العهد المكي ص (123).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري (1/ 176).(1/44)
لقد كان بنوا نوفل مؤسسة قوية في المجتمع القرشي الذي له أعرافه وتقاليده المقدسة، فاستفاد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تلك القوانين الموجودة ووظفها بكل دقة وحنكة وسياسة لمصلحة الدعوة (1).
هكذا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل إلى مكة بعد رجوعه من الطائف, وبدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم: يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عزَّ وَجَلَّ وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق خطة دعوية واضحة المعالم ومحددة الأهداف, وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض نفسه على القبائل على أنه حامل دعوة من الله من أجل حمايته لكي يتمكن من تبليغ دعوة الله إلى الناس، ومن أجل نصرته فيما يسعى إليه من إقامة سلطان لتلك الدعوة، ويوفر لها ولأتباعها الحماية والأمن، ومن ثم يمكنها من الانطلاق في الأرض داعية كل جنس ولون إلى الاستجابة لأمر الله.
ومن توفيق الله لدعوته أن المدينة المنورة كانت تعيش ظروفًا خاصة ترشحها لاحتضان دعوة الإسلام، وتجتمع فيها عناصر عديدة لا تجتمع في غيرها:
1 - منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة: الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبق إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، وليلتئم شملهم تحت ظله, فكان يوم بعاث أمرًا قدّمه الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقدم وقد قتل معظم سرواتهم وجُرحوا، فقدمه الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دخولهم الإسلام (2).
_________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن الكريم, د. التجانى، ص (172 - 180).
(2) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/ 267) رقم 7777.(1/45)
2 - ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم - ولو يسيرًا - بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم - في مجتمعهم - يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية، وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب، وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن الرسالات والوحي الإلهي، دون أن تلح عليها هذه المسألة، أو تشغل تفكيرها باستمرار، فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتقي بهم عند العقبة - عقبة منى - فعرض عليهم الإسلام، فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيوتها (1)، وكان هذا هو «بدء إسلام الأنصار» كما يسميه أهل السير (2).
لقد كانت المدينة المنورة تربة صالحة لانتشار الإسلام، فاليهود يهددون بنبي أظل زمانه يتبعونه ويقتلون الأوس والخزرج قتل عاد وإرم, والعرب أهل فراسة ونخوة أضاءت بعض شموع الحق بينهم، وكأنها إرهاصات للنصرة والنجدة وقام الوفد بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة.
ولما جاء وقت العام التالي وافي الموسم ضِعف العدد الأول - اثنا عشر رجلاً من المؤمنين- فبايعهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم, ولا يعصوه في معروف, وتعرف هذه البيعة ببيعة العقبة الأولى.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (إني لمن النقباء الذين بايعوا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: بايعناه على ألا نشرك بالله شيئًا ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا ننهب، ولا نعصى، فالجنة إن فعلنا ذلك، فإن
غشينا (3) من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله) (4).
_________
(1) انظر: ابن هشام (1/ 430).
(2) المصدر نفسه (1/ 428).
(3) ارتكبنا ذنبًا.
(4) مسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها (3/ 1333) رقم (1079).(1/46)
ولقد بعث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم الدين ويقرؤهم القرآن، فكان يسمى في المدينة المقرئ وكان يؤمهم في الصلاة (1).
ولقد اختاره الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان رضي الله عنه بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء وحسن الخلق والحكمة قدرًا كبيرًا, فضلاً عن قوة إيمانه وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم (2).
لقد كانت دعوة مصعب رضي الله عنه في المدينة موفقة وحققت أهدافها, وشرع يشرح للناس تعاليم الدين الجديد وتعاليم القرآن الكريم وتفسيره، وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه بمكة المكرمة، لإيجاد القاعدة الأمنية لانطلاق الدعوة. لقد كان الدور الإعلامي والتعليمي والتوجيهي الذي قام به مصعب في المدينة له أثر كبير لتهيئة الظروف للمرحلة التي بعدها، لقد فتحت المدينة بالقرآن وبالدعوة إلى الله, وأصبح ولاء كثير من الأوس والخزرج لعقيدة الإسلام وشريعة الرحمن وتشكل وفد من الأنصار لعقد البيعة الثانية مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لتنتقل الدعوة إلى طور جديد ومرحلة أخرى.
لقد اهتم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببناء الفرد المسلم الذي يحمل تكاليف الدعوة ويضحى من أجلها, ولذلك نجد جعفرًا يقوم بدور عظيم في تبليغ الدعوة وأداء الأمانة في أرض الحبشة, ونجد مصعبًا يفتح الله على يديه المدينة ويدخل كثير من أهلها في دعوة الإسلام.
_________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 431).
(2) المصدر نفسه (1/ 435).(1/47)
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طور المرحلة المكية قام بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة على خير قيام وكانت عناية الله وحفظه له وتأييده ظاهرة للعيان.
ولقد سار على نهج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة كثير من الدعاة على مر العصور وكر الدهور, ومكن الله لهم بين الناس حتى أدوا واجبهم في الدعوة إلى الله ومن أمثال ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والعز بن عبد السلام, ومحمد بن عبد الوهاب في الجزيرة، ومحمد بن على السنوسى في ليبيا، وسعيد النورسى في العصر الحديث في تركيا، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وحسن البنا في مصر، وغيرهم كثير، ومنهم من استشهد في سبيل دعوته إلا أنها انتشرت بعد مماته انتشار الضياء في الظلام، ولقد لاحظت في سيرة هؤلاء الأعلام في القديم والحديث حماية الله لهم ورعايته وحفظه وتثبيته لهم في المحن والشدائد, وتهيئة الله قلوب الناس لاستماع دعوتهم ونصحهم، وكانوا رحمهم الله رجالاً للعقيدة عاشوا من أجل هذا الدين وماتوا في سبيله.
* * *(1/48)
الفصل الثاني
هلاك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في المعارك
إن قصة نوح وموسى عليهما السلام نموذج رفيع للتدليل على أن من أنواع التمكين هلاك الكفار ونجاة المؤمنين، وقصة نوح مع قومه منهج عظيم للدعاة إلى الله, وقصته مليئة بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:
1 - أن نوحًا عليه السلام أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.
2 - امتداد الزمن الذي قضاه في دعوة قومه (950 سنة).
3 - كونه من أولى العزم الذين ذكروا في القرآن.
4 - ورد اسمه كثيرًا في القرآن الكريم حيث بلغ (43) مرة في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن تقريبًا، مع ورود سورة باسمه في القرآن.
وأما قصة موسى عليه السلام مع فرعون، فتبين ضراوة الصراع بين الحق والباطل, والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنور والظلام, وتسلط الأضواء على استكبار فرعون وتجبره واستعباده عباد الله واستضعافهم واتخاذهم خدمًا وحشمًا وعبيدًا، وكيف أراد الله لبنى إسرائيل أن يرد إليهم حريتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة, ومجدهم الضائع وعزهم المفقود، إن من يقف أمام إرادة الله فهو عاجز ضعيف، وهو فاشل مهزوم, وإن أعداء الله أينما كانوا هم إلى هزيمة وخسارة وهوان، وتبين لنا كيف انتقم الله من فرعون ونصر وليه موسى عليه السلام وقومه.
وأما قصة طالوت، فتوضح مرحلة مرت بها أمة بنى إسرائيل، فبعد أن وقعوا في المعاصي، وانحرفوا عن منهج الله وسلط الله عليهم الأعداء وأصاب بني إسرائيل ذل وخيم، ومرارة أليمة، وهزيمة عظيمة, وأرادوا أن يغيروا واقعهم(1/49)
المهين، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل لذلك هو الجهاد والقتال، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصر، ويقاتل لهم أعداءهم، في سبيل الله، فوقع خيار الله على طالوت ليكون ملكًا عليهم، ومن ثم يقودهم إلى النصر والعزة والتحرير، فاعترض الملأ على نبيهم قائلين: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ"، فبين لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم، والله حكيم خبير، وإن الله زاده بسطة في العلم والجسم، وتسلم طالوت قيادة بنى إسرائيل وكانت قصة طالوت مع بنى إسرائيل من أروع القصص القرآني في بيان سنن الله في النهوض بالأمم المستضعفة، وما هي السمات والصفات المطلوبة للقيادة التي تتصدى لمثل هذه الأعمال العظيمة لتقوية الشعوب والنهوض بها نحو المعالي، وفق منهج رباني ووسائل عملية وتربوية عميقة على معاني الطاعة والثبات والتضحية والفداء من أجل العقيدة الصحيحة.
وفي سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نجد هذا النوع من التمكين -ألا وهو النصر على الأعداء- واضحًا، فبعد أن هاجر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة قدّر ظرفه وزمانه ومكانه وجهز قوات جهادية حققت أهدافها القريبة والبعيدة، معتمدًا على الله في ذلك، شارعًا في الأخذ بالأسباب التي أمره الله بها، فترك لنا معالم نيرّة في مغازيه الميمونة, ودروسًا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على الأعداء والتمكين لدين الله تعالى، بدأ بالسرايا، فحققت أهدافها، ومضى يحاصر قوى البغي والكفر والضلال حتى فتحت مكة، ومن ثم وحدت جزيرة العرب, وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود, وإلى ملوك الأرض يدعوهم للإسلام، فترك البناء متينًا. وقام الخلفاء الراشدون من بعده ليتوسعوا بالإسلام شرقًا وغربًا، وهكذا توالت الأجيال لحمل الرسالة ولأداء الأمانة، وكان تاريخ أمتنا مليئًا بهذا النوع من التمكين، ففي عهد صلاح الدين كانت موقعة حطين على يديه وكان فتح القدس، وفي عهد يوسف بن تاشفين(1/50)
كانت معركة الزلاّقة، وفي عهد محمد الفاتح كان فتح القسطنطينية، وأما في العصر الحديث، فالملحمة الجهادية بين الروس والأفغان انتهت بهزيمة الإلحاد، والمعارك بين الإسلام والنصرانية في جنوب السودان فتحت للمسلمين أبواب الشهادة والعزة والنصر والتمكين، والصراع بين اليهود والمسلمين في فلسطين بين الكر والفر، وهكذا نجد دائمًا عون الله لأهل التوحيد والإيمان على مر العصور وكر الدهور وتوالى الأزمان.(1/51)
المبحث الأول
قصة نجاة نوح عليه السلام وهلاك قومه
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
إن ثوابت دعوة نوح عليه السلام، الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والتحذير من عدم الاستجابة إلى توحيده.
فلم يستجب قومه إلى ما دعاهم إليه، بل استكبروا وعتوا وتجبروا، قال سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
وجاءت سورة هود لتبين لنا الحوار الطويل بينه وبين قومه، الذين حاججهم وجادلهم وأقام عليهم الحجة وبين لهم طريق الهداية، حتى أجاب قومه بقولهم: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32].
ثم بين الله له النهاية في هؤلاء: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُّؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود:37،36].
لقد كان نوح عليه السلام صابرًا وثابتًا في دعوة قومه إلى عبادة الله تعالى، فاتخذ معهم جميع الأساليب الدعوية المتنوعة في محاولة صادقة لهدايتهم وتعبيدهم لله تعالى، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا - فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا - وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا - ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} [نوح: 5 - 8].(1/52)
ومع هذا الجهد العظيم والصبر الجميل والثبات المنقطع النظير، والحرص المستمر إلا أن قومه رفضوا وامتنعوا من الإجابة {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. ثم قالوا: {لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]، ولم يؤمن مع نوح إلا فئة قليلة من قومه حتى زوجته وأحد أبنائه غرقوا في مستنقع الكفر الخبيث, قال تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]، وقال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45]، وقال تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40]. وفي نهاية المطاف وفي آخر مراحل الدعوة وبعد أن علم استحالة استجابة قومه لدعوة التوحيد، قال كما حكى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ - فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 117، 118]، وقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10]، وقال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا - إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27].
لقد استجاب الله لدعوة نوح عليه السلام, ولقد أحسن نوح عليه السلام استعمال هذا السلاح العظيم الذي يغفل عنه الكثير من الدعاة العاملين.
قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ - فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ - وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ - وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ - تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ - وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 10 - 15]، لقد لبث قرابة عشرة قرون، وكانت النتيجة:(1/53)
1 - لم يؤمن من قومه إلا قليل.
2 - لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه وهم أقرب الناس إليه, ومع ذلك فإنه يعد منتصرًا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات وتمثل ذلك في:
1 - صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه - وحاشاه من ذلك - أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم.
قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
2 - حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]، ولم ينته نوح عن دعوة التوحيد وتحقيق معاني العبادة لله ومع ذلك ما استطاعوا إليه سبيلاً.
3 - إهلاك قومه الذين كذبوا بالغرق: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64].
4 - نجاة نوح ومن آمن معه {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} [الأعراف: 64]. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ - تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13، 14].
5 - إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبحت آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15]. {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]. {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]. {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].
وهكذا تتضح حقيقة النصر من خلال قصة نوح عليه السلام .. إن قوم نوح لم يكن في زمانهم على وجه البسيطة إلا هم، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله،(1/54)
سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله - سبحانه - أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقى هؤلاء.
قال تعالى: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويدافعون عنه، لقد أهلك الله تعالى أهل الكفر والطغيان، ومكن لأهل التوحيد والإيمان, وأصبحوا على وجه البسيطة موحدين محققين لمعاني العبادة في الحياة (1).
قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 13]، قال الإمام الطبري (2) رحمه الله: (وذلك أن كل من على الأرض من بنى آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة، قال قتادة (3): والناس كلهم ذرية من أنجى الله من تلك السفينة، قال مجاهد (4): بنوه ونساؤهم ونوح) (5).
قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58].
إن التمكين الفعلي والانتصار العظيم والإعزاز الكريم عندما يتمكن منهج رب العالمين من نفوس أهل الإيمان، وإن كانوا قلة، فالعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في صفاء المنهج الرباني الذي يعتقده أولئك الأفراد سواء
_________
(1) انظر: حقيقة الانتصار للدكتور ناصر العمر ص (38، 39).
(2) هو الإمام المجتهد أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملى الطبري البغدادي، ولد سنة 224هـ, حفظ القرآن ورحل في طلب العلم وعمره 12 سنة, ولم يزل طالبًا للعلم مولعًا به إلى أن مات. واشتهر بالتفسير والفقه والتاريخ ت 310هـ انظر: سير أعلام البنلاء (14/ 267).
(3) هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسى الأعمى الحافظ المفسر، عالم أهل البصرة, مات بواسط سنة 117هـ، انظر: تذكرة الحفاظ (1/ 122).
(4) هو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج المخزومي المقرئ المفسر الحافظ مولى السائب بن أبي السائب، كان فقيهًا ورعًا عابدًا، قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت، توفى سنة 103هـ. انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي، ص42.
(5) انظر: تفسير الطبري (8/ 215).(1/55)
أقلوا أم كثروا، ولذلك فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردًا يحملون معنى التوحيد، ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعًا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام هناك خطر يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
إن هلك الكافرين ونجاة المؤمنين، وسلامة المنهج الرباني القائمين عليه وما بذلوه من الصبر والثبات على ذلك نوع من أنواع التمكين التي يكرم الله بها من يشاء من عباده.
إن الله مكن لنوح عليه السلام ومن آمن به على وجه الأرض، فأمر السماء أن تقلع والماء أن يغيض في الأرض, والسفينة أن تستوي على جبل الجودي تمكينًا لسفينة الإيمان وأهلها (1).
* * *
_________
(1) انظر: حقيقة الانتظار، ص (40).(1/56)
المبحث الثاني
قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ} [القصص: 5، 6].
لقد تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بنى إسرائيل، فقتل الأولاد واستحيا النساء ظلمًا وعلوًا واستكبارًا في الأرض، وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بنى إسرائيل ويجعلهم ملوكًا وولاة ويجعلهم يرثون الأرض من بعد فرعون, ويمكن لهم بعد الذل والصغار, وينتقم من فرعون وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على رجل من بنى إسرائيل (1).
وقال الإمام ابن كثير (2) في تفسيره: (لقد سلط على بنى إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد (فرعون) يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدهم ليلاً ونهارًا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيى نساءهم إهانة لهم واحتقارًا لهم, وخوفًا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه، وكانت القبط قد تلقوا هذا من بنى إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخدها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (11/ 28، 29).
(2) هو الحافظ المؤرخ الفقيه المفسر إسماعيل بن عمر بن كثير بن درع القرشي الدمشقي أبو الفداء، ولد سنة 701هـ, طلب العلم من صغره ورحل من أجله، توفى في دمشق سنة 774هـ. انظر: شذرات الذهب (6/ 231).(1/57)
فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بنى إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب.
أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه, بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفًا من الولدان إنما منشؤه ومرباه فراشك وفي دارك, وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدلله, وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن) (1).
وقال البيقاعى (2) رحمه الله: (ونمكن أي نوقع التمكين لهم في الأرض أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم الأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث سلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة وتظهر لهم من الخوارق، ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلامًا بأنه أضخم تمكين) (3).
وقال الشيخ محمد الأمين (4) في تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص: 5]، هو الكلمة في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 137]، ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إمام، أي قادة في الخير دعاة إليه على أظهر القولين، ولم يبين هنا أيضًا الشيء الذي جعلهم وارثيه، ولكنه بين جميع ذلك في غير هذا
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 392).
(2) هو برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البيقاعى صاحب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، توفى عام 885هـ. انظر: مقدمة تفسيره.
(3) تفسير البيقاعي (5/ 464، 465).
(4) هو الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطى اشتهر بعلم الأصول والتفسير، درس في جامعة المدينة والمسجد النبوي، توفى عام 1393هـ. انظر: أضواء البيان (1/ 3 - 99).(1/58)
الموضع، فبين السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فالصبر واليقين، هما السبب في ذلك، وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59] (1).
قال محمد الطاهر بن عاشور (2) رحمه الله: (إن الله وصف فرعون وصفًا دلّ على شدة تمكين الإفساد من خلقه {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، لأن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة:
المفسدة الأولى:
التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمّة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم, وخصوصًا إذا كان حاكمًا أو وليًا فيعامل الناس بالغلظة, وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أم المفاسد وجماعها.
المفسدة الثانية:
جعل شعبه شيعًا قرب بعضهم وأبعد بعضهم, وتولدت بينهم مفاسد عظيمة من الحقد والحسد والوشاية والنميمة.
المفسدة الثالثة:
جعل طائفة من أهل مملكته في ذل وصغار واحتقار، عذبهم ونكل بهم ومنعهم من حقوقهم وجعلهم عبيدًا للطائفة المقربة لديه.
_________
(1) انظر: أضواء البيان (6/ 451).
(2) هو محمد الطاهر بن عاشور ولد بتونس 1879هـ وكان من كبار علماء الزيتونة له مؤلفات كثيرة من أشهرها التحرير والتنوير في التفسير.(1/59)
المفسدة الرابعة:
اجتهد في قتل أطفال الطائفة المعذبة من الذكور حتى لا يكون لبنى إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم وحتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.
المفسدة الخامسة:
كان يستحيي النساء أي يستبقى على حياة الإناث من الأطفال حتى يصبحن بغايا إذ ليس لهن أزواج. (وكان قوم فرعون يحتقرونهن ويأنفون أن يتزوجوا بهن ولم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، فانقلب استحياء البنات إلى مفسدة عظيمة تصل إلى منزلة تذبيح الأبناء) (1).
وعندما كان فرعون يستعلى ويتكبر ويتعجرف على بنى إسرائيل كانت إرادة الله في تلك الأحداث تريد أن تجعل من بنى إسرائيل أمة عظيمة, وينتقم من فرعون وملئه, قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ} [القصص:5، 6].
{وَنُرِيدُ" جئ بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال؛ لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد من ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة.
قوله: {اسْتُضْعِفُوا" فيه تعليل، بأن الله رحيم بعباده، وينصر المستضعفين, وخَصَّ بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل {نَّمُنَّ" عطف الخاص على العام، وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة (2).
_________
(1) التحرير والتنوير (20/ 68 - 70).
(2) المصدر نفسه (20/ 70، 71).(1/60)
إن الله تعالى من سننه الجارية في الأمم والشعوب والمجتمعات والدول إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه, وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرج لا دفعة واحدة، فعندما وصل الظلم إلى أقصى منتهاه، ووصل الاستضعاف إلى أسفل نقطة ممكنة، كانت تلك النقطة بداية التمكين لبنى إسرائيل، وبدأت قصة التمكين وإنفاذ مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ بالاهتمام بالرضيع في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
ويظهر من خلال الآيات الكريمة: أن الله عزَّ وَجَلَّ أوحى إلى أم موسى بأن ترضعه فإذا خافت عليه، فعليها أن ترميه في اليم، فالله عَزَّ وَجَلَّ لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وعلى أهل الحق أن يبذلوا جهدهم، وهو إن كان قليلاً فإن الله عَزَّ وَجَلَّ سوف يبارك فيه، وسوف يهيئ من الأسباب التي يمكن بها لدينه وأهله.
إن سنن الله الكونية نافذة وعلى أهل الإيمان ألا يتأخروا في الأخذ بالأسباب المتاحة، فهذا مبلغ جهد أم موسى في حماية موسى الرضيع، والذي تولى حمايته ونصره في الحقيقة هو الله عَزَّ وَجَلَّ ذو الجلال والإكرام، وكان يمكن أن تحصل الحماية والرعاية دون أسباب؛ ولكن الله من سنته إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، فألقى الله في قلب امرأة فرعون محبة موسى وكان سببًا في نجاته من الذبح، لقد مكن الله تعالى حب موسى عليه السلام من قلب زوجة فرعون وأعطاها من القدرة على الجدل والنقاش بحيث أقنعت
فرعون بتركه لها.
ونرى في الآيات الكريمة لطف الله بأم موسى بذلك الإلهام الذي به سلم ابنها، ثم بتلك البشارة من الله لها برده إليها، التي لولاها لقضى عليها الحزن بسبب ولدها، وبذلك وغيره نعلم أن ألطاف الله على أوليائه لا تتصورها العقول، ولا تعبر عنها العبارات، وتأمل موقع هذه البشارة وإنه أتاها ابنها ترضعه جهرًا، وتسمى أمه شرعًا وقدرًا وبذلك اطمأن قلبها وازداد إيمانها (1).
_________
(1) انظر: تفسير السعدي (8/ 366).(1/61)
إن الله مكن حب موسى عليه السلام من قلب امرأة فرعون، فكان سببًا في تمكين موسى عليه السلام من ثدي أمه وحضنها الحنون.
ونرى في الآيات الكريمة إرشادًا مهمًا ألا وهو: أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق، وأن وعد الله نافذ لا بد منه، فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي تنفع، فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله، فإن الله قد واعد أم موسى أن يرده عليها ومع ذلك لما التقطه آل فرعون سعت بالأسباب وأرسلت أخته لتقصه وتعمل الأسباب المناسبة لتلك الحال (1).
وهذه إشارة قرآنية في قوله: {قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 11]، إلى الأخذ بالأسباب والحذر والاهتمام بالتربية الأمنية العالية خصوصًا للأمة التي تسعي للتخلص من الظلم والجبروت وكبرياء المتسلطين، بل إن من أسباب نجاح الحركات التي تعمل لتحرير شعوبها من أغلال الحكام الظالمين نجاحها في الجوانب الأمنية، ونرى من خلال الآيات الكريمة: أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت من الضعف ما بلغت، لا ينبغي أن يستولى عليها الكسل عن السعي في حقوقها, ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله أمة بنى إسرائيل على ضعفها واستعبادها لفرعون وملئهم منهم، ومكنهم في الأرض وملكهم بلادهم (2).
وكان من إعداد الله تعالى لموسى عليه السلام أن تربي في قصر فرعون بين مظاهر الترف ومباهج الملك والسلطان، نشأ كما ينشأ أبناء الملوك، وهكذا زالت من قلب موسى مهابة الملوك والأغنياء، ولم يخف على موسى أنه دخيل على أهل فرعون وأنه يرجع في أصله الحقيقي إلى يعقوب عليه السلام، فعندما بلغ أشده واستوى أكرمه الله بالحكمة والعلم، لكونه من المحسنين، وذات يوم عند الظهيرة
_________
(1) المصدر نفسه (8/ 367، 368).
(2) انظر: تفسير السعدي (8/ 367، 368).(1/62)
وجد رجلين يقتتلان أحدهما من قومه والآخر من قوم فرعون، فطلب الإسرائيلي من موسى نصرته فتدخل موسى فوكز المصري فقضى عليه، وهذا يدل على قوة موسى عليه السلام وشدة غضبه, ويعبّر أيضًا عما كان في نفسه من شعور بالضيق والظلم من فرعون وقومه؛ ولكن موسى عليه السلام لم يقصد قتل القبطي ولذلك ندم واسترجع وعزاها إلى الشيطان وغوايته.
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15]، ثم توجه إلى ربه طالبًا مغفرته وعفوه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" واستجاب الله إلى ضراعته واستغفاره {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 17].
لقد أصبح موسى عليه السلام خائفًا يترقب في المدينة وإذا بالمعركة الثانية بين الإسرائيلي والفرعوني، وتدخل موسى عليه السلام لفض النزاع ووجه لومه إلى الذي من بنى قومه، وقال له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18]، إلا أن الإسرائيلي ظن أن موسى يريد أن يبطش به، فوجه له تهمة وموسى برئ منها: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19].
إن موسى عليه السلام كان يرى أن المعارك الجانبية لا تفيد قومه, ولذلك وصف الذي من شيعته بأنه غوى: أي بعراكه هذا الذي لا ينتهي, واشتباكه الذي لا يثمر إلا إثارة الثائرة على بنى إسرائيل وهم عن الثورة الكاملة عاجزون، وعن الحركة المثمرة ضعفاء، فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تنفع ولا تفيد (1).
وهذا درس عميق يفيد العاملين الذين يسعون لتمكين دين الله؛ عليهم أن يبتعدوا عن المعارك الجانبية وأن يوحدوا صفهم ويجمعوا قوتهم لساعة الصفر التي يعلو فيها نجم الإيمان وتنطمس فيها رايات الكفر والطغيان.
لقد تسرب خبر قتل موسى عليه السلام للقبطي واجتمع الفراعنة للبت في أمر
_________
(1) انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن، لأحمد فائز (3/ 64).(1/63)
موسى الذي ظهر لهم أنه رمز لثورة تحارب الظلم وتسعي لعز بنى إسرائيل وقرروا إلقاء القبض عليه.
وهنا جاء دور رجل تعاطف مع الحق والعدل الذي يحمله موسى عليه السلام، فأسرع لإنذاره ونصحه، وهنا إشارة قرآنية نحو الاهتمام بالتواجد الأمني داخل المؤسسات الفرعونية والاستفادة من المعلومات التي تنير طريق الدعاة في حركتهم المباركة.
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].
لقد أكرم الله موسى عليه السلام بهذه المعلومات النافعة وقرر أن يهاجر من بلاد الفراعنة.
وهذا إرشاد قرآني لمن خاف التلف بالقتل بغير حق في موضع، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلاك، بل يفرّ من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل موسى عليه السلام، كما أن فيه توجيهًا نحو ارتكاب إحدى المفسدتين يتعين ارتكاب الأخف منهما، دفعا لما هو أعظم وأخطر، فإن موسى لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل، أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يعرف الطريق إليها، وليس معه دليل يدله غير هداية ربه، ومعلوم أنها أرجى للسلامة، لا جرم آثرها موسى (1).
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 21، 22]، ونلمح شخصية موسى عليه السلام فريدًا وحيدًا مطاردًا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين جنوبي الشام وشمالي الحجاز, مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفًا يترقب، وخرج منزعجًا بنذارة الرجل الناصح، ونلمح
_________
(1) انظر: تفسير السعدي (8/ 638).(1/64)
إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه مستسلمة له، مطلعة إلى هداه (1): {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ".
كانت رحلة طويلة من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل وحي الله له بالنبوة: (تجربة الرعاية والحب والتدليل, وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس, وتجربة الندم والتحرج والاستغفار, وتجربة الخوف والمطاردة والفزع, وتجربة الغربة والوحدة والرجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة، إن الرسالة تكليف ضخم شاق متُعدد الجوانب والتبعات، يحتاج إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيه للقلب والضمير) (2).
إن الله تعالى أراد أن يربي موسى عليه السلام بالأحداث قبل الرسالة, ولهذا دخل بقدرة الله إلى مجتمع الرعاة، مستشعرًا النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى بعد الخوف والجوع والمطاردة والمشقة.
وعاش مع البسطاء في أخلاقهم وعاداتهم وخشونتهم وفقرهم وهذا كله تمرين له على تكاليف الدعوة التي سيتحملها.
إن التجارب الميدانية أقوى وأفيد في تربية النفوس البشرية من قراءة الكتب والمجلدات والجرائد, ومن الندوات والحلقات الهادئة البعيدة عن المحن والشدائد والصعاب.
إن الشعوب التي تربت على الذل والخنوع والمهانة والقسوة في العادة تفقد القدرة على التفكير والتدبير وتنتظر من يقودها نحو حريتها وكرامتها وعزتها.
_________
(1) انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن (3/ 54، 55).
(2) المصدر نفسه (3/ 64).(1/65)
وإن هذا القرآن الكريم ليمد الطلائع المتحفزة نحو التغيير بخبرات الأنبياء والمرسلين والذين سعوا لتحرير شعبهم من الظلم والجبروت والطغيان ويضع أيديهم على مفاصل التغيير في الأمم والشعوب وكيفية السعي بها من الضعف ومن دياجير الظلام وأغلال العبودية للعبيد إلى القوة ونور الحريات، وعبادة الواحد الديان.
إن تجربة موسى عليه السلام في تغيير الشعوب من أضخم التجارب، فقد واجه بدعوته المباركة أعتي ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشًا، وأثبتهم ملكًا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدًا للخلق واستعلاء في الأرض.
لقد حان وقت خلاص بنى إسرائيل من الظلم والاضطهاد والعسف والجور, وأكمل موسى عليه السلام مدته في أهل مدين، وعزم على التكليف الرباني بالرسالة والنهوض بالشعب المستضعف من قبل رب العالمين لموسى الكليم، وأمده المولى عَزَّ وَجَلَّ بالمعجزات الواضحة والبراهين الدامغة والأدلة الساطعة.
وأمره بالذهاب إلى القوم الفاسقين لإقامة الحجة على الفراعين وتخليص بنى إسرائيل من ظلم العبودية وظلم العباد وقسوة الفراعنة حتى يعبدوا الله أحرارًا، ولم يتردد موسى عليه السلام في طلب العون من مولاه وربه ومبتغاه, قال سيد قطب رحمه الله: لقد استجاب ربه رجاءه وشد عضده بأخيه، وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص: 35]، فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار، إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان، ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} [القصص: 35]، وحولكما من سلطان الله سياج ولكما منه حصن وملاذ، ولا تقف البشارة إلى هذا الحد ولكنها الغلبة للحق، والغلبة لآيات الله يجابهان بها الطغاة، فإذا هي وحدها السلاح القوي وأداة النصر والغلبة {بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] (1).
_________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2693).(1/66)
إن موسى عليه السلام باشر في تنفيذ أمر ربه سبحانه وتعالى, وأيده بالمعجزات وصدع بكلمة الحق أمام فرعون الطاغية الجبار، وأقام عليه الحجة والبراهين، والأدلة على صدق رسالته وتعرّض فرعون وقومه بالأخذ بالسنين والنقص في الثمرات وابتلاهم الله بالقمل والضفادع والدم وغير ذلك.
ولم يؤمن الجبار العنيد؛ بل اتهم موسى الكليم بالسحر وقرّر أن يجمع كل السحرة للوقوف أمام دعوة الحق التي يقودها رسول الله موسى عليه السلام.
واجتمع الفريقان لميقات يوم معلوم، وبدأ السجال, وألقى السحرة إفكهم وخداعهم ثمّ عرج موسى عليه السلام على باطلهم بالحق المبين، بإلقائه العصا التي انقلبت إلى حية تسعى، فإذا هي تلقف ما يأفكون وكانت الجولة والصولة.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ - فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 117 - 119].
قال صاحب الظلال:
(إنه الباطل ينتفش ويسحر العيون ويسترهب القلوب ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف وأنه محق، وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفشئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا الحق راجح الوزن ثابت القواعد عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يلقى هذه الظلال وهو يصور الحق واقعًا ذا ثقل {فَوَقَعَ الْحَقُّ" وثبت واستقر وذهب ما عداه فلم يعدله وجود {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ" ولكن المفاجأة لم تختم بعد والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة كبرى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 120 - 122].(1/67)
إنها صولة الحق في الضمائر، ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقى الحق والنور واليقين) (1).
لقد احتج فرعون على إيمان السحرة وأرغى وأزبد، لأنهم آمنوا بدون إذنه: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 122]، كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق، وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها، أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئًا، ولكنه الطاغوت جاهل غير مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور.
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز، والمسألة واضحة المعالم إنها دعوة موسى إلى رب العالمين هي التي تزعج وتخيف، إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين، وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته وإقامة أنفسهم أربابًا من دون الله؛ يشرعون للناس ما يشاءون ويعبدون الناس لما يشرعون، إنهما منهجان لا يجتمعان، أو هما دينان لا يجتمعان, أو هما ربان لا يجتمعان. وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124،123].
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح.
ولكن النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتختصر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم، إنها لا تقف لتسأل ماذا ستأخذ وماذا ستدع، ماذا ستقبض وماذا ستدفع، ماذا ستخسر وماذا ستكسب، وماذا ستلقى
_________
(1) في ظلال القرآن (3/ 1350).(1/68)
في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؛ لأن الأفق المشرق الوضئ أمامها هناك، لا تنظر إلى شيء في الطريق (1).
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ - وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 125، 126]، لقد أقام موسى عليه السلام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة، على فرعون الطاغية المتكبر وطلب منه أن يرسل معه بنى إسرائيل، فامتنع وشرع للكيد لموسى وقومه، وكانت النتيجة أن تمكن الإيمان من قلب السحرة وأعلنوها صيحة مدوية في آفاق الأرض: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72].
لقد انتقم فرعون من السحرة الذين آمنوا وصلبوا في جذوع النخل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتشاور الملأ من القوم مع زعميهم الطاغية وقرر الأخير مضاعفة العذاب والانتقام من الشعب المستضعف الذي بدأ يزحف نحو النور والحرية والكرامة والتوحيد الصحيح.
لقد حاور موسى عليه السلام فرعون الطاغية وساجل سحرته، وكانت محاولته لمعالجة الوضع من فوق، لتحقيق تغيير أشمل، ولكن سرعان ما تبين أن الجدار الفرعوني لا يخترق ولا يستمال ولا يحيَّد ولا يكسب، حتى بعد أن كسب المعركة عقديًا وفكريًا وسياسيًا حين لقفت عصاه عصي السحرة فكان لا بد من الخروج ببني إسرائيل خلسة وباستخدام أسلوب التمويه حتى يكسب بعض الوقت قبل اكتشاف أثرهم واللحاق بهم، فالمواجهة كانت تعنى الهلاك، بل فشل الفرار كان يعنى الهلاك كذلك.
وكان لابد من التوجه نحو الصحراء حتى يمنع اللحاق بهم ويصلوا
_________
(1) المصدر السابق (3/ 1351، 1352).(1/69)
أرض الميعاد، بل كل هذا المجهود الفذ الذي قام به موسى عليه السلام لتخليص قومه من الذل والخنوع والاستعباد ما كان لينجح لولا توفيق الله عَزَّ وَجَلَّ ومعجزة شق البحر، وإغراق فرعون وجنوده وهم يكادون يمسكون بالهاربين (1).
لقد كان للأثر السياسي والاجتماعي ومظاهر البيئة الخارجية والداخلية تأثير في اتخاذ أسلوب الهجرة السرية لموسى وقومه، وعلى الشعوب المستضعفة: أن تعمل ما في جهدها وطاقتها ووسعها وتوقن أن نصر الله قادم ما دامت تريد أن تعبد الخلاق العليم على نهجه وشرعه ودينه القويم, لقد حان وقت هلاك فرعون اللعين ونجاة موسى الكليم ومن معهم من المؤمنين:
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ - فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ - وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ - وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ - فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ - فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ - فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ - قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ - فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ - وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ - وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 52 - 68].
إن الآيات الكريمة توضح لنا سنة من سنن الله الماضية والجارية في المجتمعات والشعوب والأمم ألا وهي سنة إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، وتتضح سنة أخرى ألا وهي سنة الاستدراج وكيف أن المولى عَزَّ وَجَلَّ قرب فرعون وجنوده وأدناهم بل وسلب عقولهم بحيث إنهم تابعوا موسى وقومه, ونقف مع الرسول الكريم في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" هنا دلالة مهمة ألا وهي:
_________
(1) انظر: في نظريات التغيير، منير شفيق، ص (1).(1/70)
أن الرسل هم أوثق الناس بنصر الله عز وجل ووعده، فلو ضاقت الأمور وشك الناس في وعد الله بالنصر والفرج فإن الرسل هم أوثق الناس بنصر الله.
إن فرعون الطاغية حاول أن يرفض الاستسلام لآيات الله ومشيئته وتكبر وتجبر وتغطرس وهذه هي النهاية: استدرج بعيدًا عن عرشه وقصره وسلطانه وأصبح من المغرقين، وأصبح وقومه أثرًا بعد عين, وبدأ نجم المستضعفين في الصعود إلا أن سنوات القمع والظلم وضعف العقيدة لا زال أثرها في نفوس بنى إسرائيل إلا أن هذا الانتصار العظيم لموسى الكليم على الطاغية اللئيم نوع من أنواع التمكين الذي ذكرت في القرآن الكريم وكان خطوة نحو التمكين الأكمل والنصر الأعظم الذي تم في عصر داود وسليمان عليهما السلام.(1/71)
المبحث الثالث
قصة طالوت عليه السلام مع بنى إسرائيل
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ - فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ - وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ - تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 246 - 252].
إن قصة طالوت عليه السلام توضح نوعًا من أنواع التمكين ألا وهو نصر الله للمؤمنين على الكافرين في المعارك.
وهذه القصة وقعت أحداثها بعد دخولهم الأرض المقدسة في فترة من فترات حياتهم, بعد أن انحرفوا عن منهج الله سلط الله عليهم من يضطهدهم ويهزمهم(1/72)
بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وقد سلب الله منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.
وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند الجميع، العامة والملأ المالكين فيهم، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد والقتال، لذلك لجأ الملأ الحاكمون فيهم إلى نبيهم، وفزعوا إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصرة، ويقاتل لهم أعداءهم في سبيل الله. ويبدو أن ذلك النبي كان يعلم طبيعتهم المائعة وهمتهم الرخوة، وأنهم عندما يؤمرون بالقتال، فسوف ينكصون عنه ويقعدون عن خوضه، فقال لهم: أخشى عليكم الامتناع عن أمر الله عندما يأمركم بالجهاد، فردوا بحماسة بأنهم عازمون, وبينوا الأسباب التي تدعو إلى قتال أعدائهم, فبعد ذلك سأل نبيهم ربه، فأوحى إليهم أن طالوت ملكهم، فاحتجوا بحجج واهية نسفها لهم نبيهم وعندما جاء وقت الجد والكفاح والقتال والجهاد بدأوا في التساقط ولم يصبر مع طالوت إلا فئة قليلة سمعت وأطاعت واعتمدت على خالقها، فنصرهم الله على أعدائهم.
ولقد وقف العلماء على هذه القصة العظيمة يدرسونها ويغترفون من بحرها العميق دروسًا مفيدة في تكوين الأفراد وقيادة الجماعات وإحياء الشعوب والسعي بها نحو التمكين ومن أهم هذه الدروس والعبر: (1)
أولاً: مبهمات هذه القصة:
نلاحظ في هذه القصة مبهمات كثيرة لم يتعرض لها القرآن، لأنه لا فائدة في ذكرها، وإنما ذكر المولى عَزَّ وَجَلَّ ما يفيد المسلمين وأهل النظر والاعتبار.
إن في قصة طالوت نرى مبهمات كثيرة منها:
_________
(1) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (1/ 295، 296).(1/73)
1 - الزمان الذي وقعت فيه قصة طالوت، فكل ما يؤخذ من الآيات أنها وقعت لبنى إسرائيل من بعد موسى، يعنى بعد إقامتهم في فلسطين، أما تحديد السنة أو الفترة أو الحالة التي عليها بنو إسرائيل، فهذا لا يمكن تحديده.
2 - اسم النبي الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكًا، فقد يكون شمعون أو صمويل وقد يكون غيرهما، فلا نجعل أحدًا من الأنبياء إلا بنص صريح، لاحتمال أن لا يكون نبيًا، وبذلك نؤمن بنبوة غير النبي! وهذا لا يجوز.
3 - السبب الذي دفعهم ليطلبوا من نبيهم ذلك الطلب.
4 - نسب طالوت، وبداية أمره، وتفصيلاته قبل تملكه عليهم.
5 - تفصيلات ببسطة طالوت في العلم والجسم.
6 - تفصيلات بملك طالوت عليهم.
7 - التابوت وقصته وتاريخه عندهم ومقاساته، وتفصيلات السكينة والبقية التي فيه، التي تركها آل موسى وآل هارون وغير ذلك من المبهمات.
والعجيب أن بعض المفسرين والمؤرخين والكتّاب والمحدثين لم يقفوا عند هذا البيان القرآني والنبوي، فذهبوا إلى الإسرائيليات، وطلبوا منها حل تلك المبهمات، وتفصيل تلك الأحداث، فلم يقدموا لنا علمًا ولا فائدة ولا عبرة.
وبذلك تضيع جهود وأوقات في غر محلها، ويتركون عرض القرآن وما احتواه من دروس ودلالات وعبر، فالقصة هذه مثلاً:
فيها دروس للدعاة في التعامل مع الآخرين، ودروس للمصلحين الذين يريدون تغيير الواقع السيء الذي تعيشه الأمة، ودروس للمجاهدين الذين يعملون على تبديل الذل إلى عزة والهزيمة إلى نصر، ودروس للذين يعتمدون على الجماهير، ويصدّقون اندفاعهم وحماستهم، ويضعون على أساسها خططهم وبرامجهم، فتتخلى عنهم الجماهير وقت الحاجة، ودروس في التربية الفردية(1/74)
والجماعية، ودروس في الضبط والحزم والامتحان، ودروس في الجهاد والقتال وخوض المعركة، والتوجه إلى الله والاستنصار به، وعدم الرعب والهلع من قوة الأعداء، وفيها دروس في أسس اختيار الحكام والمسئولين وما هي مواصفات الحكام المطلوبة، إن هذه القصة مليئة بالدروس والعبر في مجال الدعوة والداعية، والحاكم والمحكوم، والجندي والقائد، وفي مجال الإيمان والعقيدة، والدعوة والجهاد، والإصلاح والتغيير, والتوجيه والتربية، والسياسة والولاية، والحكم والسيادة.
إن كثيرًا من المفسرين ملأوا كتبهم بتيه الإسرائيليات والخرافات والأساطير، وتجاوزوا كثيرًا من الدروس والدلالات (1).
إن هذا العصر يتطلب من العلماء أن يبتعدوا عن الترف الفكري والعلمي، لأننا مطالبون بالإصلاح والدعوة والتغيير، كما أن علينا مسئوليات عظيمة لتغيير واقع الأمة من الحضيض التي فيه إلى قمة العزة والتمكين التي يريدها الله لها.
ثانيًا: أهم سنن حياة الأمم والشعوب التي يمكن استخلاصها في هذه القصة:
حاول الشيخ محمد رشيد (2) رحمه الله أن يتأمل في هذه القصة ويستنبط منها أهم السنن الاجتماعية في حياة الأمم والمجتمعات والشعوب وذكر منها:
السُّنة الأولى: أن الأمم إذا اعتدى على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، فتسعى للوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، فتتوجه إلى طلبه، كما وقع من بنى إسرائيل، بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
_________
(1) مع قصص السابقين في القرآن (1/ 304، 305).
(2) هو محمد رشيد رضا القلموني البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة المنار، وداعية التجديد والإصلاح وله تفسير اسمه: تفسير القرآن الحكيم، ومشهور باسم تفسير المنار، وهو غير كامل انتهى مؤلفه إلى الآية (101) من سورة يوسف توفى سنة 1353هـ. انظر: الأعلام للزر كلى (6/ 126) تفسير المنار (7/ 305، 306).(1/75)
السُّنة الثانية: أن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها، يكون موجودًا عند خاصتها وأهل الفكر والرأي فيها، فالملأ من بنى إسرائيل، هم الذين طلبوا الملك.
السُّنة الثالثة: متى عظم الشعور بوجوب حفظ حقوق الأمة ومحاربة أعدائها عند خواص الأمة، فإنه لا يلبث أن يسرى إلى عامتها، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء، ولم ينفع إلا صدق الصادقين.
السُّنة الرابعة: من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس، والاختلاف مدعاة للتفرق، فلا بد من مرجِّح ترضى به الأمة، كما طالبت بنو إسرائيل من نبيهم اختيار ملك لهم، فكان هو المرجح، والمرجح عند المسلمين هم أهل الحل والعقد منهم.
السُّنة الخامسة: أن الناس لا يتفقون على التقليد أو الأتباع فيما يرونه مخالفًا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكًا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين, ومن عجيب
أمر الناس أن كلاً منهم يحسب أنه على صواب في السياسة ونظام الاجتماع في
الأمم والدول.
السُّنة السادسة: أن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، كما في قول المنكرين على طالوت: أني يكون له الملك
علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلية.
السُّنة السابعة: أن الشروط التي ينبغي اعتبارها في الاختيار لملك هي: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] فيما يأتي:(1/76)
1 - الاستعداد الفطري للشخص {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ".
2 - السعة في العلم الذي يكون به التدبير {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ".
3 - بسطة الجسم المعبَّر بها عن صحته، وكمال قواه المستلزم ذلك صحة
الفكر {الْجِسْمِ".
4 - توفيق الله تعالى لا سبب له، وهو المعبّر عنه بقوله: {وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ".
السُّنة الثامنة: هي ما أفاده قوله تعالى: {وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ".
فمشيئة الله سبحانه، إنما تنفذ بمقتضى سنته العامة في تغيير أحوال الأمم، بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين، وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون؟
السُّنة التاسعة: أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر وقوانين الجندية في هذا الزمان حتى عند الغربيين مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول.
السُّنة العاشرة: أن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد مع طاعة القواد، لأن النصر مع الصابرين، أي جرت سنته بأن يكون النصر أثرًا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم وهذا مشاهد في كل زمان.
السُّنة الحادية عشرة: أن الإيمان بالله، والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاء والقتال.
السُّنة الثانية عشرة: أن التوجه إلى الله بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ" إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى، فإن الدعاء هو آية الإيمان بالله والتصديق بلقائه.(1/77)
السُّنة الثالثة عشرة: دفع الله للناس بعضهم ببعض من السنن العامة، وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعة في البشر؛ لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة، وأنت ترى في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ" ليس نصًا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس، الذي يقتضى المدافعة والمغالبة (1).
إن السنن الربانية ثابتة في الكون، وتقع على الإنسان في كل زمان ومكان, وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين تعلقًا وثيقًا .. ولقد شاء الله رب العالمين أن يُجرى أمر هذا الدين - بل أمر هذا الكون - على السنن الجارية، لا على السنن الخارقة وذلك حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس، ويقول: لقد نصر الأولون بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة، وانقطاع النبوات (2).
وعلى المسلمين أن يدركوا سنن ربهم المبرزة لهم في كتاب الله تعالى وفي سنة
رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين «فإن التمكين لا يأتي عفوًا، ولا ينزل اعتباطًا ولا يخبط خبط عشواء؛ بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة» (3).
إن الوقوف على معرفة سنن الله ودراستها أمر لا بد منه للأمة الإسلامية وذلك حتى يستفيدوا منها، ولا يصطدموا بها.
يقول حسن البنا: «لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض» (4).
_________
(1) تفسير المنار (2/ 495 - 498).
(2) واقعنا المعاصر، ص414.
(3) جيل النصر المنشود، د. يوسف القرضاوي، ص15.
(4) الرسائل لحسن البنا، ص161.(1/78)
إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة - فإذا مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان, ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة ... فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً» (1).
«وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً
لميزان الحياة» (2).
لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية هي القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه: (3)
الآية الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
والملاحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله - تعالى - الآية بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم) (4).
_________
(1) في ظلال القرآن (2/ 742).
(2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية لمحمد السيد محمد، ص218.
(3) المصدر نفسه، ص219.
(4) الفخر الرازي: مفاتيح الغيب (3/ 514).(1/79)
وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أن يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم - سبحانه - بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله - تعالى - في دفع الناس بعضهم ببعض: «لتدرك أن سنة الله - تعالى - في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله - تعالى - بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» (1).
إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضى به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به .. إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية, الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة .. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية (2): {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية, وما على الأمة إلا أن تعى هذه السنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين (3).
ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم, ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام .. وقد أجاد سيد
_________
(1) في ظلال القرآن (2/ 1091)
(2) انظر: لقاء المؤمنين لعدنان النحوي (2/ 117).
(3) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص 225.(1/80)
قطب - رحمه الله - في بيان هذه الحقائق فقال: (والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك:
1 - أن الحماسة الجماعية، قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.
2 - أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الثائر في نفوس الجماعات، ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.
أ- فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلاء قد تولَّوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيهم، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت.
ب- ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول، وشربوا من النهر، ولم يجاوز معه إلا عدد قليل.
ج- وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاونت العزائم، وزلزلت القلوب.
د- وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة، واعتصمت بالله، ووثقت بوعده، وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.
لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلاث مرات، وخلاصة الخلاصة، هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده، وأنزل عليهم نصره.(1/81)
3 - في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت - تبرز فيها:
أ- خبرته بالنفوس.
ب- عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة.
ج- عدم اكتفائه بالتجربة الأولى.
د- محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة.
هـ - فصله للذين ضعفوا، وتركهم وراءه.
وثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة.
4 - والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة .. أن القلب الذي يتصل بالله، تتغير موازينه وتصوراته، لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود, فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ" ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" ثم اتجهت لربها تدعوه: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.
وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!.(1/82)
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن، وبقدر حاجته الظاهرة فيه.
ويبقى لها رصيدها المذخور، تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم (1).
إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق، وسنجد خبرات لا تعد ولا تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والأخروية، وتمد العاملين من أجل الإسلام بالصبر والثبات.
إن دعاء القلة المؤمنة {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" ليس خاصًا بها، بل يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة، تقف أمام أعدائها، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاثة: الصبر وتثبيت الأقدام والنصر، فكل فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيبًا مرحليًا، فعند مواجهة الأعداء يحتاج المجاهد أولاً إلى الصبر- بمفهومه الشامل وميادينه المتعددة - فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه، ولن تثبت الأقدام إلا عند الصابرين وإذا ثبتت الأقدام واستبسل المجاهد في القتال نصره الله على الأعداء, ونلاحظ في الدعاء الالتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية، وتقديمها على الحالة الخارجية المادية، ولذلك قدم الصبر على المعركة، وعلى تثبيت الأقدام فيها، كما نلاحظ تناسقًا وتنسيقًا بين موقفي اغترافهم من النهر اغترافًا، بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم إفراغًا، وصبّه عليهم صبًا، ولعل في هذا إشارة أخرى: فمن استعلى على الدنيا وحاجاتها، لم تتعبده ملذاتها، من حرم نفسه من بعض متاعها ومباحاتها، ابتغاء وجه الله، عوّضه الله عن ذلك، وأمده الله بمدد من عنده، فها هي القلة المؤمنة امتنعت من الشرب من النهر، واستعلت بذلك
_________
(1) في ظلال القرآن (1/ 260 - 263).(1/83)
على متاع الدنيا ومباحاتها، فعوّضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفراغًا، ونلاحظ: أن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدأ أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسئولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان هو الذي يكشف عن المواهب، فالقائدان طالوت وداود ظهرا من وسط الناس، وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين (1).
ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت، أن داود كان فتى صغيرًا من بنى إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا ... ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجرى بظواهرها، إنما تجرى بحقائقها, وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا بواجباتهم، ويفوا الله بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده.
وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.
إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, وإن النظرة المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب العالمين تجارب بشرية ضخمة, وتمدهم بتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، وتورّث أجيال الأمة ميراث الأنبياء والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان، والحياة، والكون، وحقيقة الإنسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة.
* * *
_________
(1) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (1/ 332).(1/84)
المبحث الرابع
الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع قومه
إن انتصار أهل الإيمان على أهل الكفر في المعارك القتالية، يظهر جليًا في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي تاريخ الأمة المجيدة.
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد استقراره في المدينة شرع يخطط للأعمال الجهادية، ويحث أصحابه على فنون القتال ويرسل السرايا والبعوث، ليضيق على حركة قريش التجارية، ويؤدب القبائل المشركة ويؤمن دولة الإسلام من أعدائها، ويخوّف المتربصين بالمسلمين، ويهيئ أصحابه للمهمات التي تنتظرهم بعد أن أذن الله لهم بالقتال، فبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مجموعة من البعوث والسرايا حققت بعض الأهداف الاستراتيجية من أهمها:
1 - الاستطلاع: حتى يتعرف المسلمون على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، خاصة الطرق الحيوية التجارية لقريش في الجزيرة واهتموا بالتعرف على قبائل المنطقة وموادعة بعضها.
2 - الحصار الاقتصادي: على قريش ومنعها من مواصلة تجارتها مع الشام ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ومنع الحصار الاقتصادي المتوقع على المدينة من قبل القبائل المحيطة بها، وذلك بعقد أحلاف مع بعضها وقتال البعض الآخر, ومفاجأة كل تجمع يخشى منه ضرر على الدولة المسلمة، فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقظًا سريع الحركة ما يكاد يسمع بتجمع للمشركين يهدده إلا فاجأهم وشتت شملهم وألقى الرعب في قلوبهم، فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع.
3 - لقد أثبتت حركة السرايا والبعوث أن المسلمين أصبحوا قوة يحسب لها حسابها من قبل المشركين من قريش والقبائل المجاورة, واضطرت بعض القبائل إلى مهادنة وموادعة المسلمين، هذه بعض الأهداف التي حققتها تلك السرايا والبعوث.(1/85)
إن معارك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضد المشركين وانتصاره عليهم نوع من أنواع التمكين, ومن أهم هذا المعارك: بدر، والخندق، ففي معركة بدر بيَّن تعالى أن حقيقة النصر من الله تعالى, قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
إن الله تعالى بين أن النصر لا يكون إلا من عند الله عَزَّ وَجَلَّ, والمعنى ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و (العزيز) أي ذو العزة التي لا ترام (1) , و (الحكيم) أي الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى (2).
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه من التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون لكن يجب أن لا يغتروا بها, وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب والوسائل حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين وأن النصر الذي كان في بدر وقتلهم المشركين، ورمي
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته، وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, فقال تعالى:
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:17].
ولما بين سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده وضح بعض الحكم من ذلك النصر:
فقال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ - لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 127، 128].
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 411).
(2) المصدر نفسه (2/ 303).(1/86)
وأمر سبحانه المؤمنين أن يتذكروا دائمًا تلك النعمة العظيمة نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
لقد كانت نتائج غزوة بدر على المسلمين عظيمة، ومن أهم تلك النتائج:
1 - ضعف موقف المشركين واهتزاز هيبتهم أمام قبائل الجزيرة العربية.
2 - ظهور قوة جديدة في الجزيرة أصبح الجميع يحسب لها حسابها.
3 - بدأ النفاق في المدينة يظهر جليًا بعد بدر، واستمر المنافقون في أذاهم للمسلمين.
4 - شرع اليهود في إظهار عداوتهم للمسلمين بعد بدر حسدًا وبغيًا وأول من أظهر بغيه يهود بنى قينقاع.
5 - أصبحت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش لم تنته إلا بفتح مكة.
6 - تشجع كثير من الناس لدخول الإسلام ودخلت المدينة في طور جديد من الجهاد المسلح.
7 - خص الله أهل بدر من الصحابة الكرام بالمغفرة وشرّف من حضرها من الملائكة وأصبحت غزوة بدر شرفًا ومنقبة لمن حضرها من المسلمين والملائكة.
أما غزوة الخندق فقد تحدث القرآن عنها وبين أمورًا من أهمها:
1 - تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].
2 - التصوير البديع لما أصاب المسلمين من هم بسبب إحاطة الأحزاب(1/87)
بالمدينة {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].
3 - الكشف عن نوايا المنافقين السيئة، وأخلاقهم الذميمة، وجبنهم الخالع, ومعاذيرهم الباطلة ونقضهم للعهود, قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
4 - حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أقواله وأفعاله وجهاده وكل أحواله استجابة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
5 - مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمان صادق، وفاء بعهد الله تعالى، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
6 - بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف, وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم، قال تعالى: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
7 - امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بنى قريظة وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر, حيث ألقى سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله (1)، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26، 27].
لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة:
_________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1/ 490، 491).(1/88)
1 - انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم وتفرقهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم.
2 - تغير الموقف لصالح المسلمين فانتقلوا من موقف الدفاع إلى الهجوم, وقد أشار إلى ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم» (1).
3 - كشفت هذه الغزوة خبث يهود بنى قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحلك الظروف وأصعبها.
4 - كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود بنى قريظة، فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصًا للمسلمين وإظهار حقيقة المنافقين واليهود.
5 - كانت غزوة بنى قريظة نتيجة من نتائج الأحزاب حيث تمّ فيها محاسبة يهود بنى قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحلك الظروف وأقساها.
حروب الردة:
عندما توفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارتدت أحياء كثيرة من العرب، وظهر النفاق، وقد كان أهل الردة على قسمين:
القسم الأول: ارتدوا عن الدين ونابذوا الملّة، وهذه الفرقة طائفتان:
1 - الطائفة الأولى: فمنهم التارك للدين بالمرّة، وهم بنو طيئ، وأسد, ومن تبعهم من غطفان وعبس وذبيان وفزارة اتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي مدعى النبوة في بنى أسد، وبنو حنيفة الذين اتبعوا مسيلمة الكذاب، وأهل اليمن الذين اتبعوا الأسود العنسى، وكثير غيرهم، وهؤلاء ارتدوا عن الدين،
_________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/ 58) رقم 4109.(1/89)
ونابذوا الملّة، واتبعوا مُدّعى النبوة في الجزيرة، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وعاد إلى ما كان عليه من الجاهلية.
2 - الطائفة الثانية: هم الدين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها, وهم بعض بنى تميم، الذين يرأسهم مالك بن نويرة، وبنو هوازن وغيرهم.
وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، فثبت أبو بكر رضي الله عنه ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين ومانعي الزكاة (1).
وخاض الصديق معارك طاحنة في الجزيرة العربية، وهزم جيوش المرتدين ونتج عن تلك المعارك نتائج مهمة من أهمها:
1 - ظهرت أهمية القاعدة الصلبة في المجتمع الإسلامي، وأثبتت حروب الردة أن هناك معادن أصيلة قوية، تشكلت منها القاعدة الصلبة في المدينة والتي لم تكن رخوة أو هشة، أو ساذجة، بل كانت قوية واعية تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عودها، وتستوعب أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، ولهذا أزاحت كل العراقيل والصعاب التي وضعت أمامها، لقد التفت هذه القاعدة حول الصديق رضي الله عنه، فقادهم لحفظ الدولة، وتقوية دعائمها بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وكان لهذه القاعدة أثر في الحشد الذي تم لمواجهة أحداث الردة، وكان لهذه القاعدة دور في لَمَّ شمل الناس من حولهم ... وعلى عاتقهم تم حفظ كيان الأمة وحرصوا على بقائها وتنميتها, وضحوا بالمهج والأموال، ولعل موقفهم في حروب الردة وخصوصًا في حرب ردة اليمامة وهي أعظمها بيَّن أهميتها في بقاء الدولة واستمرارها حيث تميز المهاجرون والأنصار بإيمانهم وثباتهم وصبرهم, وكان القتل في المهاجرين والأنصار قد استحرّ, وأكرمهم الله بالنصر على عدوهم بسبب صدقهم وإخلاصهم وثباتهم.
_________
(1) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله ص (220).(1/90)
2 - لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى ووثنيين الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلابة التوحيد وحقيقة التصور السليم، والقيادة الحكيمة، وتركت لنا تلك الأحداث الجسيمة ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم، ومعاملة الخارجين عن دولة الإسلام العظيمة.
3 - استطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق رضي الله عنه أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع, وأصبحت الجزيرة هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى صقاع الأرض بواسطة رجال عرّكتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بنى الإنسان حيثما كان.
4 - أصبحت الجزيرة العربية تحت نظام واحد وقيادة واحدة بعد تاريخ طويل من التمزق والفرقة والشتات بسبب الصراع القبلي والأطماع الفردية، والنزعات العشائرية وتحقق مفهوم الأمة على أسس عقدية وفكرية ومنهجية ربانية, وانصهرت القبائل في كيان الأمة ذات الفكرة الواحدة، والقيادة الواحدة، وأصبحت جزءًا من كيانها المتماسك.
5 - كانت حروب الردة إعدادًا ربانيًا للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية, وتفنن القادة في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقًا والتفاني عظيمًا (1).
6 - وضع الصَّديق التقسيم الإداري بعد انتصاره في حروب الردة لدولة الإسلام على نظام الولايات وهي: مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد، والطائف أميرها عثمان بن أبي العاص، وصنعاء أميرها المهاجر بن أبي أمية، وحضر موت
_________
(1) انظر: تاريخ صدر الإسلام للشجاع، ص141 - 145.(1/91)
ووليها زياد بن لبيد، وخولان ووليها يعلى بن أمية، وزبيد ورقع ووليهما أبو موسى الأشعري، أما جند اليمن، فأميرها معاذ بن جبل، ونجران ووليها جرير بن عبد الله، وجرش ووليها عبد الله بن نور، والبحرين ووليها العلاء بن الحضرمي, وعمان ووليها حذيفة القلعانى، واليمامة ووليها سليط بن قيس (1).
الفتوحات الإسلامية:
تحركت جيوش المسلمين بقيادة الصديق بعد حروب الردة لنشر الإسلام في الآفاق، فكانت حروب العراق بقيادة خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة, وكانت معارك الروم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح. وبعد وفاة الصديق تولى الخلافة عمر رضي الله عنه والذي تحقق في زمن خلافته انتصار المسلمين الساحق على الروم في اليرموك وانتصارهم على الفرس في المدائن, وبذلك فتحت إمبراطورية الروم في بلاد الشام، وإمبراطورية الأكاسرة في بلاد الفرس أمام دعاة الإسلام يقدمون للأمم دين الله الذي ارتضاه لعباده.
وسار المسلمون على هدى أسلافهم في خوض المعارك الضارية ضد أعداء الإسلام، فسجل لنا التاريخ انتصار المسلمين على النصارى في معركة الزلاقة عام 479هـ بقيادة يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين، وانتصارهم على النصارى في معركة حطين عام 583هـ وفتحت بعدها القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي .. وكان انتصار المسلمين على أعدائهم يحدث عندما يأخذ المسلمون بأسباب التمكين وشروطه وسننه التي لا تحابي ولا ترحم ولا تجامل، إن هذا النوع من التمكين يتجدد كلما حققت الأمة صفات جيل التمكين سواء على أفراد الأمة أم قادتها.
* * *
_________
(1) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري، ص59، 60.(1/92)
الفصل الثالث
المشاركة في الحكم
تمهيد:
إن تولى أهل التوحيد والإيمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة نوع من أنواع التمكين، وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع من التمكين في قصة يوسف عليه السلام, قال تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
لقد تقدم يوسف عليه السلام بهذا الطلب إلى ملك مصر المشرك من أجل عقيدته ودعوته وتقديم الخير للناس، ولقد تحرك يوسف عليه السلام وفق الإمكانات والظروف التي مرّ بها واستفاد من الفرصة التي سنحت له.
وهذا المسلك الذي اتخذه يوسف عليه السلام يدلنا على أن طرائق نشر الإسلام، ودعوة المجتمعات إلى الإيمان له أكثر من سبيل، كما أن هذا المسلك لا يوجد فيه تناقض بين المبدأ الذي يحمل رايته، وهو أن الحكم لله والعبودية المطلقة للواحد الديان وبين توليه الوزارة، ليجعل المجتمع أقرب إلى دعوة الله، وهذا أمر لا شك فيه، لأن يوسف عليه السلام نشر دعوة التوحيد في السجن فكيف به وهو في سُدّة الحكم.
إن دخول يوسف عليه السلام في الوزارة كان سندًا للحركات الإسلامية المعاصرة التي ترى جواز المشاركة في الحكومات الجاهلية إذا كان للمشاركة مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير، ولم يكن بإمكان المشارك أن يغير في الأوضاع تغييرًا جذريًا, وذهب إلى هذا الاجتهاد كثير من العلماء وأهل الحل والعقد في الحركات الإسلامية المعاصرة إلا أن هذه المسألة لم تخل من معارضة بعض الباحثين الذين استدلوا بأدلة تدل على عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير(1/93)
شريعة الله, واعتبر مسألة المشاركة في الحكم من مسائل العقائد، والذي يبحث في هذه المسألة من الناحية الشرعية والممارسات التاريخية يصل إلى نتيجة أن المسألة تدخل تحت السياسة الشرعية للجماعة المسلمة الرشيدة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه؛ ولذلك سنحاول أن نناقش الموضوع مناقشة علمية هادئة بعيدة عن التوتر والتشنج، وإنما مقصدنا الوصول إلى ما يحبه الله ويرضاه.(1/94)
المبحث الأول
أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم
أولاً: أدلة المانعين المشاركة في الحكم:
يرى أصحاب الرأي الذي يمنع دخول الإسلاميين من المشاركة في الحكم أدلة من أهمها:
1 - النصوص الحاكمة على من لم يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق:
قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].
وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
2 - إن الحاكمية يجب أن تكون لله وحده: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
إِيَّاهُ} [يوسف: 40].
3 - نهى رب العالمين المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله، وجعل ذلك منافيًا للإيمان, قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
4 - في المشاركة في الحكم غير الإسلامي مفاسد عظيمة، فالذين لا يحكمون شرع الله يحادون الله في أمره، وينازعونه في حكمه {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، فكيف يشارك المسلم في هذا النوع من الحكم؟(1/95)
5 - مشاركة المسلم في هذا النوع من الحكم توقعه في تناقض كبير، فالمسلم مطالب بأن يجاهد، لإقامة حكم الله، وينكر أشد الإنكار على من حكم بغير ما أنزل الله، فكيف يكون مقيمًا للحكم بغير ما أنزل الله.
6 - إن طاعة الحكام فيما يشرعونه مخالفين أمر الله تعنى اتخاذ المطيع لهم أربابًا من دون الله، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31].
7 - من المفاسد التي تترتب على المشاركة أن بعض الحكام قد يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلون بها حكمهم، ويدلسون بذلك على السذج والعوام، فيقولون: لو كنا على الباطل لما قبل فلان مشاركتنا في الحكم، ويزداد الطين بلة عندما يمررون من خلال الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم ينبذونه نبذة النواة.
8 - وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا، وقد حذرنا الحق من الركون إليهم: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
9 - وقد يكون في المشاركة في الحكم إطالة لعمر هذا النمط من الحكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله في بعض الأحيان (1).
ثانيًا: أدلة القائلين بالجواز:
قالوا: إن الأصل عدم جواز المشاركة ولكن هناك حالات استثنائية أباحت الشريعة فيها المشاركة، واستدلوا بأدلة من أهمها دخول يوسف عليه السلام في الوزارة:
1 - إن يوسف عليه السلام تولى المنصب الذي تولاه بإذن الملك وإرادته، يدلنا
على ذلك طلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55].
_________
(1) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية ص (29، 32).(1/96)
فالنص صريح في الدلالة على أن الملك هو الذي يملك التولية, والنص صريح أيضًا في أن يوسف عليه السلام قد طلب منصبًا في دولة الملك، ولم يطلب أن يعزل الملك نفسه ولم يكن ذلك الطلب لنفسه.
قال سيد قطب - رحمه الله-: (لم يكن يوسف يطلب لشخصه، وهو يرى إقبال الملك عليه، فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض، إنما كان حصيفًا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعية الضخمة في أشدّ أوقات الأزمة، وليكون مسئولاً عن إطعام شعب كامل) (1).
ويرى ابن تيمية - رحمه الله -: (أن هذا المجتمع الكافر لا بدّ أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكنه فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن أن يناله بدون ذلك - وهذا كله داخل في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]) (2).
لقد اعترض المانعون على المجيزين في استدلالهم بقبول يوسف عليه السلام للوزارة وقالوا: إن شرعنا لا يجيز تولى الوزارة في ظل حاكم غير مسلم، وأما تولى يوسف للوزارة فهو شرع لمن قبلنا، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضه.
ورد المجيزون على هذا الاعتراض بوجوه:
الوجه الأول: أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلام بل شرائع الأنبياء جميعًا متفقة في تقرير حاكمية الله تبارك وتعالى.
_________
(1) في ظلال القرآن (12/ 2005).
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 56، 57).(1/97)
فيوسف عليه السلام يقرر في مخاطبته للفتيين اللذين دخلا معه السجن أن الحكم لله وحده {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 40].
ويشرح الأستاذ سيد -رحمه الله- كلمة يوسف هذه بقوله: إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية, من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص الألوهية (1).
ويوسف عليه السلام الذي يعلم هذا الحكم المقرر في جميع الأديان هو الذي يتولى منصب عزيز مصر، ويقول للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55].
فيتولى هذا المنصب وهو يعلم أن للملك نظامًا وشريعة لا يستطيع أن يزيحها بين عشية وضحاها: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76].
يقول سيد قطب في الظلال: (إن هذا النصر يحدد مدلول كلمة الدين في هذا الموضوع تحديدًا دقيقًا، إنه يعنى نظام الملك وشرعه، فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته) (2).
فإذا كان فقه يوسف للحاكمية هو نفس الفقه المقرر في شريعتنا ومع ذلك تولى الوزارة فإنا نجزم في هذا المقام بأمرين:
1 - أن توليه للوزارة لم يناقض عقيدته في كون الحاكمية لله وحده.
2 - وأنه لم يكن مخطئًا عندما تسلم الوزارة، لأنه نبي معصوم.
الوجه الثاني: ومما يدل على نفى هذه الشبهة وإبطالها إخبار الحق تبارك وتعالى أن استلام يوسف الوزارة كان رحمة ونعمة ولم يكن عذابًا ونقمة، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ - وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56،55].
_________
(1) في ظلال القرآن (12/ 1990).
(2) في ظلال القرآن (13/ 2020).(1/98)
فالله يقرر أن تسلم يوسف للوزارة هو من باب التمكين له في الأرض، وأنه رحمة أصابه بها وأنه أجر دنيوى عاجل، وما ينتظره من الثواب الآجل أعظم وأكبر {وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57].
ويوسف عليه السلام يصرح بأن تسلمه للحكم كان من نعمة الله عليه، ولم يكن نقمة: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
الوجه الثالث: والنصوص التي ذكرت تدل على أن هذا الحكم ليس خاصًا بنبي الله يوسف، دون سواه، وذلك أن النص صيغ صياغة عامة: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
ثم من ادعى أن هذا الحكم خاص بيوسف دون سواه عليه أن يأتي بالدليل، لأن الأصل في سير الأنبياء والمرسلين يراد به التأسي والاقتداء، فكيف إذا جاءت النصوص القرآنية نافية الخصوصية مشيرة إلى العموم (1).
لقد تحدث المفسرون في هذه القضية:
1 - نقل القرطبي - رحمه الله - عن بعض أهل العلم: (إباحة طلب الرجل الفاضل أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأمّا إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك، ونقل القرطبي عن قوم أن هذا كان ليوسف خاصة دون غيره، ولكنه رجح القول الأول) (2).
2 - واستدل الألوسي- رحمه الله - بطلب يوسف الولاية على جواز ذلك لغيره إذا كان الطالب قادرًا على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة, وإن كان من
_________
(1) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر ص29، 32.
(2) تفسير القرطبي (7/ 215).(1/99)
يد الجائر أو الكافر، بل ذهب الألوسي إلى أنه قد يجب الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعينًا لذلك (1).
3 - وقال الشوكاني: «وقد استُدل بهذه الآية على أنه يجوز تولى الأعمال جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق» (2).
وهذا من أقوى الأدلة في جواز المشاركة في الانتخابات.
* * *
_________
(1) تفسير الألوسي (13/ 5).
(2) فتح القدير (3/ 35).(1/100)
المبحث الثاني
شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة
استطاع الإسلاميون في بعض بلدان العالم الإسلامي أن يدخلوا بعض الوزارات عن طريق الانتخابات والمصالحات والأحلاف التي عقدوها مع بعض الأنظمة والأحزاب، وأثارت هذه الخطوات الجريئة مناقشات واعتراضات في داخل الحركات الإسلامية وخارجها، ولذلك نحاول أن نسلط الأضواء على بعض هذه التجارب والتي من أهمها: تجربة الأردن، واليمن، وتركيا، ولقد راعت هذه الحركة القواعد الشرعية في مبادئ المصالح والمفاسد، وحاولت جاهدة أن تلتزم بقواعد الضرورة، ومصلحة العمل الإسلامي، ومصالح المسلمين في هذه الأقطار، فإذا كانت هناك مصلحة حقيقية أو كان في اشتراكها في الحكومات سيعود بالنفع العميم على المسلمين, أو سيمنع فسادًا كبيرًا وضررًا مصيريًا يحيق بهم أو يهدد وجودهم فالاشتراك في هذه الحالة يدخل في حكم الواجب بالنسبة لها.
لقد دخلت هذه الحركات المباركة في تجارب الحكم، ضمن شروط واضحة ومصالح بينة، وضرورة تفرضها الظروف واستراتيجية مدروسة والتزام بالقواعد الشرعية عند الممارسة، فلم يكن الحكم واستلام السلطة هدفًا بذاته تتمسك به هذه الحركات على حساب المبادئ أو على حساب الشعب، أو على حساب الحركات، أو على حساب أقوات الناس، أو على حساب استقلال البلاد واسترجاع الأوطان، ولقد شاركت هذه الحركات في الحكم بالطرق الشرعية عن طريق تفويض الشعب لهم خلال الانتخابات، ولقد قامت هذه الحركات بدراسات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية .. إلخ، قبل الدخول في الحكم حتى تأكدوا أن وجودهم في مقاعد السلطة أفضل للإسلام والمسلمين من مقاعد المعارضة.(1/101)
أولاً: الحركة الإسلامية في الأردن:
لا يزال وضع الحركة الإسلامية في الأردن يختلف عن كثير من بلاد العالم الإسلامي، إذ كانت الأردن تتميز عن غيرها بالحريات وإعطاء العمل السياسي فرصة أكبر، ولذلك وجدت الحركة الإسلامية متنفسًا ومناخًا طبيعيًا لأعمالها السياسية والدعوية والاجتماعية والتربوية والتعليمية.
ويعتبر تاريخ تأسيس الحركة الإسلامية في الأردن عام 1946م وهي السنة التي حصل فيها الأردن على استقلاله وسعت منذ تأسيسها إلى إحياء مظاهر الحياة الإسلامية في المجتمع الأردني، وركزت جهودها على قطاع التربية والتعليم في سبيل بناء جيل إسلامي جديد، فأنشأت وأدارت مؤسسات متخصصة في التعليم والرعاية الاجتماعية والعناية الصحية في شتى أنحاء البلاد، ووقفت بجانب المؤسسات الحكومية القائمة على هذا المجالات وساهمت بشكل فعال بدعمها. وتميزت ظروف الحركة في الأردن بظهور حالة من التعايش بين الحركة والنظام، مما أتاح لها حرية نسبية من النشاط والعمل الإسلامي، وحرصت الحركة من طرفها، كما سعي النظام من جهته أيضًا، إلى الحفاظ على عناصر هذا التعايش (1).
أ- عناصر التعايش بين الحركة والنظام:
1 - إدراك الحركة لوضع الدولة وضعف إمكاناتها واعتمادها على الدعم الاقتصادي الخارجي، ولذلك تجنبت إحراج النظام فيما لا طاقة له به، فالأردن كيان صغير نشأ في ظل تجزئة الوطن العربي ضمن مخطط أعداء الأمة الهادفة إلى إضعاف كيانها ومنعها من نهوضها من جديد.
2 - إدراك الحركة أن الأردن لا تملك عناصر ومقومات الدولة الإسلامية ولذلك اطمأن النظام إلى أن أهداف الحركة لا تقوم على السعي إلى استبداله بنظام دولة إسلامية في الأردن.
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، عزام التميمي، ص102.(1/102)
3 - تعتبر الحركة عنصر أمان للنظام ضد أية محاولات انقلابية عليه بسبب ما لها من قوة اجتماعية وانتشار عميق في مختلف قطاعات المجتمع الأردني، ولقد وقفت الحركة موقفًا بطوليًا في منتصف الخمسينيات ضد مظاهرات القوى اليسارية التي كانت تسعى لإسقاط النظام، واستبداله بنظام ماركسي كان يمكن أن تشاهد الأردن تلك المآسي التي شهدتها الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية والتي قمعت وبطشت بمظاهر الحياة الإسلامية في بلدانها.
4 - تنظر الحركة إلى النظام القائم بأنه خير للأردن من كل الأنظمة اليسارية والأحزاب التي حكمت المنطقة وبطشت بالحركات الإسلامية فيها.
5 - ترفض الحركة العنف، وتشجب الإرهاب، ولا تؤمن بالتغيير القائم على الثورة؛ بل تؤمن بالتغيير الهادئ القائم على الإقناع والتدريج في الإصلاح، وهذا يعتبر موضع قبول لدى النظام.
6 - المرونة في الأزمات بين الحركة والنظام، سواء كانت الحركة هي المبادرة بتصعيد المواقف أو النظام، ففي كلتا الحالتين يعكس النظام والحركة مرونة تجاه بعضهما البعض بامتصاص التوتر والانحناء قليلاً للعاصفة.
7 - التوازن في منهج الحركة بين ثوابتها ومتطلباتها وبين محدودات الواقع الأردني.
8 - مطالب الحركة الإسلامية هي مطالب إصلاحية تشمل كل مجالات الحياة، وتعتمد على أسس إسلامية، وهذه المطالب في أقصى حالاتها لا ترقى إلى تهديد النظام ولا تشكل طرحًا بديلاً له، ولذا فإن النظام لا يرى فيها خطورة على استمراره أو استقراره (1). هذه هي أهم عناصر التعايش بين الحركة الإسلامية في الأردن ونظامها، وبالتالي يكون من الطبيعى أن تكون للحركة تجربة متميزة في المشاركة في الحكم.
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص (103، 104).(1/103)
ب- المشاركة في الحكم:
ظهرت الحركة الإسلامية كقوة سياسية كبيرة على الساحة السياسية الأردنية في عام 1989م وذلك عندما قررت الاشتراك في الانتخابات النيابية، إثر قرار الملك حسين - ملك الأردن - استئناف الحياة الديمقراطية في الأردن، وإجراء الانتخابات في أجواء ديمقراطية حرة، متعهدًا بكفالة نزاهتها، وبالحيلولة دون تدخل الدوائر الرسمية فيها.
ولقد نجحت الحركة الإسلامية في إدارة حملتها الانتخابية، وتميزت بأسلوبها المنظم الذي لم يشهد له الأردن مثيلاً، وذلك بسبب قدراتها التنظيمية، ولكونها مثلت تطلعات المسلمين في الأردن المتعطشين إلى استئناف حياة إسلامية، وكانت الحركات الإسلامية في الأردن هي التكتل الوحيد الذي أعلن عن ترشيح قائمة تحتوي على أسماء سبعة وعشرين مرشحًا، طلبت من الأمة التصويت لهم جميعًا، وقد ضمنت برنامجها الانتخابي في كتيب وزعته في جميع أنحاء البلاد، اشتمل بالإضافة إلى البرنامج الانتخابي على أسماء المرشحين وصورهم.
فازت الحركة باثنين وعشرين مقعدًا من مقاعد مجلس النواب الأردني الثمانين، كما تمخضت النتيجة عن نجاح ما لا يقل عن عشرة مرشحين آخرين من الإسلاميين المستقلين، ونظرًا لأن مرشحي الحركة كانوا يشكلون أكبر كتلة داخل البرلمان الأردني، فقد اتصل رئيس الوزراء المكلف من قبل الملك بتشكيل الحكومة، وبعد مفاوضات جرت بين رئيس الوزراء والكتلة البرلمانية للحركة، اعتذرت الحركة عن الاشتراك في الحكومة، لأن رئيس الوزراء لم يستجب لمطالبها بتخصيص سبع حقائب وزارية للحركة تشتمل على حقيبة وزارة التعليم.
وفي تحرك سياسي آخر، دخلت الحركة في مفاوضات مع رئيس الوزراء حول منح الثقة لحكومته، حيث اشترطت الحركة أربعة عشر شرطًا مقابل منح الثقة، وكان من ضمن هذه الشروط أن تتعهد الحكومة - بكل إخلاص -(1/104)
بالتوجه نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في ميادين التعليم والاقتصاد والإعلام، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الحركة الإسلامية مثل هذه المبادرة في الحلبة السياسية، وبدأ الناس الذين كان يظن الكثير منهم قبل هذه التجربة ببعد احتمال أن يشترك الإسلاميون فيما يسمى بالحكومة غير الإسلامية، بالتعامل مع هذه القوة السياسية الناشئة، وفتح أمام الإسلاميين مجال عملي جديد، لم يكن من قبل متاحًا لهم، للتمرس في العمل السياسي.
وفي تطور تال، اتخذت الحركة الإسلامية بادرة سياسية أخرى، بالموافقة على الاشتراك في اللجنة الملكية لوضع الميثاق الوطني التي أعلن عنها ملك البلاد وعين أعضاءها بنفسه, والميثاق الوطني أشبه ما يكون بعقد اجتماعي تجمع عليه الأحزاب والجماعات المختلفة في الأردن، ويغطي كل الأوجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد اتخذت الحركة الإسلامية قرارًا بالمشاركة في هذا المشروع، نظرًا لما رأته من ضرورة اللقاء والتحاور والتفاوض مع المجموعات السياسية الأخرى في البلاد، وتبادل الآراء معها حول القضايا المهمة التي يتناولها الميثاق (1).
لقد ظهر من قيادات الحركة مقدرة فائقة في إدارة الحوار وممارسة فن المفاوضات وشهد لهم دهاقنة السياسة بمقدرتهم السياسية الرفيعة، ولقد ناور زعماء الحركة وحققوا ما استطاعوا من أهداف لصالح التيار الإسلامي في الأردن، واستطاعت أن تمنع نفسها من الدخول في الوزارة عندما كانت مصلحة المبادئ التي يحملونها في الامتناع، وتقدمت بكل شجاعة لتسلم الحقائب الوزارية عندما رأت أن المصلحة في ذلك، وتسلمت خمس حقائب وزارية، هي وزارة التربية والتنمية الاجتماعية والعدل والصحة والشئون الإسلامية.
وبعد ستة أشهر من المشاركة، انتهت حرب الخليج، وبدأت حقبة جديدة من
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 105، 106.(1/105)
التطورات السياسية التي تمخضت عما يسمى بمؤتمر السلام، وكانت الحركة الإسلامية قد حذرت رئيس الوزراء من أنه إذا ما أقدمت حكومته على فتح أية قنوات للتفاوض مع إسرائيل، فإن وزراء الحركة الإسلامية سيستقيلون على الفور.
إلا أن الحكومة ما لبثت أن استقالت بكاملها، لتمهد الأرضية لاستعدادات الحقبة الجديدة، حقبة مؤتمر السلام في مدريد، وحرصت الحكومة الجديدة، التي تشكلت للقيام بهذه المهمة، على السعي منذ تشكيلها لنيل الثقة، ومع أن أعضاء الكتلة الإسلامية البرلمانية ومعهم عدد من النواب الآخرين في مجلس النواب حجبوا الثقة عنها، موضحين أنهم ما كانوا ليمنحوا الثقة لأية حكومة تضع التفاوض مع إسرائيل على جدول أعمالها، إلا أن الحكومة حصلت على الثقة، ولكن بأغلبية هشة، إذ صوت لصالحها سبعة وأربعون نائبًا فقط من أصل ثمانين، وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الجديد كان ينفى طوال ذلك الوقت التزامه أو وزارته بمحادثات السلام مع اليهود، إلا أن الحكومة ما لبثت، وبعد مرور شهرين فقط على تشكيل الوزراء، أن أعلنت عن تشكيل وفدها لعملية السلام، فبادرت الكتلة الإسلامية البرلمانية بالالتقاء مع عدد من التكتلات الصغيرة في مجلس النواب، ووقَّعوا جميعًا عريضة حملت 48 توقيعًا رفعوها إلى الحكومة حجبوا بموجبها الثقة عنها، بعد أن كان بعضهم قد منحها إياها في وقت سابق، وعندما حل موعد استئناف الدورة الاعتيادية الجديدة للمجلس النيابي لم يكن أمام الحكومة خيار سوى الاستقالة، فتشكلت حكومة أخرى لم تمنحها كتلة الحركة الإسلامية ثقتها، لأن مهمتها كانت الإشراف على المشاركة الأردنية في عملية السلام (1).
ج- إنجازات المشاركة:
لقد اكتسبت الحركة الإسلامية في الأردن من خلال المشاركة السياسية تجارب عديدة، وخبرات متعددة، وأصبحت أكثر واقعية، واستطاعت من خلال هذه
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص106، 107.(1/106)
التجربة أن تطور قدرتها وتحسن أداءها، ولقد أعطت صورًا مختلفة عن تلك التي ترسخت في عقول خصومها الذين أخذوا فكرة عن الحركة الإسلامية كما لو كانت مجموعة من المتطرفين أو المتعصبين أو المتشددين، ومن أهم الإنجازات والمكاسب التي حققتها هي:
1 - تشكيل تصور سليم عن الحركة، وإزالة الشكوك والمخاوف التي كانت تثيرها بعض الجهات، فقد أعرب كثير من الوطنيين والقوميين في مناسبات كثيرة عن قناعتهم بأن الحركة تتسم بالاعتدال والتحرك المسئول الواعي، وتحترم الرأي الآخر، إذ أظهرت مرونة وقدرة على التنسيق والحوار مع الأحزاب والحكومات والشخصيات السياسية، وبذلك أزيل الحاجز النفسي الذي كان يفصل بين الحركة والآخرين.
2 - كان لنواب الحركة حضور قوي وفعال في اللجان المتخصصة، مثل لجنة الحريات، واللجنة المالية، واللجنة القانونية، ولجنة التحقيقات النيابية، وقد كان أداؤهم في هذه المجالات وفي غيرها يعبر عن جهد كبير دءوب، وعن موضوعية وإنصاف، وعن إحاطة بالقضايا الفنية والتخصصية، وكان هذا الأداء باستمرار موضع تقدير المؤسسات الرسمية والإعلامية.
3 - المشاركة في إنجاز مجموعة من القوانين والتشريعات المهمة، وفي تعديلها، بما يلائم المصلحة العامة وحقوق المواطنين ويتفق مع الشريعة الإسلامية، ومن ذلك قانون الأحزاب، وقانون الدفاع، وقانون رد الاعتبار، والقانون الخاص بمحكمة العدل العليا، وقانون محكمة أمن الدولة، وقانون النقابات، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون الاستيراد والتصدير، وقانون إلغاء الأحكام العرفية، وقانون الشباب وقانون الخمر.
4 - طرح الرأي والموقف الإسلامي في المواقف والأحداث، ودفع الحكومة إلى الالتزام به أو احترامه وتقديره، أو سماعه على أقل تقدير.(1/107)
5 - التنسيق والتعاون مع الفعاليات السياسية المختلفة، حكومية وحزبية ونقابية، بما يخدم الأمة والوطن، وبما يضمن تنفيذ برامج الحركة الإسلامية وتحقيق أهدافها، ومن القضايا التي تم التنسيق بشأنها موضوع التسوية السلمية، والموقف من أزمة الخليج، وقضايا محاكمة الفساد، والدفاع عن الحريات، وقانون الأحزاب وقانون أمن الدولة
6 - إحراز رئاسة المجلس ورئاسة كثير من اللجان النيابية وهو إنجاز يعبر عن تأثير نواب الحركة وقدرتهم على التنسيق والحشد.
7 - الإسهام في تأسيس حزب جبهة العمل الإسلامي، المشروع الذي تأمل الحركة أن يستوعب جماهيرها ومؤيديها من مختلف الفئات، ويوسع آقاق العمل الإسلامي.
8 - المساهمة في رد الحقوق إلى أصحابها، وشمل ذلك إعادة المفصولين، والإفراج عن المعتقلين، وضمان حرية السفر والتنقل وحرية الرأي والتعبير، والحد من تدخل الأجهزة الأمنية في التوظيف وفي شئون النوادي والجمعيات، هذه ولئن كانت إنجازات دون المستوى المطلوب، إلا أنها بالمقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل استئناف الحياة البرلمانية، بل وبما عليه الحال في كثير من الدول العربية الأخرى، تعتبر نقلة نوعية جديدة، وإنجازًا كبيرًا.
9 - تخفيف حالة الاحتقان والعداء مع الحكومة، وحماية الحركة من محاولات جرها إلى صدام مع النظام لا يعود بالفائدة إلا على أعداء الحركة وأعداء الوطن.
10 - تنمية العلاقات مع المسئولين المحليين في المحافظات والألوية، من حكام إداريين ومديري دوائر، والتعاون معهم في العمل والخدمة وحل المشكلات.
11 - دعم القضية الفلسطينية والسعي قدر الإمكان إلى دفع الحكومة للالتزام(1/108)
بما لا يضيع حقوق الفلسطينيين في أرضهم، وعلى المستوى المحلي ساعدت جهود نواب الحركة في التوصل إلى قرار في مجلس النواب يحد من معاناة أهالي غزة وحملة البطاقات
المقيمين في الأردن، ومن ذلك متابعة قضية العائدين من دول الخليج لمساعدتهم
وتحصيل حقوقهم.
12 - دعم القضايا الإسلامية الأخرى، مثل قضايا أفغانستان، والبوسنة والهرسك، وغيرها.
13 - التفاعل مع الأحداث على الساحة العربية والإسلامية من خلال إرسال البرقيات وحضور اللقاءات والمشاركة في النشاطات والاجتماعات، وقد أصدر مكتب نواب الحركة الإسلامية عشرات البيانات والبرقيات في المناسبات المختلفة، وشارك نواب الحركة باستمرار في نشاط الوفود البرلمانية إلى الأقطار العربية والإسلامية وغيرها.
14 - مواجهة الفساد الإداري والمالي، ومحاسبة الوزراء والحكومة وكبار المسئولين، والرقابة على أداء الأجهزة بما يحقق المصالح والمنافع ويحمي البلد ومؤسساته من الإهمال والعبث والفساد.
15 - نشر الفكر والدعوة وخدمة القضايا الإسلامية، وتسهيل هذه المهمات للقائمين عليها وحمايتهم، وتفعيل المؤسسات الإسلامية حتى أصبح الرأي الإسلامي المعبر عن الموقف الإسلامي الصحيح يطرق كل منافذ النشر والتبليغ.
16 - ساهم نواب الحركة في تحقيق كثير من المشاريع والخدمات العامة ومن ذلك:
كلية الشريعة في جامعة اليرموك، بالإضافة إلى المطالبة بإنشاء المدارس والطرق والمراكز الصحية وتمديد الخدمات الكهربائية والمائية والهاتفية في مختلف المناطق والمحافظات.
17 - استقبال المراجعين والمواطنين والسعي في حاجاتهم والوقوف مع(1/109)
المواطنين في كثير من القضايا والمشكلات التي تعسر عليهم حلها مع الدوائر الحكومية ومطالبة الحكومة بالمذكرات وبالاتصال الشخصي بمساعدة المواطنين وتنفيذ المشروعات، والحد من الغلاء وتخفيف الضرائب (1).
هذه بعض إنجازات الحركة.
د- مطالب الحركة من العمل السياسي:
إن الحركة الإسلامية في الأردن تدرك جيدًا الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وتدرك محدودية إمكانات الأردن في ظل هذه الأوضاع والمعادلة الدولية الحالية؛ ولذلك نهجت أسلوب العمل الإصلاحي المتدرج، يقينًا منها بأن التحسن الجذري للأوضاع مرتهن بتبدل ظروف الأمر الواقع المفروض على المنطقة ككل، وليس على الأردن فقط، ووفاءً بواجب الدعوة إلى الله والإصلاح في حدود المستطاع فإن الحركة تسعى جاهدة إلى تحقيق بعض الأهداف المهمة في هذه المرحلة منها:
1 - تحقيق العدل والحرية والمساواة بين المواطنين.
2 - ترسيخ الممارسة الديمقراطية وضمان احترام خيار الشعب.
3 - تشكيل حكومة نظيفة، ومسئولة، ومخلصة وعادلة، ومؤهلة لقيادة شئون المجتمع الأردني، وتلتزم بمقاومة الفساد والانحلال الخلقي بكل أشكاله، وبوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والاحتكام إلى مبادئ الجدارة والاستحقاق في التوظيف والتعيين.
4 - محاربة الطائفية والإقليمية، والتركيز على الوحدة الوطنية، وتعزيز الجبهة الداخلية.
5 - مناصرة ودعم حقوق الإنسان، ورفض القمع والظلم.
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص107إلى 111، اختصرت ما قاله الأستاذ عبد الله العكايلة عن تجربة الحركة الإسلامية في الأردن.(1/110)
6 - شجب العدوان، وتأييد حركات التحرر ضد الهيمنة الاستعمارية على الشعوب.
7 - السعي إلى إقامة صيغ الوحدة بين أقطار العالم العربي والإسلامي، وإنشاء مؤسسات التضامن العربي والإسلامي في المجالات الاقتصادية، والسياسية والثقافية، وصولاً إلى صيغ التكامل بين أجزاء الأمة العربية والإسلامية.
ثانيًا: الحركة الإسلامية في اليمن:
قد يظن البعض أن مشاركة الحركة الإسلامية اليمنية في السلطة لم تبدأ إلا بعد الانتخابات النيابية التي جرت في 27أبريل 1993م، يبد أن الحقيقة هي أن الحركة بدأت تجربتها في المشاركة منذ وقت مبكر وعلى أصعدة متعددة وبأساليب متنوعة حسبما تتطلبه الظروف والمراحل، وإن كانت السنوات الأخيرة من عمر التجربة السياسية للحركة اليمنية تظهر مع قرار الحركة في المشاركة في انتخابات أبريل 1993م، ثم المشاركة في الحكومة حيث أظهرت ملامح الحركة السياسية قدرتها على خوض الصراع السياسي بمهارة فائقة وقدرة نادرة وتخطيط صحيح وإدارة رشيدة وتنظيم قوي.
لم يكن برنامج العمل السياسي للتجمع اليمنى للإصلاح إلا وليد مجهودات سبقت, وسنين من العمل والجهاد المتواصل، ظهرت رؤيته العقدية وصبغته الشرعية ومنظومته الفكرية والثقافية منذ اليوم الأول لاندلاع ثورة سبتمبر 1962م التي أطاحت بنظام الإمامية وجاءت بالنظام الجمهوري وأخذت هذه المنظومة تتطور مع الزمن حتى برزت في هيكلها الأخير للتجمع والإصلاح، ولقد ساعدت عوامل عدة في نمو الحركة السياسي والتنظيمي مع الامتداد الشعبي المتوازن, ومن أهم هذه العوامل:
1 - بقاء اليمن الشمالي حرًا بعيدًا عن الاستعمار الأجنبي.(1/111)
2 - تأكيد النظام الجمهوري بعد قيامه على سيادة الشريعة الإسلامية وجعلها مصدر القوانين جميعًا.
3 - وجود مجال رحب للعمل السياسي استفادت منه الحركة في تنمية قدراتها وتفجير طاقاتها وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها.
4 - امتلاك الشعب للسلاح وبذلك حافظ على حريته؛ ولم تستطع الحكومات العلمانية أن تذله وتكبل حريته وتصادر حقوقه؛ ولذلك لم تتعرض الحركة الإسلامية بشكل جماعي ومنظم طوال فترة ما بعد الثورة إلى اليوم لأية محنة كبيرة أو إجراءات قمعية شديدة كالسجن أو النفي أو المطاردة أو غير ذلك (1).
5 - ظهور المد الشيوعي في جنوب اليمن ووصول الحزب الماركسي إلى مقاليد الحكم في اليمن الجنوبي، مما جعل مصالح مشتركة بين الحكومات الشمالية والحركة الإسلامية مع ظهور قيادات فذة في الحركة استطاعت أن تستفيد من هذه المعادلة لمصلحة الإسلام في اليمن إلى غير ذلك من العوامل.
وكانت لجهود الجهاد التي قادها الشهيد محمد محمود الزبيري رصيد حي للحركة الإسلامية في اليمن, وتعتبر شخصيته من أبرز الشخصيات الوطنية التاريخية المعاصرة، وقد أجمعت كل القوى السياسية بعد استشهاده على إطلاق لقب «أبو الأحرار» عليه.
كان للحركة الإسلامية مشاركة سياسية قبل الوحدة، وشاركت بعدد من أعضائها في مجلس الشورى لعام 1971م وحرصت على أن تؤدي دورًا متميزًا، رغم قلة أعضائها، في مجال وضع التشريعات القانونية التي انبثقت جميعها من الشريعة الإسلامية (2).
واهتمت الحركة في اليمن بالجانب التعليمي والتربوي وأعطته اهتمامًا خاصًا،
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 152.
(2) المصدر نفسه، ص 155.(1/112)
فساهمت في إعداد المناهج الدراسية لمختلف المراحل التعليمية، وكان حظ مناهج التربية الإسلامية وافرًا، حيث حشدت الحركة العشرات من العلماء البارزين - من المذهبين الزيدي والشافعي- لوضع هذه المناهج برؤية توحيدية جامعة تتجاوز التعصب المذهبي، إذ تم الاتفاق على أن تكون مناهج الفقه والحديث نابعة من الدليل الأصوب، دون التحيز والتعصب لأحد المذهبين المذكورين, وكان من فضل الله على أهل اليمن ثم بهذا الجهد المبارك أن نشأت الأجيال منذ ذلك الحين حتى اليوم برؤية فقهية موحدة تجاوزت فيها الحساسيات والصراعات الموروثة على مدار التاريخ وتجنبت البلاد مرارة الصراع المذهبي بهذا الفعل الرشيد.
- وبنفس الرؤية التوحيدية الجامعة ساهمت الحركة الإسلامية في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وتميز في الفترة التي ترأس فيها القاضي عبد الكريم العرشي مجلس الشعب التأسيسي من 1978م إلى 1988م بالنشاط الدءوب والعمل الجاد حتى أطلق على هذه الفترة بالعصر الذهبي في هذا المجال، وأصبح القضاء في جميع اليمن ملتزمًا برؤية شرعية موحدة. وكان لهذا المسلك على المستويين التعليمي والتشريعي أثره الفعال والكبير في ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية في اليمن.
- اهتمت الحركة بالجانب الثقافي والتوجيه للمجتمع اليمنى, واتجهت نحو العمل المؤسسي، وكان أبرز ثماره مكتب التوجيه والإرشاد، الذي صدر وفق قانون في عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدى، وترأسه على التوالي كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني والقاضي يحيي الفسيل، ونص القانون على أن يكون رئيس المكتب بدرجة وزير، ونائبه بدرجة نائب وزير، ووكيله بدرجة وكيل وزارة، وكان نشاط المكتب عظيمًا وأثره في الجانب الشعبي كبيرًا، حيث استطاع من خلال قوافل التوجيه والدعوة أن يتغلغل في وسط القبائل والقرى والمدن وطعم جهوده الجبارة بدعوة عدد من كبار مفكري العالم الإسلامي مثل الدكتور يوسف القرضاوى، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور الترابي، والأستاذ يوسف(1/113)
العظم، والشيخ حسن أيوب، والدكتور الصواف، والدكتور أحمد العسال وعشرات غيرهم، نجح المكتب من خلال ذلك في أن يحدث وعيًا شعبيًا بقضايا الأمة الإسلامية، سواء كانت قضايا فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك.
- واهتمت الحركة بتأسيس المعاهد العلمية، التي يدرس طلابها نفس مناهج التربية والتعليم مع زيادات مقدرة في المجال الشرعي واللغة العربية، بهدف تزويد الطلاب بقدر أكبر من تلك العلوم والمعارف، وقد بدأت المعاهد العلمية منذ قيام الثورة في عام 1962م كمعاهد أهلية، ثم أصبحت منذ أوائل السبعينيات تابعة لإدارة خاصة بها ضمن وزارة التربية والتعليم، ثم تطورت لتصبح تابعة لهيئة أعلى، لكن موازناتها ظلت ضمن موازنة وزارة التربية والتعليم، وفي عام 1980م صدر قانون من مجلس الشعب التأسيسي وموقع من قبل الرئيس على عبد الله صالح بتوحيدها ضمن جهاز واحد يسمى الهيئة العامة للمعاهد العلمية، بموازنة مستقلة وبجهاز فني مستقل، على أن يرأسها مسئول بدرجة وزير، ومنذ ذلك الوقت تناوب على رئاستها ثلاث من الشخصيات الإسلامية البارزة بدءًا بالقاضي يحيى الفسيل (1980 - 1985) ثم الأستاذ أحمد عبد الله الحجري (1985 - 1988م) ثم المهندس أحمد الآنسي (1988 - 1990) , ومنذ قيام الوحدة لم يعين لها رئيس حتى الآن؛ بل تتم إدارتها من قبل وكيل الهيئة والجهاز الفني، وذلك بسبب الخلاف السياسي على وجودها واستمرارها، إذ كان يصر الحزب الاشتراكي اليمنى على دمجها ضمن وزارة التربية والتعليم بينما يرفض التجمع اليمنى للإصلاح ذلك، ويقف المؤتمر الشعبي العام موقف الحياد بين الطرفين، وقد أعطت المعاهد العلمية في الجانب التربوي والتعليمي عطاًء كبيرًا، وتركت آثارًا طيبة على جمهور المواطنين، وتوسعت المعاهد العلمية لتجاوز خمسمائة معهد على مستوى الجمهورية يرتادها ما لايقل عن ثلاثمائة ألف طالب وطالبة.(1/114)
واشتملت هيئة المعاهد على إدارة عامة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم تتبعها أكثر من مائة مدرسة ويرتادها أكثر من ثمانين ألف طالب وطالبة، ورغم موقف الحزب الاشتراكي المهزوم من المعاهد العلمية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم عندما كان في الحكم إلا أنه لم يستطع منع إقبال الناس عليها من المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الحزب، ووجد الحزب نفسه مرغمًا على قبول فتح معاهد علمية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم في مختلف أرجاء تلك المحافظات الست.
- وفي المجال السياسي دخلت الحركة الإسلامية في لجنة الحوار الوطني التي شكلها على عبد الله صالح في عام 1980م والتي تكونت من خمسين شخصية يمنية، مثلت فيها معظم القوى السياسية بما في ذلك الحركة الإسلامية، واستمرت اللجنة لمدة عامين تقريبًا تدير حوارًا وطنيًا وشعبيًا موسعًا لوضع صيغة لمشروع ميثاق وطني يتم إقرارها من خلال مؤتمر شعبي عام بحيث يكون هذا الميثاق هو الدليل النظري والفكري للشعب اليمنى وقيادته، وخلال عامين من المداولة والتباحث، توصلت لجنة الحوار الوطني إلى صيغة لمشروع ميثاق غلب الطابع الإسلامي عليه، ثم عرضت هذه الصيغة شعبيًا من خلال استبيان أبدى فيه مئات الآلاف الذين شاركوا فيه رأيهم في الصيغة المقترحة، وطالبوا ببعض التعديلات التي صبت معظمها في الاتجاه الذي دفعت صوبه الحركة الإسلامية، فأعيدت الصياغة بموجب نتائج الاستبيان الشعبي، ثم قدمت إلى المؤتمر الشعبي العام الذي انعقد في 24أغسطس (آب) 1982م وأقر الصيغة النهائية للميثاق الوطني, وأقر المؤتمر كذلك استمرار المؤتمر الشعبي العام كصيغة للعمل السياسي وإطار يجمع القوى الوطنية ويشرف على تطبيق الميثاق الوطني عمليًا، وانتخب المؤتمر الرئيس على عبد الله صالح أمينًا عامًا له، كما انتخب لجنة دائمة (مركزية) من خمسين عضوًا، كان نصفهم تقريبًا من الإسلاميين، وقد انتخبت اللجنة الدائمة د. أحمد الأصبحى (إسلامي)
أمينًا لسرها وعبد السلام العنسي (إسلامي) وعبد الحميد الحدي (قومي) مساعدين لأمين السر.(1/115)
وساهم الإسلاميون فيما بعد على المستويين التنظيمي والفكري في ترسيخ قواعد المؤتمر الشعبي العام، الذي كان أول صيغة سياسية تعترف بالقوى السياسية عمليًا دون الإعلان عن وجودها بشكل رسمي (1).
هذه بعض الملامح الرئيسية في مشاركة الحركة الإسلامية في العمل السياسي على مستوى الدولة قبل تجربة الوحدة.
ب- تجربة ما بعد الوحدة:
إن تجربة الحركة الإسلامية فيما بعد الوحدة تختلف اختلافًا كبيرًا عن تجربة ما قبل الوحدة، وهو اختلاف يكمن سره في الانتقال من العمل السري إلى العمل العلني، وفي تحول النظام الحاكم في اليمن نحو الديمقراطية والتعددية.
لقد كان إنشاء التجمع اليمنى للإصلاح نقلة نوعية كبيرة لم يقتصر أثرها على الحركة الإسلامية وحدها؛ بل امتد ليشمل الساحة اليمنية بأسرها، فبروز حزب جديد يمتلك قاعدة شعبية عريضة مؤثرة وفاعلة جعل الخريطة السياسية اليمنية تنتقل إلى مرحلة من التوازن, ووجد الكثيرون ممن لا يرغبون في الانضمام إلى الحزبين الكبيرين (المؤتمر والاشتراكي) مجالاً لممارسة العمل السياسي ضمن الحزب الجديد، وكان الإصلاح هو حزب المعارضة الرئيس والمؤثر خلال سنوات الفترة الانتقالية من 22مايو 1990إلى 27أبريل 1993م.
وبرز دور الإصلاح وتأثيره في المعارضة أثناء فترة الاستفتاء على مشروع دستور دولة الوحدة التي استمرت ثلاثة أشهر، من فبراير إلى مايو 1991م، حيث كان الإصلاح يرى وجوب إجراء بعض التعديلات على الدستور قبل الاستفتاء عليه بسبب كثرة التناقضات التي اشتمل عليها، ناهيك عن الغموض الذي اكتنف الكثير من مواده، حيث كان هذا الدستور قد وضع من قبل لجنة مشتركة من شطري اليمن في الفترة ما بين مارس 1979م إلى ديسمبر 1981م،
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 158، 159.(1/116)
أي حينما كان المعسكر الشيوعي في أوج قوته، مما أدى إلى أن يتجه النظامان حينها إلى صيغ توفيقية وتلفيقية لتجاوز خلافاتهما، وهكذا أصبحت هوية النظام السياسي غامضة، فلا يوجد مثلاً نص صريح على التعددية، وكذلك الأمر بالنسبة لهوية الاقتصاد فلا هو إسلامي ولا هو اشتراكي ولا هو رأسمالي، ولم ينص الدستور على الفصل بين السلطات، ولا على التداول السلمي للسلطة.
انتقد الإسلاميون الدستور بسبب الثغرات الكثيرة ولم يرضوا اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع؛ بل طالبوا بأن يكون المصدر الوحيد للتشريع، لذلك قرر الإصلاح أن يقود معارضة شعبية واسعة للدستور، وقد اصطف وراءه ما يزيد على عشرين حزبًا من مختلف الاتجاهات الإسلامية والقومية والليبرالية. وبدأت حملة المعارضة بالمحاضرات والندوات والملصقات والمهرجانات الجماهيرية، فيما اتفق أكثر من أربعمائة من كبار علماء الشريعة في اليمن على توقيع وثيقة تطالب السلطة بتعديل الدستور قبل الاستفتاء عليه، وفي ذات الوقت بدأ الإصلاح بجمع توقيعات المواطنين المطالبين بتعديل الدستور، حتى تجاوزت هذه التوقيعات مليونا ونصف المليون توقيع من مختلف مناطق البلاد.
بلغت الحملة ذروتها بالمسيرة المليونية التي قادها الإصلاح داخل العاصمة، وشارك فيها مواطنون من مختلف أنحاء البلاد اتجهوا إلى مقر رئاسة الجمهورية مطالبين بالتعديل، فأصدر مجلس الرئاسة الحاكم بيانًا سياسيًا ضمنه أهم مطالب الإصلاح، ومنها:
1 - الالتزام بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع وبطلان أي قانون يخالفها.
2 - إعادة الحقوق والأملاك التي أممها النظام الشيوعي في عدن إلى أصحابها.
3 - الالتزام بالنظام الديمقراطي القائم على أساس التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة.(1/117)
4 - الالتزام بتعديل الدستور إثر أول انعقاد لمجلس النواب المنتخب بعد نهاية الفترة الانتقالية، فرحب الإصلاح وأحزاب المعارضة المتحالفة معه بالبيان، وطالبوا بجعله جزءًا من الدستور والاستفتاء عليه حتى يكتسب قوة دستورية وقانونية، ولما لم تستجب السلطة لهذا المطلب أصدر علماء الشريعة فتوى بوجوب مقاطعة الاستفتاء على الدستور، وهذا ما تم فعلاً فبدا الاستفتاء هزيلاً بضعف الإقبال الشعبي عليه يومي 16، 17مايو 1991م.
ومن خلال موقعه في المعارضة ساهم الإصلاح بفاعلية في صياغة أهم القوانين التي صدرت في الفترة الانتقالية، مثل قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، وقانون الصحافة، وقانون تنظيم حمل السلاح، وقانون الإدارة المحلية، والقوانين الاقتصادية، وقانون الانتخابات (1).
رأي التجمع اليمنى للإصلاح أن استمرار الأوضاع كما هي عليه، حيث يحتكر الحزبان الحاكمان (المؤتمر والاشتراكي) حق إدارة شئون البلاد والعباد، سيدفع البلاد نحو الانهيار الشامل، ولذلك فإن دخول الإصلاح كشريك في السلطة من شأنه أن يحقق نوعًا من التوازن السياسي في البلاد، كما أن مشاركة الإصلاح تعطي تجربة فريدة في العالم العربي والإسلامي تتمثل في تشكيل ائتلاف حكومي يضم اليمين المحافظ المتمثل في المؤتمر الشعبي العام، واليسار المعتدل المتمثل في الحزب الاشتراكي، والوسط الإسلامي المتمثل في التجمع اليمنى للإصلاح، كما أن مشاركة الإصلاح في السلطة ستخفف من حدة النزعات المتطرفة التي بدأت في الظهور، وخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الاشتراكيون قبل الوحدة كرد فعل على تطرفهم.
ومن الفوائد المرجوة من مشاركة الإصلاح في الحكم، إتاحة الفرصة أمام العديد من كوادر الإصلاح للتأهل والتدريب على ممارسة الحكم، وصناعة القرار، والإحاطة بآليات إدارة السلطة وأسرارها وخفاياها.
_________
(1) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 161، 162.(1/118)
وكذلك إتاحة الفرصة أمام الإصلاح ليقدم نموذجًا جيدًا يتسم بدقة الإنجاز وطهارة اليد وسلامة الضمير وعلمية التخطيط ومحاربة الفساد الشامل في كل مرافق الدولة.
وبعد خوض الانتخابات استطاع الإصلاح أن يحتل المرتبة الثانية بعد أن تحصل على 63مقعدًا, والاشتراكي 56مقعدًا, والمؤتمر 127مقعدًا، والمستقلون 47مقعدًا، والبعثيون 7مقاعد، والوحدوي الناصري مقعد واحد، والناصري الديمقراطي مقعد واحد، والتصحيح الناصري مقعد واحد، وحزب الحق مقعدين، وبحصول الإصلاح على المرتبة الثانية تأكدت مشاركته في السلطة، حيث دعا الرئيس على عبد الله صالح ونائبه على سالم البيض إلى اجتماع مشترك مع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، زعيم الإصلاح، اتفق فيه الزعماء الثلاثة على تشكيل ائتلاف حاكم بحيث تتوزع الرئاسات الثلاث على الأحزاب الثلاثة، فتكون رئاسة الدولة للمؤتمر، ورئاسة البرلمان للإصلاح، ورئاسة الحكومة للاشتراكي.
بدأت المفاوضات حول تشكيل الحكومة الجديدة، ووزعت الحقائب بحيث حصل المؤتمر على أربع عشرة حقيبة تنازل عن واحدة منها للمستقلين، وحصل الاشتراكي على تسع حقائب منها حقيبة رئيس الوزراء وحقيبة نائب رئيس الوزراء وسبع حقائب وزارية, بينما حصل الإصلاح على ست حقائب من بينها حقيبة لنائب رئيس الوزراء تولاها الأمين العام للتجمع الأستاذ عبد الوهاب الآنسى، وخمس حقائب وزارية هي الإدارية المحلية وتولاها الأستاذ محمد حسن دماج، والتموين والتجارة وتولاها د. عبد الرحمن بافضل، والصحة العامة وتولاها الدكتور نجيب غانم، والأوقاف والإرشاد وتولاها الدكتور غالب القرشي، والشئون القانونية وشئون مجلس النواب وتولاها الأستاذ عبد السلام خالد.
ولم تمضى شهور قليلة على تجربة الإصلاح في المشاركة حتى دخلت البلاد في أزمة سياسية انتهت بالحرب بين القوات النظامية والقوات الموالية للحزب(1/119)
اليمنى الاشتراكي الذي أعلن من طرف واحد انفصال الجنوب عن الشمال، وبعد شهرين من المعارك الدامية (قتل فيها حوالي سبعة آلاف شخص) تمكنت القوات النظامية من دخول آخر معاقل الانفصاليين بعد سقوط مدينتي المكلا وعدن وفرار زعماء الاشتراكي إلى
خارج البلاد.
لقد كان دور الإصلاح في المحافظة على وحدة اليمن عظيمًا، والتف الشعب اليمنى المناصر للوحدة والمنابذ للفرقة حول الحكومة الشرعية والحزبين الكبيرين الإصلاح والمجتمع, واستطاعوا بفضل الله ثم جهودهم أن يمحوا الحزب الشيوعي الاشتراكي من الوجود بعد أن عاث في الأرض فسادًا.
واستمر الحزبان المتحالفان في الحكم، وتركت مشاركة الإصلاح في السلطة أثرًا إيجابيًا على المستوى الشعبي، وأوجدت أملاً لدى المواطنين في إمكانية التغيير إلى الأفضل، فسمعة الإصلاح ظلت نقية طوال الفترة الماضية قبل الوحدة وبعدها، فالناس أدركوا من خلال تجارب فترة ما قبل الوحدة أن أكثر الوزراء والحكام الإداريين (المحافظين) نجاحًا وإخلاصًا في عملهم هم أولئك الذين ينتمون إلى الحركة الإسلامية تنظيمًا أو فكرًا أو سلوكًا، ولم ينس اليمنيون إنجازات الإسلاميين على صعيد التعليم والحركة التعاونية وفي مجالات التشريع والثقافة والإرشاد, وبعد انتخابات عام 1997م أصبح الإصلاح في المعارضة وضرب أروع الأمثلة في المعارضة السلمية النزيهة البعيدة عن المزايدة والكذب والتزوير والخداع (1).
إن تجربة الإصلاح في العمل السياسي تعتبر من أنضج التجارب المعاصرة في
العالم الإسلامي.
ثالثًا: الحركة الإسلامية في تركيا:
تأتي قوة الحركة الإسلامية في تركيا، في كون الأحزاب السياسية في تركيا
_________
(1) انظر: البحث الذي أعده نصر طه مصطفى في مشاركة الإسلاميين في السلطة ص (141 - 170).(1/120)
تعتمد اعتمادًا كبيرًا في الانتخابات على الجماعات الإسلامية إلى درجة نرى أن أحزابًا كبيرة، برامجها كانت علمانية، ولكن مواقفها اختلفت عن هذه البرامج.
من هذه الأحزاب على سبيل المثال حزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي أسسه مصطفى كمال في عام 1922م حيث أرسى هذا الحزب معالم العلمانية في تركيا حتى وفاة مؤسس الحزب في عام 1938م، وقد قام هذا الحزب بسلسلة من الإجراءات القانونية فرضت بالقوة على المسلمين في تركيا, كان الغرض منها جعل الدستور علمانيًا، وفُرضت المبادئ الستة التي نادى بها مصطفى كمال على الشعب التركي, وجعلت من مبادئ الدستور التركي. وهذه المبادئ الستة منها أن تركيا دولة جمهورية وعلمانية، وشعبية، ودولية، وإصلاحية.
إلا أن حزب الشعب الجمهوري، بدأ يغير في اتجاهاته العلمانية منذ الانتقال إلى ظاهرة التعدد الحزبي، ريثما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حيث وافق الحزب على إنشاء كليات الإلهيات، ومعهد العلوم الإسلامية في أنقرة.
واعتمد الحزب الديمقراطي على الجماعات الإسلامية في انتخابات 14أيار 1950م، وكان سببًا رئيسًا في فوزه على حزب الشعب الجمهوري، وفضلاً عن ذلك، اعتمدت أحزاب أخرى على الجماعات السالفة الذكر، مثل حزب العدالة في المدة الواقعة بين 1961 - 1980م.
وأما حزب الطريق المستقيم، والذي يعد امتدادًا لحزب العدالة، فإنه استمد قوته في الثمانينيات من الرأي العام الإسلامي.
وركب حزب العمل القومي بزعامة ألب أرسلان توركش الموجة الإسلامية وغير مفهومه عن العلمانية، وبدأ بالتقرب من الرأي العام الإسلامي, وكان شعار هذا الحزب في انتخابات عام 1987م: «دليلنا القرآن، وهدفنا الطوران» (1).
إلا أن العمل الإسلامي المنظم بدأ يظهر جليًا مع ظهور حزب السلامة الوطني.
_________
(1) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. أحمد النعيمى ص 184 - 187.(1/121)
كانت الحركة الإسلامية في تركيا قبل ظهور حزب السلامة الوطني تتكون من:
- المتصوفة المناوئة للحركة الكمالية، وهؤلاء حافظوا على التراث الإسلامي بمفهومهم الخاص بهم، وواصلوا تحفيظ القرآن سرًا، وكان هدف هذه الحركة هو الحفاظ على العبادات الإسلامية في نفوس الرأي العام التركي، وفي هذا المجال قاموا بتكوين جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء للإكثار منهم، وتعويض النقص الذي نتج عن اختفاء الدعاة الإسلاميين عندما اصطدم بهم الحزب الكمالي.
حركة الإمام المصلح الكبير سعيد النورسى والتي تعرف بحركة النور, والتي تركزت جهودها على الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ومحاربة المادية الملحدة والاهتمام بتربية الأجيال وابتعد الكثير من أتباعها عن السياسة (1).
عندما تحصلت تركيا على نوع من الحريات تقدم الإسلاميون المؤمنون بضرورة خوض المعترك السياسي بتأسيس حزب النظام الوطني في كانون الثاني عام 1970م، حيث قام على تأسيسه يونس عارف، وقد جاء دعم هذا الحزب بصورة رئيسة من التجار الصغار والحرفيين والرجال المتدينين في الأناضول. توسع الحزب في مدة قصيرة جدًا, وبدأ يشكل تهديدًا خطيرًا للأحزاب العلمانية، وقد جاء في بيان التأسيس ما يلي: (أما اليوم: فإن أمتنا العظيمة التي هي امتداد لأولئك الفاتحين الذين قهروا الجيوش الصليبية قبل آلف سنة، والذين فتحوا إستانبول قبل 500سنة- أولئك الذين قرعوا أبواب فينا قبل 400سنة، وخاضوا حرب الاستقلال قبل خمسين سنة، هذه الأمة العريقة
تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها وتجدد عهدها وقوتها مع حزبها الأصيل «حزب النظام الوطني».
_________
(1) انظر: المعالم الرئيسية للأسس التاريخية والفكرية لحزب السلامة، عبد الحميد حرب ص 435، ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، البحرين 22 - 25/ 2/1985م.(1/122)
إن حزب النظام الوطني سيعيد لأمتنا مجدها التليد، الأمة التي تملك رصيدًا هائلاً من الأخلاق والفضائل يضاف إلى رصيدها التاريخي، وإلى رصيدها الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه) (1).
وقدم حزب النظام برنامج عمله في منظومة من الأفكار يمكن إيجازها في الآتي:
1 - جميع المؤسسات الهامة في تركيا في أيد غريبة غير وطنية، والأمر الطبيعي والواجب القومي يقضي بأن تعود هذه المؤسسات إلى أصحابها.
2 - عاش الناس أربعين سنة والقوى الخارجية المؤثرة تحاول إبعادهم عن محورهم الحقيقي إلى محور غريب، فوقع الناس في ضيق وعنت شديدين، ولا بد من إرجاع الناس إلى طبيعتهم ومحورهم الأصيل (فطرة الله) حتى يستقيم أمرهم ويتخلصوا من عقدهم.
3 - إن التسميات المعاصرة مثل اليمين واليسار والوسط هي من اختراع الماسونية والصهيونية، وكلها مؤسسات تابعة لغرض واحد وهو أن تنحرف تركيا عن خطها الحضاري الذي عمره ألف سنة، وأنه لا بد من التخلص من هذه الأسماء الغريبة والعودة إلى الخط الأصيل الذي يصل الماضي التليد بالغد المشرق.
4 - إن حزب النظام الوطني لا يشبه الأحزاب الأخرى، فجميع الأحزاب تقوم على أساس التسلط وشهوة الحكم، ونحن نقوم على أساس جديد يبتغي مرضاة الله والعمل في سبيل الوطن.
5 - إن نظام التعليم في تركيا فاسد وضعته شرذمة من الحاقدين من الصليبيين واليهود بشكل لا يناسب الأمة، فهو يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلاقية أو دينية غايته فصل تركيا عن ماضيها الإسلامي وسلخها عن دينها وقيمتها، وبهذه الطريقة فقط يستطيعون أن يقتلوا الجيل ويدمروا البلاد، لقد
_________
(1) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، ص 126.(1/123)
مرت خمسون سنة ونحن نسمع أن تركيا جزء من أوروبا، وأن النهضة لا بد أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب، متناسين أن الإسلام يختلف عن الكنيسة ودولة القسس.
6 - في الوقت الذي تمنع الدولة فيه توزيع الكتب على المعاهد الإسلامية العالية وتحاول إغلاق معاهد الأئمة والخطابة ومدارس تعليم القرآن، تنفق الملايين على المسارح والممثلين وثمنًا للمشروبات التي توزع في السفارات، وفي الوقت الذي تعترض الدولة على الطالبات اللواتي يلبسن الحجاب على رءوسهن، تدرس كتب اللاهوت في
كل مكان دونما رقابة أو ضجة, وهذا يعنى أن حزب النظام الوطني أكد العودة إلى الإسلام الحقيقي (1).
إن اليهود والعلمانيين في تركيا لم يتحملوا هذا الصوت الفتى الذي يتدفق بالحيوية والنشاط, ويحركه في قضاياه الإيمان العميق بالإسلام وبضرورة رجوع الشعب التركي إليه، لذلك تحرك الجيش التركي في آذار 1971م بسبب نشاط حزب العمال وأحال قضية حزب النظام الوطني إلى المحكمة الدستورية التي أصدرت قرارًا جائرًا بحل الحزب في 21مارس 1971م (2).
وقد جاء في قرار محكمة أمن الدولة العليا ما يلي:
1 - إن المبادئ التي قام عليها الحزب وتصرفاته تخالف الدستور التركي.
2 - العمل على إلغاء العلمانية في البلاد، وإقامة حكومة إسلامية.
3 - قلب جميع الأسس الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي تقوم عليها البلاد.
4 - العمل ضد مبادئ أتاتورك.
5 - القيام ببعض التظاهرات الدينية.
_________
(1) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، ص 127.
(2) المصدر نفسه، ص127.(1/124)
وجاء في حكم المحكمة أيضًا أنه لا يحق لأي من شخصيات الحزب أن تعمل من خلال أي حزب سياسي آخر، ولا أن يؤسسوا أي حزب جديد، ولا أن يرشحوا أنفسهم لأي انتخابات قادمة ولو بشكل مستقلين لمدة خمس سنوات. وهذا يعنى أن المدة بين نشوء الحزب وإغلاقه كانت ستة عشر شهرًا فقط (1).
وفي تلك الأحداث الساخنة والمشادة العنيفة بين الإسلام والعلمانية في تركيا ظهر المجاهد الكبير نجم الدين أربكان يخوض المعارك الكلامية مع العلمانيين؛ ففي 2آب 1972م وقبل تأسيس حزب السلامة الوطني تحدث أربكان في المجلس الوطني فقال: «في رأينا أن التوضيح المهم الأكثر ملاءمة لجعل الدستور دستورًا ديمقراطيًا، لا بد أن تكون هناك مواد دستورية مناسبة قبل تحديد الحركات وحقوق الفكر والمعتقد، وهكذا من الممكن إيجاد مناخ للتطبيقات الحالية والتي تتعارض مع المبادئ الأساسية للدستور، وفي مثل هذه الحالة، على المرء أن يتكلم عن وجود فكر الحرية والمعتقد، وأن دولتنا لتسعى وتنمو، ومن ثم لتأخذ مكانتها بين الأقطار الحضارية في العالم» (2).
كان أربكان يرى أن النظام الديمقراطي لا يعد ديمقراطيًا بدون الحقوق وحرية الفكر والمعتقد، وكان يقصد من وراء ذلك الحرية التامة لاستخدام نشر الأفكار الإسلامية، وقد فسرت كل من صحيفتي «جمهوريت» و «ملليت» العلمانيتين تصريحات وأقوال أربكان بأنها ذريعة لاستخدام الدين لأغراض سياسية (3).
لقد هاجم أربكان العلمانية واستفاد من الثغرات الموجودة في الدستور التركي, ورد على الحملة الإعلامية العلمانية الموجهة ضد أطروحاته فقال: (إن مصطلحات القومية والديمقراطية والعلمانية والاجتماعية، والتي تقوم عليها شخصية الدولة، واستنادًا إلى المادة الثانية من الدستور، إن هذا من الممكن
_________
(1) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، محمد مصطفى، ص (185 - 186).
(2) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمى، ص128.
(3) المصدر نفسه، ص128.(1/125)
توضيحه بأن هذه المادة لا تسمح باستخدام وتفسير المعارضة في الممارسة، وفي هذا المجال وبصورة خاصة مصطلح القومية بحاجة إلى توضيح، وهذا يعنى أنها بحاجة إلى تحديدها بطريقة تقوم على احترام جميع القيم الروحية لقوميتنا من حيث التاريخ والتقاليد) (1).
وأضاف أربكان قائلاً: «الدين هو معتقد أساسي ونظام فكري للأفراد، وهذا يعنى الاعتراف بحق الحرية والوجود والاعتراف بحقوق المعتقد للفرد، إن تحريم الشخص من هذه الأسس هو ضد الروح والمبادئ الأساسية للدستور وخاصة الفقرة (1) من المادة 19والمادة 20من الدستور» (2).
2 - حزب السلامة الوطني:
بعد هدوء جو العنف والقلق السياسي في السياسة الداخلية التركية من جراء الأحكام العرفية قام أربكان بلم شعث حزب النظام الوطني وأسس حزبًا جديدًا أطلق عليه حزب السلامة الوطني، استطاع حزب السلامة الوطني خلال مدة قصيرة لا تتجاوز ثمانية أشهر من تنظيم قواعد في 67محافظة، وأعلن أربكان بأن نجاح حزبه خلال هذه المادة يعود إلى تعاطف الرأي العام المحلي مع الحزب الذي ينادى بأهمية الأخلاق الدينية والمواقف المعنوية، وعلى هذا الأساس فقد أكد حزب السلامة في برنامجه على ما يأتي: (قيام تجمع يعتمد الفضيلة والأخلاق ويعطى القيمة المعنوية للإنسان مثلما نصت عليه المادتان العاشرة والرابعة عشرة من الدستور والتي تؤكدان على القيمة المعنوية للإنسان على أساس من الأخلاق والفضيلة) (3).
أهم أعمال حزب السلامة:
عندما شعر حزب السلامة بقوته، وصار جزءًا من الحياة السياسية في
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص128.
(2) المعالم الرئيسية للأسس التاريخية لحزب السلامة الوطني، ص 435.
(3) انظر: الحركة الإسلامية الحديثة، د. النعيمي، ص 130.(1/126)
تركيا شرع منظرو الحزب بشن حملة إعلامية منظمة على أسس العلمانية في تركيا, وبينوا للناس أن الإطار السياسي لتركيا الجديدة يناقض المبادئ السياسية للإسلام، ويقضي الإسلام بتوحيد السلطات السياسية والدينية تحت سيطرة الدين، وفي هذا المعنى، فإن العلمانية، والنظام العلماني ضد الإسلام، الشريعة والدين, وخاصة تطبيقاتها في تركيا فإنها صممت لضمان الزندقة (1) , ويردف قائلاً: «إن الخونة والكذابين هم وحدهم الذين يقولون بأن الدين والسياسة شيئان منفصلان، لأن المسلمين لا يفصلون شئون الدنيا عن شئون السماء، لقد أصبح واضحًا بأن التشريع ليس من حق الإنسان، أما إذا وضع القوانين أو ادعى بأنه يفعل ذلك، فإن علمه هذا يعد خطيئة. إن خالق القوانين الإسلامية هو نفسه خالق الإنسان، لقد خلق الله الإنسان وفق هذه القوانين، إن القوانين الإنسانية لا تتناسب وطبيعة الإنسان، إن الإسلام نظام يصلح لكل الأزمان, إنه يمثل كلاً من الدين والدولة، إن القرآن لم ينزل ليقرأ في القبور أو يغلق عليه في أماكن العبادة، لقد أنزل
القرآن (ليحكم) (2).
إن المجاهد الكبير أربكان شق طريقه بصعوبة في محاربته للعلمانية بالحجة والبرهان، ولقد عبر عن آرائه بصراحة خلال مباحثاته مع ضياء الحق، مؤكدًا أن دخول الإسلام في كل جوانب الحياة هو الشرط الوحيد لقيام دولة إسلامية، وفي هذا المجال قال أربكان: «قبل كل شيء يجب أن تكون الدولة إسلامية، إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الدين الإسلامي في خطر» (3).
إن حزب السلامة الوطني لم يحاول أن يتخذ موقف الهجوم المباشر على الديمقراطية في انتخابات عام 1973، إلا أنهم عبروا عن مشاعرهم الحقيقية عن ذلك في عام 1980م، حيث بدأوا ينتقدون الديمقراطية مؤكدين أنها تتعارض مع مبادئ الإسلام (4).
_________
(1) المصدر نفسه، ص131.
(2) انظر: الحركة الإسلامية الحديثة, د. النعيمي ص 132.
(3) المصدر نفسه، ص 132.
(4) المصدر نفسه، ص135.(1/127)
وفي هذا المجال أكد حزب السلامة أن «الديمقراطية مؤامرة غربية لقيادة الجهلة بموجب الأساليب الغربية والمسيحية، إنه انتصار للمسيحية ضد الإسلام، لذلك يجب تطبيق القوانين الإلهية إذ لا يمكن للإنسان تشريع قوانين يمكن تطبيقها» (1).
وبالإمكان تلخيص وجهة نظر حزب السلامة الوطني عن الرأسمالية والاشتراكية، في مقالة لنجيب فاضل جاء فيها:
«نحن نقسم طريق الخلاص إلى مجموعتين: الأولى هي طريقة الإسلام في الخلاص، والثانية يمكن تصنيفها كنظم وراثية والتي لا توصل إلى الخلاص، إن المجموعة الثانية لا تعتمد على التعاليم الإلهية وتناقض نفسها باعتمادها على قوانين من صنع الإنسان مثل الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، لقد تم التأكيد أيضًا على أن الله قد أمرنا أن نحكم طبقًا لتعليم القرآن الكريم، وليس حسب آرائنا الخاصة، إذا حكَّم الناس حسب نظام التصويت، فإنهم لن يكونوا بحاجة إلى كلام الله, في المجتمعات التي تحل فيها كل القضايا وفقًا لنظام التصويت، لا ينتشر الإسلام» (2).
أما فيما يتعلق بموقف الحزب من الولايات المتحدة، فقد عارض الحزب الوجود الأمريكي في الأراضي التركية، كما عارض استخدام الولايات المتحدة الأراضي التركية، في استخدامها ضد دول منطقة الشرق الأوسط، ونتيجة لهذا فقد انتقد الحزب حكومة ديمريل في أواخر عام 1979م بسبب زيادة النشاط العسكري الأمريكي في تركيا، حيث قدم استجوابًا إلى مجلس النواب التركي مطالبًا فيه محاسبة حكومة ديمريل بسبب هذا النشاط الأمريكي، وقد دلل هذا على قيام طائرتين بالهبوط في مطار مالقا وهما تحملان 180عسكريًا أمريكيًا مع أحدث المعدات الحربية، مؤكدًا أن هذا يشكل تهديدًا لأمن المنطقة.
_________
(1) المصدر نفسه، ص 135.
(2) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 135.(1/128)
وفي الحقيقة استطاع الحزب أن يشكل رأيًا عامًا مناهضًا للغرب والولايات المتحدة، عن طريق المشكلة القبرصية والتي قام فيها أربكان بدور رئيس في إقناع القيادات العسكرية بإنزال قواتها في الجزيرة، فقد تولى القيادة مدة غياب أجويد في زيارة لدول أوروبا الشمالية.
ولقد عمل الحزب بقيادة أربكان على إفشال جميع الخطط والمشاريع اليونانية في بحر إيجة، وفي هذا المجال يقول أربكان: (سنتحرك وفق أسس العدل والحق لأوفق الأسس التي تحددها الأقطار الأوروبية الكبيرة) (1).
وفيما يتعلق بالسوق الأوروبية يقول أربكان: «إن تركيا يجب أن لا تكون في السوق الأوروبية المشتركة للدول الغربية، وإنما في السوق المشتركة للدول الشرقية، إن تركيا متخلفة بالنسبة للغربيين، ولكنها متقدمة بالنسبة للشرقيين، إذا دخلت تركيا السوق المشتركة في الأوضاع السائدة اليوم، فإنها مستعمرة» (2).
لقد كان لحزب السلامة تأثير كبير في الشارع التركي وعمل إعادة الهوية الإسلامية ونازل بحجج الإسلام وبراهينه الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية, وكان زعيمه نجم الدين أربكان يتحدث بعزة الإسلام ويوضح للشعب التركي خطورة الانحراف عن منهج الله ويوجه صواريخه إلى أعداء الإسلام، وفي هذا المجال، يقوَّم لنا نجم الدين أربكان النظامين الاشتراكي والرأسمالي, وفيما يتعلق بالأول يقول أربكان: «إنه فكر يهدد الحريات، ويضر بالكيان القومي، ويركز على مصادر أجنبية» (3)، أما فيما يتعلق بالثاني، يقول أربكان: «الفكر الرأسمالي هو فكر يقوم على الربا، ومصدره أجنبي أيضًا، أما حزب السلامة فيمضى في طريقة رافعًا راية الأخلاق والأصالة، إن النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي لا
_________
(1) الأحزاب السياسية في تركيا، حسين فاضل كاظم، ص 192.
(2) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي ص 137.
(3) يقظة الإسلام في تركيا أنور الجندي، ص 29 - 30.(1/129)
يقتصران على ميدان الاقتصاد، وإنما يمتد تأثيرهما إلى الميدانين الاجتماعي والمعنوي، ورغم اختلاف النظامين في الظاهر، فكلاهما مادي، وكلاهما يعمل على النهوض بالجانب المادي في مقابل انحطاط الأخلاق والمعنويات، وكلاهما يزداد ارتفاعًا ماديًا مع هبوط الثقافة والأخلاق» (1).
إن غاية حزب السلامة هو الوصول إلى فهم «تركيا الكبرى» وحرص على التمسك بالماضي العثماني المجيد وبيَّن للناس أهمية الالتزام بالإسلام واتبع سياسة تؤدي في مداها البعيد إلى القضاء على مبادئ أتاتورك العلماني، وهو في نفس الوقت يدعو إلى عدم التعاون مع العناصر غير الإسلامية في تركيا، وهو في نفس الوقت يعارض الشيوعية بعنف، ويؤكد على أن أفضل طريق لانتشار المبادئ الإسلامية هو توفير الحياة الحرة للمواطن التركي.
ودعا أربكان إلى ضرورة تطوير علاقات تركيا مع العالم الإسلامي في المجالات كافة، حيث قال: (وأن لا تظل هذه العلاقات صورية، وإنما يجب أن تكون علاقات فعلية متطورة، حيث إن في العالم ما يقرب من خمسين دولة إسلامية يبلغ سكانها مليارًا، وهذه الدول الإسلامية سوق طبيعية قوية لإنتاجنا) (2).
وعلى هذا الأساس، فقد انتقد أربكان كلاً من الصهيونية والماسونية (3) حيث قال في هذا المجال: «إن الصهيونية والماسونية حاولا عزل تركيا عن العالم الإسلامي، ومؤامراتهم مستمرة، ذلك أن المعركة بين الإسلام في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة وهي حرب طويلة المدى، ومستمرة منذ خمسة قرون، منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل على فتح رومية، ولكن هذا الصراع في المائة سنة الأخيرة، أخذ شكل مخطط أعد له سلفًا، فاستطاعت بعض القوى عام 1839م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري، وتدخل القوانين الوضعية البعيدة
_________
(1) , (3) المصدر نفسه، 30.
(2) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 141.
(3) الصحوة الإسلامية منطلق الأصالة وإعادة بناء الأمة على طريق الله، الجندي، ص 117.(1/130)
عن الإسلام بوساطة المنظمات اليهودية الماسونية، وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها ثلاثون سنة، وهي عبارة عن تنفيذ فكرة ليتويود وهرتزل بإسقاط الدولة الإسلامية في تركيا، أما المرحلة الثانية، فقد استمرت عشرين سنة، وكانت لإبعاد تركيا عن الإسلام، ثم نشأ حزب الاتحاد والترقي، وكانت له علاقة باليهود والماسونية، ومن ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد، وبدأ في إبعاد تركيا عن النمط الإسلامي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعنى في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين» (1).
وقد خاض حزب السلامة الوطني الانتخابات العامة لعام 1973م حيث حصل على 9 و 11% من الأصوات، أي بواقع 24.1 مليونًا من أصوات الناخبين ونتيجة لذلك فقد مثل نفسه في المجلس الوطني التركي بواقع 45مقعدًا (2).
وقد أعلن أربكان عشية انتخابات 1973م: «أننا سنعيد عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما أعلن أربكان بعد الانتخابات أن شعار حزبه هو (المفتاح) , وهذا ما سيؤهل للحزب فتح الطريق المغلقة أمامه، ويكون مفتاح كل الحكومات الائتلافية» (3).
ونتيجة لذلك فقد تكونت أول حكومة ائتلافية، ضمت حزب الشعب الجمهوري، وحزب السلامة الوطني، وذلك في 25كانون الثاني 1974م، حيث ضمت الوزارة ثمانية عشر وزيرًا من أعضاء حزب الشعب الجمهوري، وسبعة أعضاء من حزب السلامة.
ويفضل الله تعالى ثم جهود حزب السلامة الوطني بقيادة أربكان، مثلث تركيا ولأول مرة في آذار 1974م في مؤتمر القمة الإسلامي، وقد اختير وزير الداخلية التركي وهو من حزب السلامة الوطني في هذا المؤتمر.
_________
(1)
(2) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 142.
(3) المصدر نفسه، ص143.(1/131)
إن نشاط حزب السلامة الوطني خلال السبعينيات أدى إلى خرق المظاهر العلمانية في تركيا، حيث انتشرت بعض المظاهر الإسلامية في تركيا وخاصة في شهر رمضان، كما تم التوسع في المدارس الإسلامية، حيث سمح لها بتدريب الأئمة والوعاظ، وأصبحت هذه المدارس تعلم حوالي 10% من الطلاب في المدارس الثانوية بمن فيهم 50.000 من العنصر النسائي في تركيا، وفي الحقيقة وصل التصويت الإسلامي بين 10%-15%، وقد اعتبر العلمانيون هذه النسبة بمثابة خطر على المدنية التركية (1).
وبتأثير من حزب السلامة الوطني، وطلاب النور في تركيا خرجت إلى حيز الوجود سلسلة «ألف كتاب» التي دعمتها وزارة التربية، وتناولت هذه السلسلة الثقافة التركية بمعيار إسلامي, وأخذ حزب السلامة يعمق المفاهيم الإسلامية في المجلس الوطني التركي الكبير وهاجمت الصحف الإسلامية في تركيا كمال أتاتورك وأطلقت عليه اسم «الدجال». وضغط حزب السلامة الوطني على رئاسة الشئون الدينية حتى أصدرت بيانًا في حزيران 1973م أكدت فيه على دعوة المرأة التركية إلى الحجاب.
وحينما سافر أربكان إلى السعودية عام 1974م- وكان وقتئذ نائبًا لرئيس الوزراء - بدأ زيارته للكعبة، وفي الرسالة التي كتبها للملك، ذكر ما يلي: «إن معرفة الشعب والحجاج للمشاريع التي ستقام في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية بالقروض التي ستمنحونها لتركيا تعد من الأمور الهامة، إن دعمكم لموقفي في تركيا سيفتح لتركيا مرحلة جديدة في العالم الإسلامي، ومساعدتكم لنا في هذا المجال سوف تدعم هذه المرحلة» (2).
واستطاع أربكان أن يمرر قانونًا في البرلمان يسمح بموجبه للأتراك السفر برًا إلى الحج، وكان ذلك ممنوعًا (3).
_________
(1) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 145.
(2) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، محمد مصطفى، ص 207.
(3) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي, ص147.(1/132)
لقد كانت خطوات حزب السلامة الوطني جريئة في المجتمع التركي, ولذلك لم يتحمل الجيش التركي خادم العلمانية في تركيا هذه الأعمال الحميدة, ولذلك تدخل الجيش بانقلابه الذي قضى على التعددية والحرية السياسية في 12أيلول 1980م، وقد سبق هذا الانقلاب مظاهرات كبيرة في مدينة قونيا يوم 6 أيلول، ونادى المتظاهرون بتأسيس دولة إسلامية، وقام أنصار حزب السلامة بالاستهزاء بكل ما يؤمن به أتاتورك والمؤسسة العسكرية، وقد هتف هؤلاء الذين جاءوا من جميع أنحاء البلاد بالشعارات الدينية، وطالبوا باستخدام الشريعة الإسلامية في التعامل السياسي الداخلي، ومنعوا عزف النشيد الوطني (1).
واحتج المتظاهرون على ضم القدس، ونادوا بقطع العلاقات مع إسرائيل، ودعوة إسرائيل المناداة بالقدس حرة، كما دعا أربكان في هذه المظاهرة إلى بدء الصراع لأنها العقلية الغربية الزائفة والتي تحكم تركيا، وقد كتب المتظاهرون الشعارات باللغة العربية، وقام هؤلاء بحرق العلم الصهيوني والأمريكي والسوفيتي, ونادى المتظاهرون بشعار «الموت لليهود» ولا سيما أن مدينة قونيا تضم أعدادًا من طائفة اليهود والتي يبلغ عددها 20.000 يهودي ونادى المتظاهرون أيضًا: «جاء دور القانون الديني وانتهت الهمجية، الشريعة أو الموت، إن الدولة الملحدة يجب أن تدمر، وإن القرآن هو دستورنا، نريد دولة إسلامية بدون الحدود والطبقات» (2).
كانت شعبية حزب السلامة الوطني ترتقي، لأنه التزم القضايا الإسلامية علنًا خصوصًا في العامين 1979م، 1980م واضطر الحزب الجمهوري وحزب العدالة بإرضاء حزب السلامة الوطني، وقدما تنازلات للاتجاه الإسلامي، طمعًا في المساعدات الاقتصادية من الأقطار الإسلامية والحاجة الملحة إلى بترولها.
_________
(1) , (3) المصدر نفسه، ص151.
(2) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 151.(1/133)
لم يستح قادة الجيش التركي بعد انقلابهم العسكري أن يقولوا بأن سبب تدخلهم من أجل وقف المد الإسلامي.
اتخذ الانقلابيون قرارًا بحظر جميع الأحزاب السياسية وحجز قادتها وتقديمهم للمحاكمة، وكان من الطبيعي أن يحاكم حزب السلامة الوطني وأن توجه التهم لزعيمه أربكان وزملائه المجاهدين. وكانت كل التهم تدور حول حرص حزب السلامة على إعادة دولة الإسلام لتركيا والتخلص من الأفكار العلمانية والمبادئ الكمالية، إن الغطرسة التركية العلمانية أعلنت بكل وقاحة على لسان الجنرال إيفرن رئيس أركان الجيش التركي بأن لها من القوة بحيث تستطيع أن تقطع لسان كل من يتهجم على أتاتورك (1).
لقد استطاع حزب السلامة الوطني أن يدخل بعض التغييرات في السلوك السياسي الداخلي التركي، من بين ذلك: تحقيق الأذان في الجوامع وباللغة العربية، وفرض قراءة القرآن الكريم في محطات الإذاعة والتليفزيون، وكان ذلك محرمًا منذ مجيء المفسد الكبير مصطفى كمال إلى الحكم.
لقد أصبح أربكان مع حزبه المجاهد معلمًا من معالم الحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا، ولقد أثرت حركة السلامة في الأوساط الإسلامية والطرق الصوفية والزوايا التقليدية, ووجدت من التيار الإسلامي التقليدي من يناصرها ويقف بجانبها ويدعمها, وحكمت المحكمة العسكرية الظالمة في عام 1983على المجاهد أربكان لمدة أربعة أعوام وعلى 22عضوًا من أعضاء حزب السلامة الوطني بالسجن لمدد تصل إلى ثلاثة أعوام ونصف (2).
وقام الجيش التركي بتسريح كل من اشتم منه رائحة إسلامية وأعلن إيفرن في حملته التي استهدفت الإسلاميين داخل القوات المسلحة بأن هؤلاء المسلمين «كان هدفهم الوصول إلى المراتب العليا في القوات المسلحة، ماذا سيحدث لو أنهم
_________
(1) الحركات الإسلامية الحديثة، د. النعيمي ص 150.
(2) المصدر نفسه، ص 156.(1/134)
أمسكوا بزمام الجيش؟» (1)، وأضاف قائلاً: «قد يحولون البلاد إلى أي نوع من الأنظمة التي يريدون،
هل هذا نشاط ديني أم خيانة؟» (2).
وبدأت القيادة العسكرية في تركيا تبحث عن حل لمشاكلها السياسية وإرضاء الضغوط الأوروبية التي اتهمت تركيا بخرق حقوق الإنسان ويجب عليها إعادة الديمقراطية من جديد، فشكلت لجانًا جديدة لصنع دستور للبلاد بحيث يعطى الرئيس التركي الحق في فرض حالة الطوارئ، وحل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وبذلك يكون باستطاعة العلمانيين قطع محاولات الإسلاميين المستمرة للقضاء على الدستور العلماني، وعدلت القوانين بحيث تكون للقيادة العسكرية حق الاحتفاظ ببعض السيطرة على الحياة السياسية في تركيا.
وبعد إعلان الدستور الجديد في عام 1982تكونت أحزاب سياسية إسلامية, وظهر حزب الرفاة وهو امتداد طبيعي لفكر السلامة الوطني وبدأت العناصر الإسلامية تتوافد على هذا الحزب الجديد والذي تعرض لمعارضة الجيش والضغط عليه لمنعه من دخول انتخابات عام 1983م، إلا أنه خاض الانتخابات وحصل على نسبة 5% من الأصوات (3).
إضافة إلى ذلك، اشترك حزب الرفاة في انتخابات تشرين أول 1987م، حيث حصل على 7.06% من الأصوات (4).
وبدأت الجماعات الإسلامية تتمحور حول حزب الرفاة, وشرع حزب الرفاة في قيادة الحركة الإسلامية في كل المدن التركية، وحتى المحافظات الكبرى والقرى المتباعدة الأطراف، وانتعشت الحركة الإسلامية مع تسلم أوزال السلطة وهو المتعاطف مع الإسلام في تركيا خاصة أن أعدادًا كبيرة من قيادة جزبه - حزب الوطن الأم- من الوجوه الإسلامية المعروفة في تركيا, ودخلت كوادر قيادية هامة
_________
(1) المصدر نفسه، ص 165.
(2) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، ص165.
(3) , (3) المصدر نفسه، ص 179.
(4) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، 179.(1/135)
من حزب السلامة المنحل إلى حزب الوطن الأم الذي نجح في انتخابات 1983م بأغلبية كبيرة، وشجعت حكومة أوزال نشاط المساجد والمدارس الدينية, واهتم وزير الدولة المشرف على الشئون الدينية (كاظم أكصوى) بدورات تعليم القرآن الكريم والتي كانت في بداية الثمانينيات 200دورة رسمية ووصلت إلى 3000 دورة في عام 1987م, ونشطت الطرق الدينية، وقام كاظم أكصوى بجعل بعض المؤسسات الدينية والبنوك مثل بنك الأوقاف من أهم المراكز التي تغذي الحركة الإسلامية في تركيا (1).
واستمر حزب الرفاة في جهاده السلمي والتوغل المتزن في أعماق الشعب المسلم التركي الذي لا تزال أعمال حزب السلامة في ذاكرته ووجدانه والتي أعادت للمجتمع التركي وجوده وحضوره الإسلامي, واستطاع حزب الرفاة الذي هو امتداد لحزب السلامة في مارس 1994م أن يتحصل على أهم وأكبر البلديات في تركيا، وعلى فوزه بانتخابات ديسمبر 1995م كأكبر حزب في البلاد، تسلم على إثرها السلطة في ائتلاف حكومي مع حزب الطريق القويم في يونيو 1996م (2) , وأصبح المجاهد الكبير نجم الدين أربكان رئيس الوزراء وقام بإصلاحات اقتصادية رائعة وارتفعت الرواتب في فترة وجيزة، وتقدم مندفعًا كالسهم نحو الدعوة لإقامة سوق إسلامية مشتركة ورفض دخول تركيا السوق الأوروبية المشتركة، فكانت دعوة إلى قيام أمم إسلامية متحدة، ومجلس إسلامي مشترك، وضرب ممثلو حزب الرفاة في البلديات وعلى مستوى الدولة أروع الأمثلة في النزاهة والعفة وطهارة البلد والقدرة على التخطيط, واهتمت مؤسسات الحزب بتقديم وتحسين أداء الخدمات للمواطنين وتعاطف الشعب التركي مع حزب الرفاة حتى كثير من المومسات أعطين الخدمات أصواتهن لحزب الرفاة الذي عمل
على إيجاد فرص للعمل الشريف بعد ترك بيوت الدعارة والفساد والرجوع إلى الله بالتوبة والمغفرة.
_________
(1) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة، ص179.
(2) انظر: تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية، مصطفى الطحان، ص 118.(1/136)
ولقد عالج ممثل الرفاة والذي تولى بلدية استانبول مشاكل العاصمة بكل جدارة, وتضاعفت ميزانية البلدية بعد أن كانت دائمًا تشتكي من العجز المالي بسبب الاختلاس.
لم يرض اليهود والعلمانيون عن هذه المكاسب العظيمة التي حققتها الحركة الإسلامية في تركيا, فدفعوا قادة الجيش لممارسة ضغوطهم على الأحزاب حتى قضوا على التحالف بين حزب الطريق القويم وحزب الرفاة, وتقدم حزب علماني متطرف مدعوم بقوة العسكر ورجال الاقتصاد العلمانيين وقدموا حزب الرفاة إلى المحكمة الدستورية التي حكمت بحل حزب الرفاة ومصادرة أملاكه 1997م ولا يزال الإسلاميون في تركيا يديرون صراعهم مع اليهود والعلمانيين وأعداء الإسلام بكل جدارة وشجاعة وذكاء. وإني على يقين راسخ لا يتزعزع أن الحركة الإسلامية في تركيا ستصل إلى الحكم وتطبق شرع الله بإذن الله، لأن كل المؤشرات والسنن تقول بذلك.
وأختم التجربة الإسلامية في تركيا بهذا الحوار للأستاذ والمجاهد الكبير الذي نخر أعمدة العلمانية في تركيا البروفسور نجم الدين أربكان، سأله صحفي مسلم مشهور بقوله: إن المشاركة في العملية الانتخابية أمر لا يجوز من الناحية الشرعية وهي مساهمة في تقوية النظام الجاهلي الذي يعتمد مثل هذه الأساليب .. فرد أربكان: وماذا نفعل إذن .. ؟ هل كان بإمكاننا أن نحقق المكاسب الكبرى على صعيد الحريات الشخصية والعامة .. ونؤسس هذه المئات من المدارس الإسلامية, ونرفع أصواتنا في البرلمان لتعديل المواد الدستورية التي تحد من الحريات الدينية, ونعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وبدينهم, ونحاصر الشر بأنواعه حتى يكاد ينحسر عن بلادنا, بغير هذه الوسائل التي ترفع من مستوى أداء الجميع أفرادًا وجماعات, وتدفع الجميع لتحمل مسئولياتهم في إعادة البناء .. ؟ (1)
_________
(1) انظر: تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية, ص 87.(1/137)
إن تجربة الحركات الإسلامية في السودان والأردن واليمن وتركيا من التجارب الرائدة المليئة بالدروس والعبر, ولم تفرط هذه الحركات في ثوابت الدين؛ بل التزمت بها ولم تداهن أو تجامل في أمر الشريعة؛ بل ضغطت على حكومتها وعدلت دساتيرها كما حدث في تركيا, وإن هذه الأعمال الجليلة التي قامت بها الحركات الإسلامية في بلدانها ومع حكوماتها لنوع من أنواع التمكين لهذا الدين.
* * *(1/138)
الفصل الرابع
إقامة الدولة
تمهيد:
من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول أهل التوحيد والإيمان الصحيح إلى سُدَّة الحكم وتوليهم لمقاليد الدولة, لقد تحدث القرآن الكريم عمن قادوا دولاً وساسوا شعوبًا بشرع الله, من أمثال داود وسليمان عليهما السلام, والحاكم المؤمن والفاتح الصالح, والقائد العادل (ذي القرنين) وجعلهم قدوة ومثلاً رائعًا لأهل الإيمان على مر الدهور وكر العصور وتوالي الأزمان, وسلط القرآن الكريم الأضواء على جوانب هامة من أعمالهم وجهادهم العظيم الذي استهدفوا به التمكين لمثل عليا, ومبادئ رفيعة, وقيم سامية, وأخلاق فاضلة انبثقت من الإيمان بالله واليوم الآخر, بعيدة كل البعد عن الكبرياء الوطنية, والأمجاد القومية, والنزعات العرقية, وتقديس التراب والزعماء, ولم تكن فتوحاتهم وأعمالهم المجيدة تستهدف سيادة عسكرية أو مغانم اقتصادية, أو تطلعات توسعية أو نزوات عنصرية التي يبعث عليها حب التسلط والرغبة في العلو.
إنما خاضوا حروبًا وقادوا جيوشًا استهدفت كرامة الإنسان وتخليصه من الشرك والأوهام والانحرافات العقدية, وإزالة الظلم عن البشر وإقامة العدل, ودعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم, والتصور الرباني.
وكان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء من بعده حظ وافر من هذا النوع من التمكين نحاول أن نسلط الأضواء في هذا الفصل على بعض معالمه, وسنعرج على التاريخ الإسلامي القديم والحديث لنضرب بعض الأمثلة الحية بإذن الله تعالى لنستخرج الدروس والعبر من هذه الدراسة المتواضعة.
* * *(1/139)
المبحث الأول
تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام
أولاً: داود عليه السلام:
يبدأ العصر الذهبي لبني إسرائيل مع ظهور داود عليه السلام في القتال عندما أكرمه الله تعالى بقتل جالوت, وبيّن القرآن الكريم أن داود عليه السلام كان مجاهدًا في جيش طالوت, وممن نجحوا في الامتحان العسير الذي قرر رئيس الجيش أن يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح.
لقد رفع داود عليه السلام راية النصر وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لجالوت, وكان إذ ذاك فتى, وتم له الظفر, فالتقت على محبته القلوب, وتأكدت له أواصر الإخلاص, وأصبح بين عشية وضحاها حديث بني إسرائيل, يكنون له في نفوسهم الاحترام والمحبة والتوقير, ومنذ ذلك الحين بدأ نجمه يصعد في السماء وينتقل من ظفر إلى ظفر, ويجيئه النصر يتبعه النصر, حتى ولى الملك أخيرًا, وأصبح ذا سلطان وظهرت ملامح الحكم في زمنه في عدله وحكمه, وكان أوابًا رجاعًا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.
لقد كان منهج التغيير في زمن داود عليه السلام هو الصراع المسلح بين قوى الخير والشر, والإيمان والكفر, والهدى والضلال, وبالفعل تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم.
إن داود عليه السلام شدّ ملكه بالتسبيح والذكر والطاعة, فكان عليه السلام يسبح بالعشي والإشراق, وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل, وكذلك تجاوبت الطيور, قال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] , فوهبه الله هبة عظمى ذكرها في كتابه عَزَّ وجل: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] , أي جعلنا له ملكًا كاملاً من جميع الملوك(1/140)
العظماء, بحيث لا يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه, وكثافة حراسه التي قيل إنهم كانوا ألوفًا كثيرة يتناوبون في حراسته, ولم ينكسر له جيش في معركة أبدًا, فقد كان مؤيدًا بعون الله ونصره (1) , قال تعالى: {اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
أ- إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السلام يتعرف على صفات الحاكم المؤمن الذي مكن الله له, وهي تحقق للقائد المصلح كمال السعادة في الدنيا والآخرة.
ومن أهم هذه الصفات:
1 - الصبر: فقد أمر الله تعالى نبينا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
2 - العبودية: فقد وصفه ربه بقوله {عَبْدَنَا" وعبر عن نفسه بصيغة الجميع للتعظيم, والوصف بالعبودية لله غاية التشريف, كوصف محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها ليلة المعراج: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ذكر داود عليه السلام وحدث عنه بيَّن فضله واجتهاده في العبادة, قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام, كان ينام نصف الليل, ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا» (2).
3 - القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي في قوله: {ذَا الأيْدِ".
4 - والرجّاع إلى الله بالطاعة في أموره كلها, في قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ", وصف بالقوة على طاعة الله, وبأنه أواب دليل على كمال معرفته بالله التي جعلته يجتهد في العبادة على نهج رباني صحيح.
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي (15/ 162).
(2) مسلم, كتاب الصيام, باب النهي عن صوم الدهر (2/ 816) رقم 189.(1/141)
5 - تسبيح الجبال والطيور معه: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ - وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص:19،18].
أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار, كما قال عز وجلَّ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10].
قال ابن كثير: «وكذلك الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير, وهو سابح في الهواء, فسمعه, وهو يترنم بقراءة الزبور, لا يستطيع الذهاب, بل يقف في الهواء ويسبح معه, وتجيبه الجبال الشامخات, وترجع معه, وتسبح تبعًا له» (1).
6 - قوة الملك: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20] , أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس, وجعلنا له ملكًا كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك.
7 - الحكمة: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [ص:20] , أعطيناه الفهم والعقل والفطنة, والعلم, والعدل, وإتقان العمل, والحكم بالصواب.
8 - حسن الفصل في الخصومات: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] , أي: وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل, وإيجاز البيان بجعل المعنى الكثير في
اللفظ القليل (2).
وكان من الطبيعي في سنن الله تعالى أن يتعرض داود عليه السلام للفتنة والابتلاء وكانت عين الله ترعاه, وتقود خطاه, وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه وتحميه من خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه. قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ - إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ - إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي
_________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 29).
(2) انظر: تفسير المنير, وهبة الزحيلي (23/ 185،184،183).(1/142)
الْخِطَابِ - قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:21 - 24].
وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك, كان يخصص بعض وقته للتصرف في شئون الملك, وللقضاء بين الناس, ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحًا لله في المحراب, وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه حتى يخرج إلى الناس.
وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يَتَسوران المحراب المُغلق عليه ففزع منهما. قالا: لا تخف نحن خصمان بغى بعضنا على بعض, وجئنا للتقاضي أمامك, ونطلب منك أن تحكم بالحق والعدل وتبتعد عن الشطط وتدلنا على الصواب, وبدأ أحدهما فعرض خصومته بطريقة توحي بأن أحدهما وقع في ظلم صارخ, فاندفع داود عليه السلام دون السماع إلى حجة الخصم الآخر وأصدر حكمه, وبعد الانتهاء من إصدار الحكم تنبه داود عليه السلام بأنه لم يتثبت, فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم, فأيقن إنما الحادثة اختبار من الله تعالى فرجع إلى طبيعته واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب (1) , لقد خاضت بعض التفاسير في هذه الحادثة بسبب التأثر بالإسرائيليات ونسبت لداود عليه السلام ما يتنافى مع عصمته.
إن علماء أهل السنة يجمعون على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر (2).
وقد ذكر العلامة السعدي -رحمه الله- فوائد عظيمة وحكمًا جزيلة من قصة داود عليه السلام, فقال:
1 - ومنها أي الفوائد: اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم, وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور, ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى, كما جرى لداود عليه السلام.
_________
(1) انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن (4/ 36،35).
(2) انظر: تفسير المنير (23/ 190).(1/143)
2 - ومنها: أن الأنبياء معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى, لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك.
3 - ومنها: أن داود عليه السلام كان في أغلب أحواله ملازمًا محرابه, لخدمة ربه, ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب, لأنه كان إذا خلا في محرابه, لا يأتيه أحد؛ فلم يجعل كل وقته للناس مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام, بل جعل له وقتًا, يخلو فيه بربه, وتقر عينه بعبادته, وتعينه على الإخلاص في جميع أموره.
4 - ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم, فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة, ومن غير الباب المعهود, فزع منهم واشتد عليه ذلك, ورآه غير لائق بالحال.
5 - ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا ينبغي.
6 - ومنها: كمال حلم داود عليه السلام, فإنه ما غضب عليهما, حين جاءاه بغير استئذان, وهو الملك, ولا انتهرهما, ولا وبخهما.
7 - ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه: «أنت ظلمتني» , أو: يا ظالم أو باغ عليَّ ونحو ذلك؛ لقولهما: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ".
8 - ومنها: أن الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير القدر, جليل العلم, إذا نصحه أحد, أو وعظه, لا يغضب, ولا يشمئز, بل يبادره بالقبول والشكر.
9 - ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب, وكثرة التعلقات الدنيوية المالية, موجبة للتعادي بينهم, وبغي بعضهم على بعض, وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى الله, والصبر على الأمور بالإيمان والعمل الصالح.
10 - ومنها: أن الاستغفار والعبادة خصوصًا الصلاة, مكفرات للذنوب, فإن الله رتب مغفرة ذنب داود, على استغفاره وسجوده (1).
_________
(1) انظر: تفسير السعدي الذي اختصر في مجلد ص 559، 660.(1/144)
ب- استخلاف الله تعالى لداود عليه السلام:
قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
خاطب الله تعالى داود عليه السلام بأن جعله حاكمًا بين الناس في الأرض, فله الحكم والسلطة, وعليهم السمع والطاعة, ثم بين الله تعالى له قواعد الحكم تعليمًا لغيره من الناس.
1 - {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ" أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض, وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
2 - {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى" أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا, فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار, لذا قال: {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ" أي أن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق, وعاقبته الخذلان, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ".
أي أن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل, لهم عقاب شديد يوم القيامة والحساب الأخروي, بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم, وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان, وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم, ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق, ولا يحيدوا عنه, فيضلوا عن سبيل الله, وقد توعد الله من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد (1).
إن الآية الكريمة تبين أن الحكم بين الناس, مرتبة دينية, تولاها رسل الله,
_________
(1) انظر: تفسير المنير (23/ 188).(1/145)
وخواص خلقه, وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق, ومجانبة الهوى, فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية, والعلم بصورة القضية المحكوم بها, وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي, فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم, ولا يحل له الإقدام عليه, وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى, ويجعله منه على بال, فإن النفوس لا تخلو منه؛ بل يجاهد نفسه, بأن يكون الحق مقصوده (1).
ج- هبة من الله تعالى مباركة وفتح وإلهام:
إن داود عليه السلام كان له كثير من الأبناء والأولاد إلا أن الله خصه بالابن الصالح النبي الملك سليمان عليه السلام, وأثنى الله عليه في كتابه بكونه أوابًا إلى الله عزَّ وجلَّ, كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات, ومن مزيد فضل الله على عبده داود أن وهبه سليمان الذي ورث عنه الملك والنبوة.
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30].
لقد أكرم الله تعالى سليمان عليه السلام بالملك والنبوة وأعطاه الفهم الثاقب,
والرأي السديد, ورجاحة العقل.
ومما يدلنا على ذلك قوله تعالى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78, 79].
إن الآيات الكريمة تبين قصة زرع رعته ليلاً غنم لآخرين, وكان الله عليمًا شاهدًا بما حكم به داود وسليمان, لا تخفى عليه خافية, ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكمة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب, مع أنه سبحانه آتى كلاً من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات
_________
(1) انظر: تفسير السعدي الذي جمع في مجلد واحد ص660.(1/146)
والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور, مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة, وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه, وإن كان الصواب واحدًا, وهو ما قضى به سليمان, ودل قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره (1).
لقد استنبط العلماء من هذه الآيات كثيرًا من المسائل المهمة نذكر بعضها:
1 - في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به, إذا تبين له أن الحق في غيره, فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام.
2 - يرى كثير من الفقهاء أن الحق واحد في أقوال المجتهدين, وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم, بدليل قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" فخص سليمان بالفهم, ولو كان الكل مصيبًا لم يكون لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة (2).
د- ابتكار في صناعة الأسلحة:
قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ"
[الأنبياء:80].
كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها, وتعلمها الناس منه, وإنما كانت صفائح, فهو أول من سردها وحلقها, فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر, فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر, لذا قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ" أي على تيسير نعمة الدروع لكم, وأن تطيعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر به, والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة.
_________
(1) انظر: تفسير المنير (17/ 106).
(2) المصدر نفسه (17/ 105).(1/147)
وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب, فالسبب سنة الله في خلقه, وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف, واتخاذ الحرفة كرامة, وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء, ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن, وشريعة الديان.
قوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ - أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 11،10] , وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان, مع النبوة والاستخلاص, إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع, ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش.
يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]. هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعًا لنزعة التحضير والإبداع والبناء, التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءًا أساسيًا من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم, من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده, وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دومًا عن الحديد (البأس الشديد) متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري, و (المنافع) التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كل مجالات نشاطه وبنائه (السلمي)؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن, في مسائل السلم والحرب,(1/148)
وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلمًا وحربًا؟
إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل .. وتستطيع -أيضًا- أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها (1).
إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلام, وعلمه كيف يلينه, لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله, ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي .. إلخ.
وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقًا وارتباطًا وثيقًا بين آية الحديد, وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم, وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس, وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس) , ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي يعلم الله {مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" و {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين, وتحقيق النصر للمؤمنين, وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين, إن قول الله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإسلام.
ثانيًا: فقه التمكين عند سليمان:
تسلم سليمان عليه السلام قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى, لقد أوتي سليمان عليه السلام الملك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي, ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم, هيأه لأن
_________
(1) التفسير الإسلامي للتاريخ, ص 222،221.(1/149)
يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ, لقد أعطي النبوة, ومُنح العلم وأوتي الحكمة, وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل, قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ - وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16،15].
إن سليمان عليه السلام لم يرث عن أبيه مالاً أو دارًا أو عقارًا, وإنما ورث عنه العلم والحكمة وورث النبوة والحكم, وأعطاه الله تعالى نعمًا وهبات خاصة به لم يعطها أحدًا بعده فقد سأل الله عزَّ وجل أن يخصه بعطاء لا يصل إليه أحد, وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] , يعني: أعطني ملكًا لا يكون لأحد من البشر من بعدي مثله (1).
وإننا ونحن نمضي مع ما يحكيه القرآن عن سليمان عليه السلام, فإننا نعيش مع أنصع الصفحات المشرقة من عصور بني إسرائيل الذهبية أيام كانوا على الدين الصحيح.
يحدثنا القرآن أنه عليه السلام أقام مملكته على أسس من الإيمان بالله والإسلام له, ولهذا اعتبر سليمان مُلكه مفخرة عن ملك بلقيس ليس لامتداده وسعته وتفوقه فحسب, ولكن لأن ملك سليمان قام على العلم وأسس على الإيمان فقال: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ - وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43،42].
وإننا لنلمح من خلال القرآن أن دولة سليمان عليه السلام كانت مفعمة بالحيوية, مائجة بالحركة, وكان عليه السلام قائمًا بواجب العبودية إلى جانب القيام بمهام الملك ومسئوليات الحكام وإعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء
_________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 40).(1/150)
على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندٌّ منازع في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة.
لقد تحدثت الآيات الكريمة عن صفات وأحوال سليمان الحكيم, فهي صفات وأحوال تحكي مواقف حاكم مسئول عن إدارة شئون الأرض, لما عليها من مخلوقات, فهل كانت هذه المسئوليات الهائلة التي تكاد تتصور في عصرنا, هل كانت عقبة أمام سليمان في سلك المنهاج القيم للحكم, والطريق الناجح في الإدارة؟ بالقطع لا. بل كان عليه السلام يدير هذه المملكة الشاسعة أحسن ما يدير الفرد شئونه مع أسرته في
بيته الصغير.
ومن خلال هذا السياق القرآني لسيرة سيدنا سليمان عليه السلام نستخلص دروسًا وعبرًا في كيفية المحافظة على دولة الإيمان, وما وظائفها في الحياة, وما هي وسائل قوتها.
إن قصة سليمان عليه السلام وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع, في سورة النمل وص وسبأ, وكانت الآيات الكريمة في سورة النمل تتحدث عن حلقة من حلقات حياة سليمان عليه السلام؛ حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ, يمهد لها السياق القرآني بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير, وإعطائه من كل شيء, وشكره لله على فضله المبين, ثم مشهد موكبه مع الجن والإنس, والطير, وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب, وإدراك سليمان لمقالة النملة, وشكره لربه على فضله, وإدراكه أن النعمة ابتلاء, وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء, لقد أشارت الآيات الكريمة إلى بداية التمكين, ومظاهر التمكين, وكيفية المحافظة على التمكين, وصفات القيادة الربانية الممكن لها.
أ- بداية التمكين:
بدأ التمكين بتلك الإشارة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً" وقبل أن تنتهي(1/151)
الآية يجئ شكر داود وسليمان على هذه النعمة, وإعلان قيمتها وقدرها العظيم, فتبرز قيمة العلم, وعظمة المنة به من الله على العباد, وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين, ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه؛ لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار, وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله, وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره, وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه, وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه, فلا يكون العلم مُبعدًا لصاحبه عن الله, ولا منسيًا له إياه, وهو بعض مننه وعطاياه وبعد الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان, وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16].
ب- مظاهر التمكين في دولة سليمان عليه السلام:
إن الله تعالى أنعم على عبده داود عليه السلام بالنبوة والملك, ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلام, ومكن الله له من الملك والدولة, وأعطاه من النعائم ومظاهر الملك والعز والسلطة بحيث لا ينبغي لأحد من بعده أن يصل إلى ما وصل إليه, قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ - يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13،12].
ومن خلال الآيات السابقة في سورة النمل وهذه الآيات التي في سورة سبأ يمكننا أن نلخص مظاهر التمكين لسليمان عليه السلام في الآتي:
1 - ورثه الله الملك عن أبيه كما أعطاه النبوة, فكان ملكًا جمع الشرفين: النبوة والملك.(1/152)
2 - علمه الله منطق الطير وأعطاه قدرة التحدث مع مخلوقات الله مثل النمل, قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19،18].
3 - آتاه الله الحكمة على حداثة سنه, ويشهد لذلك ما أوردنا من بعض القصص التي حكم فيها بحكم أقره القرآن الكريم عليه, قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79،78].
4 - سخر الله تعالى له الريح فكانت تنقله إلى أي أطراف الدنيا شاء, وتقطع به المسافات الشاسعة البعيدة في ساعات معدودات, قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]. (والمعنى أنها تقطع به من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر, ومن الظهر إلى المساء مسيرة شهر, فتقطع به في النهار الواحد مسيرة شهرين, وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها, يدركها سليمان, ويحققها أمر الله .. ) (1).
5 - سخر الله تعالى له من الجن ومردة الشياطين, يغوصون له في البحار لاستخراج الجواهر واللآلئ, ويعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر كبناء القصور العالية والمحاريب في أماكن العبادة, والتماثيل والصور من نحاس وخشب وغيره, والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي نجبي به الماء, وقد كانت الجن
_________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2898).(1/153)
تصنع لسليمان جفانًا كبيرة للطعام تشبه الجوابي, وتصنع له قدورًا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها, قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ
يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ - يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن
مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13،12].
6 - أسال الله له عين القطر -وهو النحاس المذاب- فكان النحاس يتدفق له
مذابًا من عين خاصة كتدفق الماء, فيصنع منه ما شاء, قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ} [سبأ:12].
وكان النحاس وقتها عنصر الحضارة ومادة التقدم ومظهر الأبهة والعظمة في الجيوش والحراسات والبنايات, وظل سليمان عليه السلام -الملك الجاد- يسعى في إعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندُّ في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة (1).
7 - كان جنده مؤلفًا من الإنس والجن والطير, وقد نظم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم, فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل, يحيط به الجند والخدم من كل جانب, فالإنس والجن يسيرون معه في موكب حافل, والطير تظله بأجنحتها من الحر والشمس (2).
هذه هي أبرز مظاهر التمكين في زمن حكم سليمان عليه السلام, ويظهر إكرام الله له في قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39].
وذلك زيادة في الإكرام والمنة, ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قُربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:40].
_________
(1) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 587).
(2) انظر: دعوة سليمان عليه السلام, ص56،55.(1/154)
ج- فقه سليمان عليه السلام في إدارة الدولة:
إن القصص القرآني في سيرة سليمان عليه السلام أشار إلى أساليبه في إدارة الدولة والمحافظة على التمكين, وأهم هذا الفقه يظهر في النقاط الآتية:
1 - دوام المباشرة لأحوال الرعية, وتفقد أمورها, والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها, فهذا كان حال سليمان عليه السلام: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل:20] وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك, والاهتمام بكل جزء فيه والرعاية بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء (1).
ولا شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة, إن سليمان عليه السلام كان مهتمًا بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال وخاصة إذا رابه شيء في أحوالهم, فسليمان عليه السلام, لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال: {مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20] يعني (أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له) (2) , ثم قال: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20] سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق, فسليمان عليه السلام أراد أن يفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط ولكن عن جد وشدة, إذا لم يكن الغيب بعذر (3).
2 - لابد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسئ, ويحسن للمحسن, ولابد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة, وأن تكون على قدر الخطأ وحجم الجرم, وهذا عين العدالة, ولهذا لم يقطع سليمان عليه السلام بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ؛ بل جعله متوقفًا على حجم الخطأ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل:21] وقد استدل أهل العلم بهذه الآية على أن العقاب على قدر الذنب, وعلى الترقي من الشدة إلى الأشد بقدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل (4).
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي (13/ 177).
(2) تفسير الرازي (24/ 189).
(3) (4) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 593).
(4)(1/155)
3 - لابد للدولة المسلمة أن تهتم بالأجهزة الأمنية وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات حتى توظف لخدمة الدين, وعقيدة التوحيد, ونشر المبادئ السامية, والأهداف النبيلة, والمثل العليا, وأن تحرص على تحبيب الجهاد لأبنائها بواسطة الأجهزة الإعلامية والوسائل التربوية, وأن تهيئ النفوس للظروف المناسبة لإقامتها
للدين وإعلاء لكلمة الله, وهكذا كان شأن سليمان عليه السلام-كما قال القرطبي
-رحمه الله-: «فإنما صار صدق الهدهد عذرًا له, لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد, وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد» (1).
4 - لابد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دعوة التوحيد, وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف, فإن سليمان عليه السلام لما استمع إلى خبر القوم المشركين شمر عن ساعد الجد في إيصال البلاغ إليهم, وبدأ معهم بالحجة والبيان: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28] , قال القرطبي -رحمه الله-: «في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ودعائهم إلى الإسلام, وقد كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار» (2).
ومن المهم عرض الدعوة بعزة الإسلام وبشرف الإيمان وهيبة القرآن لا بتذلل واستخذاء, وعدم مداراة للناس في أمر الاستجابة لله, وترك مداهنتهم فيما يغضب الله, ولقد كان كتاب سليمان عليه السلام لملكة سبأ يبدأ بالرحمة, وتتخلله الكرامة, وآخره الدعوة إلى الاستجابة لله والاستسلام له سبحانه: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31،30].
وعلى الدولة المسلمة أن تهتم بتعظيم اسم الله تعالى, والتشرف بذكره في المحافل والمناسبات والكتابات, فهذا شعار المؤمنين, وتنزيه هذا الاسم المقدس عما لا يليق به, والحفاظ عليه من جهل الجهال؛ ولذلك قدم سليمان عليه السلام
_________
(1) تفسير القرطبي (13/ 189).
(2) المصدر نفسه (13/ 190).(1/156)
اسمه, خوفًا من أن تتلفظ ملكة سبأ بكلمة لا تليق فيكون اسمه وقاية لاسم الله عزَّ وجلَّ (1).
وعلى الدولة المسلمة أن يكون خطابها الدعوي ملتزمًا بالجدية في دعوة الناس, وأن تراعي شمولية الإسلام, وتتوخى الاقتصار على المقصود منها, وهكذا كان خطاب سليمان عليه السلام: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31،30].
فالمطلوب من الخلق إما العلم أو العمل, والعلم مقدم على العمل, فقوله: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات صفاته سبحانه, وقوله: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ" نهي عن الانقياد لغير الله عزَّ وجلَّ اتباعًا للهوى أو طاعة للنفس, وقوله: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" فيه الحث على الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح (2).
وعلى القائمين بأمر الدعوة إلى الله أن يكونوا متعالين على حطام الدنيا, فعندما تعرض عليهم رشوة في الدين, أو رهانًا على المبدأ ليكن الشعار ما قال سليمان عليه السلام: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36].
فملكة سبأ عندما عملت الحيلة لاختبار سليمان عليه السلام, وتفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن بها حبه للدين, فأظهر عليه السلام عدم الاكتراث بهذا المال, وأعلم من جاءوا به أن الله تعالى آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى, وآتاه من الدنيا ما لا مزيد عليه, فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية؟! وصارحهم بأنهم هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها, أما هو فلن يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف (3).
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 594).
(2) انظر: روح المعاني للألوسي (24/ 195).
(3) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 598).(1/157)
5 - المقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب للمكان المناسب, وعدم التردد في القرار الصعب للتغلب على الحال الأصعب, فعندما وجد سليمان عليه السلام, أن القوم ما زالوا على الشرك, بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلاته في الحق, قال للوفد الذي جاء بالهدية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
ولا مانع من ركوب الشدة مع المعاند, واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة, فإن ذلك قد لا ينفع غيره في إنقاذ الناس من الشرك, بل من المعادن البشرية ما لا يلين إلا تحت وهج السيف وسنابك الخيل, وكان هذا الأسلوب سببًا في إسلام ملكة سبأ وانقيادها وجنوده لسليمان عليه السلام, ولا مانع من استعمال الذكاء والعقل النير, ودقة التدبير, في استجلاب قلوب المدعوين إلى الدين واستخدام نعم الله في دلالة الخلق على الله, ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم وتجلب احترام خواصهم, فسليمان عليه السلام لما بلغه خبر مجئ ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنودها, أراد أن يعلمها مدى ما أعطاه الله من قوة حتى إن عرشها الذي تركته في حماية عظيمة وحرس كثيف يسبقها إليه (1).
6 - وعلى الدولة المسلمة أن تستفيد من المهارات والمواهب وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية, ووضع الفرد المناسب في مكانه الصحيح, إن مملكة سليمان كان فيها من الإنس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد, ولكن سليمان اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة, فـ (تخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف؛ لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة) (2).
_________
(1) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 598).
(2) تفسير روح المعاني (9/ 193).(1/158)
د- أبرز صفات سليمان عليه السلام كحاكم لدولة:
إن الآيات الكريمة عرضت صفات سليمان عليه السلام كملك وحاكم ممكَّن له في الأرض, وفي هذا إشارة من الله تعالى إلى الصفات القيادية المطلوبة للإشراف على تمكين شرع الله تعالى:
1 - الحزم: ويظهر ذلك عند القيادة إن غلب الظن أن هناك تقصيرًا, أو تكاسلاً
عن الحضور وقت الطلب أو التأخر وقت العمل: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ
لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21] فإنه قد تبين لسليمان عليه السلام أن الهدهد غائب, فتهدد بذلك أمام الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب, حتى لا يكون غيابه -إن لم يؤخذ بالحزم- سابقة سيئة لبقية الجند (1).
2 - التريث والتأني قبل الحكم, فلعل للغائب عذرًا, أو للمقصر حجة تدفع الإثم, وترفع العقوبة, ولهذا قال سليمان بعدها: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل:21] أي (بحجة تبين عذره في غيبته) (2) , وهذا هو اللائق بالحاكم والقاضي إذا كان عادلاً, وسليمان عليه السلام الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند النمل, لا ينتظر منه مع الهدهد, أو ما دونه أو ما فوقه, إلا أن يكون عادلاً لا يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة ولا يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.
3 - سعة الصدر في الاستماع إلى اعتذار المعتذر, وحجة المتخلف, وسليمان عليه السلام أنصت لاسترسال الهدهد حتى انتهى من قوله, رغم أن فيه نوع معاتبة لسليمان, وفيه نسبة عدم الإحاطة إليه: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ - إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ - وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ - أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
_________
(1) انظر: في ظلال القرآن (5/ 2638).
(2) تفسير القرطبي (13/ 180).(1/159)
وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ - اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" كل هذا وسليمان لا يقاطعه, ولا يكذبه, ولا يعنفه, حتى ينتهي من سرد الحجة, التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السلام.
4 - قبول الاعتذار ممن يعتذر في الظاهر, وإيكال سريرته إلى الله تعالى, فسليمان عليه السلام سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى تحري الخبر, قال القرطبي رحمه الله: (هذا دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته, ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم, لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه) (1).
5 - التروي في تصديق الخبر؛ فهذا الذي حكاه الهدهد, أمر ليس بالسهل ولا باليسير, ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة الطويلة, وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية, ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار, ومع ذلك لم يبادر عليه السلام إلى التصديق, كما أنه لم يتعجل التكذيب, بل قال: {سَنَنظُرُ" وهو من النظر, أو
التأمل والتحري (2).
{سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" يعني أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد؟ (3).
6 - عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان, وإسناد الفضل إلى الله في كل نعمة, وتجديد الشكر على هذه النعم, وسليمان عليه السلام لما طلب الإتيان بعرش بلقيس أجابته جنوده التي سخرها الله له مسارعين إلى الطاعة؛ فلما وجد سليمان طلبه مجابًا, وأمره مطاعًا سارع إلى ضبط النفس في سلك الخشية ومنهاج التواضع والطاعة لله رب العالمين: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} [النمل:40] أي رأى العرش ثابتًا عنده: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي" أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي
_________
(1) المصدر نفسه (13/ 184).
(2) تفسير الرازي (24/ 193).
(3) تفسير ابن كثير (3/ 349).(1/160)
ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها, فإن من شكر لا يرجع نفع شكره إلا على نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد, ومن كفر النعم فإن الله غني عن شكره, كريم في عدم منع
تفضله عنه (1).
7 - التواضع وهو في قمة المجد والتمكين: كان سليمان عليه السلام دائم التواضع حتى قيل إنه كان يمشي منكسر الرأس خشوعًا لله, وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والإنس والطير, مر على وادي النمل, وفي نظرة التواضع إلى الأرض؛ أبصر نملة, فأشخص النظر صوبها, وأصاخ السمع إليها, وبما علم من منطق الطير والحيوان حاول أن يتفهم أمرها, لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجنود في ركب سليمان, لقد سمعها وفهم قولها: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. نعم إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة, تسعى كأخواتها للرزق, وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك العادل, حتى لا تقع مظلمة غير مقصودة من أحد منهم, قال القرطبي رحمه الله: (التفاتة مؤمن, أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا) (2).
إن هذه النملة لم تكن إلا واحدة من رعايا سليمان في مملكته التي ضمت إلى جانب الإنس والجن أنواعًا وألوانًا من الحيوان والطير والهوام.
لقد سمع كلامها وتفهم شكواها, فتبسم من قولها, فرق قلبه الكبير رفقًا لجرمها الصغير, فرحمها وأخواتها, وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من إنصافها وإيصال العدل إليها, وسُرّ بأن عدالته وجنوده قد عرفها كل مخلوق, حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدمًا بأنهم إن أصابوا نملة بأقدامهم, فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور (3).
_________
(1) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 600).
(2) تفسير القرطبي (13/ 170).
(3) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 589).(1/161)
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19].
لقد أدرك سليمان عليه السلام أنه -في جنب الله- في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه, ولهذا قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].
* * *(1/162)
المبحث الثاني
فقه التمكين عند ذي القرنين
أولاً: من هو ذو القرنين؟
اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده وسبب تلقيبه بذي القرنين, لقد تضاربت أقوالهم وآراؤهم, وتعارضت أدلتهم, واعتمد الكثير منهم على الإسرائيليات والخرافات والأساطير, والروايات الواهية, والأخبار الكاذبة.
وعندما طالعت الكتب التي تحدثت عن ذي القرنين (1) خرجت بنتيجة وهي لا يمكننا الجزم بتحديد شخصية ذي القرنين, ولا تحديد رحلاته الثلاث التي أشار إليها القرآن الكريم, ولا تحديد السد الذي بناه على الكرة الأرضية.
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يتعرضا إلى تلك التفصيلات, وبما أنهما سكتا عن المعلومات التفصيلية, فلا دلالة يقينية عليها.
ولذلك يكون كلام المفسرين وأهل التاريخ والعلماء عنها من باب الظن وليس من باب الجزم (2).
لقد قالوا إن ذا القرنين: هو الإسكندر المقدوني اليوناني وذلك لأن البلاد التي استولى عليها الإسكندر امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها, وقيل هو قورش الإخميني, لإجماع المؤرخين على عدالة سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها, وقيل إنه أبو كرب شمر بن عمرو الحميري, لقد ناقش الأستاذ محمد خير رمضان يوسف الأقوال السابقة وخرج بنتيجة أن ذا القرنين, لم يكن واحدًا من هؤلاء الثلاثة, ونقد الآراء السابقة نقدًا علميًا متينًا, ووصل إلى أن: (ذو القرنين القرآني الذي ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز, وأثنى عليه بالإيمان والإصلاح والعدل, في سورة قرآنية عظيمة,
_________
(1) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان.
(2) انظر: مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (6/ 255،254).(1/163)
وآيات إعجازية جليلة, وقصة تاريخية نادرة, مليئة بالدروس والعبر, طافحة بالعظات والمبادئ والحكم.
إنه علم قرآني بارز .. خلد الله ذكره في كتابه الخالد, فاستحق أن ينال لقب القرآني وكفى, ولم أشأ أن أقول غير هذا لأنني لم أر من أعطى شخصية ذي القرنين حظها في التاريخ مثلما أعطى الله عز وجل في كتابه العظيم, إنه الرجل الطواف في الأرض, الصالح العادل, الخاشع لربه, والمنفذ لأمره, والقائم بين الناس بالإصلاح, والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها, فلم يغره مال ولا منصب ولا جاه ولا قوة ولا سلطان, بل إنه بقى ذاكرًا لفضل ربه ورحمته, متأهبًا لليوم الآخر, ليلقى جزاءه العادل عند ربه.
ويكفي أن يبقى ذو القرنين ذلك الشخصية العظيمة في التاريخ, وذلك العلم البارز في العدل والإصلاح, والقيادة ومثال الحاكم الصالح, على مر التاريخ, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, بشهادة الكتاب الخالد) (1).
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
1 - الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخر لتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد, وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين, وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
2 - الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين, وكذلك خضوع الأقاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية, كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية؛ بل بقى مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا.
_________
(1) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح (247 - 249).(1/164)
3 - الاهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.
إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز على الدروس والعبر والحكم والسنن, ولم يهتم بكثير من القضايا التي لا تنفع الإنسان, ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيرًا من المبهمات التي لا تفيد القارئ مثل: من هو ذو القرنين؟ وما شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي حكمها, والحروب التي خاضها, والبلاد التي فتحها, ورحلته الأولى تجاه الغرب, وتحديد المنطقة التي وصل إليها, وتحديد المكان ذي العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها, وأصل يأجوج ومأجوج, وتاريخهم, ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك من التساؤلات (1).
ثانيًا: معالم التمكين عند ذي القرنين:
أ- دستوره العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته, ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل, فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش, وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88،87].
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه, وعلى فطنته وذكائه, وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم ليسوا على مستوى واحد, ولا على صفات واحدة, ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا
_________
(1) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (6/ 244،242).(1/165)
معاملة واحدة؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر, ومنهم الصالح, ومنهم الطالح فهل يتساوون في المعاملة؟.
قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره, وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.
إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه, والأخرى يوم القيامة, حيث يعذبه الله عذابًا نكرًا, أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين, يجزيه الجزاء الحسن, ويكافئه المكافأة الطيبة, ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودة (1) , لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس, هو التقوى والإيمان والعمل الصالح, ودائمًا يتطلع إلى مقامات الإحسان.
ب- منهجه التربوي في الشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا, وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى, قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهذا دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء .. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى
_________
(1) مع قصص السابقين (2/ 331،330).(1/166)
الحاكم, مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد) (1).
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه, وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير, وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده, حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.
جـ- اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:
نلاحظ من الآيات القرآنية أن ذا القرنين وظّف علومًا عدة في دولته القوية ومن أهم هذه العلوم:
1 - علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ولا يخلو أن الأمر أن يكون في جيشه متخصصًا في هذا المجال. (2)
2 - كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين
_________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2291).
(2) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 624).(1/167)
جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين) (1). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته (2).
3 - كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القوم المفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] , أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته, وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته (3).
لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع, ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان, فقد بنى السد وبذل فيه الجهد, مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.
ثالثًا: أخلاقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب:
أ- أخلاقه القيادية:
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:
1 - الصبر: كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات؛ فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين,
_________
(1) روح المعاني (16/ 40). ... (3) انظر: في ظلال القرآن (4/ 2293).
(2) فتح القدير (3/ 313).
(3)(1/168)
فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة, وإلى عقلية يقظة, وذكاء وقاد, وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك (1).
2 - كانت له مهابة ونجابة: يستشعرها من يراه لأول مرة, فلا يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملك جبار ولا ظالم, فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين, استأنسوا به, ووجدوا فيه مخلصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة؛ فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسدًا مثلهم, ومعه من القوة والعدة ما ليس مثلهم (2).
3 - الشجاعة: كان قوي القلب جسورًا غير هيّاب من التبعات الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه, فإن ما طلب من إقامة السد, كان عملاً عظيمًا في ذاته, حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده, ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر (3).
4 - التوازن في شخصيته: فلم تعكر شجاعته على حكمته, ولم ينقص حزمه من رحمته, ولا حسمه من رفقه وعدالته, ولم تكن الدنيا كلها -وقد سُخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
5 - كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى, فلم تُسكره نشوة النصر, وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين, بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه (4) , وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف:98].
6 - كان عفيفًا مترفعًا عن مال لا يحتاجه, ومتاع لا ينفعه: فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين, عرضوا عليه الخراج؛ (فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه) (5).
_________
(1) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 624).
(2) (، 3) المصدر نفسه (2/ 624).
(3) المصدر نفسه (2/ 627).
(4)
(5) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 625).(1/169)
إن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر, وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان, وحبه العميق للدعوة إلى الله, فالإيمان بالله واليوم الآخر يظهر ذلك جليًا في شخصية ذي القرنين عند قوله تعالى: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] , وقوله: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} [الكهف:87] , وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر يستفاد منها أمور:
- إن الثناء على الحاكم لا يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو عمارة, ما لم ينضم إليها الإيمان بالله واليوم الآخر, لأن هناك حكامًا كثيرين كانت لهم من الإصلاحات الدنيوية المجردة ما يعتبرهم الناس من أجله عظماء, ومع ذلك لم يورد القرآن لهم ذكرًا حسنًا, بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيرًا ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم مثل فرعون وهامان والنمرود ونحوهم.
- إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين؛ سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر, ولذلك لم تطغ قوته على عدالته, ولا سلطانه على رحمته, ولا غناه على تواضعه, وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح, فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار (1).
وكذلك أكرمه بكثرة الأعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه, وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها (2) , وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض, فكل هذه الأمور لا تعطى
_________
(1) انظر: روح المعاني (16/ 30).
(2) انظر: البحر المحيط (6/ 159).(1/170)
لشخص عادي, ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ, إلا أن يكون مؤيدًا من الله, ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين, ويدل على هذه العناية أيضًا ضمير العظمة في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [النمل:84] أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه, فزوده بعلم منازل الأرض وأعلامها وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم, فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم (1).
لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا, وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض, وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا, وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات؛ تهذيبًا وتربية وانتظامًا, وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر, وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض (2) يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] , لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى, واستعداده لليوم الآخر, ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله, فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف, وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان, فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب, وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها, فسعى في بسط سلطان الحق, والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا, وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان, مثلما كان معاديًا لأهل الكفران (3).
_________
(1) انظر: روح المعاني (16/ 31).
(2) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم, ص304.
(3) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 623).(1/171)
ب- فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم, وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته الإيمانية:
1 - الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس, ووجد عندها قومًا, فدعاهم إلى الله تعالى, وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح, قال تعالى: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} [الكهف:87].
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة, وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين, وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم, فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم, ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره.
أما المعتدي المتجاوز للحد, المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا, ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم, والنتائج التي توصل إليها, وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة, والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة, لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها (1).
2 - الرحلة الثانية:
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع
_________
(1) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 305.(1/172)
من خلف الأفق, ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة؟ إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة, وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- إلى أن المقصود {لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] , هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن (1).
ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها, وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه, لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم, فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل (2).
3 - الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وسكان المنطقة, ومن حيث الأعمال التي قام بها, فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين؛ بل قام بعمل عمراني هائل, أما الأرض فوعرة المسالك, وأما السكان -وكأن وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه, ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93] , إما لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات, فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والأمصار- لجأوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة, قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما, وذلك بإقامة السد بين الصدفين,
_________
(1) القصص القرآني في سورة الكهف ص87.
(2) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 306.(1/173)
مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم, ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر, والحكم بالعدل بين الناس, ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب, فقد رفض عرضهم, وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري, فمنه الخبرة والتصميم والإشراف, وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم (1).
ونلاحظ من السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
1 - هم قوم متخلفون: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" وهذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى, لأنهم لم يطَّلعوا عليها ولم يتعلموها, فهم منغلقون على لغتهم فقط, وإما معناه أن الكلام لا ينفع معهم, لأنهم لا يفقهون ولا يتفاعلون معه, ولا يتفاهمون مع قائله, لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم, أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
2 - هم قوم ضعفاء, ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج, والوقوف في وجههم, ومنع إفسادهم.
3 - هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم, ومقاومة المعتدين, ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية, قوة ذي القرنين, حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
4 - هم قوم اتكاليون كسالى, لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ولا أن يقوموا بعمل, ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين, وأوكلوا إليه حلها, أما هم فمستعدون لدفع المال له (2).
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد
_________
(1) المصدر السابق, ص 307.
(2) انظر: مع قصص السابقين (2/ 338).(1/174)
لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة, فكان يدير العمل بروح الجماعة, ويشترك بنفسه مع إشراك غيره, ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماس والحيوية والتعاون المشترك (1) , {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96،95] لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس, ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع, ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية, لما في ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم (2). ومن نصحه وإخلاصه لهم, أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًا, أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا, (والردم هو الحاجز الحصين, والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق, فوعدهم بفوق ما يرجون) (3).
لقد عفَّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي, فقال لهم: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95].
إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم, والقوى المادية, ويأتي دور القيادة
_________
(1) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 627).
(2) انظر: أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/ 243).
(3) انظر: روح المعاني (16/ 40).(1/175)
الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة, والأموال المهدرة, والأوقات المبددة, والشباب الحيارى, وهي تنتظر من قيادتها في كل الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف (1) {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم, وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين, لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم, ثم يهاجم ويهزمهم, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم, ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟ لم يأت بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك, وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين, قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وهذه تلفتنا إلى أن لله سبحانه وتعالى عطاء إمكانات, وعطاء ذاتي في النفس .. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل, والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة العمل, وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة, وأنه لا يستخدمها وأن لديه قوة تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر .. وأن يعمل أعمالاً كثيرة.
_________
(1) انظر: مع قصص السابقين (2/ 342).(1/176)
هذه القوة معطلة عند عدد كبير من الناس, فهي غير مستخدمة, ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة, وأمامه المجالات التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه لا يستخدمها, عنده قوة تفكير لو دربها على العلم لفتحت له أبوابًا كثيرة يرتزق منها؛ ولكنه يبقيها كسولة فلا تفكر في شيء ولا يستخدمها لينميها.
ماذا فعل ذو القرنين؟
لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين .. إنما استعان بهؤلاء الضعفاء, لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبلين, ثم قام بصهر الحديد, وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوَّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج, بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه, وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط, ليأخذوا الثقة في أنفسهم, بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم, وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم, والإسلام ينهانا عن أن نعوِّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجرًا بلا عمل, لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع, فالإنسان متى تقاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبدًا (1).
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الأرض, فقوى المستضعف وجعله قادرًا على حماية نفسه من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد, ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين؛ بل نقلهم إلى ساحة الجد عاملين (2).
وهنا وقفة مهمة ودرس هام وضروري للأمة, وبخاصة في زماننا هذا, لأنها تواجه خطرًا ماحقًا مدمرًا, أشد وأقسى من يأجوج ومأجوج, إنه خطر الملاحدة واليهود والنصارى, الذين يسعون لتدمير كيان الأمة وسلخها من هويتها وعقيدتها
_________
(1) القصص القرآني في سورة الكهف, ص 94،93.
(2) المصدر نفسه, ص95.(1/177)
وإسلامها وجعلها عاجزة مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر, تستنجد وتستنكر وتشكو إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة, والدعوة إلى مؤتمر دولي.
إن القرآن الكريم يعلمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة ألا وهي الالتزام بمنهج الله واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح, بالجهاد والقتال والقوة والعلوم المتطورة لكي تستحق الأمة رحمة الله, فعلى الأمة أن تودِّع الأماني والأحلام الخادعة, وعليها أن تدخل ميدان العمل والعطاء والجهاد والشهادة, فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين, وصلوا إلى هدفهم المنشود, وغايتهم المطلوبة, ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد.
نظر ذو القرنين إلى سده العظيم الذي حفظ الناس من غارات المفسدين وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف:98] , إنها عبارة جميلة مباركة تشير إلى عدة معانٍ:
1 - قال سيد قطب رحمه الله: (ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به, فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه ... ) (1).
2 - ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله, يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه, إن من أعظم صور الذكر, هي أن يذكر ربه عند توفيقه في عمله, فيستشعر أن هذا بأمر ربه, فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
3 - كان بناء السد رحمة من الله تعالى, وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه, وتمكينه الذي مكنه الله له, استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم, ومنع العدوان عنهم, فكان علمه رحمة من ربه وكان استخدامه له رحمة من ربه.
_________
(1) الظلال (4/ 2293).(1/178)
4 - كان القوم مُهددين بيأجوج ومأجوج, مُعرَّضين لإفسادهم, ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد, فكان السد رحمة من الله لهم, وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله, فلو لم يتم بناء السد, ولو بقى أولئك القوم يَشكون ويندبون, بدون عمل ولا جهد ولا حركة, لما أنقذوا أنفسهم من الخطر, لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل, وتكاتف الجهود, والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية (1).
5 - {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98].
لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك عندما يحين وعد الله الذي لا يتخلف.
رابعًا: المفاهيم الحضارية والدروس والعبر:
أ- المفاهيم الحضارية:
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك (2) (ذي القرنين) مفاهيم حضارية وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد, فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل, وإنها لصفات لابد منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويأمنوا بحق على أنفسهم, وأموالهم, وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم, فالإيمان بالله ربًا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق, والعدل لابد منه لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي
_________
(1) انظر: مع قصص السابقين (2/ 350).
(2) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 22).(1/179)
والرعية, والقائد والمقود والحاكم والمحكوم, وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان, والعلم والعدل, والإصلاح مستهدفة بني الإنسان أينما حل وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه, لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة ولذلك تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم, الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده(1/180)
وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله (1) , ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبقوا قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية تسعد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: «تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان» (2).
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره, أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه.
وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده, ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في
_________
(1) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح لمحمد خير رمضان, ص390.
(2) (2) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/ 490).(1/181)
وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاق العليم خالق الوجود كله (1) , قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها, فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمع, صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- الزمن- الصبغة, كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.
إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار (2).
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقدية وأخلاق ربانية, وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
ب- الدروس والعبر والحكم:
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد.
نذكر منها:
1 - الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
_________
(1)
(2) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/ 491).(1/182)
2 - الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر, فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار ثم إحرازه ذلك الفخار, الذي لا يشق له غبار, أكبر عبرة لأولي الأبصار.
3 - ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول, والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4 - وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5 - إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
6 - إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب, قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.
7 - إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه, ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
8 - التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9 - تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة, لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10 - مشاركة الحاكم العمال في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر, لكي تنشط الهمم.(1/183)
11 - تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12 - استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا والتطلع إلى ما عند الله.
13 - الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار, حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14 - الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين, فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي (1).
وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.
* * *
_________
(1) انظر: تفسير الإمام القاسمي (11/ 87 - 90).(1/184)
الباب الثانى
شروط التمكين
وأسبابه
تمهيد:
إن الاستخلاف في الأرض, والتمكين لدين الله, وإبدال الخوف أمنًا, وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه. ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين, ولوازم الاستمرار فيه.
قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56،55].
لقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكل أركانه, وممارسة العمل الصالح, بكل أنواعه, والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر, وتحقيق العبودية الشاملة, ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه, وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما ما يتعلق بأسباب التمكين, فقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب, فالإعداد المطلوب من خلال مفهوم الآية إعداد شامل؛ لأن كلمة قوة جاءت نكرة في سياق الأمر, فيشمل قوة العقيدة والإيمان, وقوة الصف والتلاحم, وقوة السلاح والساعد.
إن الآية الكريمة تفتح أذهان المسلمين على الإعداد الشامل؛ المعنوي والمادي, العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات, وتدخل في طياتها
الإعداد(1/185)
التربوي والسلوكي والإعداد المالي, والإعلامي والسياسي والأمني,
والعسكري .... إلخ.
وفي هذا الباب سنتعرض لبيان شروط التمكين في فصل مستقل وبيان أسبابه في فصل آخر بإذن الله تعالى, لكي يستفيد منها المسلمون في حركتهم الجادة لتمكين شرع الله في الأرض.(1/186)
الفصل الأول
شروط التمكين
تمهيد:
إن الاستخلاف في الأرض، والتمكين لدين الله، وإبدال الخوف أمنًا، وعد من الله تعالى متى ما حقق المسلمون شروطه.
ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين، ولوازم الاستمرار فيه.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 55، 56].
لقد أشارت الاّيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي، الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه، وممارسة العمل الصالح، بكل أنواعه والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وأما لوازم استمرار التمكين فيه؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.(1/187)
المبحث الأول
الإيمان بالله والعمل الصالح
لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة الإيمان الذي يقبل الله به الأعمال ويتحقق به وعد الله للمؤمنين.
فمن شروط الاستخلاف في الأرض تحقيق الإيمان بكل معانيه والالتزام بشروطه والابتعاد عن نواقضه.
وقد فصل القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع الإيمان وأركانه وشروطه ولوازمه.
وقد بين علماء أهل السنة في تعاريفهم بيان حقيقة الإيمان فقالوا: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين والعمل بالجوارح والأركان, أي هو: اعتقاد وقول وعمل, فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته.
وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة, واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان (1).
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4].
فقد جمعت هذه الآيات -وهي تعرض صفات المؤمنين- بين عمل القلب وعمل الجوارح, واعتبرت هذا كله إيمانًا, وقصرت الإيمان عليه بأداة القصر والحصر {إِنَّمَا" وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة, عندما ضمنتها بعبارة {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله.
_________
(1) انظر: في ظلال الإيمان للخالدي, ص 23.(1/188)
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15] , فسجود المؤمنين عندما يذكَّرون بآيات الله, عبادة عملية بدنية, وتسبيحهم بحمد ربهم عبادة عملية لسانية, وعدم استكبارهم عبادة عملية سلوكية أخلاقية قلبية .. وهذه كلها أعمال مندرجة في حقيقة الإيمان.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277] , فمن حقيقة الإيمان في الآية عمل الصالحات على عمومها, وخصصت اثنتين منها بالذكر وهما الصلاة والزكاة, واعتبرت أداءهما عمليًا من الإيمان.
إن آيات القرآن التي قرنت بين الإيمان وعمل الصالحات واعتبرت الأمرين من حقيقة الإيمان ومن صفات المؤمنين كثيرة, منها قوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60].
وفي قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]. وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30].
هذا وقد أطلق القرآن لفظ (الإيمان) على العمل في بعض الآيات ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143] , والإيمان هنا يراد به الصلاة, وقد ذهب جمهور المفسرين إلى هذا, بل إن الصحابة فهموا هذا وتضافرت الروايات عنهم في سبب نزول الآية.(1/189)
روى إمام المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة, قال: (كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص, صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نهي نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وصلى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد قدومه المدينة مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرًا ..
ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام .. فقال في ذلك قائلون من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, لقد اشتاق الرجل إلى مولده, قال الله عز وجل: {قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] , فقال أناس -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] , ثم أورد الإمام الطبري إحدى عشرة رواية عن الصحابة والتابعين في أن المراد بالإيمان في الآية الصلاة, وأنها نزلت جوابًا على تساؤل لبعض الصحابة عن مصير الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس, وتساؤل آخرين منهم عن مصير صلاة إخوانهم إلى بيت المقدس الذين ماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة (1).
فمعنى قوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" على ما تضافرت به الرواية من أنه الصلاة, وما كان الله ليضيع تصديق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره, لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي, واتباعًا لأمري, وطاعة منكم لي) (2).
وقد التفت الإمام الطبري إلى الربط بين الإيمان والصلاة, ولاحظ وجود التصديق في ممارسة الصلاة والتوجه فيها إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة المشرفة, وهذه اللفتة من الطبري لطيفة, وهذا الربط منه رائع, يشير إلى موهبته الفذة في التفسير واللغة وغيرهما (3).
ومن الآيات التي أطلقت كلمة الإيمان على الأعمال قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (3/ 167 - 169).
(2) المصدر نفسه (3/ 169).
(3) في ظلال الإيمان, د. الخالدي, ص26.(1/190)
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9].
ذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد بالإيمان هنا الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا .. وقد أورد الإمام الطبري أقوال مجموعة من التابعين في هذا المعنى, منها قول ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم قال: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة, يعارض صاحبه ويبشره بكل خير, فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة, فذلك قوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة, فيلازم صاحبه ويلازمه حتى يقذفه في النار) (1). وهناك آيات أخرى أطلقت على الإيمان عبارات أخرى تشير إلى العمل وتتضمنه, أورد الإمام البخاري في صحيحه بعضها.
منها قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77].
قال البخاري: (دعاؤكم: إيمانكم ... ومعنى الدعاء في اللغة: (الإيمان).
وجعل ابن عباس رضي الله عنهما الدعاء بمعنى الإيمان قال: (لولا دعاؤكم: إيمانكم) (2).
ومن هذه الآيات قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
فالآية اعتبرت هذه الخصال تصديقًا وإيمانًا, وجعلت أعمال البر هذه من الإيمان. ووجه الدلالة من
_________
(1) تفسير الطبري (15/ 28).
(2) صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب دعاؤكم إيمانكم (1/ 9).(1/191)
الآية ما فسره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث روى عبد الرزاق (1) وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإيمان فتلا عليه هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ..... " إلى آخرها .. والحديث رجاله ثقات (2).
ومن فقه الإمام البخاري وفطنته -وهو البصير في الحديث والتفسير- أنه جعل هذه الآية وما فيها من خصال البر من أمور الإيمان, وضمن باب أسماه «باب أمور الإيمان» وقرنها مع الآيات الأولى من سورة «المؤمنون» التي تتحدث عن صفات المؤمنين, ومع الحديث الذي يقرر أن الإيمان بضع وستون شعبة (3).
ومن هذه الآيات: ثلاث آيات أوردها الإمام البخاري في صحيحه ضمن باب: «من قال إن الإيمان هو العمل» وهي قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] قال ابن حجر في الفتح: «وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا {تَعْمَلُونَ" معناه: تؤمنون» (4) والثانية قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93،92].
قال البخاري عن: «لا إله إلا الله» قال ابن حجر في الشرح: يدخل فيها المسلم والكافر, فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف, بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف .. فالسؤال عن التوحيد متفق عليه, فهذا هو دليل التخصيص, وحمل الآية عليه أولى, بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف (5).
من هذه الآيات التي أوردناها يتبين لنا أن الإيمان في القرآن شامل للاعتقاد وللنطق وللعمل, ولابد من القول بهذا اتباعًا للقرآن الكريم, الذي يجب أن
_________
(1) هو الإمام العلامة الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني, صاحب المصنف, رحل الأئمة إليه, من اليمن, وله أوهام مغمورة في سعة علمه, توفي 211هـ, العبر (1/ 283).
(2) فتح الباري, كتاب الإيمان, باب أمور الإيمان (1/ 74).
(3) المصدر نفسه (1/ 74).
(4) فتح الباري, كتاب الإيمان, باب: من قال إن الإيمان هو العمل (1/ 109).
(5) المصدر نفسه (1/ 110).(1/192)
تؤخذ منه الأقوال والآراء, وأن يعتمد عليه في الاستدلال والاستنباط, وأن يدخله المتأمل والباحث دون مقررات مسبقة .. فما قرره القرآن قبل, وما عرضه أخذ به, وما قال به لزم المؤمنين القول به .. وإليك أخي القارئ طائفة من أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي اعتبرت الإيمان شاملاً للقول والعمل والاعتقاد: روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الإيمان بضع وستون شعبة .. والحياء شعبة من الإيمان» (1).
وفي رواية للإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة, أفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .. والحياء شعبة من الإيمان .. » (2) والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فالشهادة قول وإماطة الأذى عن الطريق عمل, والحياء خلق وسلوك, وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته, ومعظم شعب الإيمان هي أعمال (3).
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (4).
وروى البخاري عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (5).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» , قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» , قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (6).
_________
(1) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: أمور الإيمان (1/ 10) رقم 9.
(2) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: بيان عدد شعب الإيمان (1/ 63) رقم 57.
(3) في ظلال الإيمان, ص 30.
(4) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: من الإيمان أن يحب لأخيه (1/ 11) رقم 13.
(5) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: حب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الإيمان (1/ 11) رقم 14.
(6) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ" (1/ 14) رقم 26.(1/193)
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر وفد عبد القيس عندما قدموا عليه بالإيمان بالله وحده. قال: «هل تدرون ما الإيمان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وأن تؤدوا خمسًا من المغنم» (1).
هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تجعلها شاملة للاعتقاد والعمل, وأما أقوال السلف فقد تواترت في بيان حقيقة الإيمان.
قال شارح الطحاوية: «ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي (2) وإسحاق (3) بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان» (4).
وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري (5): «الإيمان: قول وعمل ونية وسنة .. لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر, وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق. وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة» (6).
وقال الإمام عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري (7) ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر والأوزاعي, ومعمر بن راشد (8) وسفيان بن عيينة (9) يقولون: الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص.
_________
(1) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: أداء الخمس من الإيمان (1/ 23) رقم 53.
(2) هو الإمام العابد الحجة الثقة عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي الفقيه, روى عن خلق كثير من التابعين, وكان رأسًا في العلم والعمل والاتباع, بارعًا في الكتابة, كان يكثر من الصلاة والعبادة وقيام الليل, توفي في بيروت عام 158هـ, تهذيب التهذيب (6/ 238) , شذرات الذهب (1/ 341).
(3) هو إمام المشرق إسحاق بن إبراهيم المروزي ثم النيسابوري الحافظ ابن راهويه, عالم خراسان والعراق في عصره, توفي سنة 238هـ, حلية الأولياء 9/ 234.
(4) انظر: الطحاوية, ص 373.
(5) من الزهاد الكبار والعباد المشهورين اشتهر بالتصوف السني وبالحكم الجميلة.
(6) الإيمان لابن تيمية: 163.
(7) هو سفيان بن مسروق شيخ الإسلام من أهل الحديث, توفي 161هـ, سير أعلام النبلاء (7/ 229).
(8) هو معمر بن راشد أبو عمر البصري من تلاميذ عبد الرزاق الصنعاني ت 153هـ, ميزان الاعتدال 4/ 154.
(9) هو محمد أبو محمد بن عيينة بن أبي عمران الهلالي, توفي 198هـ, تهذيب التهذيب (4/ 117).(1/194)
وهذا قول ابن مسعود وحذيفة (1) والنخعي (2) والحسن البصري (3) وعطاء (4) وطاوس (5) ومجاهد وعبد الله بن المبارك (6) .. فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح (7).
فهؤلاء مصابيح الهدى وأئمة الدين وعلماء الأمة من أهل الحجاز والعراق والشام وخراسان يرون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان.
وقال الإمام البخاري في كتاب الإيمان في صحيحه «هو قول وفعل يزيد وينقص والحب في الله والبغض في الله من الإيمان, وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا, فمن استكملها استكمل الإيمان, ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان, فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها, وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص (8).
وبهذا يتبين لنا أن مفهوم الإيمان وحقيقته في القرآن والسنة, وفي مفهوم السلف, تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان, قال سيد قطب رحمه الله في ظلاله: «إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله, وتوجه النشاط الإنساني كله, فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله, لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله, وهي طاعة لله واستسلام لأمره في
_________
(1) حذيفة بن اليمان صحابي جليل صاحب سر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(2) هو إبراهيم بن يزيد النخعي, توفي 96هـ, تهذيب التهذيب (1/ 177).
(3) من سادات التابعين اشتهر بالعلم والعبادة والزهد, توفي 110هـ بالبصرة.
(4) هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل الحجاز, أفضل أهل زمانه, توفي 114هـ, العبر (1/ 108).
(5) طاوس بن كيسان اليماني أبو عبد الرحمن أحد الأعلام علمًا وأدبًا (ت106هـ) , العبر (1/ 99).
(6) كان من المجاهدين العاملين جمعت فيه خصال الخير توفي 181هـ, وفيات الأعيان (3/ 32).
(7) مسلم مع شرح النووي, كتاب الإيمان (1/ 146 - 147).
(8) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس» (1/ 9).(1/195)
الصغيرة والكبيرة, لا يبقى معها هوى في النفس, ولا شهوة في القلب, ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله, بخواطر نفسه, وخلجات قلبه وأشواق روحه, وميول فطرته, وحركات جسمه, ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله, ومع الناس جميعًا .. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن» (1).
لقد تقرر أن الإيمان عند علماء السلف قول باللسان واعتقاد بالجنان وفعل بالأركان.
والقول باللسان هو النطق بشهادة الحق وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومعناها: لا معبود بحق إلا الله, وبذلك تنفي الإلهية عما سوى الله وتثبتها لله وحده (2).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله, والتقرب إليه بما يحبه, ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه, وهذا حقيقة «لا إله إلا الله» , وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين) (3) , أما شقها الثاني: محمد رسول الله, فمعناه تجريد متابعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
ومن هنا كانت «لا إله إلا الله» ولاء وبراء, نفيًا وإثباتًا.
ولاء لله ولدينه وكتابه وسُنَّة نبيه وعباده الصالحين, وبراء من كل طاغوت
_________
(1) ظلال القرآن (4/ 2528).
(2) انظر: فتح المجيد, ص36.
(3) مجموع فتاوى الإسلام (28/ 32).(1/196)
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256].
وبهذه الآية يتضح أن الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا بالكفر بالطاغوت.
وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله, قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
وبراء من حكم الجاهلية: قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ويراء من كل دين غير دين الإسلام: قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
ثم هي نفي وإثبات, تنفي أربعة أمور (1) وتثبت أربعة أمور.
تنفي الآلهة, والطواغيت, والأنداد, والأرباب.
فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر, فأنت متخذه إلهًا.
والطواغيت: من عُبد وهو راضٍ, أو رُشح للعبادة.
والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام, من أهل, أو مسكن, أو عشيرة, أو مال فهو ند لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165].
والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته مصداقًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ .... } [التوبة:31].
وتثبت أربعة أمور:
1 - القصد: وهو كونك ما تقصد إلا الله.
_________
(1) انظر: الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني, ص 25.(1/197)
2 - والتعظيم والمحبة: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165].
3 - والخوف والرجاء لقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُّرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى لا إله إلا الله, ينفي الشرك وتوابعه ويقرر الإخلاص وشرائعه, فكل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلولات كلمة الإخلاص, لأن دلالتها على الدين كله إما مطابقة (1) , وإما تضمنًا (2) , وإما التزامًا (3) , يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى.
4 - والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي, وإخلاص العبادة لله, واتباع أمره على ما شرعه, كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أن تعمل بطاعة الله, على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله, على نور من الله, تخاف
عقاب الله» (4).
لقد تم لأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معرفة هذه الكلمة والتزام أحكامها والعمل بمقتضاها ولوازمها.
قال سفيان بن عيينة عندما سأله رجل عن الإيمان فقال: قول وعمل, قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله, وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه, وأشار سفيان بيده, قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون: أن الإيمان قول لا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده, إن الله عز وجل بعث نبينا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس كلهم كافة أن
_________
(1) دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على معناه.
(2) دلالة التضمين: هي دلالة اللفظ على جزء من معناه.
(3) دلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على معنى خارج عنه لكنه لازم له.
(4) انظر: المورد العذب الزلال. مجموعة الرسائل النجدية (4/ 99).(1/198)
يقولوا: لا إله إلا الله, وأنه رسول الله.
فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالصلاة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم, أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم, حتى يقولوا كقولهم, ويصلوا صلاتهم, ويهاجروا هجرتهم, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم, ولا قتالهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدًا, وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول, ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتلهم آباءهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها, فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتالهم آباءهم ولا طوافهم, فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3].
قال سفيان الثوري: فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافرًا ومن تركها كسلاً أو تهاونًا بها, أدبناه وكان بها عندنا ناقصًا, هكذا السُّنة أبلغها عني من سألك
من الناس (1).
وقد ذكر العلماء رحمهم الله شروطًا سبعة لـ «لا إله إلا الله» لا تنفع صاحبها إلا باجتماع هذه الشروط. وإليك شرحها:
_________
(1) كتاب الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري, ص104.(1/199)
شروط كلمة التوحيد:
لابد أن تعلم أنه: (ليس المراد من هذا عدَّ ألفاظها وحفظها, فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها, ولو قيل له أعدها لم يحسن ذلك, وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم, وتراه يقع كثيرًا فيما يناقضها والتوفيق بيد الله, والله المستعان) (1).
وقد قال وهب بن منبه (2) لمن سأله: (أليس «لا إله إلا الله» مفتاح الجنة؟ قال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان, فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك, وإلا لم يفتح لك) (3).
وأسنان هذا المفتاح هي شروط «لا إله إلا الله» الآتية:
الشرط الأول: العلم بمعناها المراد منها نفيًا وإثباتًا, المنافي للجهل بذلك:
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} [محمد:19]. وقال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] أي بـ «لا إله إلا الله» , «وهم يعلمون» بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» (4).
الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك:
ومعنى ذلك: أن يكون قائلها مستيقنًا
_________
(1) معارج القبول للشيخ الحافظ الحكمي (1/ 418).
(2) وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر, توفي 110هـ, انظر: تهذيب التهذيب (1/ 167).
(3) رواه البخاري, كتاب الجنائز, باب: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله (2/ 87).
(4) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: الدليل من مات على التوحيد (1/ 55) رقم 43.(1/200)
بمدلولات هذه الكلمة, يقينًا جازمًا, فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن (1).
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» (2).
الشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه:
وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها, وانتقامه
ممن ردها وأباها.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 23 - 25].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (3).
_________
(1) معارج القبول (2/ 419).
(2) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: الدليل من مات على التوحيد (1/ 57،56) رقم 27.
(3) رواه البخاري, كتاب العلم, باب: فضل من عَلِم وعلم (1/ 32) رقم 79.(1/201)
الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه, المنافي لترك ذلك:
قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ... } [الزمر:54].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].
وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى"
[لقمان:22].
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
قال ابن كثير في تفسيرها: (يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكّم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا, ولهذا قال: {ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به, وينقادون لك في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة, ولا منازعة, كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (1)) (2).
الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب:
وهو أن يقولها صدقًا من قلبه, يواطئ قلبه لسانه, قال تعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
_________
(1) الحديث مروي في الأربعين النووية ص 134, قال فيه النووي: وهو حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
(2) تفسير ابن كثير (1/ 533).(1/202)
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ - يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ - فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 - 10].
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» (1).
قال العلامة ابن القيم: «والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة, بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه .. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله, ومعلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها, وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها» (2).
وقال ابن رجب: (أما من قال: لا إله إلا الله بلسانه, ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله, ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى, قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [ص:26]) (3).
الشرط السادس: الإخلاص:
وهو تصفية بصالح النية عن جميع شوائب الشرك (4).
قال تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
_________
(1) رواه البخاري, كتاب العلم, باب: من خص بالعلم قومًا (1/ 47) رقم 128.
(2) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم, ص43.
(3) كلمة الإخلاص لابن رجب, ص28.
(4) معارج القبول (2/ 423).(1/203)
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
وفي «الصحيح» عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» , «أو نفسه» (1).
وقال الفضيل بن عياض (2) -رحمه الله-: «إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل, وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل, حتى يكون خالصًا صوابًا, والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون على السنة» (3).
الشرط السابع: المحبة لهذه الكلمة, ولما اقتضته ودلت عليه, ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها, وبغض ما ناقض ذلك:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة:165]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54].
وفي الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (4).
وقال الشيخ حافظ الحكمي (5) رحمه الله: (وعلامة حب العبد ربه:
_________
(1) صحيح البخاري, كتاب العلم, باب الحرص على الحديث (3/ 38) رقم 99.
(2) هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود الطالقاني الأصل, الزاهد العابد الثقة الإمام المشهور, كان أول أمره من قطاع الطرق, ثم تنسك وسمع الحديث بالكوفة, مات سنة 187 هـ, حلية الأولياء 8/ 84, سير أعلام النبلاء (8/ 421).
(3) مجموع الفتاوى (3/ 124).
(4) صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب: حلاوة الإيمان (1/ 11) رقم 16.
(5) هو الشيخ العلامة حافظ أحمد الحكمي, عالم سلفي من منطقة تهامة, ولد سنة 1342هـ, بقرية السلام بالقرب من جيزان, كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم, تتلمذ على يد الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي توفي سنة 1377هـ, وعمره 35, انظر ترجمته في مقدمة معارج القبول بقلم ابنه.(1/204)
تقديم محابه وإن خالفت هواه, وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه, وموالاة من والى الله ورسوله, ومعاداة من عاداه, واتباع رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , واقتفاء أثره, وقبول هداه) (1).
ويقول ابن القيم في «النونية»:
شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا عصيان
فإذا ادعيت له المحبة من خلا ... فك ما يحب فأنت ذو بهتان
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبًا له ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهدًا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان؟
ليس العبادة غير توحيد المحبة ... مع خضوع القلب والأركان (2)
وبعد أن بينت حقيقة الإيمان وشروطه التي يتحقق بها التمكين لدين الله والنصرة على الأعداء يتضح لنا: أن الفرد بغير الإيمان الحقيقي بالله, ريشة في مهب الريح, لا تستقر على حال, ولا تسكن إلى قرار, والإنسان بغير الدين الإسلامي يتحول إلى حيوان شره, أو وحش مفترس, لا تستطيع الثقافة الوضعية ولا القانون الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الافتراس.
والمجتمع بغير دين صحيح, وإيمان قوي, مجتمع متوحش مظلم متألم, وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتلأ بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي, فهو مجتمع البقاء فيه للأقوى, لا للأفضل والأتقى, مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في وجوه أصحابه, وإن زينوا وجوههم بأنواع الأصباغ والمحسنات, وركبوا الطائرات, وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات, فهو مجتمع تافه رخيص هزيل, لأن غايات أهله غايات ساذجة, سطحية هزيلة لا تتجاوز
_________
(1) معارج القبول (2/ 424).
(2) النونية, ص158.(1/205)
شهوات البطون والفروج, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12].
بخلاف مجتمع الإيمان والإسلام المبني على الحب في الله والرضا بكل ما صدر عن الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق, وصاحب الأمر والنهي المطلق في الوجود كله, وهذا أمر طبيعي, في أن يحب الإنسان ربه, وخالقه ورازقه, لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها, وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر, وجعل الإنسان في أحسن تقويم, ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
لهذا كله ولأكثر منه, أحب المؤمنون ربهم حبًا لا يقاس بغيره مما هو دونه, فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله, بلا تردد أو منة, بل اعتبروا ذلك تفضلاً من الله عليهم, أن فتح لهم باب الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه, فقاموا بذلك الواجب خير قيام (1).
إن الإيمان الحقيقي بالله, هو الذي ينبعث منه الحب في الله الذي يحرك إرادة القلب, ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات, وكلما ازداد الإيمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في الله لديه قوة وصلابة, وتحول المر حلوًا, والكدر صفاء, والألم شفاء, والنصرة جهادًا, والابتلاء رحمة, والإحجام عن نصرة أهل الحق خيانة, وتراجعًا عن الإسلام.
فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثرًا حيث إنه الضمان الوحيد لترابط المجتمع واحترام حقوقه (2) , ولذلك ورد في الحديث الشريف: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا, أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (3).
_________
(1) انظر: كتاب الإيمان وأثره في الحياة, د. القرضاوي, ص5 - 12.
(2) انظر: الموالاة والمعاداة للجلعود (1/ 245).
(3) رواه مسلم, كتاب الإيمان, بيان لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (1/ 74) رقم 93.(1/206)
فحقيقة المحبة في الله لا تتم إلا بموافقة الباري جل وعلا في حب ما يحب
وبغض ما يبغض (1).
ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم إيمانًا من كان أقربهم إلى الله في محبته, وأقواهم في طاعته, وأتمهم عبودية له (2).
وهذه الصفات تستلزم محبة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحبة ما جاء به من عند الله, ومحبة المؤمنين بهذا الدين, وإيثارهم على النفس بالمال والنصرة والتأييد والانضمام في حزبهم حيث إنهم حزب الله من انضم إلى حزب الله فقد أفلح في دنياه وأخراه.
إن الإيمان بالله, والحب في الله, وما يترتب عليهما قواعد متلازمة ينبني بعضها على البعض الآخر, ويتأثر اللاحق منها بالسابق, فإذا قوي الإيمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في الله, وازدادت الأفعال المترتبة على ذلك, حتى تصبح الجماعة المسلمة, كخلايا الدم في الجسم تعمل لغرض واحد, وهدف واحد, وفي إطار واحد, عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق نفسها, وفي حق البشرية جمعاء (3).
ولذلك جعل الله تعالى رابطة الدين والإيمان فوق كل الروابط الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدم, ورابطة اللون أو اللغة, أو رابطة الوطن أو الإقليم أو رابطة الحرفة, أو الطبقة, أو غير ذلك من الروابط الجاهلية التي تختلف اختلافًا جذريًا مع أصول
الإسلام ومنطلقاته في الموالاة والمعاداة والحب والبغض, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
_________
(1) انظر: مجموعة التوحيد, ص 422 - 423.
(2) انظر: مجموعة التوحيد, ص 422، 423.
(3) انظر: الموالاة والمعاداة (1/ 246).(1/207)
فالمقياس لتفاوت الأفراد في الإسلام هو التقوى والعمل الصالح, وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه, ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل الصالح (1).
إن الإيمان الحقيقي يجعل من أتباعه أخوة متحابين يعملون على رضا مولاهم العظيم, قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
إن الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد لها آثار في حياة الإنسان, وتلك الآثار لها أثر في التمكين, فمن أهم هذه الآثار:
1 - ما تنشئه في النفس من الأنفة وعزة النفس بحيث لا يقوم دونه شيء لأنه لا نافع إلا الله, وهو المحيي والمميت, وهو صاحب الحكم والسلطة والسيادة. ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إلا منه سبحانه, فلا يطاطئ الرأس أمام أحد من الخلق, ولا يتضرع إليه, ولا يتكفف له, ولا يرتع من كبريائه وعظمته, لأن الله هو العظيم القادر, وهذا بخلاف المشرك والكافر.
2 - ينشأ من الإيمان بهذه الكلمة من أنفة النفس وعزتها: تواضع من غير ذل, وترفع من غير كبر, فلا يكاد ينفخ أوداجه شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته لأنه يعلم ويستيقن أن الله الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء, أما الملحد فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة.
3 - المؤمن بهذه الكلمة: يعلم علم اليقين أنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتزكية النفس والعمل الصالح.
4 - من آثار الإيمان الصحيح عدم تسرب اليأس, والبعد عن القنوط, لأنه
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 246).(1/208)
يؤمن أن الملك والخزائن لله رب العالمين, لذلك فهو على طمأنينة وسكينة, وأمل, حتى ولو طرد العبد أو أهين وضاقت عليه سبل العيش.
5 - من آثار كلمة الإيمان والتوحيد في نفس العبد إعطاء قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل والتطلع إلى معالي الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى, مع شعوره أن وراءه قوة مالك السماء والأرض, فيكون ثباته ورسوخه وصلابته التي يستمدها من هذا التصور, كالجبال الراسية, وأنى للكفر والشرك بمثل هذه القوة والثبات؟.
6 - من آثار الإيمان الحقيقي تشجيع الإنسان وامتلاء قلبه جرأة؛ لأن الذي يجبن الإنسان ويوهن عزمه شيئان: حبه للنفس والمال والأهل, أو اعتقاده أن هناك أحدًا غير الله يميت الإنسان, فإيمان المرء بلا إله إلا الله يرفع عن قبله كلاً من هذين السببين, فيجعله موقنًا بأن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله, فعندئذ يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده. وينزع الثاني بأن يلقي في روعه أنه لا يقدر على سلب الحياة منه إنسان ولا حيوان ولا قنبلة ولا مدفع, ولا سيف ولا حجر, وإنما يقدر ذلك الله وحده. من أجل ذلك لا يكون في الدنيا أشجع ولا أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى, فلا يكاد يخيفه أو يثبت في وجهه زحف الجيوش, ولا السيوف المسلولة, ولا مطر الرصاص والقنابل.
7 - ومن ثمار الإيمان الصحيح, التحلي بالأخلاق الرفيعة والتطهر من الأخلاق الوضيعة.
8 - ومن ثمار الإيمان على العبد تجعله حريصًا على التمسك بشرع الله تعالى ومحافظًا عليه.
9 - ومن ثمار الإيمان تربية العبد على أن يكون جنديًا من جنود الدعوة التي تسعى لتحكيم شرع الله وتمكين دينه سبحانه وتعالى.(1/209)
إن من شروط التمكين لدين الله تعالى في الأرض تحقيق الإيمان الذي يريده الله وبيَّنه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتجسد في حياة أصحابه.
إن الإيمان المطلوب هو الذي يبعثنا على الحركة والهمة, والنشاط والسعي, والجهد والمجاهدة, والجهاد والتربية, والاستعلاء والعزة, والثبات واليقين (1).
يقول الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى مفرقًا بين إيمان خامل وإيمان عامل, إيمان المسلم القاعد وإيمان المسلم الداعية تحت عنوان «إيماننا»:
«والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ, أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم, لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه .. على أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين, ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين: أن نؤمن بالفكرة إيمانًا يخيل للناس حيث نتحدث إليهم عنها أنها ستحملنا على نسف الجبل وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا, حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفض نظام الجمع, نسي كل إيمانه وغفل عن فكرته, فهو لا يفكر في العمل لها, ولا يحدث نفسه بأن يجاهد أضعف الجهاد في سبيلها, بل قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا النسيان, حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر .. أو لست تضحك عجبًا حين ترى رجلا ً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار: ملحدًا من الملحدين, وعابدًا مع العابدين» (2).
إن الإيمان الذي جاء به القرآن الكريم وبينه سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والتسليم ليس إيمانًا مجردًا حبيس دائرة الذهن والتصور؛ بل هو تصديق يتبعه عمل, وإقرار يتبعه التزام, واعتقاد يتبعه خضوع.
_________
(1) انظر: في ظلال الإيمان, ص 63.
(2) رسائل حسن البنا, ص16.(1/210)
فحقيقة الإيمان في القرآن الكريم تدفع العبد المؤمن إلى جهاد ودعوة, والتزام وحركة, وتواصٍ بالحق وثبات عليه, وتواصٍ بالصبر وحث عليه (1).
يقول سيد قطب رحمه الله: (والعمل الصالح هو الثمرة الطيبة للإيمان, والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب, فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة, ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح .. هذا هو الإيمان الإسلامي .. لا يمكن أن يظل خامدًا لا يتحرك, كامنًا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن.
فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت, شأنه شأن الزهرة لا تُمسك أريجها, فهو ينبعث منها انبعاثًا طبيعيًا, وإلا فهو غير موجود.
ومن هنا قيمة الإيمان .. إنه حركة وعمل وبناء وتعمير .. يتجه إلى الله .. إنه ليس انكماشًا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير .. وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة, وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة كبرى في صميم الحياة (2).
إن الإيمان قوة دافعة وطاقة مجمعة, فما كادت حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل, ولتحقق ذاتها في الواقع, ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة, كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها, وتدفعها في الطريق.
«ذلك سر قوة العقيدة في النفس, وسر قوة النفس بالعقيدة, سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض, وما تزال في كل يوم تصنعها الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم, وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى, وتقف
_________
(1) انظر: في ظلال الإيمان, ص 64.
(2) في ظلال القرآن (6/ 3967،3966).(1/211)
بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار, فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد المؤمن, وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعًا, ولكنها القوى الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح, والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضعف» (1).
«تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة, ولا تعتمد على التهويل والرؤى, إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة, إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخصبة, وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة, وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة, بقوة اليقين في النصر, وقوة الثقة في الله, وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء, وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه, وتجمع القوى والطاقات حول محور واحد, وتوجيهها في اتجاه واحد, تمضي إليه مستنيرة الهدف, في قوة وفي ثقة وفي يقين».
ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهرة وخافية, وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة تتجه اتجاهًا إيمانيًا, فيلتقي المؤمن في طريقه, وينضم إلى زحفها الهائل لتغليب الحق على الباطل مهما يكن للباطل من قوة ظاهرة لها في العيون بريق» (2).
وبهذا لعلي أكون قد أوضحت حقيقة الإيمان التي نسعى لإيجادها في أفراد الأمة والجماعة المسلمة لنقطع خطوة نحو التمكين المنشود.
* * *
_________
(1) انظر: في ظلال القرآن (6/ 3353).
(2) المصدر نفسه (6/ 3353).(1/212)
المبحث الثاني
تحقيق العبادة
أولاً: معنى العبادة في اللغة والشرع:
أ- في اللغة: العبادة والعبدية والعبودية: الطاعة (1).
وفي لسان العرب: أصل العبودية: الخضوع والتذلل.
والتعبد: التنسك, والعبادة: الطاعة.
والتعبد: التذلل, والتعبيد: التذليل.
بعير معبد: مذلل, وطريق معبد: مسلوك مذلل (2).
ويرى أبو الأعلى المودوي في معنى العبادة استنادًا إلى الاستعمال اللغوي لمادة (ع ب د) أن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي, والخضوع الكامل والطاعة المطلقة (3).
ب- العبادة في الشرع: خضوع وحب (4) , والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله, ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له (5).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: (والإله هو المعبود الذي يستحق غاية الحب والعبودية والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ..... ) (6).
وينص ابن القيم -رحمه الله-: على أن (العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع) (7). ودعائم هذه العبادة التي تنتظم أعمال الإنسان كلها
_________
(1) القاموس المحيط كتاب (الدال) , فصل (العين) 378.
(2) لسان العرب, كتاب الدال, فصل العين المهملة 3/ 271.
(3) المصطلحات الأربعة في القرآن للمودودي, ص97.
(4) العبادة في الإسلام للقرضاوي, ص 31.
(5) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 207).
(6) المصدر نفسه (28/ 35).
(7) مدارج السالكين (1/ 74).(1/213)
القلبية, والعملية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء, وقد جعل ابن القيم هذه الثلاث في قلب المؤمن: (بمنزلة الطائر, فالمحبة رأسه, والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران, ومتى قطع الرأس مات الطائر, ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر) (1) , وبهذا يتضح مفهوم العبادة في الشرع.
ثانيًا: حقيقة العبادة:
إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة لله في دنيا الناس وعلى الجماعة المسلمة أن تفهم حقيقة العبادة في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وأن تعمل على نشر المفهوم الصحيح لمعنى العبادة في شرايين الأمة حتى تخرج من الأوهام والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة, صرفت عقولهم وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله الإنسان من أجلها, وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من حوله, ليقوم بها وفق أمر خالقه, وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواه ووعد ووعيد, نجد كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية الإنسان له.
فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له, وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه, وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار, وقبيل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري -جل وعلا- من كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكيمًا عليمًا, خلق كل شيء فقدره تقديرًا, ولم يخلق شيئًا عبثًا ولم يوجد شيئًا لغير حكمة, وإذا كان القرآن المجيد, وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة, ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية وحسب, أو أنها الشعائر التعبدية فقط,
_________
(1) مدارج السالكين (1/ 517).(1/214)
أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض, أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض.
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان, وجعلها غايته في الحياة, ومهمته في الأرض, دائرة رحبة واسعة, إنها تشمل شئون الإنسان كلها, وتستوعب حياته جميعًا, وتستغرق كل مناشطه وأعماله (1) , وبهذا المعنى الشامل, فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فردًا كان أو جماعة, وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة وحدد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حين قال: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة, فالصلاة والزكاة والصيام والحج, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, وبر الوالدين, وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والوفاء بالعهود, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد للكفار والمنافقين, والإحسان إلى الجار واليتامى والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم, والدعاء والذكر والقراءة, وأمثال ذلك من العبادة, وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له, والصبر لحكمه, والشكر لنعمه, والرضا بقضائه, والتوكل عليه, والرجاء لرحمته, والخوف لعذابه, وأمثال ذلك هي من العبادة لله .. ) (2).
وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله, سواء كان ذلك في العبادات المحضة, أو في المعاملات المشروعة, أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها.
أما في العبادات والمعاملات المشروعة فإنها مما يحبه الله ويرضاه, وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء وهي: (الواجب, والمحرم, والمستحب, والمكروه, والمباح) أما في العادات فالذي لم يحدد منها
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي ص53.
(2) مجموع الفتاوى (10/ 150).(1/215)
بأوامر الشرع, ولم يتقيد بأحكامه على وجه الخصوص, فإنه لا يخرج عن كونه داخلاً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه, وباعتبار أن (العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله, أو فيما يكرهه, فلهذا أيضًا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة) (1).
وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها, وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها, وذلك مبني على (أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه, وعادات يحتاجون إليها في دنياهم, فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله, أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع, وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه, والأصل فيه عدم الحظر, فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى, وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله, والعبادة لابد أن يكون مأمورًا بها, فما لم يثبت أنه مأمور به, كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!.
وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه, كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو, فلا يحظر منها إلا ما حرم) (2).
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئًا من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله, ولكن ذلك يختلف في درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة, وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة, لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة, أو المندوبة أو تكميلاً لشيء منهما) (3).
_________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 399).
(2) مجموع الفتاوى (29/ 116 - 117).
(3) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي (1/ 19).(1/216)
وقال النووي في شرحه لحديث «في بضع أحدكم صدقة» (1): (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة) (2).
ومن ذلك يتضح: (أن الدين كله داخل في العبادة, والدين منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها, وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة, وسياسة الحكم, وسياسة المال, وشئون المعاملات والعقوبات, وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة, وصوم, وزكاة, لها أهميتها ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها؛ بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان, أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية, يفعل ذلك طاعة لله واستسلامًا لأمره .. ) (3).
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة, من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم: فأما من القرآن الكريم فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] , {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163،162] , {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة:5].
ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي, وفي هذا الأخير دليل وتشبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك:
_________
(1) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1/ 697).
(2) شرح النووي مع مسلم, كتاب الزكاة, باب كل نوع من المعروف صدقة (7/ 97).
(3) مقاصد المكلفين, د. عمر الأشقر ص46 - 47.(1/217)
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة, وهو يحتسبها كانت له صدقة» (1).
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم» (2).
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دينار أنفقته في سبيل الله, ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على المسكين, ودينار أنفقته على أهلك, أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» (3).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل سُلامي من الناس عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها, أو ترفع له متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة, ودل الطريق صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (4).
وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم ففيما روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة (5) في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن, وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: «أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي, فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» (6). وفي كلام معاذ رضي الله عنه, دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.
وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شئون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله تعالى ملتزمًا بالشروط الآتية:
1 - أن يكون العمل مشروعًا في نظر الإسلام, أما الأعمال التي ينكرها
_________
(1) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: ما جاء أن الأعمال بالنيات (1/ 24) رقم 55.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/ 22).
(3) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب: النفقة على العيال والمملوك (1/ 191).
(4) رواه البخاري, كتاب الصلح, باب: فضل الإصلاح بين الناس (3/ 227) رقم 2707.
(5) هو التابعي الثقة أبو بردة حارث, وقيل عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري, ثقة كثير الحديث, تولى قضاء الكوفة للحجاج, ثم عزله, ت107هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 343).
(6) البخاري, كتاب المغازي, باب: بعثة أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (5/ 156) رقم 43،42.(1/218)
الدين
فلا تكون عبادة بأي حال من الأحوال, قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « .. إن الله تعالى طيب لا يقبل
إلا طيبًا .. » (1).
2 - أن تصحبه النية الصالحة, فينوي المسلم إعفاف نفسه, وإغناء أسرته, ونفع أمته, وعمارة الأرض كما أمره الله رب العالمين.
3 - أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان, قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله كتب الإحسان على
كل شيء .. » (2).
4 - أن يلتزم في عمله حدود الله تعالى, فلا يظلم, ولا يخون, ولا يغش, ولا يجور.
5 - ألا يشغله عمله لمعاشه عن واجباته الدينية (3). قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم في تصور مفهوم معنى العبادة .. وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة, والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة, لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم, وكيف هبطت من مقام الريادة, والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسةَ الذئابُ (4).
إن من شروط التمكين أن يكون مفهوم العبادة في حس الجيل, إن عبادة الله
_________
(1) مسلم, كتاب الزكاة, باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب (2/ 703).
(2) مسلم شرح النووي, كتاب العبد, باب: الأمر بإحسان الذبح (مجلد5) ج13, ص106.
(3) انظر: العبادة في الإسلام, د. القرضاوي, ص 63،62.
(4) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب, ص 173.(1/219)
هي غاية الوجود الإنساني كله, ما نفهم من قول الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
لقد كان الجيل الأول لهذه الأمة يفهم الحياة كلها على أنها عبادة تشمل الصلاة والنسك, وتشمل العمل كله, وتشمل لحظة الترويح كذلك, فلا شيء في حياة الإنسان كلها خارج من دائرة العبادة, وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة, كلها عبادة وإن اختلفت أنواعها ومجالاتها (1).
وبهذا الفهم العميق لمفهوم العبادة حققت تلك الأمة في سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه, فحين كانت تمارس الأمة إيمانها الحق, وعبادتها الحقة, وكانت الأخلاق في حسها جزءًا من العبادة المفروضة على المسلم, حدثت إنجازات هائلة لم تتكرر في التاريخ, ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح الإسلامي من الهند شرقًا إلى المحيط غربًا, وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله, ولم يكن الكسب هو الأرض
التي فتحت, وإنما كان الكسب الأعظم هو القلوب التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله أفواجًا (2).
وما كانت تلك الأمة لتقدر على دك حصون الشرك, واقتلاعها بمثل هذه السهولة, وبمثل هذه السرعة, وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع, من إقامة العدل الرباني في الأرض, ونظافة التعامل, والوفاء بالمواثيق, وشجاعة النفس, والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم سواء, وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة, ولا حركتها الحضارية السامقة .. ما كانت لتقدر على ذلك كله, ولا على شيء منه, لولا هذا الإحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق الله الإنسان من أجلها وتقوم به بذات الحس الذي تؤدي به الصلاة (3).
_________
(1) المصدر السابق نفسه, ص 203 - 204.
(2) المصدر السابق نفسه, ص 222.
(3) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص192.(1/220)
هكذا كانت العبادة تصورًا وفهمًا وعملاً عند الأجيال المسلمة الأولى (1) , ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ تصحيح المفاهيم أولاً, ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للإسلام (2).
إن قضية العبادة ليست قضية شعائر, وإنما هي قضية دينونة واتباع, وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات, وكل هذا الاهتمام (3).
وحتى تستحق الأمة الإسلامية اليوم وعد الله بالتمكين فإن عليها أن تصيغ حياتها كلها صياغة جديدة على منهج الله رب العالمين, لتصبح كلها عبادة من لحظة التكليف إلى لحظة الموت, لا تندّ عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي, ولا لمحة, ولا خاطر, ولا لون من ألوان النشاط (4) , امتثالاً وتحقيقًا لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها, وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط التمكين ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.
ثالثًا: أهمية الجانب العبادي في حياة الإنسان:
إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شامل مشرق, ولها أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية, وتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم, طالما تمثلت فيها عناصر الحب والذل, والرجاء والخوف ونحوها, ومعلوم لدى العلماء أن للعبادة مقصدًا أصليًا, وهو التوجه إلى الواحد الصمد, وإفراده بالعبادة في كل حال, طلبًا لرضا الله, والفوز بالدرجات العلا, وهناك مقاصد تابعة للعبادة: صلاح النفس, واكتساب الفضيلة, فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله تعالى, وإخلاص التوجه إليه, والانتصاب
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.
(2) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص 250 - 251.
(3) انظر: في ظلال القرآن (4/ 1943).
(4) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.(1/221)
على قدم الذلة والصغار بين يديه, وتذكير النفس بذكره, قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه:14] , وقال: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله هو المقصود الأصلي, ثم إن لها مقاصد تابعة كالاستراحة إليها من أنكاد الدنيا وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة, وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة, وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله (1).
وإذا تأملنا في مهمة العبادة يمكننا أن نستخلص الآتي:
1 - تثبيت الاعتقاد:
إن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى, وهيبته, وخشيته والشعور الغامر بأنه رب الكون ومليكه, والتوجه دائمًا بما شرع من شعائر ونسك, باعتبارها مظهرًا عمليًا دائبًا لصدق الإنسان في دعوى الإيمان, وتذكيرًا مستمرًا بسلطان الإله الأعلى, وإلهابًا متجددًا لجذوة اليقين في الله, ورجاء فضله وثوابه.
ولنأخذ مثالاً عباديًا لتثبيت معنى التوحيد, وإجلال الله تعالى, وهو (الأذان) وقد شرع بدخول أوقات الصلاة المفروضة, فهو يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات, وينادي به منادي المسلمين صوتًا في كل مكان يوجد به تجمع إسلامي, ولو كان أدنى الجمع من المسلمين, بل شرع مع ذلك للمسافر, والمنفرد, ولو كان في بادية لما يمثله من معانٍ عظيمة ليس مجرد الإعلام بدخول الوقت.
إن المؤذن حين ينادي بصوته الأعلى: (الله أكبر الله أكبر) ثم يكررها, يطلب شرعًا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين يسمعون هذا القول الأجل, لينسكب في مشاعر الجميع وفي أوقات متكررة متقاربة, معنى الكبرياء المطلق لله
_________
(1) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي: 48 - 49.(1/222)
رب العالمين, وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء, فينبغي أن يعتز به وحده, ويلوذ بحماه وكنفه, ويستعلي فوق أعناق الطواغيت والجبارين بهذا النداء الجهير, الذي أراد الله عز وجل أن يتواطأ عليه المجتمع كله, وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به.
فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء الأجل ليملأ الآفاق: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد لربه بأن لا يعبد ولا يطيع إلا ربه الأكبر, المنفرد بالكبرياء في السموات والأرض.
ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة: (أشهد أن محمدًا رسول الله) وهو كما علمت إقرار متكرر أيضًا بالطريق الذي تؤخذ عنه العبادة المشروعة, والتي لا تصح إلا بالتلقي عن الوحي الإلهي الذي جاء به المعصوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم تأتي رابعًا: الدعوة إلى الصلاة نفسها في جملتين فقط: (حي على الصلاة, حي على الصلاة) لأن الأذان كما قلنا أبعد مدى, وأشمل آثارًا.
ثم تأتي خامسًا: الدعوة العامة إلى الصلاح المطلق, المتمثل في الاستجابة لهذا الدين الإلهي الأغر, ومثله وتعاليمه, وفي مقدمتها الصلاة بداهة (1).
ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البدء ليكبر في الختام التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء, وإعلان التوحيد بصيغة الإقرار والإثبات بعد صيغة الشهادة السابقة (الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله) معنى هذا أن الأذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين, ويسكب في ضمائرهم, ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله تعالى بالكبرياء (ثلاثين) مرة يوميًا, وإفراده تعالى بصفة الألوهية الذي تفرده بالعبادة والطاعة «خمس عشرة» مرة, وهو نداء لا يتقيد بحدود معبد, أو مسجد, وإنما ينطلق ليدخل كل بيت, ويصافح كل سمع, ويطرق كل قلب يريد الهدى.
_________
(1) وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع, ص 40.(1/223)
وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الأصول العليا فإن القصد الذي تؤدي إليه (وهي الصلاة) أعظم شأنًا, وأتم مظهرًا, فقد فرضها الله على كل بالغ من الذكور والإناث خمس مرات في اليوم والليلة, وهي تبدأ بالتكبير ويطلب من المصلي تكرار هذه الجملة (الله أكبر) في صلوات الفرض فقط (أربعًا وتسعين مرة) عدا ما يقرع سمعه بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة, فضلاً عن السنن الراتبة والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك.
ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلاته, ويحني له ظهره راكعًا, ويخر بجبهته ساجدًا, ويناجي مولاه معظمًا, ومسبحًا, وحامدًا, وداعيًا, وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد بهذا السلطان الإلهي, وإلهاب نفسه بمعاني عظمته وسموه (1).
إن الصلاة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح -واحة وراحة- يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها, وهذا مصداق قول الله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلاَّ الْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19 - 23].
2 - تثبيت القيم الأخلاقية:
فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارم الأخلاق, ويدعو الناس إلى المثل العليا, والفضائل الكريمة كالصبر, والمثابرة, والسماحة, والسخاء, والصدق, والتي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا فضلاً عن الآخرة, وللعبادات بأنواعها مهمة عظيمة في تثبيت هذه الأخلاق, وتدعيمها, وغرسها في نفس المؤمن ووجدانه, (فالصلاة) مثلاً تعود المؤمن الصبر, والدأب, والإخلاص والنظام, حتى تصبح جميعًا خلقًا راسخًا في النفس, فالمسلم النائم حين يقوم من لذة النوم على نداء المؤذن «الصلاة خير من النوم» , وكذلك حين ينسحب
_________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع, ص458.(1/224)
من ضجيج الأسواق والبيع والشراء ملبيًا لنداء «حي على الصلاة» , ثم لا يزال دأبه هكذا عبر الساعات, والأيام, والأعوام, فهذا وأمثاله لابد أن تتربى فيهم هذه المعاني الخلقية العالية (1).
و (الزكاة) التي أخذت من معنى الزيادة, والنماء, والتطهير, لها -هي الأخرى- أكبر الأثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل والإمساك, وفي طبعه بطبائع البذل, والعطاء والسخاء, كذلك تستل صدور المحتاجين, وتبدل به شيئًا من خلق الحب, والمودة, أو على الأقل سلامة الصدور, فتشيع في المجتمع تبعًا لذلك كل علائق التداني والتقارب, وتتداخل صلات الناس بمشاعر الألفة, وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103].
و (الصوم) له عمله الأساسي في تربية الإرادة الإنسانية, والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله تعالى له, واطلاعه عليه, فضلاً عن غرس خليقة الصبر, والضبط النفسي بالإمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج وبالكف عن
اللغو, والصخب, والقدرة على تغيير عاداته حتى لا يتعود الجمود, أوتستعبده
عاداته وتقاليده (2).
ثالثًا: إصلاح الجانب الاجتماعي:
ويظهر ذلك في الصلاة ودورها في إيجاد العلاقات الاجتماعية, وذلك واضح في الحكمة من صلاة الجماعة, لأن اجتماع المسلمين راغبين في الله, راجين, راهبين, مسلمين وجوههم إليه خاصية عجيبة في نزول البركات, وتدلي الرحمة, فيحدث التعاون, والتعارف, والوحدة والاجتماع على الخير.
ثم تأتي صلاة الجمعة: فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر من ذلك في
_________
(1) وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع, ص 42.
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع, ص 460.(1/225)
كل يوم جمعة, حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيرًا وتعليمًا للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم, كحد أدنى للتثقيف العام في أمور الدين, ثم تأتي صلاة العيد, فتجمع أهل المدينة كلها مرتين في السنة في عيد الفطر والأضحى, يخرجن الأبكار والعواتق (1) , بل والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين, ويعتزلن المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أم عطية (2) رضي الله عنها قالت: «أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور» (3). (4)
هذا عدا ما شرعه الله تعالى لنا من صلوات جامعة في مناسبات شتى, كالاستسقاء والخسوف والكسوف والجنائز, والتراويح في رمضان, إن الصلاة -لو وعى المسلمون حقيقتها- لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل, يتمثل فيه المجتمع الكبير, وبقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلاة, وما تعنيه من معان وتوجيهات, بقدر ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم, ولا فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع, فكلاهما تجمع يجب أن يخضع لدين الله وتعاليمه (5).
أما الزكاة: في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين والأرقاء وغيرهم, وهي بذلك تمثل الحد الأدنى المفروض فرضًا للتعاون الاجتماعي, والتكافل الاقتصادي بين أبناء الأمة الواحدة, لذلك جعل الله تعالى معظم مصارفها اجتماعية بحتة, بأوسع المدلولات الاجتماعية في القديم أو الحديث على السواء, وكما جاءت صلاة العيد لتوسع دائرة الاجتماع في الصلاة, تأتي هنا أيضًا «زكاة الفطر» لتوسع قاعدة التكافل والتعاون إلى أقصى حد.
_________
(1) العواتق: جمع عاتقة وهي التي عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها.
(2) هي نسيبة بنت الحارث وقيل بنت كعب من فقهاء الصحابة ت 70هـ, انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 318).
(3) ذوات الخدور: الستور.
(4) رواه البخاري, كتاب العيدين, باب: خروج النساء والحيض إلى المصلى (2/ 9).
(5) انظر: المنهاج القرآني في التشريع: 462.(1/226)
أما الأثر الاجتماعي لفريضة (الحج) فواسع شامل, ولا زالت آثاره تظهر كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه, وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من ذلك, قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ, ومجنة, وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية, فتأتموا أن يتجروا في موسم الحج, فسألوا رسول الله فنزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة: 198] (1) , وقال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ - لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ} [الحج:28،27].
والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل المنافع الروحية والمادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والاقتصادية وسائر ما يطلق عليه اسم (المنفعة) , وقد جعلت غاية من غايات الحج وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان ببالغ أهميتها في مراتب المنافع والحكم الشرعية, وإن من أعظم هذه الفوائد جمع أطراف الأمة المسلمة كل عام, وما يحققه من استنفار جزء من كل إقليم سنويًا ليركبوا الأخطار والأسفار, ويقطعوا السهول والقفار, أو يمتطوا الأجواء والبحار, ويتركوا الأولاد والأهل والديار فيجتمع المسلمون من أطراف الأرض, ويلتقي الشرقي بالمغربي, والمصري بالهندي, في مؤتمر جامع, ورحلة مباركة, وليحققوا عمليًا دعوة القرآن بالسير في الأرض, والسياحة في الآفاق, ومطالعة المشاهد المقدسة, ومنازل الوحي, وآثار النبوة منذ أبي الأنبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم مدارج الصحابة رضي الله عنهم, التي تهب على المسلمين منها روح الإخلاص, والبذل, والعطاء والانقياد المطلق لأمر الله عز وجل (2).
_________
(1) رواه البخاري, كتاب التفسير, باب: ليس عليكم جناح (5/ 186) رقم 4519.
(2) انظر: المنهاج القرآني في التشريع: 465.(1/227)
ومن ناحية أخرى فالحج نظام يوجب على الجميع زيًا واحدًا, وحركة واحدة, وكلمة واحدة, وطاعة واحدة. وبتثبيت الاعتقاد, والأخلاق وإصلاح الاجتماع تأخذ العبادات الإسلامية دورها العظيم في بناء الحياة الإنسانية على أرفع القواعد, وأنبل الغايات, وأكرمها وأطهرها, وتأخذ بالإنسان إلى أفق أرفع من التراب والطين, ومتاع الحياة الفانية, حيث تربطه بالحي الباقي, وبالنعيم الخالد, فهي غسيل مستمر لأدران المادة, وتهذيب لطغيانها, وعبادات الإسلام تقوم في أساسها على مراعاة الرقابة الإلهية, وابتغاء الآخرة, دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها وتحرر الإنسان من عبودية الكهنوت وطقوسها ورسومها (1).
إن القرآن الكريم اهتم اهتمامًا بالغًا ببيان حقيقة العبودية ودعوة الناس إلى تحقيقها كما ينبغي, كما بيّّن شروط قبول العبادة وأمر المسلمين بالالتزام بها, ووجه الناس إلى مفاهيم أصيلة في العبودية وحذرهم من الشرك ومن الانحراف عن معنى العبودية الصحيح, كما أشار إلى أهمية الجانب العبادي في حياة الناس في تثبيت الاعتقاد, وتأسيس القيم والأخلاق وزرعها وغرسها في نفوس المؤمنين, كما اهتم ببيان الجانب العبادي في إصلاح النواحي الاجتماعية, وركز القرآن في توجيهاته الكريمة في مجال العبادة على إفراد الله وحده في العبادة وتحرير العبادة من رق الكهنوت, واهتم بمسألة التوازن بين الروح والجسد, وفتح مجال الرخص والتخفيضات في العبادة, هذا كله من أجل أن تحقق الأمة عبوديتها لخالقها سبحانه وتعالى من أيسر الطرق وأسهل السبل وأخف التكاليف, وجعل طريق تحقيق العبودية شرطًا من شروط التمكين لهذه الأمة العظيمة.
إن تقرير حقيقة العبودية في حياة الناس يصحح تصوراتهم ومشاعرهم, كما يصحح حياتهم وأوضاعهم, فلا يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر, ولا أن تستقر الحياة والأوضاع, على أساس سليم قويم, إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من
_________
(1) المصدر نفسه: 468.(1/228)
إقرار, وما يتبع الإقرار من آثار عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته ويستشعرون العزة أمام المتجبرين والطغاة, حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه ولا يذكرون أحدًا إلا الله تصلح حياتهم وترقى وتكرم على
هذا الأساس.
إن استقرار هذه الحقيقة الكبيرة في نفوس المسلمين وتعليق أنظارهم بالله وحده, وتعليق قلوبهم برضاه, وأعمالهم بتقواه, ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه .. في هذه الحياة .. فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين للصالحات في الآخرة, فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر وفيض من عطاء الله (1).
إن الذين يستنكفون عن عبودية الله, يذلون لعبوديات من هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة, أو عبودية الوهم والخرافة, ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم, ويحنون لهم الجباه .. ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيدًا من البشر هم وهم سواء أمام الله.
* * *
_________
(1) في ظلال القرآن (2/ 820).(1/229)
المبحث الثالث
محاربة الشرك
ومن شروط التمكين المهمة؛ محاربة الشرك بجميع أشكاله وأنواعه؛ ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه وأن تنقي صفها منه بجميع الأساليب الشرعية, ولا يمكن للإنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إلا إذا عرفه وعرف خطره.
ومعرفة الشرك وما يتعلق به له فوائد عديدة:
أحدها: أن الإنسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع فيه.
الثاني: أنه يمكنه أن يحذر غيره.
الثالث: أنه يظهر له بذلك حسن الإسلام والتوحيد, وذلك أنه إذا عرف الشرك وظهر له بطلانه, عرف أن ضده وهو التوحيد أفضل الأعمال, وبضدها تتميز الأشياء إلى غير ذلك من الفوائد.
ولهذه الأسباب وغيرها فقد اهتم الدعاة الصادقون والعلماء المخلصون والقادة الربانيون ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه وخطره وجميع ما يتعلق به, وبينوا أن تحقيق الإيمان الصحيح لا يتم ولا يقبل من صاحبه إلا بترك الشرك والبعد عنه.
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: (ولا يتم توحيد العبادة حتى يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله, وحتى يدع الشرك الأكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة, وهو أن يصرف نوعًا من العبادة لغير الله تعالى, وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع الشرك الأصغر وهو: كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله, ويسير
الرياء ونحو ذلك) (1).
_________
(1) الفتاوى السعدية للعلامة عبد الرحمن السعدي, ص13.(1/230)
أما حقيقة الشرك بالله: (أن يعبد المخلوق كما يعبد الله, أو يعظم كما يعظم الله, أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية) (1).
أما أقسام الشرك فقسمه العلماء إلى نوعين: شرك في الربوبية, وشرك في الألوهية قال السعدي -رحمه الله-: (الشرك نوعان: شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خالقًا مع الله, وشرك في ألوهيته, كشرك المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ويشركون بينه وبين المخلوقين, ويسوونهم مع الله في خصائص ألوهيته) (2).
لقد وردت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة في التحذير من الشرك, وبيان خطره, وأنه أعظم ذنب عصى الله به, وأنه لا أضل من فاعله, وأنه مخلد في النار أبدًا لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع, قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48].
وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء:116]، وقال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
والأحاديث الواردة في ذم المشركين كثيرة منها:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار» (3).
_________
(1) الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد, ص 178.
(2) الرياض الناضرة للسعدي, ص244.
(3) مسلم, كتاب الإيمان, باب: من مات لا يشرك بالله شيئًا (1/ 94) رقم 92.(1/231)
وحديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة» (1).
وحديث أبي بكرة (2) رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ثلاثًا «الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور» وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئًا فجلس, فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» (3).
إن تفشي الشرك في المجتمعات الإسلامية سبب في ضياعها وانحرافها عن هدى المولى عز وجل, فمن أعظم الظلم, وأبعد الضلال, عدم إخلاص العبادة لرب العالمين وتسوية المخلوق مع الخلاق العليم.
فالله وحده المتفرد بالعبودية فهو مالك النفع والضر, الذي ما من نعمة إلا منه, لا يدفع النقم إلا هو الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه, والغنى التام لجميع وجوه الاعتبارات.
إن الشرك هو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه, وأما بقية الذنوب فإن صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
إن الذنوب التي دون الشرك جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة, وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين, ومن دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد, وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة, وأغلق دونه أبواب الرحمة, فلا تنفعه الطاعات دون التوحيد, ولا تفيده الشدائد والمحن شيئًا.
_________
(1) المصدر السابق نفسه, رقم 92.
(2) هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو أبو بكرة الثقفي, تدلى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حصن الطائف في (بكرة) فاشتهر بأبي بكرة وأسلم وأعتقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ, وكان من فضلاء الصحابة وسكن البصرة توفي بالبصرة سنة 50هـ, انظر: أسد الغابة (5/ 38) , الإصابة (3/ 542).
(3) مسلم, كتاب الإيمان, باب: بيان الكبائر (1/ 91) رقم 143.(1/232)
إن الشرك بالله تمجه وترفضه الفطرة السليمة, ولقد بقى البشر بعد آدم قرونًا طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدي, ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة, فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم, فكان هذا باب الشر العظيم.
فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى خلف من بعدهم خلف قل فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في الشرك, ثم بعث الله فيهم نوحًا عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. إلا أنهم عصوه وما آمن معه إلا قليل.
إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو الوثنية المظلمة والشرك العظيم, قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213].
أي: أن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض (1).
وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (2).
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 250).
(2) مسلم, كتاب القدر, باب: كل مولود يولد على الفطرة (4/ 2047) رقم 2658.(1/233)
وهذه الأدلة الدامغة التي ذكرناها تدل على أن الناس كانوا على التوحيد وأن الشرك طارئ وحادث فيهم.
إن الجماعة المسلمة التي رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك وهي تسعى لتحكيم شرع الله, لأنها تعلم علم اليقين أن من شروط التمكين وإقامة دولة الإسلام تحقيق التوحيد وتهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر, ومن البدع القولية والاعتقادية, والبدع الفعلية العملية, ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات, وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد, ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع (1) , وتربي الناس على الاستعانة بالله في جميع أمور حياتهم والاستعانة به والنذر له والذبح له وحده سبحانه وتعالى وأن تكون الحاكمية لله رب العالمين.
وهي تحارب شرك القبور, وكذلك شرك القوانين الوضعية وتدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة الإنسانية, ولسان حالها ومقالها قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162،163].
لذلك لابد من محاربة الشرك ومداخله وألوانه وجميع طرقه لأن الشرك ذلة في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة, ولأن من متطلبات الإيمان ولوازمه محاربة ضده ألا وهو الشرك.
وبعد أن ذكرت الآية الكريمة شروط الاستخلاف والتمكين والأمن, أرشدت الآيات التي بعدها إلى كيفية المحافظة على هذا التمكين والأمن، وإلى العدة الفعلية للأمة الإسلامية ألا وهي: الاتصال بالله, وتقويم القلب بإقامة الصلاة, والاستعلاء على الشح, وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول
_________
(1) انظر: الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة, ص191.(1/234)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والرضا بحكمه, وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة, وتحقيق المنهج الذي أراده للحياة: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46] في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال, وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال. إن الأمة الإسلامية عندما تسير على نهج الله تعالى وتحكم شرعه في الحياة, وترتضيه في كل أمورها .. يتحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن, وما من مرة خالفت عن هذا النهج والطريق القويم إلا تخلفت في ذيل القافلة, وذلت, وطرد دينها من الهيمنة على البشرية, واستبد بها الخوف, وتخطفها الأعداء.
إن وعد الله لا يتبدل ولا يتغير إذا أقمنا الشروط, فإذا أردنا الوعد فعلينا بتحقيق الشروط ولا أحد أوفى بعهده من الله تعالى (1).
آثار الشرك:
إن الشرك الذي يقع فيه الإنسان له آثاره الوبيلة في دنياه وآخرته, سواء أكان الواقع فيه فردًا أم جماعة, فمن تلك الآثار:
1 - إطفاء نور الفطرة:
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
وعلى هذا فإن الشرك نقض للميثاق الذي أخذه الله على البشر وهم في عالم الذر, كما أنه انحراف عن الغاية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إن الإنسان يستمد من حقيقة التوحيد إشراقته ونوره وسداد أمره, فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. وتصبح حاله وأعماله معتمة مظلمة, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ - أَوْ كَظُلُمَاتٍ
_________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2530).(1/235)
فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40،39].
2 - القضاء على منازع النفس الرفيعة:
إن النفس المتعلقة بالله المتطلعة إلى رضاه لا تستغرقها شهوات الحس ولا تنصرف بكليتها إلى متاع الأرض القريب, إنما تتطلع دائمًا إلى المثل العليا والقيم الرفيعة, وإلى الترفع عن الدنس في كل صوره وأشكاله, سواء أكان فاحشة من الفواحش التي حرمها الله, أو ظلمًا يقع على الناس, أو موقفًا خسيسًا يقفه الإنسان من أجل شهوة رخيصة أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا.
ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشيها الشرك فإن النفس تنحط فتشغلها الأرض, يشغلها المتاع الزائل فتتكالب عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها, ويكون جهادها صراعًا خسيسًا على هذا المتاع الزائل يتقاتل من أجله الأفراد والدول والشعوب, وتصبح الحياة البشرية محكومة بقانون الغاب, القوي يأكل الضعيف, والغلبة للقوة لا لصاحب الحق .. وهو الأمر الذي نراه سائدًا في الجاهلية المعاصرة في كل منحى من مناحي الحياة (1). قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
3 - القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية الذليلة:
إن العزة الحقيقية تستمد من الإيمان بالله وحده, قال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] , ولكن المشرك لا يعرف هذه العزة ولا يتذوقها, إنه عبد؛ ولكنها عبودية ذليلة لأنها ليست عبودية لله, الكريم الرحيم, الذي يُعز عباده بعزته, إنه عبد لبشر مثله يتحكم فيه فيذله, أو عبد لشهواته: شهوة المال أو
_________
(1) انظر: ركائز الإيمان لمحمد قطب, ص141،140.(1/236)
شهوة الجنس أو شهوة السلطان .. كلها عبودية ذليلة وإن بدت لأول وهلة متاعًا وتمكنًا وتجبرًا في الأرض.
ثم يذهب هذا المتاع الزائل الذي تذل له أعناق الرجال, ويأتي اليوم الذي يقفون فيه موقف الخزي الأكبر أمام العزيز الجبار: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207].
4 - تمزيق وحدة النفس البشرية:
إن الشرك يشتت وحدة النفس البشرية ويمزقها, فيصلي الإنسان -إذا صلى- لإله ويبيع ويشتري ويبتغي الرزق باسم إله آخر يحل له الربا ويحل له الغش والخداع بغية الربح, ويمارس شهواته باسم إله ثالث يُحِل له العلاقات غير المشروعة ويزين له الخبائث, وقد يتوجه إلى بشر مثله أو إلى صنم من الأصنام فيطلب منه البركة أو يطلب منه أن يقربه إلى الله زلفى .. وهكذا تتشتت نفسه في محاولة استرضاء هذه الأرباب المتعددة التي كثيرًا ما يكون لكل منها مطالب تخالف مطالب الأخرى وتعارضها.
وفي النهاية يفقد نفسه بعد أن يفقد أمنه وطمأنينته: (1) {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].
5 - إحباط العمل:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
هذه بعض الآثار التي تحدث للإنسان الذي يقع في الشرك ولا شك أن تلك الآثار تبعد المجتمع من التمكين الرباني.
_________
(1) انظر: ركائز الإيمان, ص 144 - 145.(1/237)
المبحث الرابع
تقوى الله عز وجل
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا ... } [الأعراف:96].
إن من شروط التمكين المهمة -التي نضيفها إلى المباحث السابقة- تقوى الله عز وجل, لأن تقوى الله لها ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة, وهذه الثمرات تظهر على الأفراد, ومن ثمَّ على الجماعة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه. إن تقوى الله تعالى تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك, وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
أولاً: ثمرات التقوى العاجلة والآجلة:
1 - المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد:
قال تعالى: {وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3،2].
2 - السهولة واليسر في كل أمر:
قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
قال سيد قطب رحمه الله: «واليسر في الأمر غاية ما يرجوه الإنسان, وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده؛ فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيق يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره, وينالها بيسر في حركته وعمله, ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها, ويعيش من هذا في يسر رَخِيّ نَدِيّ حتى يلقى الله» (1).
_________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3602).(1/238)
3 - تيسير العلم النافع:
قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
قال العلامة محمد رشيد رضا: (أي اتقوا لله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه, وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم, فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك, وهو سبحانه العليم بكل شيء, فإذا شرع شيئًا فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن تبعه شرعه, وكرر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوة التأثير) (1) , لقد تكرر لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ثلاث مرات, فالأولى حث على التقوى, والثانية وعدٌ بإنعامه, والثالثة تعظيم شأنه سبحانه وتعالى.
4 - إطلاق نور البصيرة:
قال تعالى: {إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]. إن تقوى الله تعالى في الأمور كلها تعطي صاحبها نورًا يفرق به بين الحق والباطل, وبين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس, وعندما تسيطر تقوى الله على الصف المسلم يصبح يتحرك بفرقان رباني.
5 - محبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض:
قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانًا فأحبه, فيحبه جبريل عليه السلام, ثم ينادي في أهل السماء, إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه, فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» (2).
_________
(1) تفسير المنار (3/ 128).
(2) مسلم, كتاب البر والصلة والآداب, باب: إذا أحب الله تعالى (4/ 2030) رقم 2637.(1/239)
6 - نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده:
وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]. فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد, وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه, ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى عليه السلام وهارون: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
أما المعية العامة مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108]. فتستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
7 - البركات من السماء والأرض:
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .... } [الأعراف: 96].
قال القاسمي رحمه الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى" أي: القرى المُهْلَكة {آمَنُوا" أي: بالله ورسله {وَاتَّقَوْا" أي: الكفر والمعاصي {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" أي: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب, مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من الأرض) (1).
ويدل على هذا المعنى قوله عز وجل: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن:16].
فانظر إلى بركات التقوى, واعلم أن ما نحن فيه من قلة البركة ونقص الثمار وكثرة الآفات والأمراض إنما هو نتيجة حتمية لضعف وازع التقوى وكثرة المعاصي,
_________
(1) انظر: محاسن التأويل (7/ 221).(1/240)
كما يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
8 - البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم:
قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ ... } [يونس:62 - 64].
والبشرى في الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه, وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرؤيا الصالحة من الله» (1). وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (2).
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» (3). وقد رأينا من الموفقين في العمل الإسلامي ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا.
9 - الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم:
قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"
[آل عمران: 120].
قال ابن كثير -رحمه الله-: (يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم, فلا حول ولا قوة لهم إلا به, وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) (4).
إنه تعليم من الله تعالى للمسلمين في كيفية الاستعانة على أعداء الله وكيدهم.
_________
(1) البخاري, كتاب الرؤيا, باب: رؤيا الصالحين (8/ 88) رقم 6986.
(2) البخاري, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (8/ 89) رقم 6990.
(3) مسلم, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (4/ 2034).
(4) تفسير القرآن العظيم (1/ 329).(1/241)
10 - حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل:
قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [النساء:9] , وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذي يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلوا تحت حفظ
الله وعنايته, ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله, وإشارة
إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع, وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما (1).
11 - سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
ولهذا لابد من الدعاة العاملين والعلماء الراسخين من استحضار هذه المعاني العظيمة, فإن أعمالنا مهما كان حجمها وتضحياتنا مهما كانت ضخامتها لا تقبل إلا من المتقين, لأنهم هم الذين يستشعرون أن كل خير هو من الله وحده.
12 - سبب النجاة من عذاب الدنيا:
قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يتَّقُونَ} [فصلت: 18،17].
إن الله تعالى سلم أهل الإيمان والتقوى من بين أظهر الكافرين دون أن يمسهم سوء أو أن ينالهم من ذلك ضرر, بسبب إيمانهم وتقواهم لله تعالى.
_________
(1) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/ 47).(1/242)
13 - تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار, وعظم الأجر وهو سبب الفوز بدرجة الجنة:
قال تعالى: {وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5].
قال ابن كثير رحمه الله: (أي يذهب عنهم المحظور, ويجزل لهم الثواب على العمل اليسير) (1).
14 - ميراث الجنة, فهم أحق الناس بها وأهلها, بل ما أعد الله الجنة إلا لأصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية:
قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63] , فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل.
15 - وهم لا يذهبون إلى الجنة سيرًا على أقدامهم بل يحشرون إليها ركبانًا:
مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعًا لمشقتهم, كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31].
قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85].
16 - وهي تجمع بين المتحابين من أهلها حين تنقلب كل صداقة ومحبة إلى عداوة ومشقة:
قال تعالى: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم, قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَّعُيُونٍ - ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ - وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر:45 - 47].
إن هذه الثمار العظيمة عندما تمس شغاف قلوب العاملين في الدعوة الإسلامية تضفي على العمل محيطًا ربانيًا موصولاً بالله, متصلة حلقة الدنيا
_________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 382).(1/243)
بالآخرة, كما أن الحرص على تقوى الله تعالى يكسب الصف الإسلامي صفات رفيعة وأخلاقًا حميدة, ومكارم نفيسة تجعله أهلاً لتمكين شرع الله على يديه. ومن أهم هذه الصفات التي تجعل الصف المسلم متماسكًا في حركته الدءوبة نحو تحكيم شرع الله:
ثانيًا: صفات المتقين:
1 - الصدق, فهم أصدق الناس إيمانًا, وأصدقهم أقوالاً وأعمالاً, وهم الذين صَدَّقوا المرسلين قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
قال القاسمي - رحمه الله -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ... " في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعوة الإيمان: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" عن الكفر وسائر الرذائل، وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم (1). وقد رغب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الخصلة النبيلة والرتبة الجليلة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» (2).
2 - ومن صفاتهم، أنهم يعظمون شعائر الله عز وجل: قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
إن المتقين يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته, ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن معصيته.
3 - ويتحرون العدل ويحكمون به، ولا يحملنهم بغض أحد على تركه, قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
_________
(1) انظر: تفسير القاسمي (3/ 54).
(2) البخاري, كتاب الأدب, باب قول الله تعالى: {كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (7/ 124).(1/244)
وفي الآية تعليم وإرشاد على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
4 - يتبعون سبيل الصادقين من الأنبياء والمرسلين وصحابة سيد الأولين والآخرين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
فلا شك أن من صفات المتقين أنهم ينتهجون منهج الصحابة رضي الله عنهم، لأنهم أولى الناس بهذه الصفات التي أمرنا الله أن نكون مع أهلها، فقد شهد الله لهم الصدق، وشهد لهم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يجوز لأحد أن يلزمهم بشيء، أو يتهمهم بما برأهم الله عز وجل منه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالصحابة كلهم عدول، وظهرت فيهم من علامات الصدق والإيمان واليقين ما يجعل العاقل يقطع بتعديلهم، فمن تقوى الله عز وجل موالاتهم ومحبتهم ونصرتهم والاحتجاج بإجماعهم، وفهم الكتاب والسنة على منهجهم وطريقتهم، وبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم (1).
5 - يَدَعون ما لا بأس به حذرًا مما به بأس ويتقون الشبهات، إن المتقين يتورعون عن الشبهات وعما يرتابون فيه مما ليس حلالاً بينًا، وذلك أدعى أن يتورعوا عن الحرام البين، ومن اجترأ على الشبهة اجترأ كذلك على الحرام.
ولهذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» (2).
ولابد من التنبه لأمر مهم وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من
_________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/ 289).
(2) البخاري، كتاب الإيمان، باب: من استبرأ لدينه (1/ 22) رقم 22.(1/245)
يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهات فإنه لا يحتمل ذلك، بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله من أهل العراق: عن دم البعوض يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هما ريحانتاي من الدنيا» (1).
6 - إنهم يعفون ويصفحون: قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ} [الشورى: 4].
فأخبر عز وجل أن من اتصف بهذه الصفة فأجره في ذلك على الله عز وجل كما رغبهم الله عز وجل في مغفرته إذا فعلوا ذلك, فقال عز وجل: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].
وقال تعالى في وصف المتقين: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. فالإحسان وصف من أوصاف المتقين، ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات، بل صاغه بهذه الصيغة تمييزًا له بكونه محبوبًا عند الله تعالى (2).
7 - ومن صفاتهم أنهم غير معصومين من الخطايا إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء غير أنهم لا يفارقون الكبائر، ولا يصرون على الصغائر، بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح عملا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان لحملهم على محاكاة
_________
(1) البخاري، فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين (4/ 261).
(2) انظر: تفسير المنار (4/ 134، 135).(1/246)
الجاهلين والخوض معهم وعلى غير ذلك من المعاصي والفساد تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا، وإن زلوا تابوا وأنابوا (1).
إن هذه الصفات عندما تتغلغل في نفوس الدعاة والعلماء وأبناء المسلمين تكون الأمة المسلمة جديرة بنصر الله وتوفيقه، وبهذا نكون قد فصلنا أهم شروط التمكين المتمثلة في الإيمان بالله والعمل الصالح، والعبادة، ومحاربة الشرك وتقوى الله عز وجل.
_________
(1) نفس المصدر السابق (9/ 550).(1/247)
الفصل الثاني
أسباب التمكين
تمهيد:
إن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ بها سيد المرسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب.
وأشارت الآية الكريمة إلى الأمر بإعداد:
1 - ما استطعتم من قوة. ... 2 - ومن رباط الخيل.
والغاية:
1 - ترهبون به عدو الله وعدوكم. ... 2 - وآخرين من دونهم لا تعلمونهم.
وإعداد القوة، لفظ عام يشمل كل قوة، فقوة العقيدة والإيمان قوة، وقوة الصف والتلاحم قوة، وقوة السلاح والساعد قوة. ورباط الخيل إشارة إلى السلاح الثقيل، وإشارة إلى وجوب وجوده في أيدي المسلمين لا تأخذه شراء أو هبة من أحد.
ولا يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من الإعداد الإسلامي، لأنها عند الالتحام أقوى من التحام الأفراد بغير أفراس، وقد أثبتت الحروب الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال الأفغان ضد الشيوعيين، وفي جنوب السودان ضد النصارى.(1/248)
إن الآية الكريمة تضع أذهان المسلمين على الإعداد الشامل، المعنوي والمادي، العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، وتدخل في طياتها، الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري ... إلخ.
كما أن الآية الكريمة وضحت أن الإعداد يحتاج إلى إنفاق هائل ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الآخرة لتحفز المسلمين وتحثهم على ذلك, قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].(1/249)
المبحث الأول
سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد
أولاً: سنة الأخذ بالأسباب:
إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
قال الإمام الرازي: أصل السبب في اللغة: الحبل، قالوا: ولا يدعي الحبل سببًا حتى ينزل ويصعد به, ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ ... } [الحج: 15]. ثم قيل لكل شيء سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده, قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85] أي طريقا، وأسباب السموات أبوابها، لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبرا عن فرعون: {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 - 37] والمودة بين القوم تسمى سببا لأنهم بها يتواصلون. والسبب في اصطلاح الشرع: ما يوصل إلى الشيء ولا يؤثر فيه كالوقت للصلاة (1).
واستعير السبب لكل ما يتوصل به إلى أمر من الأمور (2)، إن سنة الأخذ بالأسباب مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شئونهم الدنيوية والأخروية سواء.
قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ..
_________
(1) انظر: مفاتيح الغيب (2/ 626).
(2) انظر: مفردات القرآن كتاب السين، ص220، المعجم الوسيط، ص426.(1/250)
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر
الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها, قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].
وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال (1).
«ولقد قدر الله سبحانه وتعالى لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يُمكنوا، وللمشركين أن ينهزموا، ومع ذلك فهل قال الله تعالى للمسلمين: ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا إنفاذي قدري، وهو لابد نافذ؟ كلا، وإنما قال لهم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ... } [الأنفال: 60] وقال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
وقال عز وجل: {إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] فلابد من اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين، وإن كان ذلك قدرًا مقدورًا من عند الله (2).
«وليس الله - سبحانه وتعالى - عاجزا عن نصرة الحق بغير الأدوات البشرية، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وهكذا تجري سننه» (3).
ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أفضل المتوكلين كان أوعى الناس لهذه السنة الربانية، فكان وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئا يسير جزافا، والمتتبع للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما .. «ففي
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن لمحمد سيد، ص248.
(2) مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب، ص262، 263 بتصرف يسير.
(3) حول التفسير الإسلامي للتاريخ محمد قطب، ص104.(1/251)
الهجرة - على سبيل المثال - لم يترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرا من الأمور إلا أعد له عدته، وحسب له حسابه، ورسم له خطته على نحو يستوعب كل الطاقات والوسائل.
فقد أعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرواحل والدليل، واختار الرفيق والمكان الذي سيتوارى فيه - هو وصاحبه - حتى يهدأ الطلب، ويفتر الحماس، وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر، والكتمان، وأسباب الاحتياط، وترك للإرادة الإلهية - بعد ذلك - ما لا حيلة له فيه (1).
وكذلك الأمر بالنسبة لغزوة بدر، وأحد، والأحزاب ... وجميع غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وكل أموره.
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية، في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء, ففي أمورهم كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرشدهم دائما إلى الأخذ بما يمكن من أسباب للوصول إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة، روى أبو داود والترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عطاء، فقال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى. حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده وقال: من يشتري مني هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال له: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما, فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا, فقال له
_________
(1) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة, د. القرضاوي، ص17، 18.(1/252)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة (1).
«وهذا نفس المعنى الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال للكسالى القابعين في المسجد ينتظرون الرزق: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: «اللهم ارزقني» وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإن الله تعالى يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ... } [الجمعة: 10].
نعم، لابد من بذل الجهد، لأن الأخذ بالأسباب والكدح للحصول على ما يرغب الإنسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله تعالى ... » (2).
وكذلك بالنسبة لأمر الآخرة، لابد من الأخذ بالأسباب حتى يصل الإنسان إلى ما يرجو من رحمة الله وجنته، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] لقد كان في وجدان الأمة الإسلامية في عصرها الزاهر أن إيمانها بقدرة الله - تعالى - المطلقة، وقضائه وقدره لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب.
لقد كانوا يدركون أن لله - تعالى - سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير، ومع أن لله تعالى سننا خارقة تملك أن تصنع كل شيء ولا يعجزها شيء إلا أن الله جلت قدرته قد قضى أن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا، وأن تكون سننه الخارقة استثناء لها، وكلتاهما معلقة بمشيئة الله.
لذلك كان في حسهم أنه لابد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم، أي أنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن الجارية (3).
_________
(1) رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة (2/ 120).
(2) حول تفسير التاريخ الإسلامي، ص89.
(3) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص262، 263.(1/253)
ولقد أصاب المسلمين في أحد ما أصابهم، لأنهم لم يستجمعوا المقدمات التي تنتج النصر ولم يكن المشركون أولى بالله منهم، ولكن هذه سنة الله، فالله - تعالى - قد وضع للنصر أسبابا كثيرة، وأوجب على عباده رعايتها، فمن أبى فلا يلومن إلا نفسه.
وإن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض لم يكن ظلما وقع بهم، بل كان نتيجة طبيعية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على سواء، وأهملوا السنن الربانية, وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام، ولكن هيهات، بل هذا من صميم العدل الإلهي (1) , قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182].
ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الذين عصوه، فما بال الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة، ومع ذلك فإنهم متمكنون في الأرض - من الناحية المادية غاية التمكين؟
إن هؤلاء الكفار لم يبلغوا ما بلغوه لأنهم أقرب من الله أو أرضى له، ولم يبلغوا ما بلغوا بسحر أو بمعجزة أو لأنهم خلق آخر متميز، ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار، أو يخترقوا أجواء الفضاء لأن عقيدتهم حق، أو لأن فكرهم سليم، إنهم بلغوا ذلك لأن السبيل إلى هذا التقدم درب مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم, قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
إن الله - سبحانه وتعالى - جعل التمكين في الحياة يمضي بالجهد البشري، وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة، وقوانين لا تتبدل ولا تتحول، فمن يقدم
_________
(1) انظر: الغزو الثقافي يمتد من فراغنا للغزالي، ص147: 150.(1/254)
الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه.
إنها السنة التي أرادها الله في هذه الحياة، إنها مشيئته وسننه وإرادته (1).
ب- التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله - سبحانه وتعالى - لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها (2).
ولقد أرشدنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه - عليه السلام - على عدم تعارضها.
1 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ناقة له، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال: (اعقلها وتوكل) (3).
وهذا الحديث أصل في التوكل وفيه الأمر باتخاذ الأسباب والاحتراز مع
الأمر بالتوكل (4).
2 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتعود بطانا» (5).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل على الله مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها (6).
إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص252.
(2) المصدر نفسه: ص253.
(3) رواه الترمذي في صفة القيامة باب (60) (4/ 668) رقم 537.
(4) انظر: التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب، د. عبد الله الدميجي، ص179.
(5) الترمذي، كتاب الزهد، باب التوكل على الله (4/ 573) رقم 2344، حسن صحيح.
(6) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص254.(1/255)
الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية (1).
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها, وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
1 - الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها, فهذا شرك يرق ويغلظ، وبين ذلك.
2 - ترك ما أمر الله به من الأسباب، هذا أيضا قد يكون كفرا وظلما وبين ذلك, بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمه، وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع, ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيان من لا يرى النجاة والفرح والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحا ولا توصله إلى المقصود، فيجرد عزمه للقيام بها حرصا واجتهادًا, ويضرع قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على الله وحده (2). وقد جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله
ولا تعجز ... » (3).
فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:
1 - تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها.
_________
(1) انظر: مدارج السالكين (2/ 130).
(2) مدارج السالكين (3/ 501).
(3) مسلم: كتاب القدر باب الأمر بالقوة (4/ 2052) رقم 2664.(1/256)
2 - وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
فالدين كله ظاهره وباطنه، وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية (1).
إن استيعاب وفهم سنة الأخذ بالأسباب لأفراد الأمة الإسلامية وجماعتها من ضروريات فقه التمكين لهذا الدين.
ثانيًا: إرشاد القرآن للإعداد:
إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في إرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (2).
إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة واضحة, قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
شرح الآية الكريمة:
الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل (3). والضمير في «لهم» راجع إلى الكفار.
وقوله: {مَّا اسْتَطَعْتُم" قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم (4)، وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها (5).
_________
(1) انظر: مدارج السالكين (3/ 501).
(2) في ظلال القرآن (2/ 919) تفسير آية 54 من سورة المائدة.
(3) تفسير المنار (5/ 53).
(4) تفسير القرآن العظيم (2/ 122).
(5) في ظلال القرآن (2/ 1553).(1/257)
والمراد بالقوة هنا: ما يكون سببا لحصول القوة، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها:
1 - المراد من القوة أنواع الأسلحة.
2 - ورد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثا (1).
3 - قال بعضهم: القوة هي الحصون.
4 - قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على
حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وقوله عليه السلام: «القوة الرمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرا كما أن قوله:
«الحج عرفة» (2). وقوله: «الدين النصيحة» (3) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا (4).
كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرة لا معرفة, فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيعرف مع الزمن المتجدد فهي تتسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات .. وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة (5).
ومعنى «رباط الخيل» قال النسفي: هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى (6)، وقال صاحب تفسير المنار: الرباط في أصل اللغة: الحبل الذي يربط به الدابة،
ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها (7) , ومعنى {تُرْهِبُونَ بِهِ" أي: تخزون،
_________
(1) مسلم مع شرح النووي، كتاب الجهاد، باب: فضل الرمي (13/ 64).
(2) (،3) مسلم، كتاب الإيمان، باب: إن الدين النصيحة (1/ 74).
(3) تفسير المنار (5/ 53).
(4)
(5) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص89.
(6) انظر: تفسير النسفي.
(7) تفسير المنار (10/ 16).(1/258)
كما قال الطبري (1)، وقال ابن كثير: تخوفون به (2)، وقال الشيخ المراغي: الرهبة: هي الخوف
المقترن بالاضطراب (3).
ومعنى {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ" قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين غير الذي أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أن يشرد بهم من خلفه (4)، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها ثم قال: وأصح ما قيل في المقصود منهم: «أنهم المنافقون» (5).
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء, فقال جل شأنه: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ ... " ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أمورًا كثيرة:
1 - أنهم لا يتجرءون على دخول دار الإسلام.
2 - أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع الجزية.
3 - أنه ربما صار ذلك داعيا إلى الإيمان لما يرون من قوة أهله وعزته.
4 - أنهم لا يعينون سائر الكفار.
5 - أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام (6).
ويقول صاحب الظلال: الإسلام يأمر بأعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، فلابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.
وأهمية القوة بالنسبة للدعوة الإسلامية تتلخص في أمور:
الأمر الأول: أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يُصدون عنها، ولا يفتنون كذلك بعد اعتناقها.
_________
(1) تفسير الطبري (6/ 22)
(2) تفسير ابن كثير (2/ 322)
(3) تفسير المراغي (4/ 23)
(4) تفسير الطبري (6/ 22)
(5) مفاتيح الغيب (7/ 533).
(6) المصدر نفسه (7/ 324) وما بعدها.(1/259)
الأمر الثاني: أن ترهب هذه القوة أعداء الإسلام، فلا يفكروا في الاعتداء على حرمات الإسلام.
الأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه الدين الإسلامي وهو ينطلق لتبليغ كلمة الله إلى الإنسان في كل الأرض.
الأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة «الألوهية» من دون الله رب العالمين (1).
وبما أن الأمة الإسلامية أمة مجاهدة، فلابد أن تكون هذه الأمة قوية حتى تستطيع أن تنهض بهذه الرسالة التي أنيطت بها، ولذلك حث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمنين أن يكونوا أقوياء، وعلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (2).
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة, فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد، ويقابلوا الريح بالإعصار، ويقاتلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يدهم وبكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون (3).
إن هذا الإعداد الشامل من أجل تمكين الله يدخل تحت مسمى الجهاد والذي بدونه يستحال التمكين لشرع الله وإقامة دولة تحكم بمنهج الله، يقول الشيخ محمد الغزالي: «إن التغيير الإسلامي الذي تنشده الأمة الإسلامية لا يمكن تحقيقه من غير جهاد، وبدون صياغة جيل مجاهد، فالمهمة التغييرية مهمة شاقة، فالقوى الظاهرة والخفية القابضة على الزمام في عالمنا قوى شريرة، وقد هيأها
_________
(1) في ظلال القرآن (3/ 3154) مع تصرف.
(2) مسلم مع شرح النووي كتاب 6، (16/ 215)
(3) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن الندوي، ص225.(1/260)
أعداء لهذا الدور من زمن بعيد، وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت الإسلام بشتى الطرق والوسائل, وإزالة هذه القوى، وإقامة الإسلام مكانها ليس بالأمر السهل، فهي ستتشبث بمواقعها حتى النفس الأخير وذلك يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة، ويعيشون همَّ الإسلام وقضاياه ليلهم ونهارهم. لابد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن تصمد في هذا الصراع الجبار, وتقف في وجه المؤامرات، وتجاهد في كل المجالات والجبهات، وتدفع ثمن التمكين لدين الله في الأرض من زهرة
أبنائها الشهداء (1).
«إن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مصاعد المجد أن تجاهد -بمالها ونفسها- الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مرارا عديدة، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف» (2).
* * *
_________
(1) ركائز الإيمان بين العقل والقلب، ص75 بتصرف.
(2) انظر: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ الأمير شكيب أرسلان، ص164.(1/261)
المبحث الثاني
الأسباب المعنوية
ويحتل الإعداد المعنوي المكانة الأولى، حتى إن التمكين ليرتبط بالدرجة الأولى بمدى الأخذ بهذه الأسباب ومن أهمها:
أولاً: إعداد الأفراد الربانيين:
ولقد رسم لنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهجا متميزا في تربية الأفراد على معاني الربانية وتحمل أداء رسالة رب البرية، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مهتما ببناء القاعدة الصلبة وتربية أتباعه على معاني العقيدة الصحيحة، فقد حرص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ اليوم الأول من بعثته على أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم، واستقامت فطرتهم، ولقد ركز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تربيته لأصحابه على عدة جوانب منها:
1 - أن الله منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
2 - وأنه سبحانه خالق كل شيء، ومالكه، ومدبر أمره {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
وَالأمْرُ} [الأعراف: 54].
3 - وأنه تعالى جده مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53].
4 - وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ولا ما يخفى الإنسان وما يعلن: {وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
5 - وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].(1/262)
6 - وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون، ليعرف الناس معادنهم، من منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهرا وباطنا، فيكون جديرا بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط، فلا يساوي شيئا، ولا يسند إليه شيء: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].
7 - وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه، ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر: {إِنَّ وَلِيَّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].
8 - وأنه وأن حقه سبحانه وتعالى على العباد أن يعبدوه، ويوحدوه، فلا يشركوا به شيئا: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66].
9 - وأنه - سبحانه - حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن العظيم.
وظل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطرق معهم هذه الجوانب، ويكرر على أصحابه ومن آمن به, ويفتح عيونهم عليها من خلال الكتاب المنظور، والكون المسطور حتى خشعت قلوبهم وسمت أرواحهم, وطهرت نفوسهم، ونشأ لديهم تصور وإدراك لحقيقة ومضمون الألوهية يخالف تصورهم الأول، وإدراكهم القديم (1).
واهتم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لأصحابه موقنا أن من عرف منهم عاقبته، وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة، سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل، حتى يظفر غدا بهذه النجاة, وذلك الفوز، وركز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا البيان على الجوانب التالية:
1 - أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم،
_________
(1) انظر: منهج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غرس الروح الجهادية، د. سيد نوح، ص10: 160.(1/263)
فإنه قليل حقير: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77].
2 - وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسئولون ومحاسبون, وفي الجنة أو في النار مستقرون: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36].
3 - وأن نعيم الجنة ينسى كل تعب ومرارة في الدنيا، وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207].
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
4 - وأن الناس مع زوال الدنيا، واستقرارهم في الجنة، أو في النار، سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1،2].
وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا - السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل: 17، 18].
5 - وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال، ومن تلك الشدائد، والظفر بالجنة والبعد عن النار (1)، بالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].
_________
(1) انظر: منهج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غرس الروح الجهادية، د. سيد نوح ص19: 34.(1/264)
ومضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم، ورسالتهم في الأرض، وتأثرا بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم، وما في طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة (1).
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرص على إعداد أصحابه إعدادًا ربانيا وكانت خطواته تتم بكل هدوء وتدرج وسرية، وانصبت أهدافه التربوية على تعليم الكتاب والسنة وتلاوة القرآن الكريم وتطهير النفوس من أمراضها، وإعداد الأفراد لتحمل تكاليف الدعوة والرسالة، وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاة من بعده ذلك التوجيه المتمثل في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
فالآية الكريمة تأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة, وأن لا يغرر مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصا، ولا يطيع فيهم متكبرا أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها (2).
_________
(1) انظر: المصدر نفسه، ص37.
(2) انظر: الطريق إلى جماعة المسلمين، ص170.(1/265)
هذه المنهجية التي رسمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إعداد الأفراد إعدادا ربانيا على زعماء وقادة الحركات الإسلامية أن يسيروا على نفس المنهج الذي سار عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , والذي في حقيقته تفسير للقرآن الكريم، وإن الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا الشخصية الربانية في عدة صفات منها:
أ- الصبر:
في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ".
إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويوصى الناس بعضهم بعضا وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران.
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة.
1 - الإيمان بالله.
2 - العمل الصالح.
3 - التواصي بالحق.
4 - التواصي بالصبر.
لأن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح وكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، والتواصي بالصبر ضرورة لأن القيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم وبعد النهاية (1).
إن كلمة الصبر قصيرة سهلة لا تجاوز ثلاثة حروف, يستطيع كل إنسان أن ينطقها، وأن يوصي بها، ولكن معاناتها أمر آخر, والصبر في حقيقته أنواع منها،
_________
(1) انظر: الظلال (6/ 3968).(1/266)
صبر عن المعاصي وهو واجب على كل مؤمن فضلا عن الدعاة، وصبر على الطاعات، وهو واجب كل مؤمن فضلا عن الدعاة وإن كان عليهم أن يستزيدوا من الطاعات، لأن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
وصبر على البلاء، وهو وإن كان واجبا على المؤمن، إلا أنه بالنسبة للداعية أوجب لما يترتب على الدعوة من تعرض للبلاء.
ب- كثرة الدعاء والإلحاح على الله:
وهذا يظهر في قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] , فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات، فلابد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء الأمانة على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر, قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9].
وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدو, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
لأنه سبحانه النصير, فنعم المولى ونعم النصير، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] , ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو ربه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمده بجنوده، ومن ذلك أنه نظر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا, فاستقبل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة ورفع يديه واستغاث بالله، وما زال يطلب المدد من الله وحده مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه،(1/267)
ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك, فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة (1) .. وهكذا كان يدعو الله في جميع معاركه ومن ذلك قوله: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم» وكان يقول عند لقاء العدو «اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أجول، وبك أصول، وبل أقاتل» (2).
ج- الإخلاص:
ويظهر في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] ولابد عند إعداد الأفراد إعدادا ربانيا أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله وأعماله وجهاده كلها لوجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر, وحتى يصبح جنديا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 162].
إن الإخلاص ركن من أركان قبول العمل، ومعلوم أن العمل عند الله تعالى لا يقبل إلا بالإخلاص وتصحيح النية وبموافقة السنة والشرع.
وبالإخلاص تتحقق صحة الباطن، وقد جاء فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» (3) فهذا هو ميزان الباطن، وأما في موافقة السنة، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (4).
_________
(1) مسلم (3/ 1383) كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة (3/ 1383) رقم 1763.
(2) صحيح أبي داود (2/ 499) كتاب الجهاد، باب: ما يدعي عند اللقاء (2/ 499) رقم 2291.
(3) صحيح أبي داود (2/ 286).
(4) البخاري (5/ 172)، كتاب آيات القرآن، باب: إن الناس قد جمعوا (5/ 203).(1/268)
وقد جمع الله الأمرين في أكثر من آية, قال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22]، فإسلام الوجه لله، إخلاص القصد والعمل له، والإحسان فيه، ومتابعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنته.
د- الثبات:
ويظهر في قوله تعالى: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]. وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
ففي الآية الكريمة ثلاثة صفات، إيمان ورجولة وصدق, ترتب عليها أن منهم {مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً".
وعلى ذلك يتضح أن الثبات يحتاج إلى ثلاثة عناصر: إيمان، ورجولة، وصدق. إيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة والتثبت بها، وباعث على التضحية بالنفس ليبقي المبدأ الرفيع، ورجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف، غير مهتمة بالصغائر والصغار، وإنما دائما دافعة نحو الهدف الأسمى والمبدأ الرفيع. وصدق يحول دون التحول أو التغير أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله، الثبات الذي لا يتلون معه الإنسان وإن رأى شعاع السيف على رقبته أو رأى حبل المشنقة ينتظره أو رأى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها.
ولا شك أن اللبنات التي تعد لحمل أعباء الجهاد تحتاج إلى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية والغايات الجميلة والقيم الرفيعة (1).
هـ- تربية الأفراد على الإيمان بالقضاء والقدر:
إن استيعاب حقيقة القضاء والقدر والإيمان بها كما جاءت في القرآن والسنة
_________
(1) دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، ص91، 92.(1/269)
تجعل أفراد المسلمين ينطلقون في هذه الحياة انطلاقة هادفة نحو المقاصد النبيلة.
وقد جاءت الأدلة من القرآن الكريم توضح قضية القدر, قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38] , وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] , وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]. وأما أدلة السنة، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (1).
وروى مسلم في الصحيح عن طاوس قال: «أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» (2).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا, ولكن قل قدر الله وما شاء فعل» (3).
إن الإيمان بالقضاء والقدر يجعل الأفراد العاملين في الدعوة والذين يسعون لتحكيم شرع الله تعالى يتذوقون ثمارا كثيرة تجعلهم يبذلون الغالي والرخيص من أجل عقيدتهم ودينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم.
ويستفيدون من تلك الثمار اليانعة في مسيرتهم الدعوية المباركة، بل هذه الثمرات تعود بالخير العميم على الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة.
ومن أهم هذه الثمرات:
1 - أداء عبادة الله عز وجل، فالقدر مما تعبدنا الله سبحانه وتعالى بالإيمان به.
2 - الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك، لأن الذي يؤمن بالقدر على الوجه الصحيح يتخلص من آفات ربما توقعه في الشرك بالله، أما الإيمان الصحيح بالقدر فهو طريق توحيد الله تعالى.
_________
(1) مسلم, كتاب الإيمان، باب ما جاء في القدر (1/ 38) رقم 8.
(2) مسلم, كتاب القدر، باب كل شيء بقدر (4/ 2045) رقم 2655.
(3) مسلم, كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز (4/ 2053) رقم 2664.(1/270)
3 - الشجاعة والإقدام، فالذي يؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت إلا إذا جاء أجله ولا يناله إلا ما كتب له، فيقدم غير هياب، ولا مبالٍ بما يناله من الأذى والمصائب في سبيل الله، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم ما قد لا أرهبه ... وإذا قدر لا ينجى الحذر (1)
4 - قوة الإيمان، فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه، فلا يتخلى عنه ولا يتزعزع أو يتضعضع مهما ناله في ذلك طالما في سبيل الله.
5 - الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب، فالذين لا يؤمنون بالقدر ربما يؤدي الجزع ببعضهم إلى أن يكفروا بالله، وبعضهم يجن، وبعضهم يصبح موسوسا، وبعضهم يلجأ إلى المخدرات، وبعضهم يقتل نفسه، ولذلك يكثر الانتحار في البلاد التي لا يؤمن أهلها بالقدر كأمريكا، والسويد والنرويج، بل إن الأمر وصل بالسويد إلى أن يفتحوا مستشفيات للانتحار، وأسباب ذلك ترجع إلى أمور تافهة، فبعضهم ينتحر بسبب تخلي خطيبته عنه, وبعضهم بسبب رسوبه في الامتحان, وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، وقد يكون الانتحار جماعيا (2).
6 - الهداية كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
7 - الكرم، فالذي يؤمن بالقدر، وأن الفقر والغنى بيد الله, وأنه لا يفتقر إلا إذا قدر الله له ذلك، فإنه ينفق ولا يبالي.
8 - الإخلاص، فالذي يؤمن بالقدر لا يعمل لأجل الناس، لعلمه أنهم لا ينفعونه إلا بشيء قد كتبه الله له.
_________
(1) ديوان الإمام علي ص (79، 80).
(2) انظر: الإيمان بالقضاء والقدر لمحمد إبراهيم، ص25.(1/271)
9 - إحسان الظن بالله وقوة الرجاء، فالمؤمن بالقدر حسن الظن بالله، قوى الرجاء به في كل أحواله.
10 - الخوف والحذر من الله، فالمؤمن بالقدر على حذر من الله تعالى، إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فلا يغتر بعمله مهما كان كثيرا، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء والخواتيم علمها عند الله.
11 - الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بينهم, وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فالإيمان منه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، فأعطى من شاء ومنع من شاء ابتلاء وامتحانا منه عز وجل، وأنه حين يحسد غيره، إنما يعترض على القدر (1).
12 - التوكل واليقين والاستسلام لله، والاعتماد عليه كما قال تعالى: {قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة: 51].
13 - عدم الاعتماد على الكهان والمنجمين والمشعوذين والتمسح بأتربة القبور ودعاء غير الله، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، لأنها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
14 - التواضع، فالمؤمن بالقدر إذا رزقه الله بمال، أو جاه، أو علم، أو غير ذلك تواضع لله، لعلمه أن هذا من الله، ولو شاء الله لانتزعه منه، وإنه على كل شيء قدير.
15 - ومن ثمرات الإيمان بالقدر، السلامة من الاعتراض على أحكام الله الشرعية، وأقداره الكونية والتسليم لله في ذلك كله.
16 - ومن ثمراته الجد والحزم في الأمور, والحرص على كل خير ديني أو دنيوي، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا
_________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية، عدد 34، ص250، مبحث وسطية أهل السنة في القدر.(1/272)
تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل» (1).
17 - الشكر، فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فمن الله وحده، وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة، فينبعث بسبب ذلك إلى شكر الله إذ هو المنعم المتفضل الذي قدر له ذلك وهو المستحق للشكر، وهذا لا يعني ألا يشكر الناس.
18 - الرضا، فيرضى بالله ربا مدبرا مشرعا، فتمتلئ نفسه بالرضا عن ربه فإذا رضي بالله أرضاه الله عز وجل، «فالرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا، ومستراح العابدين» (2).
19 - فرح المؤمن بذلك الإيمان بالقدر الذي حُرمت منه أمم كثيرة, قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
20 - الاستقامة على المنهج سواء في السراء والضراء، فالعباد فيهم قصور، ونقص وضعف لا يستقيمون على منهج سواء إلا من آمن بالقدر، فإن النعمة لا تبطره والمصيبة لا تقنطه.
21 - عدم اليأس من انتصار الحق, فالمؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقبة للمتقين، وأن قدر الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يدب اليأس إلى قلبه، ولا يعرف إليه طريقا مهما احلولكت ظلمة الباطل.
22 - علو الهمة وعدم الرضا بالدون، وعدم الرضا بالواقع الأليم، فالمؤمن بالقدر تجده عالي الهمة لا يرضى بالدون ولا بالواقع الأليم المر، ولا يستسلم له محتجًا بالقدر، إذ أن هذا ليس مجال الاحتجاج بالقدر، لأنه ليس من المصائب، والاحتجاج بالقدر إنما يسوغ عند المصائب دون المعائب، بل إن إيمانه بالقدر يحتم عليه أن يسعى سعيًا حثيثًا لتغيير هذا الواقع حسب قدرته واستطاعته (3).
_________
(1) مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4/ 2052) رقم 2664.
(2) جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 476).
(3) انظر: الإيمان بالقضاء والقدر، ص29.(1/273)
23 - الإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله عز وجل فيما يقدره من خير أو شر, قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنة (1)
وقال آخر:
تجري الأمور على حكم القضاء وفي ... طي الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرني ما كنت أحذره ... وربما ساءني ما كنت أرجوه (2)
24 - ومن ثمراته: عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين، فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه، ويدرك أن الله كافيه وحسبه ورازقه، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس والإجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين، وقطع الطمع مما في أيديه, والتوجه بالقلب إلى رب العالمين، وهذا أساس فلاحه ورأس نجاحه (3).
25 - سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال، فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هدف منشود، فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها، وإنك لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين، من سكون القلب، وطمأنينة النفس ما لا يخطر على بال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال فلهم في ذلك الشأن القدم المعلي والنصيب الأوفى, فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول: «أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر» (4).
_________
(1) , (2) انظر: جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى، للغرناطي (3/ 52).
(2) انظر: جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى، للغرناطي (3/ 529
(3) المصدر نفسه (29، 30)
(4) جامع العلوم والحكم (1/ 287).(1/274)
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) (1).
ويقول مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى السجن: (ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحلت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) (2).
إن هذه الثمار المباركة نتيجة طبيعية عندما يتربى الأفراد على مفهوم القضاء والقدر كما جاء في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين, وتجعلهم يسعون بما يملكون من أجل التمكين لدين الله وإقامة شرع الله ويستبشرون بسقوط الشهداء في الطريق ولا يهابون أحدا إلا الله تعالى.
هذه بعض الصفات والمعاني المهمة التي يجب أن يتربى عليها الأفراد حتى يكونوا ربانيين، فعند وصولنا إلى إعداد الفرد الرباني، نكون قد قطعنا خطوة طيبة في الأخذ بسبب مهم من أسباب التمكين.
ثانيًا: القيادة الربانية:
إن من أخطر عوائق التمكين غياب القيادة الربانية, وذلك أن قادة الأمة هم عصب حياتها، وبمنزلة الرأس من جسدها، فإذا صلح القادة صلحت الأمة, وإذا فسد القادة صار هذا الفساد إلى الأمة، ولقد فطن أعداء الإسلام لأهمية القيادة في حياة الأمة الإسلامية، ولذلك حرصوا كل الحرص على ألا يمكنوا القيادات الربانية من امتلاك نواصي الأمور وأزمة الحكم في الأمة الإسلامية, ففي خطة لويس التاسع أوصى بـ «عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية من أن يقوم بها حاكم صالح» كما أوصى بـ «العمل على إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة» (3).
_________
(1) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي، ص34.
(2) شيخ الإسلام ابن تيمية جهاده ودعوته وعقيدته، أحمد القطان ومحمد الزين، ص101.
(3) قادة الغرب يقولون، جلال العالم ص63.(1/275)
وصرح المستشرق البريطاني «مونتجومري وات» في جريدة التايمز اللندنية قائلا: «إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى» (1)، وقال المستشرق الصهيوني: «برنارد لويس» تحت عنوان: «عودة الإسلام» في دراسة نشرها عام 1976م: « ... إن غياب القيادة العصرية المثقفة؛ القيادة التي تخدم الإسلام بما يقتضيه العصر من علم وتنظيم، إن غياب هذه القيادة قد قيدت حركة الإسلام كقوة منتصرة، ومنع غياب هذه القيادات الحركات الإسلامية من أن تكون منافسا خطيرا على السلطة في العالم الإسلامي, لكن هذه الحركات يمكن أن تتحول إلى قوى سياسية هائلة إذا تهيأ لهذا النوع من القيادة» (2).
ويظهر للباحث أهمية القيادة الربانية في فقه التمكين، وقد تكلم العلماء عن صفات القائد الرباني ونجملها في أمور ونركز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات: سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة، والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، وحسن اختياره لمعاونيه، والتواضع، وقبول التضحية، والحلم، والصبر وعلو الهمة، والتميز بخفة الروح والدعابة، والحزم والإرادة القوية، والعدل والاحترام المتبادل والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات.
إن من أهم أسباب التمكين أن يتولى أمور الدعوة وقيادة المسلمين قيادة ربانية قد جرى الإيمان في قلبها وعروقها وانعكست ثماره على جوارحها وتفجرت صفات التقوى في أعمالها وسكناتها وأحوالها.
إن القيادة الربانية تستطيع أن تنتقل بفضل الله وتوفيقه بالحركة نحو أهدافها
_________
(1) قادة العالم يقولون، ص25.
(2) التمكين للأمة الإسلامية، ص185.(1/276)
المرسومة بخطوات ثابتة, ولابد أن يكون العلماء الربانيون هم قلب القيادة الربانية وعقلها المفكر حتى تسير الحركة والأمة على بصيرة وهدى وعلم.
ولابد أن نحدد من هم العلماء الذين يكونون على رأس القيادة الربانية.
والعلماء المقصودون هم: العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، الذين وهبهم الله الحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ} [البقرة: 269].
والعلماء هم: الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في الفقه، والعلم, وأمور الدين والدنيا (1).
والعلماء هم: (فقهاء الإسلام، ومن دار الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعُنوا بضبط قواعد الحلال والحرام) (2).
والعلماء هم: أئمة الدين، نالوا هذه المنزلة العظيمة بالاجتهاد والصبر واليقين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
والعلماء هم: ورثة الأنبياء، ورثوا عنهم العلم، فهم يحملونه في صدورهم وينطبع في الجملة - على أعمالهم - ويدعون الناس إليه، والعلماء هم: الفرقة التي نفرت من هذه الأمة لتتفقه في دين الله، ثم تقوم بواجب الدعوة، ومهمة الإنذار {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
والعلماء هم هداة الناس الذين لا يخلو زمان منهم حتى يأتي أمر الله، فهم رأس الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة, يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) (3).
_________
(1) تفسير الطبري (3/ 327).
(2) ابن القيم، أعلام الموقعين (1/ 7).
(3) البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال ... » (8/ 189) رقم 7311.(1/277)
كيف يعرف العلماء؟
إن العلماء يعرفون بعلمهم، فالعلم هو الميزة التي تميزهم عن غيرهم، فهم إن جهل الناس نطقوا بالعلم الموروث عن إمام المرسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ويعرفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبهة، حيث تزيغ الأفهام فلا يسلم إلا من آتاه الله العلم، أو من اتبع أهل العلم).
فالعلماء أطواد ثابتة، لأنهم أهل اليقين الراسخ الذي اكتسبوه بالعلم، يقول الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: (إن الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبهة بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا، لأنه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرسُ العلم وجيشه مغلولة مغلوبة) (1).
إن العلماء يعرفون -أيضا- بجهادهم، ودعوتهم إلى الله عز وجل, وبذلهم الأوقات، والجهود في سبيل الله.
ويعرفون بنسكهم وخشيتهم لله، لأنهم أعرف الناس بالله, يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثني عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى» (2).
وهذا حق، فالمسلمون شهداء الله في أرضه (3).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وجبت». ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: «وجبت». فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟
_________
(1) مفتاح دار السعادة (1/ 140).
(2) الفتاوى (11/ 43).
(3) انظر: قواعد في التعامل مع العلماء، د. اللويحق، ص26.(1/278)
قال: «هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار, أنتم شهداء الله في الأرض» (1).
ومما يعرف به العالم شهادة مشايخه له بالعلم، فقد دأب علماء المسلمين من سلف هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان على توريث علومهم، الذين يتبوؤون من بعدهم منازلهم وتصبح لهم الريادة، والإمامة في الأمة، ولا يتصدر هؤلاء التلاميذ حتى يروا إقرار مشايخهم لهم بالعلم، وإذنهم لهم بالتصدر، والإفتاء والتدريس.
قال الإمام مالك - رحمه الله -: (لا ينبغي لرجل يرى نفسه أهلا لشيء حتى
يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة (2) ويحيى بن سعيد (3)
فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت) (4).
وقال: ( ... ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للتحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلا لذلك جلس, وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع ذلك) (5).
هذه بعض الدلائل الدالة على علم العالم، أما المناصب ونحوها ليست الدليل على العلم.
إن العلماء لا يحددون ويختارون عن طريق الانتخابات، ولا عن طريق التعيين الوظيفي، أو الشهادات الجامعية والدرجات والألقاب العلمية، فكأين من عالم في تاريخ الأمة تصدر وعلا ذكره، وأصبح إماما للأمة كلها، وهو لم
_________
(1) البخاري، كتاب الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت (2/ 132) رقم 1367.
(2) هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ الإمام المفتي، عالم الوقت مفتي المدينة المشهور بربيعة الرأي، كان من أهل الاجتهاد (ت 136هـ) , سير أعلام النبلاء (6/ 89).
(3) هو الإمام يحيى بن سعيد أبو سعيد القطان توفي (198هـ) , تهذيب التهذيب 11/ 16.
(4) صفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان (7).
(5) ابن فرحون الديباج ص (21).(1/279)
يعرف المناصب، وما الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية إلا مثل من هذا التاريخ الطويل.
وهذا لا يعني أن كل من عين في منصب علمي ليس بعالم، بل المراد أن المنصب ليس دليلا على العلم، وإلا فإن الشأن عندما يكون الحاكم خيرا، أن يكون الولاة، والقضاة، والمفتون كذلك، بل قد يوجد في عهد ظالم قضاة عادلون ومفتون ثقات (1).
وهناك ملاحظة مهمة جدا ألا وهي التفريق بين العلماء وبين ما قد يشتبه بهم.
فلابد من التفريق بين العلماء والقراء:
إن هناك بونًا شاسعًا بين القارئ للعلوم الشرعية والفقيه فيها.
إن القارئ لديه نتف وجزئيات أمسك بها من خلال قراءته لبعض الكتب، وإطلاعه على أقوال أهل العلم فهو لم يعان العلم، ولم يشافه العلماء، ولم يزاحمهم بالركب في الحِلَق، ولذلك فإنه وإن رأيته متضلعا في موضوع من موضوعات الفقه والشريعة إلا أنه يغلق عليه عندما يسأله في مسألة من مسائل العلم (2).
أما العالم الفقيه فليس كأولئك، بل هو ذو فهم شامل عام للإسلام، وإطلاع على مجمل الأحكام الشرعية، فهو لم يقرأ نتفا، بل درس العلوم الشرعية دراسة شمولية عامة، فمر على مسائل العلم واستطاع تخريجها على أصولها وأصبحت لديه ملكة فهم النصوص، وعرف مقاصد الشريعة وأهدافها.
إن علمه لم يأته من قراءة ليلة، بل من سهر الليالي ومعاناة الأيام، فشأن العلماء أنهم لا يقفون عند حد في التعلم، بل هم دائمو الطلب، دائبو التعلم (3).
_________
(1) قواعد في التعامل مع العلماء، ص28.
(2) نفس المصدر السابق, ص 32.
(3) قواعد في التعامل مع العلماء، ص33.(1/280)
ولابد - أيضا - من التفريق بين العلماء والمفكرين والمثقفين، إن مفكري الأمة لهم مكانتهم، وبعضهم قد نفع الله عز وجل بهم نفعا كبيرا، ولكنهم مع ذلك لن يغنوا عن العلماء شيئا إلا في حدود علمهم وقدرتهم. كما أن المثقفين وهم فئة من الأخيار الصالحين ذوي تخصصات علمية برزوا فيها سواء في العلوم التجريبية مثل: الطب والهندسة والكيمياء أو في العلوم المسماة بـ: «العلوم الإنسانية» مثل علم النفس، وعلم التربية، وعلم الاجتماع, فهؤلاء وإن حُمد لهم تخصصهم في مثل هذه العلوم فصاروا مرجعًا فيها فإنهم غير مختصين في العلوم الشرعية، وهم في الاصطلاح العلمي الشرعي جمهور المسلمين، وعوامهم الذين يجب أن يكونوا وراء العلماء.
ويجب أن يرجعوا للعلماء في أمور الشريعة، ويكونوا عونًا لهم في شرح واقع تخصصاتهم، فالطبيب يشرح الأمور الطبية، والاقتصادي يشرح الجوانب الاقتصادية العصرية وهكذا، وإن كلام هؤلاء (المفكرين) والمثقفين يجب أن يكون محكومًا بالشرع، وأما إذا بنى هؤلاء المثقفون و (المفكرون) كلامهم في أمور الشريعة، وأحوال الأمة العامة على أساس من العقول والأهواء، وإطلاق القول بالمصالح دون نظر في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقوال العلماء الراسخين، فإنهم بذلك يكونون أشبه بأهل الكلام وقد (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والفقه ويتفاضلون فيه بالإتقان والفهم) (1).
ولابد من التفريق بين العلماء والخطباء والوعاظ:
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وإن بعدكم زمانا كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل» (2).
_________
(1) جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 96)
(2) البخاري، كتاب الأدب المفرد، ص346، ح789.(1/281)
إن العالم قد يكون عييا لا يحسن الكلام، أو هو - بطبعه - قليل الكلام غير قادر على الخطابة، وقد يكون من العوام من هو بليغ اللسان يقلب الألفاظ كيف يشاء.
هذا التفريق مهم جدا فيما بين العلماء الراسخين وممن يشتبه بهم، ولذلك لابد أن يقود العمل الإسلامي القادة الربانيون وعلى رأسهم العلماء الراسخون.
إن الشريعة الإسلامية أعطت اعتبارا للعلماء وبنته على أمرين مهمين:
1 - أن طاعتهم طاعة لله عز وجل ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتزام أمرهم واجب.
2 - أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها، بل هي تبع لطاعة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والأدلة على هذه المنزلة وهذا الاعتبار للعلماء في الشريعة غير منحصرة فمنها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وقد اختلف المفسرون في أولي الأمر منهم على أقوال:
فقيل: هم السلاطين وذوو القدرة.
وقيل: هم أهل العلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يعني أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده» (1).
ويقول ابن كثير - رحمه الله -: «والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء» (2).
_________
(1) تفسير الطبري (5/ 149).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 518)(1/282)
يقول الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: «والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فطاعة الأمراء تبع لطاعة لعلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس لهم تبعا، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما» (1).
الدليل الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره - رحمه الله -: (وعموم هذه الآية، فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه: العلم بالكتاب المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث, وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعية) (2).
الدليل الثالث: أن الله - سبحانه وتعالى - عظم قدرهم فأشهدهم دون غيرهم على أعظم مشهود.
يقول سبحانه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قال العلامة السعدي - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: (وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء، لأن الله خصهم بالذكر من دون البشر، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه، وجزائه, وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة.
_________
(1) أعلام الموقعين (1/ 10) بتحقيق عبد الرؤوف سعد.
(2) تفسير السعدي (4/ 206).(1/283)
وفي ضمن ذلك تعديلهم، وأن الخلق تبع لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا يقادر قدره) (1).
الدليل الرابع: أنهم أهل الفهم عن الله عز وجل:
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
إن الأمثال تضرب للناس كلهم ولكن تعقلها وفهمها خاص بأهل العلم, قال ابن كثير - رحمه الله: (وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه) (2).
وقال الشيخ ابن سعدي - رحمه الله -: (وما يعقلها) أي: بفهمها وتدبرها وتطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب، (إلا العالمون): أي: أهل العلم الحقيقي الذي وصل العلم إلى قلوبهم.
وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحث على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين (3).
الدليل الخامس: أن أهل العلم أبصر الناس بالبشر ومداخل الشر، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل: 27].
قال الشيخ العلامة ابن سعدي - رحمه الله -:
{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" أي: العلماء الربانيون {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ" أي: يوم القيامة {وَالْسُّوءَ" أي: سوء العذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ".
_________
(1) تفسير السعدي (1/ 265).
(2) تفسير القرآن العظيم (3/ 414).
(3) تفسير السعدي (6/ 89).(1/284)
وفي هذه فضيلة أهل العلم، وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند خلقه (1).
ويقول سبحانه في سياق قصة قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ .... } [القصص: 80].
فأهل العلم هنا كانوا متميزين عن غيرهم، فهم بصراء بالشر وعلماء بالخير، فلما رأوا الناس يتمنون مثل ما أوتي قارون، حذروهم من الشر، وبينوا لهم الخير، وأن الدار الآخرة خير لمن آمن وعمل صالحا.
ولم يعرف هؤلاء الذين تمنوا حظوظ الدنيا أن العلماء على الحق إلا حينما حلت عقوبة الله بقارون عندها: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].
ولما كان العلماء هم العارفين بالشر صاروا هم الذين ينهون الناس عن الوقوع فيه، قال تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].
أي: هلا نهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس عن هذه الشرور العظيمة، وهم - أي: العلماء - العارفون بالشر ومداخل الشر فكان لزاما أن يبينوا للناس.
والناس عليهم لزوم طاعة العلماء والاستجابة لتحذيرهم من الشر ونهيهم عن المعاصي (2).
هذه بعض الأدلة في القرآن الكريم، وأقوال المفسرين فيها ترشدنا إلى أهمية العلماء في قيادة الأمة وقيادة الصفوة التي تقود الأمة.
وقد جاءت الأحاديث النبوية في إرشاد الأمة إلى منزلة العلماء:
_________
(1) تفسير السعدي (4/ 196)
(2) انظر: قواعد في التعامل مع العلماء، ص (53)(1/285)
الدليل الأول: أن العلماء ورثة الأنبياء، وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر:
عن أبي الدرداء (1) - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكنهم ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (2).
قال الإمام ابن رجب (3) - رحمه الله -: «يعني أنهم ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته، والنهي عن معاصي الله والذود عن دين الله» (4).
الدليل الثاني: إن العلماء هم المبلغون عن الأنبياء:
قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم» (5).
فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا العلم يؤخذ بالتلقي وكل جيل من أهل العلم يبلغه لمن بعدهم.
وهؤلاء المبلغون هم المستحقون لدعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها ووعاها، وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
ولقد جمع العلماء بين نقل أقوال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى من بعدهم، وفقه تلك الأقوال وفهمها، فالعالم حامل فقه وفقيه.
_________
(1) هو الصحابي الجليل عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري، توفي عام 133هـ، الإصابة (3/ 46).
(2) رواه أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم (317/ 3) رقم 3641.
(3) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي، توفي 795هـ، شذرات الذهب (6/ 339).
(4) شرح حديث: أبي الدرداء في طلب العلم، ص46.
(5) أبو داود، كتاب العلم، باب: فضل نشر العلم (3/ 322) رقم 3660.(1/286)
الدليل الثالث: أن الله أراد بهم الخير:
عن ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (وكل أمة - قبل مبعث نبينا
محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم) (2).
إن الأحاديث في مكانة العلماء كثيرة ونكتفي بهذا القدر، إن الذين يقودون الأمة بغير علم يفسدون أكثر مما يصلحون، وإن العلماء مثل الماء النافع حيثما سقطوا نفعوا، وليس للناس عوض ألبتة عن العلماء إلا أن يكون لهم عوض عن الشمس والعافية، ولا أقصد من كلامي هذا وإطنابي في مكانة العلماء ومنزلتهم في الشريعة أن نقدس ذواتهم وأشخاصهم، فنصبح كبني إسرائيل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
إن الطاعة عندنا، واعتبار العلماء في شرعنا ليس مقصودا لذاته، بل لما قام فيهم من العلم بالله والعلم عن الله عز وجل, وليس سؤال العامي إياهم سؤالا عن رأيهم الشخصي، ولا عن حكمهم الذاتي، بل سؤال عما يفهمون عن الله - عز وجل - عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولابد أن ننبه إلى أمر عظيم ألا وهو أن بعض المنسوبين إلى الخير والصلاح اليوم يعتبرون للعلماء منزلة وطاعة في بعض جوانب الحياة، ويرون أن هناك جوانب أخرى ليس للعلماء فيها اعتبار، وإنما الاعتبار لغيرهم من المفكرين أو الساسة أو الدعاة أو قادة الجماعات أو غيرهم, وهذا أمر لا شك أنه غير صحيح، لأن العلماء يفهمون السياسة الشرعية، وأمور الجهاد، والهدنة والمصالح والمفاسد وغير ذلك من الأحكام التي تتناول مظاهر الحياة جميعا.
_________
(1) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: قول الله {فلله خمسه" (4/ 60) رقم 3116.
(2) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص11).(1/287)
وعلى المختصين في جوانب الحياة من الكوادر الاقتصادية، والسياسية، والطبية، والعسكرية أن يبينوا واقع تخصصاتهم إلى العلماء الربانيين حتى يطبق العلماء الحكم الشرعي على الوقائع المتجددة.
وهناك ملاحظة مهمة، ألا وهي أن العلماء جاء اعتبارهم عن طريق الشرع فإنه لا يرفع هذا الاعتبار إلا الشرع, فإذا قارف العالم عملا أو قال قولا يخرم دينه، ويجعله غير أهل لإمامة الأمة، ولا يستحق أن يكون على رأس قيادتها فإنه يزال عنه اعتبار طاعته وأخذ قوله، وأما إذا كان رفع اعتبار هذا العالم جاء من جهة عدم رضا الناس برأيه أو عزله، أو حسد قرنائه له، فإن ذلك ليس هادما لاعتباره، وإلا لهدمنا اعتبار أئمة الهدى
- من أمثال: أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وغيرهما رحمهم الله - الذين مروا بأحوال وأزمان لم يعتبر الناس لهم فيها رأيا حتى أيدهم الله بتأييده (1).
إن العلماء في مسيرة الحياة الإسلامية دائما وأبدا يتصدرون شعوبهم وأممهم, وبهم تقام الدول ويمكن لشرعه على أيديهم وإليهم المرجع عند الفتن والملاحم والمحن، فلابد من إعطاء العلماء الربانيين المستوعبين لواقعهم العاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والملمين بتاريخ الأمم والدول والشعوب دورهم الطبيعي في الأمة عموما وفي الحركات الإسلامية خصوصا فهذا من فقه التمكين.
ولا شك أننا اليوم في محنة عظيمة وفتن أليمة كقطع الليل المظلم ومن شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها، ويكثر الخلط وتزيغ الأفهام والعقول, والحكمة حينذاك إنما هي للجماعة التي يمثل العلماء رأسها، فالواجب على الناس: الراعي والرعية الأخذ برأي العلماء والصدور عن قولهم، لأن اشتغال عموم الناس بالفتن وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرق للأمة، فالأمور العامة من الأمن أو الخوف مردها إلى أهل العلم والرأي, يقول الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ
_________
(1) انظر: قواعد في التعامل مع العلماء، ص69.(1/288)
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
إن الناس في الفتن يحتاجون إلى فقه المصالح والمفاسد، والعلم بمراتبها فوق حاجتهم إلى العلم بآحاد النصوص الحاكمة على القضايا المعينة, إذ ليست المنكرات العامة المتعلقة بالسياسة الشرعية -وهي في الغالب سبب الفتن- كمسائل الطهارة والصلاة والحج والأحوال الشخصية يقوم فيها الحق - غالبا - على الأدلة التفصيلية، بل قيام العلم في ذلك على أسس منها:
1 - الأدلة الشرعية العامة والقواعد التي يدخل تحتها أمور كثيرة.
2 - مقاصد الشريعة.
3 - الموازنة بين المصالح والمفاسد.
4 - الأدلة التفصيلية.
ولا يمكن للعوام، بل وصغار العلم فهم القضايا الكلية العامة، وإن كان يمكنهم فهم النصوص الجزئية، وكذلك فهم مقاصد الشريعة لا يكون إلا باستقراء مجمل النصوص وتصرفات الشارع، ففقه المقاصد فقه عزيز، لا يناله كل أحد بل لا يصل إليه إلا من ارتقى في مدارج العلم، واطلع على واقع الحال، وقلب النظر في الاحتمالات التي
يظن حدوثها.
والموازنة بين المصالح والمفاسد تحتاج إلى فهم للشريعة ومقاصدها وفهم للواقع ومراتب المصالح والمفاسد وهذا كله لا يكون إلا للعلماء (1). إن تصدر العامة الذين لا يفهمون كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشتت المسلمين ويفرق وحدتهم، لأن العوام لا يتصور اتفاقهم على أمر إذا لم يكن لهم سراة يصدرون عن رأيهم، ولذلك كان الرد إلى أهل الحل والعقد.
_________
(1) انظر: قواعد في التعامل مع العلماء، ص121.(1/289)
إن قيام مسألة الإنكار في الأمور العامة هو على فهم مسألة عظيمة هي، الإمكان وعدم الإمكان, وتحديد هذا الإمكان وعدمه ليس إلى جمهور الناس وعوامهم، بل هو إلى العلماء بشرع الله البصراء بواقع الناس (1).
فلابد من وضع الثقة بالعلماء الربانيين، فكثير من الناس من يطالب العلماء بعمل من الأعمال هم عنه ممتنعون، وما امتناعهم عنه إلا لنظرهم من مآلات الأمور وعواقبها.
إذ بعض المصالح قد يمتنع عنه لما يؤدي إليه من المآل من المفاسد العظمى، والدين الإسلامي يراعي المصالح، فلا يقر اعتبار مصلحة دنيا على حساب وقوع مفسدة عظمى.
ألا ترى أن قتل المنافق الثابت نفاقه، المعروف باستهزائه بآيات الله وبرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالمؤمنين .. أمر مشروع بل موجب للقتل، وهو الردة ومفارقة الدين؟
فقد امتنع عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد, فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (2) أنه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري، يا للمهاجرين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بال دعوى الجاهلية» قالوا: يا رسول الله, كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار, فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمعها عبد الله بن أبي، فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» (3).
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتنع عن قتل المنافق خشية أن يتحدث الناس أن رسول الله
_________
(1) المصدر نفسه، ص123.
(2) هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي، من أهل بيعة الرضوان، شهد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - 19 غزوة، (ت78هـ) وقيل غير ذلك، انظر: الاستيعاب (2/ 109، 110).
(3) البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة المنافقين (6 - 79) رقم 4907.(1/290)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل أصحابه في وقت كانت الدعوة فيه في طور الانتشار، مما ينفر الناس عن الإيمان برسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وهذا المحظور أعظم من المصلحة المتحققة بقتل هذا المنافق (1).
إن وضع الثقة في العلماء الربانيين لخطوة مباركة نحو تحكيم شرع الله والتمكين لدينه.
إن القيادة الربانية والتي على رأسها العلماء الذين وصلوا إلى درجة النظر في فقه الإسلام من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم الذين يجب أن يقودوا العمل الإسلامي والدعوة إلى الله.
إن أعداءنا من اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين أيقنوا أن من أسباب قوة المسلمين التفافهم حول علمائهم وقادتهم، لذلك شنوا هجوما عنيفا من أجل زعزعة ثقة الأمة في علمائها وقادتها, واستعملوا أساليب متنوعة للتشويه والطعن فيهم لأن العلماء هم الوصلة الحقيقية بين الأمة وقرآنها وسنة نبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد لاحظ الاستعمار الأوروبي الحديث ذلك، وما الثورات التي فجرت الاستعمار إلا بقيادة العلماء والقادة الربانيين من المغرب إلى المشرق في كل ديار المسلمين.
ولذلك قام اليهود والنصارى والملاحدة بتشويه صورة القادة والعلماء بواسطة المسرح، والتلفاز، والمجلة والجريدة, والنوادي, والغناء وكل وسائل الإعلام. وإذا أردت أن تعرف هجومهم الإعلامي ابتداء من العقود الماضية، فلتراجع كتاب المشايخ والاستعمار للأستاذ حسني عثمان، فإنه أكد أن القيادة الحكيمة وهي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى، وإقامة دولة الإسلام توقن إيقانا جازما أن المجتمع لن يكون إسلاميا بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان.
_________
(1) انظر: قواعد في التعامل مع العلماء، ص180.(1/291)
إنما يتحقق ذلك بطرق التدرج، والإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية, وإقامة البدائل الإسلامية للأوضاع الجاهلية التي تأسست عليها مؤسسات عدة لأزمنة عديدة.
فهي تعين الهدف، وتضع الخطة وتحدد المراحل، بوعي وصدق، بحيث تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بتخطيط وتنظيم وإرادة قوية معتمدة على الله تعالى حتى تصل المسيرة إلى مرحلة التمكين الفعلي لدولة الإسلام المنشودة.
إن القيادة الربانية الحكيمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعطي للعلوم بأنواعها أهمية وخصوصا علوم الشرع, وتركز على علم المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الخلاف، وفقه الأولويات، وفقه السنن الربانية لأهميتها في زماننا هذا، بل هي من أفضل العدة بعد تقوى الله تعالى للعاملين من أجل تحكيم شرع الله.
إن القيادة الربانية الحكيمة هي التي تفجر طاقات الأمة وهي التي تحتضن الإسلام وتنهجه قلبا وقالبا، جوهرا ومنظرا، وعقيدة وشريعة, ودينا ودولة, وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها وتعمل بكل جهد وإخلاص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية والخارجية.
ثالثًا: محاربة أسباب الفرقة:
إن الانحراف عن كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهدى الصحابة والتابعين، له أسباب كثيرة، منها خارجية أجنبية ومنها داخلية ذاتية.
ومن أهم الأسباب الخارجية:
1 - اتساع الفتوحات الإسلامية، واختلاط المسلمين بالشعوب والأمم الأخرى، وتأثرهم بأفكارهم وثقافاتهم.
2 - دخل كثير من أبناء الشعوب الأخرى في الإسلام ولم ينصهروا في عقيدة(1/292)
الإسلام، وتصوراته كما ينبغي، وحملوا معهم موروثاتهم القديمة ونشروا شبهاتهم بين المسلمين.
3 - اندساس بعض الملاحدة واليهود والمجوس وغيرهم من أصحاب المعتقدات المنحرفة في الإسلام بقصد الكيد له، والنيل منه, وبغية هدمه وتحريفه وتبديله, وذلك بإبعاد المسلمين عن دينهم الصحيح بالتشكيك وإثارة الشبهات، وابتداع العقائد المخالفة لهدى الإسلام الصحيح، ونشروا معتقدات فاسدة، ومناهج منحرفة من أمثلة هؤلاء: (1)
- عبد الله بن سبأ (2) اليهودي الذي تظاهر بالإسلام في خلافة عثمان - رضي الله عنه - , وسعى في الأمصار يدس أفكار الغلو في علي - رضي الله عنه - ابتداء بأنه هو وصي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتهاء بادعاء الألوهية, فيه وغير ذلك من الاعتقادات التي كانت أساس الرفض (3).
- وبشر المريسى (4) اليهودي الذي كان له دور كبير في فتنة خلق القرآن، وتعطيل صفات رب العالمين (5). وغيرهم كثير من أهل الزيغ والضلال ممن نشروا البدع، والمعتقدات الفاسدة، والتصورات المنحرفة، ولا شك أن الأسباب الخارجية ساهمت في فرقة الأمة وتمزيق وحدتها وهي من الموضوعات المتشعبة والطويلة والتي لابد من دراستها دراسة عميقة متأنية تكشف من خلالها أسبابها وأثرها في الأمة مثل: غزو المغول، والحملات الصليبية، وترجمة الفلسفات اليونانية
_________
(1) انظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، د. جمال بادي، ص135، 136.
(2) عبد الله بن سبأ اليهودي قيل: أصله من صنعاء وقيل غير ذلك رأس الطائفية السبئية التي كانت تقول بألوهية علي - رضي الله عنه - , أظهر الإسلام ونشر الفتنة بين المسلمين وتذرع بحب آل البيت وكانت له مصائب عظيمة على المسلمين, توفي 40هـ.
(3) انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 86).
(4) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي العدوي، فقيه معتزلي، عارف بالفلسفة، رمى بالزندقة, توفي 218هـ, ميزان الاعتدال (1/ 323).
(5) انظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، ص136.(1/293)
والهندية ... إلخ، ورغم أهمية الأسباب الخارجية فإن الأسباب الداخلية كان لها الأثر الأكبر في إحداث الفرقة وتقسيم صف الجماعة المسلمة .. وتنقسم الأسباب الداخلية إلى أسباب عامة (1) وأسباب منهجية، وأهم الأسباب العامة هي:
1 - الابتداع.
2 - الجهل.
3 - اتباع الهوى.
4 - تحكيم العقل وتقديمه على النصوص.
5 - الهجوم القبيح على أهل السنة.
وأما الأسباب المنهجية فجامعها، مخالفة منهج أهل السنة في النظر والاستدلال (2):
أ- الابتداع:
تعريف البدعة لغة واصطلاحًا:
لغة: تطلق البدعة في اللغة على الشيء المخترع على غير مثال سابق، ويقال لمن أتى بأمر لم يسبقه إليه أحد، أبدع وتبدع: أي: أتى ببدعة (3) , فهي تطلق على الأمر المحدث سواء كان محمودًا أو مذمومًا.
أما اصطلاحًا: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
يتبين من التعريفات السابقة أن المعنى اللغوي أعم وأشمل من المعنى الشرعي.
_________
(1) نص الشاطبي على أن أسباب الوقوع في الاختلاف ثلاثة أمور وهي: الجهل، واتباع الهوى، والتصميم على اتباع العوائد وإن فسدت وإن كانت مخالفة للحق (الاعتصام: 2/ 172 - 180).
(2) انظر: وجوب لزوم الجماعة وذم التفرق، ص137.
(3) القاموس المحيط للفيروز آبادي (3/ 3، 4) , الصحاح للجوهري (3/ 1183)(1/294)
ولا شك أن الابتداع في الدين من أعظم أسباب التفرق، بل هو أعظمها وكان من العوامل التي ساهمت في القضاء على وحدة الأمة الإسلامية، وشتتت شملها وحادت بسببه فرق كثيرة عما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. إن المجتمع المسلم كان متوحدا متآلفا، حتى خرجت البدع على الناس بسمومها وروائحها الكريهة، فقوضت بنيان الأمة، وشتتت شملها، ونخرت في كيانها، كما نخر السوس في الحب، وسرت في جسم الأمة كما يسري السرطان في الدم، أو النار في الهشيم، فلذلك نرى من أسباب التمكين للأمة ووحدة الصف محاربة البدع وذمها وتنفير المسلمين منها، وبيان مضارها وأخطارها وسوء منقلب أهلها.
ولقد سار علماء الأمة على مر العصور، وكر الدهور، وتوالي الأزمان على هذا النهج في محاربة البدعة، وإماتتها، وإظهار السنة وإحيائها.
ومن الأمور التي تظهر خطورة البدعة فيها، ما يصيب الأمة بسببها من العداوة والبغضاء والشحناء.
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة) (1).
ويقول الدكتور توفيق الواعي: «ومن سمات أهل البدع مفارقة الجماعة وشق عصا الطاعة على جماعة المسلمين، لأن الأهواء نزعات وسبل تفرق الجادة» (2).
إن البدع أصابت الأمة في وحدة صفها واجتماع شملها وقوة بنيانها، ولقد أرشدنا القرآن الكريم وأرشدتنا السنة النبوية إلى التمسك بحبل الله المتين ونوره المبين وترك البدع والإحداث في الدين.
_________
(1) الاستقامة (1/ 42).
(2) البدع والمصالح المرسلة، ص214.(1/295)
قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1).
إن محاربة البدع والتمسك بما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه والاقتداء بهم طريق الوحدة واجتماع كلمة الأمة, وقوة بنيانها ورصانة دعائمها، ومتانة قواعدها وإرجاع مجدها وعزتها, ومن أهم الأسباب للتمكين لهذا الدين.
ب- الجهل:
إن الجهل من أعظم أسباب الوقوع في المحرمات جميعها من كفر وفسوق وعصيان، ومن أعظم الجهل القول على الله بغير علم، وقد جعله الله عز وجل أعلى مراتب المحرمات وأعلى درجة من الإشراك به سبحانه, قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].
يقول ابن القيم - رحمه الله -: (وأصل الشرك والكفر، هو القول على الله بلا علم) (2).
وقد نهى الله عباده أن ينسبوا إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عند أنفسهم،
ليس لديهم فيه حجة من الله ولا برهان، فقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
فافتراء الكذب على الله عز وجل أمر خطير وعظيم، فهو تعد على جانب
_________
(1) البخاري، كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح (3/ 22) رقم 2697.
(2) مدارج السالكين (1/ 373).(1/296)
الألوهية، وتطاول على الله عز وجل، وفيه إضلال للعباد، وصدٌّ لهم عن دين الله الحق، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
وقال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
وقال تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
وهذه تربية للمؤمنين، ودعوة للناس أجمعين، بأن يأخذوا الحق ويبحثوا عنه من مصدره الصحيح وهو الوحي فقط لا غير، وأن أي شيء لم يقم عليه دليل ولا برهان من وحي الله فإنه باطل مرفوض, وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية، وجدنا إخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من أشراط الساعة قبض العلم وظهور الجهل، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل» (1).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسا جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأضلوا» (2).
وقال النووي رحمه الله: (هذا الحديث بين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أن يموت حملته ويتخذ الناس جهالا بجهالاتهم فيضلون ويضلون) (3).
_________
(1) البخاري كتاب العلم، باب: رفع العلم، وظهور الجهل (1/ 33) رقم 80.
(2) البخاري كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم (1/ 39) رقم 100.
(3) شرح النووي، كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه (2/ 336، 337) رقم 2136.(1/297)
إن الجهل من الأسباب المؤدية إلى الاختلاف والتفرق والابتعاد عن الحق والبعد عنه ورده، وبالتالي تأخير نصر الله وتمكين دينه في الأرض، ولذلك لابد من معرفة أسباب الجهل ومن ثم معالجتها، ومن أخطر الأمور أن يكون على مقدمة الحركة الإسلامية قيادة تجهل كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ولا تعطي للعلماء أي وزن أو اهتمام، بل تعمل على تهميشهم والنيل منهم، وتجعل من عقولهم وأهوائها مصادر للاجتهادات الحركية والفكرية والسلوكية، ومن المعلوم أن ما سوى الشرع موزون وليس بميزان، ومحكوم وليس بحاكم، ولذلك وقع كثير من العقلانيين ومن المتصوفة وغيرهم في
التخبط والضلال والبدع, وبالتالي ساهموا في تفريق الأمة وتشتيتها وإبعادها عن تحكيم شرع ربها.
والدواء النافع للجهل هو العلم، وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة في الحث على طلبه والثناء على أهله وذكر فضله (1).
جـ- الهوى:
عرف أهل اللغة الهوى بأنه: «محبة الإنسان للشيء وغلبته على قلبه» (2).
وأما في الاصطلاح: ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع (3).
ويعتبر اتباع الهوى من أهم الأسباب في نشأة الكثير من الفرق الضالة، والطوائف المنحرفة، لأن أصحاب هذه الفرق قدموا أهواءهم على الشرع أولا، ثم حاولوا جاهدين أن يستدلوا بالشريعة على أهوائهم، وحرفوا النصوص والأدلة لتوافق ما هم عليه من البدع، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، بل اعتمدوا على آرائهم وعقولهم في تقرير ما هم عليه، ثم جعلوا الشريعة مصدرا
_________
(1) انظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ص171.
(2) لسان العرب (15/ 371).
(3) التعريفات للجرجاني، ص257.(1/298)
ثانويا، نظروا فيها بناء على ما قرروه وأصلوه، ولأجل ذلك كان علماء السلف الصالح يطلقون على أهل البدع وفرق الضلالة لفظة «أهل الأهواء» (1)، بل كانوا يطلقونها على كل من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد (2).
ولذلك فكل مخالف لما بعث الله به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأوامر والنواهي، والعبادات، والطاعات إنما يكون متبعا لهواه، ولا يكون متبعًا لدين شرعه الله تبارك وتعالى (3).
والهوى من الأسباب التي لأجلها خالفت كثير من الأمم أنبياءها فاستكبروا ولم يقبلوا الحق والهدى والنور الذي جاءتهم به أنبياؤهم، عليهم السلام.
قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
إن الله تعالى ذكر داود عليه السلام وبيَّن في كتابه أسباب المحافظة على التمكين وذكر من ذلك الابتعاد عن الهوى, قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: «ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس- لا يلام عليه، فإن ذلك قد لا يملك, وإنما يلام على اتباعه» (4).
وقال في موضع آخر: «ومجرد الحب والبغض هوى، لكن المحرم اتباعه حبه وبغضه بغير هدى من الله» (5).
_________
(1) انظر: الاعتصام (2/ 176).
(2) انظر: الفتاوى (28/ 133).
(3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص36.
(4) الفتاوى (28/ 131).
(5) الفتاوى (28/ 133).(1/299)
إن اتباع الهوى من أسباب الفرقة, والفرقة من أسباب تأخر التمكين، فإذن فعلى المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية، الحريصين على تحكيم شرع الله تعالى، محاربة الهوى وقلع جذوره وأسبابه من النفوس.
إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير، وأن لا يموتوا إلا وهم مستسلمين لأمره منقادين لطاعته مبتعدين عن معصيته.
إن محاربة الأهواء طريق نحو الاجتماع والائتلاف، ونحو الأخذ بأسباب التمكين لهذا الدين.
إن اتباع الأهواء شتت جهودًا ضخمة في العمل الإسلامي، وأمرض قلوبًا كانت حية.
إن العلاج الناجع والبلسم الشافي لمن ابتلى بشيء من الهوى، إلزام النفس بالكتاب والسنة، واتباع منهج السلف الصالح وتربية النفس باستمرار على التقوى والخشية من الله تعالى، واتهام النفس ومحاسبتها دائما فيما يصدر منها وعدم الاغترار بأهوائها وتزييناتها وخداعها، والإكثار من استشارة أهل العلم والإيمان واستجلاء آرائهم حول ما يريد أن يقوله ويفعله، وكذلك ترويض النفس على استنصاح الآخرين وتقبل الآراء الصحيحة الصائبة وإن كانت مخالفة لما في النفس، وتعويدها على التريث وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام وإمضاء الأعمال، والحذر من ردود الأفعال التي قد يكون فيها إفراط وتفريط وغلو أو تقصير، وجهل وبغي وعدوان، وإكثار المرء من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأن يجنبه اتباع الهوى ومضلات الفتن, ويسأله تعالى أن يوفقه لقول كلمة الحق في الغضب والرضا، ويكثر من الدعاء الذي علمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته: «وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب» (1)، ومن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم إني اعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء» (2).
_________
(1) النسائي، كتاب السهو، باب: الدعاء بعد الذكر (3/ 55) صححه الألباني رحمه الله.
(2) رواه الترمذي وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن الترمذي (3/ 183)(1/300)
د- تقديم العقل وتحكيمه على النصوص:
إن المدرسة العقلية وعلى رأسها المعتزلة حكمت العقل، وجعلته مصدرا أوليا للتلقي ودخلت بالعقل في غير مجاله, وركبوا مسلك أهل الكلام ودخلوا في جدل مع الفلاسفة في قضايا الإيمان، والأسماء والصفات، والغيبيات, وابتعدت الأمة عن أوامر الله، ودخلوا في مجال الترف الفكري, وتأثر كثير من العلماء بكتب اليونان وعلومهم الفلسفية، وأعرضوا عن منهج الاستدلال المستمد من الكتاب والسنة الذي سار عليه الأسلاف والأئمة الثقات, ونشأت فرق كلامية متعددة كل فرقة ترد على الأخرى وحادت عن الصراط المستقيم، ووقعت هي الأخرى في أخطاء كثيرة وجسيمة نتيجة استعمالها المنهج العقلاني نفسه في الرد على الخصوم، وعدم اعتمادها على المنهج الرباني الذي يقول الله فيه: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
ولو تمسك الجميع بالكتاب والسنة وجعلوهما المصدر الوحيد للتلقي، وأعرضوا عما خالفهما، واتبعوا منهج سلف الأمة في فهم أحكام الدين، أصوله وفروعه، لما حصل الذي حصل، ولكن ما وقعوا فيه كان نتيجة حتمية لتحكيم العقل في مجال غير المجال
الذي خلق له.
يقول الشاطبي: (إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب) (1).
إن العاقل اللبيب هو الذي يعرف حقيقة ما أنعم الله عليه من نعمة العقل فلا يدخله في مسالك ودروب لم يخلق لها، وإنما يستعمل عقله في عمارة الأرض والكون والحياة، ويتأمل ويتدبر في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وينتهج منهج القرآن في معرفة حقيقة العقل، ومكانته ودوره فلا يتقدم على أحكام الشرع أبدا، بل ينقاد إليها انقيادا حكيما رزينا مسترشدا بنور الوحي الذي يحرر العقل من
_________
(1) الاعتصام (2/ 318).(1/301)
الخرافات والخزعبلات، ويحثه على النظر في الكون والتحرر من التقليد والهوى والتعصب.
إن إقحام العقل في غير مجاله كما فعل أهل الكلام والأهواء شتت الأمة وفرقها, وجعلها تبتعد عن كتاب ربها وسنة نبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد تخبط كثير من علماء الكلام في دياجير الظلام وحيرة العقول حتى مَنَّ الله عليهم وألهمهم رشدهم في آخر حياتهم فتابوا إلى الله عز وجل وندموا على ما كان منهم, وتحسروا على إضاعة أعمارهم في القيل والقال، واعترفوا بخطأ الطريق الذي ساروا فيه، وأن منهج القرآن والسنة الذي سلكه السلف الصالح هو أفضل السبل على الإطلاق ونذكر من هؤلاء الأعلام:
1 - الجويني (1) - رحمه الله-:
لقد ذم علم الكلام في آخر حياته ونصح الأمة أن يجتنبوه، حيث قال: «لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به» (2).
2 - أبو حامد الغزالي (3):
نصر مذهب السلف في آخر حياته وقال: «الدليل على أن مذهب السلف هو الحق، أن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة» (4).
ذمه لعلم الكلام، حيث قال: «إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما زادوا على أدلة القرآن شيئا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية، وترتيب المقدمات, كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش, ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان» (5).
_________
(1) هو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي ركن الدين, كان من أذكياء العالم، توفي 478هـ، انظر: العبر (2/ 339).
(2) طبقات الشافعية للسبكي (3/ 260)
(3) هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي له مائتا مصنف, توفي عام 505هـ, شذرات الذهب (3/ 10).
(4) إلجام العوام عن علم الكلام، ص96.
(5) نفس المصدر السابق، ص89 - 90.(1/302)
إن المنهجية الخاطئة التي قدمت العقل على النقل أدت إلى فساد النتائج وبالتالي إلى ظهور الفرق واختلاف المناهج والتصورات والقيم والمعتقدات, وكل ذلك أثر في وحدة الأمة وساهم في تمزيقها وتشتيتها وتفريقها وإضعافها، وزوال هيبتها وملكها وسلطانها, ولذلك أرى أن محاربة المدارس الكلامية والنزعات الفلسفية ودعوة الناس إلى الالتزام بكتاب الله وسنة سيد الأنام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسباب التمكين.
هـ- التقليد والتعصب والحرص على اتباع العوائد:
1 - تعريف التقليد لغة واصطلاحا:
- التقليد لغة: هو جعل القلادة في العنق (1).
- اصطلاحا: هو الرجوع إلى قوة لا حجة لقائله عليه (2).
2 - تعريف التعصب لغة واصطلاحا:
- التعصب لغة: من العصبية، وتعصب، أي: شد العصابة (3).
- أما اصطلاحا: بأن تجعل ما يصدر عن شخص ما من الرأي ويُروى له من الاجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد (4).
إن التقليد والتعصب من أعظم أسباب التفرق والانحراف عن منهج الله الرباني، ومن أهم العوامل التي أدت إلى انتشار البدع والأهواء بين الناس، وفشت في أوساطهم، وحالت بينهم وبين سماع الحق والهدى، وتركوا بسببها طريق الكتاب الكريم
والسنة المطهرة.
وقد ذم الله تعالى الذين يعرضون عن اتباع الحق والانقياد له، بحجة تقليد
_________
(1) الصحاح للجوهري (2/ 527).
(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 117).
(3) الصحاح للجوهري (1/ 182).
(4) أدب الطلب ومنتهى الأدب للشوكاني، ص7.(1/303)
الآباء والأجداد, فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
إن التقليد المذموم إنما هو التقليد في الباطل، وأما التقليد في الحق فهو في الحقيقة اتباع لا تقليد.
ومن الآيات أيضا التي جاءت في ذم التقليد وأهله قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
قال ابن كثير: (أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وترك ما حرمه قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك) (1).
فالتقليد الأعمى والتعصب، يؤديان إلى مهاوي الردى ويقودان صاحبهما إلى مسالك الغواية والضلال، ويصدان عن اتباع النور والهدى، فتكون النتيجة تخبطا وانتكاسا في الدنيا وهلاكا وخسرانا في الآخرة (2).
لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوب الأمة الإسلامية لاسيما في العصور المتأخرة، وأصبح هو الأساس والأصل، ونتج عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة.
يصف الإمام الشوكاني - رحمه الله - حال الأمة الإسلامية عندما انقادت للتقليد واتبعت العوائد السيئة فيقول: «وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقى المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته, والنصراني على نصرانيته, والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية وغيرها، وألفوا ذلك ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم وأنسوا إليه, حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن
_________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 213).
(2) في ظلال القرآن لسيد قطب (2/ 991) بتصرف.(1/304)
يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل المكروه، ومزقوا عرضه بكل لسان، وهكذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق لا ينكره إلا من هو منهم في غفلة» (1).
إن نتائج التعصب والتقليد جسيمة وخطيرة من أشدها عدم قبول الحق، ورده إذا جاء من المخالف، وهذا إلى جانب كونه مؤديا إلى العداوة والبغضاء والتفرق، فهو خصلة ذميمة من خصال اليهود، والذين أمرنا الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بمجانبة طريقهم وعدم التشبه بهم.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91].
إن محاربة التعصب والتقليد هو في حقيقته محاربة لأسباب الفرقة وبالتالي خطوة نحو الأخذ بأسباب التمكين، فعلى العاملين في مجال الدعوة أن يعالجوا هذه الأمراض المعضلة من التعصب والتقليد واتباع العوائد السيئة التي كانت سببا في تفريق الأمة شيعا وأحزابا.
هذه هي أهم الأسباب التي كان لها أثر مباشر في فرقة الأمة وهناك أسباب أخرى ولكن اكتفينا بالأهم خوفا من الإطالة.
رابعًا: الأخذ بأصول الوحدة والاتحاد والاجتماع:
إذا كانت الفرقة هي طريق الانحطاط، فإن الوحدة هي سبيل الارتقاء وتبوؤ المكانة الفاضلة من جديد.
إن اتحاد الأمة الإسلامية على أسس من ديننا العظيم أمل كل المسلمين الصادقين في كل مكان، ذلك أن الإسلام هو الذي جعل من العرب المتناحرين
_________
(1) الدر النفيس في إخلاص كلمة التوحيد للشوكاني، ص (28 - 29).(1/305)
إخوة في دين الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. كما أن الإسلام بعقيدته الصحيحة وعبادته الصادقة، وأخلاقه الرفيعة، صهر الأمم والشعوب والحضارات التي دخلت فيه وجعل منهم أمة واحدة مترابطة ترابط الجسد الواحد, لا فرق بين الفارسي ولا البربري، ولا الرومي ولا العربي إلا بالتقوى.
وأصبحت أمة الإسلام أمة واحدة في عقيدتها وتصوراتها ومنهجها، وانعكس ذلك في توادهم وتراحمهم فيما بينهم وأصبحوا كالجسد الواحد، الذي يخفق فيه قلب واحد, وتسري فيه روح واحدة, ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية الأعضاء أو هو كالجدار المتين الذي تجتمع لبناته لتشكل فيما بينها وحدة واحدة متماسكة متراصة.
وفي اعتقادي أن من الأهمية بمكان أن تهتم الحركات الإسلامية في كل الأقطار بالأصول المهمة التي يجتمع عليها المسلمون في كل بلد، ومن ثم تجتمع عليها الأمة حتى يكون الاتحاد على أصول قوية ثابتة.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
إن طريق الوحدة والتعاون والتآخي والاجتماع على البر والتقوى طريق أهل السنة والجماعة الذين التزموا في جميع أمورهم بما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في العقائد والأخلاق والعبادة والمعاملات وكل شئون الحياة. وأهم أسس وأصول أهل السنة والجماعة هي:
الاعتصام بالكتاب والسنة، وحصر التلقي لأحكام الدين؛ أصوله وفروعه في هذا المصدر، وأن يرد الخلاف إليهما عند التنازع، وأن لا يعارضا بشيء من المعارضات
لا بمعقول ولا رأي، ولا قياس، ولا ذوق، ولا وجد ولا مكاشفة، ولا منام، ولا
غير ذلك (1).
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (13/ 28، 29).(1/306)
إن الكتاب والسنة هما الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والمعتقدات، وهما الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان بين الحق والباطل، وما سواه من كلام الناس يعرض عليه، فإن وافقه قبل، وإلا رد على صاحبه (1).
إن أهل السنة والجماعة يحتجون بالقرآن والسنة، لا يفرقون بينهما, كما هو حال أهل البدع، فالسنة مبينة للقرآن موضحة له، ولا يمكن أن يستغنى عنهما بالقرآن وحده بحال من الأحوال، وهي حجة في العقائد كما أنها حجة في الأحكام.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» (2).
إن طريق الاعتصام بحبل الله أن نلتزم بكتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وهذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم، يقول ابن تيمية - رحمه الله -:
«وهذا الأصل العظيم: وهو الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في مواطن عامة وخاصة» (3).
ولذلك أمر الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكل ما يحفظ على المسلمين جماعتهم وألفتهم، ونهيا عن كل ما يعكر صفو هذا الأمر العظيم، إن ما حصل من فرقة بين المسلمين وتدابر وتقاطع، وتناحر، بسبب عدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه، مما ترتب عليه تفرق في الصفوف، وضعف في الاتحاد، وأصبحوا شيعًا وأحزابًا كل حزب بما لديهم فرحون.
_________
(1) المصدر السابق، (11/ 582)، (12/ 467 - 468)
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/ 8، 26)
(3) مجموع الفتاوى (22/ 359).(1/307)
وهذا الأمر وإن كان مما قدره الله عز وجل كونًا، ووقع كما قدر, إلا أنه -سبحانه- لم يأمر به شرعًا، فوحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعي، ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، بل من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى, ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
فلابد من تضافر الجهود بين الدعاة وقادة الحركات الإسلامية وبين علماء المسلمين، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحًا حقيقيًا لا تلفيقيًا لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح, قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: «الجهاد نوعان: جهاد يقصد به صلاح المسلمين، وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم، وجميع شئونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية, وهذا النوع هو الجهاد وقوامه، وعليه يتأسس النوع الثاني، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم, وهذا نوعان: جهاد بالحجة والبرهان واللسان، وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان» (1).
ثم أفرد فصلا بعنوان «الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة» (2)، وبعد أن ذكر الآيات والأحاديث الدالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: «فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية» (3).
ولذلك نرى أن الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين وتوحيد صفهم
من أعظم الجهاد لأن هذه الخطوة مهمة جدا في إعزاز المسلمين وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم.
_________
(1) وجوب التعاون بين المسلمين، ص5.
(2) , (3) المصدر نفسه، ص5.
(3) المصدر نفسه، ص5.(1/308)
ومن أهم الأسباب في تحقيق هذا الهدف المنشود أن يجتمع المسلمون على أصول ثابتة:
أ- وحدة العقيدة:
لا يمكن أن تقوم وحدة للمسلمين، ما لم تجمعهم عقيدة واحدة، والعقيدة تشكل أساسا مهما في البناء الفردي والاجتماعي, وهي القاعدة التي تقوم عليها الأعمال والعلاقات والأخلاق، فإذا كانت العقيدة مشوهة أو مزورة فإن البناء لا يستقيم، ولا يستطيع أن يواجه الأعاصير والفتن حتى ينهار.
وإن العقيدة التي تصلح لجمع شتات المسلمين هي ما كان منبعها كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ويمكن التدليل على كل أصل من أصولها، أو جزئية من جزئياتها، ثم إن السلف الصالح الذين استقاموا على عقيدة الإسلام الحق دونوا هذه العقيدة تدوينا يميزها عن عقائد أهل الفرق والضلال (1).
إن سلامة الاعتقاد وصحته هي الطريق الوحيد لإقامة المجتمع المسلم المترابط المتآلف، ولا سبيل إلى اجتماع الأمة الإسلامية قاطبة، ووحدة صفها، وعزها وسعادتها في الدنيا والآخرة إلا بالعودة الصحيحة إلى الإسلام الصافي، النقي، الخالص من شوائب الشرك والبدع والأهواء والتعصب واتباع العوائد الفاسدة، وهذا يتطلب من كل مسلم أن ينبذ كل المذاهب والمناهج الحادثة المخالفة لما كان عليه سلف الأمة، وأن تكون له عناية فائقة بمذهب السلف الصالح، وعقيدتهم ومنهجهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور (2) تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من
_________
(1) كيف تستعيد الأمة الإسلامية مكانتها من جديد؟ د. الأشقر، ص69.
(2) الأمر، يقصد اختلاف أهل البدع في مسائل الاعتقاد.(1/309)
خالفه كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك, خارجًا عن موجب العقل والسمع، مخالفا للفطرة والسمع) (1).
إن طريق التمكين لابد فيه من وحدة الصف الإسلامي، ووحدة الصف ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة, والطريق لفهم القرآن والسنة هي طريق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الكرام، والتابعين لهم بإحسان، ومن سار على نهجهم وطريقتهم إلى يوم الدين.
1 - من القرآن الكريم:
قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].
فوعد من اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم، ووعد متبعهم بالجنة والرضوان.
2 - من السنة:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» (2).
3 - ومن أقوال السلف الصالح:
عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم» (3) وعنه - رضي الله عنه -: «من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة
_________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 212، 213).
(2) مسلم، كتاب الصحابة، باب فضل الصحابة (4/ 1963) رقم 2533.
(3) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب النهي عن القول بالقدر، رقم 1619.(1/310)
قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» (1).
ب- تحكيم الكتاب والسنة:
إن المسلمين لا يكون لهم شأن, ولا عز، ولا نصير، ولا فلاح في الدنيا ولا نجاة في الآخرة، إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على مستوى الأفراد، والأسر والجماعات، والقبائل, ومن ثم على مستوى الدولة عند الوصول إليها.
والأدلة القرآنية الكريمة تدل على وجوب التحاكم إلى شرع الله على مستوى المحكومين، وكذلك أمرت الحكام بذلك.
1 - من القرآن الكريم:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 114، 115].
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
2 - ومن السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع فقال:
_________
(1) حلية الأولياء (1/ 379).(1/311)
«يا أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنتي» (1).
3 - ومن أقوال السلف:
قال ابن تيمية - رحمه الله -: (وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم - أي السلف الصالح - اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا بذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم) (2).
إن حرص كل مسلم على تحكيم شرع الله تعالى على نفسه وأسرته ومجتمعه خطوة أصيلة نحو وحدة الأمة, والاقتراب من نصر الله تعالى، كما أن للتحاكم إلى شرع الله تعالى آثارا دنيوية وآخروية.
الآثار الدنيوية: الاستخلاف والتمكين، والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف، وبركة العيش ورغد الحياة والهداية والتثبيت، وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل.
أما الآثار الأخروية: فالمغفرة وتكفير السيئات، والثواب العظيم عند الله تعالى، والحياة الحقة الدائمة، وعلو المنزلة ومعية التكريم.
جـ- صدق الانتماء إلى الإسلام:
ومن الأصول المهمة في توحيد صفوف المسلمين أن يجتهد الدعاة إلى الله في تحصين المسلمين من المناهج والنظريات والدعوات الأرضية التي تفنن أصحابها في
_________
(1) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2/ 890) رقم 1218.
(2) مجموع الفتاوى (13/ 28).(1/312)
تزويقها وتزيينها، وكانت سببا مهما في تشتيت ولاء المسلمين, وفقد كثير من أبناء المسلمين هويتهم، ومسخ شخصيتهم بفعل التضليل المستمر الذي يمارسه شياطين الإنس والجن بمختلف الوسائل، ومن أسباب جمع صفوف الأمة وتحقيق الوحدة بينها الدعوة إلى الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة، ومنهج حياة، والاعتزاز بالانتساب إلى هذا الدين، ونبذ كل ما يخالفه ويضاده.
إن الإسلام منهج حياة، والعبودية لله معلم كبير في حياة المسلم, والمسلمون -وفق هذا المنهج والفهم- يشكلون أمة واحدة في مقابلة التجمعات البشرية.
والمسلم الصادق يعتز بالانتساب إلى الإسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] نص المولى عز وجل على أن أفضل الناس هم الذين يعلنون انتسابهم إلى الإسلام.
وكثير من المسلمين اليوم فقدوا انتماءهم، فأخذوا يبحثون عن عقائد ومذاهب وأقوام ينتسبون إليها، ألا وإن الراية الحق هي راية الإسلام، لا راية الأوطان، أو الأقوام أو الأحزاب، أو التجمعات الضالة، والتوحيد والانتساب إلى الإسلام ملة إبراهيم عليه السلام: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
د- طلب الحق والتحري في ذلك:
إن هذا الأصل العظيم ألا وهو طلب الحق والتحري للوصول إليه يقوي وحدة صف العاملين لتحكيم شرع الله, وهو من أهم سمات الربانيين الذين صفت نفوسهم وتطهرت قلوبهم بكتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إن الله تعالى في كتابه الكريم، بين أنه لا يوجد منزلة ثالثة بين الحق والباطل, فقال سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس: 32].
قال القرطبي -رحمه الله -: «قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسالة التي هي توحيد الله تعالى،(1/313)
وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول فإن الحق فيها في طرف واحد» (1).
والحق لابد فيه من اليقين، ولا يكفي فيه مجرد الظن، قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36].
قال ابن كثير: «أي لا يجدي شيئا ولا يقوم أبدا مقام الحق» (2) , وقد عد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد الحق وعدم قبوله، من الكبر الذي هو من أشنع الخصال وأردأ الفعال.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» (3).
إن بطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتكبرا واستعلاء، وأما غمط الناس فهو احتقارهم.
إن الحق هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعلى كل مسلم أن يتبع
كل دليل شرعي علمه وتبينه, قال تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
ومن أهم الوسائل التي تعين على طلب الحق والتحري في ذلك، تقوى الله عز وجل، والإخلاص والتجرد، واللجوء إلى الله عز وجل والافتقار إليه، وتدبر الكتاب والسنة واتباع سبيل السابقين الأولين، والصحبة الطيبة.
هـ- تحقيق الأخوة بين أفراد المسلمين:
إن من الأصول العظيمة التي تحقق وحدة الصف وقوة التلاحم، ومتانة التماسك بين أفراد المسلمين تحقيق الأخوة في أوساطهم، إن الأخوة منحة من الله
_________
(1) الجامع لأحكام القرآن (8/ 336).
(2) تفسير القرآن العظيم (4/ 255).
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر (1/ 65).(1/314)
عز وجل، يعطيها الله للمخلصين من عباده والأصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده وحزبه.
قال تعالى: {وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63].
وهي قوة إيمانية تورث شعورا عميقا بعاطفة صادقة ومحبة وود، واحترام، وثقة متبادلة، مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام الخالد، يتبعها ويستلزمها تعاون وإيثار ورحمة وعفو وتسامح، وتكافل وتآزر, وهي ملازمة للإيمان قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
ولا يوق حلاوة الإيمان إلا من أشرب هذه الأخوة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (1).
إن القرآن الكريم يرسم لنا صورة جميلة لأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29].
إن القرآن الكريم حين وضع بين دفتيه هذه الصورة، إنما يخبرنا بتكريم الله عز وجل فهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ".
أشداء على الكفار ولو كان فيهم الآباء والقرابة والأبناء، رحماء بينهم، وهذه الأخوة في الحق، أخوة في الدين، إن الأخوة في الله من أهم الأسباب التي
_________
(1) البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/ 11).(1/315)
تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم, ومن أسباب شموخهم والتمكين لهم (1)، إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمد على معاني الأخوة وعمل على تحقيقها وجعلها من الوسائل المهمة في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وأن أهمية هذا الأساس تظهر في
الجوانب التالية:
- إن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة، فلا يمكن أن تتألف منها الدولة. على أن التآخي لابد أن يكون مسبوقا بعقيدة يتم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصا إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية, ومن أجل ذلك فقد جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أساس الأخوة التي جمع عليها أفئدة أصحابه، العقيدة الإسلامية التي جاء بها من عند الله تعالى, والتي تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس شتتتهم العقائد والأفكار المختلفة فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأهوائه.
إن المجتمع - أي مجتمع - إنما يختلف عن مجموعة ما من الناس منتشرة متفككة بشيء واحد هو قيام مبدأ التعاون والتناصر فيما بين أشخاص هذا المجتمع، وفي كل نواحي الحياة ومقوماتها، فإن كان هذا التعاون والتناصر قائمين دون ميزان العدل والمساواة فيما بينهم، فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف.
_________
(1) انظر: رسالة التعاليم، د. محمد عبد الله الخطيب، ص296.(1/316)
وإذا كان المجتمع المسلم إنما يقوم على أساس من العدالة في الاستفادة من أسباب الحياة والرزق، فما الذي يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟
إن الضمانة الطبيعية والفطرية الأولى لذلك، إنما هي التآخي والتآلف.
إن تحقق مبادئ العدالة والمساواة بين الأفراد، فإنها لا تحقق ما لم تقم على أساس من التآخي والمحبة فيما بينهم، بل إن هذه المبادئ لا تعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع, ومن شأن الأحقاد والضغائن أن تحمل في طيها بذور الظلم والطغيان في أشد الصور والأشكال.
من أجل هذا اتخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حقيقة التآخي الذي أقامه بين المهاجرين والأنصار أساسا لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم، ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة.
ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك «الأرضية» الأولى، ألا وهي الأخوة الإسلامية ولولا هذه الأخوة العظيمة التي تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية لما كان لتلك المبادئ أي أثر تطبيقي وإيجابي في شد أزر المجتمع الإسلامي ودعم كيانه (1).
لم يكن ما أقامه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه من مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين، ولذلك جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذه الأخوة مسئولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الأخوة, وكانت هذه المسئولية محققة فيما بينهم على خير وجه. لقد كانت رابطة الأخوة بين الصحابة الكرام من أسباب قوتهم ونصرة الله لهم.
_________
(1) انظر: فقه السيرة, د. البوطي، ص201.(1/317)
إن مناط الأخوة وأساسها، إنما هو رابط الإسلام وعقيدته الصحيحة وهي من أهم أسباب وحدة الصف، وقوة البنيان بين أفراد الأمة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى، كما لا ننسى أن من أسباب وحدة صفوف الأمة: العلم النافع، والإخلاص وتجريد المتابعة، وغير ذلك من الأسباب المعنوية التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتوحيد صفوف الأمة إلا أنني ذكرت أهمها خوفا من الإطناب والإطالة.
إن التحابب بين المسلمين والحرص على روابط الأخوة المستمدة من الإيمان والعقيدة سر قوة الأمة، ومفتاح نجاحها.
* * *(1/318)
المبحث الثالث
الأسباب المادية
بعد أن بينت أهم أسباب التمكين المعنوية رأيت من المناسب أن أتطرق إلى الأسباب والوسائل المادية المهمة، من تدريب، وإعداد عدة، وتوفير كوادر في كل مناشط الحياة، وهذا يحتاج إلى تخطيط وإدارة واعية، وتنظيم متين يشرف على إعداد خطة بينة المعالم، محددة الأهداف، متطورة المناهج، شرعية في أسبابها ووسائلها، لا تعتمد على الأشخاص والأفراد وإنما تهتم بنظام المؤسسات حتى يستمر النشاط ويتطور ويراعى الوصول إلى المعلومات الصحيحة، والإحصاءات الدقيقة، وتعتمد على الدراسات والإمكانات، والتحليلات العلمية، والمقارنات الموضوعية والإمكانات المادية والبشرية القائمة والمحتملة، وتدرس جميع العوائق المادية والمعنوية، الداخلية والخارجية، الواقعية والمتوقعة، دون تهويل أو تهوين. ويشرف على وضع هذه الآفاق والخطط البعيدة جهاز متخصص متكامل من خبراء متمكنين, متنوعي الثقافة يكمل بعضهم بعضًا يستعينون بكل من يرون الاستفادة منه برأي أو معلومة، من أفراد أو أجهزة أو لجان متخصصة, ومن الضروري بمكان أن تهتم الحركة بمبدأ التفرغ، والتخصص، ومراكز المعلومات وبالإعداد المادي، والأمني والسياسي والإعلامي والعسكري.
أولاً: التفرغ، والتخصص، ومراكز البحوث:
أ- التفرغ:
إن من أسباب التمكين لهذا الدين والانطلاق بدعوة الله بين الناس أن تهتم الحركات الإسلامية على المستوى القطري، والإقليمي والدولي بمبدأ التفرغ لأصحاب القدرات المتميزة في المواقع المهمة, وخصوصا في مجال العلم والفكر، ومجال التربية والتكوين، ومجال الدعوة والإعلام، ومجال السياسة والتخطيط، ومجال الاقتصاد والمال، ومجال الأمن والاستخبارات، وكل مجالات الحياة اللازمة لتحكيم شرع الله على جميع أفراد الشعب ومؤسسات الدولة.(1/319)
إن الأعمال العظيمة تحتاج إلى أوقات كبيرة وجهود ضخمة وهمم عالية، ولذلك تضطر الحركة الإسلامية إلى مبدأ التفرغ مع التنوع والتكامل، حتى تسد كل الثغرات في العمل الإسلامي، ولا يقع تركيز في جانب فيتضخم على جانب آخر فيهمل، ولا بد من توفير المال اللازم لهذه المشاريع لأنها من أعظم القربات إلى الله تعالى, كما يجوز أخذ مال الزكاة أو الصدقة أو الوقف أو الوصية أو الهبة أو الهدية لسد هذه الثغرات المهمة.
كما ينبغي توفير كل ما يحتاجه المتفرغ وذووه من الأجر الكافي حتى يتفرغ للعطاء والبذل مع مراعاة عدم الإسراف والبذخ, ولابد من الخوف من الله تعالى عند اختيار المتفرغ بحيث يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب دون محاباة لعمرو أو زيد (1)، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
ب- إعداد المختصين:
من الضرورات اللازمة التوجه لإعداد متخصصين في جوانب الحياة كافة، إن عصرنا في حاجة شديدة للتخصص الدقيق، فإن الذكاء وحده والعقل الألمعي وحده لا يكفي والمواهب وحدها لا تكفي، والموسوعية في كل فن والإفتاء في كل علم لا يفيد.
فالذي يفيد الدراسة العلمية المتخصصة، القادرة على أن تساير العصر، وتلبي الحاجة وتتقن العمل الذي يسند إليها, وهذا الإحسان أو الإتقان لا يتم في عصرنا إلا بالتخصص، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
يقول الدكتور القرضاوي في هذا الباب: (خذ مثلا موضوعًا كالإعلام، وما يتطلبه من تخصصات متنوعة, إن كتابة النص علم، وكتابته في صورة حوار علم، وإخراجه علم، وأداؤه وتنفيذه علم، وتسويقه علم، والإخراج الإذاعي غير الإخراج التلفزيوني، غير الإخراج المسرحي ... ) (2).
_________
(1) انظر: أولويات الحركة الإسلامية للقرضاوي، ص193.
(2) المصدر نفسه، ص195.(1/320)
إن الحركات الإسلامية غنية بالنوابغ والقدرات والكفاءات القادرة على أسلمة كل المواقع الحيوية والمفصلية في الحياة وإنما تحتاج إلى ترتيب أولوياتها وتوجيه طاقاتها بحيث لا تتكدس ولا تتراكم النوابغ في مجالات الهندسة والطب والصيدلة، وإنما تتوزع على مواقع أخرى في الدراسات الإنسانية والاجتماعية من علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية بحيث تدخل أدمغة الحركات الإسلامية في صميم مجتمعاتها ولا تترك أي مجال حيوي يؤثر في الحياة الإنسانية.
إن مبدأ التخصص يعين الحركات الإسلامية على سد الثغرات المتعددة في جوانب الحياة المتنوعة والتي لابد من دخولها من أجل التمكين لدين الله تعالى.
إن اليهود والنصارى والملاحدة تسابقوا للهيمنة على الدراسات الإنسانية والاجتماعية من علوم النفس والتربية والاقتصاد، والعلوم السياسية والإعلامية والاقتصادية لعلمهم أن ذلك يمكنهم من الصدارة في توجيه الأمم والمجتمعات ولم يتركوا حتى مجال الأدب والقصة والنقد (1) .. إلخ.
جـ- الاهتمام بمراكز المعلومات والبحوث:
إن الاهتمام بمراكز البحوث وتطوير مراكز المعلومات من أهم حاجات العصر وأولوياته, وإسناد هذه الأمور إلى متخصصين ذوي كفاءات عالية يشرفون على تسيير أجهزة متطورة تلائم العصر وتطوراته واحتياجاته ومشاكله وهمومه.
لقد تعددت مصادر المعلومات والثقافات، وتقدمت وسائل الحصول عليها، ووسائل تخزينها ثم تصنيفها، ثم الاستفادة منها عند الحاجة والفائدة، ولذلك لابد من الاستفادة منها حتى نملك معلومات كافية عن أعدائنا، وأصدقائنا وأنفسنا.
ولقد ساهمت بعض المراكز في توعية الأمة وترشيدها، وتوضيح الأخطار المحيطة بها وعالجت بعض المشاكل الواقعة فيها ومن هذه المراكز:
_________
(1) انظر: أولويات الحركة الإسلامية للقرضاوي ص 195.(1/321)
1 - معهد الدراسات السياسية في باكستان:
تأسس المعهد في إسلام آباد عام 1399هـ - 1979م مع بداية القرن الخامس عشر الهجري، ليكون أول معهد من نوعه في العالم الإسلامي لتبني قضايا الأمة الإسلامية ووحدتها، وهو معهد بحثي تدريبي يقوم بالبحوث والدراسات التي تتعلق بالسياسات العامة ورسم الاستراتيجيات.
قام المعهد بحوارات متخصصة حول القضية الأفغانية والنظام العالمي الجديد والحكومة السودانية والقضية الفلسطينية، والأخطار المحدقة بباكستان، وعقد ندوات ومؤتمرات لخدمة قضايا الأمة في المحيط المحلي، والإقليمي والعالمي.
كما ضم المعهد العديد من الوحدات والأقسام أهمها: وحدة الشئون العالمية للعالم الإسلامي، وحدة الشئون الاقتصادية، دراسات المرأة، التعليم، تنمية الموارد البشرية، الشئون الباكستانية والكشميرية، القسم العربي، وحدة المعلومات.
أصدر هذا المعهد تقريرا سياسيا أسبوعيا (قضايا دولية) ساهم في رفع مستوى الوعي السياسي بين أفراد الأمة.
2 - مركز البحوث والدراسات في قطر:
تشرف وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في قطر عليه ويهتم بتشجيع العلماء والباحثين الذين يهتمون بمعالجة قضايا الحياة المعاصرة، ومشكلاتها، ويهتمون بالتحصين الثقافي والتغيير الحضاري، وترشيد الصحوة في ضوء القيم الإسلامية، واستطاع المركز أن يقدم للأمة مجموعة من البحوث اتسمت بالأصالة والإحاطة والموضوعية والمنهجية, وأضافت هذه البحوث شيئا جديدا للقارئ المسلم وأصدرت هذه البحوث في كتب نافعة تحت سلسلة كتاب الأمة ساهمت مساهمة فعلية في توجيه أبناء الأمة نحو الخير والرشاد والسداد ومن أهم هذه الكتب:
1 - مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، لمحمد الغزالي.(1/322)
2 - الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، د. يوسف القرضاوي.
3 - حول إعادة تشكيل العقل المسلم، د. عماد الدين خليل.
4 - الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، د. محمود حمدي.
5 - الحرمان والتخلف في ديار المسلمين، د. نبيل صبحي الطويل.
6 - البنوك الإسلامية، د. جمال الدين عطية.
7 - المدخل إلى الأدب الإسلامي، د. نجيب الكيلاني.
8 - إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها، د. ماجد عرسان.
9 - اليهود والتحالف مع الأقوياء، د. نعمان السامرائي.
10 - وثيقة مؤتمر السكان والتنمية، د. الحسيني جاد.
11 - في الغزو الفكري، د. أحمد السايح.
12 - الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع، منصور زويد.
13 - المسلمون في السنغال، معالم الحاضر وآفاق المستقبل للأستاذ عبد القادر محمد سيلا.
14 - المخدرات من القلق إلى الاستعباد، د. محمد الهواري، وغير ذلك من الكتب النافعة والمؤصلة التي أفادت الأمة.
إن هذه الدراسات المنهجية المدروسة والتي يقوم عليها أهل التخصص لها أثرها في نهضة الأمة والأخذ بيدها نحو الرقى والتقدم والازدهار والتمكين لدين الله تعالى.
3 - مركز الدراسات الاستراتيجية في السودان:
أصدر هذا المركز كتاب الاستراتيجية القومية الشاملة (1992 - 2002هـ) ودل الكتاب على جهد مشكور، وعمل متواصل، وإحكام دقيق من حيث التخطيط
ووضوح الأهداف، وبيان الوسائل وتحديد المراحل لكل شئون الدولة الإسلامية في السودان فمثلا:(1/323)
- وضع المركز أبحاثا قيمة في قطاع التنمية الاجتماعية, واهتم بالجوانب الأخلاقية, وبالرقي الاجتماعي، والرعاية الاجتماعية، ورعاية الطفولة، والشباب والمرأة، والتكافل، والعمل التطوعي والخيري، والتعليم العالي، والتعليم العام، والتخطيط العمراني والإسكان، وتنمية السياحة والرياضة والبيئة.
ولقد ظهرت آثار طيبة في المجتمع السوداني بفضل الله ثم بالجهود المشكورة والتخطيط السليم الذي أشرف على تنفيذه أبناء المسلمين في السودان، فقُطعت أشواط في توسيع التعليم وإنشاء الجامعات, وظهرت الخدمات الاجتماعية لكل قطاعات الشعب مع ما تمر به الدولة من تضييق عالمي ومحاربة علنية لمشروعها الحضاري الإسلامي الذي قامت من أجله.
- وفي قطاع الثقافة والإعلام، بين المركز الأهداف والأدوار والأدوات والمراحل اللازمة للسياسة الثقافية، وتشريعاتها معتمدين في ذلك على التخطيط الحديث والعبقرية الإسلامية والعقلية الإيمانية. واستطاع الإعلام في السودان أن يحقق بعض أهدافه وكانت له مساهمات واضحة في إحياء روح الجهاد وكشف مخططات الأعداء بواسطة وكالات الأنباء وشبكات الاتصال ومجال الإعلام الإلكتروني والإعلام الداخلي والخارجي.
- أما في مجال العلوم والتقنية فبين المركز المواجهات والأهداف ومراحل التنفيذ والوسائل من معلومات وبحوث ومؤسسات وطاقات بشرية, ونظم قانونية، وإمكانات مادية, وبرمج ذلك في برامج واضحة للعالم.
وظهرت للوجود الكوادر السودانية في مجال النفط والتنقيب عن المعادن, وأصبح السودان ينتج النفط وبعد قليل بإذن الله تعالى سيصدره.
- أما قطاع السياسة والنظام العالمي، فقد وضح معنى الحكم الاتحادي والنظام السياسي، والعمل النقابي والفئوي، والنظام العدلي، وتعرض للجبهة الداخلية الجنوبية ومحاور التحرك لتحقيق السلام ووضع خطة لإعادة التأهيل والاستيعاب والتعمير لأبناء الجنوب.(1/324)
وبفضل الله تعالى ثم بالتخطيط السليم استطاع السودان أن يفشل مخططات الأعداء وأن يقطع شوطا بعيدا في قضاياه السياسية والداخلية، وظهر من أبنائه أداء سياسي متميز ونبوغ فذ أقنع الأصدقاء والأعداء بقدرتهم في إدارة اللعبة السياسية.
- وفي قطاع العلاقات الخارجية، تعرض المركز للتغييرات السياسية الدولية للعقد المقبل، وطبيعة القوى السياسية في الحياة الدولية، وتوازن المصالح وتوازن القوى، ووضع الأهداف العليا لسياسة السودان الخارجية في السياسة الإقليمية والدولية، وتعرض للمواجهات وللوسائل في تحقيق العلاقات الخارجية، ووضع خططا وبرامج لتدعيم وزارة الخارجية وتطوير الوزارة في مجالاتها البشرية والمادية وأجهزتها ومعداتها.
وحقق السودان بفضل الله تعالى انتصارات رائعة في السياسة الدولية واستطاع أن يعقد علاقات متينة مع دول قوية مثل الصين، وروسيا، وفرنسا، كما استطاع أن يشكل علاقات حيوية مع جنوب إفريقيا، ونيجيريا وغيرها من الدول الإسلامية والعربية والآسيوية والإفريقية.
إن السودان اليوم يمثل تجربة رائعة وفريدة من نوعها لأنصار المشروع الإسلامي الحضاري، وسوف نتعرض للتجربة السودانية عند تكلمنا عن مراحل التنفيذ واختيار الإسلاميين لخيار القوة في الوصول للحكم.
- أما في قطاع الأمن والدفاع، فبيَّن المواجهات والأهداف، ووضع المبادئ الأساسية للشرطة والبرامج الرئيسية في مجال منع الجريمة واكتشاف ما يقع منها، ووضع قانونا للأوراق الثبوتية والهجرة وتأهيل رجال الشرطة على مستوى الضباط وضباط الصف، وتزويدهم بكل الوسائل الحديثة لأداء مهمتهم على أكمل وجه.
إن الشعب السوداني بكل فصائله عندما يقارن بين الحالة الأمنية في عهد(1/325)
الإنقاذ ومن قبلهم يسلم بأن الدولة الإسلامية استطاعت بفضل الله أن تحقق الأمن والسلامة لمواطنيها والفضل ما شهدت به الأعداء.
إن من أهم الأسباب المادية التي يجب علينا أن نهتم بها في عملنا الدءوب لتمكين دين الله الاهتمام بالتفرغ وإعداد المتخصصين، وإنشاء المراكز التي تهتم بالأبحاث والعلوم.
ثانيًا: التخطيط والإدارة:
إن التخطيط السليم والإدارة الناجحة في العمل الإسلامي من الأسباب الأكيدة في التمكين لدين الله تعالى، ولقد عرف بعض الباحثين التخطيط بأنه «جسر الحاضر والمستقبل» (1).
إن التخطيط في المفهوم القرآني هو الاستعداد في الحاضر لما يواجه الإنسان في عمله أو حياته في المستقبل، وعلى هذا فإن الإداري المسلم يكون قد عرف التخطيط لأن الله تبارك وتعالى قد وجه إلى ذلك في آيات كثيرة.
قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
إنه توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الآخرة وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ .. } [الأنفال: 60].
يقول الدكتور عبد الرحمن الضحيان: (هذه الآية دعوة للإدارة الإسلامية بالعمل والتخطيط والاستعداد بقوة لمواجهة أمر مستقبلي قد يحدث لدار الإسلام وأمته، والقوة هنا تفهم بمفهوم العصر، فقد تفهم بالقوة البدنية، وذلك ببناء الرجال الأشداء، الأقوياء في إيمانهم وأبدانهم وقوة السلاح بكل أنواعه، وحسب ما تخرجه المصانع من أنواع الأسلحة حتى القوة والطاقة الذرية وذلك ببناء المصانع
_________
(1) التخطيط والرقابة أساس نجاح الإدارة، د. عبد الفتاح دياب حسين، ص97.(1/326)
النووية الإسلامية وحمايتها من ضرب الأعداء لها، وذلك كله لإرهاب عدو الله وأعداء الإنسانية, وحماية دار الإسلام من الأعداء، كما في آية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ", مفهوم التخطيط الطويل الأجل الذي يجب أن تأخذ به الدولة الإسلامية وإدارتها الحكيمة حتى تحمي شوكة وقوة الإسلام) (1).
إن الأمثلة في القرآن الكريم على أهمية التخطيط كثيرة فمنها:
أ- يوسف عليه السلام:
ضرب القرآن الكريم مثلا للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية فأمكن بذلك تلافي مجاعة كانت تهدد الناس جميعا بالهلاك - بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه السلام وهو أمين على الخزائن - وذلك حين فسر الرؤيا التي جاءت على لسان ملك مصر في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف 43] وتولى يوسف عليه السلام تفسير الرؤيا فقال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47].
إن يوسف عليه السلام فسر الرؤيا وزاد عليها أن قدم خطة عملية تستغرق القطر كله والشعب المصري كله، أي أن خطته اعتمدت على التشغيل الكامل للأمة والبرمجة الكاملة للوقت، ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في الأمة، وهذا الذي أراده يوسف عليه السلام وعبر عنه بقوله {تَزْرَعُونَ" إن الذي يخطط له يوسف عليه السلام هو مضاعفة الإنتاج وتقليل الاستهلاك، لأن الأزمات والظروف الاستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي، ولأن سلوك الناس في الأزمات غير سلوكهم في الظروف العادية، استرخاء وبطالة، فإن هذه الأمة تكون في حالة خلل خطير يحتاج إلى علاج ومعالج خبير (2).
_________
(1) انظر: الإدارة في الإسلام نقلا عن التخطيط والرقابة أساس نجاح الإدارة ص97.
(2) انظر: سورة يوسف دراسة تحليلية، د. أحمد نوفل، ص409.(1/327)
إن يوسف عليه السلام قسم خطته إلى ثلاث مراحل:
1 - تزرعون سبع سنين دأبا.
2 - ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد.
3 - ثم يأتي عام يغاث فيه الناس.
وتظهر ملامح هذه الخطة في الآتي:
1 - الطابع الغالب على المرحلة الأولى هو الإنتاج والادخار مع استهلاك محدود، فيوسف عليه السلام حدد خطط الإنتاج بالزراعة وحدد استمرار الإنتاج الزراعي سبع سنين العمل فيها دائب لا ينقطع، ومع هذا الجهد الكبير في الإنتاج المستمر كان هناك تحديد واضح للاستهلاك يبدو في قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ" وأمر يوسف بحفظ السنابل المخزونة من الغلال كاملة كما هي {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ".
2 - فإذا ما انتهت سنوات الإنتاج السبع، بما فيها من جهد متصل دائب، واستهلاك محدود كان على الخطة أن تقابل تحديًا ضخمًا هو توفير الأقوات سبع سنين عجاف، وبعبارة أخرى: بعد الإنتاج والجهد الدائب في المرحلة الأولى سيأتي تحمل أيضا في المرحلة الثانية وهو تحمل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إلى كل فم.
3 - ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق، ينبغي ألا تأتي هذه السنوات العجاف على كل المدخرات، وإنما كان يوسف عليه السلام واضحا في قوله {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ" فكان هذا الجزء المدخر هو «الخميرة» التي تستطيع بها الأمة أن تقابل متطلبات البذر الجديد بعد السنوات العجاف، أي إعادة استثمار المدخرات.
كان على يوسف عليه السلام أن يوازن بين ثلاثة جوانب، الأول الإنتاج، والثاني الاستهلاك، والثالث الادخار، وأن يعيد استثمار المدخرات.
ومن طبيعة التطور أن تختلف «تفاصيل الصورة» ولكن أساسها سيظل قائما عميقا في ديننا وتراثنا .. (1).
_________
(1) مواقف إسلامية، د. عبد العزيز كامل، ص (83 - 86).(1/328)
وتظهر معالم التخطيط والإدارة في كلمات يوسف عليه السلام حيث إن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف الإدارة التي لا يمكن لها أن تكون فعالة بدونها، كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على دعامتين وخمسة عناصر، أما الدعامتان فهما: التنبؤ والأهداف، وأما العناصر فهي: السياسات والوسائل والأدوات والموارد المادية والبشرية والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنة التخطيطية التقديرية (1).
إن كتب علم الإدارة والتخطيط الحديث تقول: إنه لا إدارة فعالة إلا بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق, وهذا عين الذي زاوله يوسف عليه السلام، لقد جاء الحكم يوم جاء وبرنامجه الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإعلامي والزراعي كل ذلك في ذهنه قد أعد إعدادا كاملا دقيقا.
إن دعامتي التخطيط: التنبؤ، والأهداف:
أما التنبؤ فاستشراف المستقبل واستشفاف الآتي، وهذا عين ما كان من يوسف بما علمه الله تعالى, ثم نجده أيضا قد حدد الأهداف في مضاعفة الإنتاج وتقنين الاستهلاك أو ترشيده، ثم تخزين الطعام وهذا يقتضي خطة تفصيلية لأن الهدف العام الكبير ليس شيئا إن لم يقترن بخططه التفصيلية, وهنا يأتي دور السياسات والوسائل والأدوات والموارد البشرية والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنة التقديرية.
هذا هو ما فعله يوسف عليه السلام على ضوء علم الإدارة الحديث, وإن كان القرآن الكريم حصر كلام يوسف عليه السلام في جمل جامعة وجيزة ولم يشر إلى تنمية الإنسان، لكنها متضمنة قطعًا ضمن الخطة، لأن القرآن الكريم علمنا أن الإنسان إنما هو نفسيته ومضمونه ومحتواه وأن تغيير الخارج بدون تغيير الداخل لا يغير نقيرًا.
لقد وضع يوسف عليه السلام العنصر البشري في خطته لعلمه أنه لا تنجح خطة ليس وراءها الإنسان الذي ينفذها، وأما منهجه في التعامل مع الإنسان فقد ظهر
_________
(1) انظر: سورة يوسف .. دراسة تحليلية ص (415، 416)(1/329)
في دعوته للسجينين للتوحيد وبذلك يكون منهجه في الارتقاء بالإنسان الذي هو عدة الحضارة ومحرك النهضة ومنفذ البرامج ومنجز المشاريع دعوته للتوحيد وتعليمه حقيقة الإيمان بالله وهذا الكون وهذه الحياة.
إن فائدة التغيير الخارجي تزول إذا لم يكن هناك إنسان أمين على منجزات التغيير الخارجي ويحمل القيم الداخلية التي تضمن استمرارية التغيير الخارجي، صحته وصدقه وأمانته، إن التغيير يجب أن يمارسه الإنسان في المحتوى النفسي، فيطور وينمي ذاته باتجاه الأفضل ثم يجسد محتواه النفسي تغييرًا خارجيًّا، ويحوله إلى ممارسة وتطبيق وتحقيق، لأن أحوال الناس وأوضاعها الاجتماعية من الفساد أو الخير لا تتغير إلا إذا تغير محتوى الإنسان، وما هو عليه من الحق أو الباطل, هذا هو منطق القرآن والحياة، لكي يرسي نظاما لابد أن يهيئ له إنسانا أولا.
إذ طورنا النظام ومفاهيمه دون الإنسان ومفاهيمه فسرعان ما يتسرب الفساد من الإنسان إلى النظام، فيقوضه أكثر مما يتسرب الإصلاح من النظام إلى الإنسان فيصلحه، لأن الأنانية وحب الذات والجشع أقوى من نصوص القوانين والأنظمة ما لم تذهبها التربية الداخلية العميقة, والأخلاق الكريمة المبنية على معرفة الله وحبه والخوف منه (1).
إن الآيات القرآنية الكريمة أشارت إلى جوانب أخرى ارتبط بها نجاح الخطة ارتباطا مباشرا، وأهمها جانبان يجمعهما عنصر واحد هو العنصر البشري وعلاقته بنجاح الخطة:
1 - استعداد يوسف عليه السلام على أن يشرف على تنفيذ هذه الخطة وكان هذا الاستعداد بعد أن بدد ظلال الشك وأوهام التهم عن نفسه، وبذلك حدث التكامل القوي بين الخطة والمخططين، بين حساب الأرقام وحساب الأخلاق، بين الأسس المادية والقيم الروحية في المجتمع، بين الدين والحياة (2).
_________
(1) انظر: سورة يوسف دراسة تحليلية، ص (418،419).
(2) سورة يوسف دراسة تحليلية، ص420.(1/330)
2 - الجانب الثاني: يتجلى في اختيار المعاونين الذين ساعدوه في عمله، فكان من رجال يوسف عليه السلام العون الصادق على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء (1).
كما أشارت الآيات القرآنية إلى المعلومات اليقينية التي بنى عليها يوسف عليه السلام خطته, قال تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48].
إن من معالم الخطة السياسية والاقتصادية الناجحة أن تكون مبنية على معلومات يقينية صادقة حقيقية لا على الخيال الشعري المجنح الذي لا يرتبط بالواقع، ومن هنا صارح يوسف عليه السلام الشعب بالشدائد التي تنتظره، لكنها ليست المصارحة التي تثبط أو تقعد عن العمل, ولكنها التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتضاعف من
الجهد والطاقة.
إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدبة لا تعطي بل تأخذ وتأكل فهي تقتضي حرصا واحتياطا (2).
قال سيد قطب - رحمه الله -: (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد - لا زرع فيهن - يأكلن ما قدمتم لهن, وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ" أي إلا قليلا مما تحفظونه وتصونونه من التهامها، ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب, تنقضي ويعقبها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا وسمسمهم وخسهم فيعصرونها زيتًا. وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف عليه السلام، فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد ... ) (3).
_________
(1) مواقف إسلامية، ص86 - 89.
(2) انظر: سورة يوسف دراسة تحليلية، ص427.
(3) في ظلال القرآن (4/ 1994).(1/331)
ونلاحظ في الآيات القرآنية الكريمة التي تكلمت عن خطة يوسف عليه السلام عنصر الأمل والتفاؤل, وهذا الأمر مهم في الخطة الناجحة، قال تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49].
إن بعد الشدة التي أشار إليها يوسف انفراجا ورخاء، وستعود الأمور بإذن الله تعالى إلى سيرتها الأولى، ولكن بداية العودة تكون عاما مباركا غير معهود العطاء وفرة وكثرة، وكأن الخير فيه سيفيض بغير جهد، فهو عام فيه يغاث الناس أي: يسقون الغيث، أو يغاثون: ينجدون من الغوث، وكل ذلك متلازم، «وفيه يعصرون» إشارة أخرى إلى فيض الخير، فلا يلجأ الناس إلى العصر للثمار إلا بعد أن تفيض عن حاجة الاستهلاك الأساسية وهي الأكل.
ولابد من الأمل والتفاؤل في أي خطة، وإلا فإن كان لا أمل فما الداعي إلى العمل، ولقد حرك يوسف عليه السلام دوافع العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط، ثم حركها ثانية بفتح نافذة الأمل (1).
إن يوسف عليه السلام كان مظلومًا مضطهدًا في سجن الملك وهو يملك من المعلومات والخطط ما يجعله في محل قوة عند المفاوضة إلا أنه لا يشترط لنفسه شيئا، بل جادت نفسه الزكية بالتفضل بالخير والعطاء والنصح والإرشاد بدون أي مقابل من الخلق، وهذه الأخلاق الكريمة والصفات الجميلة يكرم الله بها من يريد أن يجعله قدوة لدينه ومعلما لدعوته، كما نلاحظ أن يوسف عليه السلام كان مستوعبا لفقه الخلاف حيث إن الملك وشعبه بعيدون عن منهج الله، منغمسون في مناهج الجاهلية, ومع هذا التقى معهم في الخير المحض والسعي نحو إنقاذ البلاد والعباد من محنة المجاعة والقحط, وهذه السعة في الفهم والاستيعاب العميق يحتاجها من يتصدى لدعوة الناس ودفعهم نحو تمكين دين الله في الأرض.
لقد كان من ثمار تدبير يوسف عليه السلام وتخطيطه أن حفظ شعبًا من الهلاك
_________
(1) انظر: سورة يوسف دراسة تحليلية، ص428.(1/332)
والجوع وخرج من الشدائد وعاد إلى الرخاء. وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي لكي ندرك أن الإسلام لا يقوم على التخمين أو التواكل، ولكنه يهتم بأدق الأساليب وأعمقها سواء في جوانب الاقتصاد أو السياسة أو غيرها.
ب- من سيرة سيد الخلق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إن سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلم بارز في جميع جوانب الحياة ونلحظ من سيرته العطرة جانب التخطيط وإحكام الإدارة ودقة التنظيم في كل مراحل دعوته، فإذا نظرنا مثلا إلى الهجرة النبوية نجد أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع لها خطة احتوت على هذه العناصر: تحديد الهدف، تنظيم الوسائل، رسم أسلوب التنفيذ، محاولة التنبؤ بالمستقبل، ولذلك
نلاحظ الآتي:
- تحديد الهدف:
لقد حدد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هدفه من الهجرة، وهو مغادرته هو وأصحابه مكة إلى المدينة آمنين، ثم نشر دعوة الإسلام في بيئة جديدة تتطلع إلى رسالة رب العالمين، وتدافع عن المؤمنين وتدفع عنهم الأذى, قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100].
- تنظيم الوسائل واختيار المكان:
فحين أوحى الله إلى نبيه بالهجرة، كانت الوسيلة والسبيل إلى تحقيق هذا الأمر، هو التخطيط والتدبير حتى يضمن نجاح مهمته، ولقد كان للهجرة مقدماتها ومنها:
1 - حسن اختيار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمكان، وكان هذا بوحي من الله عز وجل.
2 - والمدينة لأنها توفي بالمقصد، وتتناسب مع الهدف.
3 - وبها صلات القربى، بنو النجار أخوال جده عبد المطلب من قبيلتي الأوس والخزرج.(1/333)
4 - الموقع الاقتصادي للمدينة حيث غنائها بمائها وزرعها وثروتها التجارية.
5 - منيعة بحصونها ولها سيادة وسلطان بأهلها من الأوس والخزرج.
6 - تجارة مكة تمر عبرها إلى الشام، لموقعها الاستراتيجي.
7 - مجاورة أهلها لأهل الكتاب وسماعهم منهم، يجعلهم أكثر قربا للاستماع للدعوة الجديدة.
* التمهيد للهجرة:
- بيعة العقبة الأولى:
كانت خير تمهيد لتنفيذ الهجرة ثم تلتها بيعة العقبة الثانية ثم بيعة العقبة الكبرى، والعقبة مكان مرتفع شرقي مكة على يسار الطريق للقاصد منى من مكة، ولقد لقى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العقبة الأولى:
1 - ستة نفر كلهم من الخزرج.
2 - دعاهم وعرض عليهم الإسلام فاستجابوا.
3 - انصرفوا إلى المدينة وبدأوا ينشرون الإسلام فيها.
4 - لم تبق دار من دور الأنصار إلا فيها ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
5 - واعدوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقابلوه في الموسم القادم في نفس المكان.
- بيعة العقبة الثانية:
ولما حل الموسم جاء من المدينة اثنا عشر رجلا من قبيلة الخزرج منهم النفر الستة الذين بايعوه في العقبة الأولى، واثنان من قبيلة الأوس:
1 - التقى بهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسلموا جميعا.
2 - بايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة.
3 - سميت هذه العقبة ببيعة النساء لأنهم لم يبايعوا على القتال، وإنما على الدخول في الإسلام.(1/334)
4 - أرسل معهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير ليعلماهم القرآن ويفقهاهم في الدين.
5 - أسلم على يدي مصعب أكثر أهل المدينة ولذا يسمى فاتح المدينة (1).
بيعة العقبة الثالثة - أو الكبرى -:
وفد على مكة في العالم الثالث في موسم الحج جماعة من يثرب بلغت عدتهم ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين منهم أحد عشر من الأوس, فواعدهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يلقاهم عند العقبة، فبايعهم على الإسلام وعبادة الله، وألا يشركوا به شيئا، ثم على حمايته إن قدم المدينة.
وتدل وقائع هذه البيعات الثلاث على الآتي:
1 - على مبلغ ودقة الإحكام في التخطيط.
2 - نجحت هذه المرحلة التي تعتبر بمثابة الإعداد والتحضير للهجرة.
3 - دقة اختيار الوقت المناسب لعقد المعاهدة وهو موسم الحج، حتى لا يلفت الأنظار إليه من المشركين المتربصين.
4 - دقة الاختيار في الموعد حيث جعل بعد ثلث الليل، حتى يمكن اجتناب العقبات التي تتوقع من المشركين، وكان هذا الاختيار مساعدا في نجاح الخطة.
5 - تنظيم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العقبة الثالثة للأوس والخزرج وجعل من بين السبعين اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس, وهذا يدل على بعد نظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومقدرته على ترتيب وتنظيم الطاقات.
6 - نلاحظ مراعاة التدرج في تنفيذ الخطة, وهذا يدل على رجاحة عقل المخطط ومراعاته لمقتضيات الأحوال وسنة التدرج للوصول إلى الهدف المنشود.
_________
(1) انظر: الدعاة والتخطيط، د. محمد عبد الله الخطيب، ص59 - 61.(1/335)
7 - مراعاة جميع الظروف المحيطة ووضع الوسائل المناسبة، وترتب على هذا التخطيط الرشيد الآتي:
- دخول بعض البشر دين الإسلام في البيعة الأولى.
- زيادة العدد إلى الضعف في الثانية وإرسال المربي الذي يتعهد ويعلم ويربي النواة الأولى في المدينة.
- الوصول مع أهل يثرب إلى معاهدة دفاعية في البيعة الأخيرة.
- تنفيذ أمر الهجرة.
تحرك المهاجرون من مكة إلى المدينة ويظهر عنصر التخطيط الدقيق في الآتي:
1 - خروج المسلمين من مكة متفرقين.
2 - التزام مبدأ السرية التامة.
3 - التحمل والصبر من أجل العقيدة والدين.
4 - كانت هجرة الصحابة رضي الله عنهم تمهيدا لخطة هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
وحان وقت الهجرة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وشرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التنفيذ ونلاحظ الآتي:
1 - وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات.
وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا دراسة وافية بحيث لم تُترك ثغرة واحدة للعدو ينفذ منها, ولم يُترك شأن من شئونها للمصادفة أو للحظوظ العمياء، فلقد تمت الرحلة المثيرة التي لم يعرف أخطر منها في التاريخ في سبيل الحق بطريقة سرية، لم يعلم بها أحد، وفي تكتم شديد وحرص بالغ، حتى لقد
_________
(1) انظر: الدعاة والتخطيط، ص61 - 63.(1/336)
قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر عندما أراد أن يفضي إليه بنبأ الهجرة: «أخرج عني من عندك؟» ولا شك أن السرية في رسم الخطط هي ضمان النجاح وعدته، ولقد بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة على ذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء .. ولو كان ذلك الخبير مشركا ما دام يملك خبرات جيدة ومحل ثقة في تنفيذ المهمة, واختياره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لشخصيات عاقلة رزينة تتوقد ذكاء لتقوم بالمعاونة في شئون الهجرة، ووضع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل فرد في عمله المناسب، فقام علي - رضي الله عنه - بدوره المنوط به ونام في فراش النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وحققت تلك الفكرة أهدافها وخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركون معلقة أبصارهم بمضجع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأحكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أموره وأوصى عليا - رضي الله عنه - برد الودائع إلى أهلها، وكان عبد الله بن أبي بكر يقوم بدور جمع المعلومات وكشف تحركات العدو، وأسماء ذات النطاقين تحمل التموين من مكة إلى الغار وسط جنون المشركين بحثا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقتلوه، وعامر بن فهيرة الراعي يسدد أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كيلا يستدل بها القوم, ويمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبه باللحم واللبن، وعبد الله بن أريقط، دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى المدينة، فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع كل شخص في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات, وتغطية جميلة لكل
مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف، لقد أخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأسباب المعقولة أخذا قويا حسب استطاعته مع توكله على الله
وتفويض أمره إليه (1).
إن تخطيط الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للهجرة النبوية المباركة دليل واضح على أن التخطيط ضروري لمزاولة أي نشاط بشري مهما يكن نوعه، يستوي في ذلك أن
_________
(1) انظر: الهجرة في القرآن، أحزمي سامعون جزولي، ص361 - 363.(1/337)
يكون القائم به فردا أو جماعة، وأن يستهدف شأنا من شئون السلم أو في شئون الحرب، وإذا كان التخطيط - اصطلاحا - من مستحدثات العصر فإنه معنى يضرب بجذوره في أعماق القدم، قد اقترن بحياة الفرد وحياة المجتمع منذ كان الإنسان على الأرض، فقد شاء الله
-سبحانه وتعالى- أن يزوده بهذه القدرة المستمدة من العقل لحفظ الجنس البشري حتى تستمر الحياة عبر مراحل نموها المتعاقبة، وكل امرئ خلقه الله في هذه الحياة يباشر التخطيط تلقائيا في جميع خطواته وفي مختلف تصرفاته دون أن يدري المدلول العلمي
لما يقوم به.
فالصانع والزارع والعامل كل منهم يخطط ليومه وغده، إذ يحدد مطالبه والتزاماته ويحدد قدراته على الوفاء بها مستعينا في ذلك بحصيلة تجاربه السابقة, ومقدرا للظروف الطارئة المحتملة، وهكذا فالتخطيط لابد أن يكون الإنسان مستخدما له في سائر حياته لكي يستطيع أن يصل إلى أهدافه المرجوة (1).
إن التخطيط من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك استخدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التخطيط في كل مراحل دعوته, إيمانه منه بأن التخطيط أساس من الأسس في إنجاح أي عمل من الأعمال، ولابد منه للبلوغ إلى المقصود وأنه ركيزة أساسية يقوم عليها هذا الدين، ولذلك فإن الإسلام قد دعانا إلى الأخذ به، بل وجعله نظاما لحياة المسلمين لأنه ضرورة لابد منها (2)، وهذا ينسجم مع الفهم الصحيح لمعنى التوكل على الله
والإيمان بالقدر.
(إن العمل الإسلامي اليوم يتصدى لتحقيق أشرف وأعظم إنجاز في دنيانا, وهو التمكين لدين الله في الأرض وإقامة الخلافة الإسلامية على رأس دولة الإسلام العالمية، التي تجمع كلمة المسلمين، وتحكم شرع الله في الأرض، وتسترد كل شبر أرض اغتصبت من الوطن الإسلامي، بل وتكسب أرضا جديدة
_________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص359.
(2) المصدر نفسه، ص360.(1/338)
للإسلام، وذلك بتبليغ هذا الدين الحق إلى الناس كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فالأمر الطبيعي أن يسير العمل لتحقيق هذا الهدف العظيم بتخطيط دقيق، وألا يكون ارتجاليًّا أو ردود أفعال فيقسم الهدف الكبير إلى أهداف مرحلية، وتوضع الخطة لكل منها، والوسائل اللازمة ويتابع التنفيذ وهكذا) (1).
إن الاهتمام بأصول وقواعد التخطيط وممارسته في الحياة الدنيا وفق التصور الإسلامي الصحيح من الأسباب المهمة لتمكين دين الله.
ثالثًا: الإعداد الاقتصادي:
إن من أسباب التمكين أن تهتم الحركات الإسلامية بالجانب الاقتصادي، لأن القوة الاقتصادية هي عصب الحياة الدنيا وقوامها، والضعيف فيها يقهر ولا يحسب له حساب إلا في ظل شرع الله حين يحكم، ولذلك ينبغي على الحركات الإسلامية أن تعتمد على الذات في موارد ثابتة، وهذا من النفرة التي أمرنا الله (عز وجل) بإعدادها لمواجهة الأعداء ونشر الدين، والاستغناء عن مد يد الاستجداء، مما يوفر للدعوة والدعاة حرية التحرك، واتخاذ القرار دون ضغوط كابحة للنشاط الإسلامي من أي جهة كانت, إضافة إلى ما توفره القوة المادية من ثقل إعلامي واجتماعي وسياسي هي بأمس الحاجة إليه (2).
كما أن حاجات العمل المتعددة تحتاج إلى أموال طائلة لتغطيتها، والمطلوب من الحركات الإسلامية أن تعد من رجالها من التجار المسلمين من تظهر على سلوكه أخلاق الإسلام في التعاملات التجارية, وتزوده بالخبرات الميدانية بحيث يقتحم مع إخوانه مجالات التجارة الدولية والأسواق العالمية, ويعمل على توحيد جهود التجار المسلمين وإيجاد شبكات للتعاون المثمر بحيث يقارعون الشركات اليهودية والشيوعية والنصرانية ويبذلون ما في وسعهم من أجل هيمنة الاقتصاد
_________
(1) انظر: قضايا أساسية على طريق الدعوة للأستاذ مصطفى مشهور نقلاً عن الدعاة والتخطيط، ص28.
(2) البيان: العدد 118 جمادى الآخرة 1418هـ، ص9.(1/339)
الإسلامي على الأسواق العالمية ويحررون شعوب المسلمين من سيطرة الفكر الرأسمالي الدخيل والشيوعي.
إن على التجار المسلمين أن يستوعبوا علم الاقتصاد الإسلامي الذي ينسجم مع تصور الإسلام للكون والإنسان والحياة، والذي في طياته حل لمتطلبات العصر الحديث وبخاصة أن العالم الإسلامي يمتلك من الطاقات البشرية والمادية ما يمكنه من بناء اقتصاد سليم قوي يواجه التيارات الاقتصادية المتصارعة, وينقذ البشرية من الويلات الاقتصادية التي تعيشها.
وعليهم أن يسعوا إلى أسلمة المؤسسات الاقتصادية بحيث تنسجم مع النظام الإسلامي على جميع المستويات، كما عليهم أن يعمقوا فاعلية المؤسسات الإسلامية حتى يتم تطويرها ويستفاد من أخطائها, وتعالج العوائق التي تحدث في طريقها، ولقد نجحت الحركة الإسلامية في تركيا نجاحا جيدا وأصبحت لها مؤسسات قوية ثابتة ولها تأثير وأداء متميز في الشارع التركي، ولقد استطاعت الحركة الإسلامية في السودان أن تخوض تجارب رائدة في البنوك الإسلامية وفي المؤسسات الاقتصادية وتوظيف فريضة الزكاة لحل مشاكل المسلمين، وكذلك الحركات الإسلامية في اليمن والأردن وماليزيا وأندونيسيا، وأصبح بحمد الله لها بنوك إسلامية ومستشفيات ومؤسسات عملاقة إلا أن الأعداء يضيقون عليها ويحاربونها.
إن الحركات الإسلامية فهمت معادلة المال وهيمنة الاقتصاد فهما جيدا وأصبحت ترى التاجر المسلم من صناع الحياة، بل هم صناع الصناع, يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد في هذا الصدد: (وعلى خطة الدعوة أن تتوب توبة نصوحًا من إسرافهم القديم في تعليم الدعاة كراهة المال وحب الوظائف الحكومية .. ) (1).
وطلب في كتاب صناعة الحياة من الدعاة أن يهتموا بجمع المال ولينزل منهم نفر إلى السوق، لأن في ذلك مردود دعوي، وذكر اليهود الذين استحوذوا على
_________
(1) صناعة الحياة، ص46.(1/340)
الأموال والأسواق ونحن لا نجيد إلا سبهم، ونضجر من المارون والأقباط والبهرة والقاديانية والمبتدعة والأقليات إذ كان منهم السبق إلى المال، بتسهيل الدوائر الاستعمارية لهم ذلك في فترة الاستعمار جزما، وبمساعدة من قوى خفية أخرى، ولكننا لم نحسن غير
سبهم وشتمهم.
إن قوة الاقتصاد الإسلامي ووصول الأموال إلى قبضة المسلمين ستكون عاملا من عوامل قوة الدعوة الإسلامية, وستتحكم المنظومة الإسلامية على الاقتصاد العالمي وستعرض على العالم سوقًا إسلامية ومنظومة شركات إسلامية.
وسترتفع رايات المسلمين ومعنوياتهم عندما يرون رجال المال المسلمين الذين ينفقون أموالهم سرا وعلانية ابتغاء مرضاة الله, وينطلق الدعاة في كل مكان مبشرين ومنذرين وخلفهم مؤسسات وشركات تدعمهم وتقف بجانبهم، كل على ثغر، وكل يسعى لتمكين دين الله في الأرض.
إن الإعداد المالي والقوة الاقتصادية ستكون في خدمة الأمة والدعوة والسياسة والفكر، وسيسند حركة التغيير الشاملة من أجل التمكين لدين الله في الأرض.
ولابد أن تهتم الحركات الإسلامية بميدان الصناعة والزراعة والعقار والاستيراد والتصدير، وبخاصة في البلاد الحرة التي لا ينال أموالنا فيها ظلم، وفي العالم الكبير الفسيح متسع للاستثمار (1).
إن الهيمنة على الاقتصاد وتحكيم شرع الله فيه جهاد عظيم ولها آثار على المجتمعات البشرية من أهمها:
1 - إنقاذ البشرية وبخاصة المسلمون من مساوئ الأنظمة الوضعية حتى إن علماء الغرب يقولون بذلك، يقول جاك أوستري: إن طريق الانتماء ليس محصورا في المذهبين المعروفين بل هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو المذهب الإسلامي (2)، وبذلك يتحرر المسلمون من التبعية الاقتصادية ويبرز للعالم هذا
_________
(1) صناعة الحياة، ص46، 47.
(2) الإسلام والتنمية الاقتصادية, جاك أوستري، ترجمة نبيل الطويل، ص1000.(1/341)
النظام، ومن هنا تأتي أهمية طريق النظام الاقتصادي في الإسلام، وبيان الأحكام الشرعية لمعالجة جميع مشاكل الحياة.
2 - استغلال الموارد البشرية والمادية الإسلامية استغلالا اقتصاديا يؤدي إلى الرفاهية العامة للشعوب الإسلامية مما يساعد المسلمين على قيام الصناعات الثقيلة, وبذلك تتحقق للمسلمين القوة والمنعة التي تحرر أراضيهم المحتلة, كل ذلك وفق برامج تنمية متكاملة، فالإسلام ليس مجرد تراث، بل فيه طريق التنمية السليم، وبذلك لا يبقى العالم الإسلامي مجرد سوق مالي وسلعي للشرق أو الغرب.
3 - وجود الاقتصاد الإسلامي يؤدي إلى الوحدة السياسية بين شعوب الإسلام، حيث إن الاقتصاد ينطلق من الشريعة، والشريعة تنادي بوحدة المسلمين، لأن وحدة الاقتصاد تؤدي إلى وحدة السياسة، وهذا ما تسعى إليه دول غير إسلامية مثل دول السوق الأوروبية المشتركة.
4 - تحقيق القوة الاقتصادية والسياسية يؤدي إلى عودة الإسلام إلى أيامه الزاهرة ويؤدي بالتالي إلى سيطرة الإسلام على مسرح السياسة والاقتصاد في العالم، وتصبح الأمة الإسلامية خير أمة وأقوى قوة فكرية وحضارية ومادية في العالم.
5 - إذا بنى الفكر وبخاصة الفكر الاقتصادي الإسلامي على أساس سليم من العقيدة والأسس التي وضحناها فإن الطريق إلى الاكتشافات والمخترعات الحديثة سيكون مفتوحا، وستوظف المفاهيم إلى واقع حي عملي في معترك الحياة، وبذلك نبعد جميع الأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية من رأسمالية واشتراكية.
إن العقيدة الإسلامية ما جاءت إلا لهداية البشر إلى ما فيه السعادة في الدارين (1)، والتي من ضمنها الجانب المادي الاقتصادي.
ولقد اهتم الإسلام بالموارد المالية وبين طرق الكسب المشروع، كالبيوع
_________
(1) انظر: النظام الاقتصادي في الإسلام, محمود الخطيب، ص74، 75.(1/342)
والميراث والوصايا والهبات وغيرها، ووضح طرق الكسب غير المشروع، كالربا والغرر، والغش والاحتكار وغيرها, وكانت موارد الدولة الإسلامية في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء من بعده من الزكاة, والغنائم والفيء، والخراج والتجارة.
إن الحركات الإسلامية التي تسعى لتقوية جوانبها الاقتصادية والمالية وتوظيفها في دعوة الله تعالى قد أخذت بسبب مهم من أسباب التمكين المادي.
إن من القواعد المهمة في الاقتصاد الإسلامي: العمل على تحقيق الاكتفاء
الذاتي للأمة.
بمعنى أنها يجب أن يكون لديها من الخبرات والوسائل والأدوات ما يجعلها قادرة على أن تنتج ما يفي بحاجاتها المادية والمعنوية، ويسد ثغراتها المدنية والعسكرية، عن طريق ما يسميه الفقهاء فروض الكفاية، وهي تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة يقوم بها أمر الناس في دينهم أو دنياهم، فالواجب عليهم حينئذ تعلمهما وتعليمها وإتقانها حتى لا يكون المسلمون عالة على غيرهم، ولا يتحكم فيهم سواهم من الأمم الأخرى.
وبغير هذا الاستغناء والاكتفاء، لن يتحقق لهم العزة التي كتب الله لهم في كتابه: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وبغيره لن يتحقق لهم الاستقلال والسيادة الحقيقية, وهو ما ذكره القرآن: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
ولن يتحقق لهم مكان الأستاذية والشهادة على الأمم، وهو المذكور في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"
[البقرة: 143].
فلا عزة لأمة يكون سلاحها من صنع غيرها، يبيعها منه ما يشاء، متى شاء، بالشروط التي يشاء ويكف يده عنها أنى شاء وكيف شاء.(1/343)
ولا سيادة حقيقية لأمة تعتمد على خبراء أجانب عنها في أخص أمورها، وأدق شئونها، وأخطر أسرارها.
ولا استقلال لأمة لا تملك زراعة قوتها في أرضها، ولا تجد الدواء لمرضاها، ولا تقدر على النهوض بصناعة ثقيلة، إلا باستيراد الآلة والخبرة من غيرها.
ولا أستاذية لأمة لا تستطيع أن تبلغ دعوتها عن طريق الكلمة المقروءة أو المسموعة أو المصورة المرئية إلا بشرائها من أهلها القادرين عليها، مادامت لا تصنع مطبعة, ولابد لتجار المسلمين ورجال الأموال وأهل التخصص في الاقتصاد من حركات إسلامية وعموم الأمة أن يسلكوا سبيل الاكتفاء والتحرر من التبعية الغربية أو الشرقية.
ومن الأمور التي تعين على الاكتفاء:
1 - ضرورة التخطيط:
لابد من التخطيط القائم على الإحصاء الدقيق، والأرقام الحقيقية، والمعرفة اللازمة بالحاجات المطلوبة ومراتبها ومدى أهميتها، والإمكانات الموجودة، ومدى القدرة على تنميتها والوسائل الميسورة لتلبية الحاجات والتطلع إلى الطموحات.
2 - تهيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها:
ويكون ذلك بتطوير النظام التعليمي والتدريبي، بحيث يهيئ لها الطاقات والكفايات البشرية المتنوعة في كل مجال تحتاج إليه، وأن تطور نظامها الإداري والمالي بحيث تنمي هذه الطاقات، وتحسن تجنيدها، وتوزيعها على شتى الاختصاصات بالعدل، اهتداء بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] , وملء الثغرات التي تهمل - عادة أو غفلة - بالحوافز أو بالالتزام.
ووضع كل إنسان في المكان المناسب له، والحذر من إسناد الأمر لغير أهله(1/344)
«إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (1)، ومن ثم كان حرص الإسلام على الثروة البشرية والمحافظة عليها والعمل على تنميتها: جسميا وعقليا وروحيا وعلميا ومهنيا.
3 - حسن استغلال الموارد المتاحة:
بحيث لا نهدر شيئا منها ونحافظ عليها باعتبارها أمانة يجب أن تُرعى، ونعمة يجب أن يُشكر الله تعالى باستخدامها أحسن استخدام، وأمثله.
ويحسن بنا هنا إلى أن نشير إلى قوله تعالى في الوصية بمال اليتيم: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34].
وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم بهذه الصيغة نفسها، فلم يكتف القرآن منا أن نقرب مال اليتيم بطريقة حسنة وحسب، بل بالتي هي أحسن، فإذا كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم والمحافظة عليه، إحداهما حسنة جيدة والأخرى أحسن منها وأجود، كان الواجب علينا أن نستخدم التي هي أحسن وأجود، بل حرام علينا ألا نستخدم إلا التي هي أحسن، كما هو مفهوم التعبير بالنهي وأسلوب القصر.
ومال الأمة في مجموعه أشبه بمال اليتيم، والمؤسسات التي ترعاه أشبه بولي اليتيم ولهذا يجب أن نحافظ عليه وننميه بالتي هي أحسن.
4 - التنسيق بين فروع الإنتاج:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تبايعتم بالعينة (2)، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم» (3)، ففي هذا الحديث إشارة إلى أن الاكتفاء بالزراعة
_________
(1) البخاري في صحيحه، وفي مشكاة المصابيح رقم (5439).
(2) العينة: أن يبيع السلعة بثمن معلوم لأجل ثم يشتريها منه في الحال بأقل.
(3) صحيح الجامع الصغير، ص433.(1/345)
وحدها، وما يتبعها من الإخلاد إلى الحياة الخاصة المعبر عنها باتباع أذناب البقر، وترك الجهاد في سبيل الله وما يتطلبه من إعداد القوة، يعرض الأمة لخطر الذل والاستعمار، وهذا بالضرورة يحتاج إلى نوع من الصناعات لابد أن يتوافر في الأمة، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولقد أنزل في كتابه سورة الحديد تنبيها منه على أهمية هذا المعدن الخطير، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. ففي قوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ" إشارة إلى الصناعات الحربية، وفي قوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" إشارة إلى الصناعات المدنية وبهذا تكتمل قوة الأمة في سلمها وحربها.
5 - تشغيل الثروة النقدية:
بحيث تخرج النقود من قمقم «الكنز» إلى ساحة الحركة، والعمل، فإن النقود لم تخلق لتحبس وتكتنز، إنما خلقت لتتداول وتنتقل من يد إلى يد؛ ثمنا لبيع أو أجرا لعمل، أو عينًا ينتفع بها، أو رأس مال لشركة أو مضاربة، فهي وسيلة لأغراض شتى، وليست غرضا في ذاتها.
هذه بعض الخطوط العريضة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحرير الأمة من العبودية الاقتصادية لغيرها، والاقتراب بها نحو تمكين دينها، كما ننبه على أهمية توزيع الزكاة ورعاية أموال الأوقاف ووضعها في محلها الصحيح فيه من الثروات الهائلة, فلابد من تحرير الأوقاف فإنها تصل إلى الملايين في البلدان الإسلامية ولم تستثمر كما ينبغي من أجل تقوية دعوة الله والتمكين في الأرض.
رابعًا: الإعداد الإعلامي:
للإعلام أهميته الخطيرة في العصر الحديث، وقد نال اهتماما بالغا من كل الدول حتى أنشئت له كليات خاصة وهي «كليات الإعلام» , وأنشئت له وزارات خاصة وهي «وزارات الإعلام» التي تشرف على مختلف وسائل ونواحي الإعلام(1/346)
في الدولة, ويعين وزير لها من أكفأ الوزراء وأشدهم ولاء لنظام الحكم القائم في الدولة، وذلك لخطره الكبير وأهميته في هذا العصر الذي انتشرت فيه وتقدمت العلوم الحديثة والمخترعات المتعددة والنظريات المختلفة، فللإعلام تأثيره على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والمجتمع الدولي كله.
وتتضح أهمية الإعلام في الآتي:
1 - تزويد الناس بالمعلومات والحقائق وغيرها من ضروب المعرفة وآخر الأحداث والأخبار، لتشبع رغبتهم الملحة للمعرفة، ويقوِّموا الأمور التي حولهم في المجتمع تقويما عادلا ويفهموا طبيعة البيئة التي يعيشون فيها ويتمكنوا من التكيف معها والتجاوب مع أفرادها.
2 - نشر الوعي والحقائق الثابتة وتثقيف العقول وتنوير الأذهان، ومحاربة الخرافات والأساطير والبدع الضارة حتى يتغير أسلوب الحياة وتتغير الأفكار إلى الأفضل والأحسن وذلك بعرض الجوانب الإيجابية من الحياة عرضا إعلاميا مناسبا وعرض المعلومات والأفكار الحديثة والعصرية التي تؤدي لنهضة الأمة وزيادة وعيها وثقافتها.
3 - دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإحداث التغيير فيها للأفضل، وذلك بتخطيط إعلامي سليم يتم به نقل التقنية الحديثة إلى أقصى مدى من البث والدعاية, ويلازم هذا الإعلام ويواكب خطوات التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وشرح حقائقه وأهدافه.
4 - المحافظة على شخصية المجتمع بكل معتقداته وآدابه وتراثه وتاريخه, وتعميق كل هذا بوسائل الإعلام المختلفة حتى يظل المجتمع متماسكا بشخصيته المعروفة باستمرار.
5 - تحقيق الترابط التام بين الحاكم والمحكوم بحيث تنسجم وتتوافق القاعدة العريضة من المجتمع مع القمة مما يدفع المجتمع إلى التقدم السريع والعمل البناء.(1/347)
6 - قلب الحكومات وإيجاد الاضطرابات: فقد يقوم الإعلام بذلك نتيجة للصراع الفكري أو الصراع الاجتماعي أو الصراع السياسي, فتذاع أخبار وحقائق تثير الناس مما يخلق الفوضى في المجتمع, ويكون من نتيجة ذلك تغيير الوزارات أو قلب الحكومات أو تقرير مصائر الدول أو إيجاد الحقد والكراهية نحو طبقة معينة أو مجتمع معين (1) إلى غير ذلك من الأمور.
ولقد أرشد القرآن الكريم الأمة إلى الأخذ بأسلوب الإعلام في دعوة الخلق ونهج نهجا متميزا في إيصال الحقائق إلى الناس؛ فمثلا نرى القرآن الكريم جعل الأحداث مدخلا إلى قلوب الناس وعقولهم لإرشادهم وتوجيههم لما فيه السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
فنجده ينزل في كثير من الأحيان إثر حادثة أو سؤال مراعيا في ذلك الوقت المناسب وما نزل منه ابتداء فأسبابه قائمة في الواقع وإن لم يكن لحادثة معينة.
وقد سأل اليهود الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن هذه الظاهرة الغريبة، التي ما عهدوها من قبل في الكتب السماوية السابقة والتي كانت تنزل جملة واحدة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى، فنزل قوله تعالى ردا على سؤالهم (2): {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً - وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32، 33].
إن نزول القرآن الكريم منجما حسب الأحداث والوقائع كان له أهداف إعلامية عظيمة لا يمكن تحقيقها في مدة قصيرة من الزمن إلا بهذا الأسلوب المعجز.
ومن أهم هذه الأهداف الإعلامية:
1 - مساعدة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حل المشاكل الاجتماعية المتجددة، فمن ذلك أن عبد الله بن رواحة تزوج من أمة له سوداء بعد أن أعتقها إثر ضربه لها
_________
(1) انظر: فقه الدعوة الإسلامية والإعلام عند المودودي لفاروق الصاوي، ص20، 21.
(2) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/ 42)(1/348)
وهي أمة مؤمنة, فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم, فنزل قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221].
فكان العرف السائد في الجاهلية وحتى ظهور الإسلام أن التفاضل بين الناس بالأنساب والأحساب فقط، وكان هذا الحدث وما حصل فيه من استغراب وقيل وقال قد أتاح الفرصة لإعلام الناس بمقياس الإسلام الحقيقي في التفاضل بين الناس؛ وهو تقوى الله عز وجل والإيمان به وبرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا المقياس فيه رفع من شأن المؤمن وإعلام بشرفه على الكافر، ولو كان هذا المؤمن عبدا أو أمة، وكما لا يخفى فإن فيه تصغيرا لشأن الكافر وإعلاما بتفاهته ولو كان أشرف الناس في حسبه ونسبه. ونزول هذه الآيات عقب هذا الحدث الذي هيأ النفوس وأثار انتباهها إعلام لكلا الطرفين بذلك.
2 - مساعدة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإجابة الموجهة إليه من قبل المؤمنين أو الكافرين؛ عندما بعث المشركون إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن أمره فقالت اليهود عنه أشياء ثلاثة، فإن لم يجب عنها أو أجاب عنها جميعا فهو ليس بنبي, وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن الثالث فهو نبي وهذه الأمور الثلاثة هي:
* فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان من أمرهم؟
* رجل بلغ شرق الأرض وغربها .. ما خبره؟
* وعن الروح؟(1/349)
فسأله القرشيون عن هذه الأشياء فوعدهم بالإجابة عليها في اليوم التالي ولم يقل إن شاء الله «قال مجاهد: إن الوحي تأخر عنه اثنتي عشرة ليلة» (1) , وقيل غير ذلك حتى كثر القيل والقال بين الناس، وقال قائل قريش: وعدنا محمدًا غدًا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء. واشتد الحزن على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبب ذلك حتى إذا تهيأت نفوس الناس وتوترت أعصابهم والتفتت أنظارهم لنتيجة هذا الحدث العظيم الذي يعتبر من أهم الأدلة والبراهين على صدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه مرسل من عند الله نزل الوحي من الله يقول بشأن الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9].
ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83].
ونزل في الروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
فأجاب عن اثنين من الأسئلة ولم يجب عن واحد، الأمر الذي جعل القرشيين وغيرهم يوقنون بصدق دعوى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه مرسل وأنه صادق أمين كما عهدوه. وهكذا كان القرآن الكريم يجيب عن كل سؤال يوجه إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواء كان هذا السؤال من المؤمنين أو الكافرين، أو كان لغرض التثبت والتأكد أو للاسترشاد والمعرفة (2).
ولقد تعددت الأغراض الإعلامية من نزول القرآن منجما فبالإضافة إلى ما ذكرنا ثمت أغراض أخرى منها: رفع معنوية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وقت لآخر بتبشيره بالنصر على الأعداء وحمايته، وفضح أعداء هذا الدين من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب, تنبيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من وقت لآخر على أخطائهم, من ذلك ما وقع للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أسرى المشركين يوم بدر (3).
ولقد أرشد القرآن الكريم إلى الدستور الإعلامي في القرآن في قوله تعالى:
_________
(1) تفسير البغوي بهامش الخازن (4/ 181).
(2) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، ص18.
(3) المصدر نفسه، ص18 - 21.(1/350)
{وَالْعَصْرِ - إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] حيث استنبط متخصصو الإعلام من هذه السورة الدستور الإعلامي المكون من:
1 - العلم والإيمان.
2 - العمل الصالح.
3 - تبليغ الرسالة.
واستنبطوا قواعد الأسلوب الإعلامي في القرآن من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ - وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ - إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 125 - 128].
فهذه الآيات وضعت قواعد وأسس واضحة للأسلوب الإعلامي القولي منه والعملي التي لابد للمسلمين أن يلتزموا بها عند قيامهم بتبليغ هذه الرسالة إلى الناس, إذا أرادوا تحقيق أهدافهم وغايتهم (1).
ومن أهم هذه القواعد:
1 - الحكمة:
هي حسن اختيار الأسلوب الإعلامي المناسب للمخاطبين وتنويعه حسب الظروف والزمان والتدرج في إيصال الرسالة الإعلامية حتى لا يشق على المخاطبين استيعابها.
2 - الموعظة الحسنة:
هي التوجيهات التي يقدمها صاحب الرسالة للناس عن طريق الأوامر والنواهي المقرونة بالترغيب والترهيب بقصد نصحهم وإرشادهم معتمدا على إيقاظ
_________
(1) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن، ص33.(1/351)
شعورهم ومحاولة إثارة انفعالاتهم نحو ما يدعو له بعد اطمئنانهم له نفسيا واقترابهم منه (1).
3 - الجدال بالتي هي أحسن:
فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعية إلى باطل يجادل باللين واللطف بلا تحامل عليه ولا تقبيح له حتى يطمئن إلى صاحب الرسالة ويشعر أن هدفه هو الوصول إلى الحقيقة لا غير.
4 - الجهاد:
قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] , فلابد من الدفاع عن هذه العقيدة وعن حريتها وحرية القائمين على تبليغها «لكي لا تهون في نفوس الناس, فالدعوة المهينة لا يعتنقها أحد» (2).
5 - القدوة الحسنة:
{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] , فالعفو عند المقدرة في بعض الأحيان يكون أعمق أثرا وأكثر فائدة من الانتقام والضرب بيد من حديد على يد الظالم يصبح حتميا، لأن فيه دفع الضرر وإعلاما لمن خلفهم ولكل من سولت له نفسه الإضرار بهذه الدعوة وأهلها أن هذا هو المصير الذي ينتظره، والجدير بالذكر أن هاتين القاعدتين (أعني (3) الجهاد والقدوة الحسنة) تمثلان الأسلوب الإعلامي العملي في الإسلام .. وبعد أن أرشدنا القرآن الكريم إلى القواعد الأساسية للأسلوب الإعلامي الناجح الذي تنتهجه في نشر هذه الدعوة الخالدة، أشار إشارة واضحة إلى ما سيلاقيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون من أساليب إعلامية مضادة شيطانية للقضاء على هذه الرسالة والنيل منها, فحثهم على الصبر في هذا
_________
(1) انظر: مذكرات في الدعوة الإسلامية، عبد الغفار عزيز، ص5.
(2) في ظلال القرآن (4/ 2202).
(3) , (3) انظر الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، محمد الطلابي، ص35.(1/352)
الصراع الإعلامي المرير بين الحق والباطل وأن العاقبة ستكون له وللمؤمنين, والخزي والفشل لأعداء هذا الدين قال تعالى: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ - إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:127، 128].
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم قد انتهج هذا الدستور مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فأول ما نزل من القرآن الكريم هو إعلام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحقيقة «قاعدة التصور الإيماني العريض» (1) , قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].
«فالله هو الذي خلق وهو الذي علم, فمنه البدء والنشأة, ومنه التعليم والمعرفة .. والإنسان يتعلم ما يتعلم ويعلم ما يعلم .. فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق
والذي علم» (2).
وكانت هذه هي البداية مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأول ما نزل عليه من القرآن الكريم كان الهدف منه إعلام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقاعدة التصور الإيماني والإيمان بها، فلما علم هذه القاعدة وآمن بها أمره الله تعالى «بالعبادات الفاضلة والقاصرة» (3) عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ومن أهمها قراءة القرآن وصلاة الليل, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً - نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً - أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 - 4].
ولما علم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقيقة قاعدة «التصور الإيماني» وعمل بمقتضاها، صار عنده استعداد ذاتي لتصدير هذه الرسالة إلى الناس، فعندها أمره الله تعالى «بإعلان هذه الدعوة والصدع بها» (4) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1 - 3].
_________
(1) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، ص35.
(2) في ظلال القرآن (6/ 3939).
(3) , (2) تفسير السعدي، (7/ 508).
(4) تفسير السعدي (7/ 508).(1/353)
كما أن القرآن الكريم غني بالأساليب الإعلامية سواء كانت قولية أو عملية، فمن القولية مثلا: أسلوب الهدم والبناء، والتقابل، التبشير بغد أفضل، الجدل، التهديد، تشويه الصورة، تحسين الصورة، ومن الأساليب الإعلامية العملية، القدوة الحسنة، العفو عند المقدرة، الثبات على الحق (1).
ولقد مارس الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنهج القرآني الإعلامي، وقام ببعض الأعمال العظيمة التي حققت أهدافًا إعلامية وساهمت في انتشار هذا الدين والتمكين له في قلوب العباد وفي البلاد فمثلا:
1 - الهجرة:
اضطهد المكيون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى وصل بهم الأمر إلى التفكير في التخلص منه, قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] , فأمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فخرج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه أبو بكر الصديق متوجها إلى المدينة تنفيذا لأمر الله تعالى له, ولم يكن خروج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلى المدينة خوفا ولا هربا من المشركين «بل تعليم للأمة ضرورة أخذ الحيطة في الأزمات وليقف على تحركات قريش ويعلم مقاصدهم ولينكشف ما اعتزموا عليه» (2).
وكان هذا العمل من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أبلغ الأساليب الإعلامية في الإسلام وكانت له آثار إعلامية في داخل مكة وخارجها، فأهل مكة شعروا بأن هؤلاء لم يتركوا أهلهم ووطنهم وأموالهم إلا من أجل قوة إيمانهم بصدق ما هم عليه من حق. كما أن هذه الهجرة «أوجدت فراغًا كبيرًا في مكة, ولفت هذا الفراغ المكيين
_________
(1) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن، ص36: 60.
(2) تفسير السعدي (2/ 236).(1/354)
للتغييرات التي حدثت في مجتمعهم ومن أهمها .. ظهور هذا الدين (1) ولم تقتصر آثار الهجرة على مكة وحدها «فإن وجود عناصر مكية في المدينة لفت انتباه جميع من فيها وفي ذلك إعلان كبير .. عن هذا الدين» (2).
ومن هنا كانت الهجرة أسلوبًا إعلاميًّا فريدًا قل أن يكون له مثيل في التاريخ (3).
2 - بناء المسجد:
قال تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
سواء كانت هذه الآية نزلت في قباء أو المسجد النبوي الشريف فإن الملاحظ أن أول عمل قام به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند قدومه إلى المدينة هو بناء مسجد, ولم يكن الهدف الوحيد من هذا المسجد هو الصلاة، بل كان مركزًا إسلاميًا عاما يجتمع فيه المسلمون من جميع القبائل ليتعلموا فيه أمور دينهم (4). ويقول الدكتور إبراهيم إمام: «أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يبدو أن يبني مكانا لا ينتمي إلى هذه القبيلة أو تلك, ولا يجتمع فيه أفراد من أسرة خاصة بل أن يشيد مكانا للجميع وهو بيت الله» (5).
وفي هذا إعلام لجميع المسلمين الموجودين في المدينة وغيرها أن هذا الدين دين الله وأنه يقضي على العصبيات مهما كانت وعلى أي أساس وجدت، وأن مقياس التفاضل فيه إنما هو بتقوى الله عز وجل, قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] , فلو أقام المسجد في بيت من بيوت إحدى القبيلتين الموجودتين في المدينة لوجدت القبيلة الأخرى في نفسها شيئا من ذلك واعتبرته تفضيلاً لها, فكان هذا العمل من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه من الحكمة ما لا يخفى.
_________
(1) الإعلام في صدر الإسلام, عبد اللطيف حمزة، ص135.
(2) المصدر نفسه، ص135.
(3) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، ص62.
(4) المصدر نفسه، ص62.
(5) الإعلام والإسلام, إبراهيم إمام، ص73.(1/355)
والحقيقة أنه ما من مكان في الأرض يستطيع تحقيق ما يحققه المسجد من توحيد في الكلمة والجهود والقضاء على العصبيات إذا وجد من يحسن الاستفادة منه من الناحية الإعلامية (1).
3 - بيعة الرضوان:
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع بعض أصحابه وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة من المدينة قاصدين بيت الله الحرام للزيارة, وكان هذا بعد غزوة الأحزاب بعام «فلما اقتربوا من مكة وجدوا قريشا تستعد لقتالهم، فبعث إليهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان بن عفان يقترح عليهم عقد صلح بين الفريقين وسرت شائعة بأن عثمان قد قتل» (2).
فلجأ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أسلوب إعلامي يشعر القرشيين بقوة المسلمين وأنهم على استعداد لقتالهم والانتصار عليهم فجمع أصحابه ودعاهم إلى المبايعة «فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين وأن لا يفروا حتى يموتوا» فلما علمت قريش بهذه البيعة وأن المسلمين عازمون على الدخول في الحرب معهم دخل الرعب في قلوبهم, واضطروا في الدخول في المفاوضات السلمية التي كانت الهدف الأساسي للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استخدام هذا الأسلوب. وكانت قريش ترفض هذه المفاوضات فعقد معهم «هدنة الحديبية» التي اعتبرها الله -تعالى- فتحا للمؤمنين وامتن بها على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1].
4 - البعثات النبوية:
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
_________
(1) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، ص62.
(2) الإعلام في صدر الإسلام، ص161.(1/356)
في هذه الآية الغاية التي من أجلها أنزل القرآن على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وهي إنذار العالمين وتخويفهم من بأس الله ونقمته, وبيان رضا الله من سخطه، وفي هذا دلالة واضحة على أن هذه الرسالة عالمية «وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد, ومن نهج إلى نهج عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا» (1).
وإذا كانت هذه الدعوة عالمية فلابد أن يكون إعلامها كذلك، فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون مكلفون بتبليغ هذه الرسالة إلى جميع الناس بشتى الأساليب الإعلامية.
ولذا فإننا نرى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أول فرصة وجدها بعد صلح الحديبية قام بإرسال البعوث الدينية إلى القبائل العربية المجاورة, وإلى الأمم خارج الجزيرة العربية للتبشير بهذه الرسالة تنفيذا لأمر الله تعالى بتعميم هذه الرسالة.
ولقد حقق هذا النوع من الأساليب عدة أهداف من أهمها:
1 - إشعار العرب والعجم وغيرهم «أن الإسلام ليس خاصا بالعرب وحدهم ولكنه عام لجميع الناس» (2).
2 - قبول هذه الدعوة والترحيب بها من قبل بعض الأمراء والملوك الموجهة إليهم كما فعل المقوقس والنجاشي, وإن كان البعض رفضها وأساء الرد على صاحبها كما فعل كسرى.
وهذا النوع من الأساليب ليستخدم في عصرنا هذا لتوثيق الروابط السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الدول عن طريق السفارات والمبعوثين الدبلوماسيين (3).
_________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2548).
(2) الإعلام في صدر الإسلام، ص155.
(3) انظر: الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، ص65.(1/357)
ومن خلال هذه المعالم القرآنية والممارسة النبوية الشريفة نتيقن أن الاهتمام بالإعلام وتوظيفه لخدمة الدعوة والتمكين لدين الله من الوسائل المهمة واللازمة للحركات الإسلامية المعاصرة، ولقد استطاعت بعض الحركات الإسلامية مثل التركية أن تستخدم القنوات الفضائية والإذاعية والتلفزيونية والجرائد والمجلات لخدمة الدعوة الإسلامية, وحققت نتائج مبشرة في هذا الميدان. وكذلك الحركة السودانية التي تحاول أن تجعل من وسائل الإعلام وسيلة لخدمة الإسلام في العالم, وأثبتت للعالم أجمع أن الكوادر الإسلامية قادرة على أن تقدم للعالم أروع الأمثلة في العيش للقضايا الإنسانية من خلال التصور الإسلامي.
إن الأخذ بالوسائل الإعلامية المعاصرة يساعد الحركات الإسلامية والدعاة إلى الإسلام عموما بالتعريف بأهداف الدعوة ومقاصدها، ليعلم الناس أن قضية الإسلام قضية عادلة، لا كما يصورها الأعداء بنعوت وأسماء زائفة تخالف الحقيقة، إن في عصرنا يمكن توظيف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية للقيام بوظيفة البلاغ المبين، وإيصال رسالة الإسلام إلى جميع الفئات الاجتماعية، حيث يستفيد الدعاة من التطور التقني الهائل في مجالات الاتصال لتبليغ دعوتهم ونشر أفكارهم وعقيدتهم (1).
ولقد ترك لنا الداعية الكبير والعالم القدير زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان العلامة أبو الأعلي المودودي تجربة رائعة في توظيف المجال الإعلامي للدعوة الإسلامية تركت آثارا على المحيط المحلي للدعوة والمحيط العالمي, واستفاد من جميع الوسائل الإعلامية المتاحة لديه من صحافة، ومؤلفات، ومحاضرات، ومجالس، ومراسلات ومكاتبات، وفتاوى وتفسير وقدوة حسنة وخدمات اجتماعية ولقاءات في الإذاعة, وأثمرت تلك الجهود عن ظهور آثار عالمية ونجحت في تحقيق بيان الإسلام للناس:
_________
(1) البيان، العدد: 118، ص10.(1/358)
أ- الآثار المحلية:
1 - إنقاذ المسلمين من خدعة القومية الهندية الواحدة.
2 - هدم سيطرة الحضارة الغربية على المسلمين.
3 - جمع الرأي العام على المطالبة بتطبيق الشريعة.
4 - المساهمة الفعالة في قيام باكستان.
5 - إزالة الجمود الديني والمزج بين القديم والحديث.
6 - تكوين عمل منظم لإعادة الإسلام عن طريق الجماعة الإسلامية.
7 - إبراز أخلاق الإسلام السياسية ونظافتها على عكس السياسة المعاصرة.
8 - إثراء الأدب والفكر الإسلامي.
9 - جمع شمل العلماء على معالي الأمور.
10 - اتساع دائرة التعاون وخدمة الخلق.
11 - إبراز الوجه الشمولي للإسلام (1).
ب- آثار إعلام المودودي العالمية:
1 - توعية العرب والمسلمين بحقيقة الإسلام.
2 - فضح التآمر الصليبي وغاراته على العالم الإسلامي.
3 - تنشيط وإثراء البحوث والدراسات الإسلامية على العالم.
4 - إقناع الناس بالإسلام (2).
إن الأخذ بوسائل الإعلام الحديثة يعيين الدعاة إلى الله على توصيل الأمور الآتية إلى الناس:
_________
(1) انظر: فقه الدعوة الإسلامية والإعلام عند المودودي، ص383: 389.
(2) المصدر السابق، ص403: 407.(1/359)
1 - الدعوة إلى الله:
بتعريف الناس بحقيقة الإسلام ونظرته للخلاق العليم والكون والحياة والإنسان.
2 - تعريف المسلمين بحقائق الدين:
من عقائد ومعاملات وسلوك وأخلاق، وتربيتهم تربية صالحة وإعدادهم إعدادا يتناسب مع رسالتهم الإسلامية، ومسئوليتهم في الحياة.
3 - إبراز دور الإسلام:
وكيف أنه قام بإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكيف انتصرت القلة المؤمنة بتمسكها بدين الله.
4 - استنفار الأمة للدعوة والجهاد:
وحشد الطاقات حتى تقوى الأمة وتصبح صفًا واحدًا متينًا، وتكون مرهوبة الجانب فلا يطمع فيها الأعداء، ولا يستخف بقوتها الكفار، بل يعملون لها ألف حساب.
5 - الرد على الشبهات:
التي يثيرها أعداء الإسلام التقليديون من يهود ونصارى ودحض مفترياتهم وإبطال حججهم الزائفة.
6 - الرد على النظريات والمذاهب المادية الحديثة:
كالشيوعية والاشتراكية والرأسمالية والفاشية والنازية والوجودية والماسونية واليهودية ... إلخ، ودحض مفترياتها وبيان دين الله الحق عنها (1) , وغير ذلك من الأمور.
إن من الأهمية بمكان الأخذ بوسائل الإعلام بحيث يوظفها العاملون في الدعوة الإسلامية لخدمة الإسلام والتمكين له في دنيا الناس.
_________
(1) انظر: فقه الدعوة الإسلامية والإعلام عند المودودي، ص26، 27.(1/360)
خامسًا: الإعداد الأمني:
إن من أهم أسباب التمكين أن ينشأ الحس الأمني للأفراد العاملين منذ دخولهم في العمل الجماعي, وأن تشكل لجان ومكاتب, وتتحول مع توسع الحركة إلى مؤسسات ثم إلى وزارة بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم.
أ- ولقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا الجانب في آيات عديدة منها:
1 - قوله تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120].
وتشير الآية الكريمة على أن كل نيل من العدو عليه جزاء (1) , وإن استطلاع أخبار العدو ومعرفة مواطن الضعف فيه، ومواقع آلياته ومنشآته يعتبر نيلا لأن ذلك يوصل للتخطيط السليم المؤدي إلى الظفر به.
2 - قال تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُّوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وجه الاستدلال: أن يعقوب عليه السلام قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه، وفي هذا إقرار من أحد أنبياء الله في جمع المعلومات عن الآخرين، ويعتبر جمع المعلومات من العناصر الأساسية في علم الاستخبارات، ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات {وَلاَ تَيْأَسُوا" (2).
3 - قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ
يَقِينٍ} [النمل: 22].
إن الآية الكريمة ذكرت مبدأ من مبادئ الاستخبارات وهو مبدأ جمع المعلومات, حيث إن الظروف التي جمعت فيها المعلومات هي ظروف حرب
_________
(1) في ظلال القرآن (4/ 11)
(2) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام, عبد الله علي، ص105.(1/361)
بدليل قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] , نلحظ في هذه الآية تطبيق عناصر الاستخبارات التي هي:
- إقرار مبدأ الحصول على المعلومات:
إذ أقر سليمان الهدهد ثم أرسله مرة أخرى: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] ثم قال: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28].
- عرض المعلومات المجمعة:
قال تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ - وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ... } [النمل: 23، 24].
- تقييم المعلومات المعروضة وتقرير مدى صحتها:
{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27].
- تحليل ودراسة المعلومات واستخلاص النتائج المفيدة منها.
- إمداد المسئولين وإطلاع القادة على المعلومات:
فالهدهد كجندي من جنود سليمان رأى أن من واجبه أن يأتي بما حصل عليه من معلومات إلى مسئوله وهو سليمان (1) عليه السلام: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
- المباغتة والمفاجأة في جمع المعلومات وتوصيلها وغير ذلك من الدروس والعبر:
4 - قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ - حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 17، 18].
_________
(1) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ص108.(1/362)
نلحظ في هذه الآيات الكريمة أن المعلومات السابقة لا تقتصر على بني البشر, فقد يستفيد منها الحيوان والطير، إذ استفاد النمل من المعلومات السابقة، فاستعمل وسائل الإنذار المبكر، إذ قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات: ادخلوا مساكنكم حفاظا على حياتكم لأن سليمان وجنوده ربما يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير قصد، فقد بينت السبب في توجيه هذا الإنذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات المسبقة التي حصلت عليها (1).
5 - قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - وَحَرَّمْنَا
عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ"
[القصص:12،11].
ونلحظ في الآيات الآتي:
- استخدام أم موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها في حفاظها على ابنها {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ" والتقصي إنما هو تتبع الأثر وجمع المعلومات.
- اختيار العنصر الأمين والحريص في جمع المعلومات لتكون صحيحة وموثقة وأمينة، وقبل ذلك حريصة على تلك المعلومات {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ".
فأم موسى لم تختر غير أخته، لأن الأخت تعتبر من الحريصين والأمناء على تلك المصلحة, وهي تندفع من ذاتها في جمع المعلومات وتحصيل الأخبار، والمهم بمكان أن يكون العنصر المرسل في عملية الاستخبارات مندفعًا من ذاته حريصًا على المصلحة المرسل إليها.
- التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار {قُصِّيهِ} [القصص: 11].
إذ نفهم من كلمة التقصي الانتباه وعدم إثارة الأنظار، ودليل ذلك أنها بصرت به دون أن يشعروا بها.
_________
(1) في ظلال القرآن (4/ 141).(1/363)
- دقة الملاحظة وقوة الفراسة أثناء جمع المعلومات {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 11].
- استعملت أخت موسى شكلا من أشكال الاستخبارات العصرية وهو التخريب الفكري، فبعد أن نظرت إليهن وهن غير قادرات على إرضاعه {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12].
وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع، ليخلص إلى أمها دون إشعارهم أنها منه بسبيل.
- محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات، فأخت موسى لم تكتف بأن تعرف مكان موسى لتخبر أمها بمكانه، وإنما هي تقصت الأخبار، وتوصلت إلى مكانه, وحاولت إعادته إلى أمه، وقد نجحت في هذا (1).
6 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] , وقال تعالى {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92] , وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102].
إن الإعداد الأمني والاستخباراتي في العمل الإسلامي من مظاهر الحذر واليقظة، لأنها تحول دون مفاجآت الأعداء, وتطبيق لآيات القرآن السابقة، كما أن السعي للحصول على المعلومات عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساس من أسباب القوة ومظاهرها التي أمر الإسلام بإعدادها من أسباب التمكين التي ذكرت في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
هذه بعض الإرشادات القرآنية إلى الأخذ بهذا المبدأ والإعداد له والاهتمام به.
_________
(1) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ص111، 112.(1/364)
ب- أما السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم فقد تركت لنا معالم مهمة وخطوطا عريضة في هذا الجانب المهم في حياة المسلمين، فنجد في الفترة المكية من معالمها الكتمان والسرية، ولذلك نجد أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار دار الأرقم بن أبي الأرقم كمقر سري للدعوة, وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يربي أتباعه على العقيدة والأخلاق الرفيعة استعدادا لمرحلة قادمة، وكان اختياره دار الأرقم بسبب:
1 - إن الأرقم لم يكن معروفا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بداره.
2 - إن الأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه - من بني مخزوم, وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
3 - إن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن التجمع الإسلامي فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام، فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر - رضي الله عنه - أو غيره، ومن أجل هذا نجد أن اختياره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدا أن قريشا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء (1).
ونلحظ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم ببناء الجهاز الأمني لدعوته ويزرع أتباعه في وسط القبائل من أجل السعي لتمكين دعوة الإسلام، فعندما أسلم عمرو بن عنبسة أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكتم إسلامه ويلتحق بأهله، وإذا نظرنا في قصة إسلام أبي ذر رأيت الجوانب الأمنية بارزة في تلك السيرة العطرة.
_________
(1) المنهج الحركي للسيرة النبوية (1/ 49).(1/365)
وفي بيعة العقبة الثانية نلحظ أن المسلمين رتبوا هذا اللقاء ترتيبا رفيعا، فأخذوا بجميع الاحتياطات الأمنية من حيث الزمان والمكان، وعقدوا الاتفاق عقدا متينا وحققوا ما أرادوا، والمشركون في غفلة عما يحدث، وفي هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قمم شامخة في مجال الترتيب الأمني والتخطيط الاستخباراتي، وبعد أن انتقل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة نجده يهتم بجمع المعلومات عن أعدائه, ويربي أصحابه تربية أمنية فريدة من نوعها:
1 - روي عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه بعث عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - في السنة الثانية للهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، وزوده بكتاب مختوم أمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ويصل إلى موقع معلوم حدده له، فلما وصل ذلك المكان وآن وقت فض الكتاب، فضه فإذا فيه «إذا نظرت في كتابي هذا فامض على اسم الله وبركاته، لا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك, وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم» (1).
نلحظ في هذه المهمة أمورا منها:
1 - إن هذه السرية كانت سرية استطلاع، غايتها مراقبة العدو واستطلاع أخباره على نحو السرايا الاستكشافية التي تضعها الجيوش أمامها، أو على جانبها، أو على نحو المغافر الأمامية في جهة القتال، وكانت مهمتها المراقبة، والاستطلاع فقط دون التعرض للأعداء بالتحرش أو الاحتكاك أو القتال، وهذا ما يسمى الاستخبارات الهجومية، هدفها جمع المعلومات عن العدو فقط لمصلحة الدولة الإسلامية.
2 - إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن تبقى سرية حتى على من يحملها وسينفذها أخذا بالاحتياط اللازم وخوفا من تسرب أدنى معلومة للعدو، وتربية لأصحابه أن المعلومة تكون على قدر الحاجة (2).
_________
(1) سنن البيهقي (9/ 12).
(2) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ص114.(1/366)
وفي غزوة بدر ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دروسًا وعبرًا وحكمًا لجمع المعلومات عن الأعداء وتوظيفها لنزع النصر من المشركين، فنلحظ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع معلومات متكاملة عن الأعداء، وقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإشراف على جهاز الاستخبارات وساهم بنفسه وبغيره في جمع المعلومات عن مشركي مكة، ويمكن لنا أن نحصر أساليب الاستطلاع التي قام بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحصول على المعلومات من مشركي مكة:
- أرسل بسيسة بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء حتى يأتياه بخبر عير أبي سفيان فعادا وأخبراه بموعد وصول العير (1).
- قيامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبصحبته أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بتحري المكان الذي توجد فيه قريش، وقد حصل له ما أراد عندما وقف على شيخ من العرب وسأله عن المكان الذي توجد فيه قريش.
- استنطاق الأسيرين اللذين قبض عليهما الصحابة, واستفاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استنطاق هذين الأسيرين أمورا مهمة جدا منها:
- عدد أفراد جيش المشركين، موقع قريش، قيادة جيش المشركين، ومن فيه من أشراف مكة (2).
وعتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المشركين أخبار المسلمين, وقام بأمر الكتمان خير قيام، وكان صفة بارزة له في غزواته كلها، فعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها ... ) (3).
وفي غزوة بدر مارس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا العمل الأمني ليرشد الأجيال على مر العصور وكر الدهور إلى أهميته وتجلي ذلك في الآتي:
_________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد (3/ 1510) رقم 1501.
(2) انظر: العبقرية العسكرية، لواء محمد فرج، ص57، 58.
(3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة (3/ 1383) رقم 1767.(1/367)
- سؤاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه وعن قريش وجيشها.
- تورية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجابته عن سؤال الشيخ: «مم أنتما؟» بقوله: «نحن من ماء» وهو جواب يقتضيه المقام، فقد أراد به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتمان أخبار جيش المسلمين.
وفي انصرافه فور استجوابه كتمان - أيضا - وهو دليل على ما يتمتع به رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحكمة، فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سببًا في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ماء» (1).
- أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع الأجراس من الإبل يوم بدر، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر.
- كتمانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « ... إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا ... » (2).
وقد استدل الإمام النووي - رحمه الله - بهذا الحديث على استحباب التورية
في الحرب، وأن لا يبين القائد الجهة التي يقصدها، لئلا يشيع هذا الخبر
فيحذرهم العدو) (3).
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم بحركة عدوه ولذلك كانت حركة الاختراق في القبائل المعادية واسعة جدا، ولذلك باغت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعداءه مرات عديدة، وأفشل خططهم العدائية، ولما أرادت قريش أن تباغت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد بدر كان مكتب استخبار مكة التابع للقيادة في المدينة يبعث بالمعلومات أولا بأول إلى قيادته.
لقد حرص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على استطلاع أخبار قريش، وكان يستعين بعمه
_________
(1) انظر: ابن هشام (1/ 616).
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد (3/ 1501) 1901.
(3) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (13/ 45).(1/368)
العباس، قال ابن عبد البر (1) - رحمه الله -: (وكان - رضي الله عنه - يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكتب إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن مقامك في مكة خير) (2).
لقد كان جهاز الاستخبارات الإسلامية في مكة دقيقا جدا وحقق نجاحات مهمة، ولقد قاد العباس بن عبد المطلب هذا الجهاز بكل جدارة ونشاط، وكانت معلوماته دقيقة وبياناته صحيحة, فمن هذه المعلومات التي وصلت رسالته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن قريشًا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك في ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة درع وثلاثة آلاف بعير وأوعبوا (3) من السلاح) (4).
لقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها:
1 - معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة، ولذلك استعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرع في أخذ العدة لمواجهة هذا الجيش العرمرم.
2 - حجم الجيش وقدرته القتالية وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة.
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتف بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أن تكون معلوماته على هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين إلى أهمية متابعة الأخبار التي يتولد عنها وضع خطط واستراتيجيات نافعة، فحين وصل جيش المشركين إلى مكان يقال له العرض (5)، أرسل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحباب بن المنذر فدخل بين جيش مكة وحزر عَدده وعُدده، ورجع وأخبر
_________
(1) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر, توفي 463هـ، تذكرة الحفاظ (3/ 1128).
(2) الاستيعاب (2/ 812).
(3) استوعبه: إذا أخذه أجمع.
(4) مغازي الواقدي (1/ 204).
(5) العِرْض: هو الجرف، موضع في المدينة.(1/369)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ولما بلغ الجيش ذا الحليفة أرسل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينين له وهما: ابنا فضالة، فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء ثم رجعا إلى المدينة وأخبرا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك (1).
ولقد حرص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي خوفا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة من تخطيط وترتيب، ولذلك حين قرأ أبيّ الرسالة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكتمه ما فيها وحينما دخل بيت سعد بن الربيع قال: (أفي البيت أحد؟) فقال سعد: لا، فتكلم بحاجتك، فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب، فانصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستكتم سعدا الخبر (2).
وفي هذا تعليم للقيادة الإسلامية على أهمية كتم الأسرار وما يتصل بها حتى عن أقرب الناس إليهم من زوجات وأولاد ومن في حكمهم، وإذا دعت الضرورة إلى نشر شيء من ذلك، فينبغي أن يكون لمن يحفظ السر حتى لا يلحق المسلمين بسبب ذلك ضرر.
وبعد أن عقد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المجلس الاستشاري ووُضعت الخطة المناسبة، اختار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقت المناسب للتحرك والطريق التي تناسب خطته، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئا، والحركة قليلة وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء - غالبًا- في نوم عميق، لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.
ومن المعروف من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم، فلا يشعر بالأصوات العالية والحركة الثقيلة.
قال الواقدي - رحمه الله -: (ونام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أدلج، فلما كان
_________
(1) انظر: المغازي للواقدي (1/ 206، 208).
(2) المغازي للواقدي (1/ 204، 205).(1/370)
من السحر قال: «أين الأدلاء؟») (1) ثم إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة, وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهو السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟» فأبدى أبو خيثمة - رضي الله عنه - استعداده قائلا: أنا يا رسول الله ونفذ به بين بساتين بني الحارثة (2). ولاشك في أن مروره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الأشجار والبساتين يدلنا على حرصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الأخذ بالاحتياطات الأمنية المناسبة في أثناء السير، لأن الطرق العامة تكشف للأعداء عن مقدار قوات المسلمين وهذا أمر محذور.
فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم الأمة الأخذ بالسرية من حيث المكان, ومن حيث الزمان، لئلا يتمكن الأعداء من معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها، وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم مهب الرياح (3).
وفي غزوة الخندق يظهر دور جهاز أمن الدولة الإسلامية بارزًا, فقد كان يتابع أخبار الأحزاب ويرصد تحركاتهم ويزود القيادة بجميع المعلومات، فقام فرع مكة الأمني بإرسال معلومات دقيقة ساعدت القيادة في رسم الخطط قبل وصول الأعداء للمدينة،
وأرسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طليعة تتابع الأمور على كثب وترسل المعلومات الدقيقة، ولقد كان حفر الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام وأبطل خطتهم التي رسموها, وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ما قام به المسلمون من إتقان رفيع لسرية الخطة وسرعة إنجازها، وكان هذا الأسلوب الجديد في القتال له أثر في إضعاف معنويات الأحزاب وتشتيت قواتهم ومارس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلاح التشكيك والدعاية لتمزيق ما بين الأحزاب من ثقة وتضامن بعد أن ساق المولى عز وجل نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليعلن إسلامه وقال له: يا رسول
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 206،208).
(2) انظر: ابن هشام (3/ 65).
(3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ص468.(1/371)
الله إن القوم لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة .. (1).
فقام نعيم بن مسعود بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمنا لعودتها إلى صلحهم، لقد اشتهرت قصة نعيم بن مسعود في كتب السيرة وإن كانت لا تثبت من الناحية الحديثية إلا إنها لا تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة (2). وقد نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما نجاح، فغرست روح التشكيك وعدم الثقة بين قادة الأحزاب، مما أدى إلى كسر شوكتهم وتهبيط عزمهم، وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على الأسس التالية:
1 - أنه أخفى إسلامه عن كل الأطراف، بحيث وثق كل طرف فيما قدمه له من نصح.
2 - أنه ذكَّر بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير وبصَّرهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم استمروا في حربهم للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكان هذا الأساس سببًا في تغيير أفكارهم وقلب مخططاتهم العدوانية.
3 - أنه نجح في إقناع كل الأطراف بأن يكتم كل طرف ما قاله له, وفي استمرار هذا الكتمان نجاح في مهمته، فلو انكشف أمره لدى أي طرف من الأطراف لفشلت مهمته، وقد حققت مساعي نعيم في تخذيل بني قريظة أمرين مهمين لجيش النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما:
1 - أن المسلمين بعد انسحاب بني قريظة من التحالف مع الأحزاب أصبحوا في أمان لأن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون المدينة فلو بقوا في هذا التحالف لما أمن
_________
(1) البداية والنهاية (4/ 13).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 530).(1/372)
المسلمون من توجيه طعنة لهم من الخلف لأنهم مشغولون بمواجهة خصمهم من الأمام.
2 - أن المسلمين اطمأنوا إلى أن بني قريظة سيتسمرون في إمدادهم بالمؤن التي يتطلبها الموقف، وذلك لشدة حاجتهم إليها, وانشغالهم عن توفيرها بمواجهة الأعداء (1).
وكلف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبير بتتبع أحوال بني قريظة وجمع المعلومات عن نواياهم، ومدى التزامهم بالعهد، ورصد تحركهم المريب (2). ومع أخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكل الأسباب إلا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله وخصوصا في مغازيه وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا وجاء المسلمون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم: «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» (3).
ودعا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم» (4).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده» (5).
فاستجاب الله - سبحانه - دعاء نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فأقبلت بشائر الفرج، فقد صرفهم الله بحوله وقوته, وزلزل أبدانهم وأنزل الرعب في قلوبهم وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة, وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل
_________
(1) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول ص (477)
(2) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ص119.
(3) رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري عن أبيه (8/ 18).
(4) البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق، (5/ 59) رقم 4115.
(5) البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق، (5/ 59) رقم 4115.(1/373)
جنودا من عنده سبحانه وتعالى، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتابع الأمر وأحب أن يتحرى عما حدث عن قرب فقال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة» (1)، فاستعمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسلوب الترغيب وكرره ثلاث مرات, وعندما لم يجدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في الأمر، فعين واحدًا بنفسه فقال: «قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ».
وفي هذا معنى تربوي وهو أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع، ولا تلجأ إلى الأمر والحزم إلا عند الضرورة.
قال حذيفة - رضي الله عنه -: «فمضيت كأنما أمشي في حمام فإذا أبو سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تذعرهم علي, ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصابني البرد حين رجعت وقررت, فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائما حتى الصبح، فلما أن أصبح قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قم يا نومان» (2).
ونستنبط من هذا الموقف دروسًا مهمة منها:
1 - اختيار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حذيفة - رضي الله عنه - ليقوم بمهمة التجسس على الأحزاب يدل على معرفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعادن الرجال، وأن معدن حذيفة معدن ثمين (3) , فهو شجاع ولا يقوم بهذه الأعمال إلا من كان ذا شجاعة نادرة، فهذا العمل يكلفه حياته فلو اكتشفه الأعداء لكانت عقوبته الموت صلبا، ومع هذا أقدم على تنفيذ الأوامر.
_________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير, باب غزوة الأحزاب (3/ 1414) رقم 1788.
(2) المصدر نفسه.
(3) السيرة النبوية دراسة تحليلية، د. محمد أبو فارس، ص366.(1/374)
2 - وضوح الأمر العسكري الذي وجهه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حذيفة.
3 - الانضباط العسكري الذي كان يتحلى به حذيفة في تنفيذ الأوامر ونجاحه في الدور الذي أمر به وقيامه بالمهمة خير قيام، ورجع وقدم المعلومات اليقينية الصادقة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي فتح مكة لما قرر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحها حرص على مباغتة قريش, وكتم الأمر حتى لا يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته وتصده قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه, وشرع في الأخذ بالأسباب الآتية لتحقيق مبدأ المباغتة:
1 - أنه كتم أمره حتى عن أقرب الناس إليه:
قال ابن إسحاق - رحمه الله -: (إن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجهاز؟ قالت: نعم، قال: وإلى أين؟ قالت: ما سمى لنا شيئًا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز) (1).
2 - أنه بعث سرية بقيادة أبي قتادة إلى بطن إضَم:
بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مسيرة مكة سرية مكونة من ثمانية رجال وذلك لإسدال الستار على نيته الحقيقية، وفي ذلك يقول ابن سعد: (لما هم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضَم (2)، ليظن ظان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توجه إلى تلك الناحية ولأن تذهب بذلك الأخبار ... فمضوا ولم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب (3)، فبلغهم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد توجه إلى مكة، فأخذوا على «بيبن» حتى لقوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسقيا (4). (5).
_________
(1) البداية والنهاية (4/ 282).
(2) بطن إضم: وادي المدينة الذي تجتمع فيه الوديان الثلاثة: بطحان، وقناة، والعقيق.
(3) ذو خشب: موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام يبعد 35 ميلاً عن المدينة.
(4) السقيا: موضع يقع في وادي القرى: معجم البلدان (3/ 288).
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 132).(1/375)
3 - أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى الأعداء:
بث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيونه داخل المدينة وخارجها حتى لا تنتقل أخباره إلى قريش وأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأنقاب (1)، فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطوف على الأنقاب قيما بهم فيقول: «لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه .. إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه أو ناحية مكة».
4 - دعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخذ العيون والأخبار عن قريش:
فعندما أعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس أنه سائر إلى مكة وأمر بالجد والتهيؤ قال: (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها) (2).
وهذا شأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أموره يأخذ بكل الأسباب البشرية ولا ينسى التضرع والدعاء لرب البرية ليستمد منه التوفيق والسداد.
5 - إحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش:
عندما أكمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليا والمقداد فأمسكا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلا من المدينة، وهدداها أن يفتشاها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهما، ثم استدعى حاطب - رضي الله عنه - للتحقيق فقال: (يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأ ملصقا من قريش - يقول: كنت حليفا - ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد
_________
(1) الأنقاب جمع نقب وهو كالعريف على القوم.
(2) البداية والنهاية (4/ 282).(1/376)
الإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما إنه قد صدقكم) فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (1). فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
نجد من خلال قصة حاطب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له فقه عميق في معاملة أصحابه وحرص شديد على الوفاء لهم وإقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، لقد جعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ماضي حاطب - رضي الله عنه - المجيد سببا في العفو عنه.
من خلال الآيات القرآنية الكريمة والممارسة النبوية لهذا الباب تظهر الحاجة للحركات الإسلامية ودولها المسلمة لإيجاد أجهزة أمنية استخباراتية متطورة تحمي الإسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة, وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين والمحاربين للإسلام حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة الأمينة, ولابد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين.
إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر يجنبها المفاجآت العدوانية, وقد كتب «صن تزو» مشيرا لأهمية ذلك:
«إذا عرفت العدو وعرفت نفسك فليس هناك ما يدعوك إلى أن تخاف نتائج
_________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح (5/ 105) رقم 4274.(1/377)
مائة معركة، وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو، فإنك سوف تواجه الهزيمة في
كل معركة» (1).
إن بناء الأجهزة الأمنية ومكاتب المعلومات التي تقدم للقيادة التقارير لوضع الخطط المناسبة على أثرها ليس أمرا جديدا، بل هو موغل في تاريخ الإنسانية، وكذلك في تاريخ المسلمين.
إن من أسباب التمكين المهمة إعطاء هذا الأمر حقه من الاهتمام والارتقاء به وتطويره بما يناسب أحوال العصر الذي نحن فيه.
وبعد أن تكلمنا عن أسباب التمكين المعنوية والمادية لا أدعي أنني حصرتها وإنما تكلمت عن بعضها وإلا فإن الأسباب وحدها تحتاج إلى أبحاث مستقلة.
_________
(1) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ص311.(1/378)
الباب الثالث
مراحل التمكين
وأهدافه
تمهيد:
إن التمكين لدين الله في الأرض يمر بمراحل لابد منها, وهذه المراحل هي: مرحلة التعريف، ومرحلة الإعداد والتربية، ومرحلة المغالبة، ومرحلة الظهور, وكل هذه المراحل سنستعرضها في مباحث مستقلة في هذا الباب - إن شاء الله - ونركز على السنن الربانية التي تمر بها حركة التمكين لدين الله تعالى.
وأما أهداف التمكين فجامعها قول الله تعالى:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
ويدخل تحت مفهوم هذه الآية الكريمة أهداف الدولة الإسلامية التي تسعى لتحقيقها, وهي في حقيقتها تحقيق العبودية لله بحيث لا يعبد في الأرض سواه, ومحاربة الباطل بأشكاله وأنواعه، ومناصرة الحق وأتباعه. ففي هذا الباب نحاول أن نبين أهداف التمكين التي تسعى الدولة لتحقيقها من ترسيخ دعائم الدولة، ونظام الحكم الشرعي، وإيجاد الحاكم الصالح، والرعية الصالحة، ووضع نظام عام للدولة، ونشر دعوة الله في العالم كله وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجلب المصالح للأمة ودفع المفاسد وإحياء الأخلاق الكريمة وإحياء فريضة الجهاد وغير ذلك من الأمور التي سنوضحها في هذا الباب تحت مباحث متعددة بإذن الله تعالى.
* * *(1/379)
الفصل الأول
مراحل التمكين
تمهيد:
إن دعوة الله أمانة يتحملها أهل الإيمان الصحيح، وهذه الأمانة ثقيلة في حد ذاتها، وكذلك حملها وأداؤها، والوفاء بها، فكيف وهي متعلقة بدين الله تعالى؟
ولذلك من أعظم الأمانات وأشدها ثقلا أمانة الدعوة التي تحتاج إلى رجال مؤمنين يتخلقون بأفضل الأخلاق الربانية ونفوسهم مليئة بالإيمان العميق، فهم على استعداد تام لتبليغ دين الله, ولذلك يسعون بدين الله حتى يتمكن من قلوب الناس وإقامة دولة الإيمان والإسلام.
إن مرحلة التمكين أو إقامة دولة الإيمان تسبقها مراحل استخلصها العلماء من دراسة كتاب الله ودراسة التاريخ المتأنية، ولعل من أهم هذه المراحل:
- مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام.
- مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة.
- مرحلة المغالبة.
- مرحلة الظهور.
وسنحاول خلال هذا الفصل دراسة هذه المراحل وتحديد السمات التي تتميز بها كل مرحلة وكيفية تحقيقها والانتقال بها إلى المرحلة التي تليها لاسيما المرحلة الأخيرة مرحلة التمكين.
إن استيعاب مراحل التمكين يعين الدعاة إلى الله على تحقيق هدفهم المنشود من التمكين لهذا الدين كما يبصرهم بحقيقة الطريق, ومعرفة عوائق التمكين التي تعترض تحقيق أهدافهم وكيفية التغلب عليها من خلال القرآن الكريم وسيرة سيد المرسلين, وتاريخ الأمة المجيد والتعامل مع سنن الله الربانية المبثوثة في الكون والحياة والشعوب والمجتمعات.(1/380)
المبحث الأول
مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام
إن الخطوة الأولى في سبيل إقامة الدولة المسلمة أو التمكين للإسلام هو التعريف به والدعوة إليه، وقد كان هذا نهج الأنبياء والمرسلين ومنهج القرآن، والدعاة إلى الله هم ورثة الأنبياء، والأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالا ولا عقارا، ولكنهم يورثون علما ودعوة ومبادئ وقيما وأخلاقا وعقيدة صحيحة وتصورا سليما للكون والحياة والإنسان والخلاق العليم.
إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا في كتابه وظيفة رسل الله والدعاة إليه كما في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
وتمثل هذه الواجبات الأمور الآتية:
أولاً: تبليغ وحي الله إلى الناس، وتعريفهم به {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا" ويكون هذا التبليغ بالأمور الآتية:
1 - شرح أصول الإسلام وقواعده للناس.
2 - تفسير نصوص القرآن والسنة تفسيرا متبعا لمنهج السلف وملائما للعصر الذي يتم فيه التفسير من حيث الأسلوب والوسيلة.
3 - جمع الناس على الإسلام ومبادئه وأخلاقه وتوجيههم نحو الفهم والعمل.
4 - استهداف كل الناس بالدعوة سواء كانوا مشركين أو نصارى أو يهودا أو ملاحدة أو علمانيين أو منافقين أو فاسقين أو عصاة مع إعطاء الأولوية للصف الداخلي للأمة (1).
_________
(1) انظر: حقيقة الدعوة إلى الله, د. علي عبد الحليم (1/ 263).(1/381)
5 - بيان الأخطار التي تواجهها الأمة الإسلامية من أعدائها والعمل على اجتيازها في حدود ما تتطلبه المرحلة.
ثانيًا: تزكية الناس، أي تزكية نفوسهم وتطهير وتنميتها بالخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، بحيث يصير الإنسان في الدنيا مستحقًا للأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَيُزَكِّيكُمْ" والتزكية بهذا المعنى، تارة تنسب إلى الله تعالى: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ... } [النساء: 49] وتارة تنسب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكونه واسطة في وصول ذلك إلى الناس كما في هذه الآية {وَيُزَكِّيكُمْ".
فالداعية إلى الله يطهر نفوس الناس بوحي الله، وينمي أرواحهم وعقولهم وأبدانهم، ويرتفع بهم إلى المستوى الذي كرمه ربه وفضله على كثير من خلقه.
وهذه التزكية تربية ذات منهج ووسائل تنقل الإنسان من واقعه إلى ما هو أفضل وأكرم وأحسن له في أمر دينه ودنياه.
ثالثًا: التعليم، تعليم الناس العلم النافع، أي القرآن والحكمة، وذلك في قوله سبحانه من هذه الآية: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" فهو واجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وواجب الدعاة إلى الله إلى يوم الدين و {الْكِتَابَ" هو القرآن الكريم، وهو هدى للناس كل الناس، فما من خير للبشرية في دينها ودنياها إلا نوه عنه القرآن الكريم، وما من شيء من هذا وذاك إلا اشتمل عليه القرآن الكريم: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 28] , {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] و {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
إن تعليم الناس كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينقلهم من ظلام الجهل إلى نور العلم، ومن ضلال الباطل إلى هداية الحق، وهذا يظهر في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" أي يبصركم بحاضركم، ويرسم لكم أسلم طريق لمستقبلكم.(1/382)
إن هذه الواجبات المنوطة بالدعاة تحتاج إلى تميز إيماني وتفوق روحاني، ورصيد علمي وزاد ثقافي ورجاحة عقل وقوة حجة، ورحابة صدر وسماحة نفس حتى يستطيع الدعاة تحقيق واجباتهم المذكورة.
إن القرآن الكريم قد بيَّن واجبات الدعاة في آيات كثيرة, ومن الآيات الجامعة في هذا الباب قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 29].
إن التقصير في القيام بهذا الواجب، إثم ومعصية, ولقد بيَّن المولى عز وجل ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159].
والمعنى أن من عرف الحق، فقد وجب عليه أن يبينه للناس، ومن لم يفعل فقد أثم.
كما نعى الله ذلك الكتمان على أهل الكتاب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وإذا كانت آيات القرآن الكريم قد أوجبت على الدعاة، وأهل العلم، أن يبلغوا الناس بهذا العلم, فإن السنة المطهرة شارحة القرآن قد فاضت بالأحاديث في هذا المجال.
روى الإمام البخاري بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، باب تحريض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد عبد القيس (1) على أن يحفظوا الإيمان والعلم، ويخبروا من وراءهم, قال مالك بن الحويرث (2)، وهو من بني عبد قيس: قال لنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارجعوا إلى
_________
(1) عبد قيس: من القبائل التي كانت تسكن الجزيرة العربية وهي من بطون ربيعة.
(2) هو مالك بن الحويرث، أبو سليمان الليثي، صحابي نزل البصرة، مات سنة أربع وسبعين، انظر: تقريب التهذيب، ص (516).(1/383)
أهليكم فعلموهم». وعن ابن عباس قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما قدم إليه وفد عبد القيس: «مَنْ الوفد - أو من القوم؟ قالوا: ربيعة, فقال: «مرحبا بالقوم - أو الوفد - غير خزايا ولا ندامى» , قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، فأمرهم بأربعة ونهاهم عن أربعة: أمرهم بالإيمان بالله عز وجل وحده قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم».
ونهاهم عن الدباء (1) والحنتم (2) والمزفت (3) - قال شعبة (4): ربما قال: النقير (5) وربما قال: المقير (6).
قال: «احفظوه وأخبروه من وراءكم» (7).
وروى البخاري بسنده، عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج, ومن كذب عليّ متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» (8).
وخلاصة الآيات الكريمة والسنة النبوية الشريفة فرضية العين على من توافرت فيه الأهلية لممارسة العمل في هذه المرحلة ألا وهي مرحلة التعريف.
_________
(1) الدباء: القرع.
(2) الجرة أو الجرار الخضر تعمل من الطين.
(3) ما طلي بالزفت
(4) هو شعبة بين الحجاج الوردي أبو بسطام الواسطي، ثقة، حافظ متقن, كان مدافعًا عن السُّنة، ت160 هـ، انظر: تقريب التهذيب، ص266.
(5) أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء.
(6) ما طلي بالقار.
(7) البخاري، كتاب الإيمان، باب: أداء الخمس (1/ 23) رقم 53.
(8) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر من بني إسرائيل (4/ 175) رقم 4361.(1/384)
وعندما يكون المتصدرون لمرحلة التعريف دعاة ربانيين يمكنهم أن يحققوا هذه الأهداف:
1 - التعريف بالإسلام تعريفًا صحيحًا:
ويكون ذلك بشرح أصول الإسلام وقواعده، وآدابه، وأخلاقه، ومنهجه ونظامه في حياة الناس، ويفسر للمدعو كل مجمل، ويوضح له كل غامض, وييسر له كل ما يتصور أنه عسير أو صعب، ويكون ذلك وفق تخطيط وتنظيم وتنسيق بين الدعاة، كما يستدعي هذا العمل تخصصا يوزع بين الدعاة حتى يصل الإسلام إلى كل إنسان مهما كان مستواه التعليمي أو الثقافي، أو الاجتماعي.
2 - تكوين قاعدة عريضة من المدعوين:
تكون هذه القاعدة على أسس من الفهم السليم والاستيعاب العميق لحقيقة الإسلام وأخلاقه وآدابه بحيث تكون هذه القاعدة من شرائح المجتمع المتنوعة، من فلاحين وأصحاب حرف ومصانع وعمال، وتلاميذ في المدارس وطلاب في الجامعات وموظفين في الحكومة أو القطاع العام أو الخاص, ومن المثقفين أصحاب الثقافات المتعددة وأعضاء النقابات المهنية والمنتمين للأحزاب السياسية، وأصحاب الرأي والفكر، وأعضاء هيئات التدريس في الجامعات وغير ذلك من شرائح المجتمع. والواجب على الدعاة في مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام أن يعملوا على إيصال الدعوة الإسلامية إليهم بصورة قادرة على مواكبة العصر ومتطلباته والمتغيرات وظروفها، وأن يضعوا لهم تصورات دقيقة لمشكلات الحياة من منظور إسلامي يدل على شمولية هذا الدين, وأنه يتناول مظاهر الحياة جميعا من دولة ووطن, وحكومة وأمة, وخلق وقوة، وعدالة ورحمة، وثقافة وقانون, وعلم وقضاء, وعقيدة صادقة, وعبادة صحيحة سواء بسواء, ويكون تكوين القاعدة الصلبة التي تحمل الإسلام بالتنسيق والتعاون بين الدعاة أنفسهم فتهتم مجموعة من الدعاة بتثقيف المزارعين وتربيتهم، وأخرى في أوساط أصحاب الصناعات والحرف،(1/385)
ودعاة يعملون في مجال طلاب العلم, ودعاة في أوساط الانتماءات الموالية أو المعادية للإسلام, وآخرون في مجال النقابات، وفي مجال أصحاب الانتماءات السياسية والحزبية، وفي مجال أصحاب الفكر والرأي وفي هيئات التدريس في الجامعات، ويكون بين الدعاة تعاون وثيق وتنسيق مستمر وتنظيم دقيق وتخطيط رشيد وإدارة واعية وقيادة حازمة, ولابد من توافر صفات الدعاة فيهم وإلا عاد ذلك الجهد بمردود سيئ على الدعوة والمدعوين وعلى العمل الإسلامي كله.
إن أمر التعاون بين الدعاة واجب شرعي, قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
إن الدعوة ليست محصورة في مجال معين، أو وسيلة واحدة، بل هي ميدان رحب ولها وسائل شتى, وذلك يعني أنه لابد من بذل جهود عظيمة ولابد من إدراك أن الداعية مهما تعددت مواهبه فإنها تقصر عن الإبداع والإتقان في كل مجال، فهناك من يستطيع الخطابة ويجيدها، وهناك من يحسن التأليف ويتقنه، وهناك من ينشر العلم ويدرسه، وهناك من يعرف العمل السياسي، وآخر يبدع في العمل الخيري، وهكذا ولا يتصور أن تغطى هذه المجالات إلا باستفراغ كل داعية جهده في مجال إتقانه ليحصل التكامل، ورحم الله الإمام مالكا إمام دار الهجرة الذي نصب نفسه في ميدان من أعظم ميادين الدعوة وهو نشر العلم الشرعي, فكتب إليه من يدعوه إلى غير ذلك (1) فقال: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق, فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر, وقد رضيت بما فتح الله لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر» (2).
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، د. علي بادحدح، ص147.
(2) نزهة الفضلاء (2/ 625).(1/386)
ولا يشك أحد أن الأمة الإسلامية تشكو لخالقها قلة الدعاة وغلبة الجهل، وضياع العلم، وتفشي المنكرات مما تحتاج معه إلى جهود ضخمة لإصلاح الأحوال, ولا يكون ذلك إلا بالتعاون لاستثمار هذه الإمكانات بأقصى ما يمكن والإفادة من التجارب، وتبادل الخبرات.
إن أعداء الإسلام يحرصون على بث أسباب الشقاق، وزرع بذور النزاع بين المسلمين عموما، وأعيانهم من العلماء والدعاة خصوصا، وهذا يحقق لهم من الأهداف والغايات ما لا يستطيعون بلوغه بجهدهم وكيدهم، وذلك أن الهدم من الداخل أشد فتكا وأعظم ضررا، ولذا كان خطر المنافقين أكبر وأظهر, وإن عدم إدراك هذه الحقيقة يجعل الداعية يخالف إخوانه من الدعاة بدلا من أعداء الله، ويتفرغ لتسقط أخطائهم وتتبع عثراتهم، فيفرح بذلك أعداء الله، بل إنهم يسعون لذلك ويثيرونه، فعلى الداعية الحصيف أن يفوت عليهم الفرصة وأن يخذلهم باتباع الحق, وفهم حقيقة الاختلاف المبني على الاجتهاد وإحسان الظن بإخوانه، والتماس العذر لهم، والحرص على حماية أعراضهم وسمعتهم، والحرص على التعاون، وإشاعة الخير (1) , وله في ذلك نماذج من الأئمة والعلماء, فهذا الإمام أحمد بن حنبل جاء في سيرته أنه إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد وقيام بحق واتباع لأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، وهذا الشافعي يناظر يونس الصدفي فيختلفان ويفترقان, قال يونس: فلقيني (أي الشافعي) فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة (2)، وهذا ابن المبارك سمع رجلا ينال من آخر وينتقده فقال له ابن المبارك: هل قاتلت الترك؟ قال: لا، قال: فهل قاتلت
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص149.
(2) نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، د. محمد حسن عقيل، (2/ 734).(1/387)
الفرس؟ قال: لا، قال: فهل قاتلت الديلم؟ قال: لا، قال: أفسلم منك الترك والفرس والديلم ولا يسلم منك أخوك المسلم؟ (1).
إذا ما بدت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالا لزلته عذرا
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسط أذى ... ولا مانع خيرا ولا قائل هجرا
إن في أعدائنا كفاية لاستنفاد جهودنا في حربهم، ومواجهتهم, فكيف نغفل عن هذا ونوجه سهامنا لبعضنا؟ (2).
إن نجاح الدعاة في تنظيم جهودهم ووضعها وفق خطة شاملة وتوحيد قيادتهم يعين العاملين في مجال الدعوة على تحقيق أهدافهم, ويستطيعون أن يبذلوا طاقاتهم في البناء وانتقاء العناصر الجيدة التي تعتز وتنتمي إلى الإسلام وتثبت على هذا الاعتزاز وتتجرد ممن سواه، وتورثه إلى غيرها من الناس، وممن يظهر حماسهم والتزامهم الحاسم بكل ما هو إسلامي. ويستطيع الدعاة أن يفرزوا قاعدة قوية بين الناس تؤمن بالعمل الجماعي للإسلام وتراه فرضا عليها، وعلى كل المسلمين القادرين على العمل, وتكون تلك القاعدة طليعة لقاعدة أوسع من العاملين للإسلام، في عمل جماعي تشرف عليه لجان مشكلة على جميع مستوياته الفكرية, والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، والتربوية، والحركية والدعوية وفق خطط مجهزة، وتنظيم محكم، وإدارة واعية وتربية عميقة, يشرف عليها علماء ربانيون وفقهاء عاملون مستوعبون للحياة الإنسانية وقضاياها ومشكلاتها.
وسائل الدعاة في هذه المرحلة:
لقد انتشر في هذا العصر العلم وكثرت فيه وسائل الإعلام والتربية وازدهرت فيه الخطابة والكتابة وعمت الجامعات في كل مكان، وكذلك المدارس في المدن
_________
(1) , (4) انظر مقومات الداعية الناجح، ص147.
(2) انظر مقومات الداعية الناجح، ص147.(1/388)
والقرى والجبال والسهول والأرياف، وتدفقت السيول من المطبوعات والمنشورات من المطابع ودور النشر، ونبغ فيها علماء باحثون، ووعاظ مرشدون، فلهذا يجب على الدعاة أن يتبعوا كل أسلوب يوصلهم إلى قلوب الناس, ويحقق الهدف المطلوب من نشر الدعوة، وعليهم أن يعتمدوا الأساليب الحديثة التي استغلها أعداء الإسلام في بث عقائدهم، ونشر أفكارهم وعلمهم, وعليهم أن يطوروا هذه الأساليب حتى لا تتعارض مع دعوتهم ولا تصدم بقواعد الدين (1).
وقد حدد القرآن الكريم الأساليب العامة للدعوة الإسلامية في آيات كريمة, منها قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ولنستشعر إعجاز القرآن في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ" ونشعر بمدى أبعاد الإطلاق الذي جاء في هذه الآية، وأبعاد التقييد الذي جاء فيها فأطلق وقال: {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ" ما حدد وما عين شيئا معينا خاصا، فيدخل في ذلك الحث على الصلاة ودعوة الناس إلى مكارم الأخلاق والفضيلة وإلى تطبيق شرع الله على أنفسهم وأهليهم, {سَبِيلِ رَبِّكَ" يحوي كل شيء ويمتد على اتساع جميع الآفاق، وهو لا يختص بالخطابة ولا يختص بالكتابة ولا يختص بالوعظ والنصيحة إنما قال {ادْعُ" والدعوة عامة شاملة هذه المعاني كلها، وهذه الأساليب كلها (2).
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (إن الدعوة دعوة إلى سبيل، لا لشخص الداعية ولا لقومه، والدعوة بالحكمة والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها والتنويع في هذه
_________
(1) انظر: أسس الدعوة، محمد سيد الوكيل، ص21.
(2) انظر: حكمة الدعوة وصفة الدعاة لأبي الحسن الندوي، ص8.(1/389)
الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه) (1).
ويقول أيضا: (بالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو عن حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ) (2).
ويقول أيضا في معنى الجدل بالتي هي أحسن: (أي بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له ولا تقبيح، حتى يطمئن الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق) (3).
وعليه تكون الأساليب العامة للدعوة إلى الله ثلاثة هي:
1 - الحكمة.
2 - الموعظة الحسنة.
3 - المجادلة بالتي هي أحسن (4).
وعلى الدعاة أن لا يغفلوا الوسائل الحديثة التي ظهرت في هذا العصر، وكان لها الأثر الكبير في سلوك الناس ومعاملاتهم وأفكارهم ومن هذه الوسائل:
1 - وسائل الإعلام:
وهي بجميع أنواعها أسلوب جيد إذا أحسن استغلاله، فالصحف اليومية والمجلات الشهرية أو الأسبوعية، والنشرات الدورية، والوسائل السمعية (الإذاعة) والوسائل البصرية (التلفاز - والتسجيل المرئي - الفيديو) وحتى (الآلة الحاسبة الدقيقة) (الكمبيوتر) , فكل هذه الوسائل يمكن أن تستخدم في مجال الدعوة
_________
(1) (2) في ظلال القرآن (4/ 2198).
(2) في ظلال القرآن (4/ 2198).
(3) المصدر نفسه (4/ 2302).
(4) انظر: الدعوة الإسلامية بين الفردية والجماعية، سليمان مرزوق، ص19.(1/390)
ويمكن استخدام القصة للتأثير في نفس السامع والقارئ, والتمثيليات الهادفة التي تبعث في النفوس الطموح، وتثير فيها حب الجهاد في سبيل الله وتدعو إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، وهناك الأناشيد الحماسية التي تشعل في النفوس الحماس والانطلاق للدعوة في سبيل الله، وفي تاريخنا مادة دسمة تغذي هذه الموضوعات.
لاشك أننا إذا قدمنا للناس هذه الألوان من الأساليب وهي تحمل في معانيها ما تدعو إليه من العقيدة الصحيحة، والإيمان العميق، والأخلاق الفاضلة، والمثل العالية والآداب والتقاليد التي نعتز بها، نكون قد ولجنا إلى قلوبهم من حيث يجب أن نلج, ونكون قد قدمنا لهؤلاء المولعين بهذه الأساليب عوضا عما يلهثون وراءه من هذه التفاهات التي استولت على عقولهم فأضلتها عن الحق، فحينئذ نستطيع أن نتحكم في قلوب الناس وعقولهم، فنملأها بالحق بدل الباطل, ونغذيها بالفضائل بدل الرذائل, ونوجههم إلى الخير والصلاح (1).
2 - الكتب والبحوث:
امتلأت الدنيا بالمؤلفات، وأصبح في كل بيت مكتبة، بل في كل مكتب مكتبة، وكثرت دور النشر، وشجع تقدم فن الطباعة على مضاعفة المطبوعات بشكل هائل.
إن الكتب والمجلات الجنسية والروايات والقصص، وكتب الجريمة والفساد، وكتب الأفكار الهدامة والمنحرفة انتشرت في دنيا الناس انتشار النار في الهشيم بكل اللغات والوسائل، فيجب على الدعاة أن يكتبوا الكتب والبحوث بأسلوب سهل ممتع وجذاب يفهمه عامة الناس وخاصتهم، وتعرف الناس بالإسلام وتشرح لهم تعاليمه, وتقنعهم أنه منهج كامل يتناول شئون الحياة جميعًا، وأنه كفيل بإسعاد الناس وجلب الرخاء والأمن والسلام لهم جميعا, حيث إنه أوجد حضارة مشرقة
_________
(1) انظر: أسس الدعوة، د. محمد السيد الوكيل، ص20.(1/391)
وتاريخا مجيدا يوم أن طُبق تطبيقا صحيحًا، ويحسن أن تعرض هذه الأفكار ونظيراتها في كتيبات يسهل حملها كما تسهل قراءتها بحيث تكون كل فكرة أو بحث في كتيب على حدة، وتتسلسل في ربط قوي، وجاذبية مؤثرة تجعل القارئ لا ينتهي من كتيب حتى يجد نفسه مشدودا إلى قراءة الذي يليه (1).
وهكذا يسعى الدعاة إلى توظيف كل الوسائل من الخطبة والمحاضرة والدرس والمناظرة .. إلخ للتعريف بدعوة الإسلام، ولابد لهم من استيعاب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسائله وأساليبه والاهتمام بإقامة المنشآت والمؤسسات النافعة التي تجلب الخير للناس وتدفع عنهم الشر. ولابد أن يكون الدعاة الذين يتصدون لتعليم الناس وتعريفهم بدعوة الإسلام قدوة بين الناس، لأن القدوة هي الصورة الحية للفكرة، والتطبيق العملي للدعوة، والتوضيح الجلي للحجة، ولاشك أنها من أعظم أسباب بذر المحبة في القلوب، ووجود القناعة في العقول, وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة ولاسيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها (2).
ولله در ابن القيم حيث قال: «إن الناس قد أحسنوا القول فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه, ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبخ نفسه» (3).
ولابد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة وخطورة انعدامه حيث «يستطيع الإنسان أن يكون عالما جهبذا في الكيمياء أو العلوم أو الطب أو الهندسة أو غير ذلك من العلوم التي أمرنا الله بتعلمها لتعمر الدنيا، ولكن هذه العلوم لا تتطلب منا قيدا سلوكيا، فقد تكون عالما في أي فرع من هذه العلوم وسلوكك تبعا لهواك, ولكن هذا لا يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك لأن النبوغ لا يضع قيدا على
_________
(1) انظر: كيف ندعو الناس، عبد البديع خضر، ص75.
(2) مجموع الفتاوى، ابن باز (3/ 110).
(3) الفوائد، ص192.(1/392)
الأخلاق, إلا علم الدين فإنك إن كنت من علمائه أو الداعين إليه أو المتدينين المخلصين لابد أن تكون قدوة حسنة لما تدعو إليه وإلا لما استمع إليك أحد (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (قال غير واحد من السلف:
الحكمة معرفة الدين والعمل به) (2).
والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون, فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
قال الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم
أراك تلقح بالرشاد عقولنا ... نصحا وأنت من الرشاد عديم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (3)
عدة الدعاة القائمين على هذه المرحلة:
أولاً: التميز الإيماني والتفوق الروحي:
إن التميز في مجال الإيمان عقيدة صحيحة، ومعرفة جازمة، وتأثيرًا قويًا يعد - بلا نزاع - أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للداعية، لكي يكون الداعية عظيم الإيمان بالله، شديد الخوف منه، صادق التوكل عليه، دائم المراقبة له، كثير
_________
(1) الدعوة قواعد وأصول، جمعة أمين، ص111.
(2) درء تعارض العقل والنقل (9/ 22، 23).
(3) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، ص97.(1/393)
الإنابة إليه، لسانه رطب بذكر الله، وعقله مفكر في ملكوت الله، وقلبه مستحضر للقاء الله، مجتهد في الطاعات، مسابق إلى الخيرات، صوام بالنهار قوام بالليل، مع تحري الإخلاص التام، وحسن الظن بالله، وهذا هو عنوان الفلاح وسمت الصلاح، ومفتاح النجاح إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من الله, فإذا بالداعية مسدد، إن عمل أجاد، وإن حكم أصاب، وإن تكلم أفاد (1).
يقول ابن القيم - رحمه الله -: «التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللجوء إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به، وأن لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء، وفيه أيضا أنه عبد من جميع الوجوه: صغيرًا وكبيرًا، حيًا وميتًا، مطيعًا وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالروح والقلب واللسان والجوارح، وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما يملك لسيده، وفيه أيضًا أنك أنت الذي مننت عليَّ بكل ما أنا فيه من نعمة فذلك كله من إنعامك على عبدك, وفيه أيضًا أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده, وإني لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة» (2).
ولا يتصور للداعية نجاح وتوفيق، أو تمييز وقبول دون أن يكون حظه من الإيمان عظيمًا «إذ كيف تدعو الناس إلى أحد وصلاتك به واهية ومعرفتك به قليلة» (3).
وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال,
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص34.
(2) الفوائد، ص34، 35.
(3) مع الله, الشيخ محمد الغزالي، ص188.(1/394)
فإن «عكوف القلب على الله تعالى وجمعه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والانتقال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه, فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس, ولا ما يفرح به سواه» (1).
كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار الإيمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها:
1 - التحرر من عبودية غير الله:
الإيمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الأرض، وكل شهوات الدنيا ويصبح حرا لا سلطان لأحد عليه إلا لله، فلا يخاف إلا الله، ولا يذل إلا لله، ولا يطلب إلا من الله, ولا يأمل إلا من الله، ولا يتوكل إلا على الله، وللإيمان تأثير كبير في أعظم أمرين يسيطران على حياة البشر وهما: الخوف على الرزق، والخوف على الحياة.
أما الأول: فلا يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال، وكم يشغل الناس حب المال, وكم باع أناس مبادئهم، وخانوا أمتهم وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذهب بأبصارهم وسبي قلوبهم، أما المؤمن فحقائق الإيمان تملأ قلبه فلا يتأثر بشيء من هذا لأن في قلبه قول الحق جل وعلا: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].
ولأنه يعلم من بيده الرزق: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17] وأنه لا يملك أحد من البشر من ذلك شيئا {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت: 17] , وفوق ذلك يعلم حقيقة الرزق في الدنيا وقيمته المحدودة ويرتبط بقوله: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
وقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54].
_________
(1) زاد المعاد (2/ 87).(1/395)
وحديث المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» (1).
ومن هذه المنطلقات الإيمانية قال الشافعي - رحمه الله -:
أنا إن عشت لست أعدم قوتًا ... وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي ... نفس حر ترى المذلة قهرا (2)
أما الثاني: فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله، وأنه لا ينجي حذر من قدر، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لا يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأن الموت ليس بالإقدام وأن السلامة ليست بالإحجام, كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] , ومن هنا يتميز المؤمن عن غيره فبينما ترتجف القلوب وتنسكب الدموع، وتعلو التوسلات، وتقدم التنازلات، حرصا على الحياة نجد المؤمن كالطود الشامخ يهتف مع خبيب بن عدي قائلا:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
ويتذكر قول علي بن أبي طالب:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر (3)
ولا ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهددوا بالموت هتفوا قائلين: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
2 - الخشية من الله:
وهي من أعظم آثار الإيمان وأبرز أوصاف المؤمنين {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49].
_________
(1) الترمذي، كتاب الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله، حديث رقم 2320.
(2) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص36.
(3) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص37.(1/396)
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ} [الأحزاب: 39].
وقدوتهم في ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له» (1).
«والخشية أخص من الخوف، فهي خوف مقرون بمعرفة» (2)، وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن الغافلين والعابثين؛ لأن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله, قال إبراهيم بن سفيان: «إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها» (3).
وقال الفضيل بن عياض: «من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد» (4)، وهذه الخشية دافعة للطاعة «وما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله» (5). والداعية له رتبة عليا من الإيمان «تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة تخامر نفسه أمام ذي سلطان» (6). والخشية أساس مراقبة الله ترقى بالمؤمن إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه (7).
3 - حسن الصلة بالله:
والمقصود بها إقامة الفرائض، والاستكثار من النوافل، والاشتغال بالأذكار، والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية، والحرص على المناجاة الربانية، وغير ذلك من القربات والطاعات, لأن العبادة زاد يتقوى به الداعية، فالصلاة صلة بينه وبين مولاه، ولا مناص من تميزه في حرصه عليها، وتبكيره إليها وخشوعه فيها، وتطويله لها، وشهودها مع الجماعة وله في ذلك قدوات سالفة, فسعيد بن المسيب ما فاتته الصلاة في جماعة أربعين سنة (8).
والربيع بن خيثم كان يقاد إلى الصلاة وبه الفالج، فلما روجع في ذلك
_________
(1) البخاري، كتاب النكاح، (الفتح 9/ 104).
(2) تهذيب مدارج السالكين، ص269.
(3) تهذيب مدارج السالكين، ص270.
(4) نزهة الفضلاء، (2/ 661).
(5) المصدر نفسه (1/ 513).
(6) مع الله، ص190.
(7) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص39.
(8) نزهة الفضلاء (1/ 370).(1/397)
قال: «إني أسمع حي على الصلاة فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا» (1) ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر والعشاء مع ما ورد في أدائها من تعظيم الأجر، وما جاء في فواتها من التحذير من الإثم والوزر، وقد ترخص كثيرون في ذلك فلا يهمهم التبكير، ولا يعنيهم إدراك التكبير، ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي: «إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه» (2)، وبماذا يعلقون إذا علموا أن سعيد بن عبد العزيز التنوخي «كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى» (3).
والحقيقة أن الأمر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.
والذكر عظيم المنزلة فهو «منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست به القلوب» (4) والذكر هو العبادة المطلوبة بلا حد ينتهي إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] وبلا وقت تختص به {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ
لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] وبلا حال تستثنى منه {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].
والذاكرون هم السابقون في رياض الجنة يرتعون, وبوصية المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعملون، وبمباهاة الملائكة يسعدون (5).
والاستغفار من أعظم الأذكار وكان المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة (6).
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 381).
(2) نزهة الفضلاء (1/ 468)
(3) تهذيب مدارج السالكين، ص463.
(4) المصدر نفسه، ص463.
(5) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص41، 42.
(6) البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2/ 178) رقم 1518.(1/398)
وأخبر أمته أن «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» (1)، ولذا فلابد للداعية من الأذكار ليحيى الله قلبه، ولابد له من الاستغفار ليمحو الله ذنبه.
وأعظم الذكر تلاوة القرآن التي هي من أقوى الصلات بالله التي يحتاجها الدعاة، ولها أثرها في واقع الدعوة والحياة، «ومن الصلاة بالله إعزاز كتاب الله وإدمان تلاوته وتدبر معانيه، وعقد مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها، والواقع الذي ثوى الناس فيه، لتكون هذه المقارنة حافزا على تذكير الناس بالحق، وقيادتهم إلى الله، وتأهليهم، وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه وسكنا لفؤاده وشعاعا لعقله، ووقودا لحركته ومرقاة لدرجته» (2)، والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا سكينًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلاً ولا سخابًا ولا صياحًا ولا حديدًا» (3).
والخلاصة أن التميز الإيماني من أعظم أسباب نجاح الداعية، إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ولا قوة البرهان ولا كثرة الأعوان، بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه, ولا شك «أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى سبيله، لابد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أوضح» (4).
_________
(1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب: الاستغفار (2/ 178) رقم 1518.
(2) مع الله، ص191.
(3) الفوائد، ص192.
(4) مع الله، ص190.(1/399)
لقد قصر بعض الدعاة والجماعات الإسلامية في العناية بهذا الجانب المهم بسبب تضخيم العناية بالجوانب الفكرية والسياسية وغيرها, والمطلوب التوازن والشمولية وإعطاء كل جانب حقه من الاهتمام.
ثانيا: الرصيد العلمي والزاد الثقافي:
وهذا أساس لابد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة للتساؤلات، وحلولا للمشكلات, إضافة إلى ذلك هو العدة التي بها يعلم الناس أحكام الشرع، ويبصرهم بحقائق الواقع، وبه أيضا يكون الداعية قادرا على الإقناع وتفنيد الشبهات، ومتقنا في العرض، ومبدعا في التوعية والتوجيه (1). «وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولابد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد يصل إليه السعي» (2). والخوض في غمار الدعوة وميادينها لابد للداعي من علم وإلا ترتب على ذلك آثار وخيمة لأن «العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح» (3).
وكما قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «العلم إمام العمل والعمل تابعه، وهذا ظاهر فإن القصد العمل، والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى» (4).
وطبيعة مهمة الداعي خطيرة ونظرة الناس إليه، واعتدادهم به، وأخذهم عنه يجعل أمر العلم «أشد ضرورة للداعي إلى الله لأن ما يقوم به من الدين منسوب إلى رب العالمين، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه، وبشرعية ما يقوله ويفعله ويتركه، فإذا فقد العلم المطلوب اللازم له كان جاهلا بما يريده, ووقع في الخبط والخلط والقول على الله ورسوله بغير علم، فيكون ضرره
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص45.
(2) مفتاح السعادة (1/ 154)
(3) المصدر نفسه (1/ 130).
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 135، 136).(1/400)
أكثر من إصلاحه، وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف لجهله بما أحله الشرع وأوجبه وبما منعه وحرمه» (1).
ولابد للداعية أن يوقن أن «العلم أشرف ما رغب فيه الراغب وأفضل ما طلب، وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسب واقتناه الكاسب» (2).
والآخذ بالعلم آخذ بالبداية الصحيحة إذ العلم مقدم على القول والعمل, كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد: 19].
وبالعلم يحوز الداعية الرفعة في الميزان الرباني وفق قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
والسعي في طلب العلم تحقيق للغاية التي أرادها الله ووجه إليها في قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"
[التوبة:122].
فقد جعل الله الأمة فرقتين «أوجب على إحداهما الجهاد في سبيله وعلى الأخرى التفقه في دينه، لئلا ينقطع جميعهم عن الجهاد فتندرس الشريعة، ولا يتوفروا على طلب العلم فتغلب الكفار على الملة، فحرس بيضة الإسلام بالمجاهدين، وحفظ شريعة
الإيمان بالمتعلمين، وأمر بالرجوع إليهم في النوازل ومسألتهم عن الحوادث, فقال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: 83].
وإذا سلك الداعية طريق العلم حظى بالخيرية الربانية الثابتة في حديث رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سلك طريقًا يلتمس به علما سهل الله به طريقًا من طرق الجنة» (3).
_________
(1) أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان، ص135.
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص40
(3) أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على العلم (4/ 57) رقم 3641.(1/401)
وإذا نال الداعية حظا وافيا من العلم واندرج في سلك طلبة العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراسا يهتدى به, كما قال ابن القيم عن الفقهاء: «إنهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء, بهم يهتدي في الظلماء، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء» (1). وعندما يتحرك الداعية ناشرا علمه ساعيا بين الناس بالإصلاح, ناعيًا عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف الذي ذكره الإمام أحمد حين قال: «الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح الناس عليهم» (2). وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد التاريخ أنهم «هم من اهتدى بهم الحائر، وسار بهم الواقف، وأقبل بهم المعرض، وكمل بهم الناقص، ورجع بهم الناكص، وتقوى
بهم الضعيف» (3).
ومن أهم العلوم التي يجب أن يهتم بها الدعاة علم القدوم على الآخرة الذي قل وجوده بين الناس، وبين طلاب العلم، والذي بدونه لا يعتبر العالم عالما وإن حفظ الشروح والمتون والأحكام, وملأ رأسه منها ورددها على لسانه. إن هذا العلم لب العلوم وغايته، وكل مسلم محتاج إليه, والعالم أشد حاجة إليه، والداعي أحوج من الجميع إليه. إن هذا العلم هو الذي فقهه الصحابة الكرام وأشربت به قلوبهم وتنورت به عقولهم فضنوا بوقتهم أن يذهب سدى من غير طاعة الله ودعوة إليه، فاجتهدوا في أمور الخير وسارعوا في الخيرات، وحرصوا على الطاعات وتسابقوا في الدرجات حتى
جاءتهم آجالهم (4).
_________
(1) أعلام الموقعين (1/ 9).
(2) انظر: أصول الدعوة، ص328.
(3) مقومات الدعوة والداعية، ص51، 52.
(4) انظر: أصول الدعوة، ص328.(1/402)
إن الداعية عندما يتصدر للوعظ والإرشاد والتربية والتعليم مطالب بقدر من العلم والثقافة التي تعينه على مهمته، وتؤهله لها، والمهم من ذلك يتركز في جانبين:
أ- الجانب الشرعي:
لابد للداعية أن يعرف «أن أولى العلوم وأفضلها علم الدين، لأن الناس بمعرفته يرشدون وبجهله يضلون» (1) , وعلى الداعية أن يتعلم الحد الأدنى من العلوم الشرعية الأساسية ومن أهمها ما يلي:
1 - علم العقيدة الإسلامية: أن يتعلم أصول العقيدة من كتاب معتمد مختصر على مذهب أهل السنة والجماعة ككتاب: لمعة الاعتقاد لابن قدامة، أو غيره.
2 - علم التفسير: أن يطلع على تفسير موجز موثوق يشتمل على معاني الكلمات وأسباب النزول والمعنى الإجمالي، ويفيد في ذلك بعض المصاحف المطبوع على هامشها أسباب النزول ومعاني الكلمات، ثم يجعل له زادا في دراسة متأنية لتفسير بعض السور والأجزاء المكية والمدنية من كتاب معتمد متوسط مثل «تفسير ابن كثير».
3 - علم الحديث: أن يدرس كتابًا من كتب الحديث الجامعة المختصرة مثل «مختصر صحيح البخاري» أو «مختصر صحيح مسلم» ويمكن أن يطالع كتابا من كتب الحديث العامة المصونة في جملتها من الأحاديث الضعيفة والمشتملة على أهم الأبواب التي يحتاج إليها في الإيمان والفضائل والآداب مثل كتاب «رياض الصالحين» , ويحسن أن يطلع على بعض كتب الحديث المختصة بموضوعات معينة, ففي أحاديث الأحكام «بلوغ المرام» وفي الأذكار «أذكار النووي» وفي الشمائل «شمائل الترمذي» ونحو ذلك.
_________
(1) انظر: مقومات الدعوة والداعية الناجح، ص51 - 53.(1/403)
4 - علم الفقه: أن يدرس مختصرا في فقه العبادات والمعاملات، وقد يضيف ما يحتاجه من الأبواب على مذهب من المذاهب الأربعة المشتهرة ولا مانع من أن يهتم
بفقه الحديث.
5 - علم السيرة والتاريخ: أن يدرس مختصرا في سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل «تهذيب سيرة ابن هشام» ومن الكتب المعاصرة النافعة «الرحيق المختوم» للمباركفوري، وأن يطالع على الأقل على تاريخ الخلفاء الراشدين.
6 - مفاتيح العلوم: أن يدرس مختصرا في أصول الفقه مثل «الوجيز في أصول الفقه» د. عبد الكريم زيدان، «تيسير مصطلح الحديث» للطحان، «مباحث في علوم القرآن» للقطان، «مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية» في أصول التفسير.
7 - علوم اللغة: أن يدرس مختصرا في النحو «كالأجرومية» أو «ملحة الإعراب» وكذلك في البلاغة والأدب يحتاج إلى دراسة موجزة في مثل كتاب «البلاغة الواضحة» لعلي الجارم (1).
وهذه العلوم الأساسية يحتاج الداعية فيها إلى إرشادات عامة أهمها:
1 - التدرج في كل علم من الأدنى إلى الأعلى، ومن الأيسر إلى الاصعب، وليعلم «أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة لأن البناء على غير أساس لا يبنى والثمر من غير غرس لا يجنى» (2).
وهذا ابن خلدون، يوضح لك الطريق فيقول: (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا وقليلا قليلا) (3).
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص51 - 53.
(2) أدب الدنيا والدين، ص55.
(3) مقدمة ابن خلدون، ص533.(1/404)
وقال ابن شهاب الزهري المحدث الإمام: «من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي» (1).
2 - الحرص على التلقي عن الشيوخ كل في فنه, وألا يعتمد على الاطلاع المجرد وحده، فهذه العلوم ليست كالصحف والمجلات يكتفي فيها بالقراءة والاطلاع، وكما قيل: «من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه» (2).
وصدق الشاعر حيث يقول:
يظن الغمر أن الكتب تهدي ... أخا جهل لإدراك العلوم
وما علم الجهول بأن فيها ... مدارك قد تدق عن الفهيم
ومن أخذ العلوم بغير شيخ ... يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم (3)
وكتب السلف وتراجم العلماء مليئة بأسماء شيوخهم، وسيرتهم مع من تلقوا عنهم، وكتب أهل العلم طافحة بآداب الطالب مع شيخه مما يدل على بدهية
ذلك عندهم (4).
قال الشاطبي: «من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام» (5).
3 - الصبر والملازمة، وترك الانتقال من علم إلى علم قبل تمامه، ومن شيخ إلى شيخ قبل الاستفادة منه، ومن كتاب إلى كتاب قبل إحكامه. قال الزرنوجي: «ينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذه، وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله، ص138.
(2) مقومات الداعية الناجح، ص54.
(3) المصدر نفسه، ص54.
(4) المصدر نفسه، ص55.
(5) الموافقات للشاطبي، (1/ 9).(1/405)
حتى لا يشغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول، وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة, فإن ذلك كله يفرق الأمور ويشغل القلب ويضيع الأوقات ويؤذي العلم» (1).
ب- الثقافة الإسلامية:
لا شك أن الداعية يحتاج بشكل ملح إلى الثقافة العامة وكذلك الثقافة المعاصرة: «إن حركة الداعية حركة واسعة، وانتشاره كبير واتصالاته كثيرة وهو لا شك يلتقي بأنواع كثيرة من البشر, كل له مزاجه وثقافته واطلاعه, فلابد للداعية أن يشبع هذه الثقافات ويلم بشيء منها حتى يشارك من يخاطبه كل حسب ثقافته كمدخل من مداخل الدعوة» (2).
ولابد من الاعتراف بوجود الخلل في هذه الثقافات عند كثير من الدعاة «فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع المعاصر، وهناك جهل بالآخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين, مع أن الآخرين يعرفون عنا كل شيء وقد كشفونا حتى النخاع، بل هناك جهل بأنفسنا فنحن إلى اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا ولا نقاط الضعف لدينا، وكثيرا ما نضخم الشيء الهين، ونهون الشيء العظيم، سواء في إمكاناتنا أم في عيوبنا» (3).
إن من المهم بمكان أن يتمكن الداعية عند عرضه للإسلام من بيان محاسن الدين، ومقاصد الشريعة، ويفند مزاعم خصوم الإسلام وشبهاتهم، وإظهار الكمال في أنظمة الإسلام الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وأنها ترعى جميع المصالح وتسد أبواب الفساد، وأنها صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان, وأمثال هذه الموضوعات, ومن المهم بمكان، أن يستوعب الداعية المذاهب الفكرية المعاصرة كالشيوعية والرأسمالية، والقومية والبعثية والماسونية، وأن يبين عوارها وبطلانها
_________
(1) تعليم المتعلم للزرنوجي، ص44.
(2) الدعوة قواعد وأصول، ص71.
(3) أولويات الحركة الإسلامية, ص21.(1/406)
وما تعارض مع العقيدة الإسلامية ودين الإسلام، وأن يكون على دراية بأساليب الأعداء وغزوهم الفكري والدور العملي للصهيونية والماسونية ومخططاتهم وأساليبهم، والتنصير ومؤسساته وأدواره، وأن يطالع الكتب النافعة في هذا المجال مثل «الغارة على العالم الإسلامي» تأليف أ. ل - شاتليه, وترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي وأساليب الغزو الفكري للدكتور على جريشة ومحمد شريف وغيرها من الكتب.
إذا توافر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان ذلك سببا مهما في نجاح الداعية في مرحلة التعريف.
ثالثًا: رجاحة العقل وقوة الحجة:
إن توافر الذهن الوقاد والعقل النير ميزة كبرى يتحلى بها الداعية حتى يستطيع أن يرجح بين الآراء المختلفة, ويحلل الأمور ويدلل على الصواب، ويرتب الأولويات ويختار الأوقات، وينتهز الفرصة المناسبة، ويتخلص من المشكلات، ويقوى على الرد على الشبهات، والتكيف مع الأزمات، وربما يلتقي الداعية بأصناف من المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية, ومن هؤلاء:
1 - الكافرون الذين لا يؤمنون بالكتاب والسنة.
2 - المعتدون بعقولهم المقدمون لها على النص النقلي.
3 - المخدوعون بالشبهات.
4 - المعاندون الذين يتبعون الباطل تبعا لمصالحهم ويسعون إلى إضلال غيرهم.
5 - الواقعون تحت تأثير الأوضاع والأعراف الخاطئة حتى ألفوها ورأوها صوابًا, وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية وهي تعين الدعاة على التأثير في الناس وخصوصا عند التفكر العميق والتأمل الهادئ.(1/407)
ومن هذه الأساليب المهمة:
أ- أسلوب المقارنة:
وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل للتفكر في كلا الأمرين وعاقبتهما للوصول - بعد المقارنة (1) - ومن أمثلة ذلك:
1 - قال جل وعلا: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
قال القرطبي: «وهذه الآية ضرب مثلا لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق, وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها، وفي هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه» (2).
2 - ومن الأمثلة النبوية التي تبين استخدام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسلوب المقارنة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير, فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» (3).
قال النووي: «وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع, ومن يغتاب الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة» (4).
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص59، 60.
(2) تفسير القرطبي (8/ 265).
(3) مسلم، كتاب البر والصلاة، باب: استحباب مجالسة الصالحين، (النووي) (6/ 178)
(4) المصدر نفسه (6/ 178).(1/408)
ب- أسلوب التقرير:
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى الإقرار بالمطلوب الذي هو
مضمون الدعوة.
1 - ومن الأمثلة القرآنية على ذلك:
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ - قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلَّ لَهَا عَاكِفِينَ - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ - قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 69 - 81]. وهنا ستكون الإجابات بالنفي, فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إن أصنامهم تسمع دعاءهم أو تجيب رجاءهم، وهذا يؤدي إلى عدم جدوى هذه الأصنام, وبالتالي الاستسلام العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي جاء في هذه الآيات وصف أفعاله سبحانه وتعالى (1).
2 - ومن الأمثلة الحديثية:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال مستنكرًا ومسترشدًا: يا رسول الله ولد لي غلام أسود ... ! فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ (2) قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: فلعل ابنك نزعه عرق (3).
فهذا الرجل جاء سائلاً مستفتيًا عما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن، وقال ابن العربي: «فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظر» (4).
_________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص62.
(2) أورق: أي أسمر (النهاية في غريب الحديث) (5/ 175).
(3) البخاري، كتاب الطلاق، باب: إذا عرَّض بنفي الولد، الفتح (9/ 442).
(4) فتح الباري (9/ 444).(1/409)
جـ- أسلوب الإمرار والإبطال:
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعا للجدل والنزاع خلوصا إلى حجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع.
ومن الأمثلة القرآنية:
قال تعالى في قصة إبراهيم مع النمرود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
وقد أحسن صاحب الظلال في توضيح هذا الأسلوب حيث قال: «عرَّف إبراهيم بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد ... وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية، ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره، قال {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ" فهو من ثم الذي يحكم ويشرع، ثم قال تعليقا على قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ" لم يرد إبراهيم عليه السلام أن يسترسل معه في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة، حقيقة منح الحياة وسلبها، هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا، وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ" إلى طريقة التحدي, وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر وتنعت ويجادل في الله» (1).
وعلق بمثل قوله السعدي في تفسيره فقال: «فلما رآه الخليل مموها تمويها ربما راج على الهمج والرعاع قال إبراهيم ملزما بتصديق قوله: إن كان كما يزعم
_________
(1) في ظلال القرآن (1/ 298).(1/410)
{فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ... " الآية فأتى (أي إبراهيم) بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه» (1).
ولا ريب أن الداعية مطالب بتفهم هذه الأساليب والإفادة منها ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة وسرعة البديهة.
ولقد كان لأئمة الدعاة أقوال ومواقف دلت على رجاحة عقولهم وقوة حجتهم، فهذا القاضي أبو بكر الباقلاني سأله بعض النصارى بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من أمرها بما رميت من الإفك؟ فقال الباقلاني على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء، مريم وعائشة فبرأهما الله عز وجل, وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج (2).
فكان هذا الجواب في غاية الروعة والإفحام، لأن ذلك الخبيث أراد التعريض والإحراج بقصة حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فأجاب الباقلاني بأن هذه فرية برأها الله منها ولكنه قرن ذلك بذكر مريم، ليشير إلى أن براءة عائشة عقلا أولى، لأن لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم أعظم، فإن قبلتم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة عائشة من باب أولى (3).
رابعًا: رحابة الصدر وسماحة النفس:
إن الداعية الرباني في العادة يتحلى برحابة الصدر وسماحة النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق, «فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحل همومهم ولا يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا» (4).
_________
(1) تفسير السعدي (1/ 320).
(2) البداية والنهاية (9/ 135).
(3) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص70.
(4) , (4) في ظلال القرآن (1/ 500 - 501).(1/411)
وهكذا كان قلب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وهكذا كانت حياته مع الناس «ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئا من أغراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منه عاشره، أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه الكبيرة والرحيبة» (1).
إن هذه الأخلاق مهمة في تكوين الداعية يحتاج أن يجتهد في اكتسابها لأنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة القبول، وتكبح جماح الانفعالات النفسية ذات الآثار السلبية، وتتجلى هذه الأخلاق في عدد من الصفات توضحها وتبين أثرها
ومن أهمها:
أ- الرحمة والشفقة:
«إن الداعي لابد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس، وإرادة الخير لهم والنصح لهم، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام، لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى فهو يحب ذلك إليهم» (2).
وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس الحزن والأسى على حال المعرضين والعاصين، ويتولد إثر ذلك قوة نفسية دافعة لاستنقاذهم من الخطر المحدق بهم، والهلاك القادمين إليه، وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفة عند الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
تأمل هذه الآيات فإنه: «من فرط شفقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داخله الحزن لامتناعهم عن الإيمان، فهون الله سبحانه عليه الحال، بما يشبه العتاب في الظاهر كأنه قال له: لِمَ
_________
(1) في ظلال القرآن (1/ 500 - 501).
(2) أصول الدعوة، ص343، 344.(1/412)
كل هذا؟ ليس في امتناعهم - في عدنا - أثر، ولا في الدين من ذلك ضرر (1).
فالرحمة - كما ترى - باعث دافع ومحرك للدعوة استنقاذا للناس من الهلاك، وهي في الوقت نفسه عامل استمرار واطراد وتوسيع لدائرة الاستيعاب والتأثير رغم الصد والإعراض (2).
ب- الحلم والأناة:
إن الحلم: «فضيلة خلقية نافعة .. تقع في قمة عالية دونها منحدرات، فهو أناة حكيمة بين التسرع والإهمال أو التواني، وضبط للنفس بين الغضب وبلادة الطبع، ورزانة بين الطيش وجمود الإحساس» (3).
والأناة عند الداعية إلى الله تعالى «تسمح له بأن يحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، بخلاف العجلة فإنها تعرضه للكثير من الأخطاء، والإخفاق، وتعرضه للتعثر والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضا يعرض للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها» (4)، وقد امتدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأشج فقال: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» (5).
ومن الأمثلة من سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما رواه أنس بن مالك حيث قال: «جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فنهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فلما قضى بوله أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذنوب ماء أهريق عليه» (6).
لقد كانت مواقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي تبين حلمه كثيرة جدا.
_________
(1) لطائف الإشارات للقشيري (1/ 377).
(2) الأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن حبنكة (2/ 325).
(3) , (2) الأخلاق الإسلامية (2/ 353).
(4) الأخلاق الإسلامية (2/ 353).
(5) مسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله ورسوله (1/ 48).
(6) البخاري، كتاب الطهارة، باب: صب الماء على البول في المسجد (الفتح) (1/ 324).(1/413)
جـ- العفو والصفح:
ومن مستلزمات الحلم الذي فيه كظم للغيظ وضبط للغضب، ثم الأناة التي فيها تبصر بالأمور وتأن في التصرف مع الاستناد للرحمة بالجاهلين, كل ذلك يثمر العفو والصفح «لأن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبدا إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والأضغان» (1). وما دام الداعي المسلم ينظر إلى من يدعوه نظرة الرحمة والشفقة عليهم فإنه يعفو ويصفح عنهم في حق نفسه، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنسبة لمن يدعوهم ويحتمل صدور الأذى منهم فإن عفو الداعي وصفحه عن أصحابه أوسع, قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران: 159].
وعندما وقعت حادثة الإفك، كان وقعها على آل أبي بكر شديدا فلما نزلت البراءة حلف أبو بكر - رضي الله عنه - ألا ينفق على مسطح بن أثاثة, فأنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]. فصفح الصديق وعفا واستمر في نفقته على مسطح.
إن رحابة الصدر وسماحة النفس تتضمن الرحمة التي تدعو إلى الحلم الذي يقود إلى العفو, فيكون من وراء ذلك التأثير التلقائي لأن الإنسان يتأثر بالإحسان {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وهذا أمر مشاهد حيث نرى أن من كان سمح النفس يستطيع «أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له، وثقة الناس به، لأنه يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب، والتغاضي عن السيئات والنقائص، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه رقيقا لينا، سمحا، يسر بالنصيحة ولا يريد الفضيحة، يسد الثغرات ولا ينشر الزلات والعثرات» (2).
_________
(1) خلق المسلم، ص204.
(2) الأخلاق الإسلامية (2/ 443).(1/414)
هذه يعض العدة التي لابد منها للدعاة الذين يتصدرون الناس لدعوتهم إلى الإسلام.
المراعاة والتدرج في الإسلام:
إن المراعاة والتدرج لازمان للتغيير وحصول الاستجابة، لأن تغيير النفوس وإزاحتها عن مألوفاتها، ونقلها من ميولها أمر ليس سهلا، كما أن تغيير الأعراف التي تجذرت في النفوس، واستقرت في العقول وتواطأ الناس عليها لا تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجه، ولذلك لابد في الدعاة من مراعاة الطبائع والأفهام، والمقاصد والنيات، والأحوال الخاصة، والأعراف والعوائد العامة، والأولويات، والمصالح والمفاسد، والأوقات عندما يتصدرون لدعوة الناس وتعريفهم بالإسلام.
إن التدرج سنة ربانية من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهو من السنن الهامة التي يجب على الأمة أفرادا وجماعات أن تراعيها وهي تعمل للتمكين.
ومراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين يعني أن تتدرج الأمة في عملها للتمكين من السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب, ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد، ومن الخطة الجزئية إلى الخطة الكلية (1) ... وهكذا.
فلقد بدأت الدعوة الإسلامية في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متدرجة تسير بالناس سيرا دقيقا، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس ثم مرحلة المواجهة والمقارنة ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد وإلا كانت المشقة والعجز، وما كان يمكن كذلك أن يقدم واحد منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك (2).
واعتبار هذه السنة في غاية الأهمية «ذلك أن بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها،
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، ص226.
(2) منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير، ص68، 69 بتصرف.(1/415)
ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين، دون نظر في العواقب، ودون
فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعداد جيد للمقدمات، أو
للأساليب والوسائل» (1).
وقد وجه الله تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من موقع، فالله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، يعلمها سبحانه ويعلم مقدارها، وكان - جل شأنه - قادرا على خلقها في أقل من لمح البصر.
وكذلك بالنسبة لأطوار خلق الإنسان والحيوان والنبات كلها تندرج في مراحل حتى تبلغ نماءها وكمالها ونضجها وفق سنة الله تعالى الحكيمة.
وسنة التدرج ثابتة في التشريع الإسلامي بصورة بينة ملموسة، وهذا من تيسير الإسلام على البشر، إنه راعى معهم سنة التدرج فيما يشرعه لهم إيجابا وتحريما، فتجده حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة فرضها على مراحل، ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة التي استقرت عليها (2).
ولقد أشارت السيدة عائشة رضي الله عنها إلى سنة التدرج في التشريع ونزول القرآن فقالت: «إنما أنزل القرآن سورا فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنا أبدا» (3).
وأوضح مثال معروف في هذه القضية هو التدرج في تحريم الخمر: فلقد كانت متغلغلة في نفوس الناس بصورة كبيرة، فكان من الحكمة أن يفطموا عنها
بطريقة تدريجية (4).
وكان القضاء على الرق خاضعًا لسنة التدرج. يقول الدكتور القرضاوي: «ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته
_________
(1) آفات على الطريق - السيد محمد نوح (1/ 27).
(2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص127.
(3) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: تأليف القرآن.
(4) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص228.(1/416)
لا يقدم على إلغاء نظام الرق الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان محاولة إلغائه تؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية, فكانت الحكمة في تضييق روافده، بل ردمها كلها، ما وجد إلى ذلك سبيلا، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرق
بطريق التدرج» (1).
يقول أبو الأعلي المودودي: «إننا درسنا القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فلقد كانت الأمور تسير رويدا رويدا حسب مجراها الطبيعي حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين ... » (2).
إن الأمة الإسلامية التي تتطلع اليوم إلى تمكين الله تعالى لها لابد أن تراعي في عملها سنة التدرج، فما هدم في أعوام لا يمكن أن يبنى في أيام, فعليها أن تتبنى سياسة النفس الطويل والصبر الجميل، فتصبر على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، وتؤتي أكلها بإذن ربها (3).
وينبغي للدعاة العاملين اليوم للإسلام أن: «يراعوا في عملهم سنة التدرج في تحقيق ما يريدون من أهداف، آخذين في الاعتبار سمو الهدف ومبلغ الإمكانات وكثرة المعوقات, فلا ينبغي أن يستعجل الشيء قبل أن يبلغ الأجل المقدور لمثله، فإن الزرع إذا حصد قبل إبانه، والثمر إذا قطف قبل أوانه لا ينتفع به النفع المرجو، بل قد يضر ولا ينفع, فإذا كان النبات لا يؤتي أكله إلا بعد أشهر أو سنة, وبعض الشجر لا يثمر قبل سنوات عدة فإن بعض الأعمال الكبيرة لا تقطع ثمارها إلا بعد عقود من السنين, وكلما كان العمل عظيما وقاعدته متسعة كانت ثمرته أبطأ.
_________
(1) الخصائص العامة للإسلام للقرضاوي، ص166 وما بعدها.
(2) التمكين للأمة الإسلامية، ص229.
(3) انظر: جيل النصر المنشود، للقرضاوي ص23.(1/417)
وقد يبدأ جيل عملا تأسيسيا ذا شأن فلا يستفيد منه الجيل الثاني، أو الثالث، أو ما بعد ذلك، ولا ضير في ذلك ما دام كل شيء يسير في خطه المعلوم وطريقه المرسوم» (1).
نعم فالأقدار طويلة الأنفاس، والصراع بين الحق والباطل لا تنكشف عقباه في سنة أو سنتين, ولا في جولة أو جولتين, إنه قد يستوعب السنين والقرون (2) .. {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
إن استيعاب سنة التدرج يعين الدعاة على التعامل الصحيح مع الناس ولابد للدعاة الذين يعرفون الناس بالإسلام أن تكون لهم قدرة على التخطيط والتنظيم وحسن الإدارة، ولا يخفى أن هذه الأمور المذكورة من صميم كل مرحلة من مراحل التمكين بل هي من صميم أي عمل يراد له أن يحقق أهدافه، وأن يصل إلى غايته.
إن مرحلة التعريف تحتاج إلى الدعاة أن يهتموا بالتخطيط والتنظيم وحسن الإدارة.
فبالتخطيط يمكن أن يستفاد من الموارد المادية والمعنوية والبشرية، على أفضل وجه ممكن، وبأقل تكاليف ممكنة، وفي الوقت المناسب.
وبالتنظيم: يمكن تحديد الواجبات والاختصاصات بين الأفراد ويمكن تحديد الأوقات التي تؤدي فيها الأعمال، بغية الوصول إلى الأهداف التي حددت من ذي قبل، وهو عمل يجب أن يمارسه الدعاة إلى الله، بل يتمرسوا به، ويجيدوه، لأنه لا ينجح عمل بدون ذلك.
وبحسن الإدارة: يمكن إخراج التخطيط والتنظيم إلى حيز الوجود للعمل والتنفيذ، وتحدد الطاقات وتوظف مهماتها في العمل، وفق ما تقتضيه الخطة وما
_________
(1) الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، ص106، 107.
(2) علل وأدوية للغزالي، ص37.(1/418)
يتطلبه النظام ويمكن تأمين الموارد المالية اللازمة في هذه المرحلة، بحيث تكون موارد ثابتة يمكن على ضوء ثباتها هذا أن توضع ميزانية للعمل، وأن يخضع لجدولية مالية وزمانية, ويمكن تنسيق جهود الأفراد أو المجموعات المشاركة في العمل، بحيث تغطي احتياجات العمل في هذه المرحلة، وتحقق أهدافه مع تحديد الجهد المطلوب من كل فرد أو مجموعة أيا كان هذا الجهد، وبحسن الإدارة يمكن أن يقوَّم العمل في كل مرحلة من مراحله، والاستفادة من هذا التقويم للوصول إلى الأحسن، وتقويم الأداء في الزمان والمكان، وتقويم النتائج التي حققها العمل، وتقويم الأفراد والمجموعات.
إن تقويم العمل وفق إدارة محكمة ينتج عنه: تجويد العمل على قدر المستطاع، والمحافظة عليه من الانحراف عن أهدافه، والمحافظة على الاستمرارية، والمحافظة على الانضباط.
ولابد من الإشارة إلى موضوع مهم، ألا وهو أن العمل الدعوي في مكان قد يحتاج إلى خطة وتنظيم وإدارة، تختلف عن احتياجه إليها في مكان آخر.
وهذا حق, وهو أمر تطلب فيه المرونة، وسعة الأفق، وعمق النظر إلى الأمور، لكن بغض النظر عن هذا الاختلاف، فليست العبرة أبدا بنوعية الإعداد، هرميا كان أو رأسيا، أو رئاسيا أو استشاريا، أو غير ذلك, وإنما العبرة بضرورة ممارسة التنظيم للعمل، وبضرورة اختيار النوع الملائم للناس والبيئات، التي يطبق فيها أي نوع من أنواع التنظيم, كل ذلك ينظر إليه بمنظار الاحتياج من جانب، وبمنظار القدرة على تحقيق الأهداف من جانب آخر, ولا بأس أبدا بأي نوع من أنواع التنظيم، التي ذكرنا أو سواها مما يصل إليه أذهان الدعاة إلى الله، ما دام هذا التنظيم لا ينطوي على شيء مما حرم الله (1).
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم، (1/ 295 - 302).(1/419)
المبحث الثاني
مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة
إن رسل الله الكرام عليهم أفضل الصلوات والسلام عندما بلغوا رسالات الله إلى أقوامهم، اختاروا من الناس من استجاب لدعوتهم وغرسوا في نفوسهم المعاني الإيمانية والأخلاق الربانية حتى يستطيعوا أن يحملوا معهم دعوة الله إلى الناس، فهذا رسول الله موسى قام بهذه المهمة الشاقة, وذاك رسول الله عيسى الذي اختار أنصاره الحواريين الذين حملوا دعوته ورسالته من بعده, وإن كان بعضهم انحرف عن المنهج الرباني الصحيح، ومن سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نرى أن هذه المرحلة واضحة المعالم في اختيار العناصر التي لها استعداد لتحمل تكاليف ومشاق ومصاعب الدعوة إلى الله.
وقد اهتم كثير من الدعاة إلى الله بهذه المرحلة وأعطوها اهتماما خاصا على مر العصور، وكر الدهور، ولا زال المهتمون بأمر الدعوة والذين يسعون لتطبيق شرع الله تعالى يعطون هذه المرحلة أوقاتهم وجهدهم، ولقد أرشد القرآن الكريم الأمة إلى الاهتمام بالإعداد في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ... } [الأنفال: 60].
إن الإعداد في الآية الكريمة كلمة عامة تبدأ بالإعداد النفسي، وتنتهي بكل أنواع الإعداد المادية التي قد تحتاج إليها المعركة، والمسلم في هذه المرحلة بالذات عليه أن يعد نفسه للقاء أعداء الله، فيأخذ نفسه بكل أسباب القوة، ويحول بينه وبين أي سبب من أسباب الضعف، ويعيش منتظرا ذلك اليوم الذي يجاهد فيه في سبيل الله، ويقاتل أعداءه، ويسعى لإزالة الحواجز التي تمنع دخول الناس في الإسلام، وتمنع تحكيم شرع الرحمن (1).
إن مرحلة اختيار العناصر اللازمة لتحمل الدعوة وتربيتهم على الكتاب والسنة
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم (1/ 447).(1/420)
من أهم المراحل في تمكين دين الله، كما أن أهدافها أكثر دقة من أهداف المرحلة
التي قبلها.
أولا: أهم أهداف هذه المرحلة:
الهدف الأول: الاصطفاء:
وهو الاختيار والانتقاء للعناصر التي أنهت مرحلة التعريف بنجاح حتى يتأهلوا لحمل أعباء وتكاليف الجهاد في مرحة المغالبة، والشروع لهيمنة الإسلام من خلال دولة محكمة (1). وهذا الاصطفاء له معايير أهمها:
1 - القدرة الروحية: ويكون لدى الشخص المختار استعداد في هذه المرحلة من الناحية الروحية إذا توافرت فيه بعض الصفات من أهمها: صفاء الروح، الشعور بمراقبة الله، أن يظهر حبه لله في سلوكه، وكذلك ارتباطه الوثيق بالله.
2 - القدرة العقلية: وأهم الصفات التي تؤهل الشخص من الناحية العقلية، الذكاء الذي يساعده على العلم والتحصيل، ونبذ المسلمات القائمة على الظنون والأوهام: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] , وأن يتصف في الحكم على الناس والأشياء بالتأني والتثبت في كل الأمور، لأن التسرع يوقع في الخطأ من جانب ويضيع كثيرا من الفرص للتعرف الحقيقي على الناس من جانب آخر, قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] , وأن يتصف بعمق النظر، وقدرته على التدبر واستنباط الحكم الكامنة في المخلوقات، لأن ذلك ينضج الفكر ويزيد الإيمان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ
بِالْحَقِّ} [الحجر: 85].
3 - القوة البدنية: وذلك أن هذه المرحلة إعداد لمرحلة الجهاد، فليس بأهل لها إلا رجلاً قوي البدن, سليم الحواس، خاليًا من الأمراض والعاهات، ومن كان قادرا
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم (1/ 421).(1/421)
على أن يأخذ نفسه وبدنه بأسباب القوة، ويباعد بين نفسه وبدنه وبين أسباب الضعف فذلك شخص مطلوب.
4 - القدرة الحركية: وتتحقق القدرة الحركية في الشخص إذا توافرت فيه صفات نذكر منها: الرغبة في الاختلاط بالناس، وعقد الصلات بهم، والقدرة على جذب الناس إليه، والقدرة على التأثير في الناس، وتصنيفهم. وتكون هذه الصفات من مقومات الشخصية المختارة.
5 - القدرة الإنتاجية: يكون قد استقطب وضم للصف الإسلامي آخر أو آخرين، لصفوف العمل الإسلامي عموما، أو إلى صفوف مرحلة الدعوة والتبليغ, وأن يتصف بالإيجابية الفعالة القادرة على العمل وأن يكون متحمسا للعمل لا يفتر عنه، وأن يكون محسنا في العمل الذي يسند إليه, وأن يكون ذا علاقة جيدة بالناس، وأن يكون قد فقه تماما معنى كونه داعية إلى الله، ومن لم تتوافر له هذه الصفات، أو تلك الشروط، وفق تلك المعايير التي ذكرنا يكون له موقع آخر في العمل الإسلامي أكثر انسجامًا وملاءمة لطاقته وقدراته، وأفيد للعمل، لأن من الأمور التي تهلك الأعمال توسيدها إلى غير أهلها.
الهدف الثاني: التوظيف:
أي تحديد العمل للفرد، وتقديره في حدود إمكانات الفرد وطاقته, ويحدد له الزمن المناسب لأداء العمل, وإسناد العمل المناسب للفرد المناسب يستوجب على من يشرف على العمل أن يكون على علم ووعي وإدراك لما يلي:
1 - تحديد الهدف من كل عمل من الأعمال.
2 - تحديد الوسائل التي تكفل للعمل النجاح
3 - تحديد الفرد والأفراد الملائمين للعمل.
4 - تحديد الإطار الزمني للعمل.(1/422)
الهدف الثالث: الإعداد والتربية:
ونعني بهذا الهدف تهيئة الأفراد وتجهيزهم وتنمية قواهم الجسدية والخلقية والعقلية، ليكونوا أقوياء قادرين على حمل أعباء الجهاد في سبيل الله، ولذلك تعتبر مرحلة الإعداد والتربية من أهم مراحل الدعوة إلى الله، لأنها تكون أفرادا متكاملي البناء، وحسبهم أنهم قادرون على حمل أعباء الجهاد الذي كما هو معروف سنام الإسلام، وأعلى منزلة بين منازله.
الهدف الرابع: الانضباط:
وذلك بالوصول بالأفراد إلى الانضباط وحفظهم بالحزم حفظا جيدا، وإحكام إعدادهم وتكوينهم والقيام على أمرهم خير قيام.
إن حياة المسلم العادي منضبطة في كل شيء، وفق القوانين التي جاء بها الإسلام, فمن باب أولى الذين يعدون لحمل تكاليف الجهاد, فالمسلم منضبط وفق الشرع في العقيدة والفكر، وفي العبادة، وفي الخلق والسلوك وفي المعاملات كلها، وفي الكلام والصمت وفي الزي والمأكل والمشرب والمنكح، وفي النوم واليقظة، وفي الحقوق والواجبات، وفي محاسبة النفس, وفي الدعوة إلى الله والعمل من أجل الإسلام، وفي الالتزام بوعده وموعده، وفي الانتماء والاعتزاز بأنه مسلم.
وليس المسلمون في ذلك سواء فمنهم من ينضبط وفق هذه المعايير، ومنهم من يقصر في بعضها، ومنهم من يلبس عليه الشيطان أو الهوى أمره فلا ينضبط, ولقد كان من حكمة الله سبحانه ورحمته بالناس، أن جعل لعدم الانضباط عقوبات مقدرة «حدودا» ليلتزم الناس بأدب الإسلام وخلقه، ومنهجه، ونظامه.
إن مرحلة الإعداد والتربية من أهدافها الأصيلة، أن يتربى المسلم على الانضباط في كل شيء وفق المعايير والقوانين التي شرعها الله سبحانه وتعالى ليحقق الآخذ بها سعادة الدنيا والآخرة.(1/423)
ومن أهم الوسائل لتحقيق هذه الأهداف أن يتعهد الأفراد المستهدفون في هذه المرحلة من قبل مشرف مختص ليشرف على تربيتهم أسبوعيًا، وفق دراسة معينة، ويُتعهدوا أيضا كل شهر ونصف ببرنامج مكثف, وتستخدم الدورات والندوات والمخيمات والمعسكرات والرحلات لتحقيق هذه الأهداف السامية، أما البرنامج المعد لهذه المرحلة فيحتوي على تربية روحية وعقلية وجسمية واجتماعية وخلقية.
ثانيًا: التربية الروحية:
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] وقال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [ص: 72] وقال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9]. ولتزكية الروح وتربيتها طرق عدة من أهمها:
1 - التدبر في كون الله ومخلوقاته وفي كتاب الله تعالى حتى تشعر بعظمة الخالق وحكمته سبحانه وتعالى, قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
2 - التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل بما في عالم الغيب والشهادة، لأن ذلك يملأ الروح والقلب بعظمة الله ويطهر النفس من الشكوك والأمراض.
قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ - وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الانعام: 59، 60].(1/424)
3 - عبادة الله من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة هي غاية التذلل لله سبحانه, ولا يستحقها إلا الله وحده، ولذلك قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان:
النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة،
والحج وغيرها.
النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، الذي يشمل كل عمل يعمله الإنسان أو يتركه، بل كل شعور يقبل عليه الإنسان تقربًا به إلى الله تعالى، بل يدخل فيها كل شعور يطرده الإنسان من نفسه تقربا به إلى الله تعالى، مادامت نية المتعبد بهذا العمل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى، فكل الأمور، مع نية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة (1).
إن أثر تربية الروح يتمثل في أمور عديدة نشير إلى أهمها فيما يلي: توثيق صلة الإنسان بربه سبحانه وتعالى، وتوضيح صلة الإنسان بالكون وما فيه، وترشيد هذه الصلة، وتحبيب الإنسان لأخيه المسلم، وحرصه على هدايته وحب الخير له, وتحبيب الإنسان لمخلوقات الله كلها، والتعامل معها، وفق منهج الإسلام ونظامه، وتحبيب الإنسان في الخير عموما والتقرب به إلى الله, واستعلاء الإنسان على شهواته، وسيطرته على نزعاته، وتوجيه ذلك كله، وفق منهج الله، ونظامه في الحياة الدنيا، واستعلاء الإنسان على القوة المادية، وعدم الوقوع في أسرها، بل إعطاؤها حجمها الصحيح، ومكانها المناسب، وتتكون في العبد ملكة يستمد بها القوة من الله وحده (2).
ثالثًا: التربية العقلية:
ونعني بها تربية المخ وتنمية قدرته على النظر والتأمل والتفكر والتدبر، وذلك
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم (1/ 472،471).
(2) انظر: فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم (1/ 472،471).(1/425)
هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله، وهذا المطلب القرآني أرشد إليه ربنا سبحانه وتعالى في محكم تنزيله، وجعله أمرًا لكل إنسان, قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]. وقوله سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآَخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
وقوله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ"
[ص: 29].
وقوله جل شأنه: {فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا - ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا - فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا - وَعِنَبًا وَقَضْبًا - وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً - وَحَدَائِقَ غُلْبًا - وَفَاكِهَةً وَأَبًّا - مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32].
والعقل إحدى طاقات الإنسان المهمة, ولذلك اهتمت التربية الإسلامية بالنظر إليه وجعله المولى عز وجل مناط التكليف عند الإنسان، فمن حرم العقل لجنون أو غيره، فهو غير مكلف، أو قد سقط عنه التكليف، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] كما يعتبر العقل نعمة من الله على الإنسان، يتمكن بها من قبول العلم واستيعابه.
ولذلك وضع الإسلام لتربية العقل منهجًا يتمثل في عدد من النقاط من أهمها:
1 - تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد, فقد حذر القرآن الكريم من ذلك، في الآيات الكريمة التالية:
قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
وقوله سبحانه: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].(1/426)
2 - إلزام العقل بالتحري والتثبت, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
3 - دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الحجر: 85].
4 - دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله لعباده من عبادات، ومعاملات, وأخلاق وآداب، وأسلوب حياة كامل، في السلم والحرب، في الإقامة والسفر، لأن ذلك فوق أن ينضج العقل وينميه بتعرفه على تلك الحكم، يعطيه أحسن الفرص ليطبق الشرع الرباني في حياته، ولا يبغي عنه حولا، لما فيه من السكينة والطمأنينة والسعادة البشرية، ولأن الله سبحانه وتعالى إنما شرع ما شرع لذلك, قال سبحانه: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا - يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 - 28].
وقال سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119].
إن علماء الأمة وفقهاءها على مر العصور والأزمان منذ بزوغ الإسلام إلى عصرنا الحاضر غاصوا في حكم التشريع وحكمته وتركوا للعالم كله رصيدا هائلا ضخما في أبواب الفقه الإسلامي، والمعاملات بين الناس كان من أسباب سعادة الدنيا والآخرة لمن التزم بالمنهج الرباني (1).
5 - دعوة العقل إلى النظر في سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف, ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول.
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (1/ 475).(1/427)
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13، 14].
وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَسيِرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9].
وهذا هو المنهج الرباني للعقل لكي لا يضل في التيه، الذي ضل فيه كثير من الفلاسفة الذين قدسوا العقل وأعطوه أكثر مما يستحق.
وأما الآثار العملية من هذا التوجيه الرباني في العقل فتتمثل في أمور من أهمها:
1 - تنقية العقل من الوهم والخرافة، والدجل والمسلمات المبنية على الظنون والأوهام وتربيته على التريث والتثبت، حتى لا يتسرع فيظلم ويندم وحينئذ لا
ينفع الندم.
2 - تعويد العقل على إدراك حقيقة هذا الكون الذي يعيش فيه وإلزامه بأن يتعرف على الحق عن قرب ويقين.
3 - إقدار العقل على التأمل والنظر في حكمة الله سبحانه وتعالى، فيما شرعه للناس من منهج ونظام، يحقق لهم سعادة الدارين، وتمكين العقل من التأمل في تاريخ البشرية، وهذا التاريخ هو أكبر كتاب وأوسعه أبوابًا وفصولا ليخرج بفائدة جليلة يستطيع أن يقارن بدقة وحسم بين الكفر والإيمان، وأعمال المؤمنين وضلال الكافرين.(1/428)
رابعًا: تربية الجسم:
إن الله تعالى أخبرنا أنه خلق آدم عليه السلام من سلالة من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد, قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9].
وهذه الآيات إشارة إلى أن الإنسان يتكون من طاقات ثلاث منحها الله للإنسان: طاقة العقل، وطاقة الروح، وطاقة الجسم، ثم استخلفه الله في الأرض، وطلب منه أن يعمرها, قال سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
وقد بينت منهج الإسلام في تربية الروح والعقل، ولابد من بيان منهج القرآن الكريم في تربية الجسم البشري، بحيث يؤدي وظيفته دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته، على حساب طاقة أخرى، ولذلك أرشد القرآن إلى ما أحله الله من الطيبات، واجتناب ما حرم الله من الخبائث, وأنكر على أولئك الذين يحرمون أبدانهم من تلبية حاجاتها على الوجه المشروع، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ"
[المائدة: 87، 88].
ولا شك أن تحقيق هذه الحاجات، يمكن الإنسان من أداء وظائفه، التي وظفه الله لها في الأرض من عبادة الله واستخلاف في الأرض، وإعمارها، وتعارف وتعاون وتناصر وتمكن وأمر بمعروف ونهي عن المنكر وجهاد في سبيل الله، وبغير تحقيقها لا يكون شيء من ذلك (1).
_________
(1) فقه الدعوة إلى الله (1/ 487).(1/429)
ولذلك ضبطت الشريعة - على نحو دقيق - حاجات الجسم البشري على النحو التالي:
1 - ضبط حاجته إلى الطعام والشراب بقول الله تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا"
[الأعراف: 31].
2 - وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس ما يستره العورة، ويحفظ الجسم، من عاديات الحر والبرد، وأوجب ما يكون زينة عند الذهاب إلى المسجد قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
3 - وضبط الحاجة إلى المأوى بقوله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:8].
4 - وضبط حاجته إلى الزواج والأسرة، بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض
الأحيان، وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7].
5 - وضبط حاجته إلى التملك والسيادة، بأن أباح التملك للمال والعقار، ولكن حرم الاحتكار، واكتناز الأموال، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46].
6 - وضبط الإسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي, قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21] وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا} [الفرقان: 37] مع أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة وسطا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
7 - وضبط حاجته إلى العمل والنجاح، بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعا، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه الحياة الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، وما يدخرون عند الله(1/430)
سبحانه، قال تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] وربط العمل بالإيمان في كثير من آيات القرآن الكريم، وشرط في العمل أن يكون صالحا، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].
بل طالب بالإحسان في العمل، فقال سبحانه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ"
[النحل:90].
8 - وضبط النجاح بأن يكون الهدف من العمل الناجح وجه الله ورضاه, قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].
9 - وضبط حاجة الجسم إلى الراحة والاسترواح، بأن حذر من الإسراف فيها، حتى لا تتحول إلى دعة وكسل, والأصل في الشريعة الإسلامية أنها خالية من كل إعنات، أو إرهاق للإنسان, قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة, قال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ"
[القصص: 58].
وقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].
هذه بعض التعاليم من منهج الإسلام في تربية الجسم، حتى يستطيع أن يتحمل أثقال الجهاد وهموم الدعوة وصعوبة الحياة. ولا شك أن كل هذه الأنواع من تربية الإسلام للجسم، يحتاج إليها كل الناس، ولكن المنضمين إلى مرحلة الإعداد والتربية يحتاجون إلى هذه الأمور احتياجا أساسيا.(1/431)
خامسًا: تربية الحس الاجتماعي:
لقد اهتم القرآن الكريم بنزعة التربية الاجتماعية في الإنسان ووضع لها دعائم:
الدعامة الأولى: تنمية حب الإنسان لأخيه الإنسان المؤمن:
وتلك القاعدة التي ترتكز عليها الحاسة الاجتماعية في البشر عموما، ويتضح هذا من سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما وصل إلى المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار في الله، وأصبحوا إخوة, وسجل ذلك في وثيقة مكتوبة، نقشت في قلب كل مؤمن، بل صاروا يتوارثون بمقتضى هذه الأخوة، وظل هذا التوارث ساريا حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. فألغى التوارث، وبقيت الأخوة في الله على ما كانت عليه، من قوة ووثاقة, ولا تزال بين الواعين من المؤمنين حتى اليوم، ولقد تأكدت الأخوة بين المؤمنين بقوله سبحانه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
ولقد كان من مقتضى فقه الأنصار للأخوة في الله، أن حملوا أعباء إخوانهم المهاجرين، ومدح الله سبحانه ذلك الفقه والعمل، وأثنى عليه بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الدعامة الثانية: استجابة الإسلام لحاجات المجتمع كاستجابته لحاجات الفرد:
وقد عمل على تحقق حاجات المجتمع في إطار ما أحل الله، وبحيث لا يضر بأحد من الناس. ومن حاجات المجتمع (1):
1 - التعاون والتكافل:
لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتعاون وأوجبه عليهم, قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (1/ 507).(1/432)
2 - التناصر والتواصي بالحق والصبر:
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] والتواصي بالحق يدفع عن الناس كل مصيبة ويقضي على المنكرات والآثام التي في المجتمع ويجعلها تنحسر، والتواصي بالصبر يجعل المجتمع تسري فيه العدالة ويرتفع الظلم وتسوده المودة وتزول العجلة.
3 - الحث على التراحم بين أفراد المجتمع:
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وأثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين المتراحمين في قوله سبحانه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17، 18].
وهذه الآيات لم تحصر حاجات المجتمع، بل حثته بمفهومها العام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى جلب المصالح ودفع المفاسد، والجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزاة وعلى تأمين العيش الكريم لكل أفراده (1).
الدعامة الثالثة: تحديد الصفات التي يجب أن تسود المجتمع:
قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ - وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 36 - 43].
لقد ذكرت الآيات الكريمة الصفات الرفيعة والتي إن سادت في المجتمع يصبح سعيدا راشدا.
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (1/ 508).(1/433)
فقد أشارت إلى الإيمان بالله، والتوكل عليه سبحانه، واجتناب كل إثم وفاحشة والصفح والتسامح، والاستجابة لكل ما أمر الله به، وإقام الصلاة، وممارسة الشورى في كل ما يعنيهم من أمر، والإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير، والانتصاف من كل عدو للإسلام والمسلمين، وهو مقتضى العدل، والعفو والتسامح مع القدرة على الانتصاف، وهو مقتضى الإحسان, والانتصار بعد الظلم، والصبر على المظالم والتجاوز عن الظالم لعل الله يهديه بشرط ألا يكون ذلك مؤديا إلى الفساد والشر والدعوة للمعرفة, وهكذا يكون المجتمع الإسلامي (1).
الدعامة الرابعة: تأكيد خيرية هذا المجتمع:
الذي انصهر في تعاليم الإسلام ووضعه في مقدمة المجتمعات لقيادته كلها إلى الإيمان والمنهج الرباني والحق والخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].
وهذه خيرية تقوم على الإيمان، والعمل الصالح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بعيدة كل البعد عن الخيرية العرقية، والجنسية، والقومية, كما زعمت أمة اليهود، وانخدعت أمة الألمان بالعرقية منذ خمسة عقود فكفلتها وكلفت العالم كله حربا دامية مات فيها ملايين من البشر.
هذه الدعائم التي يجب أن تسود في المجتمع, وينبغي أن يقوم برنامج هذه المرحلة عليها, وأن يوزع على كل المشرفين في مرحلة الإعداد في القرى والأرياف والحواضر والبوادي والمدن والبلديات, ولاشك أن مرحلة الإعداد والتربية من أهم المراحل التي يبني عليها الأهداف في الوصول إلى التمكين وسيادة شرع الله على العالمين وإقامة دولة الإيمان والتوحيد.
سادسًا: عدة القائمين على مرحلة الإعداد والتربية:
مما لا ريب فيه أن الذين يشرفون على مرحلة الإعداد والتربية لهم مواصفات
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (1/ 509).(1/434)
خاصة من التميز الإيماني والتفوق الروحاني، والرصيد العلمي والزاد الثقافي ورجاحة العقل وقوة الحجة، ورحابة الصدر، وسماحة النفس، والخبرات والتجارب الكثيرة، والسياسة الحكيمة, وسوف نركز على أمرين خوفا من الإطالة:
أ- الخبرات والتجارب:
إن التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات وهي من أعظم اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضلاً يؤتيه الله من يشاء، فإنه المعطي الوهاب {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53] ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سببا يوصل إليه، والتجربة في العلم اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية للكشف عن نتيجة ما، أو تحقيق غرض معين، وما يعمل أولا لتلافي النقص في شيء وإصلاحه (1) , ويقال: جربه تجربة: اختبره، ورجل مجرب، أي: عرف الأمور (2)، تقول: جربت الشيء تجريبا: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة والجمع تجارب (3).
وعن معاوية (4) - رضي الله عنه - قال: «لا حكيم إلا ذو تجربة» (5) , ومن المعلوم أن الحكيم لابد له من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: «لا حليم إلا ذو كثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة» (6).
وبهذا نقول إن الداعية إلى الله إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف، والقوة سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها، لأنه قد جربهم، فالتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير صبرًا، والحليم حلما، وتجعل العاقل
_________
(1) المعجم الوسيط، مادة: جرب (1/ 114).
(2) القاموس المحيط، باب فصل جيم، ص85.
(3) المصباح المنير، مادة جرب، ص59.
(4) هو الصحابي كاتب الوحي وصهر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , تولى خلافة المسلمين وتوفي عام 60هـ، سير أعلام النبلاء (3/ 119).
(5) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (10/ 529).
(6) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في التجارب (4/ 379).(1/435)
حكيما، وقد تشجع الجبان، وتسخي البخيل، وقد تلين قلب القاسي، وتقوي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمى إلى عماه فهو من الحمقى الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون (1).
وأعظم الناس تجربة وأكملهم حكمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله ربهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (2) والحكمة من ذلك - والله أعلم - أن الله - عز وجل - يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم، ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتهم ما يحصل لهم الحلم، والشفقة كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة, وألين قلوبًا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» (3) , ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها، من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طبائعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم المشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريب على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها (4).
ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى
_________
(1) انظر: هكذا علمتني الحياة، للسباعي، ص47.
(2) البخاري، كتاب الإجارة، باب: رعي الغنم (3/ 65).
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان (1/ 71).
(4) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، ص104.(1/436)
تجاربهم، ولهذا قال موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما فرضت عليه الصلاة خمسين صلاة في كل يوم ليلة الإسراء والمعراج: «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, فما زال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يراجع ربه ويضع عنه حتى أمر بخمس صلوات كل يوم» (1).
فموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضعف من بني إسرائيل أجسادا، وأقل منهم قوة، والعادة أن ما يعجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (2).
فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ، لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى الله، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خدع مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» (3).
وقال: «كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون» (4).
وسبيل الاستفادة من التجارب والخبرات هو خوضها, فمثلا من أراد إصلاح المتدينين وتوجيههم فعليه أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية فعليه أن يختلط بالسياسيين ويتعرف إلى تنظيماتهم ويستمع
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج (7/ 202).
(2) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، ص105.
(3) البخاري مع الفتح, كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج (7/ 202).
(4) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا هناد (4/ 659).(1/437)
لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم, ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها والاتجاه الذي يندفعون نحوه، ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس واندفاع عاطفي, فيحرم نفسه من الدعوة إلى الله ويحرم الناس من علم (1)، وهذا يؤهله إلى أن يحدث الناس بما يعرفون ولا يحدثهم حديثا لا تبلغه عقولهم، قال علي - رضي الله عنه -: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله» (2).
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان
لبعضهم فتنة» (3).
وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة المسئولون عن إعداد الربانيين حتى يورثوهم خبراتهم وتجاربهم في الحياة ومعرفتهم بشئون الناس (4).
ب- أن يكون ذا سياسة حكيمة:
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى الله، فقد سلك مسلكًا عظيمًا في سياسته الحكيمة فكان له عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلا من الساسة المصلحين في أي أمة من الأمم كان له مثل هذا الأثر العظيم، ومَن من المصلحين المبرزين - سواء كان قائدا محنكا، أو مربيا حكيما - اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة ما اجتمع في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه، صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (5).
وأهم الطرق في السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله كثيرة منها ما يأتي:
_________
(1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، ص41.
(2) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قومًا دون قوم (1/ 225).
(3) مسلم، في المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/ 111).
(4) انظر: الحكمة من الدعوة إلى الله، ص106.
(5) انظر: هداية المرشدين، للشيخ علي بن محفوظ، ص24، 31.(1/438)
1 - تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين:
حتى لا يملوا عن الاستماع ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (1).
ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: «أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا» (2).
وقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (3).
2 - أن يحرص على سلاح التأليف بالعفو عند المقدرة:
فيعمل على أن يضع الإحسان في مكان الإساءة، واللين في موضع المؤاخذة، والصبر على الأذى، فيقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالرفق والحلم، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت، وبذلك يملك قلوب إخوانه والمدعوين إلى الإسلام عموما.
وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلوب أصحابه حوله فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته، وقد مدح الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
_________
(1) البخاري مع الفتح, كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قومًا دون قوم (1/ 225).
(2) البخاري كتاب العلم، باب: كان النبي يتخولهم بالموعظة (1/ 3).
(3) المصدر نفسه (1/ 3) رقم 69.(1/439)
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
3 - عدم مواجهة أحد بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره مادام يجد في الموعظة العامة كفاية:
وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلك هذا الأسلوب الحكيم، فعندما فقد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناسا في بعض الصلوات، فقال: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم» (1).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة» فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» (2).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (3).
ولما بلغه أن قوما اشترطوا الولاء بعد بيع الأمة فخطب الناس فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق» (4).
وهذا إرشاد نبوي حكيم في عدم مواجهة الناس بالعتاب سترًا عليهم ورفقًا بهم، وتلطفًا, ويستطيع أن يخاطب الناس عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم وهذا من أحكم الأساليب.
4 - إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه:
كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (5).
_________
(1) البخاري، كتاب الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة (1/ 179) رقم 644.
(2) البخاري، كتاب الأذان، باب: رفع البصر في الصلاة (1/ 205) رقم 750.
(3) مسلم، كتاب الفضائل، باب: علمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشدة خشيته (4/ 1829).
(4) مسلم، كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق (2/ 1142).
(5) مسلم، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله (3/ 1506).(1/440)
فقد صور - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه، وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جهز غازيا فقد غزا» (1).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟، قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه» (2).
وهذا أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرم (3)، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
فقد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يسب أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه، لأنه تسبب في سبهما.
5 - أن تكون له مقدرة على ضرب الأمثال:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه» (4).
وقد مثل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف بالجسد في
روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء فقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى» (5).
وهذه من أهم الوسائل التي إذا وصل إليها الداعية أصبحت له سياسة حكيمة في معرفة الناس وتربيتهم وإعدادهم، وعلى الأخ الداعية المربي أن يلم بفقه الدعوة وأسسها وأصولها التي تقوم عليها حتى يسير في دعوته على بصيرة، ولا شك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
_________
(1) المصدر السابق نفسه (3/ 1507).
(2) البخاري، كتاب الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه (7/ 92) رقم 5973.
(3) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، ص111.
(4) البخاري، كتاب الصلاة، باب: تشبيك الأصابع (1/ 565) رقم 481.
(5) البخاري، كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، (1/ 103) رقم 6011.(1/441)
إن فهم أساليب الدعوة ووسائلها يعطي الداعية كفاءة وبصيرة وتزيده إتقانا وخبرة.
سابعا: صفات جيل التمكين:
في مرحلة الإعداد والتربية يهتم المشرفون عليها من الدعاة بصفات جيل التمكين ويعملون على غرسها في نفوس العناصر التي اختيرت لهذه المرحلة؛ لعلمهم اليقيني أن لجيل التمكين صفات خاصة، تميزه عن غيره من الأجيال وسمات يعرف بها, ذلك أنه الجيل الذي يعد ليكون مؤهلا لنصر الله وسببا لإعادة مجد الأمة التي اختارها الله لإعلاء كلمته ونصر دينه وعقيدته، وعندما تبرز صفات جيل التمكين في الصف الإسلامي يكون مؤهلا للتغلب على التحديات التي تواجهه سواء كانت محلية، أو كانت داخلية، أو كانت عالمية، ويمكننا تقسيم صفات جيل التمكين إلى: صفات إيمانية، صفات سلوكية أخلاقية، صفات حركية ودعوية، صفات نفسية.
أ- صفات إيمانية:
1 - ربانية وإخلاص: يعيش جيل التمكين الرباني في الدنيا بقلوب أهل الآخرة, ويعيشون فوق الأرض وقلوبهم تهفو إلى رضا المولى عز وجل ودخول جناته, ورفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وأبرز ما يميزهم عن غيرهم أنهم مخلصون لله رب العالمين، فإذا جاءتهم الدنيا جعلوها في أيديهم ولم يدخلوها في قلوبهم، لا يعبدون الأشخاص, ولا الأهواء, ولا الطاغوت أيا كان فقد تبين لهم الرشد من الغي, فكفروا بالطاغوت وآمنوا بالله وحده فاستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
2 - الشعور بمعية الله عز وجل: وهذا الشعور يدفع العبد المؤمن إلى الصدع بالحق ويطلق صاحبه الجبن(1/442)
والخوف والهلع, ويحدث في النفس انقلابا نفسيا في حياة الداعية, ولنتذكر حين قال أصحاب موسى: إنا لمدركون قال موسى - عليه السلام -: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
3 - غرباء في هذه الدنيا: إن هذا الصنف هو الذي أشار إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» (1).
والمسلم إذا شرح الله صدره للإسلام وملأ قلبه بالإيمان يستسهل كل صعب ويستعذب كل كدر، إن هذا الغريب يرسل للناس من الأشعة الهادية ما ينير لهم الطريق، فهي ليست غربة عزلة وفرار، ولكنها غربة رفعة وسمو وحرص على إيصال دعوته للجميع، فهو لا يعيش في برج عاج بعيدًا عن الناس، بل يتفاعل معهم ويحمل همومهم ويعاونهم في حل مشاكلهم, فالناس جزء منه وهو جزء منهم فلا يتصور أن يتعالى عليهم.
4 - طلاب آخرة: لعلمهم بأن متاع الدنيا قليل وبأنه ينتهي ويزول {وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] ولذلك تنشئ سعة في نفوسهم، ورقة في مشاعرهم، وتحررا من المادة وظلامها.
5 - أوابون توابون: يجب أن يتربى المسلمون على الحذر من معصية الله أكثر مما نحذر من أعداء الله، ويجب أن نخاف المعاصي، والمسالك التي تقرب منها سدا للذريعة وبعدا عن الفتنة واتقاء للشبهة، ونستغفر الله ونذكره كثيرا إذا وقعنا في معصية,
_________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبًا (1/ 130) رقم 145.(1/443)
فهذه ميزة الصالحين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
ورحم الله عمر الفاروق - رضي الله عنه - عندما وصى سعد بن أبي وقاص وهو في مسيره إلى حرب الفرس، فقال: « ... أما بعد, فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة (1) في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا ولن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل - لما عملوا بالمعاصي - كفار المجوس {فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} [الإسراء: 5]. وسلوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم ... » (2).
وهذه مفاهيم إيمانية يجب أن تعيشها الأمة:
1 - اليقين والثقة بمنهج الله وهو الحق وما عداه باطل.
2 - الوعي بدورها ومهمتها وهي الشهادة على العالمين ولن تتحقق إلا بالعيش مع الكتاب والسنة.
3 - اليقين بضخامة الأجر وعظم المنزلة المترتبة على القيام بالشهادة.
4 - اليقين بنصر الله وأنه لابد آت.
5 - اليقين بأن نصر الله لا يتنزل جزافا.
_________
(1) المكيدة: الخديعة.
(2) إتمام الوفاء للخضري، ص72.(1/444)
ب- صفات سلوكية وأخلاقية:
ولابد لجيل التمكين من صفات أخلاقية سلوكية يجب أن يتحلى بها ومن أبرزها:
1 - الصدق: وهو سلوك وصف الله عز وجل به أنبياءه عليهم السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} [مريم: 54] , واتصف به حبيبنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبل بعثته، ووصف به ربنا سبحانه الرجال, فقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ... } [الأحزاب: 23].
2 - الصبر: خلق وصف الله تعالى به الدعاة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ... } [السجدة: 24] وهو خلق لازم للداعية ويكفي أن يعلم الداعية جزاء الصبر {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
ولنا في قدوتنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة في صبره على أهل مكة وما لاقاه عند عودته من الطائف وغيرها.
3 - الحب والإيثار: أي يرى الأخ أن إخوانه أولى به من نفسه، فهو يحب لهم الخير ويعمل على هدايتهم, ولابد أن يفصح لهم عن حبه لهم ويخبرهم به، وأن يترجمه لهم في تصرفاته، فإن هذا أدعى إلى التفاف الناس حوله واستجابتهم له. وأعلى مراتب الحب الإيثار وأدناها سلامة الصدر، وأن يكون لإخوانه كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) , قال تعالى: {وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - وَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63].
4 - العطاء والبذل والجود: وهي صفة بارزة في حياة المؤمن فهي قاعدة
_________
(1) انظر: نظرات في رسالة التعليم، ص294.(1/445)
المجتمع المؤمن المتكافل المتضامن، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لم يكن يسأل شيئا إلا أعطاه، وقال: فأتاه رجل فسأله فأمر له بشياه كثيرة بين جبلين من شياه الصدقة، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر» (1). ونعم العطاء هذا الذي يجعل البعض يحب الإسلام وأهله ويفتح الأبواب الموصدة والقلوب المغلقة، إن الإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا يجب لمن وصل إلى مرحلة الإعداد والتربية أن يكون له فيها نصيب كبير.
ومراتب الجود والإيثار كثيرة منها:
- الجود بالنفس وهو أعلى المراتب.
- الجود بالعلم وبذله.
- الجود بالنفع بالجاه كالمشي في قضاء مصالح المسلمين.
- الجود بالصبر والاحتمال.
- الجود بالراحة فيتعب في قضاء مصالح غيره.
- الجود بترك ما في أيدي الناس لهم, فلا يلتفت إليه بقلبه ولا يتعرض له بحاله ولا بلسانه وغير ذلك من أنواع الجود.
5 - العفة والاستغناء عن الناس: إنه جيل مرتبط بالله عز وجل لا يعمل إلا لله, ولا يسأل إلا الله, فهو غني بالله ولذلك امتلأت نفوسهم عفة لا يتطلعون إلا إلى فضل الله ولا يرجون إلا رحمة الله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
ورضي الله عن ابن عوف عندما عرض عليه أخوه سعد بن الربيع - رضي الله عنه - أن يشاطره ماله وبيته ويتزوج إحدى نسائه فقال له: بارك الله لك في مالك وأهلك ولكن دلني على السوق (2).
_________
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس خلقا (4/ 1804) رقم 2312.
(2) انظر: أسد الغابة (2/ 196).(1/446)
لقد علم أن الغنى في قناعة النفس ورضا القلب وغناه عن التطلع لما في أيدي الناس من حظوظ الدنيا.
جـ- الصفات الحركية والدعوية:
1 - يجب أن يتولد لدى جيل التمكين شعور ذاتي بمسئولية العمل للإسلام: واستعداد كامل لتلبية حاجات هذه المسئولية من النفس والجهد، فهو لا ينتظر التكليف الحركي لينهض بالأعباء والمسئوليات، وإنما يتولد في أعماقه شعور بالمسئولية ويجري في عروقه إحساس رباني بالتكليف.
فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما التزم بالإسلام تفجرت فيه الذاتية الحركية فذهب إلى بلال بن رباح، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان والزبير بن العوام، ودعاهم للإسلام فأسلموا، وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصة مؤمن آل فرعون وكيف قام بدعوة قومه إلى الإيمان بدعوة موسى عليه السلام.
2 - يؤمن بالواقعية والعملية: فهو بعيد عن الغوغائية ويحتكم إلى الحقائق لا إلى الأوهام، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقع على الأرض، فلا يجري وراء خيال كاذب ولا أماني موهومة فيسبح في غير ماء، ويطير بغير جناح، جيل كبير الآمال ولكنه واقعي التفكير، ولا ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمة ربه لكنه يعرف حدود قدراته، ودوائر إمكاناته، يراعي سنن الله في كونه كما يراعي أحكامه في شرعه ويتبنى سياسة النفس الطويل والصبر الجميل، يؤمن بالعلم ويحترم العقل، ولا يتبع الظن وما تهوى الأنفس، ويرفض الخرافة.
3 - جيل عمل وبناء جماعي: فلا يقف أبناؤه عند التغني بأمجاد الماضي، ولا عند النواح على هزائم الحاضر، ولا عند التمني لانتصارات المستقبل، إنما يؤمن بالعمل والعطاء والإنتاج،(1/447)
وأن الإيمان الحق ما وقر في القلب وصدقه العمل، وما خلق الله الناس إلا ليعملوا بل ما خلقهم إلا {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].
وقد علموا من حقائق التاريخ وقراءة الواقع أن أهل الباطل يتكتلون حول باطلهم فأولى بأهل الحق أن يتجمعوا حول حقهم {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].
لهذا صمموا على أن يبحثوا على أشباههم ممن ينشدون الحق ويرفضون الباطل, ويدعون إلى الخير وينكرون الشر, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فمضوا في طريق العمل الجماعي يعملون في صمت، ويبنون في صبر ويجاهدون بلا كلل، ولا ملل، وعزموا على أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى متكاتفين في السراء والضراء.
4 - جيل دعوة وجهاد: كما كان الصحابة من المهاجرين والأنصار لا يشغلهم جهاد عن جهاد ولا ميدان عن ميدان, فهم دائما في صراع متواصل مع الفجرة في الداخل والكفرة في الخارج، لا يلقون سلاحهم ولا يستريحون من كفاحهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
قد ترى أحدهم وهو العربي يقاوم الزحف الشيوعي الأحمر في أفغانستان، وترى آخر وهو أفغاني يقاتل الصرب في البوسنة, فالكفر ملة واحدة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
يجاهدون في سبيل الله في كل معركة تطلبهم وبكل سلاح يمكنهم.
5 - جيل توازن واعتدال: فهم متوازنون معتدلون على صراط مستقيم لا يميلون إلى اليمين ولا ينحرفون إلى الشمال, لا يغرقون في الماديات ولا يغرقون في(1/448)
الروحانيات، يعلمون أن لربهم عليهم حقا وأن لأنفسهم عليهم حقا، وأن لأسرهم عليهم حقا، ولمجتمعهم عليهم حقا, فهم يعطون كل ذي حق حقه، غير جانحين إلى الإفراط ولا مائلين إلى التفريط، يأخذون بالعزائم ولا يغفلون الرخص, فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .. يبشرون ولا ينفرون، وييسرون ولا يعسرون، ويجادلون بالتي هي أحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. يفرقون بين الأصول والفروع، والكليات والجزئيات، والقضايا المصيرية والمسائل الجانبية، ويمزجون بين الروح والمادة، والعقل والقلب، وبين الثبات على الغايات والتطور في الأساليب، بين أداء الواجبات وطلب الحقوق، بين الحرص على القديم والاستفادة من الجديد، فلا ينقطعون عن الماضي ولا ينعزلون عن الحاضر، فرسان بالنهار ورهبان بالليل، لا تلهيهم نافلة عن فريضة ولا فرض عن مثله.
6 - جيل منضبط: يعيش جو الانطلاقة بضوابطه فيتحرك بدعوته وفكره بين الناس مراعيا الضوابط الحركية حتى لا تكون حركة غوغاء, ولا تمنعه الطاعة من إبداء آرائه في جو من الصراحة والوضوح وتتسع صدوره لآراء المخالفين، ولا يجد غضاضة في التنازل عن رأيه إذا استقر رأي الشورى على رأي آخر، يعرف ما الذي يعلن من دعوته فلا يتردد في الجهر به وتعليمه للناس, وما الذي يسر فلا يبوح به ولا لأقرب الناس إليه.
د- الصفات النفسية:
من الصفات النفسية التي يجب أن يتحلى بها جيل التمكين:
1 - إرادة قوية لا يتطرق إليها لين ولا ضعف: يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146] ومن مظاهرها:
- معرفة الهدف والإصرار على تحقيقه والوفاء له.(1/449)
- الهمة العالية والعمل الدائب المتواصل.
- محاسبة النفس بشدة والانتصار عليها.
- مخالطة الناس والصبر على أذاهم.
- الصبر وتحمل المشاق والصعاب والتغاضي عن الهفوات.
- الصراحة في الحق والانصياع له والاعتراف بالخطأ وعدم إفشاء السر.
- استشراف الأمل وعدم اليأس وسياسة النفس الطويل.
2 - تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل: ومن مظاهر التضحية العزيزة:
- وضع الدعوة في قمة الأولويات مع استصحاب نية التضحية.
- القدوة في بذل العزيز على النفس (المال - الراحة - النفس - فراق الأهل ... )
- تربية من يعولهم على البذل والعطاء والتضحية.
- ربط المصير بالمصير وأن يوطن ظروفه مع ظروف الدعوة.
- تخليص النفس من كل مظاهر الطمع والبخل.
- تقديم مصلحة الدعوة على المصلحة الفردية.
- الاستعداد الكامل لتنفيذ الأمر على أي حال وتحت أي ظرف.
3 - وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر: ومن أنواع الوفاء: وفاء مع الله - مع الدعوة - مع الإخوة - مع النفس - مع الناس.
ومن مظاهر الوفاء الثابت:
- الاعتراف بالجميل وتوريث الدعوة وفتح مجالات عمل جديدة.
- الاستمرارية في العمل حتى في أحلك الظروف.
- المصارحة والنصيحة بآدابها الشرعية.
- حمل الأهل والأقارب على احترام الدعوة والتحمس لها.
- تفقد الغائب والشعور بآلام الآخرين.(1/450)
- إيثار المصلحة الدعوية على المصلحة الفردية.
- الذب والدفاع عن الإسلام وقياداته وعلمائه.
4 - ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه أو الانحراف عنه أو المساومة عليه أو الخديعة بغيره:
- إخلاص الوجهة لله وتصحيح النية دائما.
- وضوح الهدف وطبيعة الطريق وكيفية الوصول إلى الأهداف.
- استشعار ثقل الأمانة والتبعة الملقاة على الدعاة.
- التمسك بالقرآن والسنة وفهم السلف الصالح.
- العمل الجاد والمتواصل الذي يؤدي إلى أفضل النتائج بأقل مجهود.
- عدم الاجتهاد في الثوابت.
- محاسبة النفس واتهامها عند الاختلاف.
5 - الاتزان النفسي «الانفعالي»: وهي صفة مهمة يجب أن يتصف بها صاحب الشخصية السوية المتزنة, ومن أهم مظاهر الاتزان النفسي:
- الثقة بالله عز وجل وفي نصره وتأييده لأوليائه وحسن التوكل عليه.
- ملك النفس عند الغضب.
- العاطفة المتزنة.
- وضع الأمور في نصابها وحجمها دون تضخيم ولا تصغير.
- البعد عن الحساسية المفرطة وأن يؤخذ الكلام على أحسن محمل.
- الانضباط والكتمان وعدم الثرثرة.
- البعد عن الانطوائية.
ذلكم هو الجيل الذي ننشده وتنشده معنا الأمة بكاملها، وهو الجيل الذي تعمل القوى العالمية على إجهاضه، وشغله عن معاركه ومعارك أمته الكبرى بمعارك(1/451)
جانبية تافهة، وإغراقه في دوامة من الجدل لا يخرج منها، إن هذا الجيل هو جيل النصر الذي تتحرر على يديه كل أرض دنسها الطواغيت والفجار، هو الذي ترتفع به راية الله في أرض الله، هذا الجيل هو الجدير بأن يتنزل عليه نصر الله عز وجل، عندما كانت صفات جيل التمكين متمكنة في الجيل الإسلامي الأول استطاع ذلك الجيل:
- أن يحرر الجزيرة العربية من دنس الصهيونية في بني النضير وبني المصطلق وبني قينقاع وخيبر.
- أن يستأصل شأفة الوثنية في بدر والأحزاب وفتح مكة.
- أن ينكس رايات الصهيونية في اليرموك وحطين.
- أن يهزم المجوسية في القادسية.
نحن نحتاج اليوم إلى جيل كالجيل الذي كان منه:
- الحاكم الذي لا يستنكف عن الاعتراف بالخطأ فيقول في شجاعة كما قال عمر - رضي الله عنه -: «أصابت المرأة وأخطأ عمر» (1).
- الحاكم الذي يحرض الرعية على مراقبته والنصح له, فيقول كما قال الصديق - رضي الله عنه -: «إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني» (2).
- والعالم الرباني الذي لا تفتقده مسيرة الجهاد فيعطي العلم حقه، والجهاد حقه، ولكل حقه، ويكون إمام محراب وقائد حرب مثله كمثل عبد الله بن المبارك - رضي الله عنه - المجاهد الذي كتب إلى أخ له عابد اعتكف في الحرم وترك مسيرة الجهاد فقال له:
_________
(1) سنن البيهقي (7/ 233) قال البيهقي: هذا منقطع ومع انقطاعه فيه مجالد وهو ضعيف.
(2) الطبري في تاريخه (4/ 30).(1/452)
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك بالعبادة تلعب (1)
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرص كل الحرص في طور الدعوة السرية أن يربي أصحابه على صفات جيل التمكين, ونلاحظ من خلال دراستنا للسيرة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام بإعلان الدعوة على قريش والمشركين بعد الإعداد الجيد وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية، وحان موعد إعلان الدعوة بنزول قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ... } [الشعراء: 214] فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه, فاجتمعت إليه قريش، فقال: «يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» , فقال أبو لهب: تبا لك، أما جمعتنا إلا لهذا ثم قام (2) , فنزلت هذه السورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
«ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لابد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لابد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية» (3).
ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، ولقد اشتد الصراع بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها, وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك
_________
(1) انظر: عبد الله بن المبارك الإمام القدوة لمحمد عثمان.
(2) دراسة في السيرة، عماد الدين خليل، ص66.
(3) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة، ص167.(1/453)
الصراع في كل مكان، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها، ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوى القرشيين، بل كان يوجد من مختلف القبائل من يتابع الأخبار، ويتحرى الصواب فيظفر به.
وكانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وأصبح هذا الحدث العظيم حديث الناس في كل مكان، وبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة، والانتقال بها إلى مواقع جديدة بعد أن رفضت قريش الاستجابة والانقياد للحق المبين (1) , وكان موقفهم كموقف الأقوام السابقة من رسلهم وتعرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لسنة الابتلاء.
ثامنًا: سنة الابتلاء:
الابتلاء - بصفة عامة - سنة الله تعالى في خلقه, وهذا واضح من الآيات القرآنية الكريمة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] وقال جل شأنه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2].
والابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله - تعالى- ألا يمكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب.
وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف، فقد شاء الله - تعالى -
_________
(1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص283.(1/454)
أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك.
ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يمكَّن، أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله - تعالى - ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة.
وابتلاء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص، ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكن ورسوخ، وهذا الابتلاء للمؤمنين ابتلاء الرحمة لا ابتلاء الغضب، وابتلاء الاختيار لا مجرد الاختبار.
فلو أن قائدا أراد إعدادا للفوز في معركة ضارية، أيكون من الرحمة بهم أن يخفف لهم التدريب ويهون عليهم الإعداد، أم تكون الرحمة الحقيقية أن يشد عليهم في التدريب على قدر ما تقتضيه المعركة الضارية التي يعدهم من أجلها؟
والمؤمنون هم حزب الله وجنوده - ولله المثل الأعلى - والمعركة التي يعدهم من أجلها هي المعركة العظمى، معركة الحق والباطل, والنتيجة المطلوبة من المعركة ليست مجرد النصر، وإنما هي بعد ذلك إقرار المنهج الرباني في الأرض بكل المعاني والقيم التي يحملها ذلك المنهج، وهي الأمانة التي تعرض لحملها الإنسان بقدر الله.
وحمل الأمانة - بعد الانتصار على الباطل - لا يصلح له كل الناس، إنما يحتاج لقوم مختارين، يعدون إعدادا خاصا ليحسنوا القيام به (1).
وقد علم الله تعالى أن الابتلاء هو وسيلة الإعداد لهذه المهمة العظيمة, وفي قصة طالوت شاهد على ذلك (2)؛ فطالوت كان مقدما على معركة ومعه جيش من
_________
(1) انظر: حول التفسير الإسلامي للتاريخ لمحمد قطب، ص111، 112.
(2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، ص235.(1/455)
أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه أمة غالبة، فلابد إذًا من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف أمام القوى الظاهرة الغالبة، هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها, فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء. فلابد للقائد إذًا أن يبلو جيشه وصموده وصبره، صموده أولاً للرغبات والشهوات وصبره ثانيًا على الحرمان والمتاعب. ولقد اختار طالوت هذه التجربة وهم عطاش ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه (1).
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [البقرة: 249]. ولقد بين الله تعالى هذا الأمر للأمة الإسلامية حتى تكون على بينة من طريقها، ورسالتها وطبيعة هذا الطريق وتلك الرسالة.
وجاء ذلك في مواضع متعددة، وبأساليب مختلفة في القرآن الكريم؛ من ذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ .. } [البقرة: 155] وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186] ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الابتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من
الجزم والتأكيد (2).
وهذه سنة الله - تعالى - في العقائد، والدعوات، لابد من بلاء، ولابد من أذى في الأموال والأنفس, ولابد من صبر ومقاومة واعتزام.
_________
(1) انظر: في ظلال القرآن (1/ 268).
(2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، ص237.(1/456)
إنه الطريق إلى الجنة وقد (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) (1) كما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها، طريق التربية للأمة الإسلامية، وإخراج مكنوناتها من الخير، والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة لحقيقة الناس، وحقيقة الحياة، وذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا وأقواهم شكيمة، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها، والصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون (2).
إن الابتلاء مكمل لحقيقة الإيمان، لأن الإيمان أمانة الله - تعالى - في الأرض، وهذه الأمانة لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، والذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى كل صنوف المتاع والإغراء (3).
«وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته ثم تتعرف الجماعة على حقيقة اللبنات التي تتألف منها، ومدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الشدة» (4). وفي هذا يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3].
الفتنة: الامتحان بشدائد التكاليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء, وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم (5).
_________
(1) مسلم، كتاب الجنة - وصف نعيمها وأهلها (4/ 2174).
(2) في ظلال القرآن (1/ 593). ... () المصدر نفسه (2/ 1090).
(3) المصدر نفسه (1/ 529). ... () تفسير النسفي (3/ 249).
(4)
(5)(1/457)
وقال ابن كثير - رحمه الله -: (والاستفهام في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ" إنكاري، ومعناه: أن الله سبحانه لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان (1) , كما جاء في الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل: يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» (2).
ولقد بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الابتلاء صفة لازمة للمؤمن، حيث قال: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد» (3).
وفي ظلال الآية الكريمة السابقة يقول سيد قطب - رحمه الله -: «إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء, وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا، ويخرجوا من الفتنة صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب، لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، حتى يصبح خالصا ثمينا رفيعا، وهذا هو أصل كلمة «الفتنة» اللغوي، وله دلالته وظله، وإيحاؤه، وكذلك تصنع الفتنة في قلوب المؤمنين» (4) «حين تصهرهم بنار الابتلاء فتخرج من نفوسهم ما قد يكون فيها من خبث وشهوات وأهواء، حتى يكونوا خالصين لله متجردين له, صالحين لحمل الأمانة التي أناطها الله بهم» (5) ألا وهي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص، يصبر على الابتلاء ويعلو فوق المحن (6).
_________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 405). ... () سنن الترمذي (4/ 601) حديث حسن صحيح.
(2) مسلم شرح النووي (مجلد 6) (17/ 151) كتاب القيامة والجنة والنار.
(3) في ظلال القرآن (2/ 1090).
(4) حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص181، 182.
(5) انظر: في ظلال القرآن (2/ 1090).
(6)(1/458)
إن سنة الابتلاء جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات, والأمة الإسلامية أمة من الأمم، فسنة الله تعالى فيها جارية لا تتبدل ولا تتغير، إن الابتلاء سنة الله العامة في الحياة والأحياء، وسنته سبحانه في الرسل والرسالات، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بدعا من الرسل، فكان لابد أن تجري عليه سنة الابتلاء كما جرت على إخوانه المرسلين، ومع ما له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحمل الثقيل والعناء الطويل (1)، وتعرض الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات. لقد أجمع المشركون على محاربة الدعوة الإسلامية لأنها عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم؛ آي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة، وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.
ومن هذه الأساليب:
1 - محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فذهبت وفود قريش إلى أبي طالب للتنبيه والتهديد بالمنازلة إن لم يكف ابن أخيه عن هذه الدعوة, ثم أرسلوا وفدا للمساومة حيث يطلبون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقابل رجل منهم «عمارة بن الوليد» ليقتلوا هذا الذي خالف دينهم وفرق جماعتهم وسفه أحلامهم - كما يدعون - فكانت قولة أبي طالب البالغة الدلالة: «والله لبئس ما تساومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا» (2) , ومما جعل أبا طالب يصر على موقفه صلابة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووثوقه بالحق الذي عليه، وعدم التنازل أو المداهنة في الحق الذي قامت عليه السموات والأرض.
2 - الاتجاه إلى إيذاء المسلمين؛ فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ولم يقدموا على هذه المحاولة إلا حينما أدركوا وقوف أبي طالب ومن معه من عشيرته إلى جوار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص (240، 241).
(2) انظر: ابن هشام (1/ 267).(1/459)
وكان الهدف من هذه المحاولة هو الضغط على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كي يتراجع ويكف عما يدعو إليه, ولكن المحاولة فشلت حينما أدركوا صلابة المؤمنين، وصلابة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3 - عرض المغريات والمساومات، لقد تركت قريش المساند لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أبا طالب» لأن المحاولات فشلت معه، ولأن عصبته واقفة إلى صفه، ومن ثم لابد من مواجهة صاحب الدعوة لصرفه عن دعوته، فعرض عليه المال والشرف والسيادة على مكة, وجعله ملكا على قريش، وكان المفاوض للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعارض عليه تلك العروض هو عتبة بن ربيعة (1) في بداية الأمر, ثم عرضت عليه من قبل مجموعة من أشراف قريش, وبالرغم من ذلك الإغراء الذي تضعف أمامه القلوب البشرية ومن أراد الدنيا وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ موقفًا حاسمًا في وجه الباطل دون مراغمة أو مداهنة، أو الدخول في دهاء سياسي أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش (2)، لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدًا عن المداهنة والتنازل، ولذلك كان رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتابًا, وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» (3).
بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أم في الوسيلة الموصلة إليها (4).
_________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 503، 504).
(2) انظر: الوفود في العهد المكي، وأثره الإعلامي لعلي الأسطل، ص37.
(3) انظر: تاريخ صدر الإسلام، ص38.
(4) المصدر نفسه، ص39.(1/460)
4 - مطالب التحدي: أخذ عناد المشركين يقوى ولجاجتهم تشتد, وقد أرادوا إحراج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحديه بمطالبته بالإتيان بمعجزات تثبت نبوته.
قال عبد الله بن عباس: قالت قريش للنبي: ادع لنا ربك أن يجعل الصفا ذهبًا ونؤمن بك، قال: «وتفعلون؟» قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: «إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة» قال: «بل باب التوبة والرحمة» (1).
قال ابن عباس: «فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29]».
لقد كان الهدف من تلك المطالب هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية وتآمرًا على الحق كي تبتعد القبائل العربية عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست من طبيعة هذه الدعوة ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه (2) , وسيتضح هذا في المحاولات القادمة.
5 - المساومة لاقتسام العبادة والزعامة، وهي محاولة لإخماد صوت الدعوة بالاتفاق معا على حل وسط حتى يضمنوا بقاء مكانتهم أمام القبائل الأخرى، ومنعها أيضا من الدخول في هذا الدين الجديد, وهي محاولة ماكرة لأن السير في ركاب الباطل خطوة واحدة معنى هذا سقوط صاحب الحق في هاوية الانحراف ونزلت سورة الكافرون «للمفاضلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج،
_________
(1) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 483) إسناده جيد.
(2) الوفود في العهد المكي، ص40 - 51.(1/461)
وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفيًا بعد نفي، وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل, ولا اجتماع بين النور والظلام، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة أو مصالح مشتركة أو مسائل داخلية ... إلخ» (1).
6 - الاستعانة باليهود: لقد وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق, وكان المعبر عن هذا العجز النضر بن الحارث الذي صرخ قائلا: «يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد .. فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم» (2).
فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى اليهود لمعرفة حقيقة هذه الدعوة لا لكي يتبعوها ولكن لإدراكها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجب على مطالبهم التي طلبوها، ولمعرفتهم بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعا وأصحاب الحق أينما كانوا ومعرفتهم بأخبار الأولين، فقد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحققوا بذلك هدفهم الدعائي أمام القبائل العربية, ولم يدروا بسلوكهم هذا أنهم نقلوا أخبار الدعوة الإسلامية إلى خارج مكة مهما كان غرضهم وهدفهم، وبالرغم من فرحة قريش بالأمور التعجيزية التي أتوا بها من عند يهود إلا أن الله أحبط محاولتهم بالإجابة عليها كما جاء في سورة الكهف عن أهل الكهف وذي القرنين ثم عن الروح في سورة الإسراء، فأقيمت الحجة على الملأ من قريش وزعماء اليهود (3).
7 - الدعاية الإعلامية في المواسم ضد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه ساحر ليصرفوا الناس عنه.
8 - الإيذاء النفسي في شخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وقد تمثل هذا الإيذاء
_________
(1) انظر: الوفود في العهد المكي،، ص58 - 61.
(2) انظر: تاريخ صدر الإسلام، ص40.
(3) المصدر نفسه، ص41.(1/462)
بالإعراض والتكذيب واتهامه بالشعر والسحر والكهانة والجنون وغمزه بكل عيب والاستهزاء به وشتمه وإيذائه بالكلمات القبيحة, ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صابر محتسب (1)، وكذلك من أنواع الإيذاء النفسي إيذاء وتعذيب أصحابه وهو ينظر، وحثو التراب على رأسه وهو يصلي، ووضع الأوساخ والدماء على باب بيته والشوك في طريقه (2).
9 - الحصار الاقتصادي والاجتماعي، وقد تمثل هذا في محاربة تجار المسلمين كما ذكرنا من تهديد أبي جهل لمن أسلم من التجار بالإضافة إلى الحصار العام الذي تم في شعب أبي طالب، حيث تم حصار بني عبد المطلب وبني هاشم للضغط على أبي طالب وقومه للتخلي عن نصرة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وكانت بنود الاتفاقية «الصحيفة» التي كتبها زعماء قريش فيما بينهم على محاصرة بني هاشم وبني عبد المطلب مسلمهم وكافرهم على السواء:
أ- عدم الزواج منهم أو إليهم.
ب- وألا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم (3).
وكانت اتفاقية قاسية عزموا على تنفيذ بنودها, ولذلك اتفقوا على تعليقها في جوف الكعبة للزيادة في توثيقها, وإن كانت هذه الوثيقة بهذه الكيفية تعطي ظلالا عن عجز قريش واختلاف كلمتها ولهذا خافوا من أنهم إذا ما اتفقوا دون كتابة وتعليق في الكعبة قد يحصل نكوص عن ذلك ولهذا فعلوا تلك الصحيفة وتعاقدوا عليها (4).
وبالرغم من أن الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب كان يشمل بني هاشم وبني عبد المطلب مسلمهم وكافرهم على السواء إلا أن هناك نوعا آخر من
_________
(1) انظر: الروض الأنف (2/ 33).
(2) المصدر نفسه (2/ 48، 103، 127، 128).
(3) المصدر نفسه (2/ 101).
(4) انظر: تاريخ صدر الإسلام، ص43.(1/463)
الحصار الاقتصادي مارسه كفار قريش على بقية المسلمين, فقد كان أبو لهب إذا ما قدمت القوافل التجارية إلى مكة يطوف الأسواق ويقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. فأنا ضامن أن لا خسارة عليكم .. فيزيدون عليهم في السلعة أضعافا حتى يرجع المسلم إلى أطفاله وهم يتصايحون من الجوع ليست في يديه شيء، ثم يذهب التجار إلى أبي لهب فيعوضهم في تجارتهم (1) , ومع هذا فلم يتراجع أحد منهم عن دينه، بل زاده ذلك العذاب صبرًا وتجلدا وعملا في سبيل دينه (2).
1 - الإيذاء الجسدي:
فقوى البغي والطغيان حينما تجد الثبات والصلابة عند المؤمنين قد بلغت مداها وأن الإيذاء النفسي والحصار الاقتصادي والاجتماعي، والعزل .. إلخ لا تجدي أمام صلابة الإيمان في نفوس الفئة المؤمنة، حينما تصبح تلك الصورة بارزة أمام قوى الطاغوت يطيش عقلها وتلجأ إلى البطش الجسدي مهما كلفها ذلك من عواقب (3).
ونلاحظ هنا من خلال ما سبق أن البطش قد وجه ضد المؤمنين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فتعرضوا للتنكيل والتعذيب وتولت كل قبيلة شأن المسلمين من أبنائها سواء من الأحرار أم من العبيد، أم من النساء أم من الرجال، ومنهم من قتل تحت التعذيب كسمية أم عمار رضي الله عنهما، ولقد ضرب المسلمون الأوائل أروع المثل في الصبر وقوة التحمل (4).
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في تلك المحن والشدائد والبلاء يربي أصحابه على:
- التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك.
_________
(1) انظر: الروض الأنف (2/ 127، 128).
(2) انظر: تاريخ صدر الإسلام، ص44.
(3) , (3) المصدر نفسه ص44.
(4) تاريخ صدر الإسلام، ص44.(1/464)
- التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا.
- التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الشرك والعصيان.
ومع هذا كله كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة، لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث يشاء, وتزيل الحواجز والعقبات والتي تعترض طريق الدعوة إلى الله (1).
لقد فكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها:
1 - البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها.
2 - البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقا لأمر الله بالتبليغ للعالمين (2) وتم له ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهاجر إلى المدينة ودخل مرحلة التمكين.
لقد تعرض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأشد أنواع التعذيب, فإذا كان المشركون الأولون يعذبون أولياء الله بالرمضاء والنار - في بعض الأحيان - فإن تعذيب آلات الكهرباء الطويل أشد، وإذا كان الكفار السابقون يصلبون أولياء الله على الجدران والأخشاب وفي جذوع النخل, فإن أعداء الله يصلبون أولياءه الآن على أعمدة الحديد المتصلة بتيار الكهرباء، وإذا كان أعداء الله كانوا يقلبون أولياء الله على حر الرمضاء ظهرا بربط أيديهم ويجرونهم بالحبال، فإن أعداء الله الآن يسحبون أولياءه بالآلات
_________
(1) الغرباء الأولون، ص146.
(2) المصدر نفسه، ص168.(1/465)
السريعة كالسيارات في الشوارع ويدخلون الواحد منهم عجلة السيارة بعد أن يضموا رأسه مع رجليه ويديرونها بالآلات وهو مكشوف العورة، ويملأون الأحواض بالماء الساخن في شدة الحر أيام الصيف ويقذفون فيها بالمؤمن مجردا من ثيابه ويبقى فيها الساعات حتى ينسلخ جلده، ويملأونها في أيام الشتاء والبرد القارس بالماء البارد ويلقونه فيها كذلك, ويودعون ولي الله في حجرة ضيقة لنومه وطعامه وشرابه وفضلاته ويجيعون الكلاب المدربة ويضعونها معه في حجرته لتنهش جسمه وتكثر من العواء والنباح على رأسه, ويضربونه بالسياط حتى تسيل الدماء وقد تتجاوز دفعة الضرب في المرة الواحدة خمسمائة سوط ويتركونه حتى يتورم جسمه، ثم يلهبونه بالسياط في مواضع الضرب السابقة ويسيل قيحه وينتن جسمه فلا يسمحون لطبيب يداوي جراحه ويأمرونه مع زملائه من أمثاله بالجري وهم في تلك الحال لمسافات طويلة ومن أظهر التعب ضربوه حتى يغمى عليه أو يموت وهكذا (1).
وهكذا تمر المحن والابتلاءات على الأفراد والجماعات لتصقل العاملين في ساحة العمل الإسلامي على مستوى الأفراد والجماعات, وتمضي هذه السنة في كل الأزمنة والأمكنة إلى عصرنا الحاضر, ويتعرض الدعاة إلى البلاء والمحن ويمضون في طريقهم المرسوم باستعلاء إيماني عظيم لا يبالون غير نصرة دينهم ورفع كلمة الله في الأرض, وينشد شاديهم في داخل السجون ومن وراء القضبان وهو يرى أفواج رفاقه تشنق رقابهم كل يوم وينتظر نفس المصير فلا يتزعزع الإيمان، وإنما يزداد صلابة وتشتاق النفس إلى خالقها, ورفقة النبيين والصديقين والصالحين والشهداء، ويبين الشادي المؤمن أن الحرية هي حرية القلب الذي خلقت عبوديته لخالقه وإن كبله أعداء الله بالقيود وأحاطوه بأسوار السجون والمعتقلات فهو يقول:
أخي أنت حر وراء السدود ... أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما ... فماذا يضيرك كيد العبيد
_________
(1) انظر: الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله القادري (2/ 215).(1/466)
ولا يخشى هذا الداعية الرباني على نفسه من الموت والعذاب تحت سياط الجلادين إنما الخوف من أن يسأم من الجهاد ويترك الكفاح فيطلق في إخوانه صرخته مذكرا لهم بواجب رفع الراية ومواساة المجاهدين وضحاياهم فيقول:
أخي هل تراك سئمت الكفاح ... وألقيت عن كاهليك السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح ... ويرفع رايتها من جديد
ويحث إخوانه بالاستمرار في طريق الدعوة والجهاد والحرص على رضا الله:
أخي فامض لا تلتفت للوراء ... طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلتفت ههنا أو هناك ... ولا تتطلع لغير السماء (1)
إن طور البلاء لابد منه قبل التمكين, وتخرج الدعوة والدعاة بعد هذا الطور أصلب عودا وأقوى مما كانت عليه لتنطلق لتحطيم عروش الطغاة وتبدد الظلام لتبني حياة إسلامية صحيحة راشدة.
* * *
_________
(1) انظر: الجهاد في سبيل الله (2/ 223) وهذا الشادي هو سيد قطب رحمه الله تعالى.(1/467)
المبحث الثالث
مرحلة المغالبة
إن من أهم المراحل في العمل الإسلامي هي هذه المرحلة، حيث هي مرحلة التركيز والتخصص، لسد ثغرات العمل الإسلامي كله، من حيث الكم ومن حيث النوع ومن حيث الاستجابة لكل متطلبات الدعوة وأعبائها في كل مراحلها، كما أن هذه المرحلة يعقبها التمكين لدين الله بإذنه سبحانه وتعالى، إن أجمع تعريف لهذه المرحلة: أنها مرحلة المؤمنين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأعدوا للعمل الإسلامي ما يحتاج إليه من حكمة وقوة، إنها مرحلة المجاهدين في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء (1).
إن أفراد هذه المرحلة اكتسبوا من المعارف والخبرات والتجارب والعلوم النافعة حتى وصلوا إلى النضج السليم، ولاشك أن لكل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية أولويات تقدم على غيرها، ومن أهم هذه الأولويات أن يكون على رأس هذه المرحلة فقهاء وعلماء قد بلغوا درجة النظر في الدين وفي معرفة كيف تسعى لتحكيم شرع الله، إن العلماء هم: هداة الناس الذين لا يخلو زمان منهم حتى يأتي أمر الله, فهم رأس الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة, يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (2).
ومن الأولويات في هذه المرحلة:
الاهتمام بالأفراد المتخصصين القادرين على سد ثغرات العمل الإسلامي في كل مجالاته، بمعنى أن يختار من أفراد هذه المرحلة مجموعات تتخصص في دراسة المجالات التي لابد منها في تكوين الدول ليصبحوا علماء متخصصين في
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (1/ 524).
(2) البخاري، كتاب الاعتصام، باب: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال طائفة .. » (8/ 189) رقم 7311.(1/468)
كل مجالات الحياة الإنسانية, وتصبغ روح الشريعة عليها كلها، وعلى سبيل المثال في مجال علم الاجتماع، وفي مجال علم السياسة، وفي مجال الاقتصاد، وفي مجال التربية، وفي مجال الإعلام، وفي مجال علوم الزراعة والمياه، وفي مجال علوم طبقات الأرض والتعدين، وفي مجال علوم الفضاء، وفي مجال علوم الصناعة والتقنية، وفي كل مجال يحتاج إليه، وفي مجال فقه الدعوة والحركة والتنظيم، وفي مجال فن القيادة والتخطيط، وفي مجال ظروف العالم الإسلامي واحتياجاته، وفي كل مجال علمي أو فني من هذه المجالات، يتفرع إلى عشرات التخصصات الدقيقة والأكثر دقة (1).
ومن الأولويات:
تعميق الانتماء للدين الإسلامي وللدعوة إلى الله, ويحرص العاملون أن يتمثلوا الإسلام العملي في سلوكهم وأخلاقهم بحيث يصبحون أعلاما حية للإسلام ولدعوته، وكل ذلك طريقه عمق الانتماء إلى الإسلام، وعمق الاعتزاز به، ويحرص الأخ العامل أن يكون واسع الأفق، عميق الفهم، متين الخلق قوي الجسم، مستوعبًا لقضايا العالم الإسلامي المعاصر، قادرا على تحليل هذه القضايا، ومتصورا حلا أو حلولا لها في موضوعية وواقعية وتجريد للحق. إن أفراد هذه المرحلة حري بهم أن يكونوا متجذرين في انتمائهم للإسلام، ولدعوته ويعمقوا ولاءهم لمنهج الرحمن ونظام الدين وشريعة الإسلام, ويكونوا هم جنود هذه المرحلة من العمل والتنفيذ والممارسة والتطبيق لكل ما تعلموه في المراحل السابقة, مستمرين في أعمالهم، دون ملل أو تراخ، وأن يكونوا أصحاب عزيمة صادقة، وإصرار في بلوغ الهدف، مع التأني والصبر والإجادة والإحسان مع عدم استعجال النصر من الله، لأن ذلك أمر متروك لله سبحانه، يجعله على يد من يشاء من عباده، ولكنه يقين سوف يتحقق ما دمنا بالحق عاملين مجاهدين (2)
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (1/ 525، 526).
(2) المصدر نفسه (1/ 527).(1/469)
إن طبيعة مرحلة المغالبة تختلف عن سواها من المراحل، ومجمل طبيعة هذه المرحلة يكمن في أنها: مرحلة الجهاد المتواصل، والصبر على الابتلاء، والإصرار على مواصلة السعي في الطريق، حتى تتحقق إحدى الحسنيين: النصر، والتمكين لدين الله في عباد الله، أو الحصول على الشهادة في سبيل الله، كما لابد في هذه المرحلة من كمال الطاعة ولابد من الالتزام بتحقيق الأهداف المرسومة، ويمكننا القول بأن طبيعة هذه المرحلة يكمن في كلمة واحدة: الجهاد، ونعني به: الجهاد بكل أنواعه: جهاد اللسان، وجهاد العمل في كل مجالاته، وجهاد قتال أعداء الله، وجهاد المرابطة في سبيل الله، وجهاد الاستعداد لكل معركة في سبيل الله، وجهاد لكل عمل يتطلبه الإسلام، ولابد لكل فرد وصل إلى هذه المرحلة أن يكون جهده ووقته وماله في سبيل الله (1).
وفي هذه المرحلة تكون الجماعة الإسلامية القائمة على أمر الدعوة الإسلامية قد اقتفت سنة الأنبياء والرسل في دعوة الأمم, فحرصت على غرس الإيمان في النفوس وتوطيد العقيدة في القلوب, ففي الحرص على هذا الأصل العظيم سعادة للناس في الدنيا والآخرة, قال سيد قطب - رحمه الله -: «ظل القرآن المكي ينزل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة عشر عاما كاملة يحدثه فيها عن قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر، لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية في هذا الدين الجديد، قضية العقيدة، ممثلة في قاعدتها الرئيسية: الألوهية والعبودية وما بينهما من علاقة .. ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء يقوم عليها من التعريفات المتعلقة بنظام الحياة إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان, وأنها استقرت استقرارًا متينًا ثابتًا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان التي قدر الله أن يقوم هذا الدين عليها، وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين» (2)، إن الاهتمام
_________
(1) فقه الدعوة إلى الله (1/ 531، 532).
(2) معالم في الطريق، ص (20، 21).(1/470)
بالجانب العقدي والمفهوم الإيماني وتربية الأمة عليه ينبغي أن يستمر إلى أن يلقى الله عز وجل، فإنه مهما بلغ الإنسان من الإيمان فإنه لا يستغنى عن التذكير به والازدياد منه، ولابد من إعداد القاعدة الصلبة التي تلتحم مع الجماهير وتتحرك نحو تطبيق شرع الله، والتمكين لدينه سبحانه وتعالى، قال سيد قطب رحمه الله وهو يقرر ضرورة إعداد هذه القاعدة: «لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا المنهج ... » ثم تكلم عن سنة الابتلاء، ثم قال: «فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدد وجود أية حركة لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة» (1).
وأجمل ذلك في مكان آخر بقوله: «لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة لا بالزبد الذي يذهب جفاء ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح» (2).
لابد من الاهتمام بتقوية الإيمان وتزكية الأخلاق الفاضلة وكثرة الطاعة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , والبعد عن المعصية, والتوعية الكاملة والفقه في الدين, ومعرفة مشكلات العصر وحلها، والتدريب العملي على البذل والإنفاق, وإيثار الدعوة الإسلامية بالنفس والنفيس, والإخلاص الكامل، والتجرد لله وحده، وهذا الإعداد مع صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها، عواطف يظهر أصحابها الطاعة والحب والتفاني في سبيل العقيدة في وقت الرخاء، أما وقت الشدة فإنها كالزبد الذي يذهب جفاء والهشيم الذي تذروه الرياح (3).
إن بناء القاعدة الصلبة على أسس من منهج أهل السنة والجماعة يدخل ضمن الطائفة المنصورة التي تتحرك بهذا الدين على جميع الثغرات.
ومن صفات الطائفة المنصورة من خلال الأحاديث الصحيحة يتضح الآتي:
_________
(1) في ظلال القرآن (1/ 1577).
(2) في ظلال القرآن (1/ 1618).
(3) المصدر نفسه (1/ 1618).(1/471)
أ- أنها على الحق:
فهي طائفة من هذه الأمة تشربت المنهج الرباني الذي هو (الحق) وما عداه الباطل، واستقرت على الالتزام به استقرار المتمكن الذي لا يتزحزح, وهي طائفة متخصصة بـ (خصائص الفرقة الناجية) أهل السنة والجماعة والتي تحرص أن تكون على ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فهي متحققة من العلم الصحيح المبني على الدليل الشرعي، ومن عمل القلب وعمل الجوارح المواطئ لهذا العلم.
وقد تعددت عبارات الأحاديث، وتنوعت في بيان أن هذه الطائفة تحمل الحق الذي جاء به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتلتزم به من غير تحريف ولا تبديل، فجاء الحديث بأنهم (على الحق).
وأنهم «على أمر الله» وأنهم «على هذا الأمر» وأنهم «على الدين».
وهذه الألفاظ تجتمع في الدلالة على استقامتهم على الدين الصحيح الذي بعث به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وقد عبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تمسك الطائفة المنصورة بالحق، والدين، والأمر بلفظ: «على» الدال على التمكن والاستقرار (1).
وللطائفة المنصورة من ملازمة الحق واتباعه ما ليس لسائر المسلمين، وهي إنما استحقت الذكر والنصر، لتمسكها بالحق الكامل حين أعرض عنه الأكثرون، ومن الجوانب البارزة في الحق الذي استمسكت به حتى صارت طائفة منصورة ما يلي:
1 - الاستقامة في الاعتقاد وملازمة ما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ومجانبة البدع وأهلها، فهم أصحاب السنة الذين ليس لهم اسم يعرفون به وينتمون إليه إلا السنة، لا جهمية ولا معتزلة، ولا غير ذلك من الأسماء الدالة على البدع والأهواء» (2).
2 - الاستقامة في الهدى والسلوك الظاهر على المنهج النبوي الموروث عن الصحابة رضي الله عنهم والسلامة من أسباب الفسق والريبة والشهوة المحرمة.
_________
(1) انظر: صفة الغرباء، سلمان العودة، ص166.
(2) انظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 58)، والانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، لابن عبد البر، ص35.(1/472)
3 - الاستقامة على الجهاد بالنفس والمال، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحجة على العاملين.
4 - الاستقامة في الحرص على توفير أسباب النصر المادية والمعنوية، واستجماع المقومات التي يستنزل المؤمنون بها نصر الله, ولاشك أنهم إنما ينتصرون لملازمتهم للجادة المستقيمة من جهة، ولبذلهم الجهد الواجب في تحصيل أسباب النصر من جهة ثانية.
وبذل الجهد في تحصيل تلك الأسباب هو -في الحقيقة - جزء من الاستقامة على الشريعة, إذ الشريعة تأمر بفعل الأسباب واتخاذ الوسائل المؤدية إلى النتائج، بإذن الله, فليس صحيحًا أن يقعد المسلم عن استخدام الوسائل المادية الممكنة، من الصناعة والسلاح والتخطيط، والإدارة وغيرها، متوهما أن النصر يجيء بدونها لأن تحقيق ذلك هو من مقتضيات الاستقامة على أمر الله.
ب- أنها قائمة بأمر الله:
وهذه الخصيصة بارزة جدا في الوصف النبوي لهذه الطائفة، فهم: (أمة قائمة بأمر الله) واسمهم: «الطائفة المنصورة» في عدد من الأحاديث وقيامهم بأمر الله يعني:
1 - أنهم تميزوا عن سائر الناس بحمل راية الدعوة إلى الله، وإلى دينه، وشرعه وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , والقيام على نشر السنة بين الناس بكل وسيلة ممكنة مشروعة، ودفع الشبهات عنها، وحمل الناس عليه - مهما أمكن ذلك - والرد على مخالفيها من الكفرة والمرتدين والمارقين والمنافقين والجاهلين.
2 - أنهم قائمون بمهمة الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر باليد, واللسان، والقلب، معارضون لكل انحراف يقع بين المسلمين، أيا كان نوعه: سياسيًا, أو اجتماعيًا، أو اقتصاديًا، أو عمليًا، أو اعتقاديًا، فهم «أولو البقية» الذين ينهون عن الفساد في الأرض وهم الناجون حتى يهلك الظالمون, قال تعالى: {فَلَوْلاَ(1/473)
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116].
جـ- أنها تقوم بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله:
وقد جاءت الأحاديث النبوية في وصفهم بأنهم:
«يقاتلون على الحق» (1).
أو «يقاتلون على أمر الله» (2).
وهذا يبين أنها لم تقف عند حد جهاد الكلمة ببيان، والدعوة إليه بالحسنى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين، بل تميزت -مع ذلك - بالقيام بواجب الجهاد الشرعي في سبيل الله، وقتال أعداء الله من الكفار والمنافقين وغيرهم.
وهذا يعني استمرار الجهاد والمواجهة العسكرية مع أعداء الله يوم القيامة، لأن الطائفة القائمة به باقية إلى يوم القيامة (3).
والمقصود أن الجهاد لا ينقطع انقطاعا دائما مستمرا، بل لا يزال في الأمة طائفة منصورة تجاهد في سبيل الله أعداء الله، ولكن هذا لا يعارض ما وُجد ويوجد في بعض الأمكنة وبعض الأزمنة من ترك الجهاد، مما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحذر منه, فوقع في الأمة كما أخبر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا تبايعتم بالعينة (4) , وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (5).
فقد تترك عامة الأمة الجهاد في سبيل الله، وتخلد إلى الأرض، وتشتغل
_________
(1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب: دوام الجهاد (3/ 11) رقم 2484.
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تزال طائفة .. » (1/ 1524) رقم 176.
(3) انظر: صفة الغرباء، ص177.
(4) العينة: هي أن يشتري من رجل سلعة بثمن معلوم مؤجل ثم يبيعها له بأقل من الثمن.
(5) أبو داود، كتاب البيوع، باب: النهي عن العينة (3/ 740) رقم 3462.(1/474)
بالزرع أو غيره من شئون دنياها، وتلهو به عما أخرجت له من الجهاد وحرب أعداء الله بالسلاح، وعملها على إزالة العوائق والعقبات التي تحول دون الجهاد، فإنه إذا وجب عليها القتال والحرب لأعداء الدين، فقد وجب عليها الاستعداد لهذه الحرب بكل وسيلة ممكنة, ووجب عليها السعي لإزالة الموانع الحائلة دون قيامها بالواجب، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً, وبجهود هذه الطائفة ترجع الأمة - عامة - إلى الجهاد، وتخوض الغمرات إلى أعدائها، حتى ينصرها الله، ويعيد لها عزتها ومجدها وكرامتها، إن الجهاد الذي بدأ في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينتهي حتى آخر الدهر، قبيل قيام الساعة، والطائفة التي أكرمها الله تعالى بحمل الراية جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل، هي الطائفة المنصورة القائمة بأمر الله (1).
د- أنها المجددة للأمة أمر دينها:
إن التجديد لهذا الدين هو الخط المقابل للغربة، والمجددون هم الذين يدافعون غربة الدين، ويدفعونها، ويحيون ما اندرس من الشرائع وهي بذلك تعمل على إحياء الدين، وتجديده، ودفع الغربة عنه وعن أهله, وتتضاعف مسئولياتها وتعظم كلما ازداد الشر والفساد في الأمة، واستفحل وتضاعف، فـ «التجديد إنما يكون بعد الدروس وذاك هو غربة الإسلام» (2).
وكما وعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة منصورة ظاهرة قائمة بأمر الله إلى قيام الساعة، فقد وعد وعدا خاصا مندرجا في هذا الوعد العام، وهو البشارة ببعثة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (3).
ولفظ (من) في الحديث يطلق على الفرد، وعلى الجماعة، فيحتمل المعنى أن يكون المبعوث فردا، ويحتمل أن يكون جماعة أو طائفة، فإن كان المجدد فردا، فلا
_________
(1) انظر: صفة الغرباء، ص181، 182.
(2) الفتاوى لابن تيمية (18/ 297).
(3) أبو داود، كتاب الملاحم، باب: ما يذكر في قرن المائة (4/ 280) رقم 291 إسناده صحيح.(1/475)
بد أنه من الطائفة المنصورة، وهذا مما لا يحتاج إلى بيان, وإن كانت مهمة التجديد موكولة إلى فئة، فهي الطائفة المنصورة - بلا ريب - وذلك لأن خصائص هذه الطائفة هي الخصائص التي يحتاج إليها في تجديد الدين لهذه الأمة.
وهذا - أي: التجديد - قد يكون بفرد، وقد يكون بطائفة وكونه بطائفة أغلب وهو ما رجحه الحافظ ابن حجر (1) حيث قال: «لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه ذكر في الطائفة وهو متجه, فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعي ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده، فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا، كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا» (2). وهناك مجموعة من آراء الأئمة تلتقي حول هذا الرأي كابن الأثير الجزري (3)، وابن كثير وغيرهما، ومن البديهي أن المجدد لهذا الدين - لو كان فردا - لا يخرج من فراغ، ولا يستطيع بمفرده - بحال من الأحوال - أن يجدد الدين - كل الدين- للأمة - كل الأمة-.
إن من الواضح أن مثل هذا العمل الجبار التاريخي لا يضطلع بمباشرة كل جوانبه فرد واحد، بل يحتاج إلى طائفة تتولى التجديد في كل جوانب الحياة الإنسانية، فيكون منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض (4).
_________
(1) هو أحمد بن علي بن محمد العسقلاني أبو الفضل (ت852هـ) انظر: الأعلام (1/ 178 - 179).
(2) فتح الباري، كتاب الاعتصام، باب: «لا تزال طائفة ... » (13/ 12) رقم 7312.
(3) هو أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير توفي عام 606هـ، انظر: جامع الأصول.
(4) انظر: صفة الغرباء، ص187.(1/476)
هـ- أنها ظاهرة إلى قيام الساعة:
وقد وصفت الأحاديث النبوية الكريمة هذه الطائفة بكونها ظاهرة على الحق إلى يوم القيامة, وكلمة الظهور تشتمل على عدة معان فيما يبدو:
1 - بمعنى الوضوح والبيان، وعدم الاستتار، فهم معروفون بارزون مستعلون.
وهذا - في الجملة - وصف صحيح لهذه الطائفة، لأن تصديقها للدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحجة، يعني أنها ظاهرة، مشهورة, ولها مؤسساتها وأجهزتها ووسائلها المعروفة، وقيام هذه الطائفة بواجب البلاغ والدعوة، وحرب المنكر، وقتال الأعداء، يقتضي أن تكون ظاهرة غير مستترة، حريصة على التبليغ لصوت الحق لكل مسلم، بل ولكل إنسان وإن كان هذا لا يمنع أن يستخفي بعض أفرادها بإسلامهم, أو بدعوتهم لملابسات خاصة في مكان معين، وزمان معين، فالعبرة بالطائفة جملة، لا ببعض أجزائها، أو بعض أفرادها، والعبرة بالحال العام المستمر الثابت، لا بالحال المؤقت الطارئ.
2 - ثباتهم على ما هم عليه من الحق والدين، والاستقامة، والقيام بأمر الله، وجهاد أعدائه، بحيث لا يثنيهم عن ذلك شيء من العقبات والعوائق والمثبطات، وغلبتهم بالحجة والبيان وسيطرة منطقهم على العقول والقلوب، لما يعتمد عليه الحق الصريح المقتبس من الكتاب والسنة، وهذا يدعو إلى اتباعهم وموافقتهم، فالحق غلاب والباطل خلاب، وكلما كانت هذه الطائفة أوسع علما، وأعظم فهما للوحي، وأكثر إدراكا لثقافة عصرها، وأقدر على التعبير عن منهجها، كانت حجتها أغلب، وطريقتها أصوب (1).
3 - الظهور بمعنى الغلبة، وقد دلت النصوص على هذا المعنى أوضح دلالة، فقد وصفوا في الأحاديث بكونهم ظاهرين، ولا شك أن الظهور يأتي كثيرا بمعنى
_________
(1) انظر: صفة الغرباء، ص192.(1/477)
الغلبة والتمكن والعلو والظفر، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. وكما قال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
وقوله {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48].
وقوله: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف: 20].
وقد أكد إرادة هذا المعنى مجيء روايات أخرى تكاد أن تكون صريحة في ذلك، كقوله: «ظاهرين لعدوهم» (1).
وقوله: «ظاهرين على من ناوأهم» (2).
وقوله: «لعدوهم قاهرين» (3).
ولاشك أن هذا وعد رباني على لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وليس يشك مسلم في ثبوته وتحققه ووقوعه، خاصة وأصل الحديث ثابت متواتر كما سبق، وهو يشمل الغلبة والقهر بالحجة، ويشتمل الغلبة المادية والنصر في القتال، ويجوز أن تكون معاني الظهور السابقة - كلها - واردة وصحيحة, فتكون الطائفة المنصورة ظاهرة معلنة غير مستترة، وظاهرة على الدين بالثبات عليه والتمكين منه، وظاهرة على عدوها بالحجة والبيان وبالقوة والسنان (4).
وأنها صابرة:
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
فقد خص الله الطائفة المنصورة من الصبر بخصيصة ليست لغيرهم, فهم في
_________
(1) مسلم، كتاب الإمارة باب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال طائفة ... » (3/ 1524) رقم 176.
(2) أبو داود، كتاب الجهاد، باب: دوام الجهاد، رقم (2484) (3/ 11).
(3) انظر: الطبراني (الكبير) ترجمة أبي أمامة رقمها 736 (8/ 171).
(4) انظر: صفة الغرباء، ص193، 194.(1/478)
هذا الخضم العنيف في الصراع بين الحق والباطل يتسلحون بالصبر الجميل ويتحملون الشدائد والمصاعب من أذى الكافرين والمنافقين والفاسقين والمخالفين عن سمته وطريقه المستقيم، فلا تستطيع القوة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم وهدفهم الذي يسعون إليه، ولهذا وصف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء القوم بأنهم: «لا يضرهم من كذبهم ولا من خالفهم» (1).
«لا يضرهم من خذلهم» (2).
«ولا يبالون من خالفهم» (3).
وهذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى أن هؤلاء العاملين الذين عرفوا أهدافهم وسلكوا طريقهم، فلم ينظروا إلى خلاف المخالفين وعوائق المخذلين، ولا تكذيب الأعداء الحاقدين، وكانوا يواجهون كل المتاعب بصبر وثبات ويقين (4).
هذه أهم الصفات التي جاءت في الأحاديث النبوية لوصف الطائفة المنصورة والتي تسعى لتحقيق شرع الله تعالى, فعلى الجماعات الإسلامية أن تعمل على تربية أتباعها على هذه الصفات الجميلة والتي هي من أسباب النصر والتمكين الرباني.
إن القيادات الإسلامية التي تنهج منهج أهل السنة والجماعة حريصة على صلة بعضها وخصوصا من يصل منهم إلى مرحلة المغالبة حيث لابد أنه يحتاج إلى إخوانه حتى يعينوه على تحقيق أهدافه.
إن تكالب الأعداء من أمم الكفر على أمتنا مزقها وحطم أخلاقها وهتك أعراضها، واستولوا على بلاد المسلمين ونهبوا ثرواتهم وخيراتهم، فهذه المصائب الجسام توجب على أهل السنة, ومن اتصف بصفات الطائفة المنصورة أن يتعارفوا
_________
(1) البخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا" الآية (8/ 189)
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال طائفة .. » (3/ 1523) رقم 170.
(3) رواه سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: من قال: الجهاد ماض، رقم 2376 وله طرق تقويه.
(4) انظر: صفة الغرباء، ص205.(1/479)
على إخوانهم من بلدان شتى ويتعاونوا مع بعضهم في طريق العمل والدعوة والجهاد، فلابد من تعارف وتعاون من يحملون همَّ الدعوة والجهاد من أهل السنة حتى تتوحد الجهود نحو تحقيق الأهداف.
ويأتي دور العلماء الربانيين والقادة المخلصين في تنسيق الجهود وتحقيق معنى الانتساب للطائفة المنصورة المجاهدة، بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وتعلم العلم الشرعي المبني على الدليل من الكتاب والسنة في مجال الاعتقاد والأحكام والسلوك، والاستعداد الدائم لتجاوز الأخطاء وتصحيحها، والتخلي عن كل ما ينافي حقيقة هذا الانتساب الشريف، ومن الآراء والأقوال والأخلاق وغيرها، وهذا لا يتم إلا في جو من الفرح والغبطة بالنقد الصحيح، وترك أسلوب التزكية المطلقة للأقوال والأعمال والأشخاص والجماعات، والسعي الدائم لتعديل المناهج والمسالك على وفق الحق الذي تقتضيه شريعة الله, ويدل عليه النص من القرآن والسنة، ووضع المسائل والقضايا في موقعها الصحيح الذي تقتضيه الحكمة (1).
وعلى القيادة الصالحة التي تقود العمل الإسلامي في بلد ما ووصلت إلى مرحلة المغالبة أن تحرص على توثيق التعاون مع القائمين على أمر الدعوة في بلادهم وغيرها من الأقطار الإسلامية, ولابد من تنسيق الجهود، بحيث يكمل بعضها بعضا، ولا تتناقض ولا تتعارض، والتعاون واجب شرعي، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
والتعاون ثمرة من ثمار التعارف بين العاملين في الدعوة الإسلامية ممن حرصوا أن يكونوا ضمن كتائب التغيير الإسلامي، وثمرة من توحيد منهج السير المنضبط بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وبذلك تجتمع القلوب وتزول أسباب الخلاف التي ينفذ منها الشيطان وجنوده من الإنس والجن لزرع الفرقة والشتات بين المسلمين, ويكلل هذا وهذا بالتآزر والتعاون والتناصر، لتجتمع قدرات المسلمين وتتوحد في
_________
(1) انظر: من وسائل دفع الفرية للشيخ سلمان العودة، ص67.(1/480)
مواجهة المحن والشدائد المتمثلة في التحديات الكبيرة التي يزخر بها العصر, ولتتناوب فئاتها في القيام بفروض الكفاية التي اضطلعت بها، وشرفها الله لتحمل القيام بها من بين المسلمين، فتقوم كل فئة بما تعجز عنه الأخرى فالتعاون والتناصر يجعل الصف الإسلامي أقوى في إمكاناته وقدراته، وأقدر على الاستفادة من الفرص المتنوعة التي تختلف بين مكان وآخر, وزمان وآخر، وأكثر دقة في توزيع المهمات والواجبات وتوظيف الجهود والقدرات نحو
الهدف المنشود (1).
فعلى الجماعة الإسلامية التي تربت على منهج أهل السنة والجماعة أصولاً وفروعًا، عقيدة وأخلاقًا، فكرًا وتصورًا، عبادة ومعاملة، وحرصت أن تتصف بصفات الطائفة المنصورة, وجهزت كوادرها المتنوعة ووصلت إلى مرحلة المغالبة أن تقود هذه المرحلة بكل دقة وإحكام، وتخطيط وإتقان مستعينة بالواحد الديان, وأن تستوعب الجانب العملي الحركي في الإسلام وأن تقود حركة الجهاد الشاملة وفق أحكام الشريعة.
وأن تحسن إنزال أنواع الجهاد في ميادينها لسد الثغرات المتنوعة وأن هذه الأنواع في مجموعها متكاملة، يقود بعضها إلى بعض, وكل واحد مشروع لتحقيق الهدف الأسمى لدعوة الإسلام، وهو تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى في: الأفراد والجماعات والمجتمعات، وفي داخل النفس وخارجها (2)، غي أن كلا منها يتعامل مع صنف آخر من الأعداء الذين يصدون عن تحقيق ذلك الهدف، فيزيحه من الطريق أو يحد من فاعليته، والكل يلتقي عند جعل العبودية خالصة لله تعالى، ورفع كلمة الله سبحانه في الأرض، وجعلها هي العليا، بأن تكون هي المرجع الوحيد للبشرية في جميع نشاطاتها, ومن هنا كان لكل نوع من تلك الأنواع أهميته الخاصة وكانت حاجة المؤمنين إلى ممارسة كل منها حاجة ماسة.
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص68.
(2) الجهاد ميادينه وأساليبه، د. محمد نعيم ياسين، ص235.(1/481)
والجماعة الإسلامية الواعية والتي تسعى أن يكون المجتمع إسلاميًّا وربانيًا لابد أن تجاهد في الله حق جهاده، كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وحق الجهاد هو التصدي لكل عدو يقف أمام دعوة الله، وممارسة جميع الأنواع الجهادية بكل حكمة وعقل ورزانة, وتقدير للمصالح والمفاسد, ومعرفة تامة لمقاصد الشريعة والموازنة بين أفضل المصلحتين وأقل الضررين بحيث تسد كل الثغور، ويسد المجال أمام كل عدو، وهذه صفة من الصفات الربانية اللازم ظهورها في الصف المتحرك لتمكين شرع الله والذي يذب ويجاهد من أجل هذا الدين.
لقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والإرشادات الفقهية تبين فضل الجهاد وضرورته وأنواعه.
والواقع العملي يدلنا على أن أشكال الجهاد مرتبطة بعضها ببعض، فجهاد النفس هو في حقيقته، أصل تلك الأنواع جميعًا، وهي متفرعة عنه ومعتمدة عليه، فهو بذرتها، وهو شرطها، وهو عدتها، يقول ابن القيم - رحمه الله -: «ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا عن جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (1). كان جهاد النفس مقدمًا على جهاد العدو في الخارج وأصلا له، فإنه من لم يجاهد نفسه أولا، لتفعل ما أُمرت به، وتترك ما نُهيت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج» (2).
- وأما جهاد الشيطان فهو ضروري للتمكين من جهاد النفس، وجهاد أعداء الله في الخارج، لأن الشيطان عدو يثبط الإنسان عن جهاد نفسه وجهاد الكفار والمنافقين والفاسقين، ولابد للعبد من جهاده والتغلب عليه إذا أراد أن يتغلب على شهوات نفسه، وعلى كل عدو يصد عن سبيل الله: يقول ابن القيم
_________
(1) زاد المعاد (2/ 38).
(2) البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الدين (1/ 10) رقم 10.(1/482)
بيانا لهذا المعنى بعد أن بين أهمية جهاد النفس وجهاد أعداء الله في خارج الإنسان: «وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما، ويخذله ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتبهات, ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل وهو الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته .. » (1).
وأما جهاد الكفار والمنافقين وأهل المنكر فهو مشتمل على جميع أنواع الجهاد، لأنه جهاد النفس على التضحية باللذة العاجلة في سبيل السعادة الأبدية، وهو في حقيقته مشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فهو مشتمل على محبة الله عز وجل والإخلاص له والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له سبحانه, والصبر والزهد وغيرها» (2)، وكذلك جهاد الشيطان الذي يزين القعود ويمني بالسلامة إلا أنه من الجدير بالذكر أن هذا لا يعني تساوي الجهاد وأشكاله من حيث الأجر والفضل عند الله تعالى.
والمعيار في ذلك أشارت إليه الآيات والأحاديث هو مقادير التضحية التي يقدمها المؤمن في سبيل الله تعالى, فمن كان أشد تضحية كان أفضل عند الله عز وجل وأثقل في ميزانه سبحانه لدلالته على قوة الإيمان بالله، وشدة الثقة بما عنده. ولاشك في أن التضحية بالنفس هي أعلى أنواع التضحية وأكرمها عند الباري تبارك وتعالى، إذ أثمن ما يملك العبد نفسه، وهي أصل كل ثمين، ومرجع كل لذة في هذه الحياة الدنيا، فمن ضحى بها فقد بذل كل ما يملك، ولم يستبق لنفسه شيئا، وإنما قدمها في سبيل ربه، فإن كانت نيته خالصة لله تعالى، كان أكرم الشهداء عند رب العباد، ولذلك قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
_________
(1) زاد المعاد (2/ 38).
(2) انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية.(1/483)
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]. وقال عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 19، 20].
ولذلك فضَّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجهاد بالنفس على الحج، وجعله بعد الإيمان (1)، ففي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «ثم حج مبرور» (2).
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان» (3)، ولذلك أجمع العلماء على أن المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، لأن الرباط هو في الواقع، نوع من التضحية بالنفس أو الاستعداد لها (4).
إن مرحلة المغالبة لابد لأفرادها أن يكونوا قد استوعبوا مفهوم الجهاد بعمومه وأن تكون كافة الكوادر في جميع المجالات مستعدة للتحرك نحو تولي أمور الحكم وتحكيم شرع الله تعالى، والتمكين لدينه.
إن حركة المسلمين في مرحلة المغالبة تهز عروش الطغاة، وكلما قطعت الدعوة مرحلة من مراحلها ازداد فزع الظلمة واقتربت نهاية الأحكام الجاهلية.
_________
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 277).
(2) البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (2/ 172) رقم 1519.
(3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط (1/ 1520) رقم 1913.
(4) انظر: الجهاد ميادينه وأساليبه، د. محمد ياسين، ص238.(1/484)
إن سهام الدعاة موجهة إلى أسس تقوم عليها عروش الطغاة, ومن أهم هذه الأسس التي تسعى الدعوة إلى نزعها:
1 - نزع مقاليد الحكم من أيديهم:
حتى تقف رغباتهم وأهواؤهم التي يمضونها بواسطة القوة والسلاح ويعذبون الناس، بل يقتلونهم من أجل أهوائهم، وكفرهم كما فعل فرعون مع السحرة, قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى - قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 70، 71].
فلو لم تكن مقاليد الحكم بيد فرعون ما كان ليقدم على هذا الفعل الشنيع, وهكذا كل الفراعنة لولا أن القوة بأيديهم ما استطاعوا أن يفرضوا باطلهم ويمنعوا الناس
من الحق.
2 - تحرير الناس من عبودية المناهج الكفرية وعبادة الحكام:
الذين يضعون مناهج عقدية وسياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية لتحقيق هدف واحد لهم، وهو إخضاع الناس عن طريق الترغيب والإغراء وعن طريق الترهيب والإيذاء، ويستعين الحكام في تحقق هذه الأهداف الخبيثة بأصحاب النفوس المريضة الذين يبجلون الحكام ويسعون لمرضاتهم من أجل مال زائل وجاه خادع وحظوة مذمومة, ويحرص الحكام على هذه الطبقة الذليلة فيقدمون لهم ما يريدون من جاه ومال وسلطة قال ابن تيمية - رحمه الله -: (وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على(1/485)
الفاحشة أو قطع الطريق, فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر» (1).
3 - القضاء على القوانين والأنظمة التي شرعوها لتخدم أهواءهم:
والتي جعلوها بكيفية تجد لهم ما يريدون وتحريم ما لا يشتهون، وتمكنهم من الاعتداء على النفوس والأعراض والأموال.
إن الطغاة لا يطيقون أن يقف أمام رغباتهم وأهوائهم أي قانون، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ - وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ - بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ - قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 84 - 87].
4 - كشف الحقائق للناس وبيان خداعهم للعوام وغشهم بقلب الحقائق:
وبيان كذبهم في إظهار النصح والخوف على مصالح الناس من خطر الدعاة إلى الله في إقامة حكم الله في الأرض, كما قال الله عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] يعني موسى يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم، وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مُذَكِّرا، يعني واعظا يشفق على الناس من موسى عليه السلام (2).
وقال سيد قطب - رحمه الله -: ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ"
_________
(1) الفتاوى (1 - 189).
(2) تفسير ابن كثير (4/ 76).(1/486)
أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح، أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل، أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادي؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل والإيمان والكفر والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان، والقصة قديمة مكررة تعرض بين
الحين والحين (1).
5 - كشف خطط الطغاة في جعل الناس شيعا وأحزابا:
ودعوة الناس للاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
هذه أهم الأسس التي تقوم عليها عروض الطغاة في الأرض، وأي أساس منها فقد كان جديرا بتحطيم تلك العروش ولاسيما الأول منها والثاني (2).
ولذلك يهتم الدعاة إلى الله في كل مراحل دعوتهم بتوجيه السهام إلى تلك الأسس وخصوصا في مرحلة المغالبة حيث تنشط كتائب المجاهدين بتوجيه الضربات المسددة إلى تلك الأسس الطاغوتية, وبعد تدميرها يصل الدعاة بإذن الله تعالى بدعوتهم إلى مرحلة التمكين.
إن هذه المرحلة المهمة من مراحل الدعوة يكون أفراد الجماعة الإسلامية العاملة يسعون بكل إخلاص وصدق على تنفيذ مخططات دعوتهم وتحقيق أهدافهم، والدعوة في هذا الطور جهاد وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولابد أن نهتم بالفرد اهتمامنا بالجماعة ونهتم بالقاعدة اهتمامنا بالقيادة حرصا على بناء الصفوف بناء إسلاميا صحيحا، إن مراحل الدعوة التي تسبق مرحلة التمكين متداخلة فيما بينها
_________
(1) في ظلال القرآن (5/ 3078).
(2) انظر: الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله أحمد القادري (2/ 235).(1/487)
فمقدار نضج الجماعة في مرحلة التعريف والإعداد والمغالبة، تكون الأمور سائرة في الطريق الصحيح، وبمقدار ما يكون التعريف صحيحا يكون الإعداد أسهل، وبمقدار ما يكون الإعداد صحيحا تكون مرحلة المغالبة أحكم وأقوى، ومن ثم فإن النضج في هذه القضايا بشكل عام هو مظهر النضج العملي والنظري في الجماعة بقدر ما توجد عند الجماعة أجهزة مختصة ناضجة في كل قضية من هذه القضايا يكون سيرنا قد أخذ مسراه الكامل (1).
وهناك ما يسمى مرحلة المغالبة بمرحلة التنفيذ ولا مشاحة في الاصطلاح, ويقول حسن البنا - رحمه الله - في هذه المرحلة: «التنفيذ والدعوة في هذا الطور جهاد لا هوادة معه وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذا الطور إلا كمال الطاعة» (2).
وقال: (ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج وكثيرا ما تسير هذه المراحل الثلاث: أي التعريف والتكوين والتنفيذ جنبا إلى جنب نظرا لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينهما جميعا، فالداعي يدعو، وهو في نفس الوقت يتخير ويربي, وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك، ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية، وكثرة الأنصار ومتانة التكوين» (3)، ومن كلامه نفهم أن التنفيذ عنده نوعان: تنفيذ يومي، وتنفيذ شامل، وأن التنفيذ اليومي مرتبط بموضوع العمل المتواصل المكافئ, وأما التنفيذ الشامل فيرتبط بتحقيق الأهداف الكبرى (4).
* * *
_________
(1) الدعوة إلى الإسلام، حسن أدهم جرار، ص121.
(2) آفاق التعلم، سعيد حوى، ص76.
(3) المصدر نفسه, ص76.
(4) المصدر نفسه, ص76.(1/488)
المبحث الرابع
مرحلة التمكين
إن مرحلة التمكين هي ذروة العمل الإسلامي المنظم، وهي تمثل الثمرة الناضجة إذا مثلت المراحل التي سبقتها التربة الصالحة والبذرة الصالحة، والتعهد والرعاية، وأن الجهد الذي أوصل إلى هذه المرحلة كله من توفيق الله، ويستطيع أن يمس المؤمن أثر توفيق الله سبحانه وتعالى في الوصول إلى مرحلة التمكين لدينه في الأرض في دراسته القرآنية المتأنية، أو في نظرته التاريخية المستوعبة للتاريخ الإسلامي المجيد ومرحلة التمكين في الدعوة
إلى الله تعني أن الله تبارك وتعالى يمكن لدينه في الأرض، عن طريق المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وأن هذا التمكين يسبقه الاستخلاف والملك والسلطان, ويعقبه أمن بعد خوف، كما أن الوصول إلى التمكين يكون بعد تحقق شروطه من إيمان وعمل صالح، وتحقيق العبودية، ومحاربة الشرك، وتقوى الله، كما أن لاستمراره شروطًا منها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وهذه الثلاثة هي إجمال للإسلام كله, فالصلاة عماد الدين وهي دليل الإسلام وعلامته، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تراحم وتكافل، ودفع لحاجات المحتاجين الذين حدد الله سبحانه أنواعهم في آية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] كما هي طهارة لقلب المزكي، وطهارة لماله، وطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي الالتزام بكل ما أمر والانتهاء عن كل ما نهى, وذلك الإسلام كله, وما ذكرته يوضحه قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 55، 56].
وستظل الطاعة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مصاحبة للتمكين لا(1/489)
تنفك عنه، ولا ينفك عنها، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
وفي هذه الآية النص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من صميم ما أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به (1).
إن القرآن الكريم إذا تدبره المؤمنون وتفقهوا فيه رأوا حكما وسننا تعين من أخذ بها للوصول إلى غايته النبيلة، ولا شك أن مرحلة التمكين وإن كانت قمة المراحل إلا أنها ليست آخر المراحل, فبعدها استمرار التمكين والمحافظة عليه، وإن من وراء التمكين أمورًا عظيمة وأهوالاً جسيمة ومسئوليات كبرى أمام التحديات الضخمة والأعداء المتكالبين. ولابد من استمرار الدعاة إلى الله بواجبات مراحل التعريف والإعداد والمغالبة والتمكين إلى قيام الساعة، ويوم يعدل الدعاة عن هذا العمل الموازي لمرحلة التمكين، فعندئذ يحدث التراجع والانتكاس وتنشأ الأجيال الجديدة فلا تجد من يعرِّفها، ولا من يربيها ولا من يفقهها ويعلمها ويقودها.
إن بعض الناس قد يرون هذه المرحلة بعيدة المنال.
وإن بعضهم ليراها مستحيلة التحقيق.
وإن بعضهم ليراها قريبة جدا.
أما الذين يرونها بعيدة المنال، فهم على صواب طالما بقي المسلمون غير محققين لشروط التمكين، لأن التمكين لدين الله في الأرض حقيقة قرآنية ثابتة، إذا توافرت
لها شروطها (2).
إن التمكين لدين الله في الأرض مطلب عزيز دعا إليه الدين، وعمل صالح يؤجر عليه فاعله أعظم الثواب، وليس العمل لتمكين دين الله في الأرض عسيرا، أو فوق مستوى طاقة المسلمين، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، بل ممكن وفي
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (2/ 715).
(2) المصدر السابق نفسه (2/ 716).(1/490)
مقدور العاملين من أجل الإسلام ولكونه ممكنا فقد وعد الله تعالى به المؤمنين الذين يعملون الصالحات.
إن التمكين لدين الله في الأرض إرادة إلهية كي يظهر هذا الدين الخاتم على الدين كله يوما من الأيام، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] , وقد أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين أن يقيموا هذا الشرع أي يجعلوه قائمًا، دائمًا مستمرًا محفوظًا مستقرًا, قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن
يُنِيبُ} [الشورى: 13].
إن التمكين لدين الله هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام.
الدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها.
والحركة، وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال.
والتنظيم، وما يستهدفه في الدعوة والحركة.
والتربة بكل أنواعها وأهدافها ووسائلها.
وعلى العاملين لدين الله أن يبينوا لجماهير الأمة العريضة أهمية تحقيق هذا
الهدف النبيل (1).
إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سار بخطوات ثابتة نحو تحقيق الأهداف، فكانت مسيرته تسير جنبا إلى جنب في بناء العقيدة وتطهير النفوس من أمراضها، وتربيتها بالأخلاق الفاضلة مع الاهتمام بالجوانب الحركية، والتخطيطية والسياسية والإعلامية والجهادية وبناء دولة تحكم شرع الله تعالى، وتسعى لتمكين دينه، فمنذ دخوله المدينة شرع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتحقيق الأهداف التي هاجر من أجلها، ولذلك رأى من الضروري
_________
(1) انظر: فقه المسئولية، د. علي عبد الحليم، ص358.(1/491)
واللازم إنشاء «دولة إسلامية» على قواعد متينة وأسس راسخة, فكانت أولى خطواته المباركة بناء المسجد الجامع, ثم أصدر الوثيقة للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والمعاهدة مع اليهود، ولم يمض الوقت طويلا حتى شكل جيشا إسلاميا مجاهدا لحماية الدولة والسعي على تحقيق أهدافها، لقد قدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظرفه وزمانه ومكانه, واستطاع أن يقود أصحابه نحو التمكين معتمدا على الله تعالى وشارعا في الأخذ بالأسباب الأمنية، والتربوية، والسياسية، والإعلامية والاقتصادية، والعسكرية, وترك لنا معالم نيرة في مغازيه الميمونة، ودروسا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على الأعداء والتمكين لدين الله تعالى، فبدأ بالسرايا فحققت أهدافها، ومضى يحاصر قوى البغي والكفر والضلال حتى فتحت مكة, ومن ثم وحدت جزيرة العرب وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود وإلى ملوك الأرض بدعوتهم للإسلام، وتم الفتح الأكبر بفتح مكة الذي ترتب عليه نتائج من أهمها:
1 - دخول مكة تحت نفوذ المسلمين وزوال دولة الكفر وانطلقت كتائب الإسلام بعد ذلك لتحطيم بعض الجيوش في حنين والطائف، ومن ثم إلى العالم أجمع.
2 - تطهير الكعبة من الأصنام وإنهاء الوثنية في مكة بعد أن دمرت أصنام القلوب وأصلحت العقائد الفاسدة والتصورات المنحرفة.
3 - استخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسلوب العفو عند المقدرة فأعلن العفو العام وأحسن إلى أهل مكة مما كان سببا في دخول كثير من زعمائهم الإسلام وتمكن الإيمان من قلوبهم من أمثال عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية.
4 - أصبح المسلمون قوة عظمى في جزيرة العرب، وبعد فتح مكة، وتحقق أمنية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدخول قريش في الإسلام، برزت قوة كبرى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف في وجهها وهي مؤهلة لتوحيد العرب(1/492)
تحت راية الإسلام ثم الانطلاق إلى الأقطار المجاورة، لإزالة حكومات الظلم والطغيان، وتأمين الحرية لخلق الله كي يدخلوا في دين الله، ويعبدوه وحده من دون سواه (1).
5 - تمكين الله للمؤمنين الصادقين بعدما ضحوا بالغالي والنفيس وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه, ولا ننسى تلك الصورة الرائعة وهي وقوف بلال فوق الكعبة مؤذنًا للصلاة بعد أن عذب في بطحاء مكة وهو يردد: أحد أحد في أغلاله وحديده ويجروه الصبيان, ها هو اليوم قد صعد فوق الكعبة ويرفع صوته الجميل بالأذان وهو في نشوة الإيمان، لقد قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبليغ الأمانة، وأداء الرسالة ولحق بالرفيق الأعلى فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء، وجاء الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم، فتسلموا الراية، وساروا والمسلمون معهم على درب نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما غيروا وما بدلوا، بل ثبتوا على دينهم واندفعوا في مشارق الأرض ومغاربها يبلغون دعوة الله إلى البشرية, فهدى الله بهم من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام.
وكانت فترة الخلافة الراشدة التي ما تجاوزت ثلاثين عاما قصيرة في عمر الزمن ولكنها في ميزان القيم أقل من عمر إمبراطورية ظلت قائمة في الأرض عشرة قرون، فقد كانت تلك السنوات القصيرة أعلى قمم صعدتها البشرية في تاريخها كله (2).
وكان التمكين في هذه المرحلة في ذروتها التي لم تصل إليها الأمة في أي وقت آخر، كما كان شاملا، فكان يشمل تمكين الدين والعشائر، وكان يشمل تمكين الدنيا، والسيادة الإسلامية برا وبحرا، وسياسيا، واقتصاديا، وعلميا.
ولقد سعدت الأمة الإسلامية ردحًا كبيرًا من الزمان وفتح الله عليها بركات
السماء والأرض.
_________
(1) انظر: قيادة الرسول السياسية والعسكرية، ص129.
(2) انظر: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص218.(1/493)
وانتهت الخلافة الراشدة بتنازل الإمام الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عن الجميع-، عام 41هـ، وبدأت في تاريخ الأمة الإسلامية مرحلة جديدة.
وفي هذه المرحلة لم تستقر حياة الأمة الإسلامية في كل جوانبها - على الأفق الأعلى الذي كان وقت حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين- ولكنها ظلت مع ذلك عالية بالنسبة لكل ما عرفته الأرض من نظم وقيم وحضارات (1) «فليس صحيحا ما اندس في أوهام الكثيرين من أن الإسلام قد انتهى بعد فترة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين، الصحيح - فقط - أن الفترة المثالية قد انتهت وبدأت فترة عادية من تاريخ الإسلام» (2).
ومع بداية الحكم الأموي، بدأت مرحلة الملك العضوض، بنظامه الوراثي ومظالمه، وبدأ أول كسر في المبادئ الإسلامية في سياسة الحكم، وسياسة المال، رافق ذلك التخلي التدريجي من مجموع الأمة عن مراقبة أعمال الحكام، وانصرافها التدريجي إلى أمورها الخاصة (3).
وعلى الرغم من هذا كله فقد كان حجم الانحراف على عهد الأمويين محدودا على أي حال، وإن بدا مجسما غليظا حين يقاس بعهد الذروة (العهد النبوي، والخلافة الراشدة) الذي يبدو كل شيء صغيرا حين يقاس إليه، فقد كانت الأمة على عقيدتها الصحيحة، وأخلاقها المتينة، فاتسعت الفتوحات الإسلامية حتى وصل المسلمون إلى أبواب القسطنطينية، وامتدت دعوة الإسلام إلى الهند شرقا، وإلى الشمال الإفريقي غربا، وقويت دولة الإسلام حتى غدت قوة يرهبها أعداؤها، ويعملون لها ألف حساب (4).
_________
(1) انظر: هل نحن مسلمون؟ لمحمد قطب، ص100.
(2) المصدر نفسه، ص101.
(3) انظر: واقعنا المعاصر لمحمد قطب، ص117، وما بعدها.
(4) المصدر نفسه، ص124.(1/494)
ثم جاء العباسيون، وركبوا الخط الذي بدأه الأمويون، وزادت فجوة الانحراف في عهدهم وأضيف إليها انحرافات من نوع جديد، فقد بقي الملك الوراثي العضوض، زادت سوأته حين جعلوه بالدور، ولو جاء الدور على صبي لا يتجاوز الثانية عشرة - مما أثر على قوة الدولة الإسلامية، فضلا عما جرى من المؤامرات الرهيبة من أجل تولي الملك، ووصل العنف السياسي مداه حتى وصل إلى مذابح بشعة لا يتصور حصولها من مسلمين. وأما السرف في بيت المال، فلقد كان الخليفة العباسي لا يجد حرجًا أن يعطي الشاعر لقاء أبيات في مدحه مائة ألف من بيت مال المسلمين، هذا غير صور الانحرافات الأخرى التي ليس هذا مجال حصرها، وأما مجموع الأمة فقد صارت ترى هذا العبث ولا تحرك ساكنًا (1).
وكان طبيعيًا أن تنهار الدولة العباسية من وطأة هذه الانحرافات مجتمعة، وجاء الانهيار تحقيقا لسنن الله تعالى في الحياة البشرية، ودخل التتار بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية عام 656هـ، فذبحوا الخليفة المعتصم، وذبحوا المسلمين، وأحرقوا كتب العلم التي كانت تعمر بها بغداد، وألقى معظمها في نهر دجلة، وكانت تضم أعظم تراث العالم في ماضيه وفي حاضره (2).
وقد أجمع المؤرخون على أن السبب في هذه النكبة هو الغفلة والترف،
والاستهانة بتعاليم الإسلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وانهارت كذلك الدولة الإسلامية في الغرب، حيث استولى الصليبيون على الأندلس، وطردوا المسلمين منها بوحشية بالغة، وانمحى الوجود الإسلامي من تلك البقعة من الأرض التي كانت مركزا للعلم والحضارة ردحا كبيرا من الزمان (3).
_________
(1) المصدر نفسه، ص124.
(2) البداية والنهاية (7/ 183).
(3) انظر: واقعنا المعاصر، ص138.(1/495)
وعلى الرغم من انهيار الدولة العباسية، إلا أن الأمة الإسلامية كانت ومازالت بخير كثير على الرغم من كل عناصر الفساد التي تسربت خلال الحكم العباسي، ولم يكن انهيار الدولة العباسية هو نهاية الأمة الإسلامية, فقد برزت إلى الوجود دولة إسلامية جديدة، فتية وهي الدولة العثمانية، والتي بقيت ممكَّنة في الأرض زهاء خمسة قرون استطاعت خلالها أن تحفظ كيان المسلمين وأن تحميهم من غارات الصليبيين المتتالية، بل وتوغلت في أوروبا الصليبية، وفتحت للإسلام أراضي وقلوبًا، فدخل الناس في الإسلام بعشرات الملايين، كما منعوا قيام الدولة اليهودية على أرض الإسلام، وغير ذلك الكثير.
ولكن هذا وغيره لا ينفي وجود انحرافات كثيرة، سواء في الدولة أو في حياة الأمة في ظل الدولة، وقد آتت هذه الانحرافات ثمارها السيئة على مدى الأيام (1).
- فكانت هذه أول دولة للخلافة لم تستعرب.
- وكان الوالي في آخر عهد الدولة العثمانية على أي قطر يتولى لفترة محدودة ثم يعزل, فكان يجعل من فترة ولايته فرصة لجمع ثروة من المال تكفيه مدى الحياة.
- وأصاب الدولة العثمانية في آخر أيامها الجمود والتخلف في أرجائها.
- وتسلل الأعداء إلى كيان الدولة وشرعوا في نخرها، ودخلت الأيدي الأجنبية وكانت بدايتها المشئومة في عهد السلطان سليم، والذي اشتهر باسم سليمان القانوني (2).
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كانت الأمة قد تخلت عنه بالنسبة لحكامها منذ زمن بعيد، ولم يكن من المتوقع أن تعود إليه في الجو العسكري الذي قامت فيه الدولة العثمانية.
_________
(1) المصدر نفسه، ص138.
(2) تولي الحكم من سنة 1520م إلى 1566م.(1/496)
- وانشغل المسلمون عن دينهم الصحيح ببدع، وخرافات، ومعاصٍ، وران عليهم جو التواكل والقعود عن الأخذ بالأسباب.
ولكن على الرغم من ذلك لم يكن الإسلام ذاته في نفوسهم موضع نقاش لا بوصفه عقيدة، ولا بوصفه منهجا للحكم، بل ظل حيا محفوظا من التحريف والتبديل، وظلت مشاعل الإصلاح متسلسلة بعضها من بعض لا تطفئها العواصف (1).
ودخل العالم مرحلة جديدة من تاريخه مع بداية القرن السابع عشر الميلادي حيث شن الغرب النصراني حروبه على أنحاء الأمة الإسلامية، وقد سماها بعض الباحثين: «الحملات الصليبية الأخيرة» (2).
وفي هذه المرة كان الموقف قد تغير كثيرا عن ذي قبل، فقد انحرف المسلمون انحرافا شديدا عن حقيقة الإسلام، سواء في التصور أو السلوك، وفسدت المفاهيم لدى الأمة الإسلامية.
- ففسد مفهوم العقيدة، وانحصر في مجرد النطق بالشهادتين دون النظر إلى العمل وتبع ذلك: التواكل المقيت، والسلبية، والوهن، والعجز.
وفسد مفهوم العبادة الشامل، فانحصر في شعائر التعبد المحدودة.
وفسد كذلك مفهوم العمل الصالح فانحصر في مجرد الركعات والتسبيحات والأوراد.
- وتخلف المسلمون كثيرا في مجالات الحياة، بعد أن عجزوا عن الأخذ بأسباب التقدم.
- كما تقطعت أواصر الإخاء بين الأمة الإسلامية، فضعفت قوتهم، وذهبت هيبتهم (3).
_________
(1) انظر: واقعنا المعاصر، ص152.
(2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص19.
(3) انظر: واقعنا المعاصر، ص152.(1/497)
وقد ظلت هذه العوامل الرهيبة، وغيرها تساور العالم الإسلامي، وتهدده, وتتسلل إلى قواعده في إصرار، ووراءها جميع قوى العالم الجاهلي، ولكنها لم تبلغ أن تحطمه من أساسه، ولكنها مع تطاول الزمان، ومع التجمع والترصد واستمرار ذلك ظلت تنقص منه شيئا فشيئا، وتنحرف به عن أصوله رويدا حتى أثخنته فعلا, وهددته تهديدًا خطيرًا (1).
لقد تجمعت انحرافات القرون الطويلة، وتفاعلت بعضها مع بعض، فأدت في النهاية إلى زوال التمكين عن الأمة الإسلامية، وانهيارها من الذروة السامقة إلى الهوة السحيقة (2).
وحين جاءت الحروب الصليبية الأخيرة, والمسلمون على هذا الوضع كان الاحتمال الأكبر أن ينهاروا، ويسلموا أنفسهم للضياع، وسقط العالم الإسلامي فريسة للاحتلال الأجنبي، وتقطعت أوصاله بين براثن المغيرين.
ولا يعني هذا - بطبيعة الحال - أن الأمة قد خربت، ولا أن الساحة قد خلت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا حين نطلق ما نطلق من تعميمات نقصد بذلك الصورة الغالبة، والصورة الغالبة هي التي تقرر الموقف العملي في الحقيقة، وليست القلة المتميزة مهما يكن لها من تميز، إلا أن يكون في أيديها مقاليد الأمور (3).
ويحفظ التاريخ الإسلامي كثيرا من أدوار البطولة في جهاد المحتلين، لكنها كانت بطولات المنهزم، يضرب آخر ضرباته قبل الاستسلام, فقد كانت العقيدة قد توارت خلف الركام، فكان حقا على الناس أن ينتهوا إلى الهزيمة والاستسلام (4).
نعم حدث هذا وكان لابد أن يحدث، لأن المسلمين فقدوا أسباب التمكين
_________
(1) انظر: هذا الدين لسيد قطب، ص39.
(2) انظر: واقعنا المعاصر، ص162، 163.
(3) المصدر نفسه، ص163.
(4) انظر: واقعنا المعاصر، ص10.(1/498)
في الأرض، فعصفت بهم الرياح الهوجاء، وأزالتهم من مكان الريادة، لتلقي بهم في حضيض التخلف والتبعية {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 160] لقد مرت الأمة الإسلامية بثلاث فترات نوعية:
1 - فترة التطبيق الفائق للإسلام، وما صاحبها من تمكين فائق.
2 - فترة التطبيق العادي للإسلام، وما صاحبها من التمكين العادي.
3 - فترة الانحسار وتزايد البعد عن حقيقة الإسلام، وما صاحبها من زوال التمكين وغلبة الأعداء (1).
لقد كان لأسباب زوال التمكين عن الأمة عوامل عديدة منها:
1 - انحراف كثير من المسلمين عن الفهم الصحيح للإسلام، وانصرافهم عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات.
2 - إهمال كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والخروج عن الإسلام في نظام الحياة.
3 - تفرق المسلمين، واحتدام الخلافات السياسية والعصبية، والدينية، في صفوف الأمة الإسلامية.
4 - ضعف القيادة الإسلامية، واستغلال الرياسة لتحقيق الأهواء والمصالح الشخصية بعيدا عن مصلحة الإسلام والمسلمين.
5 - موت روح الجهاد، وضعف أدواته.
6 - التخلي عن الأخذ بأسباب القوة الحسية.
7 - تخلي الأمة الإسلامية عن القيام برسالتها حق القيام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص21.(1/499)
8 - الجمود والتخلي عن الجهاد.
9 - إهمال العلوم العلمية النافعة، والانشغال بفلسفات عقيمة، وعلوم سقيمة.
10 - انتشار الأدواء الخلقية والاجتماعية.
11 - تصدع بناء الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم (1).
وهكذا صارت الأمة بعد أن زال عنها التمكين إلى الأزمة الحالية، والتي لا شبيه لها على مدار التاريخ، وهي أزمة لا يستطيع القلم أن يصفها، أو يحدد معالمها وإنما ينطق به واقع الأمة المرير.
_________
(1) انظر: مجموعة الرسائل، ص131، 132، ومجلة الوعي الكويتية، عدد ربيع الآخر 1414هـ بتصرف.(1/500)
المبحث الخامس
الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين
بدأت بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره مع الحركات الإسلامية منذ القرنين الماضيين, وتوارثت الأجيال الحاضرة تلك التجارب التي تركت لنا معالم فقه التمكين, ومن أهم هذه الحركات:
أولاً: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي، ولد سنة 1115هـ، 1703م في بلدة العينية الواقعة شمال الرياض, بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو مترا، أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب (1).
ونشأ على حب العلم، فطلبه منذ صغره وظهر منه نبوغ وتميز، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، وتتلمذ على كتب ابن تيمية في الفقه والعقائد والرأي وأعجب بها أيما إعجاب, وتأثر بكتب ابن القيم، وابن عروة الحنبلي وغيرهم من فحول هذا المنهل السلفي (2).
ورحل في طلب العلم إلى مكة، والمدينة، والبصرة، والأحساء، وتعرض لفتن عديدة عندها جاهر بآرائه في العراق ثم رجع بعد ذلك إلى نجد.
أ- إعلان دعوته:
وعندما رجع إلى حريملاء ببلاد نجد بدأ بدعوته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاشتغال بالعلم والتعليم، والدعوة إلى عقيدة التوحيد الصافية، وحذر من الشرك ومخاطره وأنواعه, وتعرض لمحاولة اغتيال من بعض السفهاء في حريملاء وانتقل بعد ذلك إلى بلدته العينية وتلقاه أميرها بالترحيب وشجعه على
_________
(1) انظر: إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحمد القطان، ص35.
(2) المصدر نفسه، ص36.(1/501)
أمر الدعوة، فأقام الشرع ونفذ الحدود، وهدم القباب ولم يستمر في حريملاء طويلا بسب بضغط أمير الأحساء على أمير حريملاء لقتل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فخرج ماشيًا على الأقدام إلى الدرعية.
ب- تحالفه مع محمد بن سعود:
استطاع محمد بن عبد الوهاب أن يتحالف مع الأمير محمد بن سعود الذي قدم ماله ورجاله من أجل دعوة التوحيد، وكان هذا التحالف على أسس متينة, واستطاع الشيخ أن يواصل دعوته للناس بالتعليم والرسائل، والوعظ, واستمر على هذا الحال يعلم الناس ويكتب الرسائل ويدبجها بالحجج والبراهين والأدلة على صحة دعواه، يدعو إلى إزالة المنكر وهدم قباب القبور، وسد ذرائع الشرك، وتحقيق العبودية لله وحده (1)، وظلت الدعوة مسالمة متأنية، تطرق القلوب برفق وأناة، وتدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمر يعلم من يحضر دروسه ويوضح عقيدته، ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والداني، ولكنه رأى أن اللين يقابل بالشدة، وأن الصدق يقابل بالكذب، والموعظة الحسنة يرد عليها بالمؤامرات، فلم يكن بد من دخول مرحلة الجهاد وتغيير المنكر بالقوة.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها (2)
وبدأ الشيخ يعاونه الأمير محمد بن سعود بإعداد العدة من الرجال والسلاح للخروج بجموع المجاهدين من الدرعية إلى خارج حدودها لنشر الدعوة وتثبيت أركانها في الجزيرة وخارجها، وكان الشيخ يشرف بنفسه على إعداد الرجال، وتجهيز الجيوش وبعث السرايا, ويستمر مع ذلك على الدرس والتدريس، ومكاتبة الناس، واستقبال الضيوف، وتوديع الوفود، فقد جمع الله له العلم والجاه، والعزة والتمكين بعد جهاد طويل (3). وقد كان له نظر سياسي ثاقب، وخبرة واسعة
_________
(1) انظر: إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص45، 46.
(2) انظر: استمرارية الدعوة، محمد السيد الوكيل (3/ 293).
(3) انظر: إمام التوحيد محمد بن عبد الوهاب، ص53.(1/502)
في أمور الحرب والسياسة ومما يذكر أنه كان يشرف بنفسه على إعداد المجاهدين وتحضير الكتائب وتسيير المقاتلين (1).
واستمرت الحروب بين أنصار الدعوة وأعدائها سنين عديدة وكان النصر حليف أصحاب الدعوة في أغلب المواقف, وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى، وفي عام 1178هـ - 1773م، فتحت الرياض بقيادة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفر منها حاكمها السابق دهام بن دواس، وكان حاكما ظالما غشوما، اعتدى على الدعاة مرارا، ونقض العهود التي أبرمها مع القائمين على الدعوة. وبعد فتح الرياض اتسعت رقعة الأرض التي تخضع للدعوة ودخل كثير من الناس في الدعوة مختارين، فقد أزيلت العوائق التي كانت تصدهم عنها، وانفرجت الأمور بعد ضيق، وجاء اليسر بعد العسر، وكثرت الأموال، وهدأت الأحوال, وأمن الناس في ظل الدولة الإسلامية الفتية، التي حرم الناس من نعمة الأمن والاستقرار مدة غيابها (2).
لقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالسنن لتمكين دين الله تعالى، فنلاحظ في دعوته أخذه بشروط التمكين ودعوة الناس وتربيتهم عليها من الإيمان بالله، والعمل الصالح، وتحقيق العبودية ومحاربة الشرك، وتقوى الله تعالى، وأخذه بأسباب التمكين ويظهر حرصه على الأخذ بالأسباب في تحالفه مع الأمير محمد بن سعود الذي وظف جيشه، وحكومته وماله وسلاحه, ورجاله لخدمة الدعوة، ومرت الدعوة بالمراحل الطبيعية من التعريف بها وإعداد من يحملها، ومغالبة أعدائها والتمكين لها، ومر الشيخ بسنة الابتلاء، ومارس سنة التدرج، وشرع في الأخذ بسنة تغيير النفوس، واستخدام سنة التدافع بين الحق والباطل، ولم يترك سنة الأخذ بالأسباب، وهذا كله يدخل تحت فقه التمكين الذي مارسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص78.
(2) انظر: استمرارية الدعوة، د. محمد الوكيل (3/ 294).(1/503)
ثانيًا: حركة الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي:
هو أحمد بن عبد الأحد بن زين العابدين السرهندي يتصل نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - , ولد ليلة الجمعة 14 شوال 971هـ - 1563م بمدينة سرهند ببلاد الهند، وسماه والده «شيخ أحمد» نشأ الإمام السرهندي في بيئة متضاربة فكريا، متعارضة عقديا، مضطربة خلقيا، فقد ترعرع في عهد الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر، من أباطرة آل تيمور المغوليين الذي انحرف عن الإسلام والذي سيطرت عليه فكرة حلول الألف الثاني من عمر الإسلام، وقد تأثر بدعوة بعض الفلاسفة المارقين عن الإسلام بقولهم إن عمر الإسلام الطبيعي ألف عام، أما وقد انقطعت، وبدأ الألف الثاني فإن الدنيا في حاجة إلى عهد جديد تتابع فيه مسيرتها، كما أنها في حاجة ماسة إلى دين جديد يمارس الناس من خلاله حياتهم الدينية، وتشريع جديد ينظم شئونهم ويدبر معاشهم، ويستغنون به عن الدين الذي سلف وذهابه بذهاب ألف سنة من عمره, واستحوذت فكرة الدين الجديد على نفس الملك أكبر, وشكل لجانًا لنشر الدين الجديد ونشرها في نواحي الهند، لقد كان ذلك الدين يحتوي على الشرك بكل أنواعه وأصنافه، فدخلت عبادة الشمس والكواكب بدلا من التوحيد الخالص، وأبدلت عقيدة البعث والنشور بعقيدة التناسخ، وأحل الدين الجديد الربا والقمار، والخمر والخنزير, وأباح الزنا وصدر قانون بتنظيمه, وحرم ذبح البقر، وحرم الحجاب .. إلخ.
وانتشرت النظريات الفلسفية التي كانت تؤمن بأن العقل وحده قادر على إدراك الحقائق الحاضرة منها, والغائبة, حتى استغنوا بالعقل عن الرسل والرسالات وكل ما يتعلق بهما.
وفي خضم هذه الاضطرابات وتلك الفوضى كان الإمام السرهندي قد قارب الثلاثين من عمره، وكان قد تسلح بالعلوم الدينية، وأصول أهل السنة وقد حباه الله -عز وجل- عقلاً راجحًا, وفكرًا ثاقبًا, وذوقًا مرهفًا، وقلبًا واعيًا،(1/504)
فاستعمل كل مواهبه لخدمة الإسلام والمسلمين ووقف متحديًا كل هذه الأفكار الضالة كاشفًا عورات هذه السخافات والبدع والخرافات، بل عمل حتى وصل إلى بلاط الملك أكبر في عهد ابنه وتغير الدين الباطل الذي كانت عليه الدولة إلى دين الإسلام الصحيح (1).
منهج الإمام السرهندي للوصول إلى مرحلة التمكين:
1 - اهتم بتعليم وتربية مجموعات هائلة من أفراد الأمة وأعدهم إعدادا تربويا عمليا، دعويا رفيع المستوى ثم أرسلهم إلى القرى والمدن لدعوة الناس.
2 - اهتم بنقد فكر الفلاسفة المنحرف، والصوفية الباطلة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد, وبين الطريق الصحيح لمعرفة الحق، والوصول اليقيني إلى معرفة الإله الواحد من خلال القرآن ومنهج أهل السنة والجماعة.
3 - حارب كل أنواع الشرك ومن أقواله في ذلك: «إن تعظيم مظاهر الشرك وأعياد الجاهلية من أعظم أنواع الشرك بالله - عز وجل - وإن من يعتقد بصحة دينين، وصلاحيتهما في وقت واحد، فهو مشرك، وإن من يعمل بأحكام الإسلام وأعمال الكفر والشرك فهو مشرك، ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة من الشرك ومحادته ومعاداته، وإن التوحيد هو الاشمئزاز والتبرم من كل شائبة من شوائب الشرك (2)».
4 - اهتم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، وخلود رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعم وحدة المسلمين وإعادتهم إلى حظيرة الإسلام، وكان سببا في حماية المسلمين في بلاد الهند من ردة محققة.
5 - قاوم المد الشيعي الذي اخترق البلاط الملكي في عهد نور الدين جهانكير بن الملك أكبر ورفع راية أهل السنة جهارا نهارا، بل استطاع أن يصل إلى معسكر الملك وبلاطه بواسطة تلميذه بديع الدين السهارنبوري.
_________
(1) استمرارية الدعوة والدعاة (3/ 205 - 207).
(2) انظر: رجال الفكر والدعوة للندوي (3/ 226).(1/505)
6 - اهتم بالأمراء الذين ظهر منهم تدين، وفيهم شهامة وحب للخير، فهذا الأمير خان جهان وكان الملك جهانكير يحبه حبا جما، ويعتمد عليه في كثير من شئون الدولة كتب إليه السرهندي يحثه على نصرة دين الله فيقول له: «لو جمعتم بين ما تتبوأون من منصب كبير، وبين العمل على الشريعة الإسلامية، لأديتم أمانة الأنبياء - عليهم الصلوات والتسليمات- وأوضحتم الدين المتين وأضأتموه وعممتموه، ولو جهدنا - نحن الفقراء - أنفسنا أعوامًا طوالاً لما لحقنا بغبار أمثالكم من صقور الإسلام.
ألا نفوس أبيَّات لهم همم ... أما على الخير أنصار وأعوان (1)
وكانت لرسائله أثرًا طيبًا في التأثير على القادة والأمراء والتفافهم حول القرآن والسنة.
7 - استطاع الإمام السرهندي بعد جهاد مرير، وبلاء عظيم أن يصل إلى الملك نفسه وأصبح من حاشيته ولم يترك جلساء السوء ينفردون به بل عمل على دعوة قواد الجيش وحاشية الملك إلى الإسلام الصحيح، وتأثروا بالإمام السرهندي لما رأوا فيه من حسن الخلق وغزارة العلم، وإخلاص للدين، وزهد وورع متين، وحكمة في الدعوة إلى الله، ولقد تعاون أولئك القادة مع الإمام السرهندي من أجل التمكين لدين الله وما هي إلا فترة وجيزة حتى أزيل دين الملك أكبر، الذي فرضه على الرعية، وأعيد للإسلام
مكانته الرفيعة (2).
لقد تأثر الملك جهانكير بمبادئ الإمام السرهندي وأقواله، فاستبدل بالإلحاد الإيمان، وأحل الإسلام محل الزندقة، وجاهر بذلك على رءوس الملأ من قومه.
لقد أظهر الملك شعائر الإسلام ورفع أحكامه، وأعز أهله وبكى كثيرا على سابق تفريطه.
_________
(1) انظر: استمرارية الدعوة (3/ 255).
(2) استمرارية الدعوة (3/ 250).(1/506)
إن الإمام السرهندي مدرسة مهمة في فقه التمكين وله منهجية رائعة في أساليب الدعوة حققت نتائج عظيمة للمسلمين في الهند.
إن الاقتراب من رجال الدولة والملوك والأمراء من أجل دعوتهم إلى الإسلام وتمكين دينه قام به العلماء والدعاة من أمثال الإمام السرهندي وحققت نتائج طيبة في نصرة دين الله.
* * *
ثالثًا: الحركة الإسلامية في السودان:
إن ما قام به المسلمون في السودان من أروع تجارب التمكين المعاصرة، حيث استطاعت الحركة هناك بعد توفيق الله أن تمر بمراحل التمكين من تعريف المجتمع السوداني حقيقة الدعوة، واختيار عناصر لتحملها، إن وصول الإسلاميين في الحكم لم يأت من فراغ، وإنما جاء بعد كفاح مرير، وجهاد مشكور، وإعداد تربوي، وفكري، ودعوي ومعنوي ومادي، وأخذ بسنن التمكين، وفهم المعادلة المحلية، والإقليمية والدولية، وإعداد الكوادر التربوية، والسياسية، والإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والعسكرية .. ، إلخ، ودخلت في المجال السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والتعليمي، والاقتصادي وجهزت كوادر في كافة مجالات الدعوة، والحركة والتغيير ودخلت المعترك السياسي في الستينات، وتعرضت لمحن ترتب عليها دخول زعمائها للسجن، واضطر بعضهم للهجرة، واستشهد آخرون ووسعت المعارضة للحكم تحت واجهة جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة الترابي.
وفي عام 1977م تصالح نظام النميري مع جبهة الميثاق واستفادت الحركة من هذه الفرصة التي كانت بسبب التواجد الشعبي والرصيد القومي، وكوادر الحركة المنتظمة مما جعل حكومة النميري تضطر لمصالحتهم والاعتراف بقوتهم، فتصالح الاتجاه الإسلامي مع النظام العسكري واحتل قادة الحركة الإسلامية مناصب ومراكز قيادية في حزب الاتحاد الاشتراكي السوداني، وتقلدوا عددًا من الوزارات وكانت هذه التجربة متميزة وحققت للحركة الإسلامية بعض الإيجابيات من أهمها.(1/507)
1 - تدريب عناصر وكوادر الحركة على قيادة بعض الوزارات ومعرفة حقيقة الدولة عن قريب، ومعرفة مواضع الضعف والقوة بطريق التجربة.
2 - معرفة قوة الحركة الحقيقية وهل لها القدرة على إدارة الدولة وحدها أم لا بد من الإعداد والسعي من أجل إكمال النقص والقصور الذي يظهر للقيادة من خلال الممارسة الميدانية.
3 - دحض شبهات العلمانيين القائلة بأن الإسلاميين لا يستطيعون أن يقودوا الوزارات وبالتالي فهم أعجز الحركات في إدارة دفة الدولة.
4 - التأثير على الوزراء وكبار رجال الدولة بالاحتكاك والمخالطة والمناقشة والحوار وتبادل الآراء وضرب أروع الأمثلة في الأمانة والعفة والصدق والمراقبة والدقة والتخطيط والإدارة .. إلخ.
5 - إزالة الحاجز النفسي الذي كان يفصل بين الحركة ومعارضيها وذلك بإعطاء فرصة للخصوم لتكوين فكرة سليمة عن الحركة، وإزالة المخاوف التي كانت في أذهان بعض المخلصين من الوطنيين، لقد اقتنعوا باعتدال الحركة وتحركها المسئول الواعي، واحترامها للرأي الآخر، إذ أظهرت مرونة وقدرة على التنسيق والحوار مع الأحزاب والحكومة والشخصيات السياسية وبذلك أزيل الحاجز النفسي الذي كان يفصل بين الحركة والآخرين.
6 - طرحت أفكارها ومواقفها الإسلامية في الأحداث الدولية ودفعت الحكومة إلى الالتزام بها.
7 - اهتمت بدعم القضايا الإسلامية، مثل قضية فلسطين وغيرها.
8 - خفضت من حدة التوتر بين النظام وبين الإسلاميين وأضاعت الفرصة على أعداء الحركة وأعداء السودان الذين أرادوا أن يستمر الصراع بين الحركة والحكومة.(1/508)
9 - واجهت الفساد الإداري والمالي، ودعمت السلك القضائي ووقفت معه من أجل العدل وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
10 - أضافت للدعوة منابر أخرى ونشرت من خلالها فكرها ودعوتها وساهمت في تقوية الرأي الإسلامي في الشارع السوداني وغير ذلك من النتائج الإيجابية.
حاول النميري أن ينفرد بالسلطة في آخر عصره وأودع قادة الحركة الإسلامية في السجون إلا أن جهوده فشلت وتحالف الجيش مع الشعب وأسقط نظام النميري وجاء سوار الذهب كمرحلة انتقالية، ثم سلم البلاد إلى عصر الأحزاب التي تكالبت على امتصاص خيرات الشعب السوداني وساءت أحوال البلاد، وانهارت الديمقراطية وسعت الأطراف المختلفة للاستيلاء على الحكم وتسابق الإسلاميون العسكريون مع بقية التنظيمات داخل القوات المسلحة واستطاعوا أن يصلوا إلى الحكم وتحالفوا مع الحركة الإسلامية التي اهتمت بدعوة الجيش كشريحة من شرائح المجتمع إلى الإسلام، وكان اهتمام الحركة بالجيش في السبعينات وما تلاها وامتد التواجد الدعوي للحركة الإسلامية إلى قطاعات واسعة من الجيش، بحيث تمكنت فيما بعد من تغيير الواقع بأقل الخسائر الممكنة، وأخف المجهودات المبذولة، موفرة الدماء والاقتصاد ومحافظة على الوحدة بين أبناء الشعب السوداني.
شبهة والرد عليها:
رأى بعض الدعاة أن مسلك الانقلاب العسكري غير صحيح للوصول لمرحلة التمكين وقالوا: "إن فكرة الانقلاب العسكري فكرة غربية؟ بل وأمريكية خالصة، فعندما تسلمت أمريكا قيادة العالم الغربي وجدت إنكلترا وفرنسا متحكمة في البلاد التي كانت تخضع لها عن طريق حفنة من أهل البلاد ... أهلتها فرنسا وإنجلترا للحكم لاسمها بعد خروجها. فلم يكن أمام الأمريكان طريق إلا الانقلاب العسكري الذي ينقض على كل المكتسبات كالدستور، والبرلمان(1/509)
فيلغيها .. ويلقي بالحفنة التي سلمتها القوى الغربية الأخرى مقاليد السلطة فيسحقها أو يزج بها في السجن ... (1)
"الانقلاب العسكري معناه فرض اتجاه معين، ورأي معين أو شخص معين بل وإرهاب الشعب وليس تربيته، وإجباره بقوة السلاح لا بقوة الحجة، وتكون الغلبة لحجة القوة، لا لقوة الحجة والمنطق والإقناع، والكلمة الأخيرة للأقوى، لا للأتقى والأعلم، وللأحمق لا للأصلح ... (2) هـ
إن الشعوب الإسلامية لو ترك لها حق الخيار لاختارت الإسلام، فإذا كانت الأحزاب العلمانية تصر على مصادرة الحريات، ومنع الشريعة أن تسود وتحكم المسلمين واستطاعت مجموعة من الأخيار المسلمين أن تنزع الحكم من الأحزاب العلمانية وتطبق شرع الله يكون سعيها ذاك جهاد في سبيل الله تعالى، كيف لا وهم قد أزاحوا عن الأمة حكم الأحزاب العلمانية، والدساتير الوضعية، والقوانين البشرية وخلّصوا أمتهم من الظلم البشري والغطرسة الكفرية، وأعانوهم على
تحكيم شرع ربهم، لقد تكلم العلماء في كتب السياسة الشرعية وغيرها عن: انعقاد الإمامة بالغلبة والقهر، فيما بين المسلمين، فكيف لو انتزع الحكم من العلمانيين؟ ذهب جمهور فقهاء أهل السنة منهم الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والنووي، وإمام الحرمين الجويني، وابن خلدون، وبعض علماء الحنفية وغيرهم إلى أن من غلب الناس واستولى على الخلافة بالقهر فإنه يصبح إمامًا تجب طاعته (3) يقول الإمام أحمد بن حنبل: "ومن غلب عليهم بالسيف حتى
صار خليفة، وسمى أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمام " (4).
_________
(1) تحديات سياسة تواجه الحركة الاسلامية للطحان، ص 98.
(2) التغيير على منهاج النبوة، جمعة أمين عبد العزيز، ص 291.
(3) انظر: نظام الحكم في الاسلام، د. عارف خليل أبو عيد، ص 126.
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 4،(1/510)
ويقول الإمام يخرج عليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع ذاك قوم تكون الجمعة مع من غلب، واحتج بالخبر المروي عن ابن عمر أنه صلى بأهل المدينة زمن الحرة وقال: " نحن مع من غلب " (1) وهذا مذهب الإمام الشافعي فقد روى البيهقي بإسناده عن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول. " كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة، ويجمع الناس عليه فهو خليفة " (2).
وقال الإمام النووي: " أما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء، فإن مات الإمام فتصدى للإمامة من جميع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعًا للشرائط بأن كان فاسقًا أو جاهلاً فوجهان، أصحهما انعقادها لما ذكر، وإن كان عاصيًا بفعله " (3).
إن الذين يعطلون شرع الله تعالى، ويمنعون حق الأمة في الاختيار يجب إزاحتهم ولو بالقوة، فإن استطاعت حركة إسلامية في بلد ما أن تزيح حزبًا علمانيًّا من على سدة الحكم، وعملت على إرجاع الشريعة والدستور الإسلامي ثم أعطت لشعبها حق الاختيار في مَنْ يشرف على تحكيم شرع الله ومن يقودها إلى العزة والنصر والتمكين، فذلك العمل العظيم يوافق مقاصد الشرع، وينسجم مع أصول الشريعة ولا يتعارض مع العقل ولا النقل ولا الفطرة، إن الحركة الإسلامية
في السودان استطاعت أن ترتقي بمؤسساتها حتى استطاعت أن تدير دولة في هذا الخضم من العداء بين الحق والباطل، فلم يتحرك الجيش بقيادة الإسلاميين للوصول للحكم إلا بالتعاون مع الحركة الإسلامية التي تغلغلت في كافة شرائح المجتمع السوداني؛ فأحسنت في إعدادها، وإن كان التقصير من صفات البشر، وأحسنت اختيارها لوقت التحرك، وكان التوفيق الرباني حليفها، ونحن هنا لا ندعي لها
_________
(1) انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى نقلاً عن نظام الحكم في الإسلام، ص 126.
(2) انظر: نظام الحكم في الإسلام، ص 127.
(3) روضة الطالبين (10/ 46).(1/511)
الكمال؛ بل نقول بأنها وصلت إلى مرحلة من التمكين سَرَّت المسلمين وأحزنت الدوائر العالمية المعادية للإسلام؛ فعملت على إسقاطها ولا زالت، وأظهرت الحركة كفاءة عالية في الجهاد، ومهارات رفيعة في الصراع السياسي، وكوادر خيّرة في كافة المجالات وهي تنتقل يومًا بعد يوم من الأسوأ إلى الأحسن، ولا زالت القوى اليهودية والنصرانية والعلمانية تسعى لإزالة تلك الدويلة الإسلامية من الوجود، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن التجربة الإسلامية في السودان حريٌّ بأبناء الأمة، وطلاب العلم فيها أن يدرسوها دراسة مستوعية ليستخرجوا منها دروس وعبر لطلائع الحركات الإسلامية التي تسعى لتمكين شرع الله في الأرض.
***(1/512)
الفصل الثاني
أهداف التمكين
تمهيد:
إن من القضايا المهمة التي يجب بحثها أهداف التمكين ومقاصده الأساسية، وإذا رجعنا لنصوص القرآن والسنة نجد أن من أهداف التمكين ما يلي:
1 - أن يتمكن المجتمع المسلم من إقامة سلطة سياسية تستند على مبادئ واضحة وقواعد بينة وأصول متينة، وتستمد تلك القواعد والأصول من القرآن الكريم ونظام الحكومة في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والزمن الراشدي حيث ساد القانون الإلهي، والعدل بين الناس, والمساواة, وظهرت مسئولية الحاكم، والرعية، وطبق نظام الشورى، وإقامة نظام الحياة الإسلامية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، وإقامة الحدود ... إلخ، وقد كان ذلك كله ترجمة عملية لقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
كما يقول الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله -: «إن الآية الكريمة تصرح بالنتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في هذا القتال المشروع، فهي ليست استعمار الشعوب، ولا أكل خيراتها، ولا انتهاب ثرواتها، ولا إذلال كرامتها، وإنما هي نتائج لمصلحة الإنسانية، ولفوائد المجتمعات فهي:
1 - لنشر السمو الروحي في العالم عن طريق العبادة {أَقَامُوا الصَّلاَةَ"
2 - ولنشر العدالة الاجتماعية بين الشعوب عن طريق الزكاة {وَآتَوُا الزَّكَاةَ"
3 - ولتحقيق التعاون على خير المجتمع وكرامته ورقيه {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ"
4 - وللتعاون على مكافحة الشر والجريمة والفساد {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ"
تلك هي النتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في قتالهم أعداءهم من إقامة دولة إسلامية تعمل على سمو الروح، وتكافل المجتمع، ورقي الإنسان عن(1/513)
طريق الخير، ومنع انحداره عن طريق الشر، فأية غاية إنسانية أنبل من هذه الغاية التي شرع من أجلها القتال في الإسلام (1).
ويؤكد هذا الهدف قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا - فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 60، 61].
فالله سبحانه وتعالى يبين هدف تمكين الأمة وغايته والذي يتمثل في قيادة الأمة لنفسها وللبشرية بكتاب الله تعالى، الذي نهى عن الانحراف عن هذا النهج الرباني إلى تشريع آخر وهو الطاغوت، هذه هي غاية وجود هذه الأمة والهدف من إقامة دولتها، يقول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. فهذه الآيات تحكم على من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم، وهي تدل على وجوب إقامة شرع الله في حياة الجماعة المسلمة، وأنه لا طاعة لولاة الأمور إلا إذا قاموا بهذه الوظيفة، التي تتمثل في تطبيق الشريعة الإسلامية التي أوصى الله تعالى بها, والسنة تقرر أن طاعة ولاة الأمر منصبة على تنفيذ الحكم الشرعي، لقد بين الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأهداف السامية من التمكين وهي تطبيق شريعة الله، والقضاء على الظلم والانحراف في الأرض، ونشر الإسلام والدعوة إليه عقيدة ونظاما، وذلك لأن الشريعة الإسلامية لم تأت لقوم دون قوم، أو مجتمع دون مجتمع، بل جاءت خاتمة لما قبلها من الشرائع، ومخاطب بها كل أفراد البشر من حين بعثة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن تنتهي الدنيا (2).
وفيما يلي مباحث تتناول هذا الهدف وما ينتج عنه من مبادئ وأسس:
_________
(1) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص109، 110.
(2) انظر: نظام الحكم في الإسلام، د. عارف خليل أبو عيد، ص68 - 70.(1/514)
المبحث الأول
إقامة المجتمع المسلم
إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع المسلم الذي تتحقق فيه العبودية الشاملة لله تعالى، ولذلك لابد من إقامة دولة الإسلام بدعائمها ودستورها، وقواعدها ومبادئها، ولابد من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وتطبيق الحدود، وتعليم الأمة ما ينفعها في الدنيا والآخرة، وممارسة قواعد النظام السياسي الإسلامي من الشورى والعدالة والمساواة ... إلخ.
أولا: إقامة دولة الإسلام ودعائمها ودستورها:
إن من الوسائل المهمة في تحقيق العبودية لله تعالى -بحيث لا يعبد في الأرض سواه- إقامة دولة إسلامية، تحارب الباطل بأشكاله وأنواعه، وتناصر الحق وأتباعه, وللدولة الإسلامية دعائم مهمة تقوم عليها، ومبادئ تستند لها وأهداف تسعى لتحقيقها، وقواعد تعمل على ترسيخها، إن السعي لإقامة دولة إسلامية ينبعث من كون الدولة جزءًا من تحقيق الإسلام الشامل، ولم تكن هذه الدولة فكرة نظرية مجردة، بل كانت واقعا عاشه المسلمون فترة طويلة من الزمان قامت في كنفها حضارة وانتشر خلالها الإسلام في شتى أنحاء العالم، ورغم أن الدولة مرت بفترات من القوة والضعف ودب الوهن في جسمها فإنها ظلت متمسكة بالأساس الذي قامت عليه، ولم تتنازل عن الميثاق الذي ربط عراها وهو الكتاب والسنة، وتبلور من النظرية والتطبيق أسس معينة ميزت الدولة الإسلامية وجعلتها نموذجا حاولت البشرية أن ترتقي إليه من خلال نظمها الإنسانية ولكن هيهات.
أما تلك الدعائم التي قامت عليها الدولة الإسلامية وميزتها عن غيرها فتتمثل
فيما يأتي:(1/515)
القوة والضعف، والسلامة والمرض، ولكنها لم تتنازل أبدا عن سر بقائها وهو دستورها الوحيد المتمثل في الكتاب والسنة، إن أجيال المسلمين في الماضي البعيد، والحاضر القريب توقن إيقانا راسخا بأن هناك ارتباطا وثيقا بين دولة الإسلام وعقيدة الإسلام، فقوة الدولة رفعة للعقيدة، وحماية للعقيدة، ومما يدل على عمق الشعور بالارتباط بين الدولة والعقيدة لدى جماهير المسلمين خلال التاريخ الإسلامي أنه -وكما هو موجود بكثرة في كتب الحديث والسير والتاريخ- كان علماء المسلمين وقواد جيوشهم وأفاضل كل عصر، إذا بايعوا الخليفة منذ عهد أبي بكر فمن بعده يبايعونه على كتاب الله وسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فربطوا البيعة بالكتاب والسنة لتظل الدولة قائمة عليهما، ولتستمد بقاءها ومبرر وجودها من الحفاظ عليهما.
إن دولة الإسلام تمثل بين سائر الدول الدولة الصالحة القائمة على العقيدة والشريعة ولابد لدولة الصلاح أن تكون أركانها ودعائمها صالحة كلها، ولذلك من أهداف التمكين تحقيق هذه الدعائم المتمثلة في نظام حكم شرعي ورعية صالحة ملتزمة بشرع الله، وحاكم صالح يسهر ويجتهد من أجل تحكيم شرع الله وإليك بيان هذه الدعائم.
أ- نظام الحكم الشرعي: (الحاكمية):
إن النظام الإسلامي في الحكم يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين وأخلاقه وعقيدته, فالواقع العملي يدل على ذلك، فخاصة المسلمين في كل عصر منذ عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وطيلة عهود الخلافة كانوا يبايعون الخلفاء والأمراء على كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويجعلون ذلك أساس الارتباط مع الدولة فكلما تمسك الولاة بالشريعة قويت الآصرة بينهم وبين خاصة الأمة, وبالتالي عامتها، ولقد اقترنت السياسة بالدين في الإسلام وارتبطت العقيدة الصحيحة، ولم يبق في الأرض عقيدة سليمة غيرها، وارتبطت بالمعايير الأخلاقية التي لا تستمد إلا(1/516)
من الدين، وما أحوج السياسة إلى عقيدة تنطلق منها وأخلاق تسير عليها (1).
لقد جمع الإسلام بين الرسالة والخلافة، لأن الإسلام غاية مراد الله من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة، ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر التمكين في الأرض للمؤمنين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء: 64] ولذلك أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة, ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة، إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى (2).
إن تحقيق حاكمية الله على الأمة من خلال دولة مسلمة هو محض العبودية لله، لأن بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين، قال تعالى: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] يعني: «ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات والمعاملات إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله, ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة» (3).
ويقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزًّا شديدًا.
إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعيًا أخص خصائص الألوهية، وهي الربوبية، أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه، ودينونتهم لفكره وقانونه, وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه - ولم ينطق بلسانه - فالعمل دليل أقوى من
_________
(1) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 537) عبد العزيز مصطفى.
(2) انظر: تفسير التحرير والتنوير (1/ 707).
(3) تفسير المنار (12/ 309).(1/517)
القول، وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الصالحة عن قلوب الناس، فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، والخضوع للحكم عبادة، بل هي (1) أصل مدلول العبادة» (2).
لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى، قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ - أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3] وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [النساء: 105] فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل، فكذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع مُنزل، أو بما له أصل في شرع منزل (3).
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] فالكتاب والميزان هما: ما نقل صدقًا، وما شرع عدلاً لإقامة الناس على شريعة الحق اتباعًا للرسل، فمن أبى فقد جعل الحديد رادعًا لكل معاند بعد قيام الحجة (4). إن إقامة حكم الله على المجتمع من خلال الدولة عهد وميثاق ذكره الله تعالى في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7] فهذا تذكير من الله لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي شرعه لهم في هذا الدين العظيم، المرسل به الرسول الكريم، وأخذ للعهد والميثاق
_________
(1) هكذا الضمير في الأصل المطبوع (هي) ولعل الأوفق للسياق (هو).
(2) في ظلال القرآن (4/ 1991)
(3) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/ 433).
(4) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 315).(1/518)
عليهم في متابعته ونصرته وإبلاغه والقيام به، وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على السمع والطاعة في المنشط والمكره، كما أن الإخلال بعهد الحاكمية جاهلية, قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ففي الآية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجب من حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغي حكم غيره، والآية تعبير لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي (1).
إن تحقيق الحاكمية، تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي ليطيعوه وحده لا شريك له (2). وإن المفهوم الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علائق وأعمالا كثيرة، منها ما يمكن أن يقيمه الأفراد ومنها ما لا يمكن تحقيقه على الوجه الأكمل إلا في ظل دولة الإسلام، أو بمعنى آخر: منها ما يتم بالتحاكم ومنها ما يتم بالحكم، ولاشك أن دولة الإسلام تقصد إلى تهيئة المجتمع الإسلامي للقيام بالعبادة بهذا المعنى الشامل، ونحن عندما نقول إن الدولة في الإسلام تقصد إلى تحقيق العبودية فالمراد أنها تحمي أصول هذه العبودية ولا تمكن أحدا من الاعتداء عليها كما يحدث في الدول التي لا تحكم بما أنزل الله.
وإذا كان للعبادة أصلان أحدهما: أن لا يُعبد إلا الله.
والثاني: أن يُعبد بما أمر وشرع (3) , فإنه مما لا شك فيه أن دولة الإسلام مسئولة عن حماية هذين الأصلين بمحاربة الشرك في داخلها وتعمل على تقليص نفوذه خارجها، وهي تحمي الشرع ضد من يعتدي عليه بابتداع أو تحريف أو تغيير أو تبديل، وكل ذلك يعين على تحقيق العبودية لله على الوجه المرضي، وعلى
_________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 239).
(2) المصدر نفسه.
(3) مجموع الفتاوى (10/ 173).(1/519)
حماية الدين من دخائل وانتحالات المضلين، وبهذا تكون الدولة إسلامية بالمعنى الصحيح، فلا ينبغي أبدا قصر مفهوم إقامة الدين على العبادة بمعنى إقامة الشعائر، واعتبار الدولة التي تظهر بعض هذه الشعائر مقيمة للدين، ومظهرة للعبودية بادعاء أنها تقيم من الإسلام أهم ما فيه وهو العبادة.
يقول الشيخ أحمد شاكر: «فمن زعم أن الدين عبادة فقط، فقد أنكر كل هذا (1)، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائنا من كان، أو لهيئة كائنة من كانت أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط، ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن ملة الإسلام جملة ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (2).
إن كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» أقرت أن الحاكمية لله عز وجل، وهي من أولى خصائص الألوهية، التي ينفرد بها سبحانه وتعالى، وليس لأحد من البشر كائنا من كان، أن يدعيها, فالمشرع والمحل والمحرم هو الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن مفهوم الحاكمية يشمل جميع نواحي الحياة الإنسانية، فإلى جانب العلاقة بين الإنسان وخالقه من شعائر تعبدية، فإن هذا المفهوم يشمل أيضا العلاقات بين الإنسان ونفسه، والعلاقة بين الإنسان وأسرته وأقاربه، وما له عليهم وما لهم عليه من حقوق التربية والرعاية مثلا، وكذلك علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وأخيرا علاقة الإنسان بالسلطة الحاكمة، فيطيعها ما دامت مطبقة لشرع الله ومنفذة لأوامره (3).
لقد كانت الشريعة الربانية مهيمنة على المجتمع النبوي، والمجتمع الراشدي، وفي العصر الأول يتجلى في زمن عمر بن عبد العزيز الذي صبغ أوامر دولته وإجراءاته في كل شئون الدولة بصبغة الله تبارك وتعالى, وذلك ما أعلنه - رضي الله عنه - منذ
_________
(1) يقصد بقية أمور الشريعة المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع.
(2) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، ص89.
(3) انظر: النظام السياسي في الإسلام، د. محمد أبو فارس، ص23.(1/520)
الساعات الأولى لتولية أمر المسلمين، إذ قال: «يا أيها الناس: إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليكم كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع، ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع بمعصية الله عز وجل ... » (1).
ويتضح من هذا، إدراك عمر لمفهوم الحاكمية لله عز وجل، وإنه عازم على تطبيق حكم الله في كل أمر، وأنه منفذ لله، وبذلك يحقق الخلافة في الأرض بتطبيق شرعه في خلقه، وذلك ما يبعث الله الرسل من أجله.
كما كتب - رضي الله عنه - إلى العمال، فقال: «أما بعد: فإن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وإن دين الله الذي بعث به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابه الذي أنزل عليه أن يطاع الله فيه، ويتبع أمره، ويجتنب ما نهى عنه، وتقام حدوده، ويعمل بفرائضه, ويحل حلاله ويحرم حرامه، ويعترف بحقه، ويحكم بما أنزل فيه, فمن اتبع هدى الله اهتدى، ومن صد عنه {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] وأن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يفتح لأهل الإسلام باب الهجرة، وأن توضع الصدقات والأخماس على قضاء الله وفرائضه، وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر، لا يمنعون ولا يحبسون» (2).
ففي هذا الكتاب نقل عمر مفهوم مبدأ الحاكمية لله إلى عماله، وأنه يرغب إليهم تطبيق ذلك المبدأ على حقيقته، حيث يتبين أنه عزم أن يكون أي قرار أو إجراء يتخذ في كل أنحاء الدولة، بالنسبة لأي أمر كان، لابد أن يخضع لحكم الله عز وجل وتجري عليه سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبذلك يكون تطبيق هذا المبدأ الأساسي، من قبل كافة الولاة والعمال، في كل أنحاء الدولة الإسلامية، بل
_________
(1) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم، ص35، 36.
(2) المصدر نفسه، ص88.(1/521)
ونجده في آخر الكتاب أوضح أن هناك قرارات إدارية شرع في اتخاذها في حينه، مثل فتح باب الهجرة، وأن تكون الإجراءات المالية حسب قضاء الله، وأن تكون هناك حرية استثمار الأموال برا وبحرا، فكانت تأكيدا ودليلا للولاة، بأنه عازم على إدارة الدولة في دائرة شرع الله وحكمه، وأن ذلك من طاعة الله التي أنزل في كتابه الكريم، فأصدر أمر التنفيذ وقرنه بالتطبيق (1).
إن الدولة الإسلامية تجعل دستورها مستمدًا من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتستمد منهما أمهات الأخلاق وأساسيات العقائد, فهو قانونهم الأكبر الذي ترجع إليه كل القوانين الفرعية.
إن من أهداف مرحلة التمكين وضع نظام نابع من الإسلام ومصادر الشريعة، يتناول كل مناشط حياة الناس، الفردية والعامة، فلابد من وضع الأنظمة التالية على سبيل المثال:
1 - نظام التعليم في كل مراحله المعروفة، بل التعليم المستمد بعد المرحلة التعليمية، يتناول: التعليم، والتدريب، والتثقيف.
2 - ونظام للإعلام، ونظام للاقتصاد والتجارة، والمصارف.
3 - ونظام لتنمية الثروة والموارد.
4 - ونظام لتعامل الفرد مع الدولة وتعامل الدولة مع الفرد، بحيث يحفظ للدولة هيبتها، وللفرد كرامته وإنسانيته.
5 - نظام للجيش والتجنيد وما يتصل به.
6 - نظام سياسي للدولة، يوضح الأسس التي تقوم عليها سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وما فيهما من تفريعات ضخمة.
7 - نظام للعمل والعمال ونقاباتهم.
_________
(1) انظر: إدارة عمر بن عبد العزيز، محمد القحطاني، ص278.(1/522)
8 - ونظام للخدمات التي تؤديها الدولة للمواطن مثل:
- الخدمات الاجتماعية العامة.
- والخدمات الصحية.
- والخدمات التي تقدمها المرافق العامة في الدولة.
9 - ونظام الدعوة إلى الله ونشرها على مستوى العالم كله.
10 - ونظام للتعامل مع الدول التي لا تدين بدين الإسلام.
11 - ونظام للمساجد والأوقاف.
12 - ونظام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وغير ذلك من الأنظمة التي تقتضيها مصالح الناس، أو دفع المضار عنهم.
ولابد من أن تستقي هذه الأنظمة من مصادر الشريعة الإسلامية وحدها.
ويشرف على تنفيذ هذه الأنظمة وكتابتها أهل التخصص ممن تربوا في أحضان الدعوة وعاشوا للإسلام وبالإسلام (1). ولاشك أن الدستور الإسلامي تستمد أصوله من القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة التي تعتبر بيانا وتفصيلا لما في الكتاب، وكذلك أعمال الخلفاء الراشدين ومذاهب المجتهدين، وما أجمعوا عليه في كل عصر، وإن كان التشريع بمعنى التحليل والتحريم، لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة.
وأهم مصادر الدستور الإسلامي، يمكن تعددها فيما يلي:
1 - القرآن الكريم: قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [النساء: 105].
فهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق
_________
(1) انظر: فقه الدعوة إلى الله (2/ 741).(1/523)
بشئون الحياة البشرية، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
2 - السنة المطهرة: هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور الإسلامي أصوله ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن ممثلة في قيادة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأمة, ومن خلال السنة يمكن التعرف على نوعية المجتمع المثالي الذي ينشده الإسلام.
3 - إجماع الأمة: وخاصة الصحابة، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
إن إجماع الصحابة - حكاما ومحكومين - في عصور الخلافة الراشدة، ليس له إلا معنى واحد، وهو الفهم الصحيح للكتاب، والطريق السليم للعمل بالسنة، فهم الذين عاصروا عهد تنزيل الكتاب، وعاشوا طريقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إقامة حياة الناس عليه، فهم أفهم الناس لروح الدين، وأعرف الناس بمقاصد الشرع، وأقدر الناس على التمييز بين الحق والباطل، ومن المستبعد بل من المحال أن يجتمعوا على باطل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة» (1) , ولهذا كان إجماعهم حجة يسوغ أن تراعى وتوضع ضمن مصادر الدستور الإسلامي، وإجماع الأمة قد يكون على فهم نص، ويجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس، ويكون حجة (2).
_________
(1) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم (2/ 464) رقم 4014.
(2) انظر: روضة الناظر وجنة المناظر (1/ 385).(1/524)
4 - مذهب العلماء والمجتهدين: قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
والآية دليل على الأخذ بالاجتهاد إذا عدم النص والإجماع (1) , ولأن العلماء في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالأنبياء في بني إسرائيل، فهم المؤتمنون على نقل العلم، والمفوضون في استنباط الأحكام المتجددة في عمومات الشريعة، لا لعصمة اختصوا بها - فليس في الإسلام كهنوت - ولكن لأهليتهم في أن يسموا «أهل الذكر» والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
فما ذهب إليه العلماء المجتهدون في الأمة وإن لم يكن حجة في ذاته، إلا أنه يساعد كثيرا في فهم روح الشريعة وقواعدها، ومعالجة ما يستجد من قضايا في ضوء هذا الفهم، ثم إن لهم القدرة على ضبط المناط في الأحكام وقياس الفروع على الأصول فيها (2).
وعلماء القرون الأولى هم - ولا شك - المقدمون في هذا المضمار، ثم يقدم العالم كلما كان أكثر قربا من علماء السلف في الهدى والسمت وعمق الفهم، وغزارة العلم، فمذاهب العلماء المجتهدين هي رابع مصادر الدستور الإسلامي (3).
إن الدستور الإسلامي للدولة الصالحة يشتمل على قواعد ونظم توضح نظام الحكم وتنظيم السلطات العامة وارتباط بعضها ببعض، وتحديد كل سلطة من السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية، والتنفيذية بكل دقة ووضوح، وتوضيح حقوق الأفراد على الدولة، وواجباتهم نحوها، والحقوق بكل تفصيلاتها معنوية ومادية، وكذلك الواجبات والالتزامات ووضع القوانين المفصلة للدستور مثل:
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي (5/ 292).
(2) انظر: الدستور الإعلامي للمودودي، ص5، 6.
(3) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 542).(1/525)
القانون المدني، والقانون الجنائي، والقانون العام بحيث يكون ذلك كله مستمدا من المصادر المذكورة، إن هذه الدعامة عندما تقوم على ما ينبغي تقوى الدولة المسلمة وتحمي أنظمة الحياة من عبث العابثين الذين لا يدركون الحق في سياسة الرعية، أو يدركونه لكنهم ينحرفون عنه، لقد جاءت هذه الشريعة لسد حاجة المسلمين من الأحكام فما توفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وقد بيَّن لأمته كل شيء، ولم يبق للعلماء في ذلك من دور إلا إظهار حكم الله ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد الإسلام الكلية.
إن تطبيق الشريعة الإسلامية يحقق نتائج طيبة في حياة المسلمين، ومن هذه النتائج تهذيب النفس من الشرور والآثام وترويضها على الخير، لذا كان الوازع الديني ثمرة من ثمارها يمنع من ارتكاب الجريمة، ويحاسب النفس عليها، ويكون ماثلا أمام العين مما يجعل النفس تخشى الله وتتقيه دائما وأبدا، كما أنها تحقق المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات وتنشر العدالة في الدولة الإسلامية لجميع ساكنيها، كما أن في تطبيقها نزول البركة، وتوالي النعم، إذ ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق مستقل لصلاح الحياة في الدنيا إنما هو طريق واحد، تصلح به الدنيا والآخرة، وفي تطبيقها بركات في النفوس وبركات في المشاعر وبركات في طيبات الحياة، فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، ومن نتائج تطبيقها بناء مجتمع إسلامي معتز بدينه وعقيدته بما التزمه من سلوك مصدره كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ففيهما المواد اللازمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة والدولة المسلمة، كما أن من النتائج حفز الهمم، وبعث النفوس إلى الأخذ بأسباب العلم والحضارة والرقي والتقدم لما تضمنته تلك الشريعة من الدعوة إلى الحياة كما أنها تتضمن نبذ عفن الحياة الحضاري لمجتمعات الرذيلة أيا كانت وأينما وجدت (1).
_________
(1) انظر: تطبيق الشريعة الإسلامية، د. عبد الله الطريقي، ص60، 61.(1/526)
ب- الحاكم الصالح:
إن الحاكم إذا كان صالحا، مستوفيا للصفات الشرعية، فإنه يكون إحدى الدعائم القوية التي تشد من أزر دولة الإسلام وتعينها على القيام بوظائفها السامية خير قيام، استجلابا للخير ودفعا للشر.
وبقدر ما يأتي الخير ويكثر في وجود الإمام الصالح، بقدر ما يتفاعل الشر وتتفاقم الفتن في حالة خلو الزمان منه، يقول الإمام أحمد رحمه الله: «الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس» ويقول أيضا: «لابد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟» (1).
والأصل في الإمام أن يكون صالحا في نفسه، قدوة لغيره، فكلمة (الإمام) نفسها تدل على ذلك، فمعنى الإمام: القدوة، ومنه قيل لخشبة البناء: إمام، ويقال للطريق: إمام، لأنه يؤم فيه المسالك، أي يقصد (2).
وقد قال الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] أي «جعلناك إماما للناس يأتمون بك في الخصال، ويقتدي بك الصالحون» (3).
ولهذا فإن الذين يفتقدون إلى الصلاح لا يستحقون الإمامة، فإبراهيم عليه السلام قال لربه بعد ما بشره بالإمامة: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] على جهة الاستفهام، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عصاة ظالمين لا يستحقون الإمامة, قال {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] والعهد المراد في الآية هو: النبوة أو الإمامة، أو ولاية الأمر (4).
_________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلي، ص19.
(2) انظر: لسان العرب، مادة (أمم) (1/ 134).
(3) تفسير القرطبي (2/ 107).
(4) تفسير الطبري (3/ 24).(1/527)
قال القرطبي في تفسيره: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان، والفضل مع القوة على القيام بذلك, وهو الذي أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا ينازعوا الأمر أهله، فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا بأهله) (1) , وفي الآية إشارة إلى أن الإمامة والعدل فيها، أمانة وعهد، والجور والظلم فيها، خيانة لذلك العهد وهذا يقال في كل ولاية شرعية، يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره لهذه الآية: «الولاية العامة الشرعية حق أهل الإيمان والعدل، والله تعالى لن يعهد بإمامة الناس وتولي أمورهم للظالمين، فكل حاكم ظالم فهو ناقض لعهد
الله تعالى» (2).
إن وجود الحاكم الصالح ضرورة إسلامية لتدعيم الدولة الحاكمة بما أنزل الله، ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية قد أوجبت تنصيبه، بحيث توافر الإجماع على ذلك منذ عهد الصحابة (3)، بلا خلاف معتبر, والأصل في وجوب تنصيب الإمام، أن الصحابة لما اختلفوا في سقيفة بني ساعدة، قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، دفعهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ودارت بين الفريقين محاورات ومناظرات انتهت إلى مبايعة أبي بكر - رضي الله عنه - خليفة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فلولا أن الإمامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة، ولقال قائل: ليست في قريش
ولا غيرهم (4).
لقد كان إجماع الصحابة على ضرورة تنصيب خليفة مستمدا من نصوص الكتاب والسنة الواضحة الدلالة على هذا الوجوب (5)، وحسمت الشريعة أمر الإمامة بكل وضوح، فجعلت شروطا في الإمامة، وزادت الشريعة من ضبط هذا الأمر بأن جعلت أمر الترجيح بهذه الشروط راجعا إلى خاصة الأمة المعروفين بـ (أهل
_________
(1) تفسير القرطبي (2/ 108).
(2) تفسير المنار (1/ 113).
(3) انظر: مراتب الإجماع للإمام أبي محمد بن حزم، ص124.
(4) انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلي، ص19.
(5) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 482).(1/528)
الحل والعقد). وأهل الحل والعقد ينظرون في الشروط التي حددتها الشريعة لولي الأمر، وينوبون عن الأمة في اختيار رجل مستوف لتلك الشرائط التي تعتبر المعيار الشرعي للصلاح المطلوب في الحاكم.
ومن الجدير ذكره هنا، أن أهل الحل والعقد أنفسهم يخضعون لشروط حددها أهل العلم من أهمها: العدالة، العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة، والثالث أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح (1).
وهذه الأمور ينص عليها دستور الدولة المستمد من الكتاب والسنة المطهرة، كما أن الدستور يتضمن شروط الإمامة العظمى. إن الشريعة الإسلامية انفردت بكثير من الأسرار والحكم مؤادها في النهاية ألا يقدم لهذا المنصب الجليل إلا من يغلب على الظن أنه أهل لقيادة خير أمة أخرجت للناس، وهذه الشروط منها ما هي شروط صحة، ومنها ما هي شروط كمال.
الشرط الأول: الإسلام:
والإشارة إليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، أي ذوي أمركم ومن ولوه من المسلمين (2).
وقال النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها) (3).
الشرط الثاني: العدالة:
والعدالة هي التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل مع ترك المعاصي, وكل ما يخل بالمروءة، وهي تثبت بالاستفاضة والشهرة (4).
_________
(1) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي، ص19 وللماوردي، ص4.
(2) انظر: تفسير الطبري (8/ 503) تحقيق أحمد شاكر.
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (12/ 229).
(4) الأحكام السلطانية للفراء، ص4.(1/529)
الشرط الثالث: الذكورة:
أجمع العلماء على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما (1).
قال الشنقيطي رحمه الله: (من شروط الإمام الأعظم كونه ذكرا، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، ويدل له ما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة») (2).
الشرط الرابع: القدرة وسلامة الحواس:
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 247].
قال الشنقيطي: «أي يكون سليم الأعضاء، غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك» (3).
الشرط الخامس: القرشية:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديها أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين» (4)، وشرط القرشية قد اختلف في كونه شرط صحة أو شرط كمال، وذهب الجمهور إلى أنه شرط صحة، وكما أن شرط القرشية قيد بشرط وهو: إقامة الدين الذي هو المطلب من وراء الإمامة.
الشرط السادس: الحرية:
لا خلاف بين العلماء في أن من شروط الإمام الأعظم أن يكون حرا، فلا يجوز أن يكون قائد الأمة من العبيد، ونقل عنهم الإجماع على ذلك (5).
_________
(1) انظر: الفصل بين الملل والنحل (4/ 110) , ومراتب الإجماع، ص125.
(2) البخاري، كتاب الفتن، باب: 18، حديث رقم 7099، فتح الباري (13/ 58).
(3) أضواء البيان (1/ 57)
(4) البخاري، كتاب الأحكام، باب: الأمراء من قريش، فتح الباري (13/ 122) رقم 7139.
(5) انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلي، ص20.(1/530)
الشرط السابع: البلوغ:
لابد لمن يتولى أمر المسلمين أن يكون رجلا، فالصبيان لا يليق أن يلوا الأمور العظام، والإجماع منعقد على عدم جواز إمامة الصبي لعدم قدرته على القيام بأعباء الحكم (1).
الشرط الثامن: العقل:
لا نزاع بين أهل العلم في أن المجنون أو المعتوه لا تجوز إمامته «لأن الإمامة تدبير، والعقل آلة التدبير، فإذا ذهب العقل ذهب التدبير» (2).
الشرط التاسع: العلم المؤدي إلى الاجتهاد:
وهو شرط عند علماء المسلمين في الإمام، بحيث يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين وحتى يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الملمات والحوادث.
وصرح الشاطبي - رحمه الله - بعدم صحة عقد الإمامة لمن لم ينل رتبة الاجتهاد والفتوى، فقال: «إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع» (3).
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا شرط كمال وليس شرط صحة، ومن رأى أنه شرط صحة أجاز ولاية غير المجتهد عند الضرورة, وهذا ما صرح به الشاطبي بقوله: «إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلابد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين، إما أن يترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج، وإما أن يقدموه فيزول الفساد به، ولا يبقى إلا فوات الاجتهاد» (4).
_________
(1) تفسير القرطبي (1/ 270)، انظر: الفصل بين الملل والنحل (4/ 11)
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 494)
(3) الاعتصام للشاطبي (2/ 126).
(4) الاعتصام للشاطبي (2/ 126).(1/531)
الشرط العاشر: الحنكة في أمور الحرب والسلم:
فينبغي لولي أمر المسلمين أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف في أمور الحرب مثل: تدبير الجيوش، وسد الثغور وحماية بيضة المسلمين ومنازلة الأعداء, وحسن الاستفادة من الأصدقاء، وكذلك في أمور السلم بأن يملك زمام الأمة ويأخذ من ظالمها لمظلومها ولضعيفها من قويها، ويقيمها على الحق ويقيم بها الحق (1).
وعد القاضي أبو يعلي من شرط الإمام «أن يكون قيما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود، لا تلحقه رأفة في ذلك» (2)، وهذا الشرط من شروط الصحة عنده وعند الماوردي (3) , وكذلك ابن خلدون (4).
على أن الشروط المعتبرة، رغم نص العلماء عليها، ليست ضربة لازب كلها، بحيث لو وجد شخص فيه معظمها لا تنعقد له الإمامة حتى توجد فيه كلها، لا، بل إن في الأمر مرونة تناسب تغير الأحوال بل قال القرطبي: «يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة, وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل، واستخراج الحقوق وإقامة الحدود، وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها، فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام، كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل للمفضول، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة (5)، فيهم فاضل ومفضول» (6).
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي (1/ 270).
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلي، ص20.
(3) انظر: الأحكام السلطانية للماوردي، ص6.
(4) انظر: المقدمة، ص193.
(5) الستة هم الذين نصح عمر - رضي الله عنه - المسلمين أن يختاروا واحدا منهم لولاية الأمر بعده حين طلب إليه أن يعهد عهدا، وهم: علي، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله.
(6) تفسير القرطبي (5/ 259).(1/532)
ولا شك أن من أهداف مرحلة التمكين تقديم الحاكم الصالح الذي تتدعم به
دولة الإسلام.
إن إقامة الدستور على نهج كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيان شروط الحاكم من خلاله من أهداف مرحلة التمكين، إن القرآن الكريم ذكر للحاكم الصالح صفات وملامح لا تقف عند حد الإجزاء والصحة، وإنما تتجاوزهما إلى حد السمو والرفعة, وكيف لا يكون الأمر كذلك، والحاكم هو أسوة العامة, وقائد الخاصة، والفرد الأول في الأمة، المقدم لقيادة الركب في كل المهمات والملمات.
إن في القرآن كثيرا من الصفات العظيمة التي يحبها المولى عز وجل, وسنرى ذلك بإذن الله في بعض شخصيات المرسلين.
جـ- الرعية الصالحة:
إن من أهداف مرحلة التمكين إيجاد دعائم دولة الإسلام ومن أهمها الاهتمام بالرعية وتربيتها على نهج رب البرية لتصبح مؤمنة بربها مصلحة في حياتها, تتحمل إقامة الحياة الإسلامية على شريعة الله وتقوم بإلزام الحكام على الاستقامة على شريعة الله, فالرعية هي التي تمد الحاكم بشرعية الولاية، وتوظيفهم في مهمة تحكيم شرع الله، قال القرطبي: «إقامة مراسيم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم» (1).
فالرعية الصالحة قيمة على مسلك الولاة، بحيث إذا زاغوا عن السبيل ردتهم، وإذا اعوجوا قومتهم، فإن أبوا إلا الانحراف والابتعاد عن الطريق المستقيم خلعتهم وأبعدتهم, والأمة المسلمة ليست كأية أمة، ولا ينبغي لشعوبها أن تكون رعية كأية رعية، تساق فتنساق, وتوجه فتتوجه، إنها أمة صاحبة رسالة وحاملة أمانة، اختارها الله بين الأمم وأرسل فيها أفضل الرسول، وأنزل إليها أحسن الكتب، وخصها بأفضل شريعة وكفلها بأسمى رسالة كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
_________
(1) تفسير القرطبي (12/ 261)(1/533)
لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110] فهم خير الناس للناس وأنفع الناس للناس (1).
إن أمة الإسلام تحتاج لكي تقوم بمهمتها في هداية الناس للخير إلى أن تكون صالحة في نفسها مصلحة لغيرها، فهي الشهيدة على الأمم لأنها أمة الوسط.
قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. إن الدستور الإسلامي في دولة الشريعة بيَّن حقوق الرعية على الحاكم وحقوق الراعي على المحكومين بدقة متناهية.
إن من أهداف مرحلة التمكين بيان حقوق الرعية على الراعي وحث الحاكم على تنفيذها، ومن أهم هذه الحقوق:
1 - العمل على الإبقاء على عقيدة الأمة صافية نقية.
2 - بذل الأسباب المؤدية إلى وحدة الأمة.
3 - أن يعمل الولاة على حماية الأمة من المفسدين والمحاربين.
4 - أن يعملوا على حماية الأمة من أعداء الخارج.
5 - إعداد الأمة إعداد جهاديا.
6 - حفظ ما وضعت الشريعة لأجله.
7 - تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء وصرفها في مصارفها الشرعية.
8 - تحري الأمانة في اختيار أرباب المناصب.
9 - إعطاء حقوق الرعية وما يستحقونه في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
10 - الإشراف المباشر على سير الأمور بين الرعية في كل النواحي الإدارية التي تتعلق بما يصلح أحوالهم (2).
_________
(1) تفسير ابن كثير (1/ 369).
(2) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 315 - 323).(1/534)
فإذا استوفت الرعية حقوقها من ولاتها فلابد أن تؤدي واجباتها إليهم, فإن لولاة الأمر حقوقا على الرعية واجبة في أعناقهم، ولذلك فإن من أهداف مرحلة التمكين بيان هذه الحقوق في دستور الدولة وتذكير الناس بالالتزام بها.
ومن واجبات الرعية تجاه الولاة:
1 - الطاعة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
قال القرطبي: «لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية فأمر الرعية بطاعته جل وعلا أولا وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثًا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم» (1).
وفي المجتمع الإسلامي، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، ولهذا فإن طاعة الحكام مقيدة دائما بطاعة الله ورسوله، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة في المعصية إنما الطاعة في المعروف» (2).
2 - النصرة:
فالواجب على الرعية نصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين وجهاد العدو, قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (3) , ومن نصرة الإمام ألا يهان، ومن
_________
(1) تفسير القرطبي (5/ 259).
(2) البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام، حديث رقم 7145 (8/ 135).
(3) مسلم، كتاب الإمارة باب حكم من فرق أمر المسلمين (3/ 1480) رقم 1852.(1/535)
معاضدته أن يحترم، وأن يكرم, فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله، تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه تبجيلاً وإجلالاً، وإكراما لشرع الله سبحانه الذي ينافح ويدافع عنه، يقول رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» (1).
3 - النصح:
إن الإسلام أوجب على الرعية أن تناصح ولاة أمرها قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدين النصيحة - ثلاثا - قال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (2).
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتناصحون - رعاة ورعية -, فهذا عمر - رضي الله عنه - درة الولاة، وفخر الأئمة في هذه الأمة يقول للرعية: «رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي» (3).
4 - التقويم:
لقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - عندما اختير للخلافة، قام في الصحابة خطيبا فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: «أما بعد، أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله, والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم
_________
(1) رواه أبو داود، كتاب الأدب, باب تنزيل الناس منازلهم، رقم الحديث 4822، وصححه الألباني، انظر: صحيح سننه أبي داود (3/ 1918) رقم 4053.
(2) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (1/ 74) رقم 55.
(3) أورده الإمام الدارمي في مقدمة سننه (1/ 169).(1/536)
الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله» (1).
وكان عمر - رضي الله عنه - لا يكتفي بإنصاف الناس من نفسه، حتى ينصفهم من عماله وولاته، ويسأل الرعية عمن أساء منهم، وكان يقول: «إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له عليَّ، ليرفعها إليَّ حتى أقصه منه» (2).
إن العلاقة بين الراعي والراعية - كما تحدد الشريعة معالمها - هي علاقة التعاون والتعاضد مع النزاهة والتجرد، فهي علاقة هدفها إعلاء كلمة الله.
إن من أهداف مرحلة التمكين تحقيق دعائم الدولة في دنيا الوجود المتمثلة في نظام حكم شرعي، وحاكم صالح، ورعية صالحة مصلحة.
ثانيًا: إقامة قواعد النظام الإسلامي:
ويدخل ضمنا في أهداف التمكين الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم, ومن أهم هذه القواعد الشورى، والعدل، والمساواة، والحريات.
أ- الشورى:
إن تداول الرأي في الحوادث مارسته الشعور منذ أقدم العصور، مارسه العرب والفرس، والمصريون، والهنود، والرومان، والصينيون، ومارسه الملوك والفراعنة، ولم يوجد شعب ولا أمة إلا مارسته في القديم والحديث.
إن ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان عليه السلام يدعوها فيه إلى
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (6/ 306) وقال ابن كثير: إسناده صحيح.
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 533).(1/537)
الإذعان بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة والإسلام دعت الملأ وهم أشراف الناس من قومها ووجوههم المقربون (1) إليها قالت: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ - قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 29 - 33].
إن القرآن الكريم يقدم لنا درسا في الأخذ بنظام الشورى، إذ يقص علينا قصة ملكة سبأ عندما تلقت تهديد سليمان بالزحف على مملكتها, فلم تنفرد باتخاذ موقف لوحدها ثم تطلب تنفيذه، وإنما جمعت أشراف قومها وطلبت منهم الآراء في هذا الموضع الخطير (2).
إن الشورى واجبة على الحاكم في الشريعة الإسلامية, وإلى هذا القول ذهب كثير من العلماء والفقهاء، فلا يحل للحاكم أن يتركها وأن ينفرد برأيه دون مشورة المسلمين من أهل الشورى، كما لا يحل للأمة الإسلامية أن تسكت على ذلك، وأن تتركه ينفرد بالرأي دونها، ويستبد بالأمر دون أن يشركها فيه، فإن أقدم على هذا الأمر فقد ارتكب منكرا، ينبغي عليها أن تنكره عليه، أخذا بحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (3).
فالحاكم المستبد آثم بتركه واجب الاستشارة، والأمة آئمة لتركها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبوسع الأمة إذا كانت متماسكة على قلب رجل واحد عزله وتحرير الأمة منه ومن ظلمه واستبداده، بل الشرع يفرض عليها ذلك، قال ابن
_________
(1) انظر: الشورى بين الأصالة والمعاصرة، عز الدين التميمي، ص17.
(2) انظر: دعوة سليمان، علي منسي عشكان، ص69.
(3) مختصر صحيح البخاري للمنذري، ص16، رقم الحديث 34.(1/538)
عطية (1) رحمه الله تعالى: «والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه» (2).
وقال الجصاص الحنفي (3) - رحمه الله - في تفسيره بأحكام القرآن معقبا على قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وهذا يدل على أننا مأمورون بها (4).
قال الطاهر بن عاشور: «مجموع كلام الجصاص يدل على أن مذهب أبي حنيفة وجوبها» (5).
وقال النووي - رحمه الله -: «واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم كانت سنة في حقه كما في حقنا، والصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار, قال الله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو الأصول أن الأمر للوجوب» (6).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (7)».
_________
(1) هو عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عبد الرءوف بن تمام بن عطية، يكنى أبا محمد، وهو من نسل زيد ابن محارب, وكان فقيها عالما بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة, توفي عام 546هـ، انظرالديباج المذهب في معرفة علماء المذهب، ص174، 175.
(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 397).
(3) هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي كان مشهورا بالزهد والورع, تبحر في العلوم وتلقى على يديه خلق كثير توفي 370هـ، الطبقات السنية في تراجم الحنفية (1/ 477 - 480).
(4) أحكام القرآن للجصاص (3/ 386).
(5) التحرير والتنوير (4/ 149).
(6) شرح النووي على مسلم (4/ 76).
(7) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص135.(1/539)
ولقد ذهب إلى وجوب الشورى على الحاكم جماهير العلماء من المحدثين، وإليك بعضهم:
قال الأستاذ حسن البنا - رحمه الله -: «ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه من الخير, وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" وأثنى على المؤمنين خيرًا فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" ونصت على ذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (1).
وقال الأستاذ المودودي: «والأمير حتم عليه أن يسوس البلاد بمشاورة أهل الحل والعقد أعضاء مجلس الشورى، وهو أمير مادام مزودًا بثقة الأمة» (2).
وقال: «وخامسة قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم وإمضاء نظام حكم الشورى» (3).
وقال الشيخ شلتوت (4) - رحمه الله -: «أما الشورى فهي أساس الحكم الصالح، وهي السبيل إلى تبين الحق، ومعرفة الآراء الناضجة، أمر بها القرآن، وجعلها عنصرًا من العناصر التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، ففي الكتاب الكريم سورة عرفت باسم: (الشورى) وقد سميت بذلك لأنها السورة الوحيدة التي قررت الشورى عنصرًا من عناصر الشخصية الإيمانية الحقة، ونظمتها في عقد، حباته طهارة القلب والإيمان والتوكل، وطهارة الجوارح من الإثم والفواحش، ومراقبة الله بإقامة الصلاة وحسن التضامن بالشورى» (5).
_________
(1) مجموعة الرسائل للأستاذ حسن البنا، ص361.
(2) نظام الحياة في الإسلام - النظام السياسي، ص36.
(3) الخلافة والملك، ص41.
(4) هو أحد علماء مصر المشهورين، وشيخ الأزهر الشريف، له مؤلفات كثيرة في الفقه والتفسير والثقافة العامة، توفي عام 1964هـ.
(5) الإسلام عقيدة وشريعة، ص458، 459.(1/540)
وقال الشيخ محمد أبو زهرة (1) - رحمه الله -: «أما الشرط الثالث فهو أن يكون الاختيار بشورى المسلمين، والأصل في ذلك هو أن الحكم الإسلامي في أصل وضعه شورى، لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" ولالتزام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عامة أموره التي كانت تهم المسلمين، ولم ينزل فيها وحي ... وإذا كان الحكم الإسلامي في أصله شوريا فلابد أن يكون الاختيار شوريا أيضا، لأنه لا يمكن أن يكون الحكم شوريا ويكون الخليفة مفروضا بحكم الوراثة، إذ إن الوراثة والشورى نقيضان لا يجتمعان في باب واحد» (2).
وقال الشيخ عبد الوهاب خلاف (3): «والناظر في آيات القرآن الكريم وصحاح السنة يتبين أن الحكومة الإسلامية دستورية، وأن الأمر فيها ليس خاصًّا بفرد وإنما هو للأمة ممثلة في أهل الحل والعقد، لأن الله سبحانه جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وساق وصفهم بهذا مساق الأوصاف الثابتة، والسجايا اللازمة كأمة شأن الإسلام ومن مقتضياته .. وإذا كان المسلمون أهملوا تنظيم هذه الشورى حتى ذهبت روحها، وجرؤ بعضهم أن يقول: إنها مندوبة لا محتومة، وصمت الآذان عن سماعها، وأضاعوا البيعة ومسخوها حتى جعلوها أمرا صوريا، لا يحقق الغرض منها ولا يشعر بإرادة الأمة» (4).
وقال الأستاذ عبد القادر عودة (5) - رحمه الله -:
«والإسلام يرد نظام
_________
(1) هو الشيخ الجليل محمد أبو زهرة أحد فحول علماء مصر المعدودين, كان جريئًا في الحق، مدافعًا عن الإسلام، لا يخشى في ذلك لومة لائم، له مصنفات كثيرة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع, ومن كتبه علم أصول الفقه، والإمام مالك، والشافعي، وأبو حنيفة, وأحمد، وابن حزم، وابن تيمية، وتاريخ المذاهب الإسلامية.
(2) تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، ص93، 94.
(3) ولد سنة 1880م بكفر الزيات والتحق بالأزهر الشريف سنة 1900م، بعد أن حفظ القرآن الكريم ودرس في مدرسة القضاء الشرعي، وتخرج فيها عام 1915م، وعين مدرسًا بها وشارك في ثورة 1919م, فبرزت مواهبه الخطابية والكتابية ومارس القضاء ودرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة (22) سنة، توفي 1956م، مقدمة كتابه أصول الفقه.
(4) السياسة الشرعية أو نظام الدولة في الشئون الدستورية والخارجية والمالية، ص25 - 29.
(5) عبد القادر عودة من كبار المحامين في مصر، درس الحقوق ونبغ فيها، ودرس الفقه الإسلامي الجنائي دراسة شاملة، وواعية, وألف فيه كتابه المشهور التشريع الجنائي الإسلامي، وهو من أفضل الكتب في هذا المجال أعدمه جمال عبد الناصر في محنة الإخوان المسلمين في مصر وكان إعدامه - رحمه الله - سنة 1955م.(1/541)
الحكم في الجماعة إلى الشورى، لتستطيع الجماعة أن تختار الحكام الصالحين للقيام بأمر الله في الجماعة، ولتستطيع أن تعزلهم كلما عجزوا عن أداء واجباتهم أو حادوا عن الطريق القويم، كما أن نظام الشورى يحول بين الحكام وبين الاسئثار بشئون الجماعة، إذ يجعل الجماعة رقيبة على الحكام الذين اختارتهم، وقد جاء الإسلام بنظام الشورى وطبقه المسلمون قبل أن تعرفه الدول الغربية بأحد عشر قرنا على الأقل، وقد فرض هذا النظام بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" وبقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران: 159]. (1).
وقال الأستاذ عبد الكريم زيدان - حفظه الله -: «إن وكالة رئيس الدولة عن الأمة وكالة مقيدة، ومن قيودها أن يشاور الأمة، لأن المشاورة ورد بها النص الشرعي، فلا تملك الأمة التنازل عنها، لأن سلطتها محدودة بحدود الشرع فلا تستطيع أن تفوض وكيلها - رئيس الدولة - استعمال سلطانها إلا بهذا القيد، قيد الشورى، سواء صرحت بهذا عند انتخابه أو لم تصرح» (2).
ولقد استدل القائلون بوجوب الشورى بالكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين - والمعقول.
الأدلة من القرآن الكريم:
1 - قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
لقد نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد وما جرى فيها من أحداث وآلام حلت بالمسلمين، وكان القرار في الخروج مبنيا على الشورى، وحتى لا تنشأ فكرة استبعاد الشورى عند بعض الصحابة نزلت هذه الآية، تأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن
_________
(1) الإسلام وأوضاعنا القانونية، ص122 - 132.
(2) الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، ص36، 37.(1/542)
يعفو عن المؤمنين وأن يستغفر لهم ويشاورهم في الأمر, ولو كان نتيجة الشورى مرة، كما حدث في أحد.
وإذا كان الله تبارك وتعالى قد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - -وهو أرجح الناس عقلا، وأقواهم رأيا- بالشورى، فالأمر في حق غيره من الحكام والأمراء والسلاطين آكد وأوجب، ومن المعروف عند علماء الأصول أن الأمر يفيد الوجوب ما لا ترد قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب، وصيغة «وشاورهم» صيغة أمر، وهي تدل على وجوب الشورى، ولم ترد قرينة تصرفها من الوجوب إلى الندب، بل جاءت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة تؤكد هذا الوجوب وتؤيده (1).
قال الفخر الرازي في تفسيره: «ظاهر الأمر للوجوب، فقوله: (وشاورهم، يقتضي الوجوب) (2).
وقال أبو حيان الأندلسي (3): «في هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والتفكر فيه، وأن ذلك مطلوب شرعا خلافا لما كان عليه بعض العرب من ترك الشورى، ومن الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة» (4).
وقال الأستاذ محمد رشيد رضا - رحمه الله - في تفسيره لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ": «أي في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة، في الحرب والسلم، والخوف والأمن، وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، أي أدام المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الموقعة (غزوة أحد) وإن أخطأوا الرأي، فإن الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن
_________
(1) انظر: حكم الشورى في الإسلام، ونتيجتها، د. محمد أبو فارس، ص31، 32.
(2) التفسير الكبير: (9/ 67).
(3) هو محمد بن يوسف بن علي بن حيان الغرناطي الأديب النحوي اللغوي مفسر ومحدث, توفي عام 745هـ، شذرات الذهب (6/ 145 - 147).
(4) البحر المحيط (2/ 47).(1/543)
أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة)، والخطر على الأمة في تفويض أمرهم إلى الرجل الواحد أشد وأكبر» (1).
وقال سيد قطب - رحمه الله -: «وبهذا النص الجازم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي يتولاه - وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم الإسلام على أساس سواه» (2).
وقال أيضا: «لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون لكان وجود محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه الوحي من الله -سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشاة الأمة المسلمة، ولكن وجود محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق لأن الله -سبحانه - يعلم أنه لابد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله، وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت هذه الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق، وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في أحد والعدو على الأبواب، لأن
_________
(1) تفسير المنار (4/ 166).
(2) في ظلال القرآن (4/ 501).(1/544)
وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق (1).
2 - وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] , لقد قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة واجبة شرعا، فكذلك الشورى واجبة شرعا (2).
إن هذه الآية قد نزلت في سورة سميت سورة الشورى، وهي مكية, ولقد جاءت مؤكدة أن تكون الشورى صفة ملازمة للجماعة الإسلامية، وسلوكا اجتماعيا لا يغادرهم قبل قيام الدولة الإسلامية وبعد قيامها، فإن كلمة أمرهم من ألفاظ العموم تشمل جميع شئونهم العامة وحياتهم المشتركة (3).
قال سيد قطب - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: «والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، لصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو كما قلنا نص مكي قبل قيام الدولة الإسلامية.
فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم بعد.
والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية، والجماعة تتضمن الدولة، تنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية.
ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكرا، وكان مدلوله أوسع وأعمق
_________
(1) المصدر نفسه (4/ 502).
(2) انظر: النظام السياسي في الإسلام لأبي فارس، ص90.
(3) انظر: حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها، ص40.(1/545)
من محيط الدولة وشئون الحكم فيها، إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية، وهي من ألزم صفات القيادة» (1).
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله -: «الشورى دعامة من دعائم الإيمان وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، سوَّى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38]
فجعل للاستجابة لله نتائج بين لنا أبرزها، وأظهرها، وهي إقامة الصلاة والشورى والإنفاق، وإذا كانت الشورى من الإيمان فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى، ولا يحسن إسلامهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة، ومادامت الشورى صفة لازمة للمسلم لا يكمل إيمانه إلا بتوفرها، فهي إذن فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة، والسياسة، والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم» (2).
والأحاديث القولية والسنة الفعلية الدالة على وجوب الشورى كثيرة ونكتفي بما ذكرنا خوفا من الإطالة ومن خلال الدراسة الوافية لمسألة الشورى يتضح أن القول بالوجوب أرجح من الندب والعلم عند الله.
ولقد اختلف العلماء هل الشورى معلمة أو ملزمة، ولقد اخترت في هذا البحث كونها ملزمة وهو الذي ينسجم مع أهداف التمكين، والواقع المعاش للأمة، ولقد ذهب جمهور العلماء والفقهاء في العصر الحديث إلى أن الشورى بنتيجتها للإمام ملزمة, وعليه أن يأخذ برأي الأغلبية وإن كان رأي الأغلبية يخالف رأيه الذي يرجح أنه أصوب من رأيهم، ولقد كان آخر رأي صدر عن الأستاذ المودودي
_________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3165).
(2) الإسلام وأوضاعنا السياسية، ص193.(1/546)
في هذا الشأن أن الشورى ملزمة للأمير، وليس له أن ينفرد برأيه ويخالف رأي أهل الشورى أو أغلبيتهم.
قال المودودي - رحمه الله -: «وخامسة قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى، يقول تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" ويقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ" (1).
إن قاعدة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" تتطلب بذاتها خمسة أمور: خامسها التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشورى ثم يختار هو بنفسه بحرية تامة، فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها، فالله لم يقل: «تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمرهم» وإنما قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" يعني أن تسير أمورهم بتشاور فيما بينهم، وتطبيق هذا القول الإلهي لا يتم بأخذ الرأي فقط، وإنما من الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري الأمور وفق ما يتقرر بالإجماع
أو بالأكثرية» (2).
وقال الشيخ شلتوت - رحمه الله -: «وضع الإسلام مبدأ الشورى، وعمل به
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، والخليفتان من بعده، وكان له في صدر الإسلام شأن تجلى به سمو الإسلام في تقرير حق الإنسان، وكان فيه الحرية التامة في إبداء الرأي من أهل الرأي، وقد جاء في بيان المصادر التي يجب على المؤمنين اتباع الأحكام والنظم والأوامر الصادرة عنها، قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وإذا كانت إطاعة الله هي العمل بما تضمنه كتابه الواضح الذي لا يحتمل الرأي، وكانت إطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي العمل بما تضمنته أقواله التشريعية العامة الموثوق بنسبتها إليه، كان (أولو الأمر) هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص
_________
(1) الخلافة والملك، ص41، 42.
(2) الحكومة الإسلامية، ص94.(1/547)
في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وكانت طاعتهم هي الأخذ بما يتفقون عليه في المسألة ذات النظر والاجتهاد، أو بما يترجح فيها عن طريق الأغلبية أو قوة البرهان» (1).
وقال في كتابه من توجيهات الإسلام تعقيبا على موقف السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة - رضي الله عنهما - من رفض إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرى ذلك:
«وهذه الحادثة تضع تقليدًا دستوريًا هامًا، وهو أن الحاكم ولو كان رسولا معصوما يجب عليه ألا يستبد بأمر المسلمين، ولا أن يقطع برأي في شأن هام، ولا أن يعقد معاهدة تلزم المسلمين بأي التزام دون مشاورتهم وأخذ آرائهم، فإن فعل كان للأمة حق إلغاء كل ما استبد به من دونهم، وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم فيها رأي» (2).
ويقول الأستاذ عبد الكريم زيدان: «الأخذ برأي رئيس الدولة سديد من الناحية النظرية، ولكن نظرا لضرورات الواقع، وتغير النفوس، ورقة الدين، وضعف الإيمان، وندرة الأكفاء الملهمين، كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني، فنلزم رئيس الدولة برأي الأكثرية بشروط، الأول: إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي الأكثرية فله أن يحيل الخلاف إلى هيئة التحكيم، والثاني: إذا لم يقتنع برأي هيئة التحكيم، فله إجراء استفتاء عام حول موضوع الخلاف، الثالث: أن يعطي حرية اتباع الرأي الذي يراه في الأحوال الاستثنائية كحالة الحرب أو خطر يهدد سلامة البلاد» (3).
ولا نريد أن نتوسع في نقل الأقوال لكثرة الباحثين والعلماء الذين ذهبوا إلى أن الشورى ملزمة.
_________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، ص 462،463.
(2) من توجيهات الإسلام, محمود شلتوت، ص 47.
(3) الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، ص 47.(1/548)
إن الله تعالى قد شرع نظام الشورى لحكم بالغة، ومقاصد عظيمة، ولما فيها من المصالح الكبيرة، والفوائد الجليلة التي تعود على الأمة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ومن ذلك:
1 - يتعرض الحكام والقادة والرؤساء في كثير من الأحيان والظروف إلى اندفاعات عاطفية، تكون ذات نتائج سلبية وآثار سيئة على حياة الأمة، وفي هذه الحالة تكون الشورى من أنجح الضوابط لكبح جماح العواطف لدى الحكام والقادة والرؤساء, ففي المشاورة عصمة لهم من الإقدام على أمور تضر بالأمة وقد لا يشعرون بضررها.
2 - الشورى نوع من الحوار المفتوح، ومن أحسن الأساليب لتوعية الرأي العام وتنويره، وتعزيز عوامل الحب والثقة بين الحاكم والمحكومين، والقائد والمقودين، والرئيس والمرءوسين، وهو خير أسلوب في الحكم لعزل الشكوك، ونفي الهواجس وإزالة الأوهام، ووقف الشائعات التي تنمو عادة في ظل الاستبداد وتنتشر في عتمة الغوغائية.
3 - تقضي مبادئ الإسلام بأن يشعر كل فرد أن له دورا في حياة المجتمع والجماعة، والشورى تتيح الفرصة أمام كل فرد لكي يقدم ما يستطيع من جهود وأفكار وآراء ومهارات لخير المجتمع، كما تتيح الفرصة أمام كل فرد ليعبر عن رأيه في الشئون العامة.
4 - إن الشورى تمنح الدفء العاطفي، والتماسك الفكري لأفراد الأمة، وفيها إشعار الفرد بقيمته الذاتية، وقيمته الفكرية، وقيمته الإنسانية، وتدفع أفراد المجتمع نحو الاجتهاد والإبداع والرضا وتتفجر الطاقات وتتكشف المواهب المغمورة في الأمة.
5 - إن الشورى تساهم في علاج ضروب الكبت الضاغطة، وكوامن الأحقاد الدفينة، وتطيح بكثير من الكظوم الخفية، وتدفع رعايا الدولة للعطاء والحرص على ترسيخ النظام، وصدق الولاء.(1/549)
6 - وفي نظام الشورى تذكير للأمة بأنها هي صاحبة السلطان وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة الحكم والسلطان.
7 - وفي المشاورة امتثال لأمر الله بها، واقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وهذه المزية أرجح المزايا المتقدمة، وهذا أهم العوامل في نجاح نظام الشورى (1).
إن الشورى تمثل عملا سياسيا ضروريا لنجاح الدولة في تدبير شئون الأمة، وهي تشكل منهجا حيويا يتوقف عليه انتصار الحق في المجتمع، والتزام السداد في شئونه، كما يتوقف عليه احترام العقل في الدولة واحترام الإنسان في ظلها.
وهي ضمانة سياسية لاستقرار الدولة وحمايتها من عوامل الضعف، وهي سبيل رئيسي لسلامة المجتمع من الفوضى, وسلامة الدعوة الإسلامية من العثار حين أداء دورها العظيم في العالم، وهي تتطلب انتخاب الهيئة القيادية السياسية والاجتماعية لمراقبة الخطوط الأساسية وضبطها طبقا لأحكام الشريعة التي تجسد المصالح الحقيقية للأمة.
وهناك حقيقة ينبغي أن تتضح في العقول والأذهان وهي أن بقاء المجتمع قويا متمسكا بأهدافه السامية، وقيمة العليا يتطلب تعزيز الدور السياسي الذي تضطلع به الأمة بمجموعها عن طريق ممارسة الشورى التي شرعها الله للمؤمنين، فمن خلال الشورى يتأكد السلطان السياسي الحقيقي الذي يقوم بمهمة الإشراف الفعلي والعقلي على المجتمع برمته.
وفي المجتمع الإسلامي تتقبل الآراء وفقا لجدارتها، وبمقدار انسجامها مع عقيدة الأمة ودستور الدولة, تلك الدولة التي من شأنها أن تمنح الأفراد قدرة على ابتكار الأفكار الجديدة، والآراء الناضجة، وأن الدولة التي تنفذ الأمور دون معرفة بالحقائق المتصلة بها، واستيعاب الظروف والملابسات المحيطة بها، ودون الالتفات إلى رأي الأمة وسماع وجهة نظرها عن طريق ممثليها إنما تقوم بمغامرة غير مأمونة
_________
(1) انظر: الشورى بين الأصالة والمعاصرة لعز الدين التميمي، ص33، 34.(1/550)
في نتائجها, ولا سليمة في نهايتها, ولن تتوصل إلى حلول منطقية مبنية على أسس سليمة، ومن هنا فإن الإلمام بالواقع يمثل أمرًا شديد الأهمية في فن الحكم, فكل قرار سياسي مهما بلغت كفاءة الرئيس الذي يصدره ومكانته السياسية العالية - سوف يكون حتما وبالتأكيد قرارا خاطئا إن هو أخطأ في معرفة الواقع الذي يعالجه, وهذه القاعدة لا تنطبق على القرارات السياسية وحدها، بل تنطبق أيضا على كل قرار أيا كان نوعه وفي أي مجال من مجالات الحياة البشرية؛ في السياسة والإدارة, في الحياة العامة أو الخاصة على حد سواء، والقرآن الكريم يرشدنا إلى هذه الحقيقة في عدد من الآيات التي تؤكد على ضرورة التثبت والتبين والتأني والبعد عن الاستعجال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] فهذه الآية تتضمن ضرورة الحرص على الإلمام بالحقيقة والواقع إلماما كاملا قبل إصدار القرارات في أي مجال من مجالات الحياة.
فكل حاكم يريد لحكمه أن يستمر ولنظام دولته أن يستقر عليه أن يكون حريصا على الإلمام بحقيقة الأوضاع ببلاده، والشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية (1). ولا مانع من تنظيم الشورى بتشكيل مجالس، أو تعيين نواب أو ممثلين لكل جماعة, وإتاحة الفرصة للاختيار بشرط أن يكون مرجعهم كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بحيث لا تتعارض توصياتهم أو قراراتهم أو تشريعاتهم مع شرع الله عز وجل (2).
ولا مانع من ضبط ممارسة الشورى وفق نظام، أو منشور, أو قانون يعرف فيه ولي الأمر حدود ما ينبغي أن يشاور فيه ومتى وكيف؟ وتعرف الأمة حدود ما تستشار فيه ومتى؟ وكيف؟ لأن الشكل الذي الذي تتم به الشورى ليس مصبوبا في قالب حديدي، فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان.
_________
(1) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص36، 37.
(2) انظر: دستور الأمة من القرآن والسنة، د. عبد الناصر العطار، ص (173، 174).(1/551)
إن القرآن الكريم لم يبين وسائل الشورى، كما لم يبين وسائل تحقيق العدالة، بل ترك ذلك لتقدير الناس ينتهجون أحسن الوسائل التي توصلهم إلى المطلوب على الوجه الأكمل، وذلك يتمشى مع فكرة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، ومع فكرة يسر الدين وسلامة أحكامه من الحرج، ولذلك فسح الإسلام لأتباعه المجال لاختيار التنظيم الذي يرونه محققًا الشورى على وجهها المفيد.
إن أشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها ليست من قبيل العقائد, وليست من القواعد الشرعية المحكمة التي يجب التزامها بصورة واحدة في كل العصور والأزمنة، وإنما هي متروكة للتحري والاجتهاد والبحث والاختيار, أما أصل الشورى فإنه من قبيل المحكم الثابت الذي لا يجوز تجاهله أو إهماله لأن الشورى في جميع الأمكنة والأزمنة مفيدة ومجدية، والدكتاتورية أو حكم الفرد في جميع الأمكنة والأزمنة كريهة ومخربة.
إن شئون الحياة متعددة، ولكل شأن منها أناس هم المختصون فيه وهم أهل معرفته، ومعرفة ما يجب أن يكون عليه، ففي الأمة جانب القوة، وفي الأمة جانب القضاء، وفض المنازعات وحسم الخصومات، وفيها جانب المال والاقتصاد، وفيها جانب السياسة وتدبير الشئون الداخلية والخارجية, وفيها جانب الفنون الإدارية وفيها جانب التعليم والتربية، وفيها جانب الهندسة، وفيها جانب العلوم والمعارف الإنسانية، وفيها غير ذلك من الجوانب، ولكل جانب أناس عرفوا فيه بنضج الآراء، وعظيم الآثار وطول الخبرة والمران.
هؤلاء هم أهل الشورى في الشئون المختلفة، وهم الذين يجب على الأمة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحهم ثقتها، وتنيبهم عنها في الرأي, وهم الذين يرجع إليهم الحاكم لأخذ رأيهم واستشارتهم، وهم الوسيلة الدائمة في نظر الإسلام لمعرفة ما تسوس به الأمة أمورها مما لم يرد في المصادر الشرعية ويحتاج إلى اجتهاد (1).
_________
(1) انظر: الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص57.(1/552)
ولذلك ينبغي أن يعتمد في الشورى على أصحاب الاختصاص والخبرة في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفة, ففي شئون الدين والأحكام يستشار علماء الدين.
وفي شئون العمران والهندسة يستشار المهندسون.
وفي شئون الصناعة يستشار خبراء الصناعة.
وفي شئون التجارة يستشار خبراء التجارة.
وفي شئون الزراعة يستشار خبراء الزراعة، وهكذا وهنا لابد من توجيه الأنظار إلى أنه من الضروري أن يكون علماء الدين قاسمًا مشتركًا في هذه الشئون حتى لا يخرج المستشارون في تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة (1).
هذه إشارة موجزة عن أهمية الشورى ومزاياها وفائدتها في إقامة الدولة وتقويتها وبناء المجتمع الإسلامي المنشود والنهوض به نحو المعالي.
ب- العدالة:
إن العدل هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل, ولذلك اهتم الإسلام بتقرير هذه القاعدة وتأسيسها وتدعيمها، فأكثر الحديث عنها في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة مركز على أن الناس سواسية ومتساوون أمام الشرع.
إن إقامة العدل بين الناس أفرادا وجماعات ودولا، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، قد أجمعت الأمة على وجوب العدل، قال الفخر الرازي - رحمه الله -: «أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل» (2).
_________
(1) انظر: الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص58، 59.
(2) تفسير الرازي (10/ 141).(1/553)
وهذا الحكم تؤيده النصوص من القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومن هذه النصوص:
1 - قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90] وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه.
2 - وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
3 - وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
4 - وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
ثم إن ترك العدل يعد ظلما، والله سبحانه وتعالى حرم الظلم وذم أهله وتوعدهم بالعذاب الشديد يوم القيامة والهلاك في الدنيا (1).
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42].
وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52].
وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22].
إن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة واقع عاشته ومارسته، وطبقته في واقع حياتها، على مر تاريخها الطويل، على تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين، وخبوئها، لقد مارست هذه الأمة العدل مع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها.
_________
(1) انظر: النظام السياسي في الإسلام، د. محمد أبو فارس، ص49.(1/554)
إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكل أشكاله وأنواعه، فإذا نظرنا لتاريخ الدولة الإسلامية في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين، ومن سار على هديهم من التابعين رأينا صورا مشرفة تدل على عظمة هذا الدين، وحب هذه الأمة للعدل:
فها هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال، روى ابن إسحاق (1) أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح (2) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية (3) وهو مستقل من الصف، قال ابن هشام (4) ويقال: مستنصل (5) من الصف - فطعنه في بطنه بالقدح - وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بطنه وقال: استقد، قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك, فدعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخير ... » (6).
وجاء يهودي يشتكي إليه أحد أصحابه قائلا: «يا محمد، إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، قال: أعطه حقه، قال: والذي نفسي بيده، ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه، قال: أعطه حقه، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال ثلاثا لم يراجع ... » (7).
_________
(1) هو العلامة الإخباري أبو بكر القرشي الكلبي مولاهم المدني صاحب السيرة النبوية, توفي عام 151هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 25).
(2) القدح (بكسر القاف وبسكون الدال): السهم (لسان العرب: 2/ 556).
(3) هو سواد بن غزية الأنصاري من بني عدي بن النجار، شهد بدرا وأمَّره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خيبر, انظر: ابن حجر، الإصابة (2/ 95).
(4) هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب النهلي وقيل الحميري، قام بتهذيب سيرة ابن إسحاق وهو من أئمة اللغة، توفي 418هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 429).
(5) مستنصل: أي خارج من نصل، بمعنى خرج، لسان العرب (11/ 662).
(6) سيرة ابن هشام: (1/ 626) تحقيق مصطفى السقا وزملائه.
(7) أخرجه أحمد (2/ 423).(1/555)
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدل وإنصاف لا تأخذه في ذلك لومة لائم ولا قرابة قريب ولا مكانة شريف، فها هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الصادق المصدوق البار في قسمه: لو أن ابنته سرقت لأقام عليها، لا يدفعه عنها كونها ابنة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرج الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن يجترئ عليه إلا أسامة فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها» (1).
وهكذا كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيم العدل، وينفذ الحدود في دولته.
وهذا عمر بن الخطاب يقيم العدل والقسط بين الناس, يحكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام مالك (2) من طريق سعيد بن المسيب: «أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق» (3).
وكان - رضي الله عنه - يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: يا أيها الناس إني لم أبعث عمالي ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين أن عاملك فلانا ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت
_________
(1) البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة إذا رفع إلى السلطان (12/ 87) رقم 6788.
(2) هو مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو، إمام دار الهجرة، ولد عام 53هـ، توفي 179هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 49 - 135).
(3) الموطأ، كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحق، رقم الحديث: 2.(1/556)
هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك, فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيد من نفسه, قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين (1)، وإن لم يرضوه لأقاده (2) - رضي الله عنه -.
وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلا: «يا أمير المؤمنين, عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين.
فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعله يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري،: ضع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني (3).
فانظر إلى هذه المواقف الرائعة لعدالة هذه الأمة، رجل من عامة الناس وفي رواية أنه ذمي من أقباط مصر، يتظلم فيعطى حقه ويقاد من ابن الأمير, يجاء به وبأبيه ليعطي الرجل حقه وينصف, ثم انظر إلى الحاضرين من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف أحبوا ذلك وأيدوه «فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه» لا تشفيا منه ولا شماتة بعمرو وابنه، فالقوم فوق ذلك وأبعد ما يكونون عن التشفي والشماتة، ولكنهم جيل أحب العدل وعاشه وتربى عليه على يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لذا فهو يبغض الجور ولا يحب رؤيته في الأمة ولو كان رجلاً مخالفًا لها في عقيدتها ودينها وشرعها، ويفرح أشد الفرح لرؤية العدالة ترمي بجذورها في أعماق الأمة ليؤخذ حق ضعفائها وأتباعها من أقويائها (4).
_________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 293 - 294)
(2) أقاده: اقتص منه.
(3) انظر: فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم: 225، 226.
(4) انظر: وسطية أهل السنة بين الفرق، ص170.(1/557)
إن الناس إذا شعروا بإقامة العدالة في مجتمعهم، وسيادة العدل في حياتهم، على المسلمين وغير المسلمين، تستقر نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، وتهدأ أحوالهم، ويزدهر مجتمعهم ويعمهم الخير والأمن والأمان والسلامة والإسلام (1).
إن تحقق العدل الإلهي في حياة البشرية هدف لكل مسلم فرد أو جماعة, حاكم أو محكوم, ومن هنا كانت وظيفة كل نبي ورسول ومهمته أن يقيم في الناس القسط، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25].
إن الدولة الإسلامية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال (2) , وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء, أغنياء أو فقراء، عمالا أو أصحاب عمل، قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] , والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لا يحملنكم حب قوم على محاباتهم والميل معهم (3).
يقول الأستاذ أبو علي المودودي - رحمه الله - معقبا على قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] ما نصه: «يعني أنني مأمور بالإنصاف دون عداوة، فليس من شأني أن أتعصب لأحد أو ضد أحد، وعلاقتي بالناس كلهم سواء، وهي علاقة العدل والإنصاف، فأنا نصير من كان الحق في جانبه، وخصيم من كان
_________
(1) انظر: النظام السياسي في الإسلام، ص54.
(2) انظر: النظام السياسي في الإسلام، ص58.
(3) انظر: النظام السياسي في الإسلام، ص52.(1/558)
الحق ضده، وليس في ديني أي امتيازات لأي فرد كائنا من كان، وليس لأقاربي حقوق، وللغرباء عني حقوق أخرى، ولا للأكابر عندي مميزات لا يحصل عليها الأصاغر، والشرفاء والوضعاء عندي سواء، فالحق حق للجميع والذنب والجرم ذنب للجميع، والحرام حرام على الكل والحلال حلال للكل، والفرض فرض على الكل حتى أنا نفسي لست مستثنى من سلطة القانون الإلهي» (1).
إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع المسلم الذي يسود فيه العدل بين الناس، ولابد من إقامة القضاء المستقل في الدولة المسلمة بحيث لا يتعرض القضاء لأي ضغوط كانت, ويصبحون لهم الحرية في إصدار أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من قضايا في حرية تامة ولا تأخذهم في إقامة العدل لومة لائم، القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، المسلم والذمي، الراعي والمرعي، الأمير والحقير .. كل أمام القضاء سواء.
جـ- المساواة:
يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، ولقد أقر هذا المبدأ وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر.
ومما ورد في القرآن الكريم تأكيدا لمبدأ المساواة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» (2).
_________
(1) الحكومة الإسلامية، ص202.
(2) مسند الإمام أحمد (5/ 411).(1/559)
إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديما نحو الإسلام، فكان هذا المبدأ مصدرا من مصادر القوة للمسلمين الأولين (1)، وليس المقصود بالمساواة هنا «المساواة العامة» بين الناس جميعا، في كل أمور الحياة، كما ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدلا (2)، فالاختلاف في المواهب والقدرات، والتفاوت في الدرجات غاية من غايات الخلق (3)، ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي، وليست مطلقة في جميع الأحوال (4)، فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام الشرع والقضاء وكافة الأحكام الإسلامية، والحقوق العامة دون تفريق بسبب الأصل، أو الجنس، أو اللون، أو الثروة، أو الجاه، أو غيرها (5).
إن الإسلام جعل المساواة بين المسلمين في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها, فما من عبادة إلا وتبرز فيها المساواة بين الناس بشكل واضح، فالصلاة مثلا نجد فيها الناس جميعا غنيهم وفقيرهم, حاكمهم ومحكومهم، شريفهم ووضيعهم يصلون في مكان واحد هو المسجد، ويقفون صفوفا متراصة, الفقير بجانب الغني والحاكم بجانب المحكوم، وفي صلاة العيد نجد الناس يقفون جميعا على صعيد واحد وفي العراء لا يظلهم شيء
من الحر.
وفي الحج ماذا يلاحظ المسلم، إنه يجد الناس قد جاءوا من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق بلغات متباينة وألوان مختلفة، ومن أوطان متعددة، وأجناس شتى، يلبسون ثيابًا بيضاء، ويقفون موقفًا واحدًا هو عرفة، ويطوفون طوافا معينا في وقت معين، يقومون بسائر المناسك متساوين لا يتفاضلون في الهيئة والوقت وغير ذلك.
_________
(1) انظر: مبادئ نظام الحكم في الإسلام، عبد الحميد متولي، ص385.
(2) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني (1/ 624).
(3) انظر: فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، ص179.
(4) انظر: الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، شوكت محمد، ص308.
(5) انظر: مبادئ علم الإدارة، محمد نور الدين، ص116.(1/560)
والصوم فريضة الله على الجميع، فقراء وأغنياء, ذكورًا وإناثًا، لم يميز قومًا على قوم أو طبقة على طبقة أو حاكما على محكوم، فأوجبه على جميع الناس ولم يعف منه أحدا حتى ولو كان رئيس الدولة متى توافرت فيه شروط الوجوب، وكذلك الزكاة فقد فرضت على سائر القادرين عليها دون أن يستثنى أحد منهم حتى ولو كان كريما سخيا يبذل أكثر من الزكاة المستحقة في ماله، وفي الحدود وسائر العقوبات فإن الناس أمام الشرع سواء (1).
إن الناس جميعا في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة, والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء.
وجاءت ممارسات المسلمين التطبيقية خير شاهد على ذلك، فهذا أبو بكر في أول خطبة له بعد أن تولى الخلافة يقول: «وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عنده حتى آخذ له حقه» (2).
وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في خطبة له: «أيها الناس من رأى فيَّ اعوجاجا فليقومه، فيقف رجل من وسط الناس يقول: يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا، فيقول عمر: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه» (3).
وهذا عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة أقسم أنه يود أن يساوي في المعيشة بين نفسه وعشيرته، وبين الناس، فقال: «أما والله لوددت أنه بدئ بي،
_________
(1) انظر: النظام السياسي في الإسلام، ص44.
(2) البداية والنهاية لابن كثير (5/ 248).
(3) انظر: نظام الحكم في الإسلام، د. عارف خليل، ص271.(1/561)
وبلحمتي، التي أنا منها، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، أما والله لو أردت غير هذا من الكلام، لكان اللسان به منبسطا، ولكنت بأسبابه عارفا» (1)، وقال في خطبة له: « .... وما منكم من أحد تبلغنا حاجته، إلا أحببت أن أسد من حاجته، ما قدرت عليه ... » (2).
ولقد مارس عمر بن عبد العزيز مبدأ المساواة بين الناس، في الحقوق والواجبات في كل مجالات الحياة، فلم يميز بين الناس في حقهم، في تولي الوظائف والولايات، ولم يعط أحدًا كائنًا من كان شيئًا ليس فه فيه حق، فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني أمية وبين الناس, فمنع عنهم العطايا والأرزاق الخاصة، وقال لهم حين كلموه في ذلك: «لن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال - الذي في بيت مال المسلمين - فإنما حقكم فيه كحق رجل، بأقصى برك الغماد» (3)، فكانت سياسته المالية تقوم على مبدأ المساواة، فبيت المال لجميع المسلمين، ولكل واحد منهم حق أن يأخذ منه أسوة بغيره، فلا يكون حكرا على فئات معينة من الناس، وعندما رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الأرض وجعلوها حمى، يحرم من الاستفادة منها عامة الناس، فقال: «إن الحمى يباح للمسلمين عامة .. وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما هو الغيث ينزله الله لعباده، فهم فيه سواء» (4). كما ساوى بين من أسلم من أهل الأديان الأخرى من النصارى واليهود، وبين المسلمين، وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم, فقال: « .. فمن أسلم من نصراني أو يهودي، أو مجوسي من أهل الجزية اليوم، فخالط عامة المسلمين في دارهم، وفارق
داره التي كان بها، فإن له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه .. » (5).
وفي مجال المساواة بين الناس أمام القضاء، وأحكام الإسلام نكتفي بهذا
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز، ابن عبد الحكم، ص112.
(2) تاريخ الأمم والملوك (6/ 571).
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص236، 237.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز، ص81.
(5) المصدر نفسه، ص79.(1/562)
الموقف، كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أمام القاضي وتفصيل ذلك أنه: «أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد العزيز، فقال له: يا أمير المؤمين، إن عبد العزيز - يقصد والد عمر - أخذ أرضي ظلما، قال: وأين أرضك يا عبد الله؟ قال: حلوان، قال عمر: أعرفها ولي شركاء - أي شركاء في حلوان - وهذا الحاكم بيننا، فمشى عمر إلى الحاكم فقضى عليه، فقال عمر: قد أنفقنا عليها، قال القاضي: ذلك بما نلتم من غلتها، فقد نلتم مثل نفقتكم، فقال عمر: لو حكمت بغير هذا ما وليت لي أمرا أبدا، وأمر بردها» (1).
وكان عمر يقيم وزنًا لمبدأ المساواة بين المسلمين، حتى في الأمور العامة، ومن ذلك أمره بأن لا يُخص أناس بدعاء المسلمين، والصلاة عليهم، فكتب إلى أمير الجزيرة يقول: « ... وقد بلغني أن ناسًا من القصاص قد أحدثوا صلاة على أمرائهم، عدل ما يصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فإذا جاءك كتابي هذا، فمر القصاص، فليجعلوا صلاتهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة، وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين عامة، وليدعوا ما سوى ذلك» (2).
ومن ذلك يتضح اهتمام عمر بالمساواة بين عامة الناس، حتى في الدعاء لهم، ولا يختص أحد بالدعاء, فالمسلمون عامة في حاجة إلى دعوة الله عز وجل لهم، والله سبحانه وتعالى جدير بالإجابة (3). ولم يكتف عمر بالأخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب، بل كان يأمر عماله وولاته بذلك فقد كتب إلى عامله على المدينة يقول له: «اخرج للناس، فآس بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكون أحد الناس آثر عندك من أحد ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون من نازعهم» (4).
_________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم، ماجدة زكريا، ص210.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، ص273.
(3) انظر: إدارة عمر بن عبد العزيز، ص299.
(4) الطبقات لابن سعد (5/ 343).(1/563)
وبعد هذا العرض الموجز نرى أن الدولة الإسلامية لابد لها أن تعمل على إنزال هذا المبدأ في دنيا الناس وعليها أن تراعي الآتي:
1 - العلم بأن مبدأ المساواة لا يخلو من أنه أمر تعبدي، تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى.
2 - إسقاط الاعتبارات الطبقية، والعرقية، والقبلية، والعنصرية، والقومية، والوطنية، والإقليمية وغير ذلك من الشعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانية، والتي تقوم عليها وتستحسنها بعض الجماعات، والدول، والمؤسسات، بل والمجتمعات وإحلال المعيار الإلهي بدلا عنها للتفاضل، ألا وهو (التقوى).
3 - ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، ولا يراعى أحد لجاهه أو سلطانه، أو حسبه، أو نسبه، وإنما الفرص للجميع وكل حسب قدراته، وكفاءاته، ومواهبه، وطاقته، وإنتاجه.
إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية يقوي صفها، ويوحد كلمتها وينتج عنه مجتمع متماسك متراحم يعيش لعقيدة، ومنهج ومبدأ.
د- الحريات:
نعني بالحرية في نظر الإسلام ممارسة الأفراد لكل حق من الحقوق الشخصية (الجانب المادي) والفكرية (الجانب المعنوي) التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة وتعاليمها، ولا تصطدم مع المصالح الجماعية، ولا تتنافى مع الآداب الاجتماعية (1).
لذا فالحرية العامة للإنسان من الأمور الأساسية في حياته، فهي جزء لا يتجزأ من تكوينه النفسي وتركيبه السلوكي منذ أن وجد، ولكن الدنيا لم تعرف حرية بالمعنى الذي جاءت به رسالة الإسلام (2) , فالحرية في الإسلام لا تحتاج إلى أي تحديد من السلطة أو اعتراف، ولا يحتاج المسلم للوصول إلى حريته العامة إلى
_________
(1) انظر: مبادئ الثقافة الإسلامية، لمحمد النبهان، ص360، 361.
(2) انظر: الإسلام تربية الإنسان، إبراهيم سعادة، ص139.(1/564)
اتخاذ أي إجراء، إذ كفل الإسلام حق المسلم في الحرية فكانت أحد مبادئ الحكم التي أقرها الإسلام، ولقد حرص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدون من بعده على تطبيق هذا المبدأ، بمنح المسلمين وغيرهم حقهم في الحرية، وتربية الأمة على ذلك (1).
حقوق الأفراد:
إن لكل فرد في الدولة الإسلامية حقوقا، وقد كفل الإسلام هذه الحقوق وطالب المسلمين بالحفاظ عليها، مادام الفرد واحدا من رعية الدولة الإسلامية، أي مواطنا فيها، سواء أكان مسلما أو كتابيا التزم بدستور الدولة، وخضع لنظامها العام، ولم يتمرد أو يخرج عن الدولة (2).
1 - حق الحياة:
إن الإسلام صان حق الحياة لكل الناس داخل الدولة الإسلامية أو خارجها، للمسلم وغير المسلم، لا يستثنى من ذلك إلا الذي يقف في وجه الدولة الإسلامية, ولا يجوز للدولة أن تعتدي على حياة أي شخص إلا إذا ارتكب جرما يؤاخذ عليه الشرع، ويعاقب عليه القانون الإسلامي، ولا يقف الإسلام عند حد حرمة الاعتداء على الأنفس، بل أوجب على الدولة تقديم الرعاية، وتوفير العيش الكريم لكل فرد لم يستطع الحصول عليه سواء أكان من المسلمين أم من غير المسلمين، إذا وجد المال في بيت المال وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، والشواهد التاريخية منذ العهد النبوي تدل دلالة قاطعة على كفالة الدولة للمحتاجين من أفراد المجتمع في الدولة الإسلامية، دون تمييز بين المسلمين وغير المسلمين، وعلى هذا فإن الدولة الإسلامية من واجبها منع التعدي على أرواح الأفراد، ودفع الظلم عنهم، وتحقيق الكفاية للمجتمع (3).
_________
(1) انظر: إدارة عمر بن عبد العزيز، ص309.
(2) انظر: نظام الحكم في الإسلام، د. عارف خليل، ص151.
(3) المصدر نفسه، ص151، 152.(1/565)
لقد اهتمت الدولة الإسلامية بكل رعاياها حتى المولود الذي يولد في الإسلام, فهذا مثل رائع يدل على هذا الاهتمام، كان الفاروق - رضي الله عنه - يفرض لكل من بلغ سن الفطام عطاء من بيت مال المسلمين، فكان الآباء ينتظرون بشوق ليوم فطام أبنائهم إذ يذهبون بهم إلى صاحب الديوان، فيسجل أسماءهم وعطاءهم السنوي، ولعل بعض الناس كانوا يعجلون فطام أبنائهم من أجل العطاء فيضرون بالأبناء ويستفيدون بالعطاء وما كان عمر يعلم ذلك.
وبينما الفاروق يحرس في قافلة دخلت المدينة ليلا، وكان معه عبد الرحمن بن عوف سمع صوت بكاء طفل، فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه فقال: ويحك إني لأراك أم سوء، ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟
قالت: يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة (أي أضجرتني) إني أريغه (1) عن الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: ويحك يا تعجليه، فصلى الفجر وما يتبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم قال: لا بؤسًا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر مناديا فنادى: أن لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام وكتب بذلك إلى الآفاق (2).
ونستخلص من الحادثة عدة أمور:
- إحاطة الفاروق المباشرة بشئون الرعية وتتبعه أخبارهم بنفسه حيث علم بقدوم القافلة ومنزلهم.
- القدوة الحسنة منه حيث أخذ معه سيدا آخر من عظماء الصحابة هو عبد الرحمن بن عوف لحراسة القافلة ولم يكلف أحدا من المسلمين.
_________
(1) أريغه عن الفطام: أي أريده أن ينفطم.
(2) مجمع الزوائد (6/ 6، 7) وصحح الحديث.(1/566)
- بحثه وتحقيقه عن بكاء الصغير, ما سببه؟ وتكراره النصيحة لأمه حتى خرج بالسبب الذي كان سببا في إسعاد كثير من المسلمين آباء وأبناء.
- مسارعته إلى حل المشكلات بأفضل الطرق وأقومها.
- تعميمه ذلك القرار الحكيم على الولايات في الدولة، فأصبح كل مولود في الإسلام يتعين له عطاؤه السنوي. إن هذا العمل لا يوجد له نظير في التاريخ البشري كله قديمًا وحديثًا (1).
وعامل أهل الكتاب معاملة رفيعة «فعندما مر بباب قوم وعليه سائل يسأل - شيخ ضرير البصر - فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية, والحاجة، والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل (2)، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه» (3)، وقد كتب إلى عماله معمما عليهم هذا الأمر (4). إن حق الحياة الكريمة في الدولة الإسلامية محفوظ لكل رعاياها.
2 - حرية العمل:
إن الدستور الإسلامي يبيح لرعاياه الحرية الاقتصادية المتمثلة في حرية العمل والتملك, وقد دعا الإسلام الناس إلى العمل وحثهم عليه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
إن من حق الفرد في الدولة الإسلامية أن يمارس جميع الشئون الاقتصادية
_________
(1) انظر: أولويات الفاروق، د. غالب القرشي، ص363، 364.
(2) رضخ: أعطاه شيئًا ليس بالكثير.
(3) أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/ 38).
(4) نصب الراية للزيلعي (3/ 453).(1/567)
بشرط ألا يخرج إلى دائرة المحرمات التي منعتها الشريعة الغراء مثل الربا، والغش، والاحتكار، والقمار فإذا وقع الفرد في المحرمات تتدخل الدولة لمنعه من أجل المحافظة على مصلحة الأمة التي قدرتها الشريعة وأحكمتها بتوجيهاتها.
لقد أباحت الشريعة حرية التجارة والكسب وحرص الخلفاء على حماية هذا النوع من الحرية, فهذا عمر بن عبد العزيز قد أكد في كتاب له إلى عماله، على ضرورة منح الناس حرية استثمار أموالهم، والاتجار بها في البر أو البحر على حد سواء فقال: « ... وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر لا يُمنعون ولا يُحبسون ... » (1).
وفي شأن البر والبحر، وأنهما مما سخر الله لعباده لابتغاء فضله، ولحرية الكسب فيهما يقول: «وأما البحر فإنا نرى سبيله سبيل البر، قال سبحانه: {اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} [الجاثية: 11] فأذن فيه أن يتجر فيه من شاء، وأرى أن لا نحول بين أحد من الناس وبينه - يقصد البحر - فإن البر والبحر لله جميعا، سخرهما لعباده يبتغون فيهما من فضله، فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم» (2).
3 - حرية النقد والحرية الشخصية:
إن المجتمع الإسلامي في أصله كالجسد الواحد قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
وفي السنة النبوية طائفة من الأحاديث توجب على الأفراد محاسبة السلطة ونصحها, ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: سمعت
_________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز، ابن عبد الحكم، ص78.
(2) المصدر نفسه، ص82.(1/568)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك
أضعف الإيمان» (1).
إن الدستور الإسلامي منح للمسلمين الحرية السياسية، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، حتى وإن كان حاكما أو واليا، وقد بينا في بحثنا هذا موقف الخلفاء الراشدين، وهذا عمر بن عبد العزيز عندما تولى الخلافة أعاد الأمور إلى نصابها وأعلن استئناف الحرية السياسية وشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منكرا على الناس واقعهم المظلم، وأن الإسلام لا يرضى السكوت على الظلم، فقد خطب الناس يوما فقال: « ... ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تسمون الهارب من ظلم إمامه العاصي، ألا وإن أولاهما بالمعصية
الإمام الظالم» (2).
ولقد قام هذا الخليفة العادل بالتنازل عن الخلافة عقب إعلان العهد له بالخلافة، وطلب من الأئمة أن تختار لهم خليفة، فاختاره أهل الحل والعقد وبايعته الأمة، ولقد أعطاهم مجالاً واسعًا للرأي والتعبير وأتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه, وأطلق للكلمة حريتها، وترك للناس حرية التعبير، قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (3) - رضي الله عنه - عندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة: «اليوم ينطق كل من كان لا ينطق» (4) , وهذا وصف موجز رائع يدل على الحرية في دولة عمر بن عبد العزيز.
إن حرية النقد، والتعبير تبني مجتمعا سليما صالحا للتطور والتقدم والازدهار، وتقضي على أمراض النفاق والتزلف وهي من أخطر الأمراض التي تضعف المجتمع، وتجعله ينحدر في الضعف والهوان والضياع.
_________
(1) مسلم بشرح النووي، (2/ 22).
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز للإمام ابن الجوزي، ص240.
(3) هو حفيد أبي بكر الصديق، تابعي من الفقهاء السبعة, توفي عام 112هـ، ابن سعد (5/ 344).
(4) الطبقات لابن سعد (5/ 344)(1/569)
إن الإسلام احترم الإنسان وقدره وأعطاه ما يضمن له حريته الشخصية، من حرية التنقل، فله أن ينتقل من مكان إلى آخر، وأن يخرج من البلاد ويعود إليها دون أن يكون هناك أي قيد على هذا التنقل، إلا ما تقتضيه مصلحة البلاد كمنع السفر دخولاً وخروجًا حين انتشار الوباء، وفقا لحديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه» (1).
ومن الحريات الشخصية التي كفلها الإسلام لكل فرد في الدولة حق الأمن، فلا يجوز في نظر الشريعة حبس شخص إلا بسبب جريمة تستحق العقوبة، لأن الأصل في هذه الحالات أن الإنسان برئ حتى تثبت إدانته, فالمسكن مصون في الإسلام، فلا يجوز اقتحامه من غير استئذان إلا عند الضرورة (2) , قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27].
* * *
_________
(1) البخاري، كتاب الحيل، باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون (8/ 28) رقم 6973.
(2) انظر: نظام الحكم في الإسلام، د. عارف خليل، ص155.(1/570)
المبحث الثاني
نشر الدعوة إلى الله
وذلك أن دين الإسلام، دين دعوة مستمرة، لا تتوقف، حتى تتوقف الحياة البشرية من على وجه الأرض.
وممارسة الدعوة بعد التمكين هي الممارسة المجدية القادرة على الوصول إلى أهدافها, لأن دولة وحكومة ترعيانها وتؤيدانها، والحق مهما كان واضحًا، فإنه بحاجة إلى قوة تؤيده وتحميه، ذاك الشأن هو سنة من سنن الله في الأرض، إن الدولة المحكمة لشرع الله هي المناط بها إعداد وتهيئة وحماية الدعاة، وتوفير السبل والوسائل المعينة لهم على القيام بهذه المهمة، وهي المسئولة أيضا عن نشر هذه الدعوة في أرجاء الأرض وربط السياسة الخارجية على الأسس الدعوية العقدية، قبل بنائها على الأسس المصلحية النفعية، وذلك كما كان يفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم بتبليغ الدعوة إلى الآفاق امتثالا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وقد امتثل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأمر وأرسل إلى ملوك الأرض فكتب إلى ملك الروم، فقيل له: إنهم لا يقرأون كتابًا إلا إذا كان مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة, وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث كتبًا ورسلاً إلى ملوك فارس والروم، والحبشة ومصر والبلقاء واليمامة في يوم واحد، ثم بعث إلى حكام عمان والبحرين واليمن وغيرهم (1).
إن الدولة المسلمة من أهدافها دعوة الناس إلى دين الله, ولذلك ربما تؤسس وزارة أو مؤسسة أو هيئة خاصة بأمور الدعوة وظيفتها إعانة الدعاة للتغلب على هموم الدعوة، بكل ما أوتيت من إمكانات فهي التي تشرف على:
_________
(1) انظر: زاد المعاد لابن القيم (1/ 119 - 124).(1/571)
1 - إعداد الدعاة على المستوى الذي يتطلبه العصر الذي يعيشون فيه، والمجتمع الذي يمارسون فيه الدعوة، إعدادا علميا فنيا ميدانيا.
2 - تنظيم وسائل الإعلام والتنسيق بينها لتؤدي مهمتها في الدعوة إلى الله.
3 - توجيه دعوة الله إلى عامة المسلمين والمقصرين في حق دينهم, وتوجيه الدعوة إلى غير المسلمين في العالم كله إلى غير ذلك، ودعوة الأمة المسلمة إلى الله تكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والدعوة إلى الأخلاق الكريمة بكل الوسائل الشرعية، وأما خارج الأمة، فمن أعظم الوسائل الجهاد في سبيل الله.
أولاً: إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن من وسائل الدعوة إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال إشراف الدولة، لأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي جزء من سياسة الدولة الإسلامية الحاكمة بما أنزل الله، فهي ليست مجرد جهد شخصي من المتطوعين أصحاب النوايا الطيبة، وليست أصواتا تعلو فوق المنابر تخاطب البناء التحتي للمجتمع الذي لا يملك حولا ولا قوة حيال منكرات ومفاسد مدخولة على حياة الناس .. لا، ليس الأمر كذلك ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان خطة الدولة في إقامة الدين الذي تستمد الدولة شرعيتها منه.
فعبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، هي الأرضية التي تنطلق منها السياسات الإعلامية والتثقيفية والتعليمية والاجتماعية والمالية، وشتى النواحي التي ينعكس أثرها على الدين سلبا أو إيجابا، فبهذا تكون الدولة مقيمة لشعائر الإسلام الظاهرة التي بها تعرف أنها دار إسلام.
يقول ابن تيمية - رحمه الله: « ... وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكِّن من المنكر، كان(1/572)
قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالا يجاهد به في سبيل الله، فقاتل به المسلمين» (1).
وواضح من كلامه -رحمه الله- أن واجب الولاة إقامة هذه الشعيرة وتمكين الناس من أدائها، لا منعهم منها.
إن الأمة لا تكون خير أمة أخرجت للناس إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. وبإقامة هذه الشعيرة تتوطد دعائم المجتمع الإسلامي على أسس الحق والخير، وبه تقمع دعاوى المناوئين والمشاغبين على نهج الإسلام, قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عنوان خيرية هذه الأمة، حتى إن الآية قدمته في الذكر قبل الإيمان، لأن الإيمان والدين لا يحفظان في حياة المسلمين دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومما يدل على أن الدين يضيع إذا لم يأتمر الناس بالمعروف ويتناهون عن المنكر ما حدث لبني إسرائيل، إذ كان إهمالهم لتلك الفريضة بداية النهاية لفقدهم رتبة التفضيل على ألسنة الرسل، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
إن من واجبات الدولة المسلمة العمل على إحياء هذه الشعبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإعداد من يقوم عليها فقها، وخلقا، وتفرغا، واحتسابا لوجه الله تعالى.
بل إن الدولة تقوم بإنشاء هيئة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها مؤسساتها ونظمها وقوانينها ولوائحها, تقوم هذه الهيئة بإلزام الناس بمنهج الإسلام
_________
(1) مجموع الفتاوى (28/ 303).(1/573)
في الحياة وتقف الحكومة من وراء هذه الهيئة وتدعمها، ويدخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الحدود، وجلب المصالح، وإحياء الأخلاق الكريمة، فإقامة حدود الله وفق تطبيق أمثل وأحكام عادلة، أمن للأمة واستقرار للمجتمع وثبات للدين، وقوة للدولة، ورضا لرب العباد, يقول ابن القيم رحمه الله: «الحدود جعلها الله تعالى زواجر للنفوس وعقوبة ونكالاً وتطهيرًا فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد, بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات» (1).
وإن من يستقرئ أحوال المجتمعات القديمة والمعاصرة يرى ما تصنعه من وسائل وأجهزة، وما تستحدثه من فلسفات ومناهج وأساليب تقف من ورائها مؤسسات علمية وتربوية وفنية إلى جانب السياسات التشريعية والتنفيذية، كل هذا من أجل تثبيت أركان المبادئ التي تقوم عليها هذه المجتمعات ومنع ما قد يتهددها من أخطار. ومجتمع الإسلام يقوم بمبادئ الدين الحق، وهذا الدين به تحفظ ضروريات الناس من عقيدة ومال وعرض وعقل، فكان لابد من المحافظة عليه، محافظة على هذه الضروريات.
وهذه المحافظة على الضروريات، من أجلها شرعت الحدود، قال الغزالي رحمه الله: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة هو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة» (2).
وعندما تحمي الدولة الإسلامية كل واحد من رعاياها على هذا النحو فلا شك أنها قد حققت قدرًا كبيرًا من معنى إقامة الدين في الأرض. فهي ستمنع بذلك, أو تعمل على منع الكفر والقتل والزنا والسرقة والسكر وما شابه ذلك من آفات المجتمع التي لا تقوم على الدين.
_________
(1) أعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 184).
(2) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/ 457).(1/574)
والحدود الشرعية جديرة بتحقيق ذلك كله, فقضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعة من يفتنون الخلق عن دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص، الذي به حفظ النفوس، وإيجاب حد شرب الخمر، الذي به حفظ العقول، التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الشرب، الذي به حفظ النسل والأنساب وإيجاب زجر الغُصَّاب والسُّرَّاق، بما يحفظ الأموال التي هي معاش الخلق، كل هذا مما يعتبر من الضروريات التي لا يصلح أمر الناس إلا بها.
وللإسلام نظامه الخاص في إقامة المجتمع على الدين عن طريق إقامة الحدود فهو يبذل كل المساعي، ويسلك كل الطرق لمنع وقوع الجرائم والمخالفات، فإذا وقعت كان علاجه لها هو الناجح في محو آثارها، والناجع في إنجاء المجتمع من شره (1)، إن مرحلة التمكين من أهدافها أن يسود شرع الله في كل شئون الحياة.
إن تلك الفرائض المنوطة بدولة الإسلام الحاكمة بما أنزل الله، تطبيقا لحدود الله وإقامة لشريعته .. إنما هي متفرعة عن قيامها أولا بإيجاد واقع عملي في حياة الناس، تقوم بعد ذلك بمقتضاه بتطبيق الحدود وتنفيذ الشرائع, فلابد إذن من واقع عملي إصلاحي يتكفل بتوفير المطعم للجوعان، والملبس للعريان، والزوجة للأعزب، والعون للمحتاج، ثم تحاسب بعد ذلك بمقتضى الشرع من استبد به النزق فخرج عن حدود الله، وخالف مبادئ الدين.
إن غاية التشريع الإسلامي هي إسعاد الناس وإصلاحهم، وتيسير أمرهم ورفع الحرج عنهم, قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا - يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 - 28] إذن فإصلاح دنيا الناس أساس، وتطبيق أحكام الحدود والقصاص وغيره، والإجراءات الوقائية إنما هي محافظة على ذلك الإصلاح
_________
(1) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/ 457).(1/575)
حتى لا يعكر صفوه بفتنة محارب عدواني، أو شهواني زان، أو لص سارق، أو ملحد مارق.
إن من أهداف مرحلة التمكين إنزال منهج الإسلام الإصلاحي في دنيا الناس والذي يدور حول مصالح ثلاث:
1 - درس المفاسد، المعروف عند أهل الأصول بالضروريات.
2 - جلب المصالح، المعروف عندهم بالحاجيات.
3 - الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات المعروف عند الأصوليين بالتحسينات والتتميمات (1)، وبإقامة حكم الله تتحقق هذه المصالح الثلاث، وبالتالي تصلح أحوال الدنيا وتستقيم على منهج الله، ومن ثم يكون ذلك صلاحًا لآخرة الناس أيضًا.
وعلى وجه الإجمال يمكننا تتبع مقاصد الشريعة في الحكم الإسلامي بإلقاء نظرة على تشريعاته الهادفة لتحقيق المقاصد الثلاثة:
أ- درء المفاسد، وهو المعبر عنه بالضروريات، وا لمراد به درؤها عن ستة أشياء:
1 - الدين:
جاءت أحكام الشرع حاسمة في درء أي مفسدة قد تلحق بالدين، فكان أن شرع الإسلام الجهاد لدفع الفتنة وإعلاء كلمة الله، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [البقرة: 193].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال: 39].
فالأولى في قتال من بدأ المسلمين بالظلم، والثانية استغرقت كل فتنة وكل كفر من كافر، فالقتال فيها محاربة للكفر الذي يعتبر أكبر تهديد للدين، ولهذا «كله» بالتأكيد الحصري (2).
_________
(1) انظر: الموافقات (2/ 8 - 16).
(2) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/ 466).(1/576)
وقد روى أبو بكر الصديق عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة, فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأقاتلنهم على منعه» (1).
وهو قتال من أجل نشر الدعوة للدين، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» (2) وهو من أجل حفظ الدين من عبث المرتدين.
2 - النفس:
جاءت شريعة الإسلام بأحكام القصاص للمحافظة على النفس، ودرء المفاسد الناشئة عن شيوع القتل وسفك الدماء المحرمة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178].
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]
وقال تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ
مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
3 - العقل:
وقد جاءت الأحكام الشرعية بالمحافظة على العقل الذي ميز الله به الإنسان وكرمه, فحرمت الخمر التي تذهب بالعقل وتغيبه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ" إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» (3)، وشرع إقامة الحد على السكران، وحرم المخدرات والمفترات التي تؤثر على سلامة العقل (4).
_________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (1/ 51) رقم 32.
(2) البخاري، كتاب الجهاد، باب: لا يعذب الله، فتح الباري (6/ 173).
(3) البخاري، كتاب الأشربة، باب: الخمر من العسل، فتح الباري (10/ 44) رقم 5585.
(4) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/ 467).(1/577)
4 - النسب:
جاءت الشريعة لدفع كل مفسدة تلحق بالأنساب، فإلى جانب تحريم الزنى
وإيجاب الحد على الزناة المعلوم من قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32].
وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
وإلى حد الرجم للمحصنين - إلى جانب ذلك، أوجبت الشريعة العدة على النساء عند مفارقة الأزواج بطلاق أو موت، لئلا يختلط ماء الرجل بماء رجل آخر في رحم المرأة، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وكذلك منعت الشريعة نكاح الحامل حتى تضع، حتى لا يسقي الرجل بماء غيره, فقال تعالى: {وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
وهذه الأحكام كلها يؤول تنفيذها إلى القاضي المسلم في الدولة المسلمة إضافة إلى مسئولية الناس الشخصية عن تبعاتها في المجتمع المسلم.
5 - العرض:
إن شريعة الإسلام كفلت كل وسائل حماية العرض، فنهت المسلم عن أن يتكلم في حق أخيه بأي شيء يؤذيه، وأوجبت حد القذف ثمانين جلدة، على من يقذف, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
وحرمت الشريعة الغيبة: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12].
ونهت عن اللمز والتنابز بالألقاب: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ} [الحجرات: 11].(1/578)
وحرمت اللعن والسب وعموم الأذى للمؤمنين, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
6 - المال:
جاءت الشريعة الإسلامية لحفظ أموال الناس التي هي قوام حياتهم، وقد حرم الإسلام كل وسيلة لأخذ المال بغير حق شرعي، فقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] , وحرم السرقة وأوجب الحد على من ثبت عليه تلك الجريمة, فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38].
وكذلك حرم الإسلام الربا الذي يهدد مصالح الأفراد واقتصاد الدول، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [آل عمران: 130].
وحرم كذلك الغش والاحتكار والنهب والاختلاس والغلول وغير ذلك من أشكال الاعتداء على المال، وكل ذلك داخل في أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه.
وبتوافر الحماية لهذه العناصر الستة، يقصد المنهج التشريعي الإسلامي إلى إصلاح حياة الناس، بدرء المفاسد عنها، وقدم الإسلام درء المفاسد على جلب المصالح رغم أن درءها هو في حد ذاته مصلحة كبرى، إذ بذلك يمنع الشر أولا، ثم يستجلب الخير. فهذا إصلاح بالسلب وذلك بالإيجاب وهو ما نعنيه من قولنا: إن الدعوة إلى الله من أهداف التمكين وذلك بإنزال منهج الإسلام الإصلاحي في دنيا الناس والذي يدور حول مصالح ثلاث: درء المفاسد، وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق.
ب- جلب المصالح «المعروف بالحاجيات»:
إن جلب المصالح مجاله واسع رحيب, فالشريعة فتحت أبواب الحلال على(1/579)
مصاريعها في جميع مناحي المعيشة وجعلت هذا الحلال أسلوب حياة تحرسه الدولة وتزيل العقبات من طريقه، فكل نوع من التكسب والإنتاج والصناعة والفن والثقافة لا يدخل في محرم، إنما هو من حقوق الناس، ليس لأحد أن يحرمه عليهم أو يحرمهم منه، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ} [المزمل: 20].
وقد جاء الشرع المطهر بإباحة المصالح المتبادلة بين الفرد والمجتمع على الوجه المشروع، ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع والإجارات والمساقاة والمضاربة وما يجري مجرى ذلك.
جـ- إحياء مكارم الأخلاق ومحاسن العادات بين الناس:
إن الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (1).
إن الدولة الإسلامية من واجبها أن تهيئ جوا تنشأ فيه مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال من الطهر والعفاف والنقاء، تحرسه شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحميه شعيرة الحسبة، والدعوة إلى الله، لتكون أساسا للمعاملة بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والولي والمولى، والراعي والرعية.
إن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وتعليم الأمة أمر دينها يترتب عليه فوائد ومصالح عامة للأمة والأفراد، والحكام والمحكومين, ومن أهم هذه الفوائد:
1 - إقامة الملة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة الله هي العليا:
قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ} [الحج: 40].
_________
(1) أحمد في مسنده (2/ 381) وصححه أحمد شاكر، انظر: تحقيق المسند (18/ 80) رقم 8939.(1/580)
إن الإنسان لابد له من أمر ونهي ودعوة, فمن لم يأمر بالخير ويدعُ إليه أمر بالشر (1).
2 - رفع العقوبات العامة:
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وقال أيضا في الجواب عن سبب مصابهم يوم أحد: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك.
وقال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116].
وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وهذه إشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فإن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، أما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر ذلك، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار والهلاك كما هي سنة الله تعالى في خلقه. وبهذا تعلم أن دعاة الإصلاح المناهضين للطغيان والظلم والفساد هم صمام الأمان للشعوب، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين للخير والصلاح الواقفين للظلم والفساد، إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع» (2).
3 - استنزال الرحمة من الله تعالى، لأن الطاعة والمعروف سببان للنعمة:
قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من العبودية لله.
_________
(1) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خالد السبت، ص72.
(2) في ظلال القرآن (4/ 1933).(1/581)
4 - شد ظهر المؤمن وتقويته ورفع عزيمته وإرغام أنف المنافق:
فإن المؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر الخير والصلاح ويوحد الله لا يشرك به وتضمحل المنكرات على إثر ذلك، بينما يخنس المنافق بذلك ويكون ذلك سببا لغمه وضيق صدره وحسرته، لأنه لا يحب ظهور هذا الأمر ولا ذيوعه بين الخلق (1).
قال الثوري - رحمه الله -: «إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق» (2).
5 - تحقيق وصف الخيرية في هذه الأمة:
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]. وقال عمر - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية: «من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها» (3).
6 - التجافي عن صفات المنافقين:
إن من أخص صفات المؤمنين القيام بهذا العمل الطيب, قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71].
ثانيًا: الجهاد في سبيل الله:
إن الأخطار التي تهدد الدولة المسلمة كثيرة جدا، منها ما قد يأتي من داخل الدولة، وهذا يتكفل نشر العلم والدعوة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود بالتصدي له، أما ما قد يجيء من خارج حدود الدولة الإسلامية، فإن منه ما يكف شره بالبيان، ومنه ما لا سبيل إلى قطع دابره إلا بالسيف والسنان.
_________
(1) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خالد السبت، ص77.
(2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للخلال، ص67.
(3) تفسير الطبري، (5/ 102).(1/582)
ولكي يحقق الحكم الإسلامي مقصده في إقامة الدين في الأرض بلا معوقات، فلابد أن يكون مستعدا لما قد يكون في الطريق من عقبات ترد الدعوة، أو تصد الدعاة عن القيام بواجب نشر الحق ولهذا كان لابد أن تتهيأ دولة الإسلام لما تواجه به هذه الظروف، وتعد الأمة للجهاد دائما ضد كل متصدر للوقوف في طريق كتائب الحق المتحركة نحو رضا الله، وإذا كان الجهاد وسيلة من وسائل إقامة الدين في الأرض، فإن «إقامة حكم الله في الأرض والتمكين لدينه، غاية من غايات الجهاد في سبيل الله، والذي يجب أن يسعى لتحقيق هذه الغاية هم المسلمون الذين آمنوا بها وذاقوا حلاوتها, وعلموا أن من حق البشر عليهم أن يسعوا لإسعادهم بها، ولو كان الناس يقبلون دعوة المسلمين إلى تحكيم هذا الكتاب عليهم أن يكتفوا بالدعوة إلى ذلك لأنه يحقق الهدف، ولكن أكثر الناس لا يكفيهم أن يرفضوا تحكيم كتاب الله، بل إنهم يقفون محاربين من أراد تحكيمهم بكل ما أوتوا من قوة، وهذا يحتم على أولياء الله أن يجاهدوا أعداءه الذين يحاربونهم
من أجله» (1).
إن الدولة الإسلامية التي تسعى لتحقيق أهداف التمكين من واجباتها تشكيل وزارة للجهاد في سبيل الله، ووضع نظام للجهاد يتلاءم مع قيم الدين وآدابه في إعداد الجنود، بعيدة عن الأنظمة الوافدة أو المستوردة، إن الإعداد للجهاد والاهتمام به ليس عدوانا على أحد، حتى ولو كان من غير المسلمين، إنما هو تأمين لحاضر المسلمين ومستقبلهم وحماية لأرضهم وعرضهم ومالهم ودينهم ونفوسهم أمام أي معتد على واحدة من هذه التي يعتز بها كل إنسان إن كان من أصحاب الفطر السوية (2).
إن الجهاد في سبيل الله - تعالى - من أهم مقومات التمكين، والحديث عن الجهاد للإحاطة بكل جوانبه أمر لا يحتمله هذا البحث المتواضع، ذلك أن أمر الجهاد عظيم فهو جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية ومن رسالة الأمة الإسلامية.
_________
(1) الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته، د. عبد الله القادري (2/ 159).
(2) انظر: فقه الدعوة إلى الله (2/ 744، 745).(1/583)
إن الجهاد في سبيل الله مقوم أساسي من مقومات التمكين للأمة، وإن الجهاد والتمكين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا, فلا تمكين إلا بجهاد، فإذا صدق الجهاد كان التمكين بإذن رب العالمين (1).
إن طبيعة هذا الدين: الجهاد وإنه من أخص خصائص الأمة الإسلامية، ولهذا لم يتركه المسلمون ولم يفرطوا فيه في أي عصر من عصورهم.
قال تعالى مخاطبا الأمة الإسلامية: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] «فالقرآن الكريم صريح في هذا النص الكريم أن الجهاد في سبيل الله فريضة على المسلمين، كما فرض عليهم الصلاة والصيام والزكاة والحج، وقد كشف الله - تعالى - عن سر هذا التكليف، وحكمة هذه الفريضة التي افترضها على المسلمين, فبيَّن لهم أنه اجتباهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سواس خلقه, وأمناء على شريعته, وخلفاءه في أرضه, وورثة رسله في دعوته» (2).
والآية الكريمة - السابقة - جمعت كل ضروب الجهاد وأبوابه، من قتال العدو ومن الإعداد لذلك ومن بذل المال والنفس، ومجاهدة الشهوات، ومجاهدة الشيطان، وتشمل الجهاد باللسان والأدب والفكر والسياسة والاقتصاد .. جهادا كاملا يستوعب طاقة الأمة كلها، ويستوعب مواهبها وقدراتها، فذلك أصل معنى الجهاد: «استفراغ الوسع والطاقة، وهو معنى مستمر ممتد لا يتوقف» (3).
والجهاد بهذا المعنى الشامل فرض عين أما القتال - وهو نوع من أنواع الجهاد - فهو كفاية، ولا يتعين إلا في الحالات الآتية:
_________
(1) انظر: تمكين للأمة الإسلامية، ص73.
(2) الرسائل، حسن البنا، ص49، 40.
(3) لقاء المؤمنين، عدنان النحوي (2/ 159) بتصرف.(1/584)
1 - إذا التقى الصفان.
2 - إذا نزل الكفار ببلدة فيتعين على أهلها قتالهم.
3 - إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفرة معه.
4 - قال ابن قدامة في المغني: «وأقل ما يفعله الإمام مرة كل عام» (1).
إن الجهاد ضروري لقيام الدعوة واستمرارها، وهو وسيلة من وسائلها, يقول الأستاذ/ عدنان النحوي: «ونحن - معشر أمة الإسلام - لا نريد القتال أساسا لأجل القتال، ولا لأجل الحرب, وكذلك فلسنا أعداء لأحد من الناس من حيث الابتداء، ولكن لنا من بين الناس أعداء الذين هم أعداء الله، والذين يوقدون نار الحرب، ويسعون للفساد في الأرض، ويفتنون الناس عن الإيمان، ويصدون عن سبيل الله، والمؤمن يمضي بدعوته جاهدا كي يفوِّت فرصة الفساد والإفساد، ويطفئ نار الفتنة والهلاك حتى تمضي الدعوة الإسلامية تشق طريقها، فإن أبوا إلا المضي في إشعال الفتنة والسعي في الفساد، فإنه لا مفر من القتال، وكما يقولون: آخر الدواء الكي» (2).
«فالجهاد في سبيل الله - تعالى - ليس هدفا منفصلا عن الدعوة إلى الله، بل هو مرتبط بها ارتباطا كاملا، يدور القتال لأجل الدعوة، ويتوقف لأجل الدعوة فهو إذن وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، وقوة من قواها لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد، وليمض الجيل المؤمن بالدعوة بكل قواها، وسلامة نهجها حتى تكون كلمة الله هي العليا.
وهو كذلك وسيلة من وسائل حماية الدعوة وحماية المسلمين أنفسا، ودارا, وثروات، ومنهاجا، وهو كذلك وسيلة لدفع الدعوة في الأرض حتى تبلغ الناس كافة، حين لا تنفع الحكمة والموعظة الحسنة، ولا يكفي جهاد اللسان
_________
(1) المغني (10/ 265).
(2) لقاء المؤمنين (2/ 199).(1/585)
والبيان، وحين تصد الدعوة عن غايتها، وتقفل الدروب والمسالك أمامها، وتبذل الجهود لخنقها» (1).
«وإذا انعزل القتال - الذي هو صورة من صور الجهاد في سبيل الله - عن الدعوة بصورة أو بأخرى، وإذا فقد أهدافه الإيمانية وخصائصه الربانية، فقد جوهره وحقيقته، وأصبح قتالاً كقتال سائر الناس في الأرض، عدوانًا وظلمًا، واستعمارًا، ونهبًا, وجرائم تتلوها جرائم، وحمية جاهلية، الإسلام منها برئ» (2).
ومن أهم خصائص الجهاد أنه «في سبيل الله»:
إن المتدبر لكتاب الله - تعالى - يجد أن كلمة «في سبيل الله» تأخذ عمقًا بعيدًا, ومعنى واسعًا، ففي معظم آيات الجهاد تأتي لفظة «الجهاد» مقرونة بقوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللهِ" أو {فِي اللهِ" أو {فِينَا".
قال تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 41].
وقال جل شأنه: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وإن لم ترد مثل هذه الكلمات فإنها تكون مفهومة ضمنا بحيث يظل الجهاد في الإسلام جهادا في سبيل الله «فقط» وليس في سبيل شيء آخر (3).
وقد سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (4). إن الجهاد في سبيل الله له أهداف من أهمها: إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض، دفع عدوان الكافرين، نيل الشهادة في سبيل الله، تصفية
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 164).
(2) المصدر نفسه (2/ 86).
(3) انظر: لقاء المؤمنين (2/ 192).
(4) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء (4/ 179).(1/586)
الصف الإسلامي من عناصر الإفساد, كما أن له ثمرات: إعزاز المسلمين وإذلال الكافرين، وحدة صفوف المسلمين، هداية المجاهدين وتسديد خطواتهم، دخول الناس أفواجا في هذا الدين، التزام المسلمين بالإسلام، والحرص على حمايته، وعدم التفريط فيه، إسعاد الناس بنور الإسلام
وعدله ورحمته.
أ- أهداف الجهاد في سبيل الله:
إن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلاء كلمة الله لتحقيق عبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]. ومفهوم العبادة شامل لنشاط الإنسان كله ويفسر ذلك قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163، 164].
ومن أجل هذه الغاية جاهد جنود الدولة الإسلامية في عصرها الزاهر، وقد سأل رستم قائد الفرس ربعي بن عامر: ما جاء بكم؟ فقال: ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله, ومن ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه, فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه, ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي» (1).
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: «والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين لله، فمقصوده إقامة دين الله، لا استيفاء الرجل حظه، كان ما يصاب
به المجاهد في نفسه وماله أجره على الله, فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة» (2).
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 39).
(2) الفتاوى (15/ 170).(1/587)
هذه هي الغاية العليا الشاملة للجهاد في سبيل الله، ويمكننا أن ندخل نقطتين تحت أهداف الجهاد في الدولة الإسلامية منها:
1 - إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض:
إن إقامة حكم الله في الأرض هدف من أهداف الجهاد، ولذلك تسعى الدولة المسلمة لتحقيق هذا الهدف من خلال أجهزتها ومؤسساتها وتوظيف كل إمكاناتها، وفتح المجال للمسلمين للسعي الدءوب من أجل إنزال حكم الله، ونظام الإسلام في دنيا الناس، ليتمتعوا بحكم الله الذي يؤتي كل ذي حق حقه بلا نقص.
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
قال سيد قطب - رحمه الله -: «وجاهد الإسلام ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه، وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال, ويلغي في الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها، وصورها, فليس هناك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس وتستذلهم عن طريق التشريع، إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء, وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء، فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله موكلا عن الجماعة ليقوم بهذا التنفيذ حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر, فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد .. جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه, وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الطاغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية بغير حق، ولم يكن(1/588)
بد أن تقاومه تلك النظم الطاغية في الأرض كلها وتناصبه العداء، ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض, وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ} [البقرة: 193] فلا تكون هناك ألوهية للعبيد في الأرض ولا دينونة
لغير الله» (1).
2 - دفع عدوان الكافرين:
1 - إن من أهداف الجهاد في الدولة الإسلامية دفع عدوان الكافرين، وهذا العدوان أنواع منها:
- أن يعتدي الكفار على فئة مؤمنة مستضعفة في أرض الكفار: لاسيما إذا لم تستطع أن تنتقل إلى بلاد تأمن فيها على دينها، فإن الواجب على الدولة الإسلامية أن تعد العدة لمجاهدة الكفار الذين اعتدوا على تلك الطائفة حتى يخلصوها من الظلم والاعتداء الواقع عليها (2).
قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا - وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 74، 75].
قال القرطبي - رحمه الله -: «حض على الجهاد، ويتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس, وتخليص الأساري واجب على جماعة
_________
(1) في ظلال القرآن (3/ 295).
(2) انظر: الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله القادري (2/ 162).(1/589)
المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال وذلك أوجب لكونها دون النفوس، إذ هي أهون منها» (1).
وقال سيد قطب - رحمه الله -: «جاهد الإسلام ... ليدفع عن المؤمنين الفتنة التي كانوا يسامونها وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم, وقرر ذلك المبدأ العظيم: ... والفتنة أشد من القتل، فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها وفتنة أهلها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها، فالعقيدة أعظم قيمة في الحياة وفق هذا المبدأ العظيم, وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه ... » (2).
- أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين:
قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 190 - 192].
قد نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين يتعين الجهاد للدفاع عن الديار، لأن العدو إذا احتلها سام المسلمين عذابا ونفذ فيها أحكام الكفر وأجبر أهلها على الخضوع له، فتصبح دار كفر بعد أن كانت دار إسلام، قال ابن قدامة رحمه الله: «وتعين الجهاد في ثلاثة مواضع ... الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم» (3).
وقال بعض علماء الحنفية «وحاصله إن كل موضع خيف هجوم العدو منه فرض على الإمام أو على أهل ذلك الموضع حفظه، وإن لم يقدروا فرض على الأقرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو» (4).
_________
(1) تفسير القرطبي (5/ 279).
(2) في ظلال القرآن (3/ 294).
(3) المغني (9/ 197).
(4) حاشية ابن عابدين (4/ 124).(1/590)
أن ينشر العدو الظلم بين رعاياها، ولو كانوا كفارًا - لأن الله سبحانه حرم على عباده الظلم، والعدل في الأرض واجب لكل الناس، وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين أثموا لأنهم مأمورون بالجهاد في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل, ونشر العدل والقضاء على الظلم, ولا فلاح لهم إلا بذلك وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما كانوا خير أمة أخرجت للناس إلا بذلك كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110] , وقال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
ومن العدل كف الظلم عن المظلوم الكافر الذي يبغضه المسلم لكفره، قال السرخسي - رحمه الله -: «وإن كان - يقصد أحد ملوك أهل الحرب - طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل مملكته بما شاء من قتل أو صلب أو غيره بما لا يصلح في دار الإسلام لم يجب إلى ذلك، لأن التقرير على الظلم مع إمكان المنع منه حرام» (1).
إن من واجب الدولة المسلمة أن تجاهد في سبيل الله للقضاء على الظلم والظالمين (2).
- الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله، إن المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عز وجل أن يبلغوا رسالات الله للناس كافة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته ولا يتركون لهم سبيلا إلى الناس, كما لا يأذنون للدعاة أن يسمعوا الدعوة إلى الله للناس، ويضعون
_________
(1) المبسوط للسرخسي (10/ 85).
(2) انظر: الجهاد في سبيل الله للقادري (1/ 165، 166).(1/591)
العراقيل، والحواجز بين الدعوة ودعاتها والناس، ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين قتال كل من يصد عن سبيل الله تعالى.
قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ - فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1 - 4].
قال سيد قطب - رحمه الله -: «وجاهد الإسلام .. لتقرير حرية العقيدة - فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة, وبأرقى نظام لتطور الحياة، جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ويبلغ إلى أسماعها وإلى قلوبها، فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر, ولا إكراه في الدين، ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة كما جاء من عند الله للناس كافة, وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا، ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا، فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان, وما يزال هذا الهدف قائما وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه وإن كانوا مسلمين».
هذه بعض أهداف الجهاد التي تتحقق عند إقامة هذه الفريضة (1).
_________
(1) في ظلال القرآن (3/ 294).(1/592)
ب- بعض ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله:
إن ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله كثيرة منها:
1 - إعزاز المسلمين وإذلال الكافرين:
إن الجهاد في سبيل الله يعد قمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ووصف المولى عز وجل هذه الأمة بصفات القيادة الرشيدة في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].
قال القرطبي - رحمه الله - قوله: {تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم وكان ذلك سببا لهلاكهم (1).
قال سيد قطب - رحمه الله -: «وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها, وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة وتكون لها القيادة بما أنها هي خير أمة والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض» (2).
إن هذه الأمة تعمل على نشر الخير، وصيانة المجتمعات من عوامل الفساد، لكي تبني مجتمعات صالحة على أسس من المبادئ، والاعتقادات، والتصورات، والنظم، والأخلاق، والمعارف، والعلوم المستمدة من المنهج الرباني الحكيم.
وهذه الأهداف النبيلة تجعل قيادة الأمة تنازل قوى البغي في ميادين الجهاد، لأن القوى الكافرة، دائما وأبدا تعد العدة وتبذل جهدها للقضاء على الإسلام والمسلمين، ولهذا تركب الأمة صهوات المجد، وتسل سيوفها ضد أعداء البشرية ممن يعتقدون الكفر والضلال والفساد، فتكون ثمرة هذا الجهاد المبارك القضاء على شوكة الكفر وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم وتطهير الأرض من سيطرتهم.
_________
(1) الجامع لأحكام القرآن (4/ 173).
(2) في ظلال القرآن (1/ 447).(1/593)
إن المشركين والكفار لا يراعون في المسلمين -إذا قدروا عليهم- عهدا ولا قرابة، قال تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 80].
وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].
وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. لهذا كان الجهاد في سبيل الله هو الفيصل بين المسلمين وأعدائهم لأنه يثمر - بإذن الله - القضاء على قوة الكفر وإذلال طغاته وخزيهم وإلقاء الرعب في قلوبهم وغنيمة للمسلمين المجاهدين كما قال: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا - وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25 - 27].
إن الله تعالى قد رتب على الجهاد قتال الكافرين وتعذيب أعداء الله وخزيهم ونصر المجاهدين عليهم وشفاء صدور المؤمنين الذين أوغر أعداء الله صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم بما يدخل عليهم من السرور بكسر شوكة أعداء الله والقضاء على قوتهم، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14، 15].
لقد قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحركة الجهاد واستطاع أن يقضي على شوكة الكفر في الجزيرة، ويرد كيد اليهود عليهم، ووجه ضربات موفقة للنصارى, وسار الصديق - رضي الله عنه - على نفس المنهج وخاض حروب الردة وقضى على مسيلمة الكذاب وسجاح وغيرهما، فكانت معاركه ضد المرتدين من أكبر الأسباب لنصر الإسلام وأهله وبعد انتهاء حروب الردة قام بحركة الجهاد ضد الفرس، والروم, واستمر الخلفاء من بعده على نفس المنوال، وامتدت رقعة الإسلام من الصين شرقا إلى المحيط(1/594)
الأطلسي غربا وأخذت جيوش الإسلام تدك معاقل النصرانية في أوروبا وبسطت نفوذها على بلدان كثيرة منها» (1).
2 - دخول الناس في دين الله أفواجا:
إن أهل الباطل يستهينون بأهل الحق ويستضعفونهم ما لم يكونوا أعزة، والتاريخ يشهد على أن الناس يحترمون الحق الذي تحرسه القوة، وعندما يكون أهل الحق أعزة يدخل الناس في دين الله أفواجا، فعندما أسس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دولة الإسلام واكتملت لها المقومات اللازمة وشرعت في بعث السرايا، والقيام بالغزوات ضد أعداء الإسلام ووقعت بينهم وبين المسلمين معارك كان الانتصار في الغالب للمسلمين على المشركين, وبلغت قوة المسلمين ذروتها عندما وقع الصلح بينهم وبين المشركين في الحديبية حيث اعترف أهل الكفر بدولة تعقد المعاهدات وتفاوض وتصالح, وكثر الداخلون في الإسلام، وعندما نقضت قريش الصلح غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وفتحها ودخلها مظفرا فماذا كان بعد هذا الفتح المبين؟ (2).
قال محمد بن إسحاق: [ولما افتتح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه. قال ابن هشام: «حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع وأنها كانت تسمى الوفود، قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحي من قريش لأن قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم, وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلافه, فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودخولها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عداوته فدخلوا في دين الله -كما قال عز وجل- أفواجا يضربون إليه من كل وجه» (3).
_________
(1) انظر: الجهاد في سبيل الله (2/ 423).
(2) الجهاد في سبيل الله (2/ 452، 453).
(3) البداية والنهاية (5/ 40).(1/595)
واستمر الأمر كذلك بعد انتقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرفيق الأعلى، فكان الجهاد هو الذي يقضي على حركات التمرد والشقاق ويجبرهم على الخضوع للإسلام, والانقياد لشرعه، واحترام أهله، فكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مدركا ذلك تماما الإدراك, فكان له مواقف رائعة تدل على فهمه العميق لفقه التمكين، وقدرته الفذة على المحافظة على دولة الإسلام التي أقامها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن أهم المواقف:
إنفاذ جيش أسامة:
لقد ظهر فقه الصديق وحكمته عند إصراره على إرسال جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عدة وجوه:
إنفاذه بعث أسامة - رضي الله عنه - على الرغم من شدة الأحوال ومعارضة بعض الصحابة، وذلك امتثالا لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، وفشلت كافة المحاولات الهادفة لإقناع الصديق كي يتخلى عن فكرة إرسال جيش أسامة، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكر، دعا عامة المهاجرين والأنصار إلى اجتماع المجلس لمذاكرة هذا الأمر معهم, وبيَّن لهم أن إنفاذ جيش أسامة هو مشروع وضعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلينا تنفيذه مهما بلغت الصعاب والمتاعب وقال: «أيها الناس، والله لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذت أسامة وجيشه كما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا راد لقضاء قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته، والله لأن تتخطفني الطير أحب إليَّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (1).
ولما أشار بعض الناس على أبي بكر أن يولي أمر الجيش رجلاً أقدم سنًّا من أسامة، غضب لذلك، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي أمر أسامة على هذا الجيش، فلا يريد - رضي الله عنه - أن يغير شيئًا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأوصى الصديق ذلك الجيش المظفر بهذه الوصايا: «لا تخونوا، ولا
_________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين، ص20.(1/596)
تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً, ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة, ولا تعزقوا (1) نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل, وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم قوما فحصوا (2) أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله، يا أسامة: اصنع ما أمرك نبي الله ببلاد قضاعة، ائت آبل، ولا تقصر من أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ودعه من الجرف ورجع» (3).
والجرف: موضع قرب المدينة، وهذه التعاليم الإنسانية الرفيعة، استمدها الصديق - رضي الله عنه - من فهمه العميق لحقيقة الإسلام وهي ترد على كل من يتهم الإسلام بأنه دين الهمجية والوحشية والعسف (4).
وسار أسامة حتى انتهى لما أمره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فبعث الجنود إلى بلاد قضاعة وأغار أسامة على «أبني» فسبى وغنم، ورجع إلى المدينة ظافرا بعد أن غاب عنها أربعين يوما, وكان إنفاذ جيش أسامة من أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فإن العرب قالوا: «لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام» (5).
لقد أثبتت الأيام والأحداث سلامة رأي الصديق وصواب قراره الذي اعتزم تنفيذه معتمدا في ذلك على الدقة التامة في التزام المنهج النبوي، والأمر النبوي, والتصميم الملهم في وقته المناسب والنظر البعيد إلى المستقبل.
_________
(1) ولا تعزقوا: لا تكسروا.
(2) فحصوا: كشفوا.
(3) تاريخ الأمم والملوك للطبري (4/ 47).
(4) انظر: الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار، ص47.
(5) البداية والنهاية (6/ 304، 305).(1/597)
وقد اعترف كبار الصحابة بصواب ما ذهب إليه الصديق ورد عمر فيما بعد قولته المشهورة: «ليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر» (1).
إن بعث أسامة في تلك اللحظة الحرجة لم يحدث أي أثر سلبي على الموقف الإسلامي العام كما ظن الكثيرون، بل على العكس فإنه أحدث آثارا إيجابية أفادت الموقف العسكري والسياسي والدعوى آنيا وفيما بعد, فقد أحدث هذا الجيش في أثناء مسيرته رعبا وخوفا لدى القبائل وأصحاب الأديان الأخرى الذين اشرأبت أعناقهم عندما رأوا الفتنة قد ذر قرنها في الجزيرة العربية بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الجيش لا يمر بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم وقالوا: «ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة» (2). ولهذا فإن بعث أسامة كان حربا نفسية رائعة فيما حققته من مكاسب.
إن اختيار الطريق السهل في بعض الأحيان يورد المهالك، ولكن أبا بكر اختار في تلك اللحظة الطريق الصعب الشاق المؤدي إلى النجاة والنصر والفوز, وكان حزما وحسما سجلهما التاريخ لهذا الخليفة الراشد الملهم (3).
رضي الله عنك يا أبا بكر, لقد كان يدرك ما وراء خروج هذا الجيش بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي جعلت أعداء الإسلام يتطلعون للقضاء على الإسلام، كان يدرك - رضي الله عنه - ما في طاعة الله ورسوله من الخير من جهة، وما في إظهار القوة التي لا يحترم الأعداء سواها من جهة أخرى، فكانت هذه النتيجة الرفيعة لذلك القرار التاريخي العظيم (4).
- حروب الردة:
قام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بحرب المرتدين وجهز الجيوش لكل ناحية من
_________
(1) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص84.
(2) البداية والنهاية (6/ 308).
(3) انظر: الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص84.
(4) انظر: الجهاد في سبيل الله (2/ 455).(1/598)
نواحي الجزيرة العربية, فنصر الله الإسلام وأذل الكفر وكانت النتيجة خلال سنة واحدة كما قال ابن كثير - رحمه الله -: «استهلت هذه السنة - يعني سنة اثنتي عشرة للهجرة - وجيوش الصديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردة جوالون في البلاد يمينا وشمالا لتمهيد قواعد الإسلام وقتال الطغاة من الأنام حتى رد شارد الدين بعد ذهابه, ورجع الحق إلى نصابه وتمهدت جزيرة العرب وصار البعيد الأقصى كالقريب الأدنى ... » (1).
إن كل واقعة من حرب الردة تشهد بأن أهل الباطل لا يحترمون أهل الحق إلا بالقوة والجهاد, ولقد ترتب على حروب الردة عدة نتائج من أهمها:
- لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى، ووثنيين الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلابة التوحيد وحقيقة التصور السليم، والقيادة الحكيمة, وتركت لنا الأحداث الجسيمة ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم، وفي المنهج الصحيح لمعاملة الخارجين عن دولة الإسلام العظيمة.
- استطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق - رضي الله عنه - أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع، وأصبحت الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض بواسطة رجال عركتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية، والتعليم، والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بني الإنسان حيثما كان.
- كانت حروب الردة إعدادا ربانيا للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية، وتفنن القادة في الأساليب والخطط الحربية وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقا والتفاني عظيما (2).
_________
(1) البداية والنهاية (6/ 342).
(2) انظر: تاريخ صدر الإسلام، ص142، 143.(1/599)
- الفتوحات الإسلامية:
بعد أن انتهت حروب الردة، وتوحدت كلمة المسلمين، وأصبحت لهم قاعدة صلبة في جزيرة العرب كلها، تحركت قيادة الأمة بزعامة الصديق - رضي الله عنه - لتحقيق وعد الله بنصر دينه، وإقامة شرعه، ودعوة الناس لعبادة الله، وتحقيق عبوديته الشاملة في كل نواحي الحياة والممات، وكان لابد من تحرك المسلمين لإزالة كل العقبات التي تقف في وجه أداء هذه الأمانة للناس أجمعين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وبذلك تتحقق سيادة شرع الله الحكيم على بني البشر، ويصبح الجميع يدينون بحاكمية الله سبحانه وتعالى المطلقة المتمثلة في خضوع الجميع لأحكام الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
لقد كان المسلمون بقيادة الصديق - رضي الله عنه - على يقين بما أخبر الله ورسوله من النصر والتمكين، وهذا اليقين من أخلاق النصر في جيل الصحابة -رضي الله عنهم - انطلاقا من قوله سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غافر: 51].
لقد كان التحرك نحو العراق والشام من أجل نشر دين الله تعالى مرحلة طبيعية بعد انتهاء حروب الردة، فشرع الصديق - رضي الله عنه - في إرسال الجيوش إلى العراق بقيادة خالد وأزاحت الطواغيت من على رقاب الناس، واستجاب العباد لدين الفطرة ودخلوا فيه أفواجا، ووجه جيوشه نحو الشام وواصل الخلفاء الراشدون من بعده المسيرة التي ساهمت في إدخال أمم وشعوب في دين الله تعالى.
3 - إسعاد الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته:
إن الجهاد في سبيل الله يحقق الرحمة للبشرية في الأرض، ويدفع الظلم والاعتداء، ويسعد الناس بهذا الدين الذي هو نور، ويخرجهم من ظلمات الكفر(1/600)
والضلال، قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
وما أروع جهاد ذي القرنين في القرآن الكريم حيث تحرك بجيوشه من أجل دعوة الله الخالدة، ووظف كل إمكاناته من أجل نشر التوحيد وتعريف الناس بخالقهم. ولقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب، وكان حريصا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق، والعدالة في الأرض، شرقًا وغربًا، فلم يتعامل مع القوم المغلوبين بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر أو الطغيان أو البطش، وإنما عاملهم بهذا الدستور الرباني: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87، 88].
ولقد وجد في إحدى رحلاته الجهادية الدعوية قوما لا يكادون يفقهون قولا، وقد وقع عليهم ظلم عظيم، وتخوفوا من قدوم يأجوج ومأجوج عليهم، فعرضوا عليه المال من أجل أن يبني لهم سدا فقام بمدافعة الظلم المتوقع واعتذر عن أخذ الخراج، وشرع في نقلهم من الجهل إلى العلم، والتخلف إلى التقدم، والكسل إلى العمل، والضعف إلى القوة قال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 95، 96].
لقد كان ذو القرنين حريصا على مصلحة الناس، ناصحا لهم فيما يعود عليهم بالنفع، ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية، لما في ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم. ومن نصحه وإخلاصه لهم، أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم(1/601)
طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدا، أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا: «والردم هو الحاجز الحصين، والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق، فوعدهم بفوق ما يرجون» (1).
إن قول الله تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95] فيه معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.
لقد استطاع ذو القرنين أن يفجر طاقات المستضعفين ووجههم نحو التكامل، لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم، والقوى المادية ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة، والأموال المهدورة والأوقات المبددة، والشباب الحيارى، وهي تنتظر من قياداتها في كل الأقطار والدول والبلدان لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف (2) {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
لقد كان ذو القرنين يستخدم جيوشه وقوته كوسيلة من وسائل الدعوة ونشر العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم، ومحاربة أهل الفساد.
هذه أهم ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله تعالى.
إن الجهاد في هذه الأمة ماض إلى يوم القيامة، ولا مكانة لهذه الأمة بدون الجهاد، فهو روحها، وفي وجوده حياتها، وتاريخ الأمة الإسلامية خير شاهد
_________
(1) روح المعاني (16/ 40).
(2) مع قصص السابقين (2/ 342).(1/602)
على ذلك، وإن الأهداف الكبرى التي تسعى لها الأمة لا يمكن تحقيقها إلا بجيل مجاهد يحب الموت كما يحب الأعداء الحياة، ولا يمكن رفع الذلة التي فرضت عليها إلا بالجهاد، ولا تستطيع أن تبلغ دعوة الله إلى الناس أجمعين بدون قيود أو حواجز إلا بالجهاد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ".
* * *(1/603)
الخاتمة
- إن فقه التمكين يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس وتطبيق شرع الله عز وجل.
- إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.
- إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم، تمكين الله تعالى للدعاة بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، واستجابة الخلق لهم, ومن أمثلة ذلك: أصحاب القرية وأصحاب الأخدود، وتمكين الله تعالى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتبليغ الرسالة في مكة.
- إن من أنواع التمكين، هلاك الكفار ونجاة المؤمنين ونصرهم في المعارك كالذي حدث في قصة نوح عليه السلام مع قومه، وموسى عليه السلام مع قوم فرعون، وطالوت مع جالوت، ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مغازيه كبدر وغيرها.
- إن من سنن الله الماضية في المجتمعات والشعوب والأمم سنة إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه.
- إن السنن الربانية ثابتة في الكون وتقع على الإنسان في كل زمان ومكان, وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين تعلقا وثيقا وهي من أهم سنن الله في الشعوب والأمم.
- إن تولي أهل التوحيد والإيمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة نوع من أنواع التمكين، وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع من التمكين في قصة يوسف عليه السلام، ولقد شاركت بعض الحركات الإسلامية حكوماتها في الحكم وحققت إنجازات مهمة للإسلام من أهمها: تجربة اليمن، والأردن, وتركيا.(1/604)
- إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول أهل التوحيد والإيمان الصحيح إلى سدة الحكم وتوليهم لمقاليد الدولة، كما حدث لداود وسليمان عليهما السلام وذي القرنين.
- إن الاستخلاف في الأرض والتمكين لدين الله، وإبدال الخوف أمنًا وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه.
- إن من شروط التمكين تحقيق الإيمان بكل معانيه وجميع أركانه، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر.
- إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة في دنيا الناس وعلى المسلمين أن يفهموا حقيقة العبادة في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم وأن يعملوا على نشر مفهوم العبادة الصحيح في شرايين الأمة حتى تخرج من الأوهام والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
- من شروط التمكين المهمة، محاربة الشرك بجميع أشكاله وأنواعه، ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه, وأن تنقي صفها منه بكل الأساليب الشرعية ولا يمكن للإنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إلا إذا عرفه وعرف خطره.
- إن من شروط التمكين المهمة تقوى الله عز وجل، لأن تقوى الله تعالى لها ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة, وهذه الثمرات تظهر على الأفراد والمجتمع الذي يسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه.
- إن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ بها سيد المرسلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب.(1/605)
- إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
- إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى وهو الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية.
- إن أسباب التمكين تنقسم إلى نوعين: أسباب معنوية، ومادية، فمن أهم الأسباب المعنوية، إعداد الأفراد الربانيين، والقيادة الربانية، ومحاربة أسباب الفرقة، التي من أهمها: الابتداع، والجهل، واتباع الهوى، وتحكيم العقل وتقديمه على النصوص ومخالفة منهج أهل السنة في النظر والاستدلال.
- ومن أسباب التمكين المعنوية الأخذ بأصول الوحدة والاتحاد والاجتماع المتمثلة في وحدة العقيدة، وتحكيم الكتاب والسنة، وصدق الانتماء إلى الإسلام، وطلب الحق والتحري في ذلك، وتحقيق الأخوة بين أفراد المسلمين.
- إن من أسباب التمكين المادية، الاهتمام بمبدأ التفرع والتخصص، ومراكز البحوث، والتخطيط والإدارة، والاهتمام بالقوة الاقتصادية، والإعداد الإعلامي.
- إن التمكين لدين الله في الأرض يمر بمراحل لابد منها وهذه المراحل هي: مرحلة التعريف، ومرحلة الإعداد والتربية، ومرحلة المغالبة، ومرحلة الظهور.
- إن الخطوة الأولى في سبيل إقامة الدولة المسلمة أو التمكين للإسلام هو التعريف به والدعوة إليه.
- إن عدة الدعاة القائمين على مرحلة التعريف هي: التمييز الإيماني، والتفوق الروحي، والرصيد العلمي، والزاد الثقافي، ورجاحة العقل، وقوة الحجة، ورحابة الصدر وسماحة النفس.(1/606)
- إن من السنن المهمة في فقه التمكين فهم سنة التدرج, ومراعاة تدرج الأمة من السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد، ومن الخطة الجزئية إلى الخطة الكلية.
- إن رسل الله الكرام عليهم أفضل الصلوات والسلام عندما بلغوا رسالات الله إلى أقوامهم، اختاروا من الناس من استجاب لدعوتهم وغرسوا في نفوسهم المعاني الإيمانية والأخلاق الربانية حتى استطاعوا أن يحملوا معهم دعوة الله إلى الناس.
- إن عدة القائمين على مرحلة الإعداد والتربية أمور كثيرة من أهمها، الخبرات والتجارب، وأن يكون القائمون أصحاب سياسة حكيمة.
- في مرحلة الإعداد والتربية يهتم المشرفون عليها بغرس صفات جيل التمكين في نفوس العناصر التي اختيرت لهذه المرحلة، إن سنة الابتلاء مرتبطة بالتمكين، ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله - تعالى - ألا يُمكن لها إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة وبعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب.
- إن مرحلة المغالبة هي مرحلة التركيز والتخصيص، لسد ثغرات العمل الإسلامي كله، من حيث الكم ومن حيث النوع, ومن حيث الاستجابة لكل متطلبات الدعوة وأعبائها.
- إن بناء القاعدة الصلبة على أسس من منهج أهل السنة والجماعة يدخل ضمن الطائفة المنصورة التي تتحرك بهذا الدين على جميع الثغرات.
- إن من صفات الطائفة المنصورة من خلال الأحاديث الصحيحة هي: أنها على الحق وأنها قائمة بأمر الله، وأنها تقوم بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله، وأنها المجددة للأمة أمر دينها، وأنها ظاهرة إلى قيام الساعة، وأنها صابرة.(1/607)
- إن مرحلة التمكين هي ذروة العمل الإسلامي المنظم، وهي تمثل الثمرة الناضجة من الجهود التي بذلت في المراحل التي سبقتها.
- إن بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره بدأت مع الحركات الإسلامية منذ قرنين ماضيين, وتوارثت الأجيال الحاضرة تلك التجارب التي تركت لنا معالم في فقه التمكين, ومن أهم هذه الحركات حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية، وحركة الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي في الهند.
- إن من أهم أهداف التمكين: إقامة المجتمع المسلم، ونشر الدعوة إلى الله.
وبعد .. فهذه الرسالة قد تمت بحمد الله ومنته وكرمه أضعها بين يدي قارئها، ولا أدعي الكمال فيها:
وما بها من خطأ ومن خلل ... أذنت في إصلاحه لمن فعل
لكن بشرط العلم والإنصاف ... فذا وذا من أجمل الأوصاف
والله يهدي سبل السلام ... سبحانه بحبله اعتصامي (1)
فلله الحمد على ما منَّ به عليَّ أولا وآخرا، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يجعل هذه الرسالة لوجهه خالصة، ولعباده نافعة، وأن ينفعني بها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن ينفعنا بما كتبنا وقرأنا وسمعنا.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
* * *
_________
(1) اقتباس من منظومة ابن عاصم، ص12.(1/608)
توصيات البحث
أسأل الله أن تكون هذه التوصيات خالصة لوجهه الكريم وأن يهيئ لها القبول، والأسباب، لتكون واقعا حيا في دنيا المسلمين.
توصيات إلى زعماء الأمة الإسلامية:
بأن يتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم، وفي حركاتهم وسكناتهم، وأن يلتزموا بمنهج الله تعالى وشريعته، وأن يعملوا على تفجير طاقات الأمة ويحرصوا على توظيفها بما يعود بالخير على الإسلام والمسلمين، ويربوا شبابها على الرجولة والشهامة والبطولة، ويمنعوا أسباب العجز والكسل والخمول.
توصيات إلى الجامعات الإسلامية:
أوصى رجال الأمة القائمين على جامعاتها كجامعة أم درمان الإسلامية, وجامعة المدينة المنورة، وأم القرى بمكة, والأزهر الشريف بمصر وغيرها، أن يقوموا بواجبهم تجاه الدعوة إلى الله تعالى، وألا يكتفوا بمجرد الأبحاث والتأليف والكتابة والمحاضرة، والمقالة، وإنما عليهم أن ينتشروا في أوساط الناس لتعليمهم وتوجيههم وتربيتهم وتثقيفهم, فالناس في أشد الحاجة إلى علمهم وجهدهم.
وأن يوجهوا طلابهم نحو الأبحاث التي تنفع الإسلام والمسلمين وتعالج قضاياهم المعاصرة، والمستجدة, وأن يحرصوا على تخريج أجيال واعية، تستوعب حقيقة الإسلام، وتحرص على نشره بين الناس بكل الأساليب المعاصرة وأن يكون لهؤلاء الطلبة المتخرجين المقدرة على التصدي لمحاولات الغزو الفكري، التي يقوم بها أعداء الإسلام من مبشرين ومستشرقين وعلمانيين ويهود ونصارى وملاحدة.
توصيات إلى أبناء الأمة الإسلامية:
أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليستمدوا منهما عقائدهم وأخلاقهم وعبادتهم، وأن يكونوا يدا واحدة في وجه أعدائهم.(1/609)
وأن يسعوا بكل ما يملكون من أجل استرداد أراضيهم، ومقدساتهم، وإقامة حكم إسلامي في كل الأراضي.
وعلى الأمة الإسلامية أن تتعامل مع سنن الله وقوانينه معاملة المستبصر والعارف بها وأن تعمل على البذل والعطاء في كل مجالات الحياة.
وأن تتحرر من هيمنة الاستعمار والتبعية له بكل أشكالها وصورها، وأنواعها وأصنافها.
وأخيرًا:
فإنني أوصي كل فرد من أفراد الأمة تصله هذه الكلمات:
- أن يتقي الله في إسلامه ودينه وعقيدته.
- وأن يعمل على أن لا يؤتى الإسلام من قبله.
- وأن يكون جنديا مخلصا لعقيدته، وأن يشارك ما استطاع في العمل ورفع البناء حتى يأذن الله تعالى بالتمكين للإسلام والمسلمين.
* * *(1/610)
أهم مصادر ومراجع البحث
1 - القرآن الكريم.
2 - إتمام الوفاء، محمد الخضري بك، دار الفكر العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1992م.
3 - أحكام القرآن، أبو بكر أحمد بن علي الرازي، تحقيق: محمد صادق قمحاوي، الناشر، دار الصحف، القاهرة، مصر.
4 - أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
5 - أحكام أهل الذمة: شمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن القيم) (ت 751هـ) تحقيق: د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ.
6 - إدارة عمر بن عبد العزيز، محمد القحطاني، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، السعودية، الطبعة الأولى، 1416هـ.
7 - أدب الطالب ومنتهى الأدب، لمحمد علي الشوكاني، دار الكتب العلمية، بيروت, الطبعة الأولى 1402هـ.
8 - أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، علق عليه: علي مصطفى السقا، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الرابعة 1398هـ.
9 - استمرارية الدعوة والدعاة، محمد السيد الوكيل، دار المجتمع، المدينة، السعودية، الطبعة الأولى 1414هـ، 1994م.
10 - أسس الدعوة، محمد السيد الوكيل، دار النشر الإسلامية.
11 - أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، طبعة 1410هـ.
12 - أصول الفقه الإسلامي، د. حسن الأهدل، دار الجيل، صنعاء - اليمن، طبعة 1993م.(1/611)
13 - أصول الفكر السياسي في القرآن الكريم، د. عبد القادر التيجاني، دار البشير، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 1416هـ - 1995م.
14 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، عالم الكتب، بيروت، سنة 1403هـ، 1983م.
15 - أعلام الموقعين عن رب العالمين، الإمام ابن القيم، مراجعة وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل بيروت - لبنان.
16 - آفات على الطريق، سيد نوح، دار الوفاء، المنصورة، مصر، الطبعة الخامسة 1400هـ، 1980م.
17 - اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ أحمد بن عبد السلام بن تيمية، تحقيق: د. ناصر عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى 1404هـ، مطابع العبيكان.
18 - إمام التوحيد الشيخ محمد عبده، أحمد القطان، مكتبة السندس، الكويت، الطبعة الثانية 1409هـ، 1988م.
19 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، مطبعة البابي الحلبي، مصر.
20 - الأحكام السلطانية لأبي يعلي الفراء، مصطفى البابي الحلبي، مصر.
21 - الاستخبارات العسكرية في الإسلام، عبد الله علي السلامة مناصرة، مؤسسة الرسالة،
بيروت - لبنان، الطبعة الثانية, 1412هـ، 1991م.
22 - الاستقامة لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأولى 1403هـ.
23 - الأسلوب الإعلامي في القرآن الكريم، لمحمد الطلابي، مكتبة البلاغ، جدة - السعودية، الطبعة الأولى 1412هـ- 1991م.
24 - الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق بالقاهرة، الطبعة الرابعة سنة الطبع 1968م.
25 - الإسلام وأوضاعنا القانونية، عبد القادر عودة، الناشر المختار الإسلامي، القاهرة، الطبعة الخامسة سنة 1397هـ.(1/612)
26 - الإسلام وتربية الإنسان، إبراهيم سعادة، مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن، الطبعة الأولى 1405هـ.
27 - الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب، أبحاث ووقائع اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقد في الرياض 27 ربيع الثاني 1399هـ، الموافق من 18 - 25 مارس 1979م - الناشر شركة دار العلم للطباعة بالسعودية، الطبعة الثالثة.
28 - الإسلام وأوضاعنا القانونية، عبد القادر عودة، الناشر المختار الإسلامي القاهرة، الطبعة الخامسة سنة 1397هـ.
29 - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر.
30 - الاعتصام، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، تعليق محمد رشيد رضا، دار المعرفة - بيروت.
31 - الإعلام في صدر الإسلام, عبد اللطيف حمزة، دار الفكر العربي، مصر.
32 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خالد السبت، المنتدى الإسلامي، لندن، الطبعة الأولى 1415هـ، 1995م.
33 - أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1411هـ.
34 - أولويات الفاروق، غالب عبد الكافي القرشي، المكتب الإسلامي، بيروت، مكتبة الحرمين الرياض، الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م.
35 - الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت, الطبعة العاشرة، 1405هـ، 1984م.
36 - الإيمان بالقضاء والقدر، محمد إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض بالسعودية، الطبعة الأولى 1415هـ.(1/613)
37 - الإيمان لابن تيمية، دار الحديث بجوار إدارة الأزهر، القاهرة، مصر، حققه هاشم محمد الشاذلي.
38 - البداية والنهاية، لابن كثير، مطبعة دار الفكر العربي.
39 - البحر المحيط، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1403هـ، 1983م.
40 - البدعة والمصالح المرسلة، د. توفيق يوسف الواعي، مكتبة دار التراث، الكويت، الطبعة الأولى 1404هـ.
41 - البيان, العدد 18 جمادى الآخرة 1418هـ.
42 - التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار الكتب الشرقية، تونس.
43 - التخطيط والرقابة، نجاح الإدارة، د. عبد الفتاح دياب حسن، سلسلة مطبوعات المجموعة الاستشارية العربية، الطبعة الثانية.
44 - التفسير الإسلامي للتاريخ، د. عماد الدين خليل، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1975م.
45 - التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة، أحمد فريد، دار العميمي للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى 1417هـ، 1993م.
46 - التعريفات للجرجاني، دار الكتب العلمية.
47 - التغيير على منهاج النبوة، جمعة أمين عبد العزيز، دار الدعوة، الإسكندرية، مصر، الطبعة الثانية 1416هـ، 1996م.
48 - التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، لمحمد السيد محمد يوسف، الطبعة الأولى 1418هـ، 1997م، دار السلام بالقاهرة.
49 - التوكل على الله وعلاقته بالأسباب، د. عبد الله عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1417هـ.(1/614)
50 - الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، شوكت محمد عليان، دار الرشيد للنشر والتوزيع، الرياض، طبعة سنة 1401هـ.
51 - الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله أحمد القادري، دار المنارة، جدة، الطبعة الثانية 1413هـ، 1992م.
52 - الجهاد ميادينه وأساليبه، د. محمد نعيم ياسين، دار الفرقان، عمان - الأردن، الطبعة الثانية 1406هـ، 1986م.
53 - الجهاد في سبيل الله، سعيد القحطاني، الطبعة الأولى، 1411هـ، السفير, الرياض.
54 - إلجام العوام عن علم الكلام، أبو حامد الغزالي، مكتبة الجندي، القاهرة - مصر.
55 - الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، دار الكتاب العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة 1987م.
56 - الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. أحمد النعيمي، دار البشير، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م.
57 - الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، محمد مصطفى الطحان, مطابع دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، مصر.
58 - الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الأولى 1412هـ- 1992م، توزيع مؤسسة الجريسي.
59 - الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة، الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م.
60 - الحكومة الإسلامية للمودودي، ترجمة أحمد إدريس، نشر المختار الإسلامي للطباعة والنشر, القاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ- 1977م.
61 - الخصائص العامة للإسلام د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة 1409هـ، 1989م.(1/615)
62 - الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار، دار القلم، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م.
63 - الخلافة والملك للمودودي، تعريف أحمد إدريس، دار القلم، الطبعة الأولى، سنة 1398هـ - 1978م.
64 - الأخلاق الإسلامية، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق.
65 - الدعاة والتخطيط، د. محمد عبد اللطيف الخطيب، دار المنار الحديثة، مصر، الطبعة الأولى 1410هـ- 1989م.
66 - الدعوة إلى الإسلام، حسن أدهم إبراهيم.
67 - الدعوة الإسلامية بين الفردية والجماعية، سليمان مرزوق منشورات مكتبة المنار، الكويت، الطبعة الأولى، 1407هـ، 1986م.
68 - الدعوة قواعد وأصول، جمعة أمين عبد العزيز، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 1409هـ.
69 - الديباج المذهب في معرفة علماء المذهب، وبهامشه كتاب الابتهاج بتطريز الديباج, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت.
70 - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (508 - 581هـ) , ومعه السيرة النبوية للإمام ابن هشام، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة سنة 1387هـ.
71 - الرياض الناظرة، عبد الرحمن السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثالثة، 1400هـ، 1980م.
72 - الزهد، لهناد بن السري، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الطبعة الأولى 1406هـ.
73 - السياسة الشرعية أو نظام الدولة، عبد الوهاب خلاف، الناشر: المطبعة السلفية ومكتبتها, سنة الطبع 1350هـ.
74 - السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، قدم له الأستاذ محمد المبارك، سنة الطبع 1386هـ، 1966م، دار الكتب العربية، بيروت - لبنان.(1/616)
75 - السيرة النبوية، دروس وعبر، د. مصطفى السباعي، الطبعة الثامنة، 1405هـ، المكتب الإسلامي.
76 - السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري، الناشر: مكتة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى سنة 1412هـ، 1992م.
77 - السيرة النبوية، لابن كثير، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي (701 - 774هـ) تحقيق: مصطفى عبد الواحد، الطبعة الثانية سنة 1398هـ، دار الفكر بيروت، لبنان.
78 - السير والمغازي لابن إسحاق، تحقيق: سهيل زكار.
79 - الشريعة، للآجري، تحقيق: محمد حامد الفقي, دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.
80 - الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، مرعي بن يوسف، دار الفرقان، دار الرسالة، الطبعة الأولى 1404هـ، 1983م.
81 - الشورى بين الأصالة والمعاصرة، عز الدين التميمي، دار البشير، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1405هـ، 1985م.
82 - الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة، عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1411هـ، 1990م.
83 - الصحاح، للجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1399هـ.
84 - الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، د. يوسف القرضاوي، دار الوفاء، المنصورة - مصر، الطبعة الأولى، 1412هـ، 1992م.
85 - الصحوة الإسلامية منطلق الأصالة وإعادة بناء الأمة على طريق الله، أنور الجندي، دار الاعتصام.(1/617)
86 - الطبقات الكبرى لابن سعد، دار صادر، بيروت، 1405هـ، 1985م.
87 - الطريق إلى جماعة المسلمين، حسين بن محسن بن علي بن جابر، الطبعة الخامسة 1413هـ، 1992م، دار الوفاء المنصورة، مصر.
88 - العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1405هـ، 1985م.
89 - العبر في خبر من غبر، لأبي عبد الله الذهبي، تحقيق: أبي هاجر محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1405هـ.
90 - العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة 1977هـ.
91 - الغرباء الأولون، سلمان العودة، دار ابن الجوزي، الدمام - السعودية، 1412هـ، 1991م.
92 - الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، محمد الغزالي، دار الصحوة، القاهرة 1408هـ، 1987م.
93 - الفتاوى السعدية، لعبد الرحمن السعدي، الدار السعدية، الرياض - السعودية، مطبعة الكيلاني.
94 - الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، الناشر: الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، سنة الطبع 1395هـ، 1975م.
95 - الفوائد: الإمام ابن القيم، دار الدعوة، الإسكندرية.
96 - القاموس المحيط، للفيروز آبادي، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان.
97 - القصص القرآني في سورة الكهف، لمحمد متولي الشعراوي، منشورات مكتبة الشعراوي الإسلامية.
98 - الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، أحمد محمد شاكر.
99 - المبسوط شمس الدين السرخسي، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى.(1/618)
100 - المدخل إلى الفقه الإسلامي، د. عبد الله الدرعان، مكتبة التوبة، الرياض، الطبعة الأولى 1413هـ، 1993م.
101 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، لأحمد بن محمد الفيومي، ت 770هـ، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت - لبنان.
102 - المصطلحات الأربعة في القرآن، أبو الأعلى المودودي, تعريب محمد كاظم، دار القلم، الكويت، الطبعة السادسة 1397هـ.
103 - المعالم الرئيسية للأسس التاريخية والفكرية لحزب السلامة، محمد حرب عبد الحميد،
ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر المنعقدة في البحرين، من 22 - 25 شباط 1985م.
104 - المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية، بدون تاريخ، الطبعة الثانية، المكتبة الإسلامية، استانبول - تركيا.
105 - المغني، لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة، الطبعة الأولى.
106 - المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصبهاني، تحقيق: سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت - لبنان.
107 - الملل والنحل، الشهرستاني، محمد عبد الكريم، تحقيق: عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي وشركاه 1387هـ، 1968م.
108 - الموطأ: الإمام مالك بن أنس تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى الحلبي وشركاه، القاهرة.
109 - المواقف في أصول الشريعة: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة، بيروت - لبنان.
110 - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، محماس بن عبد الله الجعلود، دار اليقين، المنصورة، مصر، دار الفرقان الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1407هـ- 1987م.(1/619)
111 - المنهاج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان، مكتبة المنار، الأردن - الزرقاء، الطبعة السادسة 1411هـ - 1990م.
112 - المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعيد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1413هـ، 1992م.
113 - النظام السياسي في الإسلام، د. محمد أبو فارس، دار الفرقان، عمان - الأردن، الطبعة الثانية 1407هـ - 1986م.
114 - النظام السياسي للمودودي، مطبوع مع مجموعة كتب سميت نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور سنة الطبع 1387هـ - 1967م، دار الفكر، ترجمة خليل حسن.
115 - النظام الاقتصادي في الإسلام، محمود إبراهيم الخطيب، مكتبة الحرمين، الرياض، الطبعة الأولى 1409هـ، 1989م.
116 - النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير، تحقيق: محمود محمد الطناحي، الناشر: المكتبة الإسلامية طبعة دار التراث العربي، بيروت - لبنان.
117 - النونية القحطانية، لأبي محمد عبد الله القحطاني الأندلسي، مكتبة السوادي للتوزيع, جدة، الطبعة الثانية، 1409هـ، 1988م.
118 - الهجرة في القرآن، أحزمي سامعون جزولي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1417هـ - 1996م.
119 - الوفود في العهد المكي وأثرها الإعلامي، لعلي رضوان أحمد الأسطل، الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م، دار المنار الأردن - الزرقاء.
120 - الولاء والبراء، محمد سعيد القحطاني، دار طيبة, مكة المكرمة، الرياض، الطبعة السادسة، 1413هـ.
121 - تاريخ الخلفاء، للسيوطي، بيروت، دار الفكر، بدون تاريخ نشر.(1/620)
122 - تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ، 1987م.
123 - تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد لأبي زهرة محمد أبو زهرة, دار الفكر العربي، مصر.
124 - تاريخ الأمم والملوك، الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت.
125 - تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية، مصطفى الطحان، مؤسسة الفلاح، الكويت.
126 - تذكرة الحفاظ للذهبي شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي كنيته أبو عبد الله ت: 748هـ -1348م، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد - الهند - الطبعة الثالثة سنة 1957م.
127 - تطبيق الشريعة الإسلامية، د. عبد الله عبد المحسن الطريقي، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1415هـ، 1995م.
128 - تعليم المتعلم طريق التعلم: برهان الدين الزرنوجي، تحقيق: صلاح محمد الحيمي ونذير حمدان، دار ابن كثير، الطبعة الثانية، 1407هـ.
129 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير أبو الفداء إسماعيل، تحقيق: عبد العزيز غنيم، وحمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البناء، مطبعة الشعب، القاهرة، مصر.
130 - تفسير البغوي، المسمى معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك، ومروان سوار، دار المعرفة بيروت.
131 - تفسير البيقاعي المسمى «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» للإمام برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البيقاعي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1415هـ، 1995م.(1/621)
132 - تفسير السعدي المسمى تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: محمد زهري النجار، المؤسسة السعدية بالرياض 1997م.
133 - تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت - لبنان 1405هـ.
134 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بيروت.
135 - تفسير المنير، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1411هـ - 1991م.
136 - تفسير المراغي: حمد مصطفى المراغي، دار الفكر بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1392هـ، 1974م.
137 - تفسير الآلوسي المسمى روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي، طبعة مكتبة دار التراث، القاهرة.
138 - تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التأويل، الإمام أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي.
139 - تهذيب التهذيب، ابن حجر أحمد العسقلاني، دائرة المعارف النظامية بالهند، الطبعة الأولى 1325هـ.
140 - تهذيب مدارج السالكين، للإمام ابن القيم، عبد المنعم صالح العلي العزى، دار المطبوعات الحديثة، جدة - السعودية.
141 - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
142 - جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني، الطبعة الأولى 1372هـ - 1932م.(1/622)
143 - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1412هـ، 1989م.
144 - جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى، لأبي يحيى محمد بن عاصم الغرناطي، تحقيق: د. صلاح جرار، دار البشير 1410هـ.
145 - جيل النصر المنشود: يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة القاهرة - مصر، 1414هـ، 1991م.
146 - حاشية رد المختار، محمد أمين بن عابدين، مصطفى البابي وأولاده.
147 - حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، د. أبو بدر محمد بن بكر آل عابد، دار الغرب الإسلامي بيروت، الطبعة الأولى.
148 - حقيقة البدع وأحكامها، سيعد ناصر الغامدي، مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى 1412هـ، 1992م.
149 - حقيقة الانتصار، ناصر سليمان العمر، دار الوطن للنشر، الرياض السعودية، الطبعة الأولى 1412هـ.
150 - حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، عمر الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1412هـ، 1992م.
151 - حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها, د. محمد أبو فارس، دار الفرقان عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م.
152 - حكمة الدعوة وصفة الدعاة لأبي الحسن الندوي، دار عرفات مطبعة ندوة العلماء، الهند.
153 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثالثة، 1400هـ.
154 - حول التفسير الإسلامي للتاريخ، محمد قطب، المجموعة الإسلامية، الطبعة الثالثة بدون تاريخ.(1/623)
155 - خلق المسلم: محمد الغزالي، دار القلم، الطبعة السادسة 1406هـ.
156 - دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الأولى 1406هـ، 1986م.
157 - درء تعارض العقل والنقل، للإمام ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى 1399هـ.
158 - دراسة في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل، دار النفائس بيروت، الطبعة الحادية عشرة 1409هـ - 1989م.
159 - دستور الأمة في القرآن والسنة، د. عبد الناصر العطار، عمر الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1412هـ، 1992م.
160 - ديوان الإمام علي، جمعه وطبعه: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت.
161 - ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح، محمد خير رمضان يوسف، دار القلم، دمشق الطبعة الأولى، 1406هـ - 1986م.
162 - رجال الفكر والدعوة للإمام السرهندي، لأبي الحسن الندوي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى 1403هـ، 1983م.
163 - ركائز الإيمان بين العقل والقلب، محمد الغزالي, دار الاعتصام، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة 1399هـ - 1979م.
164 - ركائز الإيمان، محمد قطب, مركز الدراسات والإعلام, دار إشبيلية، الرياض, الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م.
165 - روضة الطالبين، يحيى بن شرف النووي، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان.
166 - سنن أبي داود سليمان بن الأشعث، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، حمص، الناشر: محمد السيد.(1/624)
167 - سنن الترمذي، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر, مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
168 - سنن البيهقي، أبو بكر أحمد البيهقي، دار الفكر، بيروت - لبنان.
169 - سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، طبع عيسى الحلبي وشركاه.
170 - سنن النسائي أحمد بن شعيب، الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت.
171 - سير أعلام النبلاء، الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية، 1402هـ، 1982م.
172 - سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم، مكتبة وهبة، دمشق، 1373هـ.
173 - سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، تحقيق: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت طبعة عام 1404هـ.
174 - سورة يوسف دراسة وتحليل، د. أحمد نوفل، دار الفرقان، عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1409هـ، 1989م.
175 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، دار الآفاق الجديدة بيروت.
176 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي، تحقيق: د. أحمد بن سعد حمدان الغامدي، دار طيبة الرياض - السعودية.
177 - شرح الطحاوية، لمحمد بن محمد بن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الرابعة 1391هـ.
178 - شرح القصائد السبع، للقاضي حسين بن أحمد الزوزني، تحقيق: يوسف علي بدوي، دار ابن كثير دمشق، الطبعة الأولى 1410هـ، 1989م.
179 - شرح الكوكب المنير، لمحمد بن أحمد الفتوحي، دار العبيكان الرياض - السعودية، طبعة 1413هـ، 1991م.(1/625)
180 - شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف النووي، المطبعة المصرية ومكتبتها بالقاهرة 1349هـ.
181 - شيخ الإسلام ابن تيمية .. جهاده ودعوته وعقيدته، تأليف أحمد القطان ومحمد الزين، مراجعة الشيخ عبد العزيز بن باز، مكتبة الندى الكويت، الطبعة الثانية 1409هـ.
182 - صحيح مسلم للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى 1412هـ، 1991م.
183 - صفة الغرباء، سلمان العودة، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية 1412هـ، 1991م، المملكة العربية السعودية.
184 - صناعة الحياة، محمد أحمد الراشد، دار المنطلق، دار المجتمع السعودية، الطبعة الثانية 1412هـ، 1992م.
185 - عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم، ماجدة زكريا فيصل، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، طبعة سنة 1407هـ.
186 - علل وأدوية للغزالي، دار الدعوة، القاهرة، مصر 1411هـ، 1991م.
187 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني, تصحيح وتعقيب عبد العزيز بن باز، دار الفكر، طبعة 1411هـ، 1990م.
188 - فتح المجيد لكتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، الطبعة الخامسة.
189 - فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار الخير، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ، 1991م.
190 - فقه الدعوة إلى الله, د. علي عبد الحليم محمود، دار الوفاء، مصر، طبعة 1410هـ، 1990م.
191 - فقه الدعوة الإسلامية والإعلام عند المودودي، فاروق عبد الغني الصاوي، دار المنار الحديثة مصر، الطبعة الأولى 1413هـ، 1992م.(1/626)
192 - فقه المسئولية، د. علي عبد الحليم محمود، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى 1415هـ، 1995م.
193 - فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، مكتبة هادي، مكة المكرمة طبعة عام 1409هـ.
194 - في ظلال الإيمان, صلاح عبد الفتاح الخالدي، مكتبة المنار الأردن - الزرقاء، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م.
195 - في فقه الأولويات دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي، الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م.
196 - نظريات التغيير، منير شفيق، الناشر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1415هـ - 1994م.
197 - قيادة الرسول السياسية والعسكرية، تأليف أحمد راتب عرموش، الطبعة الأولى 1409هـ، 1989م، دار النفائس بيروت - لبنان.
198 - قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله, جلال العالم، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، طبعة 1405هـ، 1985م.
199 - قصص الرحمن في ظلال القرآن، لأحمد فائز الحمصي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ، 1995م.
200 - قواعد التعامل مع العلماء، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق, دار الوراق، السعودية، الطبعة الأولى 1415هـ، 1994م.
201 - كيف تستعيد الأمة الإسلامية مكانتها؟ عمر الأشقر، دار النفائس، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 1412هـ، 1992م.
202 - كيف ندعو الناس؟ عبد البديع صقر - الطبعة السادسة, المكتب الإسلامي، 1397هـ، 1977م.
203 - لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، دار صادر بيروت.(1/627)
204 - لطائف الإشارات تفسير القشيري, تحقيق: د. إبراهيم بسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية: 1981م.
205 - لقاء المؤمنين لعدنان النحوي، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض - السعودية، الطبعة الثالثة 1405هـ، 1985م.
206 - لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ الأمير شكيب أرسلان، دار النشر، القاهرة - مصر، بدون تاريخ.
207 - مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1410هـ، 1989م.
208 - مبادئ الثقافة الإسلامية، لمحمد النبهاني، دار البحوث العلمية، الكويت 1403هـ.
209 - مبادئ علم الإدارة، محمد نور الدين عبد الرزاق، مكتبة الخدمات الحديثة جدة - السعودية، الطبعة الأولى بدون تاريخ.
210 - مبادئ نظام الحكم في الإسلام، عبد الحميد متولي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الأولى.
211 - مجاز القرآن لأبي عبيد معمر التميمي تحقيق: د. محمد فؤاد سزكين، دار الفكر, الطبعة الثانية 1390هـ، 1970م.
212 - مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، ربيع الآخر 1414هـ، 1995م.
213 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1967م، بيروت.
214 - مجموعة الرسائل للشيخ حسن البنا، دار الدعوة الإسكندرية، مصر، الطبعة الأولى 1411هـ، 1990م.
215 - مجموع فتاوى ابن باز، الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، طبعة 1413هـ.(1/628)
216 - محاسن التأويل، محمد جمال القاسمي، دار الفكر، بيروت - لبنان، بدون تاريخ.
217 - مختصر صحيح مسلم, زكي الدين عبد العظيم المنذري تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي.
218 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ.
219 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ أبو الحسن علي الندوي، دار نهر النيل، القاهرة - مصر، الطبعة الثامنة 1409هـ، 1989م.
220 - مذكرات في الدعوة الإسلامية, عبد الغفار محمد عزيز, دار المعارف السعودية للطباعة والنشر.
221 - مراتب الإجماع: أبو محمد علي بن حزم، دار الآفاق، بيروت، الطبعة الأولى 1978م.
222 - مشاركة الإسلاميين في السلطة، عزام التميمي، مركز أبحاث الديمقراطية في جامعة ويستمنستر في لندن في العشرين من شباط (فبراير) 1993م.
223 - معارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، تأليف الشيخ الحافظ أحمد حكمي - رحمه الله - بتعليق عمر محمود أبو عمر، الناشر: دار ابن القيم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1410هـ، 1990م.
224 - معالم علي الطريق: سيد قطب، دار الشروق, القاهرة، الطبعة الأولى 1400هـ، 1981م.
225 - مع الله (دراسات في الدعوة والدعاة) , محمد الغزالي, دار الكتب الحديثة، الطبعة الرابعة 1369هـ.
226 - مع قصص السابقين، صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، الطبعة الأولى 1409هـ - 1989م.(1/629)
227 - مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) , فخر الرازي، محمد عمر بن الحسين الرازي، دار الغد العربي، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى.
228 - مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة - مصر، الطبعة الثامنة 1413هـ، 1993م.
229 - مفتاح دار السعادة، للإمام ابن القيم, دار الكتب العلمية بيروت.
230 - مقاصد الشريعة الإسلامية، زيد بن محمد الرماني، دار الغيث، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى.
231 - مقاصد المكلفين، د. عمر الأشقر، مكتبة الفلاح, الكويت، الطبعة الأولى 1401هـ.
232 - مقدمة ابن خلدون، دار القلم بيروت, الطبعة الأولى 1987م.
233 - مقومات الداعية الناجح، د. علي عمر بادحدح، دار الأندلس الخضراء، السعودية، الطبعة الأولى 1417هـ، 1996م.
234 - من توجيهات الإسلام، محمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة، طبع مؤسسة دار الشعب.
235 - منهج أهل السنة في قضية التغيير د. السيد محمد نوح، دار الوفاء المنصورة، الطبعة الثانية 1412هـ، 1991م.
236 - منهج الرسول في غرس الروح الجهادية في نفوس أصحابه، د. السيد محمد السيد نوح، الطبعة الأولى 1411هـ - 1990م، نشرته جامعة الإمارات العربية.
237 - مواقف إسلامية, د. عبد العزيز كامل، دار المعارف، سلسلة اقرأ 1970م.
238 - ملامح المجتمع المسلم، د. القرضاوي، مكتبة وهبة القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 1414هـ، 1993م.
239 - ميزان الاعتدال للإمام الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة بيروت.(1/630)
240 - نظام الحياة في الإسلام للمودودي، ترجمة محمد عاصم حداد، الطبعة الثانية، سنة الطبع 1377هـ، 1958م، دار الفكر - دمشق.
241 - نظام الحكم في الإسلام، د. عارف خليل أبو عيد، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1416هـ.
242 - نظرات في رسالة التعاليم، محمد عبد الله الخطيب، محمد عبد الحليم حامد، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
243 - نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء، تأليف: الإمام الذهبي، تهذيب: محمد حسن عقيل موسى، دار الأندلس الخضراء، جدة, الطبعة الأولى.
244 - نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، أبو الأعلى المودودي، تقديم: محمد عاصم حداد، سنة الطبع 1387هـ، 1967م، دار الفكر.
245 - نصب الراية للزيلعي، جمال الدين الزيلعي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1393هـ.
246 - هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة، للشيخ علي محفوظ، الطبعة التاسعة 1399هـ، دار الاعتصام.
247 - هذا الدين، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة - مصر، الطبعة الرابعة عشرة 1412هـ، 1992م.
248 - هكذا علمتني الحياة، د. مصطفى السباعي، الطبعة الثالثة 1406هـ، المكتب الإسلامي.
249 - هل نحن مسلمون؟ لمحمد قطب، مؤسسة المدينة، السعودية، الطبعة الثالثة، 1410هـ - 1989م.
250 - واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة، السعودية، الطبعة الثالثة، 1410هـ - 1989م.(1/631)
251 - وجوب التعاون بين المسلمين، عبد الرحمن السعدي، المعارف - الرياض، طبعة 1402هـ.
252 - وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، جمال الدين بن أحمد بن بشير بادي، دار الوطن، الرياض، السعودية الطبعة الأولى: 1412هـ.
253 - وسائل دفع الغربة، سلمان العودة، دار ابن الجوزي، الأحساء - السعودية، الطبعة الأولى 1412هـ، 1992م.
254 - وسطية أهل السنة بين الفرق، د. محمد باكريم محمد عبد الله، دار الراية، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1415هـ، 1994م.
255 - وفيات الأعيان وأنباء الزمان، لابن خلكان أبو العباس شمس الدين أحمد، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر بيروت.
256 - يقظة الإسلام في تركيا، أنور الجندي، دار الأنصار، القاهرة، 1979م.
* * *(1/632)