العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
في ضوء الفِكْر الإسلامي المعاصر
اطروحة أُعدَّت لنيل درجة الدكتوراه
في الدراسات الإسْلاميَّة
إشراف
الأستاذ الدكتور نايف معروف
إعداد
الدكتور : محمد أحمد عبد الغني
1424هـ/ 2004/م
الاهداء
... إلى الذين يعايشون يقظةً علمية، تَتَهَلَّلُ لها سُبُحات الوجوه ويتقلبون في أعطاف العلم مُثقلين بحمله يَعُلُّوْن منه وينهلون.
... إلى الصرح العلمي الذي أولاني الرعاية والعناية في التماس العلم في أحضان الجامعة الإسْلاميَّة بالمدينة المنورة بخير البرية...
... إلى النواة المباركة والكلِّّية الشامخة كلِّية الإمام الأَوْزاعي التي تتعهد الاطلاع المدهش والغوص على مكنونات المسائل ما يفرح به المسلمون نصراً...
إلى الذين ينبذون ألقاب الذين كفروا للذين أسلموا والذين استغربوا للذين آمنوا وثبتوا والذين غلبوا على أمرهم للذين استضعفوا.
إلى الطائفة الظاهرة على الحق القائمة بأمر الله القاهرة لعدوها لا يضرها خلاف المنافقين وخذلان المستغربين حتى ينصر الله هذا الدين.
إلى والدي الذي اختار لي الطّريق، ووالدتي التي تدعو دوماً بالسداد والتوفيق وأسرتي التي هي خير رفيق أهدي الثمرة الثانية من جهدي العلمي وكلٌّ منهم بها جدير وحقيق.
فهرس الموضوعات والمحتويات
الموضوع ... الصفحة
?المقدمة: ... 3
الدوافع وراء اختيار هذا البحث ... 5
منهج البحث وطريقة السير فيه ... 9
خطة البحث ... 12
شكر وعرفان ... 15
? فصل تمهيدي :
المبحث الاول ... : ... أهميّة تحديد الألفاظ الشرعية والمصطلحات الإسلامية ... 17
المبحث الثاني ... : ... المرجع في بيان معاني الألفاظ الشرعية ... 24
المبحث الثالث ... : ... تحديد مصطلحات البحث ... 29
- الفكر ... 29
- المفهوم ... 31
- الغرائز ... 32
- الحاجات العضويّة ... 34
- الشّخصيّة ... 35
- الثّقافة ... 37
- الحضارة والمدنيّة ... 39
- المجتمع ... 40
- النظام ... 41
- التوفيق ... 42
?الفصل الأول :مفهوم العدالة في اللغة و الفكر الإنساني ... 48
المبحث الأول : مفهوم العدالة في اللغة والشرع ... 49(1/1)
المطلب الأول: ... العدالة في الوضع اللغوي ... 50
العدالة في الوضع الشرعي ... 52
العدالة في الوضع العرفي العام ... 60
العدالة في الوضع العرفي الخاص ... 62
المبحث الثاني : مفهوم العدالة عند الأمم والديانات السماويّة السابقة ... 67
المطلب الأول: ... العدالة في المجتمع البشري القديم ... 68
المطلب الثاني: ... العدالة عند اليهود ... 76
المطلب الثالث: ... العدالة عند النصارى ... 84
المطلب الرابع: ... العدالة في شبه الجزيرة العربية ... 90
الموضوع ... الصفحة
المبحث الثالث : مفهوم العدالة عند الفلاسفة والمتكلمين ... 94
المطلب الأول: ... العدالة في الفلسفة اليونانيّة ... 95
المطلب الثاني: ... العدالة عند المتكلمين المسلمين ... 102
المطلب الثالث: ... العدالة عند متفلسفة المسلمين ... 109
- الفارابي ... 110
- ابن مسكويه ... 111
- ابن سينا ... 113
- ابن رشد ... 113
المبحث الرابع : مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر السياسي الغربي ... 115
المطلب الأول: ... مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر الرأسمالي الحر ... 116
المطلب الثاني: ... مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر الاشتراكي(الديمقراطي) ... 123
المطلب الثالث: ... مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر الماركسي (الشيوعي) ... 126
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة :(1/2)
... الحمد لله الذي شرّع الإسلام، فسهَّل شرائعه لمن وَرَدَه، وأعزَّ أركانه على من غالبه، فجعله أمناً لمن علقه، وسلماً لمن دخله وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، ونوراً لمن استضاء به وأنعم علينا بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام إرشاداً للعباد ودلالة وإنقاذاً لهم من السقوط في دركات الظلم والضلالة، وجعل المصطفى المجتبى رحمة مهداة، ونعمة مسداة، لروام النجاة، وقصّاد العَدالَة وناهلي الاستقامة، وأرسله والناس صنفان : ظالم ومظلوم. فأمضى بالعدل حكمه، وقرن بالصواب تدبيره وأبرم بالسداد أموره، ووصل بالجد عمله والحق بالقصد سيرته، وأمر بالعدل والقسط غيره وحذر من الوكس والشطط من لحقه فما أصبح بالعباد نعمة إلا هو طريقها، وما رام غاية إلا هو دليلها.
... فصلِّ اللهمَّ على محمد المبعوث بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة والبراهين الساطعة الذي انتهت إليه أصول الرسالات، وتجمعت لرسالته تجربة النبوات، فحمل القرآن بين دفتيه الشهود التاريخي، بما قصّ من أخبار الأمم، والشهود الحضاري بما تجسد من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،وتمثل في خير القرون، والشهود المستقبلي بما أصَّل من قواعد، ووضع من معالم، وكلَّف من نظر وتدبر في سُنَن الله في الأنفس والآفاق التي هي السبيل للتمكين في الأرض، والقيام بالشَّهادَة على الناس والقيادة لهم : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } (1) .
__________
(1) ص / 88 .(1/3)
وأصدق الدعوات للمؤمنين بحبل الله المتين، أن يرشدهم تعالى إلى الصواب لإدراك ما يُحاك لهم ويُمكر بهم من نوازع الشر فيعملوا على لمِّ شعتهم ورتْق فتقهم ورَأْب صدعهم وسدِّ ثغرهم لتكون لهم يد متينة تحول دون تحقيق ما يراد لهم من تبديد لشملهم وشقٍّ لعصاهم حتى تُرسى قواعد الخلافة ويُبرم حبلها فتحفظ الحوزة وترعى الرعية وتكف الجنف وتدرأ الحيف وتنتصف للمظلومين من الظالمين وتقوم باستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفائها على المستحقين دون فصل للدنيا عن الدين لإشاعة عدالة السماء بين ربوع الإنسانية جمعاء.
وبعد :
... فهذه إضاءات هادية، أقدمها بين يديِّ هذه الرسالة، لتوضيح بعض الجوانب فيها، تتعلق بالأمور التالية :
... أ- الدوافع الكامنة وراء اختياري للبحث في هذا الموضوع.
... ب- منهج البحث وطريقة السير في معالم الرسالة.
... ج- خطة البحث.
... د- واجب الشكر لكل من أعان على البحث.
الدوافع وراء اختيار هذا البحث
... أنزل الله تعالى رسالة الإسلام عامَّة وشاملة قائمة على العدل، وقد اكتنفت أفكاراً معينة تنظم شؤون الحياة وتعالج مشكلات الإنسان فأوجدت حضارة مميزة وحددت مفاهيم معينة وبلورت أذواق معتنقيها بدقّة وجعلت لهم وجهة نظر في حياة معيّنة وطريقة في العيش محددة، وأقامت مجتمعاً عادلاً متميزاً في أفكاره ومفاهيمه ومشاعره وأنظمته وأشخاص أفراده.
... وبهذا الشمول وتلك السعة كفل لأحكامها التطبيقية النمو والتجدد على مدى الأزمان ، وقد بذل الفقهاءُ الجهدَ، واستفرغوا الوسع في التطبيق والقياس، والتفريع مما كفل لأحكام الإسلام أن تلبي حاجات المجتمع المتجددة في ذاك الزمان الذي حكم به بشريعة الرحمن ثم وقف هذا الجهد عندما تخلى المجتمع عن الإسلام بتخليه عن شريعة الملك العلاّم، فغفى أبناؤه في أحضان التقليد وناموا على أحلام ماض مجيد حيارى تتقاذفهم الأهواء، وعلماء الأمّة في شغلٍ عنهم، كلٌّ بما يشغله ويرى أنه الأسلم.(1/4)
... ولما قامت النهضة الأوروبية الحديثة والأمّة على تلك الحال وجد الأوروبيون أمامهم أمّة لم يبق من مقوماتها الحقيقية شئ يذكر.
فالعقيدة خاملة، والسلوك منحرف والاستقامة معدومة والفِكْر جامد والاجتهاد معطل والفقه مفقود والبدع قائمة والسنة نائمة والوعي غائب حتى لكأنّ الأمّة ليست هي، فاهتبل الغَرْبيّون هذه الفرصة، واحتلوا البلاد وامتلكوا أزمة العباد، وغدت مقَاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، وبتنا نلتمس عندهم الحل لمشكلات ومعضلات أوجدناها بأنفسنا، وشكلناها بأيدينا.
وخلال ذلك حاولت الأمة بما بقي لها من صبابة الحياة أن تنهض من كبوتها، وتستقيل من عثرتها، فباءت كل محاولاتها بفشلٍ ذريع، لأنها أخطأت السبل المؤدية إلى النجاح، فقد قامت تلك المحاولات من منطلق تقليد الأجنبي والتبعية للمحتل حتى ازدادت أحوالنا سوءاً وبدأ الجيل الجديد بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري يبحث عن البلسم الشافي لما تعانيه الأمة من الضياع الفِكْري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وما أهدر من الحقوق الإنسانية فارتفعت أصوات المُفَكِّرين المسلمين عالياً منادية بلثم الجراح ورأب الصداع وإعطاء الحقوق ورفع الظلم.(1/5)
... وكان من أبرز المفاهيم التي نودي لها من قبل الفلاسفة والمفكرين، وطلب من الدول تحقيقها ونصّت عليها لوائح حقوق الإنسان في هيئة الأمم وغيرها » مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة « فاتجهت الوجوه شطر الغَرْب تستجلب منه الحلول لمشكلاتها كما تستورد منه السلع لمعاشها غير أنها عند استيراد السلع تراجع أرصدتها القديمة وتحصي بضاعتها المدَّخرة وتنظر في قدرتها على الإنتاج فأما عند استيراد المبادئ والقوانين فلا تضع شيئاً من هذا، وإنّ هذا لمن أعظم ما فتن به المسلمون اليوم لأنهم ورثوا الأفكار الإسْلاميَّة باعتبارها فلسفة خيالية كما يرث اليوم اليونان فلسفة أرسطو وأفلاطون وقد تناسوا أن الأفكار في أية أمّة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها وأعظم هبة يتسلمها الخلف من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفِكْر المستنير وأن الثروة المادية دون أفكار الحياة بكثير فإذا دمرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفِكْرية.
... ومن هنا تباينت وجهات نظر المُفَكِّرين من أبناء الأمة حول الأفكار الوافدة فمنهم من أدرك » أن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح بها أولها « فاتجهوا نحو الإسلام ينهلون من عذب معينة، ويجتهدون على ضوء الكتاب والسنة بناء على الأحداث والوقائع، ومنهم من ارتد إلى الأصالة جامداً على نصوصها متمسكاً بظاهرها دون تنزيل الأحكام على الوقائع وفهم الواجب منها، ومنهم من حذا حذو الغَرْب من منطلق التقليد دون تفريق بين الواقع الإسلامي والواقع الغَرْبيّ ومنهم من تعامل مع النُّصُوص الشَّرْعية والأصالة الفِكْرية بمنظور غربي أو بمنظور توفيقي بين الإسلام وما هو غربي مدعين أن الإسلام روح طليق قبل أن يكون نصّاً أو حداً.(1/6)
وسبب هذا التباين هو الغزوة الكاسحة من الحَضَارَة الغَرْبية التي غيّرت مقاييسنا للأشياء وقناعاتنا التي كانت متصلة في نفوسنا وكأننا تناسينا العدل والميزان والقسط في شرعة الله.
ولا ريب أنّ العدلَ هو الحق الذي قامت به السموات والأرض، وانضبط على هديه مسار الوجود، إلا أن تطبيق العَدالَة في حياة الأمم يخضع لموروث عادتها وأعرافها وما تسنُّه من أنظمة في واقع روابطها وعلاقاتها الدولية.
... وعلى هذا اضطربت مواقف الفلاسفة والحكماء ورجال القانون قديماً وحديثاً من مسالك تحقيق العَدالَة ، فمنهم من جعل الظلم سبيلاً لتحقيق العدل كقول زهير بن أبي سلمى:
... ومن لم يذدْ عن حوضهِ بسلاحهِ ... ... يهدَّم ومَن لا يظلمِ الناسَ يُظلم(1)
... ومنهم من جعل القوة أهم عناصر العدل، ومنهم من رأى أن العَدالَة مرهون توافرها بتوافر الحريات المجردة من القيود والضوابط ومنهم من يرى العدل أحكاماً ممزقة وترقيعات لأنظمة فاسدة.
... وأمام هذه المذاهب المختلفة والنظرات المتباينة، لم تبلغ ثقة الفلاسفة على امتداد التاريخ من القوة مبلغ الإيمان بتوافر العدل الكامل في واقعه العلمي رغم دوي صيحات المنصفين.
... ولكن الدارس لمعاني المنهج الإلهي يجدها بمجموعها دعوة صريحة إلى العدل الكامل في حياة الخلق لأنه من أمر الله لا من خلقه وشتّان ما بين ما أنزل الله وبين ما هو مستمد من طاقات البشر الفِكْرية والثقافية والعاطفية ومزاجاتهم النفسية وتجاربهم الفردية والجماعية، التي تبدأ بالطعن والاتهام.
... وعليه فإن من أحقّ المباحث بالتسطير وأنفسها عند الجمع والتحبير تبيان وجه الحق فيما تتعاوره الأفهام وتتعرض له الأذهان من الجهل والأوهام في ضوء علم الشَّرِيعَة، علم السيادة، ومفتاح الهدي ونهج السعادة ولله درّ ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة إذ يقول : » إن محنة الإسلام والقرآن من جهل الصديق وبغي ذي الطغيان «
__________
(1) ابن أبي سلمى زهير، ديوان، شرح ثعلب، ص (88).(1/7)
من هنا تناولت مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، أحد المفاهيم الفلسفية والسِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة التي طرحت للبحث عن صيغة للتوفيق بين الحضارتين الإسْلاميَّة والغَرْبيّة لنصل في أعقاب مناقشتنا لهذا المفهوم إلى قناعة تامة لتعديل العبارة إلى البحث عن سبيل لمجابهة الحَضَارَة الغَرْبيّة من خلال مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والتحصن منها بأصول الحَضَارَة الإسْلاميَّة.
فشرعت بجمع الأمر وتحرير تليده وطارفه وكشف مستغلقه وخافيه فرأيت الموضوع قيد الأيادي بحثاً ودرساً فأجلت دقائق النظر وأطلت سوانح الفِكْر فعنت لي أصول لا يجهلها من له أنسة بعلوم الشَّرْع مدارها على علاقة العبد بأمر الله ونهيه فعلمت أنَّ الأيادي لم تنل منه مرمى فقد طالته بنبال طيش كثير ولم تصب فيه إلا النزر اليسير إذ مدَّ فيه المؤمن والفاسق بل الكافر باعه وتكلم فيه العالم والجاهل وكل يصدر من مورده ويجذب بالدلاء من بئره ومع أن في القوم فحولاً عظاماً، وعلماء أعلاماً لكنَّ أكثرهم اكتفى بالتلميح والإشارة وبواجب النصيحة أو اكتفى بالتنبيه والتنويه، فرأيت حقاً عليَّ أن أبحث هذا الموضوع وأشمر له عن ذراعي رغم قصر باعي وقلة إطلاعي مستمداً العون من الله المتعال.
... ونظراً لما يتسم به البحث من ارتباط بواقع الحياة، فقد رأيت أن أحصر مكان وتاريخ موضوعه تركيزاً عليه في الوقت المعاصر. فسميته » مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في ضوء الفِكْر الإسلامي المعاصر« .
فما هو مفهوم العَدالَة في اللغة والفِكْر الإنساني ؟
وما هي سمات العَدالَة في المنهج الإلهي ؟
وكيف تمثلت تلك المعاني في وقائع حياة الرسول ؟
ومن بعده من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين ؟
... وأين موقع العَدالَة في زماننا المعاصر ؟
... وما نظرة المُفَكِّرين المسلمين لها ؟
... وما هي حاجة استنهاض الفقهاء والمجتهدين إلى فتح الأقنية الاجتهادية بين الإسلام(1/8)
ومظاهر الحياة العصرية الوافدة من الغَرْب؟
وهل تتأهب الأمة للقيام بدور حضاري كغابر عهدها ؟
أم أنها ترتدي الثوب الحضاري الغَرْبيّ الذي يفقدها ثقتها بنفسها وتراثها الحضاري؟
هذا ما أردت بهذه الدراسة لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المُفَكِّرين القدامى والمحدثين ومدى تأثر المسلمين به وهذا التقديم محاولة لتقديم نموذج إسلامي في معالجة الإسلام للقضايا الاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية والسِّيَاسِيَّة والقانونية والكشف عن قدرة الإسلام على معالجة مشكلات الإنسان المعاصر وبيان أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
... ولعلي بهذا الموضوع أضع لبنة بسيطة في المعمار الإسلامي الحضاري فأقدم جهداً في العمل على إعادة ثقة الأمة بأفكار الإسلام ومعالجته لقضايا العصر ليكون قاعدة تأصيلية تُحصّن الإسلام وتدرأ المثالب عن الدعاة.
... والله تعالى أسأل أن يجعل فيما عزمت عليه وشرعت به نفعاً وهداية ورشداً وأن يوشحه بالتوفيق والإخلاص.
... وضعت نصب عيني للبحث منهجاً أوجز أركانه، وأفند دعائمه في النقاط التالية:
1- عُنِيتُ بالأدلة الشَّرْعية من المصادر الأصلية، والرجوع إلى المصادر الأصيلة في تفاسير القرآن الكريم وشروح السنة النبوية والمصادر الفقهية من كتب الأئمة الأربعة والمعتمدة عليها : كالمُغْني لابن قُدامة (620 هـ ) ومجموع الفتاوى لابن تَيْمِيَّة (728 هـ) ، ونيل الأوطار للشوكاني (1250 هـ ).
2- عُنِيتُ بكتب السِّياسَة الشَّرْعية لأئمة الإسلام كالأحكام السلطانية للماوردي (450 هـ) والسِّياسَة الشَّرْعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تَيْمِيَّة (728هـ).
3- عُنِيتُ بكتب التاريخ والسير ومناقب الرجال ذات الصلة بالموضوع نحو: سير أعلام النبلاء وميزان الاعتدال في نقد الرجال للإمام الذَّهَبِيّ (748هـ) والأعلام للزركلي ووفيات الأعيان لابن خلكان وحلية الأولياء للأصفهاني.(1/9)
4- رجعت إلى كثير من الدراسات الإسْلاميَّة الحديثة في كثير من مسائل البحوث التي تناولتها فاستفدتُ وناقشت ووافقت وخالفت إلا أنّني حين المخالفة لا أجنح للتجريح اللهمّ إلا إن كان في معرض الرد على المستشرقين والمستغربين على عكس ما نجده في بعض الأقلام التي تلتزم جانب الأدب الجم مع المفاهيم الغَرْبيّة في ميدان من أخطر ميادين الصراع بين الإسلام والكفر وتراها في مناقشة العاملين في حقل الدعوة الإسْلاميَّة تبرز الأقلام المؤدَّبة التي تندلع منها ألسنة حداد تقطر شدّة ورهقا.
5- رجعت إلى كثير من الدراسات الفلسفية الحديثة من العرب والغَرْب من أجل إيضاح المفاهيم الغَرْبيّة وتوثيق مراجعها.
6- عند تحديد المصطلحات العامة كالحَضَارَة والثَّقافَة أسعى لبيانها بطريق الإجمال عند الآخرين ثم أحدد معنى ثابتاً لها أسير عليه في البحث رجاء بلورة المفاهيم الإسْلاميَّة وتنقيتها مما علق لها من الشوائب لتصبح ضوابط لسلوك المسلمين ولينهضوا النهضة الصَحِيْحة على أساسها.
7- رصد معنى مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المفكر من خلال تتبع أقواله وترصد أحاديثه في كتبه بالدرجة الأولى مع عدم إغفال ما كتب عنهم لا سيما فيما يتعلق بهذا المفهوم.
8- عند التعرض لمفهوم العَدالَة عند فلاسفة الإغريق اقتصرت على بعض الفلاسفة دون غيرهم ممن أخذ عنهم متفلسفة المسلمين من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو.
9- عند التعرض لمتفلسفة المسلمين في القرون الوسطى اقتصرت على ثلّة ممن اتصل بالفِكْر الفلسفي اليوناني مبرزاً نمطين من التفكير :
الأول : نمط المتفلسفين الذي تسوده الروح الفلسفية المحضة كالفارابي ( المعلم الثاني ) وابن مسكويه (الأرسطي) وابن باجة (الأفلاطوني) كلٌّ في آرائه الخلقية.(1/10)
الثاني : نمط المُتَكَلِّمين الذي تسوده النزعة الدينية ويتضاءل فيه نصيب البحث النظري الفلسفي في المسائل المتصلة بالبحث كالإمام الماوردي والغَزَالي وبعض الفرق الإسْلاميَّة كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية.
10- الموازنة بين وجهات نظر المُفَكِّرين بالتحليل والمقارنة للتعرف على الحل الأمثل للمشكلات السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة المعاصرة على ضوء الإسلام.
11- عند التعرض لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند بعض المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين حصرت الحقبة الزمنية بعد الحرب العالمية الثانية واقتصرت على رموز تمثل معالم للحركة الإسْلاميَّة الحديثة ما زال أثرها واضحاً للعيان كوضوح الشمس في رابعة النهار كالأئمة الأعلام المَوْدودِي وقطب والغَزَالي.
12- عند تناولي لمفكر إسلامي معاصر أقدم نبذة موجزة عن سيرته في حاشية البحث مركزاً على مولده ونسبه وعلمه وحياته الفِكْرية بغية التعرف على العوامل المؤثرة في فكره واتجاهاته.
13- كما أبين مفهومه للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة وتصوره له وكيفية تحقيقه في الواقع العملي وصولاً لبيان منهجه في التعامل مع المفاهيم المعاصرة عامة. متوخياً في ذلك اعتماد نقل الآراء بكل شخص أو فئة من المراجع الأصيلة وعدم اعتماد المراجع الناقدة لهم والناقلة عنهم غالباً.(1/11)
14- عند التطرق لبيان معالم العَدالَة الإلهية في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة: قسَّمت الموضوع إلى أقسام متعددة طبقاً لأنظمة الإسلام في الحياة نحو: النِّظَام الاقتصادي والنِّظَام الاجتماعي ونظام الحكم ونظام العقوبات كأمثلة واضحة المعالم لما نرى من ضرورة هذا التقسيم واستقلال كل عن الآخر في معالجة نواحي الحياة إذ يطلق الكثيرون على جميع أنظمة الحياة اسم النِّظَام الاجتماعي وهو إطلاق في غير محله لأن أنظمة الحياة أولى أن يطلق عليها أنظمة المجتمع لذلك عُنِيتُ بالنِّظَام الاجتماعي، النِّظَام الذي ينظم اجتماع المرأة بالرَّجُل والعكس وينظم العلاقة التي تنشأ بينهما عن اجتماعهما وكل ما يتفرع عن هذه العلاقة.
وعُنِيتُ بالنِّظَام الاقتصادي: تلك السِّيَاسِيَّة التي تهدف لضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأَسَاسيَّة لكل فرد وتمكينه إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع وكل هذا بغية إظهار عدالة السماء في أنظمة المجتمع من خلال أهم الأمثلة التي تندرج تحتها.
15- لقد وشيت هذه الرسالة بحواشٍ كان من أبرز استعمالاتها :
أ- عزو الآيات إلى سورها وذكر أرقامها.
ب- تخريج الأحاديث الواردة في الرسالة ذلك أني لم أستجز لنفسي أن أترك حديثاً بدون تخريج أستفرغ فيه الجهد نصيحة للأمة وأداء للأمانة ولكني لما كنت في بداية شدوي في علم الحديث لم يكن لي إلا أن أعتمد على تصَحِيْح أهل العلم القدماء منهم والمعاصرين.
ج- عرّفت بالأعلام الذين وردت أسماؤهم غالباً في هذا البحث ولم أفرق بين عالم مشهور وغيره.
د- توثيق النقول من خلال التصدر باسم المؤلف ثم الكتاب مستثنياً من ذلك مراجع التراجم لتعدد تكرارها.
هـ- عندما أنقل الكلام بتصرف أو أختصره أو أرجع إلى أكثر من مصدر أو مرجع أحيل بقول: ( أنظر حول هذه المسألة ) .(1/12)
16- عُنِيتُ في ختام الرسالة بوضع فهارس مفصلة تكون مفاتيح للبحث ونجوماً للقارئ يهتدي بها فكانت فهارس تشمل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأعلام والمصطلحات والأبيات الشعرية والمذاهب والفرق والمصادر والمراجع والموضوعات.
17- حرصت فيما يتصل بأسلوب الكتابة على انتقاء العبارة، واشتمالها على التسهيل والتيسير والإيضاح والتقريب كما تناثرت بعض المرادفات لألفاظ أو جمل بقصد الإغناء اللفظي وليس الإطناب المستهجن.
خطة البحث
... لقد بنيت قواعد هذه الرسالة على فصل تمهيدي، وستة فصول وخاتمة.
... فأما الفصل التمهيدي فقد بنيت فيه ثلاثة مباحث.
الأول: أهمية تحديد الألفاظ الشَّرْعية والمصطلحات الإسْلاميَّة ذلك أن فهم مصطلحات البحث هو مفتاح فهم مرامي الباحث ومقاصده لأن تلك المصطلحات-في الغالب- ألفاظ جامعة ينبني عليها كثير من مسائل البحث وموضوعاته وعليه فلا يمكن أن تكون نسبية يستخدمها كل فريق كما يحلو له بناءً على ما تدفعهم إليه الأهواء ولا يمكن حملها على الإصلاح الحادث لقوم أو فئة لاختلاط المعاني.
الثاني: في بيان المرجع لمعاني الألفاظ الشَّرْعية فلا بدّ من الرجوع إلى معيار ثابت إذ لو وُكِّلَت القضية للبشر لأصبحت نسبية بحسب اختلاف أهوائهم وتنوع مشاربهم فثبات المعيار الذي ينظر بواسطته وتفهم الحقائق في ضوئه أمر لا محيد عنه وتركه يفضي إلى فساد عريض وفكر مريض.
الثالث: بيان مجموعة من المصطلحات المبثوثة في ثنايا البحث وهي إجمالاً عشرة مصطلحات، الفِكْر والمفهوم والغرائز والحاجات العُضْويَّة والشخصية والثَّقافَة والحَضَارَة والمَدَنيَّة والمجتمع والنِّظَام والتوفيق.
وأما الفصول الستة فهي:
الفصل الأول:(1/13)
فقد تحدثت فيه عن مفهوم العَدالَة في اللغة والفِكْر الإنساني من خلال أربعة مباحث أولها: مفهوم العَدالَة في الوضع اللغوي والشَّرْعي، والوضع العرفي العام والوضع العرفي الخاص، وثانيها: مفهوم العَدالَة في المجتمع البشري القديم وعند الديانات السماوية السابقة، كأهل الكتاب (اليهود والنصارى)، وثالثها: مفهوم العَدالَة عند الفلاسفة والمُتَكَلِّمين، ورابعها: مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر السياسي الغَرْبيّ كالفِكْر الرأسمالي الحر والفِكْر الاشتراكي/الديمقراطي، والفِكْر الماركسي/ الشيوعي (الاشْتِراكِيَّة العلمية).
الفصل الثاني:
فقد بنيت فيه مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند بعض المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين كالإمام أبو الأعلى المَوْدودِي والإمام الشهيد سَيِّد قطب ، والشيخ محمد الغَزَالي مقتصراً في بيان مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند كل واحد على ثلاثة مطالب:
الأول: معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المفكر.
الثاني: كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المفكر.
الثالث: منهج المفكر في التوفيق بين العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي.
وانتهيت إلى القول في حقيقة كل من الحَضَارَة الإسْلاميَّة والحَضَارَة الغَرْبيّة لنصل في أعقاب ذلك إلى بيان مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة من المنظور الشَّرْعي من خلال طريقة الإسلام في استنباط الأحكام.
الفصل الثالث:
فقد بينت فيه العَدالَة في النِّظَام الاقتصادي الإسلامي من خلال ثلاثة مباحث أولها : العَدالَة في حق التَّمَلُّك الفردي ، بينت فيه الأسباب المترتبة على الجهد الخاص كالأجرة وإحياء الأرض الموات واستخراج ما في باطن الأرض من المعادن كما أوضحت الطرق المباحة بالأسباب الشَّرْعية كالزكاة والميراث والكفارات إضافة إلى الأموال المترتبة على إرادة الآخر كالوصية والهبة والإقطاع.(1/14)
وفي المبحث الثاني بينت الأعمال المحظورة في التَّمَلُّك كالعقود المنهي عنها والتسعير والرَّشْوَة والرِّبَا وختمت الفصل ببيان ضمانة الحاجات في الإسلام وتحقيق الرفاه في العيش من خلال توضيح عدالة الإسلام في توزيع الثروة وضمانته للحاجات الأَسَاسيَّة للفرد وقدمت أمثلة جمّة على قاعدة تحقيق الرفاه لأفراد المجتمع.
الفصل الرابع:
فقد بينت فيه عدالة الإسلام في النِّظَام الاجتماعي القائم على الرَّجُل والمرأة من خلال بيان نظرة التشريع الإسلامي للصلات بين الرَّجُل والمرأة وتقرير شرعة الإسلام في عمل المرأة الأصلي مع التعرض للأعمال المباحة التي لها أن تمارسها في الحياة العامة ضمن الضوابط الشَّرْعية وبيان عدل الإسلام في التعدد والطلاق والتكاليف الشَّرْعية لكل من الرَّجُل والمرأة مظهراً طبيعة الحقوق والواجبات والقوامة وماهيتها وعدالة التوزيع في الميراث وعدالة التفاوت في الشَّهادَة وختمت الفصل ببيان حقيقة دعوى حرية المرأة والمساواة بين الرَّجُل والمرأة.
الفصل الخامس:
... بينت فيه عدالة الإسلام في نظام العقوبات من خلال بيان بعض القواعد الرئيسة في نظام العقوبات نحو كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته وما يتفرع منها من قاعدة درء الحدود بالشبهات وكون الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة وقاعدة لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود والقصاص والتعازير ، ثم بينت خصائص العقوبة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة من حيث أن العقوبات مقياسها الشَّرْع وإنها تحفظ مصالح الجماعة وإنها رحمة وإنها زواجر رادعة وجوابر في الآخرة وكونها تتفاوت تبعاً لتفاوت مراتب الجنايات وعليه فيبطل قياس الشَّرِيعَة بالقانون الوضعي ، ثم بينت طبيعة القوانين الحديثة مع العقوبات الجسدية مظهراً الجريمة في الغَرْب بالوثائق والأرقام مستنتجاً بنتائج قيّمة حول فشل الغَرْب في مكافحة الجريمة.
الفصل السادس:(1/15)
... بينت فيه عدالة الإسلام في نظام الحكم ، فالحكم لا يكون إلا لله وإن الحاكم يطبق شرع الله وإن المحكومين عليهم واجب الطاعة في حكم الله ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وبينت حق المشاورة للأمّة في الخلاف ، فلا شرعية للحاكم إلا بشورى شرعية وباختيار من قبل الأمة وللأفراد حق إبداء الرَأْي فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة المفسدة انطلاقاً من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقارناً ذلك بحرية الرَأْي عند الغَرْب رافضاً فكرة المعارضة للمعارضة وختمت الفصل ببيان مفهوم أنه لا إكراه في الدين لغير المسلمين وكونه يتعارض مع مبدأ الحريات في الغَرْب نتيجة لاختلاف المنطلقات الأَسَاسيَّة المنبثقة من القاعدة الكلية لكل منها.
شكر وعرفان
...
... وقبل أن أختم المقدمة، يقضي عليّ الواجب أن أتقدم بجزيل الشكر وجميل العرفان إلى فضيلة الأستاذ الدكتور نايف معروف الذي قبل مشكوراً الإشراف على الرسالة وما بذله من توجيهات حسنة وملاحظات قيّمة لكي يُجنّب الرسالة بعض المآخذ والعيوب ممّا يدل على رغبة صادقة في جعلها أبعد عن النقد، وأكثر إشراقاً وأعظم فائدة... فله الشكر الوافر والثناء العاطر.
... وأتقدم بالشكر ، لكل من أسدى إليّ أيَّ عونٍ خلال الكتابة بدلالةٍ على مصدرٍ أو بإعارةٍ لكتاب، أو بزيارةٍ لمكتبة أو بكلمة طيّبة.
... وفي الختام أرجو أن يرزق هذا العمل بالقبول عند الله، وأن أكون خالصاً لوجهه الكريم وأن ينتفع به المسلمون، معتذراً عمّا قد يكون فيه من نقص أو فهم أن فيه انتقاص، فلست بناقصٍ لأحدٍ فضلاً ولا عائبٍ له قولاً فأكون كما قَالَ بعضهم ولله درهم:
بنقصِك أهلَ الفضلِ بان لنا ... ... أَنّك منقوصٌ ومفضول(1)
... كما لا أدعي لنفسي إحراز الفضل والاستبداد بالخَصْل فأكون كما قَالَ بعضهم ولله درهم:
__________
(1) ابن حمزة ، الإمام يحيى: الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ، (1/4).(1/16)
... ويُسيءُ بالإحسانِ ظنّاً لا كَمَنْ ... ... هُو بابنهِ وبِشِعْرِهِ مَفْتُون(1)
ولا أسلِّم نفسي عن خطإٍ وزلل ولا أعصم قولي عن وهَم وخَطَل فهو عمل سمته عدم الكمال متمثلاً فيه قول القائل:
... لقد مضيتُ وراءَ الركبِ ذا عرجٍ ... ... مؤمّلاً جبرَ ما لاقيتهُ من عَرَجِ
... فإن لحقت بهم من بعدما سبقوا ... ... فكم لربِّ الورى في الناسِ من فَرَجِ
... وإن ضللتُ بقفرِ الأرضِ منقطعاً ... ... فما على أعرج في الناسِ من حَرَجِ
فكل بني آدم خطّاء، والفاضل من تُعدُّ سقطاته وتُحصى غلطاته والسالم من ذلك كتاب الله المجيد الذي : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (2)
... وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذي هو غاية مطلب الطُّلاّب وكرمه الواسع الذي لا يحول دونه سترٍ ولا حجاب أن يجعله في إصلاح الدين ورجحانا في ميزاني عند خِفَّة الموازين إنه خير مأمول وأكرم مسؤول...
كتبه:
محمد أحمد عبد الغني
لبنان – طرابلس
نهر البارد
تحديد مصطلحات البحث
ويشتمل الفصل التمهيدي على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول ... : أهمية تحديد الألفاظ الشَّرْعية والمصطلحات الإسْلاميَّة
المبحث الثاني ... : المرجع في بيان معاني الألفاظ الشَّرْعية
المبحث الثالث ... : تحديد مصطلحات البحث :
... ... ... 1- الفِكْر ... ... ... 6- الثَّقافَة
... ... ... 2- المفهوم ... ... ... 7- الحَضَارَة والمَدَنيَّة
... ... ... 3- الغرائز ... ... ... 8- المجتمع
... ... ... 4- الحاجات العُضْويَّة ... ... 9- النظام
... ... ... 5- الشخصية ... ... ... 10- التوفيق
... إنّ فهم مصطلحات البحث هو مفتاح فهم مرامي الباحث ومقاصده، لأنَّ تلك المصطلحات – في الغالب – ألفاظ جامعة ينبني عليها كثير من مسائل البحث وموضوعاته.
__________
(1) ابن حمزة، الطراز ، (1/5).
(2) فصّلت/42.(1/17)
كما أنَّ العلم بحقائق الأشياء، والوعي بمفاهيمها يُعد مدخلاً أساسياً لتضيق دائرة الخلاف، أو إزالته، إذ ما تكاد أن تجد خلافاً في حكم إلا ومن ورائه اختلاف أو سوء فهم أو جهل بحقيقة الأمر المختلف فيه. يقول شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة(1) : » إنّ كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرَّجُل ين يتخاصمان، ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سُئل كل منهما عن معنى ما قَالَه لم يتصوره، فضلاً عن أن يعرف دليله « (2).
فأحكام الناس على الأفكار أو على الأشخاص عائدة إلى التصور، وفي المأثور من أقوال أسلافنا « الحكم على الشيء فرع من تصوره « .
والأصل في الألفاظ أنها لغوية المنشأ، قد وضعت في الأساس لتدل على معانٍ كان يتخاطب بها العرب قبل الإسلام، غير أنه بعد تدوين العلوم، وظهور المبادئ والمذاهب الفلسفية فقدَ الكثير من تلك الألفاظ مدلولاتها اللغوية لتكتسب مدلولات اصطلاحية لتلك العلوم والمبادئ أو مدلولات شرعية، ومنها مصطلحات خاصة تُخيرت لتدل على معانٍ تنفرد بها الجهة التي تخيَّرتها كالاشْتِراكِيَّة والرَّأْسُماليَّة، وغيرها.
__________
(1) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميّة، الحراني، الدمشقي. شيخ الإسلام وبحر العلوم.ولد في سنة (661هـ) قَالَ عنه ابن الزملكاني: " كان إذا سُئل عن فنّ من الفنون ظنّ الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أنّ أحداً لا يعرف مثله ". تصانيفه قيمة منها : " الفتاوى " و " الإيمان " و " منهاج السنة النبوية " و " السِّياسَة الشَّرْعية في إصلاح الراعي والرعيّة ". توفي سنة (728هـ). أنظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة (2/387)، البدر الطالع (1/63)، المنهل الصافي (1/336)، طبقات المفسرين للداودي (1/45).
(2) ابن تَيْمِيَّة، أحمد بن عبد الحليم : مجموع الفتاوى ( 12/114).(1/18)
... وكما للمبادئ والمذاهب مصطلحاتها فللإسلام مصطلحاته، غير أن ثمةَ فارقاً مهماً بين هذه وتلك.
فاللفظة حين تكون منتمية إلى الإسلام فإنها تكتسب المعنى الشَّرْعي الذي يجب الالتزام به اعتقاداً وعملاً، ويترتب على هذا الانتماء حظر أيّ تداخل بين الألفاظ ذات المصطلحات الإسْلاميَّة من جهة وكل المصطلحات غير الإسْلاميَّة من جهةٍ أخرى، ويترتب على هذه الاستقلالية للإسلام حظر استعمال كل مصطلح له انتماء إلى عقيدة غير الإسلام. بل المفترض أن يكون منع التداخل في المفاهيم والمصطلحات عاماً لكل مذهب أو عقيدة، غير أنّ هذا الأمر غير معمول به واقعياً اليوم فلا يفتأ أصحاب المذاهب في التفنن في إجراء التعديلات على مذهبهم دون أن يروا حرجاً في أن يقتبسوا من آخرين.
ويرجع هذا الاقتباس والسماح بالازدواجية أنّ عامة المذاهب وأنماط الفلسفة هي وضعية وبالتالي فهي فاقدة للقداسة وطالما أنها اجتهادات لبشر فلا بد وأن تتفاوت العقول في فهم الواقع وتقدير الأمور.
لذلك اهتم العلماء المسلمون بالألفاظ الشَّرْعية اهتماماً جعلهم يحرصون على تحديد مفاهيمها لأمور أهمها :
1- أن لا تكون هذه الألفاظ والمصطلحات نسبية غير محررة يستخدمها كل فريق كما يحلو له، بناء على ما تدفعهم إليه الأهواء، وما تمليه عليهم العقائد والمذاهب والمبادئ الفاسدة(1).
__________
(1) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة، محمد بن أبي بكر : الصواعق المرسلة، ( 3/925-955)(1/19)
2- أن لا تحمل الألفاظ الشَّرْعية على الاصطلاح الحادث لقوم أو فئة، فكثير من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في النُّصُوص الشَّرْعية، أو في كلام أهل العلم، فيظن أن مرادهم بها نظير مراد قومه، ويكون مراد الشَّارِع خلاف ذلك(1). وهذا الأمر اتضح في العصر الحديث وضوح الشمس في رابعة النهار لما للإعلام من أثر في تغيير المصطلحات بكثرة استعمالها مراداً بها معانٍ غير المعاني التي كانت لها أصلاً.
وبهذا تصبح الألفاظ والمصطلحات أدوات في الصراع الفِكْري، إذ يهتم أعداء أي فكرة أو مبدأ في صراعهم مع الأفكار الأخرى بالألفاظ والمصطلحات العلمية من خلال تحريفها وتغييب القول الحق فيها.
... ويقوم عملهم هذا على محورين أساسين :
الأول : جلب الألفاظ والمصطلحات الفاسدة لتنفير الناس بجرسها اللفظي – ناهيك عن معناها – من الفِكْرة أو المذهب الذي يعادونه، أو مما يتضمنه من الحق. وممن حورب بهذا رسل الله عليهم الصلاة والسلام » فأشد ما حاول أعداء الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - من التنفير عنه سوء التعبير كما جاء به، وضرب الأمثال القبيحة له، والتعبير عن تلك المعاني بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين، فوصلت إلى قلوبهم فنفرت منه، وهذا شأن كل مبطل «(2).
__________
(1) ابن تَيْمِيَّة : مجموع الفتاوى، (1/243). وأنظر بعض تلك الاطلاقات والتسميات عند ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة في الصواعق المرسلة (1/925-955).
(2) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : الصواعق المرسلة، (3/944).(1/20)
ومن الأمثلة على استخدام المصطلحات كأداة للصراع الفِكْري والمذهبي ما ظهر واضحاً في تاريخ مذاهب الإسلاميين، حيث سمي أهل السنة والجماعة بمجموعة من التسميات والمصطلحات المُنفِّرة من هذا المذهب وأهله: فالمعطِّلة(1) أسموهم المشبِّهَة(2)، والمشبِّهَة أسموهم المعطِّلة، وهم بين ذلك على صراط مستقيم لم تتقاذفهم الأهواء(3).
ومن أمثلة ذلك في الصراع الفِكْري في الحياة المعاصرة، ما نُعت به الإسلام من مصطلحات مُنفِّرة من الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، كالأصولية(4)
__________
(1) التعطيل : هو نفي الصفات الإلهية عن الله وإنكار قيامها بذاته أو إنكار بعضها، والمعطلة اسم للطوائف التي تنفي الصفات كالجهمية. أنظر : السلمان، عبد العزيز محمد : الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص (87).
(2) المشبهة : اسم لطوائف وفرق متعددة، وهم الذين شبهوا الله بخلقه وهم صنفان : صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره، وصنف شبهوا صفاته بصفات غيره. أنظر : البغدادي، عبد القاهر بن طاهر البغدادي : أصول الدين، ص(214) والشَّهْرَسْتانيّ : الملل والنحل، (1/103-108).
(3) أنظر : ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : الصواعق المرسلة، (3/925-955).
(4) ظهر مصطلح الأصولية Fundamentalism أول ما ظهر في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك للدلالة على موقف الكنيسة من العلوم والفلسفة الحديثة، وعلى الالتزام التام بمعتقدات النصارى. وتعتبر حركة البروتستانت أساس الأصولية، فهي تقوم على عقائد نصرانية تعارض التقدم العلمي الناجم عن المبدأ الرأسمالي الذي يقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة، ومع أن هذه الحركة قد تلاشت مع الحرب العالمية الثانية إلا أنه استقر في أذهان الأوروبيين أن الأصولية عدوة التقدم والعلم، وهي تخلف عقلي لا يليق بعصر النهضة، ويجب أن تُحارب حتى تزول جميع آثارها من المجتمع والحياة.
فالأصولية نشأت في أوروبا على أثر التقدم العلمي والصناعي كرد فعل لعدم قدرة النصرانية على التجاوب مع أنظمة الحياة الجديدة. وإطلاق هذا الوصف اليوم على كثير من الحركات الإسْلاميَّة من قبل السياسيين والمُفَكِّرين الغَرْبيّين، الغاية منه محاربة ومقاومة هذه الحركات، ومن خلال رأي عالمي موحد، باعتبارها تعني التخلف والرجعية، وتعني معارضة كل تقدم علمي أو صناعي. وبهذا يتضح أن الأصولية بمعناها الاصطلاحي بعيدة كل البعد عن المفاهيم الإسْلاميَّة .
أنظر : ... - اللويحق، عبد الرحمن بن معلا : الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرين، ص (170-171).
... - مفاهيم خطرة لضرب الإسلام وتركيز الحَضَارَة الغَرْبيّة، منشورات حزب التحرير، ص( 41-42-43).(1/21)
والإرهاب(1).
الثاني : أنهم أخذوا بعض الألفاظ السليمة الصالحة، وجعلوها أعلاماً على ما ينفر منه أصحاب الفِكْرة المعادية ليسهل دخول أفكارهم وعقائدهم دون حصول النفرة والكراهية. ومن أمثلة ذلك في الخلاف الفِكْري بين مذاهب الإسلاميين أن التوحيد » الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عن أضدادها وعبادته وحده لا شريك له اصطلح أهل الباطل على وضعه للتعطيل المحض، ثم دعوا الناس إلى التوحيد فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم«(2).
__________
(1) الإرهاب لغة : مصدر مشتق من الفعل أرهب، بمعنى أخاف أو فزّع. قَالَ تعالى : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال-60ٍ] أي تخيفون به العدو . إلا أن هذا المعنى تمّ صرفه إلى معنى اصطلاحي جديد، فقد اتفقت كل من الاستخبارات الأمريكية والبريطانية في ندوة عقدت لهذا الغرض عام 1979م على أنّ الإرهاب هو : » استعمال العنف ضد مصالح مدنية لتحقيق أهداف سياسية «. إلا أن هذا التعريف لا يتسم بالدقة لخضوعه للاتجاهات السِّيَاسِيَّة للدول التي مهّدت للقوانين والتشريعات المتعلقة بالإرهاب. فعلى سبيل المثال : تعتبر أمريكا مقتل أنديرا غاندي عملاً إرهابياً، وأما اغتيال الملك فيصل فليس إرهابياً. كما تعتبر حركة ثوار نيكارغوا، وجيش التحرير الإرلندي، حركات مقاومة شعبية. بينما تعتبر حركة الجهاد الإسلامي، وكتائب الأقصى، وحركة حماس في فلسطين، منظمات إرهابية. وبالتالي فكل فرد أو دولة أو حركة تعارض أمريكا فهي إرهابية.
أنظر : ... - اللويحق، عبد الرحمن بن معلا : الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرين، ص (135)
- مفاهيم خطرة لضرب الإسلام، منشورات حزب التحرير، ص(9-10-11).
(2) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : الصواعق المرسلة، (3/929).(1/22)
ومن أمثلة ذلك في الصراع الفِكْري في الحياة المعاصرة أن العَلْمانية التي من مظاهرها فصل الدين عن الحياة، ألبست لبوس العلم فنسبت إليه ليسهل دخولها بلاد المسلمين. وأن الانفتاح الذي حقيقته كسر للطوق، وفتح فجوات في أسوار أحكام الإسلام، قد أضحى أملاً يرتجى، وصدى ساراً عند من يريد أن يتحرر من قيود الشَّرْع ويطلق العنان لغرائزه تتخبط في الحياة خبط عشواء.
... ومما ينبغي أن نلفت إليه : ما يبدو من نزوع من بعض الشباب لهذه الألفاظ. ومن يحقق في الأسباب الحوافز لذلك يجدها تتمثل في انخداع الكثيرين بها، لما تحمل من مدلول طريّ على النفس.
... فالانفتاح يستعمل كنقيض لـ " الانغلاق " الممقوت والذي يتهيب ويتحاشى كلّ فرد أن يُوصف به.
... ولذلك فإنه يقبل الانفتاح في مقابل الانغلاق، ويقبل الحرِّيَّة في مقابل العبودية، ويقبل الاعتدال في مقابل التطرف والإرهاب، ويقبل المساواة في مقابل التمييز والتباين.
وإنّ أول ما ينبغي معرفته، ضرورة إقصاء المفهوم اللغوي لهذه الألفاظ والمفاهيم، ثم يُلتمس بعد ذلك ما يمكن استخلاصه من معانٍ مستحدثة تقصد من وراء إدخال هذه الألفاظ في قاموس التفاهم.
والضابط الأساس لهذه المعاني يتحدد في أنها تقرر لوناً من الفِكْر هو "فلسفي الانتماء" يُؤثِّر في مفاهيم الإنسان وسلوكه. وبهذا تخرج هذه الألفاظ عن إطار مدلولها اللغوي الوضعي إلى معنى مستحدث يناقض مفاهيم الإسلام.
... وللأسف فإنّا نرى من يمارس وسائل الخداع والمغالطات في سبيل إضفاء الشَّرْعية على هذا النمط من المفاهيم غير الإسْلاميَّة، فيلتمس هؤلاء ما يدعونه أدلة من أصول الفقه من أمثال القواعد المعروفة كـ " الضرورات تبيح المحظورات"، و" المصالح المرسلة " وغيرها.(1/23)
... ويكفي دفعاً لهذا الجنوح والحيدة عن ضوابط العلم أن الأصول الإسْلاميَّة لها ضوابطها، ومحالٌ لتطبيقها، وهذه المفاهيم لها صفتها الاستقلالية ، ومجالات خاصة ومحددة للعمل بها، وتحمل معنى فلسفياً يتناقض مع الإسلام.
... ناهيك عما يشهد له التاريخ من علاقة بين واقع الأمة وبين اهتمامها بالألفاظ الشَّرْعية، والمصطلحات العلمية الإسْلاميَّة. فحيثما كانت الأمة الإسْلاميَّة عزيزة، قوية، مهابة الجانب، كانت الألفاظ الشَّرْعية هي السائدة، وإليها المرد عند الاختلاف. وحيثما كانت الأمة واقعة تحت سلطان أعدائها، مقهورة مغلوبة، تجد الألفاظ الشَّرْعية مهجورة منبوذة، ومصطلحات الأعداء تتلقف، ويتهافت عليها أبناء الأمة، ويعدون التلفظ بها، والأخذ بما تعنيه، عين التقدم والتحضر(1).
... ولو نظرت في التاريخ الإسلامي، لوجدت الألفاظ الشَّرْعية تصيبها الغرْبة حيث كانت غربة الدين. ولا تكاد، تجد، على مر العصور، مثل غربة الحقائق والألفاظ الشَّرْعية في هذا العصر.
... فما ارتفع لفظ الاشْتِراكِيَّة إلا في فترة ضعف الفِكْر الإسلامي في بلدان إسلامية تتبنى الاشْتِراكِيَّة مذهباً، أو تتسمى به شكلاً. بل هان على الكثير دينهم، فمارسوا وسائل الخداع والمغالطات في سبيل إضفاء الشَّرْعية على هذا النمط الدخيل على الفِكْر الإسلامي.
إنَّ مصدر الفقه بمعنى قول الشَّارِع يرجع إلى أمرين :
الأول : اللغة العربية التي خوطبنا بها.
الثاني : مقصود الشَّارِع من الألفاظ.
__________
(1) أبو زيد، بكر بن عبد الله : المواضعة في الإصلاح على خلاف الشَّرِيعَة وأفصح اللغة، دراسة ونقد، ص(73-90).(1/24)
» فمعرفة العربية التي خوطبنا بها، مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه. وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع، كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يَدَّعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك «(1).
... وفهم مراد الشَّارِع بالألفاظ إنما يكون بمعرفة عادته في الخطاب بجمع النُّصُوص والنظر فيها. قَالَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: » ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن أو الحديث، أن يذكر نظائر ذلك اللفظ، ماذا عنى بها الله ورسوله فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث«(2).
... وهذه قاعدة مطردة حتى في معرفة معاني كلام البشر إذ لا يعرف المعنى من اللفظ ابتداءً ولكن يعرف منه ومن قرائن أخرى. قَالَ الإمام ابن أبي العز الحنفي(3) : »دلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء، ولكن يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يُعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به «(4).
__________
(1) ابن تَيْمِيَّة : مجموع الفتاوى، (7/116).
(2) ابن تَيْمِيَّة : مجموع الفتاوى، (7/115).
(3) هو الإمام علي بن علي بن أبي العز الحنفي الدمشقي : فقيه كان رأس القضاء بدمشق ثم الديار المصرية، له عدة مؤلفات منها : "شرح العقيدة الطحاوية"، و "التنبيه على مشكلات الهداية" و "الاتباع" . توفي عام (792هـ.) ودفن بسفح قاسيون في دمشق. أنظر : الزِّرِكْليّ، خير الدين : الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء ، (4/313).
(4) ابن أبي العز ، علي بن علي : شرح العقيدة الطحاوية، (1/65).(1/25)
... والمخاطب لا يفهم معنى اللفظ حتى يعرف عين المقصود ولا يعرف عين المقصود في كلام الشَّارِع إلا بجمع النصوص، قَالَ ابن أبي العز : »واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط«(1).
فالصلاة لم نعرف أنها الأقوال والأفعال المخصوصة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، من منطوق الأمر بالصلاة، وإنما عرفنا ذلك الأمر من مجموع النُّصُوص الواردة في الصلاة وصفتها الشَّرْعية.
... وهذا البحث عن المعاني اللغوية، والمقاصد المعنوية إنما أحتيج إليه بعد عهود الصحابة رضوان الله عليهم الذين كان لهم من صفاء الأذهان وثاقب الأفهام – فضلاً عن معايشتهم لصاحب الشَّرْع وعلمهم بلغته – ما يساعدهم على العلم بمعاني قول الشَّارِع دون تكلف، فقد كان يكفيهم حينما يسمعون لفظ الصلاة أن يفهموا المراد لأنهم رأوا عين المقصود من المتكلم ذاته عليه الصلاة والسلام، ورؤية عين المقصود أبلغ درجات فهم المعنى.
__________
(1) ابن أبي العز : شرح العقيدة الطحاوية، (1/64).(1/26)
... وللعلاّمة ابن فارس(1) في كتابه : « الصَّاحبيّ » كلام تطبيقي نفيس يؤكد ما أسلفت من أن قيام فهم الألفاظ والحقائق الشَّرْعية على معناها اللغوي واستعمال الشَّارِع لها على المعنى الذي يقصده. فقَالَ: » إن مما جاء به الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق، وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان، والإيمان وهو التصديق ثم زادت الشَّرِيعَة شرائط، وأوصافاً بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمناً «(2).
... ومما يؤكد أهميّة الرجوع إلى قصد الشَّارِع عند الاختلاف في المعنى الشَّرْعي ما يلي:
1- إن من المتفق عليه عند الاختلاف سواء في الأحكام أم المعاني ردّ الأمر إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قضى الله تعالى ذلك في قوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (3).
وهذا ما دأب عليه علماء السلف من الحرص على تحرير موضع النزاع في كثير من المصطلحات كالإيمان(4)
__________
(1) هو أحمد بن فارس بن زكريا، أبو الحسين، الإمام اللغوي المفسر، أشهر مصنفاته : " جامع التأويل في تفسير القرآن " و "سيرة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم " و " المجمل " في اللغة و " مقاييس اللغة " و " حلية الفقهاء " . توفي (325هـ) وقيل غير ذلك. أنظر ترجمته : إنباه الرواه (1/92) بغية الوعاة (1/352) شَذَرات الذَّهَب (3/132) معجم الأدباء (4/80) وفيات الأعيان (1/100) ترتيب المدارك (4/610) وسير أعلام النبلاء (17/103) الأعلام (1/193).
(2) ابن فارس ، أبو الحسين أحمد : الصاحبي ، ص (79).
(3) النساء / 59.
(4) الإيمان : هو ما يجمع عند إطلاقه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وإليه أشار ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة،
وأشهد عليهم أن إيمان الورى قول وفعل ثم عقد جنان
... أنظر : الشرفي، أحمد بن إبراهيم بن عيسى : شرح قصيدة ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة، ( 2/139-140-141).(1/27)
و الكفر(1) و الشرك(2) و النفاق(3) فعلموا أن تلك الألفاظ لغوية المنشأ في الأصل إلا أنها اكتسبت مدلولاً شرعياً وأن ورود تلك الألفاظ يستعمل في دلالات مختلفة، فالإيمان عند إطلاقه يراد به الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان ومنه قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } (4)وقد يطلق الإيمان ولا يراد أصله، كقولنا ليس برجل من لا يغار على أهله،وليس بعالم من لم يعمل بعمله فالنفي هنا لكمال الرجولة لا لأصلها ولكمال العلم لا أصله، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : » لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن« (5) . » مراده أنه غير مؤمن في حين ركوبه الزِّنَا، وقيل غير مستكمل للإيمان أي ليس بكافر كما تقول الخوارج، لأنه قد جاء في رواية أبي ذر في الصَحِيْحين » أن من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق«(6)
__________
(1) يرد الكفر بمعنى الجحود والتكذيب وهو المتضمن إنكار الربوبية أو الطعن فيها وقد يرد بمعنى الردة عن الإسلام وقد
يرد بمعنى المعاصي والذنوب . أنظر : ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة ، مدارج السالكين (3/335).
(2) الشرك الأكبر أقسام ثلاثة: الشّرك في الربوبيّة، الشّرك في توحيد الأسماء والصفات والشرك في توحيد الألوهية والعبادة
والشرك الأصغير وهو الموجب للعقاب دون الخلود بالنار.
(3) النفاق منه العملي الذي لا يتجاوز حكم مرتكب الكبير ويعبر عنه بالأصغر، نحو « إذا حدَّث كذب » ومنه الإعتقادي الذي يستحق الخلود بالنار.
(4) المؤمنون / 1 .
(5) أخرجه البُخَارِيّ (5/119) في فتح الباري ومسلم (2/41) من حديث أبي هريرة في شرح النَّوَويّ .
(6) والحديث » من قَالَ لا إله إلا الله مخلصاً، فهو في الجنّة وإن زنى وإن سرق «. أخرجه البُخَارِيّ (3/110)، في فتح
الباري ومسلم (2/93) في شرح النووي، من حديث أبي ذر رضي الله عنه .(1/28)
(1)
فلا بد من مراجعة النُّصُوص لفهم الحقيقة وتصورها تصوراً سليماً ومن ثمّ يكون الحكم في ضوء ذلك.
2- إن الألفاظ والمصطلحات التي وقع فيها الخلاف وكثر فيها العجاج لابد فيها من الرجوع إلى معيار ثابت، إذ لو وكلت القضية إلى البشر لأصبحت نسبية بحسب اختلاف أهوائهم، ومشاربهم وانتماءاتهم، وإتباع الهوى يفضي لاختلاف غير متناهٍ وفساد غير منقضٍ { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } (2).
وهذا ما وقعت به الخوارج(3) حين كفَّروا واستحلوا دماء وأموال مسلمين بسبب عدم ضبطهم لمفاهيم ومصطلحات كثيرة وردت في نصوص الشَّرْع فأساؤوا فهمها ووصفوا لها مدلولات من أنفسهم غير ما أراده الشَّارِع منها، فضلوا وأضلوا.
ومما يوضح أن الحقيقة عندما يوكل بيانها إلى البشر تصبح أمراً نسبياً يتفاوت ويتشكل بحسب الأهواء : ما نراه في كثير من المفاهيم المعاصرة كالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة التي نحن بصددها إذ ترى طائفة أنها من صميم النِّظَام الإسلامي بل ألحوا على أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والإسلام شيء واحد مع اختلافهم في المنهج الذي على ضوئه أدخل مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي.
__________
(1) ابن منده ، محمد بن إسحاق بن يحيى : الإيمان ، ( 2/595-687) .
(2) المؤمنون / 71 .
(3) سمي الخوارج بهذا الاسم لخروجهم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم فرق شتى يكفّرون بالكبائر ويخرجون
على أئمة الجور ويكفّرون بعض صحابة رسول الله في بعض آرائهم . أنظر : الشَّهْرَسْتانيّ : الملل والنِحل (1/114-139).(1/29)
بينما ترى طائفة أخرى منْعَ تداول هذا المفهوم في الفِكْر الإسلامي ويعتبرون الدعوة إليه والترويج له في بلاد المسلمين وقوعاً في الشرك الغَرْبيّ وتأثراً بالفِكْر المعادي لما يكتنف من دلالة خاصة تتناقض مع مفاهيم الإسلام وتخالف الأحكام الشَّرْعية(1).
وإلى جانب هذا المفهوم هناك الكثير من المفاهيم المعاصرة: كالرَّأْسُماليَّة والدِّيمُقْراطِيَّة والاشْتِراكِيَّة والعَلْمانية(2) والقومية والغلو(3)
__________
(1) ابن عابدين، محمد أمين (1252هـ) حاشية رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، (4/502).
(2) العَلْمانيةهي مذهب عقائديّ غربي الأصل والمنشأ، والعَلْمانيةباللغة الإنكليزية Secularism وترجمتها الصَحِيْحة "اللادينية" أو الدنيوية وإقامة الحياة على غير الدين. أنظر : البعلبكي : موسوعة المورد (9،17) والندوة العالمية للشباب الإسلامي، الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة، ص(367).
(3) قَالَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة : الغلو : مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك.
وقَالَ ابن حجر: إنّه المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد وبمثله عرّفه الشَّاطِبِي. وهذا يعني أن الغلو هو تجاوز الحد الشَّرْعي بالزيادة، والحدود هي النهايات لما يجوز من المباح المأمور به وغير المأمور به وهذا مؤدى الإفراط ويقابله التفريط في الدين وهو التقصير في أحكامه وتضييع حقوقه وإظهار العجز عن القيام بواجباته ومن هنا نشأت مقولة » لا إفراط ولا تفريط في الإسلام « . إلا أن الغَرْب حين يطرح فكرة التطرف أو الغلو فإن طرحه لم ينطلق من منطلق شرعي كما بينا وإنما من موقف سياسي يعمل على تكريس توجه عند الأمة يناسب الغَرْب من خلال استعمار العقول فإنه ينعت الإسلام بالتطرف والحركات الإسْلاميَّة بالتطرف لأنهم لا يقبلون التعامل معه، فالغَرْب يريد من وراء طرحه أن يقضي على ما يشكل خطراً على وجوده واستعماره. أنظر : ابن تَيْمِيَّة : اقتضاء الصراط المستقيم ص(289)، وابن حجر : فتح الباري (13/278) والاعتصام (3/304). عبد الوهاب ، سليمان : تيسير العزيز الحميد ص(256) . المحمود ، أحمد : الدعوة إلى الإسلام ، ص (316).(1/30)
والتطرف والأصولية والإرهاب وغير ذلك مما تتفاوت الأذهان في فهمه وتتشكل معانيه بحسب الأهواء.
فثبات المعيار الذي ينظر بواسطته، وتفهم الحقائق في ضوئه أمر لا محيد عنه وتركه يفضي إلى فساد عريض وفكر مريض.
وجرياً على هذا المنهج – وهو بيان معنى الألفاظ الشَّرْعية – بدراسة المعنى اللغوي ودراسة استعمال الشَّارِع سيكون شرحنا لمفهوم العَدالَة في الفصل الأول.
... إن فهم مصطلحات البحث هو مفتاح مرامي الباحث ومقاصده وإن بيان مدلولها بدقة ووضوح يرفع عنها الغموض والاشتباه.
وفي هذا البحث كثير من المصطلحات المبثوثة في ثناياه والتي يمكن تصنيفها إلى صنفين :
الصنف الأول : ... المصطلحات التي هي من صميم موضوع الباحث وذلك مثل: العَدالَة .
الصنف الثاني : ... المصطلحات العامة التي استخدمت في العناوين الرئيسة في البحث، وذلك
مثل: الفِكْر والمفهوم والمعاصرة...
وكلا الصنفين حقيق بالبيان والإيضاح لتكون كالمفاتيح بيد القارئ يفتح بها ما ينغلق عليه من معانٍ، بيد أن بعض المصطلحات تتجاذبه مواضع عدة من هذا البحث، ولاعتبارات عدة أهمها عدم قطع المصطلح عن سياقه كان إرجاء بيانها إلى مواضعها الخاصة بها. وما كان غير ذلك فقد عقدت هذا المبحث لبيانها، وهي إجمالاً عشرة مصطلحات وهذا شرحها:
أولاً : الفِكْر:
... من المعلوم أن للإنسان العاقل المدرك قدرة على إصدار الحكم على الواقع بناءً على ما تحصله الحواس الخمس من أحاسيس ومدارك تنقل إلى الدماغ المنطوي على معلومات سابقة يُفسر بواسطتها الواقع، وهذه القدرة على الربط والتمييز هي خاصية رئيسة لدى الإنسان دون سائر الكائنات الأرضية وهذا الحكم هو الفِكْر.(1/31)
... فالفِكْر حكم على الواقع بعد عملية عقلية تحصل للمفكر الذي ينتج الفِكْر لا من يُنقل إليه الفِكْر . أما من ينقل إليه الفِكْر فلا تحصل له هذه العملية لأن الفِكْر نتج وانتهى فيعطيه منتجُه للناس، وينقله الناس لبعضهم، ثم يعبرون عنه باصطلاحات اللغة، واللغة ليست فكراً وإنما هي أداة للتعبير عن هذا الفِكْر فقولنا: » الإنسان حيوان ناطق « جملة لغوية لها مدلول وهذا المدلول هو الفِكْر. وأما الكيفية التي يجري بموجبها إنتاج العقل للأفكار فيطلق عليها طريقة التفكير العقلية وهي الطريقة التي يسير عليها الإنسان من حيث هو إنسان في تفكيره وحكمه على الأشياء وإدراكه لحقيقتها وصفاتها من خلال قدرة العقل على الربط بين المعلومات السابقة وما ينقل من الحواس وهذه الطريقة هي الطريقة الأَسَاسيَّة في التفكير والتي إذا ما استعملت على وجهها الصَحِيْح فإنها تعطي نتائج صَحِيْحة، فإن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لأن الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع وإن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنيّة لأن تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات مما يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ولكن تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها(1).
__________
(1) أنظر حول هذا الموضوع :
- ... عبد الله ، محمد حسين : مفاهيم إسلامية ، ص (34-48)
- ... الشواف، د. محامي منير محمد طاهر، تهافت القراءة المعاصرة، الصفحات ( 47-111)
- ... النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : التفكير ، الصفحات (8-20)
- ... صالح، حافظ : النهضة ، ص(28-32)
- ... الزين، سميح عاطف : طريق الإيمان ، أو الإيمان بالله عن طريق الفِكْر المستنير، الصفحات (19-49).(1/32)
... وهذا الفِكْر قد يُنسب إلى الناس الذين يحملونه ويتبنونه فيقَال: الفِكْر الغَرْبيّ، والفِكْر العربي، وقد يُنسب إلى واضع أساس هذا الفِكْر، فيقَال: الفِكْر الماركسي، والفِكْر الأفلاطوني، ولكن نسبة الفِكْر إلى القاعدة الأَسَاسيَّة التي بُني عليها هو الصَحِيْح، فيقَال: الفِكْر الإسلامي لبنائه على العقيدة الإسْلاميَّة، وعليه فإذا كان الفِكْر هو الحكم على الواقع، فإن الفِكْر الإسلامي هو: « الحكمُ على الواقع من وجهة نظر الإسلام » فتكون عناصر الفِكْر الإسلامي ثلاثة: الواقع والحكم، والربط بينهما.
... والواقع قد يكون شيئاً ، وقد يكون فعلاً، فإن كان شيئاً فإما أن يكونَ حكمه مباحاً أو حراماً فيُقَال : العِنب مُباح، والخمرُ حرام، وإن كان الواقع فعلاً، فإما أن يكون حكمه فرضاً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو حراماً. فصيام رمضان فرض والصّدقة مندوبة، وأكل الخبز مباح ، وأكل الثوم عند الصلاة مكروه، والرِّبَا حرام.
... والفِكْر الإسلامي نوعان: نوع له علاقة بالعقيدة، كأصول الإيمان، ونوع له علاقة بالأحكام الشَّرْعية العملية كأركان الإسلام.
... فكل ذلك ممّا يُطلق عليه الفِكْر الإسلامي، لا فرق بين الفِكْر الذي نقل عن الشَّافِعِي أو البُخَارِيّ، أو أبي الأعلى المَوْدودِي، فهو فكر إسلامي رغم اختلاف جنسية أو لغة الأشخاص الذين اجتهدوا فيه أو نقلوه ما دام الفِكْر ينطلق من وجهة نظر الإسلام.
ثانياً : المفهوم :
... الفهم هو: » معرفتك الشيء بالقلب «(1) . والمفهوم لغة : » مجموع الصفات والخصائص الموضحة لمعنى كلي «(2) وقد يكون كلمة نحو العَدالَة ، أو يكون تركيب إضافة، نحو : الصدق في العمل.
__________
(1) ابن منظور : لسان العرب ، مادة فهم، حرف الميم فصل الفاء.
(2) المعجم الوسيط ، ص (704).(1/33)
... ومن حيث علاقة المفهوم بالمعنى، يرى الدكتور جميل صليبا: » أن المفهوم والمعنى متحدان بالذات، فإن كلا منهما هو الصورة الحاصلة في العقل أو عنده وهما مختلفان باعتبار القصد والحصول، فمن حيث أن الصورة مقصورة باللفظ سميت معنى، ومن حيث إنها حاصلة في العقل سميت بالمفهوم «(1).
... وقد سبق قولنا إن الفِكْر حكم على واقع فقولنا: » الإنسان حيوان ناطق « جملة لغوية لها مدلول وهذا المدلول هو الفِكْر، فإن كان لهذا المدلول واقع خارجي يدركه العقل كما في جملة » الإنسان حيوان ناطق « كان هذا الفِكْر مفهوماً عند من يدرك هذا المدلول وإن لم يكن لهذا الفِكْر مدلول لم يكن لهذا الفِكْر مفهوم لأن الحواس لا تقع على مدلول هذا الفِكْر ولأن العقل البشري لا يدرك واقعاً لهذا المدلول كأفكار أفلاطون عن جمهوريته فلا تعتبر مفاهيم لأن مدلولات هذه الأفكار لا واقع محسوساً لها في الحياة.
... فالأفكار حتى تكون مفاهيم لدى الإنسان، لا بد أن يكون لمدلول هذه الأفكار واقع عند هذا الإنسان.
وعليه، » فالمفاهيم هي المعاني المدرك لها واقع في الذهن سواء أكان واقعاً محسوساً في الخارج أم واقعاً مسلماً به أنه موجود في الخارج تسليماً مبنياً على واقع محسوس «(2).
... ومن هنا تصنف المفاهيم إلى حسيّة وعقلية ووحييه(3)، فالحسية يدركها العقل، كمفهوم الإنسان مكون من مادة فقط، باعتباره مفهوماً له مدلول في الواقع الخارجي، يدركه العقل مباشرة.
__________
(1) صليبا ، د. جميل : المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، (2/403).
(2) النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (1/12).
(3) ثمة تصنيفات كثيرة للمفاهيم في كتب علم النفس التربوي، ولعل أحدثها ما أورده جانييه سنة 1988، من تصنيفها
إلى نوعين رئيسين هما المفاهيم المحسوسة والمفاهيم المجردة.(1/34)
... وأما العقلية المجردة فلا يدركها العقل مباشرة، وإنما يدركها من إدراكه لأثرها، أو مظاهرها، كمفهوم » في الإنسان خاصية تسمى غريزة النوع « فالغريزة تدرك من خلال مظاهرها فيحس الإنسان بحبِّ أولاده والميل إلى والديه، ومن ذلك المفاهيم المعاصرة كالعَدالَة والحرِّيَّة والدِّيمُقْراطِيَّة وغيرها.
... وأما الوحيية فلا يتم إدراكها من العقل مباشرة، ولا من آثارها ومظاهرها، وإنما عن طريق الدليل النقلي المقطوع بصحته كالجنة والنار من مفاهيم العقيدة عند المسلم والتي أدرك واقعها من مدلول الوحي.
... ومن هنا كان من المحتم على الشخص أن يتلقى الكلام تلقائياً فكرياً بمعنى أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه من حيث هي لا كما يريدها لافظها أو يريدها هو أن تكون. وأن يدرك في الوقت نفسه واقع هذه المعاني في ذهنه إدراكاً يشخص له هذا الواقع حتى تصبح هذه المعاني مفاهيم.
... وبتكوّن هذه المفاهيم في الإنسان تتكون عقليته ويتحدد سلوكه وتتبلور ميوله وتتميز شخصيته. ومن هنا يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسْلاميَّة، والعقلية الرَّأْسُماليَّة، والعقلية العَلْمانية والعقلية الفوضوية التي تربط الدوافع بمفاهيم غير المفاهيم التي تكونت بها عقليته، فتصبح شخصية مختلفة متباينة أفكاره غير ميوله، لأنه يفهم الألفاظ والجمل ويدرك الوقائع على وجه يختلف عن ميله للأشياء(1).
ثالثاً : الغرائز :
... الغرائز خاصيات في الإنسان تدفعه لأن يميل إلى أشياء وأعمال، أو لأن يُحجم عن أشياء وأعمال وذلك من أجل أن يشبع أمراً داخله.
__________
(1) أنظر حول هذه المسألة :
- ... النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، ص (12-13).
- ... عبد الله،محمد حسين : مفاهيم إسلامية ، ص (7-8-9).(1/35)
... وقد اختلف الباحثون في عدد هذه الغرائز والسبب عدم وقوع الحواس على واقعها وعدم إدراك العقل هذا الواقع مباشرة، فاعتبروا مظاهر الغرائز غرائز كالخوف والميل الجنسي والعطف والتَّمَلُّك والتقديس وغيرها. وبعد استقراء هذه المظاهر وجد أن هذه المظاهر تنتظم في ثلاث مجموعات، كل مجموعة تنتمي إلى غريزة.
... فمظاهر الخوف، وحب التَّمَلُّك وحب الاستطلاع، وحب الوطن، وحب القوم، وحب السيادة، وحب السيطرة وغيرها ترجع إلى غريزة البقاء لأن هذه المظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء الإنسان كفرد ذلك أن الإنسان يحرص على بقاء ذاته فهو يملك ويتجمع ويخاف ويندفع بالإقدام من أجل بقاء ذاته.
... وأما مظاهر الميل الجنسي، والأمومة، والأبوة، وحب الأبناء والعطف والميل لمساعدة الفقراء وغيرها ترجع إلى غريزة النوع لأن هذه المظاهر تؤدي إلى أعمال تخدم بقاء النوع الإنساني كنوع وليس كفرد وأما مظاهر الميل لاحترام الأبطال و الميل لعبادة الله والشعور بالنقص والاحتياج وغيرها ترجع إلى غريزة التدين أو التقديس.
... فالغريزة خاصية فطرية موجودة في الإنسان من أجل المحافظة على بقائه ونوعه وهدايته إلى وجود الخالق.
... وهذه الغرائز لا يمكن القضاء عليها أو سلبها من الإنسان لأن الغريزة جزء من ماهية الإنسان وإنما يمكن كبت أو محو أو إحلال مظهر غريزي محل الآخر كأن يحل حب الزوجة محل حب الأم وحب السيادة محل حب التَّمَلُّك وتقديس البشر والأصنام محل عبادة الله.
ولا بد من التمييز بين المظهر والعمل للمظهر فالميل للتملك غير التَّمَلُّك، لأن الميل للتملك شعور في نفس الإنسان تجاه الأشياء لضمها إليه وحيازتها بينما التَّمَلُّك هو القيام بالعمل كشراء متاع أو سرقة مال. فالمظهر لا يشبع الغريزة وإنما العمل الذي يحقق جزءاً من الإشباع.(1/36)
هذه الغرائز وما يتفرع عنها من مظاهر تتفاوت قوة وضعفاً بين إنسان وآخر، وتتباين قوة وضعفاً في الفرد نفسه، وتختلف قوة وضعفاً تبعاً لنوعية المثيرات الخارجية لها، وتبعاً للعمر الذي وصل إليه الإنسان. فنجد إنساناً ممتلئاً حيوية يريد أن يشبع غرائزه الثلاث بنهم، ونجد آخر في سنه يكتفي بالقليل القليل ومن جهة أخرى نجد إنساناً منصرفاً ليشبع غريزة البقاء وغير مهتم لإشباع غريزة التدين، أو نلاحظ أن حنان الأم يصرف شخصاً عن حبه لزوجته أو العكس.
هذا التفاوت في الغرائز ومظاهرها بين الناس جعل بعضهم يقدم على القيام بأعمال لا يقدم عليها بعضهم الآخر مما جعل أحكام الناس على الأفعال والأشياء التي لها علاقة بإشباع غرائزهم تختلف وتتأثر بالبيئة أي المثيرات الخارجية، وقد أدى ذلك إلى تنوع في الإشباعات، منها : إشباع صَحِيْح عند المسلم كإتيان المرأة بعقد صَحِيْح إشباعاً للميل الجنسي وأما إن أتى الرَّجُل امرأة لا تحل له، أو أتاها بدون زواج كان إشباعه للميل الجنسي خاطئاً، لأنه مخالف للنظام الصَحِيْح، وإشباع غريزة البقاء بما أمر الله به من أعمال مباحة كالتَّمَلُّك بالشراء إشباع صَحِيْح، وإشباعها بالسَّرِقَة لأموال الآخرين إشباع خاطئ.
هذا هو الصَحِيْح في الغرائز ولو سلك علماء الغَرْب الطريقة العقلية بنقل الإحساس بالإنسان وأفعاله وفسروا هذا الواقع أو هذا الإحساس بالواقع المصحوب بالمعلومات السابقة لاهتدوا لحقيقة هذا الواقع ولكن سلوكهم الطريقة العلمية واعتبارهم أن الإنسان كالمادة وظنهم أن ملاحظة أفعال الإنسان هي كملاحظة المادة ضللهم عن الحقيقة وغمرهم في نتائج خاطئة عن الغرائز وفي غيرها من أبحاث علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية وهذا شأن من يخضع الإنسان وعمله كما تخضع المادة للتجربة ومن هنا كان الخطأ هو اتخاذ الطريقة العلمية أساساً للتفكير وجعلها حَكَماً في الحكم على الأشياء(1).
__________
(1) أنظر حول هذه المسألة :
- ... الزين ، سميح عاطف، لمن الحكم ؟ لله أم للإنسان، للشرع أم للعقل ، ص (110-126).
- ... الشواف، د. محامي منير محمد طاهر ، تهافت القراءة المعاصرة ، ص (74-75-76).
- ... الزين، سميح عاطف : الإسلام وثقافة الإنسان، ص(16-17).(1/37)
رابعاً : الحاجات العُضْويَّة :
... إن احتياج جسم الإنسان لأمور معينة وطلب الإنسان لهذه الأمور، هي خاصية أودعها الله في الإنسان وهي ما تُسمى بالحاجات العُضْويَّة. وهذه الحاجات تتطلب إشباعاً ومن أجل إشباعها يحتاج الإنسان إلى أوضاع وأشياء وأعمال معينة، فمن هذه الأوضاع الحاجة إلى النوم والراحة، ومن هذه الأشياء الهواء ، ومن هذه الأفعال التنفس والأكل والتغوّط.
... والغرائز والحاجات العُضْويَّة تتشابه في أنها خاصيات فطرية في الإنسان كخاصية السيولة في الماء » وتختلف فيما بينها من وجهين :
الأول : إن إشباع الحاجات العُضْويَّة حتمي فإن لم يأكل أو لم ينم الإنسان هلك في الحياة. وأما الغرائز فإن إشباعها غير حتمي وبالتالي فإن عدم إشباعها لا يؤدي إلى الهلاك وإنما يؤدي إلى القلق والشقاء كما هو كائن عند الزوجين اللذين لا ينجبان أطفالاً بسبب عقم أحدهما أو كليهما.
الثاني : إن الحاجات العُضْويَّة تثار من الداخل فالإنسان يشعر بحاجة إلى الطعام إذا جاع وإلى النوم إذا سهر ولا يستطيع له رداً. وأما الغرائز فإنها تثار من خارج جسم الإنسان فمن رأى مالاً ثار لديه حب التَّمَلُّك الصادر عن غريزة البقاء ومن فكَّر بالمثيرات الجنسية ثارت غريزته لأنه أحَسَّها سابقاً« (1).
... ورغم أن وجود هذه الحاجات العُضْويَّة مدرك للإنسان فقد أشار إليها تعالى في قوله: { وَمِنْ ءَايَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } (2) وقَالَ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (3) حتى إنه أباح أكل ما حرمه عليه من الأطعمة من أجل إشباع الحاجة العُضْويَّة حين يتعرض للهلاك. قَالَ تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } (4).
خامساً : الشخصية :
__________
(1) عبد الله، محمد حسين : مفاهيم إسلامية ، ص(29).
(2) الروم / 23.
(3) البقرة / 172.
(4) البقرة / 173.(1/38)
... يقوم الإنسان بأعماله ليشبع حاجاته العُضْويَّة وغرائزه ومجموع هذه الأعمال هو سلوك الإنسان، وهذا السلوك مرتبط بمفاهيم الإنسان عن الأشياء والأفعال والحياة، والسلوك هو الذي يدل على شخصية الإنسان، فالشخصية هي طريقة عقل الإنسان للواقع، وهي أيضاً ميوله نحو الواقع. وبمعنى آخر فهي عقليته ونفسيته.
« والعقلية هي الكيفية التي تجري على أساسها عقل الشيء أو إدراكه، أو هي الكيفية التي يربط بها الإنسان الواقع بالمعلومات بقياسها إلى قاعدة أو قواعد معينة »(1).
... فالبترول – مثلاً – واقع يحس به الإنسان، ويثير عنده حب التَّمَلُّك، فيحكم عليه الإنسان بأنه يشبع غريزة البقاء. ولكن القاعدة الفِكْرية التي يتخذها الإنسان مقياساً للحكم على الأشياء تضيف للحكم السابق بعداً آخر.
... فالمسلم يرى أن البترول يجب أن يكون ملكية عامة يأخذ منها حصته كما يأخذ غيره حصصهم، فلأفراد المجتمع حق فيه، ويرى الرأسمالي أن البترول ملكية فردية يحق له أن يتملك ما يستطيع تملكه منه دون أن يراعي حقوق الآخرين.
... والمرأة الجميلة واقع يثير الميل الجنسي عند الرَّجُل فيحكم عليه أنه امرأة تشبع جزءاً من غريزة النوع، إلا أن المسلم يرى أن المرأة هي عرض يجب أن يُصان، بينما يرى الرأسمالي أن المرأة هي سلعة يستفاد منها في إشباع غريزة النوع، وفي تحقيق المكاسب المادية كالتجسس والدعاية وجلب الزبائن، وتحقق له قيمة مادية.
... وسبب الاختلاف في الحكم الذي أطلقه المسلم والرأسمالي على البترول وعلى المرأة آتٍ من اختلاف القاعدة الفِكْرية التي يفكر على أساسها كل من الاثنين.
... فالعقيدة الإسْلاميَّة التي تنبثق عنها أحكام المسلم غير العقيدة الرَّأْسُماليَّة التي تنبثق عنها أحكام الرأسمالي.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (1/13) بتصرف.(1/39)
... وعليه فمن يسلك الطريقة الإسْلاميَّة في إدراك الواقع والحكم عليه يحمل عقلية إسلامية، فيحكم على الجهاد بأنه فرض، وعلى الصدقة بأنها مندوب.
« وأما النفسية فهي الكيفية التي يربط بها الإنسان دوافع الإشباع بالمفاهيم »(1). وهذه المفاهيم تعود إلى أفكار معينة تنبثق عن العقيدة.
... فإن كانت المفاهيم تنبثق عن العقيدة الإسْلاميَّة كانت النفسية نفسية إسلامية وإن كانت تنبثق عن العقيدة الرَّأْسُماليَّة كانت النفسية نفسية رأسمالية وإن كانت تنبثق عن قواعد متعددة كانت النفسية فوضوية.
والنفسية هي التي تجعل الإنسان يقدم على القيام بالعمل أو يحجم عنه، فهي التي تتحكم في دوافع الغرائز والحاجات العُضْويَّة(2).
فالمسلم قبل تحريم الخمر كان يقدم على شربها لأن مفهومه عنها أنها مباح ولما نزل حكم الله باجتنابها قَالَ المسلم : سمعنا وانتهينا.
فتغيير المفهوم عن الخمر غيَّر الميل إلى الخمر وهذا الميل الجديد الناتج عن ربط الدافع بالمفهوم هو النفسية.
ومن الأمثلة الدالة على الشخصية الإسْلاميَّة أنس بن مالك بن النضر رضي الله عنه فقد مرّ في غزوة أُحد برجال من المهاجرين والأنصار، ألقوا سلاحَهم بعدما أُشيع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل فقَالَ لهم أنس : ما يجلسكم ؟ قَالوا : قُتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ : فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استقبل قريشاً فقاتل حتى قُتل رحمه الله تعالى(3).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (1/13) بتصرف.
(2) أنظر حول هذا الموضوع :
- ... الزين، سميح عاطف : الإسلام وثقافة الإنسان، ص(94-95).
- ... عبد الله، محمد حسين : مفاهيم إسلامية، ص (83) وما بعدها.
(3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، (1/414)، .وانظر: عبد الله ، محمد حسين : مفاهيم إسلامية ، ص (92).(1/40)
هذا السلوك من أنس بن النضر يدل على شخصية إسلامية متميزة، ويدل على ارتباط وثيق بين عقليته ونفسيته، فلما أحسّ بالواقع وهو إحجام بعض الصحابة عن القتال بعد صدور الإشاعة، ربط هذا الواقع بالمعلومات السابقة ( مرارة الهزيمة، وتحريم التَّوَّلي يوم الزّحف، وأثر إشاعة مقتل الرسول على الصحابة ) وحكم على هذا الواقع بقياسه إلى القاعدة الأَسَاسيَّة لأفكاره، وهي العقيدة الإسْلاميَّة، بأن القتال فرض، وأن مآل الشهيد الجنة، وأن الأجل محدود، وأن الفرار محظور وهذه الأفكار هي مفاهيم عنده لأنه يتصورها ويؤمن بصحتها، ثم ربط بين المفاهيم ودوافع غريزة البقاء التي من مظاهرها، المحافظة على الحياة والخوف من الموت فسيّر هذه الدوافع بمفاهيمه، وصار يميل إلى القتال.
فعقلية أنس بن النضر غيرت دوافعه، وجعلتها ميولاً إسلامية فصارت نفسيته تميل إلى القتال وإلى الشَّهادَة واللحاق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
سادساً : الثَّقافَة :
... الثَّقافَة لغة : مشتقة من المادة – ث ق ف – بمعنى صقل، ويقَال ثَقُف ثَقفاً وثقافة: أي صار حاذقاً خفيفاً فطناً(2).
__________
(1) انظر حول كيفية بناء الشخصية الإسْلاميَّة ، أبو الشباب ، د. أحمد عوض. مقومات النصر في القرآن والسنة ، الفصل الثاني، (رسالة دكتوراه ) ، (1/114).
(2) ابن منظور : لسان العرب، حرف الفاء فصل الثاء، (9/19).(1/41)
والثَّقافَة اصطلاحاً تتعدى التعريف الواحد(1)، إلا أنها في صورتها العامة عند الباحثين لا تخرج عن كونها حصيلة فكر الأمة، ووجدانها، فهي نسق من القيم يرتبط بأفراد مجتمع معين يكتسبون خبرات مختلفة إلى حد ما ولهذا فمن المتوقع دائماً أن تنطوي ثقافة أي مجتمع على قدر من عدم التجانس تفرضه الاختلافات الجبليّة والإقليمية والدينية والطبقية والمهنية.
يقول تايلر : « إنها الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والاختلاف والقوانين والعادات والفنون »(2).
__________
(1) تطور مفهوم الثَّقافَة في استعمالات المحدثين والمعاصرين فقيل: هي الدراسات الأدبية والنظرية والعقلية والفلسفية وقيل إنها جملة من الأفكار والأشياء ، وقيل مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجْتِمَاعِيَّة التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه وقيل مجموعة الأفكار والمثل والمعتقدات والتقَاليد والعادات والمهارات وطرق التفكير، وأسلوب الحياة والنِّظَام الأسري، وتراث الماضي ووسائل الإنتقَال والإتصال وطبيعة المؤسسات الاجْتِمَاعِيَّة في المجتمع الواحد.
أنظر :
- ... الخطيب، عمر عودة : لمحات في الثَّقافَة الإسْلاميَّة ، ص (42).
- ... بن نبي، مالك : مشكلة الثَّقافَة ، ص (39).
(2) الخولي ، محمد علي : قاموس التربية، ( عربي إنكليزي )، ص(103).
وأنظر :
- ... مطاوع، إبراهيم عصمت : أصول التربية ، ص (34).
- ... الجندي، أنور : الثَّقافَة العربية إسلامية ، أصولها وانتماؤها، ص(22).
- ... حسن، د. الشحات أحمد : دراسات الفِكْر التربوي الإسلامي، ص (16-17).(1/42)
... بيد أن التعريف يخلط بين العلم والثَّقافَة، فالعلم عالمي لجميع الأمم ولا تختص به أمّة دون أخرى، وهو المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنتاج كعلم الطبيعة والكيمياء، بينما الثَّقافَة تكون خاصة تنسب للأمة التي نتجت عنها أو تكون من خصوصياتها ومميزاتها كالأدب وسير الأبطال والتاريخ واللغة والفقه والفلسفة وسائر المعارف غير التجريبية وهناك معارف غير تجريبية تلحق بالعلم وإن كانت تدخل في الثَّقافَة مثل الحساب والهندسة والصناعات فإنها وإن كانت من الثَّقافَة، ولكنها تعتبر اعتبار العلم من حيث كونها عامة لجميع الناس ولا تختص بأمة من الأمم.
... وعليه، فإن للثقافة خصوصية ترتبط بالمجتمع وحياته وتاريخه وهذه الخصوصية جانبها المميز ومدلولها المعين ومن هنا يقَال ثقافة غربية وثقافة إسلامية.
« والثَّقافَة الإسْلاميَّة هي جملة المعارف التي كانت العقيدة الإسْلاميَّة سَبباً في بحثها سواء أكانت هذه المعارف تتضمن العقيدة الإسْلاميَّة وتبحثها مثل علم التوحيد أم كانت مبنية على العقيدة مثل الفقه أم كان يقتضيها فهم ما ينبثق عن العقيدة الإسْلاميَّة من الأحكام مثل المعارف التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام كعلوم اللغة العربية ومصطلح الحديث وعلم الأصول فهذه كلها ثقافة إسلامية لأن العقيدة هي السبب في بحثها وترجع بمجملها إلى الكتاب والسنة»(1).
سابعاً : الحَضَارَة والمَدَنيَّة:
إنّ كلمتي الحَضَارَة والمَدَنيَّة هما من أكثر المصطلحات شيوعاً في أيامنا هذه، ويجدر بنا أن نقف عند مدلول هاتين الكلمتين حتى يدرك القارئ ما نرمي إليه من معنى عند إيراد هذين المفهومين.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة، (1/265).(1/43)
الحَضَارَة كما ورد في لسان العرب : « الإقامة في الحَضَر ... والحَضَر والحَضْرة والحاضِرة، خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف »(1). فالحَضَارَة في اللغة ما هو عكس البداوة، أي سكن المدن والقرى. إلا أن هذا المعنى اللغوي ليس هو المراد حين الكلام عن الحَضَارَة في النُّصُوص الفِكْرية والتاريخية والسِّيَاسِيَّة المعاصرة.
... إنّ نشأة هذا الاصطلاح تعود إلى الدراسات الأوروبية حين درج الغَرْبيّون(2) على استخدام كلمة Civilisation - وترجمتها إلى العربية الحَضَارَة أو المَدَنيَّة – للتعبير بها عن التطور المادي والصناعي والعمراني الذي أخذ يطّرد بسرعة خلال العصور الحديثة التي تلت القرن الخامس عشر الميلادي والتي سُميت بعصور النهضة. إلا أن تلك العبارة تحولت مع مرور الوقت لتأخذ مدلولاً آخر فقد أصبحت تطلق على جملة مظاهر الرقي المادي والعلمي والفني والأدبي والاجتماعي في مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم وأصبح المؤرخون والمفكرون والكتاب يتكلمون عن حضارات سالفة ومعاصرة كالحَضَارَة المصرية القديمة والحَضَارَة الإسْلاميَّة والحَضَارَة الغَرْبيّة المعاصرة(3).
__________
(1) ابن منظور : لسان العرب، حرف الراء فصل الحاء ، (4/196).
(2) الغَرْبيّون نسبة إلى الغَرْب و أقصد بهم: المنظّرون والساسة والإعلاميون الموجهون للرأي العام في الدول الليبرالية : أوروبا وأمريكا ومن درج درجهم وسلك مسلكهم.
(3) القصص، أحمد : أسس النهضة الراشدة ، ص(65).(1/44)
إلا أن المشكلة في هذا الاصطلاح(1) أنه يُدخل في مدلوله كل ما يملكه مجتمع ما أو يرثه أو يبدعه من أفكار وتشريعات وفنون وإنجازات بصرف النظر عما هو من مميزات ذلك المجتمع وما ليس من مميزاته.
... مع أننا حين نتكلم عن حضارة مجتمع ما، فإننا نتكلم عن طريقة العيش التي تميزه عن غيره وتجعل منه جماعة بشرية ذات شخصية معينة ولون متميز وهوية خاصة، لذلك يجب أن يلحظ حين استخدام ذلك الاصطلاح أَنْ لا يدخل ضمنه إلا ما هو مقومات شخصية المجتمع التي تجعل منه مجتمعاً يختلف عن غيره من المجتمعات في طريقة عيشه، فلا تدخل الأشكال والوسائل المادية، فالمصانع والسيارات التي تنتجها أمة ليست هي التي تميزها وتعطيها هويتها لأن الإنجازات المادية عامة لكل البشر.
__________
(1) توسع الباحثون في العصر الحديث في إطلاق هذا المصطلح فمنهم من قَالَ أنه « مجموعة المعارف العلمية والتشريعات والنظم والعادات والآداب التي تمثل الحالة الفِكْرية، والاقتصادية والخلقية والسِّيَاسِيَّة، والفنية، وسائر مظاهر الحياة المادية والمعنوية في مراحل= = التاريخ، وفي أيِّ بقعة من بقاع الأرض، سواء شملت شعباً أو أكثر». وقيل : « قصة الإنسان في كل ما أنجزه على اختلاف العصور وتقلب الأزمان، وما صورت به علاقته بالكون وما وراءه».
... أنظر : ... - المبارك، محمد : الفِكْر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغَرْبيّة، ص(27).
... ... - حسين، محمد محمد : الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة ، ص(6).(1/45)
... كل ذلك يحتم علينا أن نضبط المصطلح الدال على نمط العيش وهوية المجتمع فنميز بينه وبين ما يدل على مجموعة الأشكال والوسائل المادية في شؤون الحياة وبالرجوع إلى واقع المجتمعات نجد أنّ المفاهيم التي يعتنقها مجتمع ما عن الحياة هي التي تعطيه هويته وشخصيته وبناء عليه « يمكن تعريف الحَضَارَة بأنها مجموعة المفاهيم عن الحياة، ويمكن تعريف المَدَنيَّة بأنها مجموعة الأشكال والوسائل المادية المستخدمة في شؤون الحياة»(1).
... وعليه، فإنه لا يجوز للمسلم أخذ حضارةٍ غير الحَضَارَة الإسْلاميَّة، لأن أخذها يعني الاحتكام لغير الإسلام. أما المَدَنيَّة فهي قسمان: قسمٌ له علاقة بالحَضَارَة، ويكون جزءاً منها وهي الأشكال المَدَنيَّة المادية التي تنتج عن وجهة النّظر في الحياة كالتماثيل والصّلبان، فلا يجوز أخذها. وقسمٌ ناتج عن العلم والصناعة كأدوات المختبر والأثاث والسيارة، فلا يُراعى في أخذها أي شيء لأنها ليست ناجمة عن الحَضَارَة ولا تتعلق بها.
ثامناً : المجتمع :
... تباينت التعريفات في تحديد معنى المجتمع ، فمنهم من قَصَره على مجموعة من الأفراد أو جماعة وحّدتهم الآمال والآلام أو وحدة سياسية جمعها نظام سياسي واحد، أو ثقافة واحدة أو أهداف مشتركة.
... ومن المعروف بداهة أن « الإنسان مدني بالطبع »(2) لا يعيش منفرداً وأن كل إنسان يسعى دائماً لسد حاجاته وإشباع جوعاته وإرضاء رغباته ، لذلك لا بدّ وأن تنشأ علاقات يتمكن بها الأفراد من سدّ حاجاتهم وإشباع جوعاتهم ولتحقيق ذلك لا بدّ من اتفاق بينهم على أفكار معينة لتنظيم علاقاتهم.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الإسلام، ص(59-63).
أنظر حول مفهوم المَدَنيَّة : - شلبي، د. أحمد : المناهج الإسْلاميَّة ، أصولها، انحرافاتها، وجوب تصَحِيْحها،
ص(19-20-21).
(2) ابن خلدون : مقدمة ابن خلدون ، ص (49).(1/46)
... فالمجتمع حسب نشأته الطبيعة يتكون من جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة مبنية على أفكار ومفاهيم واحدة ومسببة مشاعر واحدة نحو الميل للأشياء والأفعال أو الإحجام عنها ينظم هذه العلاقات نظام يضبط سلوك الأفراد ويرعى شؤون الجماعة ويفض المنازعات ويفصل في الخصومات ويمنع المخالفات. وبهذا تكون مقومات المجتمع قائمة على أسس ثلاثة: الأفكار والمشاعر والنظام.
... والمجتمع إما أن يكون متميزاً إذا اجتمعت المقومات الثلاث في مجموعة من الأفراد كالمجتمع الإسلامي المكون من أفراد يعتنقون العقيدة الإسْلاميَّة التي تنبثق منها أفكارهم وتتكون من خلالها مشاعرهم ويطبقون نظام الإسلام في علاقاتهم ومثله في التمييز المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الاشتراكي لاعتقاد أفرادها بمبدأ يطبقونه على أنفسهم ويحملونه إلى غيرهم.
... وإمّا أن يكون مجتمعاً غير متميز إذا تباينت مقومات المجتمع عند الأفراد كالمجتمع الهندي فأفراده يعتنقون عقائد لا تنبثق عنها أفكار أو نظم لمعالجة مشكلاتهم ، فلا علاقة بين النِّظَام والعقائد والأفكار لتعدد أديانهم وأفكارهم ومفاهيمهم واختلافها عن النِّظَام الرأسمالي المطبق عليهم(1).
تاسعاً : النِّظَام:
... النِّظَام مجموعة من القوانين التي تنظم العلاقات التي تقوم بين الناس الذين يعيشون في مجتمع معين، بغض النظر عن اجتماعهم أو تفرقهم. وهو ما يعبر عنه بأنظمة المجتمع وهي تشمل الاقتصاد والحكم والسِّياسَة والتعليم والعقوبات والمعاملات وغير ذلك.
« فالنِّظَام معالجات لمشكلات الإنسان، وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات »(2).
__________
(1) أنظر حول هذه المسالة :
- صالح، حافظ : النهضة، ص(107-113).
- ... عبد الله، محمد حسين : مفاهيم إسلامية ، ص(101) وما بعدها.
- ... القحطاني، حسن بن فلاح : الطريق إلى النهضة الإسْلاميَّة ، ص(15) وما بعدها.
(2) النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : نظام الإسلام ص(22).(1/47)
وهذه المعالجات وكيفية تنفيذها تنبثق عن العقيدة العقلية التي يؤمن بها مجتمع من المجتمعات. فالإسلام عقيدة ونظم، وعقيدته هي الإيمان وأركانه ونظمه هي الأحكام الشَّرْعية التي تنظم شؤون الإنسان. وبتعدد العلاقات واختلافها في المجتمع تعددت واختلفت أنظمة المجتمع إلى:
النِّظَام الاجتماعي : « وهو النِّظَام الذي يُنظم اجتماع المرأة بالرَّجُل ، والرَّجُل بالمرأة وينظم العلاقة التي تنشأ بينهما عن اجتماعهما وكل ما يتفرع عن هذه العلاقة »(1) ومن أمثلة ذلك منع الخلوة بين الرَّجُل والمرأة، ومتى تملك المرأة طلاقها، وأما ما ينتج عن مصالحها في المجتمع كالتجارة والميراث فهو مما يدخل في النِّظَام الاقتصادي.
النِّظَام الاقتصادي : والاقتصاد هو تدبير شؤون المال إما بتكثيره وتأمين إيجاده وهذا يبحث فيه علم الاقتصاد وإما بكيفية توزيعه وهذا يبحث فيه النِّظَام الاقتصادي، فعلم الاقتصاد والنِّظَام الاقتصادي كُلٌّ منهما يبحث في الاقتصاد ولكنهما شيئان متباينان، فالأول يتعلق بالوسائل ولا علاقة له بوجهة النظر في الحياة، والثاني يتعلق بالفِكْر باعتباره فكراً يؤثر في وجهة النظر في الحياة ويؤثر فيها.
فالنِّظَام الاقتصادي، نظام يبحث في كيفية توزيع الثروة بين الناس بناء على وجهة النظر في الحياة(2).
نظام الحكم، هو النِّظَام الذي يبين شكل الدَّوْلَة وصفتها وقواعدها وأركانها وأجهزتها، والأساس الذي تقوم عليه والأفكار والمفاهيم والمقاييس التي ترعى الشؤون بمقتضاها والدستور والقوانين التي تطبقها(3).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاجتماعي في الإسلام ، ص(9).
(2) أنظر حول هذه المسألة :
... - يُونُس المصري ، د. رفيق : أصول الاقتصاد الإسلامي ، ص(19).
- النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاقتصادي في الإسلام ، ص(57-58).
(3) النَّبَهَانِيّ ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الحكم في الإسلام ، ص(13-15).
... وأنظر : البياتي ، د. منير حميد : النظم الإسْلاميَّة ، ص(207) وما بعدها.(1/48)
عاشراً : التوفيق :
... التوفيق في الأصل : هو التسديد، وتقول : وفَّقْتُ بين القوم : أصلحت بينهم والتوفيق بين الأشياء المختلفة : ضمّ بعضها إلى بعض لمناسبة بينها(1).
والتوفيق بين الإسلام وغيره، أو بين الحَضَارَة الإسْلاميَّة والحَضَارَة الغَرْبيّة منهج حديث سلكه بعض المُفَكِّرين والكتاب لأغراض مختلفة.
أ- إبراز سمو الإسلام على غيره وأنه دين حضاري قائم على العلم، ولا يتناقض مع الحقائق والاكتشافات العلمية الحديثة، حتى يشعر الجيل الحاضر بنفاسة ما عنده فيؤثره ويرتضيه، كما فعل صاحب كتاب(2) (التوفيق العلمي بين الحَضَارَة والإسلام) ويتمثل هذا النمط الانتقائي التوفيقي في تفكير كل من المَوْدودِي وسَيِّد قطب والغَزَالي والسباعي بقصد رد المفتونين بالمبادئ الجديدة إلى مواريث أسمى وأغنى.
وأبرز ما يمتاز به هذا النمط هو الاهتداء بالمصالح المرسلة وتحقيق المنافع في تعاملهم مع الفِكْر الإسلامي التراثي أو في تعاملهم مع النُّصُوص الشَّرْعية أو في تسويغهم للفكر الغَرْبيّ في الفِكْر الإسلامي بهدف الدعاية للإسلام(3).
__________
(1) الفيومي، أحمد بن محمد بن علي المقري : المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، ص(667).
... أنظر : مجمع اللغة العربية، معجم الوسيط ، ص(1046).
(2) وهو الشيخ رضوان شافعي المتعافي والكتاب نشرته المطبعة السلفية في لاهور سنة 1354هـ الطبعة الثانية.
(3) انتقد د. محمد سعيد البوطي هذا المنهج ولم يوافق عليه.
أنظر : مجلة الأمة القطرية العددين 31، 32 من السنة الثالثة عام 1983م.(1/49)
ب- وقد يكون للغرض نفسه ولكن من منطلق انهزامي جرفهم التيار خارج دائرة الإسلام وهم يظنون أنهم يحسنون للإسلام صنعاً كما فعل صاحب كتاب (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)(1) ونظريته تتلخص بأنه لا بد من نظرية جديدة لإنهاض العرب والمسلمين تقوم على تلبيس الإسلام طاقية الماركسية بعد إدخال بعض التعديلات الجوهرية على الماركسية والإسلام. وأن يُغلَّف ذلك بالحريات التي أطلقها المبدأ الرأسمالي وألغتها الماركسية وأن يُبَهَّر الناتج بالعواطف القومية والوطنية حتى لا يبقى لنظريته لون أو طعم وبذلك يكون المسلم الذي أرضى الجميع عند ظنه ووضع نظرية جديدة للنهضة قد توصل إليها من بين فرث ودم لبناً سائغاً للشاربين.
ج- ربما كان ذلك بسبب الجهل بالإسلام ذاته، وبمقاصده، وحكمه كما يفعل بعض تلامذة المستشرقين، الذين يجمعون بين الإسلام والعقائد الفاسدة كالعَلْمانية والديمقراطية.
ومن المصطلحات التي تدور في فلك التوفيق ما يلي:
1- التقارب الثقافي:
والتقارب: دنو الشيء من الآخر(2)، وهو تفاعل، أي أن الشيء يقترب من الآخر. وهو تعبير يراد به تقريب الثَّقافَة الإسْلاميَّة إلى غيرها من الثقافات الأخرى(3).
__________
(1) هو د. المهندس محمد بن ديب شحرور، أنفق من عمره كما يقول عشر سنوات كاملات يدرس الإسلام فاكتشف أنه مسلم يعتقد الإسلام عقيدة ونظاماً ومنهجاً للحياة وأن السنة ليست وحياً وأن الفقه هو من التراث وأن الفقهاء من حجّر الإسلام وأن الماركسية هي مصدر التفكير وأن فهم القرآن يعتمد على العقل فقط.
... أنظر : الشواف، د. محامي منير محمد طاهر، تهافت القراءة المعاصرة ، ص (11-46).
(2) المعجم الوسيط ، ص(723).
(3) الطريقي، د. عبد الله بن إبراهيم بن علي : الثَّقافَة والعالم الآخر، الأصول والضوابط، ص(21).(1/50)
وقد يؤدي إلى التوفيق، وقد يكون وسيلة إلى الوصول إلى التوفيق. ثم إن التقارب قد يأخذ معنى عاماً في أمور شتى كالفِكْر والاقتصاد وقد يكون في مجال محدد كالاعتقاد كما هو صنيع دعاة التقريب بين ما يُسمى بالأديان السماوية ( الإسلام والنصرانية واليهودية ) ونحو التقريب بين منهج أهل السنة والشيعة(1).
2- التفاعل الثقافي :
والفعل في الأصل بمعنى: التأثير من جهة مُؤثِّر، وتفاعلا: أثّر كل منهما في الآخر. والفاعلية: وصف في كل ما هو فاعل(2).
والتفاعل الثقافي: مصطلح حديث يراد به تقريب الثقافات بعضها إلى بعض لتؤثر كل منها في الأخرى(3).
3- الاختراق الثقافي:
والخرق: القطع والثقب، ومخترق الرياح: مهبها، واخترق الثوب: شقه، واخترق القوم: مضى وسطهم(4).
والاختراق الثقافي تعبير يراد به: كسر الحواجز النفسية القائمة بين الثَّقافَة الإسْلاميَّة وغيرها، لتدخل كلٌّ منها في الأخرى(5).
4- تعايش الثقافات(6):
__________
(1) الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على وجه الخصوص وقَالوا بإمامته وخلافته، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عن ولده وهم فرق شتى . أنظر : الشَّهْرَسْتانيّ : الملل والنحل (1/146-191).
(2) الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل (502هـ) : المفردات في غريب القرآن، ص(382).
... وأنظر : المعجم الوسيط ص(695).
(3) الطريقي، الثَّقافَة والعالم الآخر، الأصول والضوابط، ص(22).
(4) الفيروزبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب : القاموس المحيط، ص(1135). وأنظر : المعجم الوسيط ص(329).
(5) الطريقي، الثَّقافَة والعالم الآخر، الأصول والضوابط ، ص(23).
(6) من أبرز من استعمل هذا المصطلح الأستاذ مالك بن بني. أنظر : كتابه مشكلة الثَّقافَة الفصل الثالث.(1/51)
والعيش: هو الحياة، وتقول عايشه: عاش معه، مثل عاشره، وقَالَ في المُعجَم الوسيط(1): تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، ومنه التعايش السلمي.
التعايش السلمي: التعاون بين دول العالم على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الاقتصادية والثقافية(2).
وتعايش الثقافات يراد منه: كسر الحواجز المانعة من التقاء الثقافات وتفاعلها وتأثير بعضها في بعض في جو سلمي بعيد عن الروح العدائيّة والتعصب ضد الثقافات الأجنبيّة(3).
وهذا شعار ترفعه الأمم المتحدة المتقدّمة والمتخلّفة، فأما الأولى فبقصد توطين الأمم الأخرى وتخديرها تمهيداً لغزوها. وأما الثانية فبسبب ما يكللها من الانهزام والضعف والانحطاط(4).
... و بالتالي فإنّ من المبالغة الدعوة إلى يُسمى بالسلام العالمي، أو النِّظَام العالمي، أو التعايش السلمي، أو تعايش الثقافات لما يترتب على هذا الأمر من تذويب الفروق بين العقيدة الإسْلاميَّة والعقائد الأخرى، وكسر الحواجز النفسيّة بين المسلم وغير المسلم وإيقاف الجهاد. ومن ثمّ ذوبان الشخصية الإسْلاميَّة في جملتها بالشخصيّة الأجنبيّة إلى غير ذلك من مظاهر التفريط.
... فالواجب على المسلم أن يكون على هدى قول الله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (5). وإذا بان الطريق المستقيم، بانت السُبل المتعرجة والمناهج المغايرة، فبضدها تتميز الأشياء.
__________
(1) المعجم الوسيط ، ص(639).
(2) عطية الله، أحمد : القاموس السياسي، ص(420).
(3) الطريقي، الثَّقافَة والعالم الآخر، الأصول والضوابط، ص(24).
(4) من أبرز من استعمل هذا المصطلح الأستاذ مالك بن نبي. أنظر كتابه: مشكلة الثَّقافَة الفصل الثالث
(5) الأنعام / 153.(1/52)
... وهذا الطريق المستقيم يُلزمنا بالحذر والحَزْم. والحذر: « هو الاحتراز، والاحتراس وتوقي ما يُخاف منه »(1). والحَزْم هو: « النظر في الأمور قبل نزولها، وتوقي المهالك قبل الوقوع فيها، وتدبير الأمور على أحسن ما تكون من وجوهها »(2). ولذلك قيل: « الحازم يحذر عدوّه على كلّ حال»(3). وقد قَالَ الله تعالى: { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } (4)، وقَالَ الله تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (5). « فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض وإلاّ الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلاّ انتفاء العَدالَة في حياة البشر وإلاّ عبوديّة الناس بعضهم لبعض أرباباً من دون الله، وهو شرٌّ عظيم وفسادٌ عظيم»(6).
لذا فإننا عند تعاملنا مع الآخرين من غير ملّة الإسلام، لا بدّ أن نكون متيقظين حذرين من نواحي ثلاث:
الأولى: التأكد من عدم مصادمة ما نؤخذه مع مبادئنا وقيمنا، أو تعارضه مع مصالح الأمّة العامّة.
__________
(1) الطريقي، الثَّقافَة والعالم الآخر، الأصول والضوابط، ص(107).
(2) ابن الأزرق، بدائع السلك في طباع الملك، تحقيق د. علي سامي النّشار ، (1/498).
(3) ابن قتيبة: عيون الأخبار، (2/112).
(4) النساء / 102.
(5) المائدة / 49.
(6) قطب، سَيِّد : في ظلال القرآن ، ص(903).(1/53)
الثانيّة: عدم الاغترار بما يُزيّنه الباطل-من الكفرة أنفسهم أو من بني جلدتنا- من تحسين للقبح وزخرفة للباطل وقلبٍ للحقائق كما قَالَ تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ - وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } (1).
الثالثة: الانتباه إلى كيد العدو ومكره، بغية الإساءة إلى المسلمين في عقيدتهم وعبادتهم وأخلاقهم وعاداتهم وزعزعة كيانهم، وقد قَالَ تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ - هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَا لوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (2).
__________
(1) الأنعام / 112-113.
(2) آل عمران / 118-120.(1/54)
وبتقرير هذه الحقائق يتبين عور تلك الدعاوى والتمويهات التي يُرددها البعض كقولهم: الإسلام دين التسامح في معرض التنازل عن أحكام الإسلام والتقريب بين الحضارتين الإسْلاميَّة والغَرْبيّة وبتقرير هذا تتأكد أهميّة الحذر والحَزْم في التعامل الثقافي مع الآخرين وأنه لا يجوز التساهل فيه.
ويشمل على أربعة مباحث :
1- المبحث الأول ... : مفهوم العَدالَة في اللغة والشَّرْع.
2- المبحث الثاني ... : مفهوم العَدالَة عند الأمم والديانات السماوية السابقة.
3- المبحث الثالث ... : مفهوم العَدالَة عند الفلاسفة والمتكلمين.
4- المبحث الرابع ... : مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر السياسي الغَرْبيّ .
المبحث الأول
مفهوم العَدالَة في اللغة والشَّرْع
ويشتمل على أربعة مطالب :
1- العَدالَة في الوضع اللغوي.
2- العَدالَة في الوضع الشَّرْعي.
3- العَدالَة في الوضع العرفي العام.
4- العَدالَة في الوضع العرفي الخاص.
أطلقت مادة – ع د ل – عند كثير من علماء اللغة وجمع من حذاق البيان على معانٍ جمّة تبعاً لورود استعمالها في الوضع الذي وقع فيه التخاطب واقتضاءً لاشتقاقها في الكلام فأتوا بمعانٍ متفاوتة منها ما يغلب استعماله في التخاطب ومنها ما يندر ويقلُّ شيوعه.
ويمكن عند التأمُّل إرجاع تلك المعاني إلى أصلين صَحِيْحين، لكنهما متقابلان كالمتضادين: أحدهما يدل على الاستواء، والآخر يدل على الاعوجاج.
فمن الأصل الأول :
- العدل من الناس : المرضي المستوي الطريقة. يُقَال : هذا عَدْلٌ وهما عَدْلٌ، وعَدْلانِ، وهم عُدولٌ، وإنّ فلاناً لعَدْلٌ بيّن العَدْل والعُدُولة(1).
قَالَ زهير بن أبي سلمى(2) :
__________
(1) وردت لفظة العدولة في القاموس المحيط ومقاييس اللغة دون اللسان.
(2) هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني، من الشعراء الجاهلين، ولد في مزينة من نواحي المدينة، وتوفي قبل الهجرة بثلاث عشر سنة له ديوان مطبوع.(1/55)
متى يشتجرْ قومٌ يَقُلْ سَرَواتُهم ... ... وهم بيننا فهم رِضاً وهُمُ عدلُ(1)
- والعدل الحكم بالاستواء: ويقَال للشيء يساوي الشيء : هو عِدْلُه. والمشرك يَعْدل بربه، كأنه يسوي به تعالى غيره، وعدّل الموازين والمكاييل: سواها، وعَدَلت فلاناً بفلان إذا سويّت بينهما.
- والعدل قيمة الشيء وفداؤه، قَالَ الله تعالى : { وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } (2) أي فدية، وكل ذلك من المعادلة، وهي المساواة.
- والعدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو نقيض الجور. نقول: عَدَل في رعيته، ويوم معتدل، إذا تساوى حالا حره وبرده. وكذلك في الشيء المأكول. ويقَال عَدَلته حتى اعتدل، أي أقمته حتى استقام واستوى.
- والعدل: التزكية، يقَال عَدَّل الرَّجُل : زكاه والعَدَلَة والعَدْلة : المزكُّون، ورجل عُدَله وقوم عُدَله: هم الذين يزكُّون الشهود وهم عدول.
وأما الأصل الثاني :
... فيقَال في الاعوجاج: عَدَل وانعدلَ، أي انعرج وعَدل عن الشيء: حاد عن الطريق: جار وعَدَل الطريق: مال ويقَال : انظروا إلى سوء معادله، ومذموم مداخله: أي إلى سوء مذاهبه ومسالكه.
... وبعد كل ما تقدم من هذه النُّقول المُعجَم ية(3) لمادة « عدل » ومشتقاتها نلحظ إفادتها معنى: الإنصاف، والتسوية، والاستقامة، والنزاهة والفدية والتزكية، ونقيض الجور والقيمة والقوامة، والمماثلة والانعراج والميل.
__________
(1) ابن أبي سلمى، زهير : الديوان ، ص( ).
(2) البقرة / 123.
(3) أنظر :
- ... مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، ص(588).
- ... الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب : القاموس المحيط، (4/13) فصل العين باب اللام.
- ... ابن منظور، محمد بن مكرم : لسان العرب (10/ 106- 449).
- ... ابن فارس، أبي الحسين أحمد: معجم مقاييس اللغة، (4/246).(1/56)
... وثمة معانٍ واشتقاقات أخرى في الأصل اللغوي لا تدعو الحاجة لبيانها لتوقفنا عن جلّ المقصود في تحقيق ابن فارس(1) لأصول مادة « عدل » طلباً للطريق الواضح وهما الاستواء والاعوجاج ليتناسب مع المقصود الذي ينبني عليه أسُّ البحث وهو العدل بمعنى الاستواء والاستقامة في المقَال والفعال والحال.
... إن لفظة العَدالَة نقلها الشَّرْع في الكتاب والسنة من أصل الوضع اللغوي العام وقصرها على الدلالة التي يستفاد من جهة الشَّرْع وضعها وهي: «الاستقامة في الدين والدنيا»(2).
... وهذه الدلالة مستقاة من المعاني المختلفة الموضوعة من جهة الشَّارِع للفظة العَدالَة كلفظ مشترك، فتكون بهذا لفظة مشتركة دلّت على أزيد من معنى واحد مختلفة في حقائقها على الظهور بوضع واحد(3) وفي كونها لفظة واحدة ينتفي إثبات التباين والترادف في حقها لإنهما لا يقعان إلا في مجموع الألفاظ لفظتين فصاعداً وفي كونها دالة على أزيد من معنى واحد احتراز عن اللفظة المفردة التي لا تدل إلا على معنى واحد، وفي كونها مختلفة في حقائقها احتراز عن المتواطئة فإن اختلافها ليس في الحقائق وإنما اختلافها في العدد وفي كونها أمراً ظاهراً احتراز عن الألفاظ المشتبهة التي تدل على أكثر من حقيقة واحدة مختلفة في حقائقها.
__________
(1) سبق التعريف به ص( ).
(2) السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهيل الحنفي: أصول السرخسي، (3/113).
(3) بن حمزة، الإمام يحيى: الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، (2/155).(1/57)
... وعليه، فإن الناظر في النُّصُوص القرآنية والحديثية يجد نصوصاً متعددة قد أوردت لفظة العَدالَة سواء بصيغة الفعل أو المصدر تدل في معظمها على معانٍ متباينة تظهر من خلال السياق اللفظي وقد تتساوى المعاني التي وضعت لها عند انتقاء القرينة مما يؤدي إلى احتمال كون كل معنى منها مراداً في تلك المواطن فيختلف المجتهدون في حمل ذلك اللفظ على أي من معانيه التي وضع لها، أو عليها كلها.
... ففي الكتاب المطهر وردت لفظة العَدالَة بمشتقاتها في ثمانية وعشرين موضعاً(1) بمعانٍ متباينة نبيّن أصولها :
__________
(1) عبد الباقي ، محمد فؤاد : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص(448-449).(1/58)
1- الاستقامة : ومنه قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (1)، فقد أمر الله تعالى عباده بالعدل وهو الاستقامة على الحق، قَالَ عبد الله بن عَبَّاس(2) رضي الله عنه : « العدل شهادة أن لا إله إلا الله »، وقَالَ سفيان بن عيينة (3) : « العدل في هذا الموضوع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً. فاشتملت على العدل العام الآمر بالاستقامة على الحق»(4)،
__________
(1) النحل / 90.
(2) هو عبد الله بن العَبَّاس ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو العَبَّاس، ِحبر الأمّة، الصحابيّ الجليل، وُلد بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين نشأ في بدء عصر النبوة، فلازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وروى عنه الأحاديث الصَحِيْحة، كُفَّ بصره في آخر حياته ، فسكن بالطائف وتوفي بها سنة 68 هجرية، له في الصَحِيْحين وغيرهما 1660 حديثاً. قَالَ ابن مسعود « نِعم ترجمان القرآن ابن عَبَّاس ». وقَالَ عَمْرو بن دينار : « ما رأيت مجلساً كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عَبَّاس الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر». انظر الأعلام (4/95). والإصابة في تمييز الصحابة (4/90).
(3) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون، الكوفي ثمّ المكي، أبو محمد، وهو من تابعي التابعين، قَالَ النووي: روى عنه خلائق لا يحصون من الأئمة ، واتفقوا على إمامته وعظم مرتبته ولم يكن له كتب، وحجّ سبعين حجة، توفي بمكة سنة 198 هجرية، ودُفن بالحَجون. انظر : ترجمته في تذكرة الحفاظ (1/262)، وميزان الاعتدال (2/170) ، الفهرست (316)، الخلاصة (145)، طبقات الحّفاظ (113)، وفيّات الأعيان (2/129).
(4) ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل الدمشقي : مختصر التفسير لمحمد على الصابوني، (2/343)..(1/59)
وقَالَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « إن أجمع آية في القرآن { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } »(1). ومنه قوله تعالى: { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (2) «فمقَاله حق وفعاله مستقيمة والمقَال هنا مقَال عثمان بن عفان رضي الله عنه أو عمار بن ياسر(3) رضي الله عنه، فالأول كان ينفق على مولى له ويكفله المؤونة إلا أن المضمون يكره الإسلام ويأباه وينهى الضامن عن الصدقة والمعروف، والآخر كان ثابت الاستقامة على الحق أمام سَيِّده أبي جهل منزل العذاب والعنت والوصب على جسده »(4). وفي هذا المعنى يقول الشيخ التهانوي: «العَدالَة هي الانزجار عن محظورات دينية وهي متفاوتة، وأقصاها أن يستقيم كما أمر الله »(5) ومنه قول الجرجاني(6): « هي الاستقامة على طريق الحق والبعد عما هو محظور، ورجحان العقل على الهوى»(7)،
__________
(1) ابن كثير، المصدر نفسه (3/514). وانظر: البَيْهَقِيّ : شُعب الإيمان (2/458) عن سعيد بن مسروق.
(2) النحل/76.
(3) عمّار بن ياسر العنسي، من السابقين الأولين، قُتل يوم صفّين. انظر: أُسد الغابة، (4/43).
(4) ابن كثير : مختصر تفسير القرآن (2/340).
(5) التهانوي، الشيخ المولوي محمد: موسوعة اصطلاحات العلوم الإسْلاميَّة ، (4/1014-1015).
(6) الجرجاني: هو عليّ بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، فيلسوف، من كبار العلماء بالعربيّة. وُلد في تاكو سنة (740هـ-1340م) ودرس في شيراز، وتوفي بها سنة (816هـ-1413م) وله نحو خمسين مصنفاً منها: التعريفات، وشرح مواقف الإيجي، وشرح السراجيّة (في الفرائض) وغيرها. أنظر: الأعلام: للزركلي (5/7)، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني، (1/488).
(7) الجرجاني، علي بن محمد الشريف (816هـ) : التعريفات ، ص(147)..(1/60)
ومنه قول أبو البقاء : «هي الاستقامة على طريق الحق بالاختبار عما هو محظور ديانة»(1).
2- إعطاء كل ذي حق حقه: ومنه قول الله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (2). فهذا أمرٌ منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، قَالَ محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب: « إنما نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس»(3). وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكّله إلى نفسه »(4). والحكم بالعدل بين الناس حكماً مطلقاً شاملاً دون النظر إلى لون أو جنس أو قرابة و أي صلة كانت من مصلحة أو منفعة، بل إعطاء كل ذي حق حقه، لا فرق بين أفراد المجتمع، فالضعيف قوي حتى يُعطى حقه، والقوي ضعيف حتى يُؤخذ الحق منه، وهذا مؤدى قول أبي بكر رضي الله عنه في خطبته بعد البيعة : « القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله »(5).
__________
(1) أبو البقاء، أيوب بن موسى الحسيني: معجم المصطلحات والفروق اللغوي، القسم الثالث ، ص(253-253).
(2) النساء/58.
(3) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم (1/687).
(4) رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرَّشْوَة ، واللفظ له، عن عبد الله بن أبي أوفى (2/775)، (2312). وصَحِيْح ابن حبّان، (11/448)، وعند الحاكم في المستدرك على الصَحِيْحين بلفظ (فإذا جار تبرأ الله عزّ وجلّ منه ) ، (4/105)، وسُنَن التِّرْمِذِي، (3/618)، وموارد الظمآن باب إعانة الله للقاضي العدل، (1/307)، والآحاد والمثاني، (4/331)، وصَحِيْح الجامع للألباني بلفظ ( فإذا جار تخلّى الله عنه ولزمه الشيطان ) وقَالَ حديث حسن رقم (1253).
(5) الطَّبَري، محمد بن جرير : تاريخ الأمم والملوك ، (3/203) . وأنظر: الكاندهلوي، حياة الصحابة،(3/426-427).(1/61)
ومنه قول الله تعالى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } (1) »، والعدل في الحكم كما أمر الله بإعطاء كل ذي حق حقه.
ومنه قوله تعالى : { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (2). قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولّوا »(3). وفي روايةٍ: « ثم إنّ المقسطين، ثمّ الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزّ وجلّ وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا »(4).
__________
(1) الشورى/15.
(2) الحجرات/9.
(3) أخرجه مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر. أنظر : صَحِيْح مسلم، (3/1458) وصَحِيْح ابن حِبِّان (10/336) وموارد الظمآن (1/369).
(4) أخرجه مسلم في صَحِيْحه، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، (3/1453).والسُنَن الكبرى، كتاب القضاء (3/460). وصَحِيْح ابن حِبِّان بلفظ «ثمّ المقسطون عن يمين الرّحمن» (10/337). وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى ، بلفظ « ثمّ المقسطون ، ثمّ الله» (10/87). وموارد الظمآن (1/369) عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص.(1/62)
3- الإنصاف : ومنه قول الله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (1).فالآية تضمنت النهي للذين آمنوا من أن يحملهم بغضهم لقوم على أن لا ينصفوا لهم ويعدلوا معهم، لأن من يبغض قوماً يحمله بغضه على أن يكون ظالماً لهم، أو جائراً عليهم، أو معتدياً على حقوقهم في قوله، أو فعله أو حكمه أو لا بد أن يركب مركب الجريمة » وفي استخدام كلمة شنآن بمعنى البغض إشعار بأن البغض بغض شديد مضطرب متحرك»(2) ولهذا جاء مؤكداً الأمر بالعدل : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (3). وقَالَ سفيان بن عيينة : « سئل علي عن قول الله عزّ وجلّ { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } فقَالَ : العدل الإنصاف والإحسان التفضل »(4) ومنه قول الله تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } (5).
«
__________
(1) المائدة/ 8.
(2) الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكة: الخلافة الإسْلاميَّة وأسسها، (1/633).
(3) المائدة/ 8.
(4) الأَصْبَهَاني، أبو نعيم بن عبد الله: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، (7/291).
(5) النساء/129.(1/63)
لن تستطيعوا أن تحققوا العدل التام الكامل بين النساء وتسووا بينهن في المحبة والأنس والاستمتاع ولو بذلتم كل جهدكم لأن التسوية في المحبة وميل القلب ليس بمقدور الإنسان »(1) وعن عائشة(2) رضي الله عنها قَالَت :« كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: « اللّهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك »(3) ومراده القلب. وقَالَ عبد الله بن عَبَّاس ومجاهد(4) والضحّاك(5) «ولا بدّ من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع »(6)
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (1/750) ومختصر تفسير القرآن، (1/444).
(2) عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق ، العفيفة الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات ، أم المؤمنين، تزوجها النَّبِيّ قبل الهجرة بسنتين، توفيت سنة (57 هجرية). انظر: أُسد الغابة، (5/501).
(3) صَحِيْح ابن حِبِّان (10/5)، و سُنَن التِّرْمِذِي(3/446)، وسُنَن أبي داوود (2/242)، وسُنَن ابن ماجة (1/633) والمستدرك للحاكم (2/204)، وسُنَن الدَّارِمِيّ (2/193)، وسُنَن البَيْهَقِيّ (7/298)، ومُسْنَد أحمد (6/144) عن عائشة أم المؤمنين. وانظر: جمع الفوائد (1/594).
(4) هو مجاهد بن جبر، أبو الحجّاج المكي، مولى بني مخزوم، تابعي مفسر، وُلد سنة 21 هجرية. قَالَ الذَّهَبِيّ : « هو شيخ القراء والمفسرين» ، أخذ التفسير عن عبد الله بن عَبَّاس ، توفي عام 104 هجرية. انظر: سير أعلام النبلاء (4/449). وتهذيب التهذيب (10/42)، والأعلام (5/278).
(5) هو الضّحاك بن مزاحم البلخي، الخراساني ، أبو القاسم ، مُفسّر، كان يؤدب الأطفال، له كتاب في التفسير، توفي بخراسان سنة 105 هجرية. انظر: الأعلام (3/215).
(6) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (1/750) ومختصر تفسير القرآن، (1/445).(1/64)
4- المرضي المقنع في الحكم والشَّهادَة : ومنه قوله تعالى: : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } (1).
وقوله تعالى: { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } (2) أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين. وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هواده لأحدهما على الآخر بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم(3).
5- الفدية: ومنه قوله تعالى: { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا } (4). قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: « العدل الفدية »(5) « والفدية مماثلة الشيء بالشيء »(6) والمعنى: وإن بذلت تلك النفس سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك(7). ومنها قوله تعالى: { وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } (8). فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً(9) .
__________
(1) المائدة/106.
(2) البقرة / 282.
(3) الشَّوْكَاني : فتح القدير (1/300).
(4) الأنعام / 70.
(5) ابن كثير: مختصر تفسير القرآن، (1/62).
(6) الخازن، علاء الدين على بن محمد بن إبراهيم البغدادي: لباب التأويل في معاني التنزيل (1/48).
(7) الشَّوْكَاني، محمد بن علي بن محمد(1250هـ): فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير،(2/129)
(8) البقرة / 48.
(9) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (1/103).(1/65)
6- الميل والانحراف والإشراك: ومنه قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } (1).
__________
(1) النساء / 135.(1/66)
قَالَ الإمام ابن جرير(1): « يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي واعملوا فيه بأمري »(2) «ولا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم بل الزموا العدل على أي حال »(3) دون ميل أو انحراف عن الحق ، ومنه قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } (4) جعلوا له شريكاً وعدلاً واتخذوا له صاحبة وولداً تعالى الله عزّ وجلّ عن ذلك علواً كبيراً في جعلهم له العِدْلَ والنظير والمثيل وتسويتهم له مع غيره من المخلوقات. لذلك استنكر تعالى حالهم بقوله : { أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } (5). { يجعلون لله عِدْلاً ونظيراً } (6)
__________
(1) هو محمد بن جرير، أبو جعفر الطَّبَري، وُلد في آمل بطبرستان واستوطن ببغداد، عُرض عليه القضاء فامتنع. له كتاب التفسير، والتاريخ، واختلاف العلماء ، التبصير في أصول الدين، وغيرهم، توفي سنة 310 هجرية. انظر ترجمته في وفيات الأعيان ، (3/332)، وطبقات الشَّافِعِي ة للسبكي (3/120)، شَذَرات الذَّهَب (2/262)، تهذيب الأسماء واللغات (1/78)، المنتظم (6/170)، وسير أعلام النبلاء (14/267)، والأعلام، (6/69).
(2) الطَّبَري، محمد بن جرير : جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، (10/95).
(3) ابن كثير، مختصر تفسير القرآن (1/447).
(4) الأنعام/1.
(5) النمل / 60.
(6) ابن كثير، مختصر تفسير القرآن (1/567)..(1/67)
وهي الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله وليس لله عِدل ولا ند(1).
7- الاستواء في الأشياء: ومن قول الله تعالى: { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } (2)، جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة، منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال(3). فعن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصق يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قَالَ : « قَالَ الله عزّ وجلّ يا ابن آدم أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنّى أوان الصدقة »(4).
8-الوسطية:« والوسط في الشيء أعدله وخياره »(5) وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (6).
__________
(1) الشَّوْكَاني: فتح القدير الجامع بين فنيّ الروايّة والدرايّة في علم التفسير (2/99).
(2) الانفطار/7.
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (4/620) ومختصر تفسير القرآن، (3/611).
(4) مُسْنَد الإمام أحمد (4/210) واللفظ له.ومُسْنَد الشاميني (1/269)، والمستدرك على الصَحِيْحين (2/545) وقَالَ هذا حديث صَحِيْح ولم يُخرجاه، والترغيب والترهيب، (1/266) وقَالَ : رواه الترمذي، وقَالَ : حديث حسن غريب. ورواه أحمد عن أبي الدرداء ورواته كلّهم ثقات.
(5) الفيروزآبادي: القاموس المحيط (2/391).
(6) البقرة/143.(1/68)
قَالَ : « عدلاً »(1) وفي التنزيل { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } (2)، أي أعدلهم وخيرهم(3) وفي الحديث الشريف « خير الأمور أوسطها »(4).
فالعدل هو الوسط والوسط هو العدل والأمة الإسْلاميَّة هي « أمة تتصف من الله بالعَدالَة وأنها خيار »(5)، «والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين من الخصماء»(6).
... هذا وإذا ضممنا إلى هذا الحشد من آيات القرآن الآيات الآمرة بالقسط والداعية إليه وقد وردت في خمسة وعشرين موضعاً ثم جمعت إلى ذلك كله الآيات التي تنهى عن الظلم في مائتي وتسعة وتسعين موضعاً، والنهي عن الظلم دعوة إلى العدل، بان لنا من خلال ذلك كله مقدار ما أراد الشَّارِع للعدالة من سيادة في المجتمع في كل ميادين الحياة ومجالاتها وأهمها :
1- الولاية على الناس سواء أكانت ولاية خاصة أو ولاية عامة، ومن العدل فيها إسناد الأعمال إلى أهلها الأكْفاء .
__________
(1) رواه البُخَارِيّ في التفسير باب «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» (8/21) (4487) وفي الاعتصام باب «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»(3/328) (7349) والتِّرْمِذِي في التفسير سورة البقرة (8/237-238) والنسائي في التفسير من الكبرى (6/292)(1106)(1107) وأحمد (3/32) والطَّبَري (2/9) (2170) (2171) (2172).
(2) القلم/28.
(3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (2/153-154).
(4) قَالَ السَّخَاوي في المقاصد الحسنة (455): رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد بسند مجهول عن علي مرفوعاً به وذكره الشَّوْكَاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (742) ص(251) وانظر كشف الخفاء (1/391) ومصنف ابن أبي شيبه بلفظ (خير أموركم أوسطها) (7/186) والجامع الصغير للسيوطي (1/224) ط. طائر.
(5) الجصاص : أبو بكر الرَّازي الحنفي، أحكام القرآن ، (1/88).
(6) الرَّازي : الإمام فخر الدين: التفسير الكبير المُسمى بـ مفاتيح الغيب (2/6).(1/69)
2- القضاء ويكون في الفصل بين الخصماء، بإعطاء كل ذي حق حقه أو ما يساويه إلى مستحقيه ويكون بالتسوية بين الخصماء في مجلس القضاء وبإقامة الحدود والجزاءات والقصاص بالمقدار الذي يكافئ ذنب المذنب ويكافئ حق الله عباده أو حق الناس على الناس.
3- الشَّهادَة ، وذلك بأن يشهد الشاهد شهادة مساوية لما يمليه عليه أصحاب العلاقة فيها ومساوية للحق الذي يعلمه فيها.
4- معاملة الزوجات وذلك بأن يعطي كلاً منهن نصيبها من النفقة والسكن والمبيت بالعدل.
5- معاملة الأولاد ويكون العدل فيها بالتسوية بينهم بالعطاء والتربية وغير ذلك مما يملكه الإنسان.
6- الكيل والميزان بأن يكيل ذو الكيل ويزن ذو الوزن بالقسطاس المستقيم.
7- الأنساب بأن يُنسب الإنسان إلى أبيه الذي ولده لا إلى آخر يتبناه فنسبته إلى غير أبيه شهادة كاذبة.
8- الإصلاح بين الفئات المتقاتلة بين المسلمين فيجب إتباع قواعد العدل في الإصلاح بين الناس.
إلى غير ذلك من أمور تتطلب عدلاً بقدر حقوق أصحاب الحقوق فيها.
... وكذلك انتقل لفظ العَدالَة في العرف العام في صدر الإسلام من معناه اللغوي إلى المعنى الشَّرْعي، حتى صار هذا اللفظ عند إطلاقه لا يُفهم منه إلا معنى الالتزام بالإسلام والاستقامة على الدين فتوافق الوضع الشَّرْعي والوضع العرفي على معنى واحد للفظ العَدالَة .
1- ومن ذلك ما ورد من حديث عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنه:« قالوا وما يُغني عنا الإسلام وقد عَدَلنا أي أشركنا به وجعلنا له مثلاً»(1). وعن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ : في قوله تعالى: { عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } (2) قَالَ : « لعادلون »(3).
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ (4/1785) وصَحِيْح مسلم (4/2318).وانظر: تفسير الطَّبَري (5/219) و(19/42)و(19/43) وتفسير ابن كثير (4/66).
(2) المؤمنون / 74.
(3) ابن جرير الطَّبَري : التفسير (18/44).(1/70)
2- قول عبد الله بن رواحة(1) لما بعثه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ليخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقد رواه مالك بن أنس قَالَ : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر فجمعوا له حلياً من حلى نسائهم فقَالوا له: خذ هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم فقَالَ عبد الله بن رواحة يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم أمّا ما عرضتم من الرَّشْوَة فإنها سحت وإنا لا نأكلها. وفي رواية « وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقَالوا: بهذا قامت السموات والأرض »(2).
__________
(1) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عَمْرو بن امرئ القيس بن سلك بن ثعلبة. الخزرجي الأنصاري، الشاعر المشهور، يُكنى بأبي محمد، ليس له عقب، من السابقين الأولين من الأنصار، شهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. انظر : ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة ،(2/306-307). وابن الأثير: أسد الغابة (3/151).
(2) رواه مالك في المُوطأ، كتاب المساقاة ، باب ما جاء في المساقاة عن سعيد ابن المُسَيِّب ، (2/704)، و أخرجه البَيْهَقِيّ عن ابن عمر فذكر الحديث بطوله في قصة خيبر وأنظر حياة الصحابة، للكاندهلوي (2/108). وتفسير ابن كثير (1/566) ومُسْنَد أحمد (2/24) ومصنف عبد الرزاق (8/103).(1/71)
3- وفي رسالة عمر بن الخطَّاب المشهورة لأبي موسى الأشعري(1) رضي الله عنه: « آس(2) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك(3) ولا ييأس ضعيف من عدلك»(4)
وهكذا يتجلى لنا أن مادة – ع د ل – في العرف العام، في صدر الإسلام باتت لا تخرج عن الإطار الشَّرْعي المتمثل بالالتزام والاستقامة في الدين.
العَدالَة في الوضع العرفي الخاص(5)
__________
(1) هو عبد الله بن قيس، من الولاة الفاتحين من أهل اليمن، قدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم ثمّ هاجر إلى الحبشة، استعمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على زُبيد وعدن، واستعمله عمر على البصرة، كان أحسن الصحابة صوتاً، له 355 حديثاً، توفي في الكوفة عام 44 هجرية. انظر: سير أعلام النبلاء، (2/380). وتهذيب التهذيب (5/362). والأعلام (414).
(2) آس : سوّ بينهم.
(3) حيفك: أي ميلك معه لشرفه.
(4) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : أعلام الموقعين عن ربّ العالمين (1/154) وقَالَ : هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشَّهادَة ، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه.
(5) العرف الخاص: هو ما كان جارياً على ألسِنة العلماء من الاصطلاحات التي تخصّ كلَّ علم، فإنها في استعمالها حقائق وإن خالفت الأوضاع اللغوية، وهذا نحو ما يجريه المتكلمون في مُباحثاتهم في علوم النظر كالجوهر والعرض، وما يستعمله النحاة في مواضعاتهم من الرفع والنصب فصارت هذه المصطلحات مستعملة في غير مجاريها الوضعية، يفهمونها فيما بينهم، وتجري في الوضوح مجرى الحقائق اللغوية ( أنظر: ابن يحيى، الطراز (1/54)).(1/72)
إنّ علماء الشَّرِيعَة الإسْلاميَّةلم يصطلحوا على معنى خاص للفظ العَدالَة في علومهم التي عالجوها، وإنما تبنوا المعنى الشَّرْعي، والمعنى العرفي العام، وهو الاستقامة على الحق، إلا أن عباراتهم قد تباينت بين عموم وخصوص بسبب تنوع موضوعاتهم المبحوثة كالرواية والشَّهادَة والإمامة والمعاملة والأخلاق.(1/73)
1- قَالَ ابن كثير: العدل هو المسلم البالغ العاقل الذي سَلِمَ من أسباب الفسق وخوارم المروءة(1) وأن يكون مع ذلك متيقظاً غير مغفل إن حدّث من حفظه فاهماً إن حدّث على المعنى فإن اختل شرط مما ذكرنا ردت روايته(2) ونظير هذا عرف ابن الصلاح(3) وقَالَ: توسع ابن عبد البَرِّ (4) فقَالَ : « كل حامل علم معروف العناية فهو عدل محمول أمره على العَدالَة حتى يتبين جرحُه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدلُه »(5)
__________
(1) والعدل هو المسلم البالغ العاقل الذي سلم من أسباب الفسق وخوارم المروءة. على ما حقق في باب الشهادات من كتب الفقه. إلا أن الرواية تخالف الشَّهادَة في شرط الحرِّيَّة والذكورة وتعدد الراوي. وقد كتب العلامة القرافي في الفروق فصلاً بديعاً للفرق بين الشَّهادَة والرواية. أنظر القرافي، شهاب الدين الصنهاجي، (684هـ) الفروق، (1/22).
(2) شاكر، أحمد محمد الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للإمام ابن كثير، ص(87).
(3) هو عثمان بن عبد الرحمن (صلاح الدين ) بن عثمان النصري، أبو عمر المعروف بابن الصلاح من فضلاء الشَّافِعِية ومقدميهم في التفسير والحديث والفقه، درّس في القدس ودمشق، وتوفي فيها عام 643 هجرية. من مؤلفاته : معرفة أنواع الحديث. انظر : السبكي: طبقات الشَّافِعِية ، الأعلام (4/207-208).
(4) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البَرِّ النُّمري القرطبي المالكي أبو عمر من كبار الحفّاظ والفقهاء، مؤرخ أديب، يقَال له حافظ المغرب، وُلد بقرطبة سنة 368هجرية ورحل إلى الأندلس ووليّ قضاء بعض بلدانها، توفي بشاطبة سنة 463 هجرية. له كتب مشهورة منها: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. انظر سير أعلام النبلاء، (18/153). الأعلام (8/240).
(5) داود، د. محمد سليمان وعبد المنعم، د. فؤاد المرجع السابق (168)..(1/74)
وفيما قَالَه اتساع غير مرضي »(1).
2- وقَالَ ابن رشد: « واختلفوا فيما هي العَدالَة، فقَالَ الجمهور هي صفة زائدة على الإسلام وهو أن يكون ملتزماً لواجبات الشَّرْع ومستحباته مجتنباً للمحرمات والمكروهات وقَالَ الإمام أبو حنيفة : يكفي في العَدالَة ظاهر الإسلام وأن لا تعلم منه جُرْحه»(2).
3- وقَالَ الماوردي: « العَدالَة في اصطلاح الفقهاء من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغلب ثوابه واجتنب الأفعال الخبيثة»(3).
وفي موطن آخر يقول :«إن الدين المشروع هو الحق، وهو العدل.. فالعدل استئمار دائم والجور استئصال منقطع»(4) ويقول عند كلامه على شروط الإمامة في الإسلام : « فالشروط المعتبرة فيهم سبعة، أحدهما : العَدالَة على شروطها الجامعة »(5) وفي مواضع أخرى جعل العدل القاعدة الثالثة من القواعد التي يدور عليها صلاح أمر الدنيا وفسّرَ العدل بقوله : « العدل الشامل .. ويكون من الإنسان مع من هو دونه كالسلطان مع الرعية، فيحكم بينهم بالحق، وقد يكون بإخلاص الطاعة وبذل النصرة وصدق الولاء كالرعية مع السلطان، وقد يكون مع الأَكْفاء وذلك بترك التطاول عن الآخرين وكف الأذى عنهم»(6).
__________
(1) ابن الصلاح، أبو عَمْرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (642م)(1244م)، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص(50).
(2) ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي(595هـ) بداية المجتهد ، (2/462).
(3) الماوردي، علي بن محمد بن حبيب البَصْرِي، البغدادي ( أبو الحسن ) : الأحكام السلطانية ، ص(94).
(4) داود، د. محمد سليمان ، وعبد المنعم، د. فؤاد، من أعلام الإسلام أبو الحسن الماوردي، ص(127).
(5) الماوردي، أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب البَصْرِي، البغدادي: الأحكام السلطانية ، ص(6-17).
(6) الماوردي، أبو الحسن، أدب الدنيا والدين، ص(141-142).(1/75)
وفي موطن آخر جعل العَدالَة المساواة أمام القانون « والعَدالَة أن يسوي بين الخصوم ... دون تمييز بين الشريف والمشروف والمسلم وغير المسلم».
وقَالَ ابن قُدامة: « العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله »(1).
وقَالَ المقدسي: « العَدالَة هي استواء أحواله في دينه واعتدال أقواله وأفعاله وهو أن لا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة»(2).
وقَالَ الخطيب الشربيني(3):« العَدالَة اجتناب الكبائر واجتناب الإصرار على الصغائر»(4).
وقَالَ صاحب الكفاية: «للعدالة خمس شرائط أن يكون مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر، سليم السريرة مأموناً عند الغضب محافظاً على مرؤة مثله(5) .
__________
(1) ابن قُدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي (630هـ) : المُغْني على مختصر الخرقي، ص(32).
(2) ابن قُدامة المقدسي، شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قُدامة المتوفى سنة (682) : الشرح الكبير متن المقنع، (12/37).
(3) الشربيني ، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الشربيني، فقيه شافعي أصولي مصري، ولّيّ مشيخة الأزهر كان ورعاً زاهداً ، توفي في القاهرة 1326هـ. من مصنفاته: مغني المحتاج في شرح منهاج الطالبين، والإقناع في حل ألفاظ ابي شجاع.
انظر الزِّرِكْليّ، الأعلام، (4/110).
(4) الشربيني، الشيخ محمد: المُغْني المحتاج، ص(4/427).
(5) الحسيني، الإمام تقيّ الدِّين أبو بكر محمد: كفاية الأخيار، (2/170).(1/76)
وقَالَ ابن تَيْمِيَّة : « العَدالَة: الاستقامة، والعدل هو كل ما دل عليه الكتاب والسنة سواء في المعاملات المتعلقة بالحدود أم غيرها من الأحكام... فإن العدل في كل ذلك هو ما جاء في الكتاب والسنة فإن عامة ما نهى عنه الكتاب من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم دقه وجله مثل أكل المال بالباطل، وفي موضع آخر يقول: العَدالَة إقامة الحدود التي حدها الله تعالى والمحافظة على الحقوق التي طلبها الله تعالى »(1) .
وقَالَ ابن تَيْمِيَّة: « العدل من انتفى فجوره وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة فإذا انتفى إتيانه لكبيرة وانتفى إصراره على الصغيرة انتفى فجوره وكان عدلاً»(2).
وقَالَ الحسن البَصْرِي: «استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى»(3).
وقَالَ ابن حَزْم: «حد العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه وحد الجور أن تأخذه ولا تعطيه»(4)
وقَالَ ابن خلدون: « العَدالَة هي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه وحقيقة هذه الوظيفة، القيام عن إذن القاضي بالشَّهادَة بين الناس فيما لهم وعليهم... وشروطها الإنصاف بالعَدالَة الشَّرْعية والبراءة من الجرح... وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة... وبين العَدالَة الشَّرْعية التي هي أخت الجرح وقد يتواردان ويفترقان»(5).
__________
(1) ابن تَيْمِيَّة: السِّياسَة الشَّرْعية في إصلاح الراعي والرعيّة، ص(15،67،156) وأنظر ابن تَيْمِيَّة الفتاوى ، (10/98) و (13/64).
(2) ابن تَيْمِيَّة، أحمد بن الحليم الحراني (728هـ) : مجموع فتاوي شيخ الإسلام، (15/338).
(3) الحسيني: كفاية الأخيار (2/171).
(4) ابن حَزْم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد حَزْم الأندلسي الظاهري (456هـ) : الأخلاق والسير، ص(31).
(5) ابن خلدون، عبد الرحمن بن الحضرمي: مقدمة ابن خلدون، ص(187-188).(1/77)
وقَالَ الغَزَالي(1) : « العَدالَة عبارة عن وقوع هذه القوى – الحكمة والشجاعة والعفة – والعَدالَة على الترتيب الواجب فيها تتم جميع الأمور ولذلك قيل بالعدل قامت السموات والأرض... أما العدل فهو حالة للقوى الثلاث في انتظامها على التناسب بحسب الترتيب الواجب في الاستعلاء والانقياد، فليس العدل جزءاً من الفضائل بل هو عبارة عن جملة الفضائل... وكذلك العدل في مملكة البدن... والعدل في أخلاق النفس يتبعه لا محالة العدل في المعاملة والسِّيَاسِيَّة، ويكون كالمتفرع منه، ومعنى العدل: الترتيب المستحب. إما في الأخلاق وإما في حقوق المعاملات وإما في أجزاء ما به قوام البلد، والعدل في المعاملة وسط بين رذيلتين: الغبن والتغابن، والعدل في السِّيَاسِيَّة ترتيب أجزاء المدينة ترتيباً مشاكلاً لترتيب أجزاء النفس»(2)
نخلص من كل ما سبق أن لفظة العَدالَة في الاصطلاح متباينة الحدود لاعتماد الفقهاء في اصطلاحهم على صفات معينة رأوا أن لا بد من توافرها ليتسم بالعَدالَة في قوله أو فعله أو حاله، بمعنى أنهم قصروا الحد على جزء من التكاليف الشَّرْعية، والعَدالَة أعم وأشمل حسب ورودها في النُّصُوص الشَّرْعية.
__________
(1) هو محمد بن محمد بن محمد الغَزَالي، الطوسي ، الشَّافِعِي ، أبو حامد ، الملقب بحجة الإسلام، قَالَ ابن السبكي: « جامع أشتات العلوم، والمبرز في المنقول منها والمفهوم» من تصانيفه « المستصفى» و « المنحول » في أصول الفقه و« الوسيط » و «الوجيز» و«الخلاصة» في الفقه، و« تهافت الفلاسفة» و«إحياء علوم الدين» توفي سنة (505هـ). أنظر ترجمته: وفيات الأعيان (3/353) شَذَرات الذَّهَب (4/10).
(2) الغَزَالي أبو حامد محمد بن محمد (505هـ)، ميزان العمل، ص(76،81-82).(1/78)
وعليه فإن التعريفات الموضوعة للعدالة في معنى الشَّرْع تناولت أصلاً من أصولها أو مجالاً من مجالاتها دون أن تكون جامعة مانعة تضم الأصول وتلم المجالات في معنى محدد ولذلك لا تصلح أن تكون معنى شرعياً عاماً لمفهوم العَدالَة .
فالمعنى الشَّرْعي الدقيق بحسب الاستعمال القرآني لكلمة العَدالَة وتنوع استعمالاتها في العديد من المجالات وفي كل شؤون الحياة الخاصة والعامة السِّيَاسِيَّة منها والاجْتِمَاعِيَّة والقانونية وغير ذلك هو الالتزام بالإسلام ليس غير. قَالَ تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } (1) وقَالَ سبحانه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (2).
ويمكن أن نعرفه: بأنه المساواة بين التصرف وبين ما يقتضيه الحق دون زيادة ولا نقصان. ومن أجل ذلك كان الميزان رمزاً لإقامة العدل، وفي هذا المعنى يقول ابن تَيْمِيَّة: « العدل هو كل ما دل عليه الإسلام – الكتاب والسنة – سواء في المعاملات المتعلقة بالحدود أو غيرها من الأحكام »(3).
__________
(1) الأنعام / 115.
(2) الحديد / 25.
(3) ابن تَيْمِيَّة: السِّياسَة الشَّرْعية في إصلاح الراعي والرعيّة، ص(15) وص(156). وأنظر الجرجاني علي بن محمد بن علي: التعريفات، ص(147).(1/79)
وورد عن ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة(1) قوله : « ومن له ذوق في الشَّرِيعَة... تبين له أن السِّيَاسِيَّة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها»(2). ويقول القرطبي(3)عن ابن عطية: « العدل : هو كل شيء مفروض من عقائد وشرائع »(4). ويقول الإمام الغَزَالي: « عدل العبد أن يستعمل وظيفته التي أذن الشَّرْع بها وأن يجعل هواه أسيراً للدين »(5).
__________
(1) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، الدمشقي، شمس الدين أبو عبد الله ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة، الفقيه، الأصولي، المفسر، النحوي، قَالَ عنه الشَّوْكَاني : « برع في جميع العلوم، وفاق الأقران واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف». من كتبه «مدارج السالكين» و «زاد المعاد» و«إعلام الموقعين» توفي سنة (751هـ) . أنظر ترجمته في : ذيل طبقات الحنابلة (2/447)، الدرر الكامنة (4/21) بغية الوعاة (1/62) طبقات المفسرين للداودي (2/90) شَذَرات الذَّهَب (6/168).
(2) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة، محمد بن أبي بكر : الطرق الحكمية في السِّيَاسِيَّة الشَّرْعية، ص(4-5).
(3) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح – بفتح الفاء وسكون الراء – الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الله القرطبي، الفقيه المفسر، من مؤلفاته « أحكام القرآن » في التفسير، و«شرح أسماء الله الحسنى» و«التذكار في أفضل الأذكار» و«التقصي» وغيره توفي (671هـ). أنظر ترجمته في الديباج المذهب(2/308) شجرة النور الزكية ص(197)شَذَرات الذَّهَب (5/335).
(4) القرطبي، أبو عبد الله بن أحمد الأنصاري (671هـ)، الجامع لأحكام القرآن (10/165-0166).
(5) مغنية، محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، ص(179-180).(1/80)
وهذه الأقوال تؤكد لنا أن المعنى الشَّرْعي للعدالة يكمن في الالتزام بالإسلام والالتزام هو الاستقامة على الدين وهو الصراط المستقيم فغاية الأمر أن الله تعالى أنزل ديناً قيماً وأمرنا بالإيمان والاستقامة وهذا يتطلب أن تستقيم وفق توجيهاته وأحكامه وهذه الاستقامة هي العَدالَة .
المبحث الثاني
مفهوم العَدالَة عند الأمم
والديانات السماوية السابقة
ويشتمل على أربعة مطالب :
1- المطلب الأول ... : ... العَدالَة في المجتمع البشري القديم.
2- المطلب الثاني ... : ... العَدالَة عند اليهود .
3- المطلب الثالث ... : ... العَدالَة عند النصارى.
4- المطلب الأول ... : ... العَدالَة في شبه الجزيرة العربية.
... من خلال مطالعتي في بعض الدراسات التي تناولت المجتمع البشري القديم، وأنظمته في الحياة وجدت أن فئة من العلماء والباحثين قد وقعوا في خطأين:
الأول : أنهم بنوا نظرياتهم على مجرد الظن والافتراض والحدس والتخمين. يقول جان جاك روسو(1) وهو يتحدث عن نظريته في نشوء السلطة وأنها كانت بعقد اجتماعي: «إني أفترض»(2)، مثله ول ديورانت(3) صاحب كتاب (قصة الحَضَارَة) بدأ كلامه بقوله : « سوف أفترض»(4).
__________
(1) روسو، جان جاك، (1712-1778) كاتب فرنسي ولد في جنيف له تآليف فلسفية واجتماعية، نادى فيها بطبيعة الإنسان وبالعودة إلى الطبيعة منها: العقد الاجتماعي، آميل، اعترافات وكان لمبادئه تأثير في نشأة الثورة الفرنسية والرومانطيقية. فردينان، المنجد في الأعلام، ص(312-313).
(2) متولي، د. عبد الحميد : مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص(571).
(3) ول ديورانت (1303-1402هـ) ، (1885-1981م)، المؤرخ والفيلسوف الأمريكي صاحب موسوعة قصة الحضارة، نال جائزة نوبل للآداب عام (1968م).
(4) ديورانت ول : قصة الحَضَارَة، ترجمة محمد بدران، ص(1/24).(1/81)
إذن فهذه الدراسات ظن وتخمين، ومجملها يمليه الهوى والخضوع لسلطان الاتجاه العقدي، فقد حاول الشيوعيون أن ينحتوا من التاريخ الأول ما يوافق مبدأهم في الحياة والإنسان والكون فوصفوا الإنسان الأول بالإباحية المطلقة في المال والجنس. كما حاول الرأسماليون إثبات الحرِّيَّة المطلقة في التَّمَلُّك والتصرف، والكل إنما يبنى تصوره على مجرد الحدس والتخمين. وبين الفريقين ثلّة من العلماء بنت تصورها على المجتمعات الإنسانية القديمة من خلال دراستها لحياة القبائل المتوحشة والجماعات البدائية التي تعاصر زماننا كجماعات البوشمن في أفريقيا الجنوبية وجماعات الأسكيمو في أمريكا وجماعات الفدا التي تقطن شرق جزيرة سيلان وقبيلة الأروبنتا في أستراليا وغيرها(1).
... وهذا النوع من الدراسات لا يمكن الاعتماد عليه والركون إليه فما هو إلا آراء واجتهادات ونظريات قائمة على الأوهام والافتراضات والخطأ فيها يطغى على الصواب، فكيف لنا أن نستنتج أعراف وعادات وتقَاليد أمّة من الأمم مغيبة في واقعها، ونحكم عليها وندعي الحكم معرفة وعلماً وما كانت الأحكام متفقة بين الباحثين؟!
وكيف لنا أن نحكم على تاريخ الجماعات البدائية في زماننا بالانحطاط ونحن نرى من خلال التاريخ حضارات سادت ثم بادت؟! ومن ذا الذي يستطيع الجزم أن المجتمع البشري القديم لم يكن أحسن حالاً من هذه الجماعات، ثم تأخرت بدل أن تتقدم لانتفاء عوامل نهضتها؟!
... وفي عصرنا الحاضر الذي بلغ الإنسان فيه شأواً كبيراً من التقدم في المجالات المادية نجد قبائل مجهولة وبعيدة عن أعين العالم. فالحياة الاجْتِمَاعِيَّة لجميع أفراد البشرية لا يمكن أن تسير في خط بياني واحد.
__________
(1) أنظر: ... شاكر، الأستاذ محمود: الجماعات البدائية، ص(34) وما بعدها.
... حنبولة، د. محمود علي: الوظيفة الاجْتِمَاعِيَّة للملكية الخاصة، ص(23-26).(1/82)
ومن المعلوم في الدراسات العلمية أنه إذا كان هنالك أكثر من فرضية في تفسير أمر معين فإنه لا يصح تبني أية فرضية منها إلا إذا استبعدت جميع الفرضيات الأخرى بالدليل المقنع، وحيث لا دليل لدى أصحاب هذه الدراسة، فإن رأيهم لا تقوم به حجة.
الثاني: إطلاق وصف التوحش والقسوة والأنانية والانزواء على جميع المجتمع البشري الأول، بل إنّ المطلع على ما كتب في تصوير الحياة البشرية الأولى بعيداً عن منهج القرآن والسنة، ليجد من الغرائب الشيء الكثير من قول بوحشية الإنسان الأول وشيوعية الجنس، وأن وحدة بناء المجتمع الأول هي القبيلة، وليست الأسرة التي لم يكن لها وجود إنما كانت تقوم مقامها الفوضى الجنسية والمالية(1).
ونجعل عيوب هذه الدراسة في أمور خمسة :
الأول : إن هذه الدراسة لم تسلم من الأهواء المنبثقة من المفاهيم المادية المنحرفة كالشيوعية والرَّأْسُماليَّة، فكل واحد من الاتجاهين يحاول أن يجعل من تحريفه وتزييفه لواقع البشرية الأولى تبريراً لمفاهيمه المطروحة اليوم ومفاسده الجاثمة على أرضه.
الثاني : إن هذه الدراسة لما قبل تدوين التاريخ وهي عصور يجهل الناس أكثر شؤونها لعدم توافر المعلومات الكافية عن طريق الدراسات التاريخية المتخصصة. فكل ما نعرفه عن التاريخ قبل خمسة آلاف سنة قليل، أما ما نعرفه قبل عشرة آلاف عام فيعتبر أقل من القليل وما قبل ذلك فيعتبر مجاهيل لا يدري علم التاريخ من شأنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقيقة ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
__________
(1) أنظر: ... - ديورانت ول: قصة الحَضَارَة م1 ج1 ، ص(39) وما بعدها.
... - عبد القادر، د. علي أحمد: دراسات في المذاهب السِّيَاسِيَّة، ص(7) وما بعدها.
... - الخشاب، د. مصطفى: النظريات والمذاهب السِّيَاسِيَّة، ص(90).
... - جامع، د. أحمد: الاقتصاد الاشتراكي، ص(8-9).
... - حنبولة، د. محمود علي: الوظيفة الاجْتِمَاعِيَّة للملكية الخاصة، ص(11) وما بعدها.(1/83)
وبالتالي فإن الحقائق التي ورثها الإنسان اختلطت بباطل كثير بل ضاعت في أمواج متلاطمة واسعة من الزيف والدجل والتحريف ومما يدل على ذلك أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصية أو جماعة ما في العصر الحديث تعتبر من أشق الأمور فكيف بتاريخ يمتد إلى فجر البشرية.
ولذا فإن المصدر الحق لدراسة انطلاقة البشرية الأولى هو القرآن والسنة لأنهما تضمنا حقائق تاريخية ثابتة: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } (1).
الثالث: إنهم قدروا أن الإنسان الأول خلق خلقاً ناقصاً، غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى الكاملة، بل أن تصوراتهم عن الإنسان الأول تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.
الرابع: أنهم ظنوا أن الإنسان اهتدى إلى المفاهيم المجردة: كالعدل والظلم والفضيلة والخير والشر بنفسه بدون معلم يعلمه ومرشد يوضح له وأنه ترقى في معرفته بالله والفضيلة كما ترقى في العلوم والصناعات.
الخامس: أنهم بحثوا في الأديان ليتبينوا تاريخها فلم يجدوا أمامهم إلا تلك الأديان المحرفة أو الضالة فجعلوها ميدان بحثهم، فأخضعوها للدراسة والتمحيص، وأنّى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الأديان التي تمثل انحراف الإنسان في فهم العقيدة؟!
ولقد صوّر القرآن الكريم المجتمعات البشرية الأولى بأنها نشأت أساساً من آدم وحواء اللذين شكّلا أول أسرة في تاريخ البشرية، انبثق منها أول تجمع بشري على وجه الأرض وأن الهداية الربانية قد حفت البشرية منذ اللحظة الأولى، حيث لم توجد في الأرض لتكون شيئاً مهملاً يعيش حياة الفوضى لا يعرف للعدل باباً.
ومن الأدلة على ذلك :
__________
(1) آل عمران / 5.(1/84)
أولاً: تكريم الله للإنسان وخلقه في أحسن تقويم { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } (1).يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية:« كرمنا تضعيف كرم، أي جعلنا لهم كرماً أي شرفاً وفضلاً، وهذا التكريم نفي النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة... وتخصيصهم بما خصّ به من المطاعم والمشارب والملابس... والصَحِيْح الذي يعول عليه أن التفضيل أنما كان بالعقل، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشَّرْع الشمس ومثال العقل العين فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء»(2).
__________
(1) الإسراء / 70.
(2) القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، (671هـ): الجامع لأحكام القرآن ، (10/293-294).(1/85)
ثانياً: لقد اتصلت البشرية بالوحي الإلهي والتوجيه الرباني من أول يوم عاشته على ظهر هذه الأرض. قَالَ تعالى : { فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (1). فكيف يصور الباحثون في تاريخ المجتمعات القديمة من علماء الاجتماع والتاريخ هذه الحياة بالوحشية والبربرية والإباحية والفوضى ودون أن يتصلوا بالمفاهيم المجردة كالعدل والاستقامة. وما فتئ التشريع الرباني مواكباً سير البشرية { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِير } (2) ينظم أحكام المال ويقيد مساره استغلالاً واستهلاكاً وانتقَالاً منه إلى غيره تحقيقاً للعدالة، وما العدل إلا أمر إلهي وقاعدة سنها الله تعالى في الخلق تكويناً، وللخلق تشريعاً فهو سنة الله تعالى في خلقه، وحب العدل يوافق فطرة الله التي فطر عليها الناس، وتطبيق النظم العادلة يتناسب مع تكريم الله تعالى للإنسان المستخلف في الأرض، لأن العدل يحقق له عزّته وكرامته، ويحفظ له شخصيته الآدمية محررة من العبودية لبشر أو حجر أو هوى.
ومن هذا المنطلق كانت المجتمعات البشرية القديمة تعرف معنى العدل والظلم بما حباهم الله من عناية وتوجيه وترشيد بواسطة الوحي وما من انحراف عن جادة الصواب وتداخل في حدود الله إلا من غواية الشيطان. قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« قَالَ الله تعالى : وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم »(3).
__________
(1) البقرة / 37.
(2) فاطر / 24.
(3) صَحِيْح مسلم، صفة الجنة (4/2197) عن عياض بن حِمار المجاشعّي وأحمد في المُسْنَد (4/262) بمعناه وصَحِيْح ابن حِبِّان (2/423) والسُنَن الكبرى للنسائي (5/26).والمعجم الأوسط ، (3/206). والمعجم الكبير (17/358). وفتح الباري (3/248).(1/86)
... ومما يشهد لهذا الاجتيال ما شهده العالم في التاريخ القديم من حضارات سادت أرجاؤها كالحَضَارَة المصرية والسومرية والأشورية والبابلية والفارسية واليونانيَّة والرومانية فقد انحرفت عن العدل الإلهي في تسيير حياتها وشوؤنها لتعلقها بالوثنية، ولا يعني هذا أنها لم تعرف العدل بل عرفته إلا أنها لم تكن تعرف حدود كل من العدل ونقيضه الظلم فالحدود متداخلة بينها شأنها في ذلك شأن أكثر المعاني المجردة إذ ذاك بسبب خضوع الشعوب لموروث عاداتها وأعرافها فسنّت الأنظمة وشرعت القوانين وألزمت الرعية بالاحتكام إليها وقد وصل إلينا من هذه القوانين الوضعية التي ما زال بعضها محفوظاً في المتحف البريطاني وغيره. وبعضها الآخر دلت عليه الاكتشافات الأثرية الحديثة.
... وسنكتفي بعرض جملة من مبادئ ومفاهيم بعض هذه القوانين التي تظهر لنا العَدالَة في تلك المجتمعات البشرية القديمة.
1-« يزعم صاحب قصة الحَضَارَة بأن القوانين المَدَنيَّة والجزائية في مصر القديمة غاية في الرقي، وإن الناس جميعاً متساوون فيها مساواة تامة أمام القانون كما هم متساوون أمامه في هذه الأيام...ومن القوانين المتبعة أن الحانث بيمينه يعاقب بالإعدام...وأن المذنب يتعرض إلى عقوبة قد تكون بجدع أنفه أو صلم أذنه أو قطع لسانه أو نفيه أو إعدامه بالشنق أو بالمخزق أو بقطع رأسه أو بإحراقه مصلوباً أو بأشد ضروب العقاب بتحنيطه حياً »(1).
« وإن قانون حمورابي(2)
__________
(1) ديورانت، ول: قصة الحَضَارَة، ترجمة زكي نجيب محمود (3/90-91).
(2) سادس ملوك بابل، وأشهرهم كان بين (792-750 ق.م) وضع قانوناً في حوالي ثلاثمائة مادة.
انظر الموسوعة الميسرة ،ص(1130)..(1/87)
يمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقصى العقوبات وأشدها وحشية وتضع قانون التحكيم الإلهي وهو إثبات الجريمة على المتهم أو نفيها عند إلقائه في الماء أو في النار فإن نجا كان بريئاً وإلا عُدَّ مذنباً»(1).
ولقد جاء في المقدمة : « أنا حمورابي الملك الذي اختارتني الآلهة نيابة عنها لحكم البشر وإسعادهم ونشر العدل بين الناس، والقضاء على الشر والسوء حتى يطغى القوي على الضعيف»، وورد في الخاتمة : « أنا حمورابي الملك العادل و الكامل ... أنا الذي تسلم القوانين من شماش إله الشمس والحقيقة والعَدالَة»(2).
« وتكشف لنا قوانين حمورابي عن بنية المجتمع البابلي في ذلك العصر، وتطلعنا على أي الفئات الاجْتِمَاعِيَّة كان يعتمد الملوك في حكم البلاد. ومن خلال قوانين حمورابي، نستطيع التعرف إلى الطبقات والفئات الاجْتِمَاعِيَّة للمجتمع البابلي، وعلاقاتها الحقوقية »(3).
« فلقد كان أفراد الطبقة العليا من الأحرار ( الأمبلو ) يتمتعون بالحقوق كافة ولهم السيادة في المجتمع... وكان أفراد الطبقة العامة (الموشكينو) من فقراء الأحرار ومن الأرقاء الذين تحرروا ومن أبناء الرجال الأحرار الذين تزوجوا بإماء، وهؤلاء يمارسون مختلف المهن، ولكنهم غير متساوين في الحقوق المَدَنيَّة، فلقاء التشويه الذي يسبب لشخص من (الأمبلو) كان المذنب يعاقب بتشويه مماثل العين بالعين والسن بالسن حسب المادة (196) من القانون، أما لقاء التشويه لأحد أفراد ( الموشكينو ) فكانت العقوبة تقتصر على دفع غرامة واحدة ميناً من الفضة حسب المادة (198) من القانون »(4).
__________
(1) ديورانت، ول: قصة الحَضَارَة (3/90-91).
(2) دلو، برهان الدين: حضارة مصر والعراق، ص(399-400).
(3) دلو، برهان الدين: حضارة مصر والعراق، ص(399-400).
(4) دلو، برهان الدين: حضارة مصر والعراق، ص(399-400).(1/88)
هذا، ويرى الباحثون أن هناك قوانين قد سبقت حمورابي ليُعَرف أن ما سنّه حمورابي لم يكن من لَدُنْه بل أخذ من هذه التشريعات وسار على منوالها وطورها بما يلائم المتغيرات الاقتصادية والاجْتِمَاعِيَّة والسِّيَاسِيَّة المستجدة في عصره. ومن تلك القوانين قانون أورنمو وأشنونا وليبيت عشتار(1).
وهذه القوانين بمجملها تشير إلى عدم المساواة في المجتمع المصري القديم، وما ورد في مقدمة القانون من عبارات، وجمل طنانة من أمثال: نشر العَدالَة وإسعاد الناس، فهي شكل من أشكال القوانين الصورية قصد منها امتصاص نقمة الجماهير، وتضليلها، وتمويه وإخفاء الطابع الطبقي الاستغلالي للقانون إذ يستحيل تحقيق ما يُمسى بـ (العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة) في ظل مجتمع ملكي تكون فيه وسائل الإنتاج ملكاً بيد أقليّة من أفراد المجتمع ويسمح باستغلال الإنسان للإنسان.
... فأية عدالة اجتماعية هذه وقوانين حمورابي تقسم المجتمع البابلي إلى طبقات مُستَغِلَّة ومُسْتَغَلة وإلى أحرار وعبيد وإلى أغنياء وفقراء يختلفون من حيث الحقوق والواجبات؟! اللّهم ما ورد في الفِكْر الأخلاقي من تعاليم عملية وردت على ألسنة حكمائهم، تمثلت عموماً بوجوب ابتعاد الإنسان عن الأفعال القبيحة كالسَّرِقَة، والظلم والسعي وراء تجميع الثروة بطرق غير شريفة (في عرفهم) وغيرها من الرذائل « ومجمل هذه القوانين في زعم الباحثين من وضع إله القانون (تحوت) وأن (معان) إلهة العدل تشرف على تطبيق القوانين »(2).
__________
(1) رباح، غسان: تاريخ القوانين والنظم الاجْتِمَاعِيَّة ، ص(27).
... وأنظر: ... - باقر، طه: مقدمة في تاريخ الحضارات، تاريخ العراق القديم،(1/288)و (1/188).
... ... - دلو، برهان الدين: حضارة مصر والعراق ص(423-439).
(2) يكن، زهدي: تاريخ القانون، ص(81).(1/89)
2- والهندوسية دين الجمهرة العظمى من سكان الهند وهي مجموعة من التقَاليد والعادات والعقائد يُطلق عليها اسم البرهمية نسبة إلى «برهما » ومعناه في اللغة السنسكرتية « الله » وأما رجال الدين اللذين يتصلون في طبقاتهم بعنصر «البرهما » فيطلق عليهم «البراهمة».
ومن أقدم نصوصهم التشريعية ما يُسمى بتشريع «مانو »(1) ومانو هو السلف الأسطوري الذي تسلسلت عنه جماعة المانوية(2) ( أو مدرستها الفِكْرية ) وقد صورته هذه النُّصُوص–ابناً لله- يتلقى القوانين من برهما نفسه وهذا التشريع مؤلف من 685 بيتاً من الشعر، كانوا يرجعونه إلى سنة 1200 ق.م. لكن الباحثين اليوم يردونه إلى القرون الأولى بعد ميلاد السَيِّد المسيح عليه السلام(3).
وتذكر قوانين مانو أن البرهما خلق البرهمي من فمه والكاستريا من ذراعه والويشيا من فخذه والشودرا من رجله فكان لكل من هذه الطبقات منزلته على هذا النحو ولكل طبقة من طبقات المجتمع الهندوسي وظائفها وواجباتها.
فعلى البرهمي أن يشتغل بالتعليم فكان هو المعلم والكاهن والقاضي أما كشتريا فعليه أن يتعلم ويقدم القرابين وينفق في الصدقات ويحمل السلاح للدفاع عن وطنه أما وشيا فعليه أن يزرع ويتجر ويجمع المال وينفق على المعاهد العلمية والدينية وأما شودرا فعليه أن يخدم الطوائف الثلاثة الشريفة.
__________
(1) شخصية دينية اختلفت الآراء فيها، منهم من قَالَ أنه مصلح ، وآخر يدّعي أنه نبيّ تعرضت تشريعاته للتحريف. والله أعلم.
(2) المانوية، نسبة إلى الملوك السبعة المؤلهين، عند الهنود، الذين حكموا في زعمهم العالم. ووضعوا قانوناً في القرن الثالث عشر أو الذي قبله قبل الميلاد، من (2685) بيتاً من الشعر. انظر:الجُهَني ، الموسوعة الميسرة ،ص(1130).
(3) يكن، زهدي: تاريخ القانون، ص(145-146).(1/90)
وينص تشريع مانوا « على أن يكون من حق البرهمي سيادته على سائر الكائنات وإن كل ما في العالم ملك البرهمي ولن يدنس البرهمي بذنب ولو قتل العوامل الثلاثة»(1).
وبهذا يظهر اختلاط فكرة القانون بمبادئ الأخلاق وقواعد الدين والتي بمراعاتها تتحقق العَدالَة من وجهة نظرهم.
وأي عدالة في هذه الديانة الوثنية بما فرضت على أتباعها من عزلة عن الحياة وحرمان من طيباتها ومتعها وتعذيب للنفس، ومن طبقية بشعة فيها الإذلال والعبودية ومن امتهان للعقل بقبول الخرافات والأوهام والأساطير؟!
3- ومهما يكن من أمر هذه الأمم في العصور السالفة فقد زلت عن طريق الحق فقد أظلمت في وجوههم مسارب الحياة وأصبحوا في جحيم لا يطاق وفي شقاء مضنٍ لا حقّ بينهم إلا للقوي، ولا عدل إلا ما وافق الهوى أو أدى إلى نفع ذاتي، ولبغى الأقوياء على الضعفاء وسلبوهم حياتهم ثم لبغى الأقوياء بعضهم على بعض فاقتتلوا.
وأما ما ورد على لسانهم من الفضائل المثلى والمناقب الفضلى فما هو إلا من سبيل التأثر بالإسلام الذي ما يزال يتأثر أو ينتفع به من لا ينتسب إليه.
وفي حديث أبي أمامة أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: يا رسول الله أنبيّ كان آدم؟ قَالَ: «نعم مكلَّم». قَالَ: فكم بينه وبين نوح ؟ قَالَ: «عشرة قرون»(2).
__________
(1) أنظر حول هذه المسألة:
... ... - ديورانت، ول: قصة الحَضَارَة، (3/166-172) تصرف.
... ... - القضماني، محي الدين حسن: صفحات من حاضر العالم الإسلامي، ص(17-18).
(2) صَحِيْح ابن حِبِّان :باب ذكر الإخبار عمّا كان بين آدم ونوح صلوات الله عليهما من القرون (14/69) مؤسسة الرسالة، وموارد الظمآن (1/509) دار الكتب العلمية. ومجمع الزوائد (1/160). والمعجم الأوسط (5/77) بلفظ « وبينهما عشرة آباء ».(1/91)
وعن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ : « وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ومقدار القرن مائة سنة» (1).
وعلى ذلك يكون بين آدم ونوح ألف سنة وقد تكون المدة بينهما أكثر من ذلك إذ قيّد ابن عَبَّاس هذه القرون العشرة بأنها كانت على الإسلام فلا ينفي أن يكون بينهما قرون أخرى على غير الإسلام.
حفلت معتقدات بني إسرائيل – اليهود- بالتصورات الوثنية وباللوثة القومية على السواء، فإسرائيل وبنوه جاءتهم رسلهم بالتوحيد الخالص الذي علمهم إياه أبوهم إبراهيم عليه السلام ثم جاءهم نبيهم الأكبر موسى عليه السلام بدعوة التوحيد ولكنهم انحرفوا على مدى الزمن وهبطوا في تصوراتهم إلى مستوى الوثنيات، وأثبتوا في كتبهم المقدسة وفي صلب التوراة أساطير لا ترتفع عن غيرهم من الوثنيين الذين لم يتلقوا رسالة سماوية.
ولقد كانت عقيدة التوحيد التي أنزلها الله على إبراهيم عليه السلام عقيدة خالصة ناصعة شاملة متكاملة، ومن هذا التوحيد الخالص وهذه العقيدة الناصعة انتكس الأحفاد، وظلوا في انتكاستهم حتى جاءهم موسى عليه السلام بعقيدة التوحيد والتنزيه من جديد، ولكنهم انحرفوا وبدلوا وموسى عليه السلام بين أظهرهم.
1- العدل فيما بينهم :
__________
(1) المستدرك للحاكم، (2/480)، (6/418). ومجمع الزوائد (6/418).(1/92)
... لقد أمرهم موسى عليه السلام كما أمرهم أنبياؤهم -صلوات ربي وسلامه عليهم- أن يقوموا بالعدل والقسط وأن لا يتظالموا ولا يظلموا أحداً وفصّل لهم في التوراة الحدود والأحكام والقصاص العادل، قَالَ تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالربانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (1).
وفيما بقي بين أيدي القوم من أسفار التوراة – مع تحريفهم وتبديلهم لها – أثر مما ورد ذكره في القرآن الكريم وسأورد بعض نصوص أسفار التوراة التي توجب على اليهود الحكم بالعدل والقسط وتحذرهم من الجور والظلم في القضاء والكيل والوزن.
ففي سفر اللاويين أن الرب كلم موسى عليه السلام قائلاً : « لا ترتكبوا جوراً في القضاء ولا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك»(2).
__________
(1) المائدة / 44-45.
(2) الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر اللاويين إصحاح 19 فقرة/15.(1/93)
وفيه أيضاً: « وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر أنا الرب إلهكم، لا ترتكبوا جوراً في القضاء لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل الذي أخرجكم من أرض مصر فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها أنا الرب»(1).
وفي سفر الخروج ما يدل على القصاص بالقتل « من ضرب إنساناً فمات يُقتل ... وإذا حصلت أذية تعطى نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد ورجلاً برجل، وكياً بكي، وجرحاً بجرح، ورضاً برض، وإذا ضرب إنسان عين عبده أو عين أمته فأتلفها يطلقه حراً عوضاً عن عينه»(2).
فقد دلّ، إذن، القرآن الكريم، وأسفار التوراة التي بقيت بأيديهم على وجوب العدل، عليهم والقصاص الحق عندهم، وتحريم الظلم والجور فماذا فعل القوم؟ لقد حرفوا وبدّلوا وتلاعبوا بنصوص التوراة ولم يقوموا فيما بينهم بالقسط والعدل. وفرقوا بين القوي والضعيف، والوضيع والشريف ولم يساووا بين الناس في إقامة الحدود والقصاص، كما أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم في حديث المخزومية التي سرقت فقطع يدها وغضب على من جاء يشفع فيها وقام فيهم خطيباً قائلاً : « أيها الناس إنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد... »(3).
__________
(1) الكتاب المقدس، سفر اللاويين إصحاح 19 فقرة/33-37.
(2) الكتاب المقدس، سفر الخروج إصحاح 21 ص(121-122) الفقرات من 12 إلى 27.
(3) صَحِيْح البُخَارِيّ، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان،(6/2491)والسُنَن الكبرى للنسائي (4/333).وانظر: صَحِيْح الجامع للألباني رقم (2348).(1/94)
ومن الشواهد على هذا المسلك المشين ليهود ما أخرجه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ : « كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فودي بمائة وسق من تمر فلما بعث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقَالوا: ادفعوه لنا نقتله، فقَالَ وا: بيننا وبينكم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فأتوه فنزلت : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } (1). والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت { أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّة يَبْغُونَ } (2) » (3).
فانظر كيف حادوا على حكم الله تعالى وتلاعبوا بحدوده، فأقاموا الحد والقصاص على الضعيف فيهم وصرفوه عن ذي المكانة والقوة والمنعة .
وهذا شاهد آخر على اختلال ميزان العدل عند يهود، ومبلغ ظلمهم وجورهم، وتعطيلهم لحدود الله عزّ وجلّ:
__________
(1) المائدة / 42.
(2) المائدة / 50.
(3) صَحِيْح ابن حِبِّان (11/442) والمستدرك على الصَحِيْحين للحاكم (4/407). وقَالَ هذا صَحِيْح الإسناد ولم يخرجاه. وموارد الظمآن (1/430) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى: باب إيجاب القصاص في العمد (8/24)، وسُنَن أبي داود: باب الحكم بين أهل الذمّة (3/303)، وكتاب الديّات (4/168)، والمعجم الأوسط (2/22)، وحول سبب نزول الآية انظر: تفسير القرطبي (6/187).(1/95)
أخرج الإمام البُخَارِيّ رحمه الله عن عبد الله بن عمر(1)
__________
(1) عبد الله بن عمر بن الخطَّاب العدوي أبو عبد الرحمن، صحابي من أعز بيوت قريش في الجَاهِليَّة كان جريئاً جهيراً نشأ في الإسلام وهاجر إلى المدينة مع أبيه وشهد فتح مكة وولد فيها سنة 10 قبل الهجرة، أفتى الناس في الإسلام ستين سنة غزا أفريقية مرتين الأولى مع ابن سرح والثانية مع معاوية بن حديج سنة 34هـ وكفّ بصره في آخر حياته له في كتب الحديث 2630 حديثاً. وفي الإصابة: قَالَ أبو سلمة بن عبد الرحمن: « مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل وكان عمر في زمان له فيه نظراء وعاش ابن عمر في زمان ليس له فيه نظير » ، توفي في مكة سنة 73هـ وهو آخر من توفي بمكة من الصحابة. الأعلام (4/108)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/107).(1/96)
رضي الله عنهما أنه قَالَ : « إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقَالَ لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقَالوا: نفضحهم، ويجلدون. قَالَ عبد الله بن سلام(1): كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقَالَ له عبد الله بن سلام : ارفع يديك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، قَالوا: صدقت يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما، فرأيت الرَّجُل يحني على المرأة يقيها من الحجارة »(2).
... وفي رواية عند مسلم: « أن اليهود حَمَّمُوا وجه الزاني وجلدوه ولما سألهم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) عبد الله بن سلام، كان حبراً عالماً، قَالَ : لما سمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عرفت صفته واسمه، وزمانه الذي كنا نترقب له، فكنت مُسرّاً لذلك صامتاً عليه حتى قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فلمّا سمعت الخبر خرجت فأسلمت. انظر: ابن هشام السيرة النبويّة، (2/516).
(2) صَحِيْح البُخَارِيّ كتاب الحدود، باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا للإمام، (3/1330) (4/166) (6/2510)، وصَحِيْح مسلم (3/1326)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/246)، واللفظ له عن عبد الله بن عمر. وانظر: معتصر المختصر (2/145).(1/97)
أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قَالَ : لا ، ولولا أنّك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكن كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم...»(1).
... وفي سفر التثنية من التوراة جاء في شأن حد الزاني:
« ولكن إن كان هذا الأمر صَحِيْحاً لم توجد عُذْرَةٌ للفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت لأنّها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها فتنزع الشر من وسطك وإذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجة بعل يُقتل الاثنان الرَّجُل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنتزع الشر من إسرائيل.
إذا كانت فتاة مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وأرجموهما بالحجارة حتى يموتا الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرَّجُل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك »(2).
__________
(1) صَحِيْح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزِّنَا(3/1327). ومُسْنَد أبي عوانة (4/144) دار المعرفة بيروت وسُنَن البَيْهَقِيّ (8/246) وسُنَن أبي داود (4/154)، ومُسْنَد الروياني (1/285).
(2) الكتاب المقدس، العهد القديم سفر التثنية إصحاح22 فقرة 20-25.(1/98)
... وفي سفر الخروج في شأن إباحة الأعمال المشروعة للتملك وحظر أعمال معينة «لا تسرق»(1)وواضح أنها تحترم المِلْكِيَّة الفردية وتنهى عن الاعتداء عليها إلا أن اليهود لم يراعوا حق الله الذي أوجبه عليهم في السير بالتَّمَلُّك في طريقه الصَحِيْح ومواساة الفقراء، فقد كان أغنياؤهم على جانب كبير من القسوة، ورجال دينهم لا يألون جهداً في تحريف أحكام دينهم بما يوافق مراد المنحرفين . فقامت في المجتمع اليهودي مادية طاغية، وعاش المحرومون فيه عيشة الذل والهوان، وهذا ما نجده على ألسنة أنبيائهم وهم يعالجون هذا الجانب بالمواعظ والتنبيهات المحذرة من مغبة تلك الأعمال وبيان حقيقة الفقر والغنى، وعلاج مشكلة الفقر ومن معالم ذلك:
ما ورد في سفر الأمثال : « لا تحب النوم لئلا تفتقر، افتح عينيك تشبع خبزاً » وفيه «العامل بيدٍ رخوةٍ يفتقر أما يد المجتهد فتغنى » (2). وفي هذه النُّصُوص حث على العمل لعلاج مشكلة الفقر.
2- العدل فيما بينهم وبين غيرهم:
... إذا كان اليهود لم يقيموا العدل فيما بينهم، وهم شعب واحد وأبناء عمومة فكيف بهم مع غيرهم من الأمم؟ إن نظرة اليهود إلى غيرهم من الأمم والشعوب نظرة تعالٍ وازدراء، فهم يرون أنهم شعب الله المختار وأنهم أبناء الله وأحباؤه فأكذب الله مقَالَتهم فقَالَ : { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } (3).
__________
(1) الكتاب المقدس، العهد القديم سفر الخروج إصحاح 5 فقرة (15-16).
(2) الكتاب المقدس، العهد القديم سفر الأمثال (20/13).
(3) المائدة / 18.(1/99)
... وكانوا يرون أن غيرهم من الأمم لا حق لهم في عدل ولا نَصَفَ، بل ويستحلون منهم الدماء ويستبيحون الأنفس والأموال وكل ما يضر بالآخرين بحجة أن غير اليهود، كفّار مشركون لا حرمة لهم. وعدّ الله قولهم هذا فرية : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (1).
ومرادهم بالأميين العرب والمشركين وكل من ليس بيهودي. روى ابن جرير عن قَتَادة (2) رحمه الله في قوله: ليس علينا في الأميين سبيل، قَالَ : ليس علينا في المشركين سبيل يعنون: من ليس من أهل الكتاب(3).
وفي أسفار التوراة المحرفة ما يشي بهذا المسلك الذي انتهجه يهود تجاه الأمم الأخرى: ففي سفر الخروج ضمن الوصايا العشر التي يزعمون أن موسى تلقاها من ربه : « لا تشهد على قريب شهادة زور، لا تشته بيت قريبك ، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك »(4). فمفهوم قوله « قريبك » في هذا النص أن غير القريب يجوز لهم اشتهاء امرأته وبيته و...وقد فهم اليهود هذا الفهم، ونص التلموذ على حلّ كل ذلك.
__________
(1) آل عمران / 75.
(2) هو قَتَادة بن دعامة السدوسي البَصْرِي ، الحافظ ، العلاّمة ، المفسّر ، وُلد سنة (61) هجرية وتوفي بوسط سنة (108) هجرية. انظر طبقات الداودي (2/47)، وميزان الاعتدال (3/385).
(3) الطَّبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (6/522).
(4) الكتاب المقدس، العهد القديم سفر الخروج إصحاح 5 فقرة 15-16.(1/100)
وفي سفر التثنية إباحة التعامل بالرِّبَا مع غير اليهودي وتحريمه مع اليهودي : « للأجنبي تقرض الرِّبَا ولكن لأخيك لا تقرض الرِّبَا »(1). بل يمنع التلموذ (2) إقراض غير اليهود إلا بربا : «غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالرِّبَا »(3) وقد حرّم الله عليهم الرِّبَا وأكل أموال الناس بالباطل وهذه بعض نصوص التلموذ التي تبيح لليهود أموال الأمميين بل دماءهم وأعراضهم، نسوق منها نماذج مختصرة لتبين مدى ظلم القوم وجورهم :
1- إباحة دماء غير اليهود :
... يقول «التلموذ» : « اقتل الصالح من غير الإسرائيلي، ومحرم على اليهودي أن ينجي أحداً من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه، من حفرة يقع فيها لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين»(4). « من العدل أن يقتل اليهودي بيده كل كافر لأن من يسفك دم الكافر يقرب قرباناً لله »(5) .
2- إباحة عرضه :
... يقول التلموذ : « لا يخطئ اليهودي إذا تعدى على عرض الأجنبي لأن كل عقد نكاح عند الأجانب فاسد، لأن المرأة التي لم تكن من بني إسرائيل كبهيمة والعقد لا يوجد مع البهائم وما شاكلها»(6).
__________
(1) الكتاب المقدس، العهد القديم سفر الخروج إصحاح 20 فقرة 16-17.
(2) التلموذ هو الكتاب الذي يحتوي على التعاليم اليهودية والتشريعات، يزعم اليهود أن موسى عليه السلام عندما تلقى التوراة من الله مكتوبة تلقى منه كذلك التلموذ مشافهة وهو تفسير وتفصيل للتوراة وهو عندهم أقدس منها. أنظر برانا يتسن آي،بي ( فضح التلموذ) إعداد زهدي الفاتح. ص(21).
(3) نصر الله، د. يوسف: الكنز المرصود في قواعد التلموذ، ص(150).
(4) نصر الله، د. يوسف(المترجم): الكنز المرصود في قواعد التلموذ، ص(87).
(5) نصر الله، د. يوسف(المترجم): الكنز المرصود في قواعد التلموذ، ص(91).
(6) نصر الله، د. يوسف(المترجم): الكنز المرصود في قواعد التلموذ، ص(95).(1/101)
... قَالَ ميموند(1) : « إن لليهود الحق في اغتصاب النساء الغير مؤمنات: أي الغير يهوديات»(2).
3- إباحة ماله:
... يقول التلموذ: « إن الله حللّ أموال باقي الأمم لبني إسرائيل لما رآهم قد خالفوا السبع الوصايا المختصة بعبادة الأوثان، والزِّنَا والقتل والسَّرِقَة، وأكل لحم الحيوانات الغير مذبوحة، وخصاء الإنسان وإيلاد الحيوان من غير جنسه»(3).
« إذا سرق أولاد نوح – غير اليهود – شيئاً ولو كانت قيمته طفيفة جداً يستحقون الموت، لأنهم قد خالفوا الوصايا التي أعطاها الله لهم وأما اليهود فمصرح لهم أن يضروا الأمي، لأنه جاء في الوصايا: لا تسرق مال القريب، قَالَ علماء التلموذ مفسرين هذا الوصية: إن الأمي ليس بقريب، وإن موسى لم يكتب في الوصية لا تسرق مال الأمي»، فسلب ماله لم يكن مخالفاً للوصايا.
وفي شأن رد الأموال المفقودة لغير اليهودي يقول التلموذ: « إن الله لا يغفر ذنباً لليهودي يرد للأمي ماله المفقود، وغير جائز رد الأشياء المفقودة من الأجانب»(4).
وصدق الله فيهم حين قَالَ : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } (5).
__________
(1) هو : موسى بن ميمون الذي وضع الميشناه. أنظر : ... - برانا يتس، فضح التلموذ، ص(21).
... ... ... ... ... - خان، ظفر الإسلام ، التلموذ تاريخه وتعاليمه، ص(31).
(2) نصر الله: الكنز المرصود ، ص(95).
(3) نصر الله: الكنز المرصود ، ص(152).
(4) نصر الله: الكنز المرصود ، ص(78-79).
(5) النساء / 160-161.(1/102)
وإن استنطقنا تاريخ القوم في هذا القرن، وهي أكثر من أن تحصى بمقَالة وأكبر من أن تحاكم في هذه العجالة، أفصحت لنا الوقائع التاريخية ظلم وجور اليهود على أهل فلسطين وأكناف بيت المقدس انطلاقاً من الوصية الجامعة التي تسطرها كتبهم الدينية كالتلموذ: « أهدم كل قائم، لوّث كل طاهر، احرق كل أخضر كي تنفع يهودياً بفلس» و « اقتلوا جميع من في المدن من امرأة وشيخ ورجل وطفل... بحد السيف»(1) .
فلا عجب من قومٍ لا يعرفون من العدل إلا رسمه أن يعتدوا على النساء والشيوخ والأطفال العزل إرهاباً للآخرين، ففي دير ياسين هاجمت عصابتا إيرجون وشتيرن تحت قيادة مناحيم بيجين وإسحاق شامير(2) أهالي القرية العزل في ليلة الثامن من نيسان عام 1948 وقتلت 254 رجلاً وامرأة وطفلاً وقطعت أوصالهم وألقت بجثث عديدة في بئر القرية وفي قرية قبية في الضفة الغَرْبيّة نفذت الفرقة رقم 101 بقيادة إيريل شارون في ليلة الرابع عشر من تشرين أول عام 1953 وقتلت 66 ونسفت 45 منزلاً وفي كفر قاسم مساء يوم 29 تشرين أول عام 1956 قتل اليهود 47 من الأهالي العائدين من حقولهم إلى بيوتهم(3).
وكم من مسجدٍ أصبح يباباً وعاثَ به التهتك والمجون، وكم من مذبحة في لبنان كصبرا وشاتيلا وقانا قد بقرت فيها بطون وسملت عيون وحزت رقاب كما جزت بنضرتها غصون، وما زال بيت المقدس يئن لظلمهم وجورهم وإخراج أهله من ديارهم وإحلال شعب بلا أرض مكانهم.
__________
(1) النتشة، رفيق شاكر: الإسلام وفلسطين، ص(40).
(2) إسحاق شامير، سياسي صهيوني، وُلد عام (1915م). انخرط عام (1937م) في العصابة الإرهابية الصهيونية المعروفة باسم (إيرون زفاي ليومي ). اعتقلته سلطات الانتداب الإنكليزي عام (1946م) ونفته إلى الحبشة، تولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى عام (1983م)
(3) زيتون، صفاء حسين: صبرا وشاتيلا – المذبحة ، ص(2-3).(1/103)
وما يجري الآن من مجازر الأبرياء وأنهار الدماء على أرض الإسراء لدليل على ظلم القوم، قمع ووحشية يهودية، هجوم بالصواريخ والطائرات المروحية، صراخ وعويل وأنين وقتل وتشريد للعزل من المدنيين، هتك عرض ونهب أرض وهدم بيوت وتخريب أشجار وجرحى مصابون وآخرون مشوهون ومعاقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
... يُقَال النصرانية وهي في الأصل نسبة إلى نصرانه وهي قرية المسيح عليه السلام من أرض الجليل « وتسمى هذه القرية ناصرة ونصورية والنصرانية والنصرانة كذلك واحدة النصارى وفي الاصطلاح النصارى وهم المنتسبون للإنجيل كما قَالَ تعالى: { الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى } (1). ويطلق عليهم أهل الكتاب.
... والنصارى يتبعون التوراة في الأحكام والتشريعات وما أمر به اليهود من العدل في الأحكام والحدود وإيفاء الكيل والوزن وخلاف ذلك فإنه يسرى على أمة النصارى كذلك.
العدل فيما بينهم :
... لما بغى اليهود وقست قلوبهم، وأحلوا ما حرم الله، وأكلوا أموال الناس بالباطل جاء المسيح عليه السلام ليردهم إلى الجادة، فلم يأمرهم بالعدل فحسب بل تجاوزه إلى الفضل والعفو، وأمرهم ألا يقابلوا الإساءة بمثلها، وأن لا يعتدوا على من اعتدى عليهم بل قَالَ لهم كما جاء في إنجيل متى الذي يزعمون أنه مما أنزل على عيسى عليه السلام. قد سمعتم أنه قيل: « العين بالعين والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامش معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يعترض منك فلا تمنعه، وقد سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلَّوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم»(2)
«
__________
(1) المائدة / 82.
(2) انجيل متى: الإصحاح السادس فقرة 38-44.(1/104)
ويروى عن سَيِّدنا عيسى عليه السلام ما يُستفاد منه ضمناً عدم إمكان إقامة الحد شرعاً لأنه اشترط براءة الراجمين من كل عيب، وأمر الزانية التي اعترفت بين يديه بالتوبة والاستغفار»(1).
وهذا المستفاد ضمناً حول قضية الجزاء لا يمكن أن يتصور أنه نظام إلهي للحياة البشرية في حقبة من الحقب التاريخية ومن ثم مخالف لطبيعة الإنسان التي تنطوي على الخير والشر فلا يتصور حياة خالية من قتل قاتل وضرب معتدٍ وسجن ظالم وقمع شر وقصاص عادل، بل هذه سنة الله في الإنسان بدءاً من قصة قتل قابيل لأخيه هابيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . « وعلى ذلك يكون ما في الإنجيل من وصايا بالعفو في الجرائم الشخصية ليس قانوناً ينفذ ولكنه وصية لشخص المجني عليه إن أراد أن يتبعها وإلا فالقانون هو الذي ينفذ »(2).
وإن حرفت النصارى في العقوبة والقصاص العادل فقد عدلوا بربهم غيره وجعلوا له شركاء، إذ جعلوه ثالث ثلاثة { وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } (3) فأشركوا و { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (4) وإذا كان القوم قد ارتكبوا أعظم الظلم والجور وظلموا أنفسهم، فماذا يتوقع في إقامة العدل فيما بينهم.
__________
(1) النواوي، عبد الخالق: التشريع الجنائي في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والقانون الوضعي ، ص(82).
(2) أبو زيد، حسين، العقوبة الجسدية بين الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة والقانون الوضعي، ص(134).
(3) التوبة / 30.
(4) لقمان / 13.(1/105)
وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة المخزومية التي سرقت: «... إنما ضلَّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد»(1) يشملهم وإن كان هو في اليهود أظهر، وهؤلاء رهبانهم الذين هم علماؤهم نجدهم ظلمة جائرين آكلين لأموال الناس بالباطل قَالَ تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (2). ولعل من أبرز مظاهر ذلك ما تمارسه الكنيسة من إصدار ما عُرف بـ «صكوك الغفران» وهي صكوك يصدرها أهل السلطة في الكنيسة من الباباوات والمطارنة والبطاركة والقساوسة باسم الكنيسة، يغفر بمقتضاها لحاملها ما اقترفه من الآثام والخطايا في حياته، مقابل أن يدفع مبالغ للكنيسة وهذا إلى جانب كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل فهو أيضاً قول على الله بلا علم وافتراء عليه.
__________
(1) الحديث سبق تخريجه، ص( )
(2) التوبة / 34.(1/106)
... ومن صور جور هذه الأمة وعدم عدلها، أن كل فرقة وطائفة منها، إذا تسلطت على الفرق الأخرى أذاقتها ألواناً من الظلم والبطش والاضطهاد ولم ترقب فيها إلاّ ولا ذمة، يقول الدكتور أحمد شلبي: « تكرر في تاريخ المسيحية حدث عظيم لم يتخلف وهو التجاء الجانب القوي إلى أعنف وأقسى وسائل الاضطهادات والتعذيب والتنكيل والحرق، والإفناء يسلطها على الجانب الضعيف... والعجيب أن المسيحيين ( النصرانيين) أُضطهدوا من اليهود والرومان، ونزلت بهم الويلات في القرون الثلاث الأولى، فلما بدأ جانبهم يشتد رأيناهم ينزلون نفس الويلات من أبناء دينهم ومن أتباع الأديان الأخرى، ومن هنا فنيت مذاهب مسيحية كثيرة كان بعضها في وقت ما، له الغلبة في العدد ولكن تنقصه القوة والسلطان وكان فناء هذه المذاهب بسبب قسوة اليهود والرومان أحياناً وأحياناً بسبب قسوة فرق مسيحية أخرى قويت واشتدت بالأباطرة وذوي النفوذ»(1).
... وهذا مصداق قوله تعالى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (2).
قَالَ الحافظ ابن كثير رحمه الله : « فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضاً ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا
تدعها تلج معبدها فالملكية(3)
__________
(1) شلبي، د. أحمد : المسيحية ، ص(237).
(2) المائدة / 14.
(3) الملْكِيَّة أو الملكانية، أصحاب ملكان الذي ظهر بأرض الروم ومعظم الروم ملكانية، صرحوا باثبات التثليث وقَالوا:
«
إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته. أنظر : الشَّهْرَسْتانيّ : الملل والنحل (2/27).(1/107)
تكفر اليعقوبية(1) وكذلك الآخرون وكذلك النسطورية(2) والآريوسية(3) كل طائفة تكفر الأخرى »(4). وكمثال على ما لاقاه الأقباط في مصر – وهم من الطائفة اليعقوبية – من ظلم على يد أبناء دينهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمونهم قبل الفتح الإسلامي لمصر.
__________
(1) اليعقوبية نسبة إلى يعقوب البراذعي، مصري ظهر في منتصف القرن السادس الميلادي، وهم الذي يقولون بأن المسيح ذو طبيعة واحدة قد امتزج فيه عنصر الإله بعنصر الإنسان وتكوّن من الاتحاد طبيعة واحدة جامعة بين اللاهوت والناسوت. أنظر: أبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية، ص(140-159).
(2) النسطورية: نسبة إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون كان بطريرك القسطنطينية يرى أن العذراء لم تلد إلهاً بل ولدت إنساناً وهو يرى أن الأقنوم الثاني وهو الابن لم يتجسد وتلده مريم كما يرى غيره من المثلثين، أنظر الشَّهْرَسْتانيّ : الملل والنحل (2/29). وأبو زهرة، محمد: محاضرات في النصرانية ص(157).
(3) الآريوسية: هم أصحاب آريوس وكان قسيساً بالاسكندرية ومن قوله: التوحيد، المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض. أنظر ابن حَزْم الفصل في الملل والأهواء والنحل(1/48).
(4) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ن (3/62).(1/108)
يقول المستشرق توماس آرنولد(1) « ... فإن اليعاقبة -وهم الأقباط- الذين كانوا يكوّنون السواد الأعظم من السكان المسيحيين قد عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي(2) التابعين للبلاط، الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق اللذين لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم.
كان بعضهم يعذب ثم يلقى بهم في اليَّم وتبع كثير منهم بطريقهم إلى المنفى لينجوا من أيدي مضطهديهم وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية وتظاهر بقبول قرار خلقدونية(3) .
وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط – اليعاقبة – حياة تقوم على الحرِّيَّة الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان »(4).
__________
(1) توماس ووكر آرنولد (1280-1349هـ) مستشرق إنكليزي، تعلم في كمبردج واشتغل في التدريس في عدة جامعات بالهند وباكستان ثم عاد إلى لندن ودرس في جامعتها، عين مديراً لمعهد الدراسات الشرقية، له عدة كتب بالإنكليزية عن العلوم الإسْلاميَّة . أنظر الزِّرِكْليّ، الأعلام (2/76-77) وأنظر نجيب العقيقي، المستشرقون (2/84).
(2) وهم التابعون للكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، وأكثر أتباعها من الروم الشرقيين ومن البلاد الشرقية كروسيا والبلقان واليونان، وكان مقرها الأصلي القسطنطينية. أنظر : شلبي، د. أحمد : المسيحية ص(238).
(3) هو ثغر منه المصيصة وطرطوس وأدنة في آسيا الصغرى على البسفور وينسب إليه مجمع مسيحي عقد فيها سنة 451، حضره، 520 أسقفاً وقيل أكثر وكان من أهم قراراته:
1- أن المسيح فيه طبيعتان لا طبيعة واحدة وأن الألوهية طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحدها التقتا في المسيح.
2- لعن «ديسفورس» بطريرك كنيسة الإسكندرية ونفيه. أنظر : أبو زهرة، محمد محاضرات في النصرانية، ص(137).
(4) توماس آرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ص(94).(1/109)
وكثيراً ما كان الحكم الإسلامي مخلّصاً لكثير من طوائف النصارى من ظلم واضطهاد لما يتسم به العدل في أهل الذمة مما جعل المسيحيين يفضلون الحكم الإسلامي على حكم أبناء دينهم.
العدل فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم:
... سبق لنا في بحث العدل فيما بينهم كيف أن المسيح عليه السلام أمرهم بمقابلة السيئة بالحسنة وأن لا يردوا على من أساء إليهم وتلك مثالية عالية لم تبلغها همم القوم ولعل ما نزل بهم من ظلم اليهود والرومان ما ترك في أنفسهم الرغبة في الانتقام متى استطاعوا ذلك بل الاعتداء إن قدروا.
... وإن نحن استنطقنا تاريخ القوم أفصح لنا عن سوءات يتوارى المرء خجلاً، إذ تثبت الوقائع التاريخية أن القوم كانوا شديدي الظلم لمن يقع تحت سلطانهم من أهل الأديان الأخرى، إذ ليس لأهل الأديان بينهم مقام فإما التنصر وإما القتل أو الرحيل.
... ولم يكن اضطهادهم للمخالفين عملاً فردياً يبدو حيناً ويختفي حيناً بل كان سياسية ثابتة حاسمة تستهدف إفناء الخصوم ومحو آثارهم.
... فكانت المذابح العامة تدبر وتنفذ بوحشية بالغة ترتكب خلالها فظائع وجرائم يندى لها جبين الإنسانية فضلاً عن أتباع نبي كان من تعاليمه ما ذكرنا.
... ولعل من أبلغ الأمثلة الشاهدة على مبلغ ظلم القوم وحقدهم تلك المذابح التي ارتكبها الصليبيون ضد سكان بيت المقدس إبان استيلائهم عليها عندما تخاذل عن الدفاع عنها العبيديون، إذ اكتفى واليهم آنذاك – افتخار الدَّوْلَة– بتأمين نجاته مع حرسه الخاص، وترك المدينة للصليبيين يعيثون فيها فساداً بعد أن دافع عنها دفاعاً هزيلاً،ذراً للرماد في العيون.(1/110)
... يقول شاهد عيان هو القس «ريموند» « بعد دخوله بين المقدس : وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رمياً بالسهام أو أرغموا أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم يعذبون عدة أيام ثم أحرقوا في النار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل والأقدام وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل»(1).
... ويقول المستشرق ستيفن رنسيمان في وصف ذلك: « انطلقوا في شوارع المدينة وإلى الدور والمساجد يقتلون كل من يصادفهم من الرجال والنساء والأطفال دون تمييز، استمرت المذبحة طوال مساء ذلك اليوم وطوال الليل، ولم يكن عَلَمُ تانكرد(2) عاصماً للاجئين إلى المسجد الأقصى من القتل، ففي الصباح الباكر من اليوم الثاني اقتحم باب المسجد ثلّة من الصليبيين فأجهزت على جميع اللاجئين وحين توجه ريموند آجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته»(3)(4).
... وفي الأندلس عند أفول نجم الخلافة الإسْلاميَّة فيها وتَغلُّب النصارى عليها ألحقوا بالمسلمين ضروباً من الظلم والأذى، يصور ذلك الدكتور توفيق الطويل فيقول:
«
__________
(1) انظر : وول ديورانت: قصة الحَضَارَة (15/25).
(2) تانكرد: أحد قواد الصليبيين، كان المسلمون لما رأوه استسلموا ورفعوا علمه على المسجد.
(3) ستيفن رنسمان: تاريخ الحروب الصليبية، (1/404-405).
(4) ذكر ابن الأثير أنهم يزيدون على سبعين ألفاً. أنظر : ابن الأثير : الكامل في التاريخ، (8/189)؟.(1/111)
وقد استنفذت الكنيسة جهدها في إقناع المسلمين المقيمين في أسبانيا لكي يرتدوا عن دينهم، ويعتنقوا المسيحية ديناً، وعلى غير جدوى ما بذلت من جهود، فاستجمعت محكمة التفتيش كل قواها واعتصمت بالجرأة والتعصب وصبت عذابها على المسلمين في غير رفق ولا عدالة، حتى اعتنق معتقدات النصارى من خار في ميدان الكفاح، وهاجر من حار بين التمسك بعقيدته، واحتمال آلام العذاب، وفي عام 1609 و1610 تم جلاء ألوف المسلمين عن أسبانيا بعد أن أغرقوا بدمهم أرضها، وكتبوا بمقاومتهم أنصع الصفحات في تاريخ الجهاد في سبيل الله»(1)
...
لقد أتيح لهذه الرقعة المترامية الأطراف أن تتوسط بلاد العالم المختلفة شرقاً وغرباًَ وتصل جنوباً وشمالاً وأن تضم عدة ممالك صغيرة بين الشمال والجنوب تتوسطها منطقة الحجاز وحواضرها من مكة والمدينة والطائف وما حولهم من البوادي والأعراب في عصر أطلق عليه قبل الإسلام (العصر الجاهلي).
والعصر الجاهلي عصر قائم على بنيان القبيلة لا الأمة ومعتقد للوثنية المتعددة لا الوحدانية المطلقة ومشتمل على آحاد من النظم السِّيَاسِيَّة والدينية المضطربة، حيث لا حكومة ترعى مصالحهم ولا جيش يحمي ثغورهم وإنما قيم تخضع لموروث عاداتهم يحكمها الهوى والأعراف الجَاهِليَّة السائدة التي تأصلت جذورها في نفوسهم واستحالت حياتهم إلى قوم يتنازعون ويتلاعنون ويتشاتمون وبالخرافة يؤمنون والأقداح والأزلام يستقسمون وبالطير يتفاءلون ويتشاءمون وإذا مرّت بهم سانحة أو بارحة يفزعون ولأقل شيء ينهبون ويقتلون فلا ترى إلا ذهاب النفوس وامتلاء الكؤوس وسفك الدماء وهتك الأعراض وضياع الأموال واختلال الأمن وانتشار الفوضى وفساد الحال وخسران المآل.
__________
(1) الطويل، د. توفيق: قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام، ص(71-72).(1/112)
وقد أطلق كثير من الباحثين على القبيلة العربية تصوراً يوحي أنها جماعة من البدائيين يسكنون الخيام ويقطنون الفيافي والقفار. والحق إن الجَاهِليَّة وصف لفترة قبل الإسلام في العرف الخاص لا يوحي بالجهل الذي هو ضد العلم. وكيف وهم قد ارتقوا إلى مستوى رفيع بفصاحتهم وبلاغتهم في منثور الكلام ومنظومة حتى غَدَوا أُسَّ البيان ومصدر اللغة التي نزل بها القرآن، ولا يعني هذا أنهم أمة عريقة كغيرهم من الأمم المتمدنة استناداً إلى ما خلفوه لنا من آثار عمرانية في بلاد اليمن أو ما وقع على ألسنتهم من حكم نثروها على لسان شاعر أو خطيب أو حكيم.
قَالَ الدكتور نايف معروف(1): « إذ والحق - يقَال- أن الجهل المنسوب إلى ذلك العصر لا يعني المخالف للمعرفة بل هو الجهل الذي يقابل الحلم دون مبالغة في وصف سوء حالهم »(2).
__________
(1) د. نايف معروف ، المفكر ، الأديب، المولود في قرية دير القاسي ، قضاء عكا في فلسطين عام 1934م . هاجر إلى لبنان عام 1948م. أثر سقوط فلسطين في يد اليهود، عمل مدرساً ، ثم مديراً ، ثمّ موجهاً للغة العربية في مدارس (الأنروا) في لبنان ممّا ميزه بخبرة في تعليم اللغة وتخصص في أصول التدريس، كما عمل أستاذاً في كلية الآداب بجامعة بيروت العربية وجامعة الإمام الأوزاعي، للدراسات الإسْلاميَّة ، ومازال عضواً في مجلسها العلمي، ويُعرف بعمق الفِكْر ورجاحة الرَأْي وقوة الحجة في المناقشات والمناظرات الفِكْرية. له مصنفات ، منها: المعجم الوسيط في الإعراب، الأدب الإسلامي في عهد النبوة، وخلافة الراشدين، الإنسان والعقل، خصائص العربية وطرائق تدريسها، الخوارج في العصر الأموي .
(2) معروف، د. نايف: الأدب الإسلامي في عهد النبوة وخلافة الراشدين، ص(104).(1/113)
ولعل ما يرجح هذا الرَأْي ما جاء في معلقة عَمْرو بن كلثوم(1) حين قَالَ (2):
ألا لا يَجْهَلَنَّ أحدٌ علينا ... فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهلينا
وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر الغفاري(3) حين سمعه يعيّر رجلاً بأمه فعاتبه وأنّبه قائلاً : « يا أبا ذر أعيرته بأمّه، إنك امرؤ فيك جاهلية»(4) أي فيك روح الجَاهِليَّة وطيشها.
__________
(1) عَمْرو بن كلثوم ، بن مالك. بن عتّاب ، بن سعد ، أمّه ليلى بنت مُهلهل، وهو شاعر جاهليّ من أصحاب المعلقات.
(2) ابن الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم: شرح القصائد السبع الطوال، ص(426).
(3) هو جندب بن جنادة بن سفيان من بني غفّار صحابيّ أول من حيّا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتحية الإسلام، سكن دمشق واستقدمه عثمان إلى المدينة ثمّ الربدة إلى أن مات. له (82) حديثاً ، توفي عام (32) هجرية . انظر: سير أعلام النبلاء (2/46)، التهذيب (12/90)، الأعلام (12/140).
(4) صَحِيْح البُخَارِيّ، باب المعاصي من أمر الجَاهِليَّة ولا يُكفّر صاحبها بارتكابها إلا الشرك، (1/20)و (5/2248) وفتح الباري (1/85)، (1/87) و مسلم (3/1282-1283) وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/7). وسُنَن أبي داود (4/340) ومصنف عبد الرّزاق (9/447-448). ومُسْنَد أحمد (5/161) ومُسْنَد البزّار (9/400-402)، وعون المعبود (14/45)، وفيض القدير (1/221).(1/114)
وما عبادة الأوثان كما توهم كثير من الباحثين أن القوم يعبدونها لذاتها والحق أن العرب كانوا يؤمنون بصفة الربوبية لله تعالى وبصفة الألوهية للأصنام كما يقول الله تعالى: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1) ، ولعل ما يعزز هذا الرَأْي قول الشاعر الجاهلي أوس بن حجر(2) :
وباللات والعزى ومن دان دينها ... ... وبالله أنَّ الله منهن أكبر(3)
وبهذه الجَاهِليَّة المقابلة للحلم، والوثنية المعترفة بواجب الوجوب والمعظمة للأصنام الحجرية دون اعتقاد الربوبية لها مخالفة بذلك الأمم السابقة التي سمت مدنيتها في أحضان حضارة الوثنية المطلقة.
بهذين الأمرين تشكلت طبيعة الحياة بمفاهيمها وسلوكها ووجدانها وقيمها التي اتسمت بالظلم والجور وفسدان نظم العيش ما خلا بعض القيم النافعة من مدح للكرم وذم للبخل ودعوة للمرؤة وحث على الشجاعة وغير ذلك من الصفات النَّبِيّلة.
وبناءً عليه اضطرب موقف الجَاهِليَّة من العَدالَة وتباينت آراؤهم في مسالك تحقيقها فقد كان « الأخذ بالثائر هو المبدأ السائد »(4) ومنهم من اعتبره سبيلاً لتحقيق العَدالَة في حفظ الدماء ورعاية حرمتها، وعدَّ التخاذل عنه عين الظلم والعدوان بل ويستحق المتخاذل عنه ذماً وتقبيحاً نحو قول امرأة تخاذل قومها عن الأخذ بثأر أخيها(5):
إن أنتم لم تثأروا لأخيكمُ ... ... فَدعوا السلاح ووشِّحوا بالأبرقِ
__________
(1) الزمر / 3.
(2) أوس ابن حَجَرٍ بن مالك التميمي (98 ق.هـ) ، (530م) نحو (2 ق. هـ) (620 م). شاعر تميم في الجَاهِليَّة وهو زوج أم زهير بن أبي سُلمى. انظر: الزِّرِكْليّ، الأعلام (1/374).
(3) ابن حجر، أوس بن حجر بن مالك التميمي: ديوان، ص(36).
(4) البهنسي، أحمد فتحي: العقوبة في الفقه الإسلامي، ص(61).
(5) مكتبي، نذير محمد: صفحات رائدة في مسيرة العَدالَة ، ص(6).(1/115)
وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا ... ... حُلَل النساء فبئس رهط المرهقِ(1)
... فمناصرة الأخ لأخيه من الثوابت التي لا تحتاج إلى برهان لتلبيتها، كما قَالَ الشاعر قُرَيْط بن أُنَيْف العَنْبري التميمي(2):
قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجِذَيْهِ لهم ... ... طاروا إليه زرافات وَوُجْدانا
لا يسألونَ أخاهُم حين ينْدُبُهم ... ... للنائباتِ على ما قَالَ بُرهانا
ولم يكن شخص الجاني بالذات محلاً للثأر بالضرورة فقد كان لولي الدم أن يقتل من هو أعزُّ فقداً عند قبيلة المتهم ولو لم يكن المذنب(3).
وكان قبول الدية كتعويض يعتبر في غالب الأحيان عاراً ودليلاً على الضعف والجبن فلا سبيل للعفو أو الديّة وإنما القصاص.
ألا لا تأخذوا لبناً ولكن ... أذيقوا قومكم حدَّ السلاح(4)
... فقد كان التعطش إلى الثأر والانتقام الجماعي والإسراف في القتل قد بلغ أشده، فالعدوان يقابل بأفظع منه وكثيراً ما كانت كلمة واحدة تسبب القتل وبلغت روح الانتقام درجة مروعة حتى النساء صرن يصبغن ملابسهن بدم القتيل وأكل قلبه وكبده(5).
ومنهم من ذهب إلى أن الظلم في بعض أحواله سبيل إلى تحقيق العدل بل هو أحد حصونه المنيعة التي تَقِيّالإنسان غائلة ظلم الآخرين له وهذا ما أشار إليه زهير بن أبي سُلمى الذي عُرف برصانته وحكمته:
ومن لم يذدْ عن حوضهِ بسلاحهِ ... ... يهدَّم ومَن لا يظلمِ الناسَ يُظلمِ (6)
__________
(1) لم أعثر على مصدر البيتين وذكرهما صفحات رائدة في مسيرة العَدالَة في مقدمته.
(2) المرزوقي، أحمد بن محمد الحسن: شرح ديوان الحماسة، (1/22-23).
(3) البهنسي: العقوبة في الفقه الإسلامي ص(63-64).
(4) الشرباصي، أحمد : القصاص في الإسلام، ص(42).
(5) كحالة، عمر رضا: تاريخ العالم الإسلامي، العرب قبل الإسلام، ص(115).
(6) ابن أبي سلمى، زُهير. ديوان ، شرح ثعلب ، ص(88). وانظر: الجندي، د. علي: شعر الحرب في العصر الجاهلي، مكتبة الجامعة العربية، بيروت، ط 3 سنة 1966 م ،ص (22).(1/116)
وقول النابغة الذبياني(1):
تعدو الذئاب على من لا كلابَ له ... ... وتتَقِيّصولَه المستأسدِ الضاري(2)
... ومنهم من اعتبر المرأة عاراً في المجتمع « فمارسوا سلوكاً لا إنسانياً يوم كانوا يحزنون إن ولدت المرأة أنثى وكانوا يعدونها سبباً لجلب العار، انطلاقاً من شريعة الإغارة والتقاتل فيما بينهم أو يعتبرونها رمزاً للخطيئة انطلاقاً مما ألحقه بالمرأة من حرفوا الحقيقة وعدوا حواء مصدر غواية في الجنة لآدم فاسودت وجوههم من حيث بُشروا بالأنثى فدسوها في التراب حية وسمي فعلهم وأْداً وذكَّرنا ذلك بالظلم الأول الذي مارسه قابيل ضد أخيه هابيل»(3).
المبحث الثالث
مفهوم العَدالَة عند
الفلاسفة والمتكلمين
ويشتمل على ثلاثة مطالب :
المطلب الأول ... ... : ... العَدالَة في الفلسفة اليونانيَّة .
المطلب الثاني ... ... : ... العَدالَة عند المُتَكَلِّمين المسلمين.
المطلب الثالث ... : ... العَدالَة عند متفلسفة المسلمين.
إن الفلسفة في كل صورها « علم إنساني » يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإنسان من قيود وحدود وتدرج بطيء في الوصول إلى المجهول وقابلية للتغيير والتحول وتقلب بين الهوى والضلال واقتراب أو ابتعاد عن درجة الكمال.
__________
(1) النابغة الذبياني، هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر، سُميّ النابغة لقوله: لقد نبغت لنا منهم شؤون.
انظر: ابن قتيبة: الشعر والشعراء، (1/98).
(2) الجندي، د. علي: شعر الحرب في العصر الجاهلي،ص (21).
(3) السحمراني، د. أسعد : العدل فريضة إسلامية والحرِّيَّة ضرورة إنسانية، ص(32).(1/117)
والفلسفة اليونانيَّة -شأن كل فلسفة- مجموعة من التصورات الذهنية والمفاهيم العامة المجردة التي حاولت تفسير الطبيعة والكون ونظامه عن طريق التأمل الفِكْري والبحث النظري اللذين جعلا الفِكْر اليوناني يتأرجح بين صورتين: عقلية علمية وصوفية عرفانية تتجاذب كل من الصورتين نزعات متباينة واتجاهات متضادة تكشف عن اختلاف منطلقات أصحابها الفِكْرية من اختلاف المصادر والمنابع وتنوع المناهج وقصور العقل البشري وتباين طرق الاستدلال.
وأمام هذا الواقع تأرجح الفلاسفة بين نمطين من الفلسفة(1):
الفلسفة المثالية ممثلة بفلسفة أفلاطون(2)
__________
(1) الميداني، عبد الرحمن حسن حبنكة: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(71).
(2) أفلاطون، فيلسوف يوناني يعتبر أعظم فلاسفة الإغريق، عاش ما بين سنة (427-347) ق.م نشأ في أثينا القديمة، وهو تلميذ سقراط وأستاذ أرسطو، وكان رجلاً طُوالاً وسيماً أشقر عريض المنكبين- ( ومعنى كلمة أفلاطون : عريض المنكبين ) – وكان رياضياً قوياً مصارعاً وقد فاز بجائزتين في حلبة المصارعة، وكان شاعراً وأديباً، جاب أقطاراً كبيرة في أوروبا وآسيا، انخرط في إيطاليا في سلك الجماعة الفيثاغورية التي تضم أصدقاء الحق، في الأربعين من عمره أسس أكاديمية علمية في أثينا، وهي أول جامعة في العالم القديم، عمل في صقلية مستشاراً للملك ديونيسيوس الثاني، كتب ثلاثين محاورة ضمنها آراءه الفلسفية وأعظم كتاب له الجمهورية.
أنظر: الميداني، حسن حبنكة: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(71).(1/118)
وأستاذه سقراط(1).
والفلسفة المادية ممثلة بمادية ديمقراطيس(2)، ومادية أبيقور(3).
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه في العصور السالفة كان القانون يعتبر متمتعاً بقداسة تنبع من مصدر إلهي أو سماوي، وكان القانون والأخلاق والدين مترابطين مع بعضهم البعض.
__________
(1) سقراط: فيلسوف يوناني، عاش ما بين (469-399 ق.م) وهو من أثينا ، أبوه نحات وأمه قابلة، لم يترك أثراً مكتوباً لكن سجل حياته وتعاليمه تلميذه أفلاطون في محاوراته، أهمل شؤونه الخاصة، وجال في الاسواق والطرقات والملاعب يتحدث إلى الناس في الفضيلة والعدل والتقوى وما إلى ذلك ، كان يؤمن بالله وببقاء الروح بعد الموت كان يتبع في حواره منهج التوليد، بأن يعاون من يحاوره على استخراج المعرفة من دخيلة نفسه.
أنظر: الميداني، حسن حبنكة: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(71).
(2) ديمقراطيس: فيلسوف يوناني عاش حوالي (460-370 ق.م) يرى العالم مؤلفاً من ذوات متجانسة في طبيعتها، لكنها مختلفة حجماً وشكلاً وثقلاً، وهي لا تدرك بالحواس ولا تنقسم ولا تفنى وتتحرك دائماً فيلتصق بعضها ببعض وتتكون الأجسام ومن آرائه أنه لا يركن إلى الحواس في إدراك حقائق الأشياء بل يركن إلى العقل ومن آرائه أن غاية الحياة السعادة وتتحقق بالسكينة النفسية. أنظر: الميداني، حسن حبنكة: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(72).
(3) أبيقور: فيلسوف يوناني عاش بين (342-270 ق.م) ولد في جزيرة « ساموس » إحدى جزر بحر إيجة، كان أبوه معلماً أثينياً أظهر ميلاً إلى الرياضة العقلية منذ كان صغيراً. وهو الذي وضع أصول مذهب اللذة والسرور، ألفّ كتباً كثيرة لا تقل عن ثلاثمائة كتاب، لكن فقد معظمها. مذهبه أن الهدف من الحياة الاستمتاع باللذات وليس عمل آخر، أخذ عن ديمقريطس نظريته الذرية. أنظر: الميداني، حسن حبنكة: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(72).(1/119)
فكانت هناك قوانين أعتبرت مسنونة من شرع إلهي، مثل الوصايا العشر وأخرى أعطيت هالة من القداسة رغم أنها من مصدر بشري مباشر وذلك من خلال إغداق صفة الإلهام الإلهي على واضعيها من البشر.
لذلك رأينا في الفلسفة اليونانيَّة تلك التصورات الذهنية المتمثلة في فكرة « وجود قانون ثابت لا يتغير يعتبر المثل الأعلى الذي يجب أن تنسج على منواله قوانين المجتمع لأنه قائم على مبادئ لم تؤخذ من تقَاليد متواضع عليها ولا من قواعد محدودة في كتاب بل مصدره الطبيعة - حسب اعتقادهم- ويكشفه العقل من روح المساواة والعدل الكامنة في النفس »(1) وعرف ذلك بالقانون الطبيعي.
« فكما أن الطبيعة بما تحتويه من الأجرام والكواكب والمخلوقات تسير على نظام ثابت مقرر ويحكم هذا القانون الأشياء المادية مثل القول: بأن النار محرقة فإن هناك قانوناً طبيعياً يحكم الميول والنزعات الإنسانية وتخضع له تصرفات البشر وعلاقاتهم وهكذا تكون السَّرِقَة محرمة في حكم هذا القانون الطبيعي»(2).
ويرى كل المدققين السياسيين أن أول من سهل هذا المسلك في اليونان الحكماء حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السِّياسَة بإحيائهم عقدة الاشتراك في الألوهية التي أخذوها عن الآشوريين ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العَدالَة بإله والحرب بإله والأمطار بإله إلى غير ذلك من التوزيع وجعلوا لآلهة الآلهة حق النظارة عليهم وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم(3).
__________
(1) مصطفى، عمر ممدوح: القانون الروماني، ص(16).
(2) عثمان، د. محمد فتحي: من أصول الفِكْر السياسي الإسلامي، ص(74).
(3) الكواكبي، عبد الرحمن: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص(38-39).(1/120)
وبالنظر إلى ماهية هذا القانون الطبيعي فإن التعريف المأثور عنه في تلك الحقبة أنه « مجموعة القواعد العامة الأبدية السرمدية الخالدة التي أودعها الله في هذا الكون والتي يكشفها الإنسان بالتأمل والتعقل والتفكير »(1) فما على الإنسان إلا أن يخضع تصرفاته لنداء العقل الذي يهديه لقانون الطبيعة وبذلك يصل إلى ذروة السعادة ويحقق غايته المثلى، وفضيلة العدل فضيلة من الفضائل التي يرتكز عليها هذا القانون الطبيعي.
« وبهذا يكون القانون الطبيعي الذي يحكم البشر في نظر الفلاسفة الإغريق هو إرادة الآلهة أو القانون الأخلاقي الصادر عن إرادة الآلهة لا عن الإنسان الفاني »(2).
وعند سعي الفلاسفة إلى بيان أسس هذا القانون جرهم إلى الاختلاف فيه فتشعبت الآراء وتعددت المذاهب فمنهم من بنى القانون على الشكل أي على مصدره فأدخل فيه كل أمر اكتسى حلّة التشريع الصادر عن السلطة المختصة في الدولة، ومنهم من التجأ إلى مضمون القانون بدلاً من مبناه فأوجب أن يكون موافقاً للعقل والقانون الطبيعي أو الحق الإلهي أو طبيعة الأشياء ومنهم من بنى القانون على التقَاليد والأعراف والحاجات الاجْتِمَاعِيَّة.
ومن هذا المنطلق تباينت نظرة الفلاسفة إلى مفهوم العَدالَة باعتباره مفهوماً ينبثق من هذا القانون ومن هؤلاء:
__________
(1) مدكور، عبد الفتاح عبد الباقي: المدخل إلى القانون، ص(36) وما بعدها.
وأنظر: ... مدكور، نظرية القانون ، ص(42) وما بعدها.
... منصور، علي علي: المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي، ص(92).
(2) يكن، زهدي : تاريخ القانون ، ص(233-236).(1/121)
1- هيسود : من أوائل من عالج مفهوم العَدالَة في الفِكْر اليوناني، وأسُّ نظريته الفلسفية « أن الكون يخضع لقدر محتوم أملته إرادة الآلهة وبالتالي فإن العَدالَة هبة يهبها زيوس رب العَدالَة لبني البشر وهي وحدها بيت القصيد في حياة البشر»(1). وقد أوضح لنا هيسود ذلك في افتتاحية « الأعمال والأيام » التي تضمنت الدعاء لزيوس رب العَدالَة(2).
2- وجاء عن أصحاب بروتاغوراس(3) (485-411 ق.م) « أن القصاص هو عدل. وأن يحتمل المرء ما قد فعل ذلك هو العدل الحق »(4)
3- سقراط ( 469-399 ق.م): فقد قارن بين القوانين المَدَنيَّة وبين القوانين غير المدونة التي تعم جميع البلاد والتي وضعتها الآلهة للجماعات الإنسانية كلها « فقَالَ عن نفسه أنه ملزم بطاعة الإرادة الإلهية التي تخاطب شعوره الداخلي وتعتبر هي القوة الأسمى أمام ضميره ودونها إرادة سلطات الدَّوْلَة»(5)
... لذا أشاد سقراط بالقانون ودعا إلى احترام القوانين فقَالَ : « إن من يحترم القوانين العادلة إنما يحترم العقل والنِّظَام الإلهي وهذا الاحترام لا يقتصر على القوانين المكتوبة، بل يجب أيضاً احترام القوانين غير المكتوبة التي فرضتها الآلهة على الإنسان في كل مكان»(6).
__________
(1) ،2) عثمان، د. أحمد : الشعر الإغريقي، تراثاً إنسانياً وعالمياً، ص(81،82). وأنظر: وافي، د. علي عبد الواحد، الأدب اليوناني القديم، ص(92).
(3) بروتاغوراس: (485-411 ق.م)، ولد بروتاغوراس أشهر السوفطائيين في أبدرا قبل مولد دمقريطس بجيل من الزمان، كانت فكرته في العقوبة المثل بالمثل والقصاص بالقصاص أحبه أفلاطون دون أتباعه.
... أنظر: ديورانت ول: قصة الحَضَارَة (7/312-313-314) بتصرف.
(4) طاليس، أرسطو: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، (2/78).
(5) عثمان، د. محمد فتحي: أصول الفِكْر السياسي الإسلامي، ص(75).
(6) الجلبي، حسن: الاتجاهات العامة في فلسفة القانون، ص(43).(1/122)
... فسقراط ينادي بعدالة عليا لا يُعلق وجودها على جزاء وضعي، أو صيغة مكتوبة جاء فيها: « فطاعة قوانين الدَّوْلَةهي كذلك واجب مفروض في جميع الأحوال وعلى المواطن الصالح طاعة قوانين الدَّوْلَة حتى لو كانت فاسدة فضرب بذلك مثلاً في وجوب احترام القانون بصرف النظر عن صوابه»(1).
4- أرسطو (2) (445-381 ق.م): « فقد تحدث عن العَدالَة باعتبارها تخص المجتمع المدني، فذهب إلى تصنيفها إلى عدالة تعويضية، وعدالة توزيعية، تتعلق الأولى بالحقوق والواجبات وتتحقق من خلال إعطاء كل ذي حق حقه، وأما الثانية فتتعلق بتوزيع الخيرات العامة على كل فرد من أفراد المجتمع، وفي كلا الحالتين لا بد أن ينال جميع المواطنين حظهم على طول المدى حتى تتحقق العَدالَة»(3).
... « فالعدل القانوني أو التشريعي عند أرسطو هو الذي يمليه المشرع بالقانون المكتوب لتكملة العدل الطبيعي إذ ما يستخلص بملاحظة الطبيعة ليس كافياً وحده فالطبيعة مثلاً توجب عقاب السارق وفقاً لمقتضيات العَدالَة التعويضية، أو التصَحِيْحية، ولكن الطبيعة لا تحدد كيف يكون العقاب، فيتولى هذا التحديد في المدينة الرؤساء المؤهلون لذلك بطبيعتهم»(4)
__________
(1) الجلبي، حسن: الاتجاهات العامة في فلسفة القانون، ص(43).
(2) أرسطو: فيلسوف يوناني، ولد في ستاجير ( مقدونيا ) كان مؤدب ( مربي ) الإسكندر الكبير ومؤسس المدرسة المشائية، يعتبر أرسطو صاحب كتابات كثيرة في المنطق والسِّيَاسِيَّة والتاريخ الطبيعي والفيزياء والميتافيزيك.
... أنظر: القاموس الصغير المصور، ص(1127).
(3) أنظر حول ذلك:
- ... بدوي، د. عبد الرحمن: أرسطو، ص(262) وكتابه الأخلاق النظرية ص(165-167).
- ... وهبة، د. مراد : المعجم الفلسفي، ص(265).
(4) الجلبي: الاتجاهات العامة في فلسفة القانون، ص(68-69) بتصرف.(1/123)
5- أفلاطون (428- 347 ق.م) :اتسمت النظرة إلى العَدالَة بنوع من الدقة والعمق عند أفلاطون فقد وازن بين العدل المطلق وبين التقَاليد والقوانين في البلاد المختلفة فذهب إلى القول بأن العَدالَة تنشأ من الترتيب الذي وضعته الطبيعة بين قوى النفس والانسجام بينها وهذا المثال نفسه هو الذي يحقق العَدالَة في المجتمع بمعنى أن كل قوة من قوى النفس تقابلها طبقة اجتماعية تماثلها، فالعقل يقابله الطبقة الذَّهَبِيّة – الفلاسفة – والقوى الغضبية يقابلها الطبقة الفضية والقوى الشهوانية يقابلها الطبقة النحاسية ولتحقيق العَدالَة في المجتمع عنده لا بد من خضوع الطبقة الفضية والنحاسية للطبقة الذَّهَبِيّة خضوعاً تاماً(1).
وهناك فرق بين موقف أفلاطون كما بسطه في كتاب الجمهورية من مدى ضرورة القانون وأهميته للمجتمع وبين موقفه من هذه المسألة كما بسطه في كتاب القوانين:
ففي كتاب الجمهورية يقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات:
??الطبقة الأولى: الحكام والفلاسفة وقد شبههم بالعقل من الإنسان.
??الطبقة الثانية: المحاربون والحراس وهم المسؤولون عن حماية المدينة وشبههم بالعين.
??الطبقة الثالثة: العمال والصنّاع والزرّاع وهم المسؤولون عن الإنتاج وشبههم بالبطن والشهوة وقد ترك أفلاطون لهذه الطبقة حرية التَّمَلُّك وتكوين أسر من خلال نظام الزواج.
__________
(1) كرسون، اندريه: المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، ص(46).
وأنظر: شبل، د. فؤاد محمد، الفِكْر السياسي (1/100-105).(1/124)
أما بالنسبة للطبقتين الأوليتين الحكام والحراس فأراد أن يُفرغهما من كل ما يُشْغلهما عن الحكم والحراسة، فاقترح شيوعية المال والنّساء بينهم ليكفل لهم ما يحتاجون من مال ونساء دون حساب أو زواج ليضمن عدم انشغالهم عن أعمالهم. وفي كتابه القوانين: عاد إلى مراجعة هذه الأفكار فأقرّ نظام المِلْكِيَّة الفردية بشكل أوسع واعترف بنظام الزواج. ولذا فمن الصعب اعتبار أفلاطون من دعاة الاشْتِراكِيَّة(1).
... فأفلاطون في كتاب الجمهورية يرى أن لا حاجة إلى القانون كنظام محكم من قواعد ملزمة للجماعة إذ تحقيق العَدالَة متروك للحكماء الحاكمين يحكمون وفقاً لما توصى به حكمتهم وفي هذه الحكمة ضمان الحكومة العادلة « فالحاكم الفيلسوف والحكيم هو القانون الحي وحكمه هو الحكم العدل»(2) . وفي كتاب القوانين يرى « أن الله لا يحكمنا مباشرة بل بواسطة العقل الذي وهبنا إياه، فالقوانين التي يقررها العقل تحاكي قوانين العناية الإلهية وتدعوا إلى الخير العام، لذا فالخضوع لها واجب(3).
__________
(1) أنظر حول ذلك:
- ... لطفي، عبد الحميد: علم الاجتماع ص(205-207).
- ... حنبولة، د. محمود علي: الوظيفة الاجْتِمَاعِيَّة للملكية الخاصة، ص(379).
(2) أفلاطون: كتاب القوانين، ص(59-60-61).
(3) العوجى ، د. مصطفى: الأمن الاجتماعي تقنياته، ارتباطه بالتربية المَدَنيَّة، ص(29).(1/125)
6- المدرسة الرواقية(1) ، « والرواقية نزعة خاصة تدعو إلى الزهد وضبط النفس وترى أن الفضائل الأَسَاسيَّة الأربعة هي الحكمة والاعتدال والشجاعة والعدل »(2) وإن الكائنات البشرية كالطبيعة، وإن الطبيعة نظام يتصف بالتناسق مطابق للعقل فليس من تعارض بين الإنسان والطبيعة في فكرهم. وإن العَدالَة تكمن في مدى الانسجام مع الطبيعة بمعنى إخضاع جميع القيم والعادات للقانون الطبيعي ومرادهم من الطبيعة الكون بأسره فالكون هو الله والله هو العقل وبذلك يتحد البشر مع الله عن طريق العقل(3).
... فنلاحظ من خلال استعراض أقوال وآراء الفلاسفة اختلافهم في مفهوم العَدالَة ، فمنهم من يرى هذا المفهوم من المفاهيم المطلقة مثل هيسود وأفلاطون والرواقيون ومنهم من يرى أنّه من المفاهيم النسبيّة: كأرسطو وتبعه في ذلك ال-يون(4).
__________
(1) وسُميّ أصحابها بالرواقيين لأن الفيلسوف اليوناني، زيوف صاحب هذا المذهب كان يُعلمّ طلابه في رِواق، والرواقيّ يرى أنّ السعادة في الفضيلة وهو لا يفرح بشيءٍ أتاه ولا يحزن على شيءٍ فقده، لأن الإنسان جزء من الكون، ويرى أنّ كلّ ما يقع في الطبيعة إنّما هو بتأثير القدر، أي بتأثير ما قدره العقل الكلّ منذ الأزل، فإذاً هو مُسيّر ولا دخل له في كلّ ما يجري له. انظر: الزين، سميح، طريق الإيمان، ص(242).
(2) عثمان، د. محمد فتحي: من أصول الفِكْر السياسي الإسلامي، ص(76).
(3) شبل، د. فؤاد محمد: الفِكْر السياسي، (1/143،144).
(4) الأبيقوريون ، واحدها الأبيقوري ، وهو المنسوب إلى أبيقور، (460-370 ق.م) الذي يقوم مذهبه على إسعاد الذات بلذّةٍ معنويّةٍ يكون الإنسان حاذقاً في اختياراها عارفاً في دقائق قيمها، وعليه فالإنسان هو الذي يختار ويفعل جميع الأفعال بإرادته واختياره دون أيّ إكراه انظر: الزين، سميح، طريق الإيمان، ص(241).(1/126)
... انصرم القرن الأول للهجرة والمسلمون يتلقون الأفكار الإسْلاميَّة في فهم مشرق وإيمان قطعي ووعي مدهش إلا أن حمل الدعوة الإسْلاميَّة أدى إلى التقاء الإسلام بحضارات الأمم الأخرى، فترتب على هذا الالتقاء صراع فكري، كان له أبلغ الأثر في نهضة عقول بعض المسلمين ممن انبرى للدفاع عن العقيدة الإسْلاميَّة ودحض العقائد المخالفة، وعلى رأسها الفلسفة اليونانيَّة ، التي تسلح النصارى بأفكارها للوقوف في وجه دعوة الإسلام فأدى ذلك إلى حركة ترجمة انتقلت من خلالها الفلسفة اليونانيَّة إلى من اشتغل بهذا الأمر من المسلمين ، فكان لها أثرها فيما يُسمى بـ « علم الكلام » والطرق الكلامية، وشغل أهله بالجدل فتفرقوا إلى مذاهب ونحل، واستكبرت العقول فتطاولت على كل شيء وبالغت في التفكير في ذات الله، وتقليب الرَأْي في صفاته، والإنسان في حقيقته عاجز عن استقصاء ما في ذاته من دقيق الخلق، فكيف يمكن للعقل أن يدرك خالقه ومن بيده الأمر كله؟! وكيف يدرك الخالق بصفاته، وليس كمثله شيء نقيسه عليه؟!
... وما يهمنا في هذا المقام هو أنَّ ما وفد من النصارى قبل الترجمة من مسائل فلسفية وقضايا منطقية جعل المسلمين يبرزون لهم بروز الفارس في ساحة الوغى يدفعهم إلى محاجة القوم فيما أثاروه من شبهات أحكام الإسلام وأفكاره في الجدال والحوار والرد والنقض فعكفوا على التسلح بأفكار فلسفية من جنس ما يحاربون به.
... ومن الطبيعي أن الجدل يستدعي النظر ويثير التأمل، وقد يؤدي إلى التأثر وهذا ما حصل فوجد أشخاص ينهجون نهجاً جديداً في البحث والجدل متأثرين بطرق استدلال الفلاسفة فتكوَّن علم الكلام كعلم أساسه القرآن وهدفه الدفاع عن الإسلام وبيان أفكار القرآن بمنهج خاص يخالف منهج القرآن والحديث وسلف الأمة في البحث والتقرير والتدليل.(1/127)
... ووجدت طوائف تعلقت بمشكلات أهمها خلق الأفعال والوحي والعقل، ومن أهم تلك المدارس المعتزلة (1)
__________
(1) فرقة إسلامية،رأسها واصل بن عطاء (131هـ) سُموا بهذا الاسم، نتيجة لاعتزال واصل حلقة الحسن البَصْرِي، بعد خلاف حول مرتكب الكبيرة، وسمى المعتزلة أنفسهم بأصحاب العدل، وأصحاب التوحيد، واعتمدوا على العقل في إثبات العقائد وردوا على تيار الزندقة، ونازلوا الوثنيين، ومارسوا الجدل، وأغرقوا الفِكْر الإسلامي بالمناظرات، وجادلوا المجوس، والوثنية، والأشاعرة ، والماتريدية، حتى أصابت حملتهم الفقهاء والمحدثين، افترقوا إلى فِرق منها: الواصلية، والهذيلية، والنظامية، والجاحظية.
أنظر: عزوز، إسحاق بن عقيل المكي، (1415هـ): الفرق الإسْلاميَّة ، ص(76-82).(1/128)
والأشاعرة(1)
__________
(1) الأشاعرة: فرقة كلامية إسلامية، تُنسب لأبي الحسن الأشعري الذي خرج على المعتزلة وقد اتخذ الأشاعرة البراهين والدلائل العقلية والكلامية وسيلة في محاججة خصومها من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، لاثبات حقائق الدين والعقيدة الإسْلاميَّة . ومن أبرز أئمة المذهب: الباقلاني، والغَزَالي، والاسفراييني وإمام الحرمين والفخر الرَّازي وعموماً فإنّ عقيدة الأشاعرة، تُنسب إلى عقيدة أهل السنة والجماعة بالمعنى العام في مقابل الخوارج والشيعة والمعتزلة. وأنّ الأشاعرة وبخاصة أشاعرة العراق الأوائل أمثال: أبو الحسن الأشعري، والباهلي، وابن مجاهد والباقلاني وغيرهم، أقرب إلى السنّة والحق من الفلاسفة والمعتزلة بل ومن أشاعرة خراسان كأبي بكر بن فورك وغيره، وإنّهم ليحمدوا على مواقفهم في الدفاع عن السنّة في وجه الباطنيّة والرافضة والفلاسفة. وممّا يجب التنبيه إليه هو ما آل إليه الإمام أبو الحسن الأشعري بعد كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي حمل فيه لواء أحمد بن حنبل ورجع فيه إلى إثبات الصفات جميعها من غير تكييفٍ ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تبديل، ولا تمثيل، ورجع فيه عن كثير من آرائه الكلامية إلى طريق السلف في الإثبات وعدم التأويل، كما بيّن ذلك الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري ص(136)، والحافظ البَيْهَقِيّ في كتاب الاعتقاد ص(96، 109) و وبعض الدراسات الجادة نحو المذاهب الإسْلاميَّة للبروي ، ص(518) و مقدمة الإبانة لفوقية محمد ص(27).
أنظر: الجُهني ، د. مانع بن حّماد: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ، ص(86)، إلى ص(97).(1/129)
والماتريدية(1) والمتفلسفين من المسلمين، وسنتكلم عن هذه الطوائف بما يناسب مع موضوعنا في الدراسة.
__________
(1) الماتريدية : فرقة كلاميّة إسلاميّة ، تُنسب إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقليّة والكلامية في محاججة خصومها من المعتزلة والجهمية وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسْلاميَّة . من أبرز أئمة الماتريدية: أبو اليُسر البزدوي، وأبو المعين النسفي، والكمال بن همّام وينتسبون في مجملهم إلى الإمام أبي حنيفة ومذهبه في الفروع وتعمل الجامعات والمدارس على نشر مذهبه في كثير من أصقاع الأرض وتُدرس العقيدة الماتريدية في الهند وباكستان وتركيا والمغرب على أنّها عقيدة أهل السنة والجماعة.
أنظر: الجهني، د. مانع بن حمّاد: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ، ص(99 إلى 108).(1/130)
... يسمي المعتزلة أنفسهم أصحاب العدل، قَالَ القاضي عبد الجبار(1): « اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم، وقيامهم، وقعودهم، حادثة من جهتهم وأن الله عزّ وجلّ أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها، ولا محدث سواهم و إن من قَالَ أن الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطؤه... »(2).
... فالعبد خالق لأفعال نفسه بقدرة أودعها الله فيه عندهم فمن نجا فبفعله ومن هلك فبفعله، لأنه تعالى عادل لا يظلم أحداً.
... ويريدون بالعدل أنه تعالى يصدر الفعل على وجه الصواب والمصلحة وأن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير، فيجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد وأما التكاليف فألطاف للباري أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء والرسل امتحاناً واختباراً ليهلك من هلك على بينّة ويحيى من حيى عن بينّة.
__________
(1) هو عبد الجبار بن أحمد بن خليل بن عبد الله الهمذاني الأسد آبادي (330هـ) تقريباً. ولد في مدينة أسد آباد وفي قزوين بدأ يتلقى دروسه الأولى في الفقه والأصول والكلام والحديث، وفي البصرة تحول من المذهب الأشعري إلى مذهب المعتزلة ، ثم انتقل إلى بغداد فواصل دراسته للاعتزال حتى بلغ مرتبة العلماء في الاعتزال ، وفي زامهرمز بنواحي خوزستان شرع يلقي دروسه على تلامذته حتى استدعاه الصاحب بن عباد إلى الري عاصمة الدَّوْلَةالبوبهية، وهناك تولى منصب قاضي قضاة الدَّوْلَةفي سنة 367هـ سنة 977م حتى وافاه الأجل 415هـ-1024م وخلف كتباً هي أغنى مصدر لدراسة الاعتزال ومنها: شرح العمد، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة وشرح الأصول الخمسة والمُغْني في أبواب التوحيد والعدل، أنظر : عثمان، د. عبد الكريم: قاضي القضاة عبد الجبار الهمذاني، (2/411/413).
(2) الهمذاني، عبد الجبار بن أحمد: المُغْني في أبواب العدل والتوحيد، (8/3).(1/131)
... وقَالوا : إنّ الرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل وهو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً، وبنو على ذلك أن الله لا يحب الفساد ولا يخلق أفعال العباد بل يفعلها العباد بالقدرة التي ركبها الله فيهم، فالعبد عندهم قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، يستحق على ما يفعله ثواباً أو عقاباً، وأنه تعالى لا يأمر بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة، أمر بها وبرئ من كل سيئة نهى عنها.
... وقَالوا: من نجى بفعله استحق الثواب ، ومن خسر فبفعله استوجب العقاب، وأن العقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك، وقرروا أن فعل الصلاح والأصلح واجب له تعالى وأن للأشياء حسناً ذاتياً وقبحاً ذاتياً فمستحيل أن يأمر الله بفعل ما هو قبيح لذاته، وذلك ما يسمى عندهم فعل الصلاح، فالصلاح واجب له ولا شيء يفعله إلا وهو صالح، ويستحيل عليه أن يفعل غير الصالح وسموا هذا النمط عدلاً(1).
... وقَالَ الأشاعرة: إن الفعل مخلوق لله والكسب من العبد، وبالكسب يكون التكليف ويكون الثواب ويكون العقاب.
__________
(1) أنظر حول تلك المسألة:
- ... عزوز، إسحاق بن عقيل: الفرق الإسْلاميَّة ، ص(71-72).
- ... ابن تَيْمِيَّة: منهاج السنة، (2/298).
- ... ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص(42).(1/132)
... والماتريدي(1): في هذه القضية يقرر أن الله سبحانه وتعالى خالق الأشياء كلها فلا شيء في هذا الوجود إلا وهو مخلوق لله تعالى لا شريك له سبحانه، وإثبات الخلق لغيره إثبات للشريك وذلك غير مقبول ولا معقول.
ثم يقول الماتريدي أيضاً: إنّ حكمة الله تقضي ألا يكون ثواب إلا وللعبد اختيار فيما يستحق عليه الثواب ولا عقاب بالأولى إلا فيما يكون العبد اختيار منه وأنّ ذلك فوق إنه مقتضى الحكمة هو مقتضى العدل أيضاً.
وعلى ذلك تكون أفعال العباد عنده مخلوقة لله تطبيقاً لقوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (2)، ويبقى التوفيق بين اختيار العبد عنده وبين كون الفعل مخلوقاً لله سبحانه.
وللتوفيق يقول ما قَاله الأشعري: « إن العبد له الكسب وهو مختار فيه وبهذا الكسب يكون الثواب والعقاب ثم يفترق عن الأشعري».
إذ الاشعري يقرر أن ذلك الكسب هو الاقتران بين الفعل الذي هو مخلوق لله تعالى واختيار العبد من غير أن يكون للعبد تأثير في هذا الكسب. وعلى ذلك يكون الكسب عند الأشعري مخلوقاً لله تعالى كالفعل نفسه.
__________
(1) الماتريدي: هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، نسبة إلى (ماتريد). قَالَ عبد الله المرائي في كتابه الفتح المبين في طبقات الأصوليين : «كان أبو منصور قويّ الحجّة دافع عن عقائد المسلمين، وردّ شبهات الملحدين». (1/193-194) وقَالَ عنه أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفِكْر والدعوة « جهبذٌ من جهابذة الفِكْر الإنساني امتاز بالذكاء والنبوغ وحدق الفنون العلمية المختلفة » ، ص(139). بل كان يرجحه على أبي الحسن الأشعري في كتابه تاريخ الدعوة (1/114-115). توفي عام 333هجرية ودُفن بسمرقند، وله مؤلفات منها : تأويلات أهل السنّة أو تأويلات القرآن ، وكتاب التوحيد، وردّ الأصول الخمسة ، والردّ على فروع مذهب القرامطة. انظر : الجُهني، الموسوعة المُيسرة، ص(100).
(2) الصافات / 96.(1/133)
أما الكسب عند الماتريدي فإنه يكون بقدرة أودعها الله في العبد، فالعبد عنده يستطيع أن يكسب الفعل بقدرة مخلوقة فيه ويستطيع أن لا يكسبه بهذه القدرة، فهو حر مختار في هذا الكسب إن شاء فعل واقترن بالفعل الذي هو مخلوق لله تعالى، وإن شاء ترك وبذلك يكون الثواب ويكون العقاب، وحينئذٍ لا يتنافى مع كون الله خالقاً لأفعال العباد مع اختيارهم(1).
ومؤدى الأمر: أن المعتزلة قرروا أن خلق الفعل بقدرة أودعها الله في العبد، والأشاعرة قرروا أن لا قدرة للعبد في الفعل ولكن له الكسب والكسب لا يكون إلا بالاقتران لا بتأثير من العبد، والماتريدي قرر أن الكسب بقدرة العبد وبتأثيره وهذه القدرة لا يكون بها التأثير في الكسب ويظهر أثرها عند وجود الفعل هي الاستطاعة التي هي مناط التكليف عند أبي حنيفة وتبعه فيها الماتريدي، وتكون عند الفعل لأنها القدرة المتجددة الحادثة فلا يلزم أن تكون قبل الفعل، والمعتزلة قرروا أن الاستطاعة تكون قبل الفعل لأن التكليف والخطاب به يكون قبل الفعل لا بعده.
من خلال ما سبق، يظهر أن قضية الجبر والاختيار جعلها المتكلمون قضية تتعلق بعلاقة الإنسان بالذات الإلهية وبالحدود الفاصلة بين فعل الخلق وفعل الخالق، وبالجزاء والثواب والعقاب، فرأى المعتزلة المسمّون بأحد الأصول الخمسة التي اجتمعوا عليها وأجمعوا على الإيمان بها تمييزاً لمدرستهم وتيارهم الفِكْري عن غيره من التيارات وهو أهل العدل والتوحيد، يرون أن القول بجبرية الإنسان نفياً للعدل عن الذات الإلهية، ونسبة الجور لأن في حساب الإنسان ومثوبته وعقابه على أعمال هو مجبر على إتيانها جوراً لا محالة، إذ فيه تكليف الإنسان ما لا يُطيق فعله أو لا يستطيع الفكاك من إتيانه.
__________
(1) أنظر المراجع السابقة حول هذه المسألة.(1/134)
يقول مانكديم(1) : « إن النبوات والشرائع داخلان في العدل لأنه كلام في أنه تعالى، إذا علم أن صلاحنا في بعثة الرسل، وأن نتعبد بالشَّرِيعَة، وجب أن يبعث ونتعبد ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه.
وكذلك يدخل الوعد والوعيد في العدل، لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، فلا بد من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ومن العدل ألا يخلف ولا يكذب وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل، لأنه كلام في أن الله تعالى، إذا علم أن صلاحنا في أن يتعبدنا بإجراء الأسماء والأحكام على المكلفين وجب أن يتعبدنا به، ومن العدل ألا يخل بالواجب وكذلك الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).
وزاد القاسم بن إبراهيم(3)
__________
(1) هو مانكديم أحمد بن أحمد بن الحسين بن أبي هاشم الحسيني ششديو، أحد أئمة الزيدية، خرج بالري سنة (411هـ) وتوفي بها سنة (420هـ) وهو أحد تلاميذ القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي، كما أنه أحد من جمع شرح الأصول الخمسة للقاضي وعلق عليها.
أنظر: عمارة، د. محمد: رسائل العدل والتوحيد ( لخمسة أئمة ) ، ص(78).
(2) الهمذاني، عبد الجبار بن أحمد : شرح الأصول الخمسة، ص(25).
(3) هو أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل، بن إبراهيم بن الحسن المثنى، الشهير بالرَّسِّي(169-246هـ)، متكلم وفقيه وشاعر ومن أئمة الزيدية وهو شقيق الإمام الزيدي ابن طباطبا نهض بأمر الدعوة العلوية وتمت له البيعة ولوحق على أثرها من الدَّوْلَةالعَبَّاسية وظل متخفياً عنها لائذاً بالفرار من وجه خلفائها يرى رأي المعتزلة في الأصول الخمسة.
أنظر: ترجمته ، الفهرست ص(193) ، الأصفهاني : في مقاتل الطالبين ص(553-556) و عمارة، د. محمد: رسائل العدل والتوحيد، ص(22).(1/135)
أصلاً سادساً أسماه محمد عمارة في تقديمه لرسائل العدل والتوحيد بـ « العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والمالية والاقتصادية »(1) وذلك عندما يقول: « وأن التقلب بالأموال والتجارات والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام وينتهي ما جعل الله للأرامل والأيتام والمكافيف والزمنا(2) وسائر الضعفاء ليس من الحل والإطلاق كمثلة في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن »(3)
إن أصل العدل من أصول المعتزلة كما يدل على ذلك الاقتباس الذي فرغنا من إيراده هنا، وهذا الأصل تنطوي تحته ثلاثة أصول أخرى، هي الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بالإضافة إلى النّبوّات والشَّرْعيات، فإذا أضفنا إلى أصل العدل أصل التوحيد كنا قد جمعنا كل أصول الاعتزال.
__________
(1) عمارة، د. محمد: رسائل العدل والتوحيد ( لخمسة أئمة ) ، ص(76).
(2) الزمنا: جمع زمن وهو العاجز.
(3) مجموعة رسائل الإمام القاسم، (29086ب). وأنظر: عمارة، د. محمد: رسائل العدل والتوحيد، ص(76).(1/136)
ويلاحظ أنّ بعض التيارات الفِكْرية غير الاعتزالية قد شاركت المعتزلة في القول بالعدل أو بالتوحيد أو بهما معاً أو بجزئيات وعناصر من هذين الأصلين الجامعين لفكر أصحاب الاعتزال، كالزيدية(1) المتبنية أصول الاعتزال وعنهم يقول الشَّهْرَسْتانيّ (2) « أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت ».
وفي ختام هذه النقطة لا بد من التنويه لما عقده بعض الباحثين من صلة بين الاختيار كمشكلة كلامية وبين الحرِّيَّة بوجه عام وبين الجبر كمشكلة كلامية والاستبداد.
فقد اعتبر محمد عمارة قيام صلة وثيقة بين مصطلحي الاختيار والحرِّيَّة وجعل من الثاني البديل المعاصر لشبيهه القديم.
__________
(1) تعتبر الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة والجماعة، وترجع نسبتها إلى مؤسسها زيد بن علي زين العابدين، وكان يرى صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولم يقل أحد منهم بتكفير أحد من الصحابة، ويميلون إلى الاعتزال فيما يتعلق بذات الله والاختيار في الأعمال، ومرتكب الكبيرة يعتبرونه في منزلة بين المنزلتين ويخالفون الشيعة في زواج المتعة ويستنكرونه وفي الفروع لا يخرجون عن إطار مدارس الفقه الإسلامي ومذاهبه، ومواطن الاختلاف بين الزيدية والسنّة في مسائل الفروع لا تكاد تُذكر. انظر: أبو زهرة ، محمد الإمام زيد والجهني الموسوعة الميسرة ، ص(81-86).
(2) الشَّهْرَسْتانيّ : هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد ، أبو الفتح، ولد بشهرستان عام 479 هجرية، كان عالماً بمذاهب الفلاسفة وأديان الأمم، عاش في بغداد وتوفي بشهرستان عام (548هـ) من كتبه الملل والنّحل .
انظر : سير أعلام النبلاء (20/286)، والأعلام ، (6/215).(1/137)
قَالَ : « وكل ذلك يؤكد العلاقة الوثيقة بين الجبر والاستبداد ومن ثم العلاقة الوثيقة بين الاختيار والحرِّيَّة» (1) وليؤكد هذه الصلة أسمى كتابه « مشكلة الحرِّيَّة الإنسانية » لمعالجة هذه القضية ولينتصر إلى الاختيار ( الحرِّيَّة ) قائلاً: « حرية الإنسان رسولاً لله، ومرسلاً إليه وحرية الملائكة، وكذلك إبليس فجعل التكليف قائماً على الحرِّيَّة والاختيار»(2). وكل ذلك ظن والظن لا يغني عن الحق شيئاً.
لقد أتيح لثلة من المُفَكِّرين الإطلاع على الأفكار الفلسفية اليونانيَّة من كتب الفلسفة فأكبوا على دراستها دراسة عميقة ودراسة كلية مطلقة في كل شيء حتى تأهلوا لأن يفكروا تفكيراً فلسفياً وينتجوا إنتاجاً فلسفياً، سموا بالفلاسفة المسلمين، أمثال الكندي والفارابي وابن مسكويه وابن سينا وابن الهيثم وابن باجة وابن طفيل وابن رشد.
وقد كان جلّ ما عنى به متفلسفة المسلمين هو التوفيق بين التفكير الإسلامي وبين الفلسفة اليونانيَّة ومحاولة إيجاد فلسفة تلتَقِيّفيها هذه العناصر، معتمدين على مصدرين هما العقل والوحي.
__________
(1) عمارة، د. محمد: المعتزلة ومشكلة الحرِّيَّة الإنسانية، ص(5/88/217).
(2) عمارة، د. محمد: المعتزلة ومشكلة الحرِّيَّة الإنسانية، ص(106).(1/138)
إلا أن طبيعة البحث في الفلسفة والتي تتمثل في البحث المجرد من خلال النظر في المسائل كما يدل عليها البرهان العقلي بغض النظر عن النتيجة كائنة ما كانت جعلت متفلسفة المسلمين مع اختلاف فيما بينهم أكثر ميلاً إلى الفلسفة اليونانيَّة « فالفارابي مثلاً كان أكثر ميلاً لفلسفة أرسطو، ومال ابن سينا للأفلاطونية الحديثة»(1)، لذلك « كانت أبحاثهم فلسفية محضة لا علاقة للإسلام بها وآراؤهم لا تعتبر آراءً إسلامية وأفكارهم لا تدخل في دائرة الثَّقافَة الإسْلاميَّة»(2).
« ومن هذا المنطلق كان من الظلم وخلاف الواقع أن تسمى الفلسفة التي اشتغل بها أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم - من متفلسفة المسلمين – فلسفة (إسلاميّة) لعدم الصلة بينها والإسلام وللتناقض التام في الأساس الذي ينطلقون منه وهو فهم الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته بخلاف الإسلام فإنه يبحث في الواقع المحسوس ويأمر بالتسليم فيما وراء الكون تسليماً مطلقاً »(3).
وأما ما يشاهد من علاقة بين البحث الفلسفي والأفكار الإسْلاميَّة في بعض المواضيع فهو إما تسليم من متفلسفة المسلمين بما ورد من النقليات التي لا يمكن إقامة البرهان العقلي على صحتها أو بطلانها كالبعث والنشور والمعاد الجسماني، وإمّا أن يكون بخروجهم عن الأساس الذي ينطلق منه وهو فهم الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته فيصدرون الحكم قبل البحث المجرد.
__________
(1) شلبي، د. أحمد : الفِكْر الإسلامي منابعه وآثاره، ص(137).
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (1/125) بتصرف.
(3) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (1/125) بتصرف.(1/139)
وإمّا أن يكون محاولة للتوفيق بين بعض القضايا الفلسفية والقضايا الإسْلاميَّة بسبب كونهم مسلمين يتأثرون بالإسلام أشبه ما يكون بتأثر الفلاسفة المسيحيين بالمسيحية والفلاسفة اليهود باليهودية باعتبار أنه لا بد أن تظل مفاهيم الأعماق رواسب تقفز أثناء البحث، إلا أن البحث يبقى بحثاً فلسفياً والعقلية عقلية يونانية لا صلة لها بالإسلام.
وسوف نتعرض لآراء بعض الفلاسفة حول العَدالَة.
1- الفارابي(1) (260-339هـ،874-950م):
__________
(1) الفارابي (260-339هـ،874-950م)، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ أبو نصر الفارابي، يعرف بالمعلم الثاني، أكبر متفلسفة المسلمين، تركي الأصل، مستعرب ولد في فاراب ( على نهر جيحون ) وانتقل إلى بغداد فنشأ فيها وألّف فيها أكثر كتبه، ورحل إلى مصر والشام واتصل بسيف الدَّوْلَةابن حمدان، توفي بدمشق، كان يحسن اليونانيَّة أكثر اللغات الشرقية في عصره، وعرف بالمعلم الثاني لشرحه مؤلفات أرسطو (المعلم الأول) ، له نحو مئة كتاب منها «الفصوص» و«إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها» و « آراء أهل المدينة الفاضلة ».
أنظر: الزِّرِكْليّ، خير الدين: الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال، (7/20).(1/140)
... يقول في كتابه المدينة الفاضلة : « العدل إعطاء كل واحد قسطه... وهذا بالنسبة للخيرات المشتركة لأهل المدينة على جميعهم... ثم في حفظ ما قسم عليهم... فكل واحد من أهل المدينة له قسط من هذه الخيرات مساوياً لاستئهاله...فنقصه ذلك وزيادة عليه جور، ثم بعد ذلك يحفظ على كل واحد قسطه، إمّا بأن لا يخرج عن يده وإمّا بأن يخرج بشرائط وأحوال لا يلحق بخروجه عند يده من قسطه ضرر لا به ولا بالمدينة، فالعدل إذن أن يعاد للمرء ما خرج عن يده من قسطه، سواء عاد عليه في خاصة نفسه أو على المدينة، والعدل عنده كذلك استعمال أفعال الفضيلة فيما بينه وبين غيره، أي فضيلة كانت وعلى هذا إعطاء كل واحد قسطه وحفظه عليه نوع من أنواع العدل، وهناك أنواع أخرى مثل التفويض لكل واحد من أهل المدينة بعمل يفرد به ولا يترك أحد منهم يزاول أعمالاً كثيرة ومثل إعداد أموال للطوائف الذين ليس من شأنهم أن يكسبوا مالاً، كحملة الدين... والأطباء وذويهم... وكالزمنى والذين لا قدرة لهم أن يكسبوا الأموال... ومثل الحرب من أجل إعطاء العدل والنصفة، أو قمع تمرد، وجعل قوم على قوم على ما هو الأجود والأحظى، أي الحرب لاكتساب خير للمدينة وردهم إلى الأصلح لهم، ودفع عدوٍّ بالقوة، كل هذا عدل»(1) ويقول « ...فما في الطبع هو العدل، فالعدل إذن التغالب فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضاً من العدل وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضاً عدل، فهذه كلها من العدل الطبيعي، وهي الفضيلة.. وأحياناً يتقارب الأفراد وتتقارب الجماعات في القوة... عندئذ يصطلح الأفراد والجماعات على شرائط يتعاملون بها... فالوفاء بما اصطلح عليه كل فريق هو العدل الوضعي وهو ناتج عن ضعف وخوف في الفريقين »(2) .
__________
(1) نادر، د. ألبير نصري: أبو نصر الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، ص(157-160).
(2) فروخ، د. عمر : تاريخ الفِكْر العربي، ص(364-365).(1/141)
... وعلى هذا فالعَدالَة عند الفارابي لا تتمايز كثيراً عما هي فلسفة أرسطو « ولهذا عرف في تاريخ الفِكْر بأنه المعلم الثاني أو الشارح لشرحه أكثر من مائة كتاب نصفها تقريباً نقد وشروح وتعليقات على أبحاث أرسطو(1) ولا يخفى تأثيره فيما اقتبسناه بأفلاطون فيما يتعلق بالربط بين السِّيَاسِيَّة والأخلاق وإلى ما ذهب إلى القول به من العدل الطبيعي والعدل الوضعي، إضافة إلى تأثره بالحياة السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة التي كانت سائدة في عصره وبالأفكار الشيعية الإمامية من خلال دور الراعي أي رئيس المدينة الفاضلة ووظيفته مع رعيته « كما أن القلب أولاً ثم يكون هو السبب في أن يكون سائر أعضاء البدن والسبب في أن تحصل لها قواها وأن تترتب مراتبها »(2) وفي هذا التأثر يقول د. الجروزميله « فلسفة الفارابي مزيج من أرسططاليسية وأفلاطونية حديثة مع صبغة إسلامية واضحة ونزعة شيعية إمامية لا شك فيها »(3).
2- ابن مسكويه(4)( 972-1030م) : ...
__________
(1) شلبي، د. أحمد: الفِكْر الإسلامي منابعه وآثاره، ص(139-140) بتصرف.
(2) نادر، د. ألبير نصري: أبو نصر الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، ص(128-129)بتصرف.
(3) الفاخوري، د. خليل الجروحنا : تاريخ الفلسفة العربية، (2/152).
(4) ابن مسكوية (421هـ-1030م) أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكوية، أبو علي، مؤرخ بحاث، أصله من الري وسكن أصفهان وتوفي بها، اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق مدة، ثم أولع بالتاريخ والأدب والإنشاء، كان قيماً على خزانة كتب ابن العميد ثم كتب عميد الدَّوْلَةابن بويه فلقب بالخازن، ثم اختص ببهاء الدَّوْلَةالبويهي وعظم شأنه عنده.
أنظر: الزِّرِكْليّ، خير الدين: الأعلام في قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء، (1/211-212).(1/142)
... تناول ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق، مفهوم العَدالَة من خلال حديثه عن أسس التربية الأخلاقية انطلاقاً من معرفة تامة بالنفس البشرية ومقوماتها وقواها.
« فإنسانية الإنسان تتم بتوافر إرادته واتجاهها نحو الخير وابتعادها عن الشر وقوى النفس الثلاث هي قوة التفكير وقوة الغضب وقوة الشهوة، متى اعتدلت لدى الإنسان ولدت لديه فضيلة العَدالَة والعفة والحكمة، والشجاعة تلك التي للإنسان أن يتباهى ويفتخر بها »(1).
فالعَدالَة : « فضيلة للنفس تحدث لها اجتماع الفضائل الثلاث الحكمة والعفة والشجاعة وذلك عند مسالمة هذه القوى بعضها لبعض واستسلامها للقوة المميزة »(2).
ويرى ابن مسكويه أن العَدالَة تقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- عدالة دينية وهي فيما بين الإنسان وخالقه.
2- عدالة مدنية وهي فيما يؤديه الناس بعضهم لبعض، وتشمل :
أ- قسمة الأموال والكرامات وتكون نسبة كل واحد كنسبة من كان في مثل
مرتبته.
ب- قسمة المعاملات الإدارية، كالبيع والشراء والمعاوضات.
ج- قسمة الأشياء التي وقع فيها الظلم والتعدي، فالعَدالَة توجب أن يلحق الضرر
الآخر ليعود التناسب، فالعادل من شأنه أن يساوي بين الأشياء الغير متساوية.
3- العَدالَة الكبرى: وهي ما يجب أن يكون بين الناس من حقوق تجاه أسلافهم مثل أداء الديون وانفاذ وصاياهم(3).
... ...
__________
(1) ابن مسكويه، أحمد بن محمد بن يعقوب: تهذيب الأخلاق في التربية ص(13، 14 ، 15)بتصرف.
(2) ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق في التربية، ص(14).
(3) نادر، د. ألبير نصري: أبو نصر الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، ص(128-129)بتصرف.(1/143)
ويرى أن الفضائل كلها اعتدالات وأن العَدالَة اسم يشملها ويعمها كلها... «وأن الشَّرِيعَة لما كانت تقدر الأفعال الإرادية التي تقع بالروية وبالوضع الإلهي صار التمسك بها في معاملاته عدلاً والمخالف لها جائراً فلهذا قلنا أن العَدالَة لقب للتمسك بالشَّرِيعَة»(1).
... ومن ذلك تبين لنا أن ابن مسكويه « يحاول التوفيق بين آراء شتى يجمعها من شتات المذاهب الخلقية وبين تعاليم الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة ، وكان أشبه بأرسطو من غيره »(2) كما يبدو تأثيره بأفلاطون خاصة في قوله باعتدالات النفس وتقسيم القوى فيها إلى ثلاث قوى وجعله العَدالَة التنسيق بين هذه القوى، وهذه المنهجية هي أساس كتابه تهذيب الأخلاق حيث انتقل من التعريف بالنفس البشرية وقواها إلى الخلق وتهذيبه بغية الوصول إلى الكمال الإنساني ومن ثمَّ تجديد الخير والسعادة ومراتبها، ثم إلى العَدالَة مبيناً أن السلوك المعتدل في كل شيء الموازن بين القوى التي تتحكم بالنفس البشرية فلا تجنح إلى التطرف « فالعادل من شأنه أن يساوي بين الأشياء غير المتساوية...وفي هذه الحال لا بد من العلم بطبيعة الوسط حتى يرد الطرفين إليه والشَّرِيعَة هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والاعتدال»(3) .
3- ابن سينا(4)(
__________
(1) فخري، د. ماجد: الفِكْر الأخلاقي العربي، (2/139).
(2) ذكرى، أبو بكر: تاريخ النظريات الأخلاقية، ص(31).
(3) فخري، د. ماجد: المرجع نفسه، (2/132-134).
(4) ابن سينا : أبو علي الحسين بن عبد الله، (980-1036م) فيلسوف وطبيب مسلم يلقب بالشيخ والرئيس، ولد في أخشنة، قرب بخارى، ودرس العلوم الشَّرْعية والعقلية وأصبح حجة في الطب والفلك والرياضة والفلسفة، وفيها اختلال في المعتقد لا يحتمل وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة كثيراً منها في كتابه تعارض العقل والنقل. توفي ودفن في همذان، من مصنفاته : الشفاء، النجاة، الإشارات، التنبيهات.
أنظر: سير أعلام النبلاء (17/531)، والأعلام (2/241).(1/144)
1036م):
... « والعَدالَة عند ابن سينا فضيلة من الفضائل الأربع العفة والشجاعة والحكمة والعَدالَة ، والعَدالَة أصل يرجع إليها مجموعة من الفضائل تتفرع عنها، إما كالأنواع لها أو كالمركب فيها وهي السخاء والقناعة والصبر والكرم والحلم والعفة والصفح والتجاوز وكتمان السر والحكمة ... فها هو في هذا المفهوم لم يتجاوز الأفلاطونية المحدثة »(1).
4- ابن رشد(2):
... أورد ابن رشد ثلاثة معان للعدالة: فلسفي وفقهي ولغوي، فـ « العَدالَة هي اقتصار كل فرد على تكلف الأعمال التي يحسن لها الطبع » (3) « والعدل ثمرة المعرفة الحقيقية كما أن الظلم ثمرة الجهل »(4) « إن تحقيق كل ما في الطبع هو العدل وهو الفضيلة »(5).
... وإلى جانب هذا نجد أنه ذهب في معنى العَدالَة مذهباً فقهياً صرفاً حيث قَالَ: « العَدالَة هي التزام الواجبات الشَّرْعية ومستحباتها واجتناب المحرمات والمكروهات»(6) والعَدالَة هي ضد الجور « إن العادل لما كان ضد الجائر...» (7).
__________
(1) فخري، د. ماجد: الفِكْر الأخلاقي العربي، (2/148).
(2) ابن رشد: أبو الوليد محمد بن أحمد (1126-1198م) فيلسوف وطبيب وفقيه ، ولد في قرطبة، ولي القضاء في أشبيلية ثم في قرطبة، تأثر ابن رشد بأرسطو فشرح من كتبه: الطبيعيات، والسماء والنفس، له في الطب كتاب الكليات، أهم مصنفاته الفلسفية: تهافت التهافت الذي رد فيه على كتاب الغَزَالي تهافت الفلاسفة.
أنظر: غربال، محمد شفيق: الموسوعة العربية الموسعة، (1/16)..
(3) 3-4-5 ) فخري، د. ماجد: ابن رشد فيلسوف قرطبة ، ص(121-122).
(6) ابن رشد، محمد بن أحمد : بداية المجتهد، (2/462).
(7) ابن رشد: المقولات ، تحقيق د. محمود قاسم، ص(128).(1/145)
... إن المتتبع لما ذكره متفلسفة المسلمين عن العَدالَة ، يلحظ التأثر البالغ بالفلسفة اليونانيَّة إما بطريق التبني لها أو النقل والشرح لآراء منها دون تبني لها، وإما بطريق التوفيق بين آراء متفرقة وأفكار متعددة منها الفلسفي وغير الفلسفي وهذا التأثر وطبيعته مما أكده مؤرخو الفلسفة عند المسلمين:
يقول أنور الجندي(1):وقد تبين مفاسد كل محاولات الفلاسفة المشائين أمثال الفارابي
وابن سينا في التوفيق بين الفلسفة اليونانيَّة وبين مفهوم الإسلام... واعتبر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد مجرد شرَّاح امتداداً للروح الهلينية... وأعلن ابن تَيْمِيَّة عبث محاولة الفارابي وابن سينا وعقم تجربة التلفيق عندهما بين الإسلام و الإفلاطونية المحدثة كما رأى أن هدف التلفيق هو هدم الإسلام من الداخل»(2).
__________
(1) أنور الجندي، ولد عام 1917 ودرس في مطالع حياته مادتي التجارة والصحافة وهو باحث إسلامي عمل في حقل الدعوة منذ عام 1946 ومن أوائل الصحفيين الإسلاميين، اشترك في العديد من المؤتمرات الإسْلاميَّة وحاضر في جامعات إسلامية منها جامعة الإمام محمد بن سعود، وجامعة العين بالإمارات، والمجمع اللغوي بالأردن. له عشرات الدراسات في مجال الأدب والفِكْر الإسلامي، الموضوع الرئيسي الذي أولاه اهتماماً كبيراً هو الغزو الفِكْري والتغريب والعَلْمانيةوالاستشراق، قدم موسوعة «مقدمات العلوم والمناهج» وموسوعة «معلمة الإسلام»، ومجموعة من تراجم عظماء الإسلام وغيرها. أنظر: الجندي، أنور: تيارات مسمومة ونظريات هدامة معاصرة، الصفحة الأخيرة.
(2) الجندي، أنور: تيارات مسمومة ونظريات هدامة معاصرة، تحاصر الإسلام وتحمل لواء هدم قيمه الأَسَاسيَّة ، ص(20-21).(1/146)
ويقول الدكتور ألجروزميله: « وان من ألقى النظر على فهارس ومؤلفات الفارابي وجد أن القسم الأكبر منها شروح وتعليقات على فلسفة أرسطو وأفلاطون»(1) ، وأما ابن سينا « فقد كان تلميذاً للفارابي حاول أن يفصل آراءه ويبين معانيه فقد اتبعه في فلسفته الطبيعية والماورائية والأخلاقية ولم يحد عنه إلا في بعض التفاصيل»(2).
... ويقول الدكتور أحمد شلبي(3): « وعلى العموم فقد كان جلّ ما عنى به متفلسفة المسلمين أول الأمر هو التوفيق بين التفكير الإسلامي وبين فلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة... فالفارابي مثلاً كان أكثر ميلاًَ لفلسفة أرسطو، ومال ابن سينا للأفلاطونية الحديثة ولم يثمر هذا الاتجاه الثمرة المرجوة »(4).
يقول الأستاذ أبو بكر ذكرى عن ابن مسكويه أنه : « يحاول التوفيق بين آراء شتى يجمعها من أشتات المذاهب الخلقية وبين تعاليم الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، وكان أشبه بأرسطو من غيره »(5).
...
المبحث الرابع
مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
في الفِكْر السياسي الغَرْبيّ
ويشتمل على ثلاثة مطالب :
__________
(1) الفاخوري، د. خليل ألجروحنا: المرجع السابق (2/97).
(2) الفاخوري، د. خليل ألجروحنا: المرجع السابق (2/93).
(3) د. أحمد شلبي، مفكر إسلامي، تلقى دراسته في الأزهر وفي كلية دار العلوم وفي جامعة لندن وجامعة كمبردج ،مثّل مصر في عدة مؤتمرات دولية، حاضر في العديد من الجامعات العربية منتدباً وزائراً ومعاراً. تزيد مؤلفاته عن خمسين كتاباً أهمها : موسوعة التاريخ الإسلامي وموسوعة الحَضَارَة الإسْلاميَّة ومقارنة الأديان، إضافة إلى المكتبة الإسْلاميَّة لكل الأعمار والتي بلغت 100 كتاباً من السير والتاريخ وقصص القرآن، وقد تُرجمت معظم مؤلفاته إلى لغات عدة.
(4) شلبي، د. أحمد: الفِكْر الإسلامي منابعه وآثاره، ص(137).
(5) ذكرى، أبو بكر: تاريخ النظريات الأخلاقية، ص(31).(1/147)
المطلب الأول ... : ... العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الرأسمالي الحر.
المطلب الثاني ... : ... العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الاشتراكي الديمقراطي.
المطلب الثالث : ... العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الماركسي الشيوعي.
...
... الرَّأْسُماليَّة فكرة تقوم على مبدأ فَصْل الدين عن الحياة لأنها تريد أن يكون سير الحياة نفعياً بحتاًَ لا شأن للدين به، وهذه الفِكْرة هي عقيدتها وقيادتها الفِكْرية وقاعدتها الأَسَاسيَّة، وبناءً عليها كان الإنسان هو الذي يضع نظامه في الحياة في إطار من الحرِّيَّة الكاملة لتحقيق أكبر قدر من المنفعة له، باعتبار أن هذه المنفعة الخاصة للفرد لا تتعارض مع منفعة الجماعة، لأن مصالح الفرد ومصالح الجماعة متوافقة ومنسجمة.
وقد قامت هذه النظرية على أسس نوجزها في النقط التالية(1):
1- الفرد هو نقطة البداية في التنظيم الاجتماعي، ومصلحته هي الغاية الأولى والهدف الأساسي الذي يسعى المجتمع إلى تحقيقه.
__________
(1) يرجع أصل هذا المذهب إلى كتابات«لوك ونتيام»ثم اعتنقها آدم سميث (1723-1790)وريكاردو (1772-1823) وأخذ بها أكثر علماء السِّياسَة والاقتصاد في القرن التاسع عشر، وقامت بدور كبير في منع التدخل الحكومي في المجالات الاقتصادية ولما ظهرت مساوئ هذا المذهب نتيجة الحرِّيَّة المطلقة، أدخل عليها دعاتها كثيراً من التعديلات حتى تقف أمام الهجوم من قبل أنصار الاتجاه الجماعي. وقد قامت هذه النظرية على أسس كما أوجزنا وقد صنفها بعض الباحثين إلى أسس أخلاقية توجب أن يترك الفرد حراً ليتمكن من استعمال جميع قواه دون تدخل من الدَّوْلَة وإلى أسس اقتصادية تتيح للفرد تحقيق أكبر قدر من الربح وإلى أسس علمية تعتمد على الأخذ بمبدأ البقاء للأصلح.
... أنظر: غالي، د. بطرس بطرس وعيسى،د. محمود خيري: مبادئ العلوم السِّيَاسِيَّة، ص(213-215).(1/148)
2- الفرد له مجموعة من الحقوق: أطلق عليها «جون لوك» الحقوق الطبيعية، مثل حق العمل، وحق التَّمَلُّك، إلى جانب حق التجمع والاعتقاد...
وهذه الحقوق الفردية مصدرها الحالة الطبيعية التي عاشها الإنسان قبل دخوله في الحياة الاجْتِمَاعِيَّة ولذلك لا يحق للمجتمع سلبها منه.
3- لا تعارض بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع، لأن مصالح المجتمع عبارة عن مجموع المصالح الفردية، فإذا سعد الفرد سعد المجتمع.
4- التفاوت الطبقي في الثراء والملكية، أمر طبيعي يتفق مع الفطرة نتيجة تفاوت الناس في الذكاء والقدرات الخاصة والميول والاستعدادات.
5- إن التفاوت في المِلْكِيَّة والثراء بين الناس، يدفع الفقراء منهم إلى بذل الجهد حتى يكونوا مثل الأثرياء، فهو يشحذ هممهم من أجل التفوق.
6- حافز الربح والمصلحة الشخصية، والمنفعة الذاتية هي الأمور المحركة للنشاط الاقتصادي والباعث له.
7- مبدأ المنافسة بين الناس مبدأ مشروع، فكل إنسان يسعى للحصول على أكبر قدر من المنفعة، بأقل قدر من الجهد، وبهذا تتحقق المصلحة العامة.
8- عدم تدخل الدَّوْلَة في النشاط الاقتصادي، حتى يتنافس فيه الأفراد دون قيد، فالحرِّيَّة متوافرة لهم في الإنتاج والاستهلاك والدَّوْلَة هي المسؤولة عن حمايتها لأنها وسيلة لتحقيق المصلحة العامة، وتنمية الإنتاج والثروة العامة، وهي التعبير الكامل عن الكرامة الإنسانية وحق الإنسان في الحياة.(1/149)
وقد انتشرت هذه الأفكار خلال القرن الثامن عشر بين رجال الاقتصاد وكان من أوائل من نادى بها آدم سميث (1) في إنكلترا ، وجان جاك روسو وجون لوك(2) وفولتير(3)
__________
(1) آدم سميث، (1723-1790م) فيلسوف من اسكتلندا، يعتبر من مؤسسي المذهب الفردي الحر، دَرَسَ الفلسفة بجامعة جلاسكو ثم دَرَّسَ فيها الفلسفة الأخلاقية، كان مشهوراً بالشرود وقد تعود أهل بلدته أن يروه دائماً في مناظر مختلفة تنم عن شروده وتردده، له مصنفات منها نظرية المشاعر الأخلاقية وثروة الأمم الذي وصفه أحد النقّاد وهو أدمون برك بقوله : «يعد من حيث نتائجه النهائية أعظم مؤلف خطه قلم إنسان». انظر: سول، جورج: المذاهب الإسْلاميَّة الكبرى، ص(65). والجهني: الموسوعة المُيسرة، (2/921).
(2) جون لوك، (1632-1704م) من أشهر دعاة المذهب الحرّ (الطبيعي) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في فرنسا حيث ظهر الطبيعيّون. وقد صاغ لوك النظرية الطبيعية الحرّة، حيث يقول عن المِلْكِيَّة الفردية : « وهذه المِلْكِيَّة حقٌّ من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ مع نشأة الإنسان، فليس لأحدٍ أن يُعارض هذه الغريزة ». انظر: الجهني الموسوعة المُيسرة، (2/921).
(3) فولتير، فرانسوا ماري أرواي، (1694-1778م) ولد في باريس، مؤلف فرنسي من نوابغ زمانه، أقام في بروسيا وسويسرا، تزعم حركة الفلسفة المادية وقاوم رجال السلطة الدينية والمَدَنيَّة ونقدهم بقلمه اللاذع، كتب في الشعر والتاريخ والمسرح والمراسلة والفلسفة وأجاد في أكثرها. من مؤلفاته : المحاورات الفلسفية، كندي، زئير ، محمد ، شارل 12.
أنظر: فردينان، المنجد في الأعلام، ص(534).
... - والنبهان، محمد فاروق: الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ص(59).(1/150)
وغيرهم ممن أرسوا دعائم المذهب الفردي الذي تشكلت لهم مذاهب فلسفية تقدس حرية الإنسان الفرد حتى أصبحت هي القاعدة السائدة في كل أمور الحياة وظهر هذا المبدأ في جملة أصبحت تدل عليه هي « دعه يعمل دعه يمر ».
وبعد سيطرة هذا الاتجاه الفردي على الفِكْر الاقتصادي في أوروبا خلال القرن الثامن عشر احتاج الرأسماليون لدعم السلطات الحاكمة في حماية مصانعهم وتأييد احتكاراتهم بعد اتساع الصناعات الآلية فاتجهوا لنصرة حكوماتهم أو نصرة رجال يدفعون بهم إلى سدّة الحكم لينالوا منهم الحماية والتأييد وربما أدخلوهم شركاء معهم في مصانعهم لتكون المصلحة بينهم مشتركة، مما أدى إلى منح صلاحيات واسعة للملكية الفردية وتكريس الإقطاعيات والاحتكارات الكبيرة فأدى ذلك إلى ظهور الفروق الاجْتِمَاعِيَّة الواسعة بين الطبقات، وإلى استغلال أصحاب المشاريع الضخمة والصناعات الكبرى للملايين من العمال يستغلونهم دون أن يوفوهم أجورهم بالعدل، وانحازت الحكومات لحماية الرأسماليين وتمكينهم من استغلال العمال، ومساعدتهم على احتكاراتهم واستغلال المستهلكين بغير حق. وكان ذلك من أسباب شحن الجماهير الكثيرة بالنقمة من الرأسماليين ومن السلطات الحاكمة المنحازة لهم باسم الحرِّيَّة الفردية في النشاط الاقتصادي. وظهرت نُذُر الصراع الطبقي من جديد مع سيادة التطبيقات الرَّأْسُماليَّة وإسرافها في استغلالها واحتكاراتها التي كانت تحمل في نفسها بذور الدمار والفناء لهذا النِّظَام الفردي الذي انكشف عواره وتجلى فساده لجميع البلدان التي كانت تحت نفوذ الغَرْب.(1/151)
وتحت ضغط المطالب الشعبية والحركات الجماعية التي تأثرت بدعاية الاشتراكيين في روسيا، انبثقت دعوات إصلاحية معتدلة، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر من بعض أنصار المذهب أمثال جون ستيوارت ميل(1) (1806-1873) وغيره ممّن يرون إمكان إصلاح النظم الرَّأْسُماليَّة القائمة وتخفيف وطأتها، والعمل على استبعاد الأسباب التي تؤدي إلى ظلم طبقة العمال واستغلالهم بغير حق، وإيجاد تنظيمات جزئية تحقق القدر اللازم من العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، نحو:
1- إلغاء العمل المأجور لأن العمل المأجور سوف يبقي العامل في سوية من العيش منخفضة لا تسمح له بأن يرفع من مستواه المعيشي ولذلك اقترح إنشاء جمعيات تعاونية إنتاجية يشترك فيها العمال مع بعضهم البعض في العمل ويقتسمون الربح فيما بينهم.
إضافة إلى تنظيم حقوق العمال في الأجور العادلة وفي تحديد ساعات العمل وفي التأمين الصحي وفي تأمين العجز والشيخوخة والعيش بعد سن التقاعد كالتعليم المجاني العام.
2- مصادرة الريع العقاري: لأن سبب وجود هذا الريع هو تزايد السكان، وهذا الريع سوف يزداد كلما ازداد عدد السكان، ونظراً لأن سببه المجتمع لذلك وجب أن يعود إلى المجتمع ثانية، لأن الملاك يأخذون حصة الأسد من الإنتاج دون أن يكون لهم جهد معقول سوى أنهم مالكون، واقترح لذلك أن تفرض الدَّوْلَة ضرائب كبيرة على الأملاك حتى تمتص الريع من أيدي الملاك.
__________
(1) جون ستيوارت ميل (1806-1873)، من روّاد المذهب الكلاسيكي ويُعد حلقة اتصال بين المذهب الفردي والمذهب الاشتراكي،نشر سنة (1836) كتاباً أسماه مبادئ الاقتصاد السياسي. انظر: الجهني: الموسوعة المُيسرة، (2/921).(1/152)
3- تحديد حق الوراثة: حيث أن المزاحمة بين المنتجين لا يمكن أن تكون صَحِيْحة إلا أن تتحقق المساواة بين المتزاحمين من حيث الإمكانيات المادية، ولذلك اقترح تحديد حق الإرث حتى لا يؤدي ذلك إلى تفاوت في الإمكانات المادية، وعندئذ تتوافر الشروط الصَحِيْحة للمنافسة الحرة.
وهذه الآراء لا تعني الخروج عن المذهب الحر فقد بقي المفكرون يتمسكون بالمبادئ الرَّأْسُماليَّة الأَسَاسيَّة إلا أن هذه الانتقادات قد هدت من كيان هذا المذهب وأضعفته أمام الهجمات المتوالية التي شنّها دعاة الفِكْر الاشتراكي(1).
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن الفِكْر الرأسمالي يتمثل ضمن الإطار الفلسفي التنظيمي في اتجاهين اثنين أملتها ظروف وأوضاع سياسية واقتصادية خاصة.
الأول: هو وليد حركة التنوير التي ظهرت في أوروبا الغَرْبيّة والوسطى على أثر الأفكار الفلسفية التي انتشرت بعد الثورة الفرنسية، الذي يركز على حرية الأفراد وحقوقهم الطبيعية التي كانت مسلوبة في ظل الكنيسة واستبداد الحكام الذين يحكمون الناس باسم الحق الإلهي.
الثاني: كان ظهوره نتيجة للأضرار التي لحقت بالعديد من الطبقات الاجْتِمَاعِيَّة من جرّاء إطلاق الحرِّيَّة الفردية السِّيَاسِيَّة والاقتصادية. مما حدى بالعديد من المُفَكِّرين الرأسماليين بالعمل على إدخال تعديلات وترقيعات اشتراكية على الفِكْر الرأسمالي.
« يراد منها التخفيف من الحيف الفظيع الذي توجده الرَّأْسُماليَّة في المجتمع وهي أحكام ظاهر فيها الترقيع»(2).
... وما دام الأمر بالنسبة للفكر الرأسمالي على هذا النحو، فإن لكل اتجاه مفهومه المتميز عن العدل والعَدالَة ضمن إطاره الفِكْري الخاص.
__________
(1) سول، جورج : المذاهب الاقتصادية الكبرى، ص(127-134). وانظر: النبهان، د. محمد فاروق ، الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ص(63).
(2) المالكي، عبد الرحمن: السِّياسَة الاقتصادية المثلى، ص(34).(1/153)
فدعاة الحرِّيَّة الفردية المطلقة يرون أن العَدالَة تتمثل في « استيلاء الأفراد على ثمار جهدهم دون تدخل من أحد - للحد من الحرِّيَّة الاقتصادية - مهما ترتب على ذلك من تفاوت وتمايز في الملك والعمل تبعاً للتمايز الطبيعي في القدرات والطاقات الفردية، تاركين للروح التنافسية التي تحدثها المنافع الشخصية، أن تسير الحياة الاقتصادية كي يصل المجتمع من جراء ذلك إلى التوازن العام بين أفراده وطبقاته.
وعلى أساس هذه النظرة، فإن الفرد هو محور القانون وغايته، وفي تمكين الفرد تنمية مواهبه وملكاته وفق إرادته وميوله الشخصية وقدراته العقلية تقدم المجتمع وازدهاره لأن تقدم المجتمع مرتبط بتقدم أفراده، فإذا تقدم الفرد تقدم المجتمع، ولذلك فإن من واجب القانون والدَّوْلَةهو تمكين الفرد وتقويته وصيانة حريته التي يريدها.
لهذا دأب دعاة الحرِّيَّة المطلقة في إبراز دور الحرِّيَّة في إيجاد التوازن الاجتماعي وتحقيق العَدالَة .
يقول سبنسر(1) : « ... فأما المِلْكِيَّة الخاصة فإنها تستمد أصولها من قانون العَدالَة بأن يتساوى الناس في الاحتفاظ بثمرة اقتصادهم وتوفيرهم »(2) ...
ويقول آدم سميث: « إن العَدالَة تحكم بقانون المنفعة، منفعة المنتج ومنفعة المستهلك تتطابقان إذا امتنعت الحكومة عن التدخل، وأفسحت المجال حُرّاً طبيعياً ..» (3).
__________
(1) هربرت سبنسر ، الفيلسوف الإنكليزي وُلد سنة (1820م) مال في شبابه إلى العلوم الطبيعية والمسائل السياسية، كان موظفاً في الخط الحديد بلندن، ثمّ شغل وظيفة سكرتير التحرير في جريدة (الإيكو نوميست )، من سنة (1848-1853م).
(2) ديورانت، ول : قصة الحَضَارَة ، (الفلسفة) ، ترجمة فتح الله المشعع، (2/491-492).
(3) العوا، د. عادل: المذاهب الأخلاقية، عرض وفقد ، (2/496).(1/154)
وأما دعاة التدخل والتوجيه الاقتصادي فيرون أن العَدالَة تتحقق من جراء تدخل الدَّوْلَة للحد من الحرِّيَّة الاقتصادية التي تعتمد على القانون الطبيعي وذلك بتوزيع الثروة في المجتمع وتقسيمها تقسيماً عادلاً يحقق الرفاهية لجميع الناس.
« وأصبحت الدَّوْلَةتتدخل في توجيه الاقتصاد الحر توجيهاً اجتماعياً نتج عند تعديل بين العمال وأرباب العمل... ومن هنا كان ظهور العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة »(1) .
« وتحت تأثير الفِكْر الاشتراكي ومذاهب التدخل أخضعت الدَّوْلَة المعاصرة الحريات الاقتصادية لتنظيم دقيق وقيود عديدة تحقيقاً لمبادئ العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة »(2).
... من هذا كله يتبين لنا أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الرأسمالي الحديث لا تدل على نظام اقتصادي كالاشْتِراكِيَّة أو فكر فلسفي خاص، وإنما هي كلمة اصطلاحية وضعت من قبل فلاسفة الفِكْر الرأسمالي للدلالة على تدخل الدَّوْلَة عن طريق التشريعات والنظم لتخفيف المفاسد والمظالم التي نتجت عن الحرِّيَّة الفردية المطلقة فهي أحكام معينة يراد بها التخفيف من الحيف الفظيع الذي أوجدته الرَّأْسُماليَّة في المجتمع وهي أحكام ظاهرها الترقيع.
يقول الدكتور جعفر عبد السلام :« جاء المفكرون الرأسماليون بفكرة العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة التي عنوا بها إعطاء المزيد من الحقوق للعمال وزيادة الاهتمام بهم لصرفهم عن الأفكار الاشْتِراكِيَّة محافظة على النِّظَام الرأسمالي الحر»(3).
__________
(1) عبد السلام، د. جعفر: المنظمات الدولية، ص(259).
(2) بدوي، د. ثروت: النظم السِّيَاسِيَّة، (1/378).
(3) عبد السلام، د. جعفر: المنظمات الدولية، ص(259).(1/155)
يقول الدكتور صليبا: « العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة... هي احترام حقوق المجتمع... كتنظيم العمل ومنح العمال أجوراً متناسبة مع كفالتهم وتوفير الخدمات والتأمينات الاجْتِمَاعِيَّة »(1).
وبعد كل ما تقدم نستطيع أن نصيغ تعريفاً للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الرأسمالي الحديث مؤداه: هي أحكام معينة من التشريعات والنظم التي تمكن الدَّوْلَةحق التدخل لرفع المستوى المعاشي للضعفاء والمحرومين من خلال فرض الضرائب على الأغنياء أو استقطاع جزء من أموال الموظفين لتعود به الدَّوْلَةعلى الفقراء من المجتمع على شكل خدمات صحية وتعليمية أو على شكل مكافآت نقدية تعويضية. هذا إلى جانب تهيئة العمل وتقديم بعض الخدمات العامة والمساعدات المالية لبعض الفئات العمالية مقابل اشتراكات تؤخذ منهم أو مساعدة الفئات الضعيفة من المرضى والشيوخ والعاطلين عن العمل بغية الوصول إلى مستوى لائق من العيش.
... عندما انكشف عوار النِّظَام الرأسمالي وتجلَّت مفاسده ظهرت فلسفات سياسية متفقة في نظرتها للحرية الاقتصادية ومتباينة في نظرتها إلى طريقة إدارة الحياة الاقتصادية، سواء من جهة ملكية وسائل الإنتاج أم من جهة توزيع الثروة وقد أطلقت على هذه الأفكار اسم الاشْتِراكِيَّة.
... فكان ظهور الاشْتِراكِيَّة نتيجة للظلم الذي عاناه المجتمع من النِّظَام الاقتصادي الرأسمالي وللأخطاء والمثالب الكثيرة التي فيه(2).
__________
(1) صليبا، د. جميل: المعجم الفلسفي، (2/58-60).
(2) لعبت الثورة الفرنسية دوراً في تاريخ الفِكْر الاشتراكي لأنها مهدت الطريق لظهور هذه الأفكار على ضوء مبادئ حقوق الإنسان، فحرضت الرَأْي العام فكرياً أمام المظالم التي كانت قائمة حينذاك.(1/156)
فكان منها دعوات إصلاحية معتدلة، ترى إمكان إصلاح النظم الرَّأْسُماليَّة القائمة وتخفيف وطأتها والعمل على استبعاد الأسباب التي تؤدي إلى ظلم طبقة العمال واستغلالهم بغير حق وإيجاد تنظيمات جزئية تحقق القدر اللازم من العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة كنظم حقوق العمال في الأجور العادلة وفي تحديد ساعات العمل وفي التأمين الصحي، وفي تأمين العجز والشيخوخة والعيش بعد سن التقاعد وغير ذلك.
وكان في طليعة دعاة الاشْتِراكِيَّة المثالية(1) وتطبيقها بوسائل الإصلاح الاجتماعي
__________
(1) الاشْتِراكِيَّة المثالية هي الأفكار الاشْتِراكِيَّة التي ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر التي شككت في الاتجاه الفردي الحر، وتمثل بداية تكوين المدرسة الاشْتِراكِيَّة الأولى التي مهدت لظهور الاشْتِراكِيَّة الماركسية ومن أهم رواد الاشْتِراكِيَّة المثالية، سان سيمون (1760-1825م)، روبرت أوين (1717-1858م)، شارل فورييه (1772-1837م)، بيير جوزيف برودون (1809-1865م).
أنظر: ... - شقير، د. لبيب: تاريخ الفِكْر الاقتصادي، ص(139).
... - بدوي، د. ثروت: النظم السِّيَاسِيَّة، ص(476).
... - المحجوب، د. رفعت: النظم الاقتصاديّة، ص(13).(1/157)
الكاتب الفرنسي سان سيمون(1)(1760-1825م) فقدم أفكاراً في تنظيم الجماعة وفي الدور الذي يمكن أن يؤديه الدين المسيحي في تنظيم المجتمع الاشتراكي.
ومنهم روبرت أوين(2) (1771-1858م) وهو أول من أنشأ نظاماً للتعاون بين العمال ومدارس لتعليم أبنائهم وأول من حاول تطبيق الاشْتِراكِيَّة بوسائل الإصلاح الاجتماعي.
__________
(1) سان سيمون: ولد في باريس عام 1760م وتوفي في 1825م، انتقد في كتبه المدرسة الفردية وقَالَ بأنها سبب الفوضى في المجتمع، قسم المجتمع إلى طبقتين، منتجة وتشمل رجال الصناعة والزراعة والعلم والفن وطبقة عقيمة وهم الأشراف والبرجوازيون ويجب القضاء على الطبقة العقيمة، ويرى تغيير مفهوم الدَّوْلَةمن حكومة سياسية إلى حكومة اقتصادية وقد اقتبست الماركسية عنه هذا المفهوم. من مصنفاته المسيحية الجدية، ومذكرة عن علم الإنسان ونظرات حول المِلْكِيَّة والتشريع وإعادة تنظيم المجتمع الأوروبي. أنظر : سول، جورج : المذاهب الاقتصادية الكبرى ، ص(87).
(2) روبرت أوين، ولد في إنكلترا عام 1771م وتوفي في 1858م من كبار رجال الصناعة في إنكلترا، أنشأ عدة مصانع لغزل القطن ووفر لعماله الشروط الملائمة للعمل فأنشأ لهم المساكن في نفس المعمل وأقام حولها الحدائق وخفض ساعات العمل وزاد الأجور، دعا إلى إلغاء الربح بواسطة الاستغناء عن النقد والاستعاضة عنه بقسائم عمل وأقام عدة مجمعات تعاونية زراعية. أنظر: سول، جورج: المذاهب الاقتصادية الكبرى، ص(91-92).(1/158)
... وبدأت الحركة الاشْتِراكِيَّة في إنكلترا في أواخر القرن التاسع عشر وظهرت الجمعية الفابية(1) زعيمة الاشْتِراكِيَّة الإنكليزية. وفي سنة 1893م قام حزب العمال المستقل بنهج اشتراكي وسار على الخط نفسه ونشط في الحقل السياسي واستطاع أن يكون له قوة برلمانية وأن يستلم الحكم في بعض الأحيان وينفذ برامجه الاشْتِراكِيَّة.
__________
(1) الفابية، حركة اجتماعية سياسية تبنت الإصلاح التدريجي السلمي بمفاهيم اشتراكية، دعت إليها جمعية تأسست عام 1883م في لندن ومن مبادئها إعادة بناء المجتمع على أسس أخلاقية وهي حركة غير ثورية اختارت لنفسها اسم الفابية نسبة إلى القائد الروماني فابيوس الملقب بالمتزن لأن أصوله الحربية كانت تعتمد على تجنب المواجهة مع العدو، واعتماد الصبر حتى تحين الفرصة المناسبة لتوجيه الضربة القاضية، وقد أولت الفابية اهتماماً خاصاً للأمور التطبيقية العملية كإقامة نظام مركزي في الإدارة، والتأميم لوسائل الإنتاج الكبرى، والضمان الاجتماعي والتخبط الاقتصادي وتنظيم للمستهلكين والسِّياسَة الإسكانية والمعمارية وكان لها دورها البارز في تأسيس حزب العمال البريطاني عام (1906م) الذي لا تختلف أهدافه عن الأهداف الفابية ومن أبرز الذين ساهموا بتأسيس الحركة الفابية جورج برنارد شو وسَيِّدناي و باتزيس و يب وكوبر هاردي
أنظر: كول، مارجريت: الاشْتِراكِيَّة الفابية، ترجمة محمد عبد الرزاق مهدي، ص(27). وأنظر: كول ، مارجريت وكروسمال وغيره مقَالات في الاشْتِراكِيَّة الفابية ترجمة إبراهيم لطفي عمر. وأنظر: ماكنزي، نورمان: موجز تاريخ الاشْتِراكِيَّة ، ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفى، ص(123).(1/159)
... وكان منها دعوات ثورية لا تقبل التطور الإصلاحي، بل تنادي بهدم النظم الرَّأْسُماليَّة القائمة هدماً كاملاً عن طريق الصراع الطبقي والثورة المدمرة وإقامة حكم العمال والكادحين بنظام استبدادي صارم وفرض الاشْتِراكِيَّة المتطرفة التي تنزع فيها الملكيات الفردية لا سيما وسائل الإنتاج لتكون ملكاً عاماً في يد الدَّوْلَةتشرف عليه وتديره وتجعل كل القادرين والقادرات على العمل عمالاً تحت يدها، مطبقة عليهم جميعاً قاعدة « من كل حسب استطاعته ولكل بحسب حاجته» وكان زعيم هذا الاتجاه اليهودي كارل ماركس والإنكليزي فردريك إنجلز(1) ، وفي سنة 1448م أصدر ماركس وإنجلز بيانهما الشيوعي المشهور وانطلقت بعد ذلك الحركات والمنظمات والأحزاب الشيوعية والثَّوْرية حتى استطاعت أن تسقط حكم القيصرية الروسية وتقيم أول دولة شيوعية في روسيا عام 1917.
يقول الدكتور عبد الواحد وافي : « ومع أن المدارس الاشْتِراكِيَّة تختلف حول إصلاح نظام المِلْكِيَّة الفردية... غير أن التعديلات المقترحة على نظام المِلْكِيَّة الفردية ترجع إلى طائفتين:
1- قصر المِلْكِيَّة الفردية على بعض الأمور وتأميم بعضها الآخر، أي جعله ملكاً مشاعاً للجميع أو وصفه تحت إشراف الدولة.
2- تعديل في حقوق المِلْكِيَّة المفصلة بحرية تصرف المالك في ملكه ويكون بالحد من مبدأ حرية التصرف على الوجه الذي يقتضيه الصالح العام... »(2).
__________
(1) فردريك إنجلز (1820-1895) صديق كارل ماركس الحميم، ساعده في نشر الشيوعيّة المذهب الفِكْري الإلحادي وظلّ ينفق على مارك وعائلته حتى مات. ومن مؤلفاته : (أصل الأسرة، الثنائية في الطبيعة الاشْتِراكِيَّة الخرافية والاشْتِراكِيَّة العلميّة. انظر الجهني: الموسوعة الميسرة، (2/929).
(2) وافي، د. عبد الواحد: الاقتصاد السياسي وتحقيق مسائله في ضوء علم الاجتماع ، ص(36-38).
وأنظر: النبهان، د. محمد فاروق: الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ص(71).(1/160)
ومن هذه الأقوال الدالة يتبين أن الفِكْر الاشتراكي يتمثل في نمطين فكريين متمايزين: نمط يتصل بالفِكْر الرأسمالي عبّر عنه وليم جراهام سافر بقوله: « الاشْتِراكِيَّة هي أية خطة أو مذهب يستهدف إنقاذ الفرد من أية مصاعب أو متاعب يلقاها في نضاله من أجل البقاء وفي تنافسه في معترك الحياة وذلك عن طريق تدخل الدَّوْلَة»(1) . كما عبّر عنه جيمس بونار بقوله: « الاشْتِراكِيَّة هي السِّيَاسِيَّة أو النظرية التي تستهدف تحقيق توزيع أفضل للثروة ويؤدي ذلك بالضرورة إلى إنتاج أفضل وذلك عن طريق تدخل السلطة الدِّيمُقْراطِيَّة المركزية »(2).
ونمط يناقض الفِكْر الرأسمالي ويدعو للثورة عليه وهو الفِكْر الماركسي أو الاشْتِراكِيَّة العلمية، وقد عرضنا النمط الأول وسنفرد النمط الثاني في مبحث خاص.
__________
(1) سويزي، بول الاشْتِراكِيَّة ، ترجمة د. عمر مكاوي، ص(16).
(2) سويزي، بول الاشْتِراكِيَّة ، ترجمة د. عمر مكاوي، ص(16).(1/161)
... من البديهيات لكثير من الباحثين المعاصرين أن المشاريع الاشْتِراكِيَّة التي طرحها ونفذ بعضها حشد من الاشتراكيين في فرنسا وإنكلترا وغيرها من بلدان أوروبا ، كانت المحاولات الجادة الأولى لحل المشكلة الاجْتِمَاعِيَّة إلا أنه سرعان ما طغت عليها الطروحات الخيالية بدلاً من التصميم الواقعي والحلول الوسطية وبدلاً من التغيير الجذري، ولم تستو هذه المعالجات الاشْتِراكِيَّة على سوقها وتتبلور وتأخذ نسقها العلمي – كما يرى كثير من الدارسين - إلا على يد ماركس(1)
__________
(1) كارل، ماركس: (1818-1883م) فيلسوف الشيوعية البائدة، من أصل يهودي، ألماني، درس القانون في جامعة يينا، ألمانيا، ثم انصرف إلى الاقنتصاد والفلسفة الاجْتِمَاعِيَّة، اضهد في ألمانيا بسبب نشاطه الثَّوْري، فانتقل إلى باريس حيث التقى بأنجلز وتعاونا على اصدار الوثيقة الشيوعية الأولى ، ثمّ هاجر إلى إنكلترا حيث أقام بها حتى وفاته. من مصنفاته : رأس المال ، سنة (1867م). انظر: الجهني، الموسوعة الميسرة، ص(2/929).
وأنظر: النبهان، د. محمد فاروق: الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ص(71).(1/162)
ورفيقه إنجلز اللذين طرحا في مؤلفاتهما وبخاصة المنشور الشيوعي الأول وكتاب رأس المال التصميم النهائي للمسألة الاجْتِمَاعِيَّة، مُدّعين أنّ نتائج دراستهما هي جهدٌ عقلي خالص وقد أسموه: الاشْتِراكِيَّة العلمية تمييزاً لها عن سائر الاشتراكيات، كما أنها اكتشاف علمي من حقائق الحركة التاريخية وحتمياتها الجدلية ( الديالكتيكية ) تلك التي تقضي تبديل دوري في وسائل الانتاج، يوجد ظروفاً انتاجية معينة تكون بمثابة قاعدة تحتية شاملة تتأثر بها وتنفعل سائر الفاعليات الحضارية، وحتمت تناقضات الحركة التاريخية زوال الظروف الإنتاجية للرأسمالية، وسائر مؤسساتها الحضارية، وقيام حكم الطبقة العاملة حيث تلغي حقوق المِلْكِيَّة أساساًَ، فهي في نظرهم أساس كل الشرور ومما يجب القضاء عليه وإحلال المِلْكِيَّة العامة من خلال قيام الدَّوْلَةأو الطبقة الحاكمة نيابة عن المجتمع، بإدارة واستثمار وتوزيع الأموال العامة بأكبر قدر من التساوي بين الجميع وبهذا يتم القضاء بنظرهم على الطبقية والمِلْكِيَّة والتمايز الفردي والاجتماعي، وتحقيق المساواة الحسابية بين البشر وتحويل العمل إلى غاية للحياة وتحقيق الجماعة الكاملة في الحياة الاجْتِمَاعِيَّة ( في المِلْكِيَّة والنساء والمأكل والملبس ... ) ويكون توزيع الثروة بحسب مبدأ الحاجة ( لكل حسب حاجته ) وليس بحسب كمية الجهد المبذول(1).
__________
(1) أنظر: - شقير، د. لبيب: تاريخ الفِكْر الاقتصادي ، ص(141،145،150).
- ... سول، جورج: المذاهب الاقتصادية الكبرى، ص(100،215).
- ... المحجوب، د. رفعت: النظم الاقتصادية، ص(118،127،148).
- ... بدوي، ثروت: النظم السِّيَاسِيَّة، ص(479، 481).
- ... الميداني: كواشف وزيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(600).
- ... النبهان، د. محمد فاروق: الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ص(83-100).(1/163)
... وبهذا فالماركسي يرى « أن المذاهب الاشْتِراكِيَّة التي جاءت قبله تعتمد في انتصار أفكارها على ما فطر عليه الإنسان من حبه للعدل وانتصاره للمظلوم، فكانت تضع طرقاً جديدة تعتقد بالإمكان تطبيقها على المجتمع وتتقدم بها إلى الحكام والمتمولين والطبقة المتنورة تحثهم على تنفيذها، ولكن كارل ماركس لم يبن مذهبه على ذلك، ولم يسلك الطرق التي سلكوها، فقد بنى مذهبه على أساس مبدأ فلسفي يعرف بالمادية التاريخية... ورأى أن قيام النِّظَام الجديد في المجتمع سيتم بمجرد عمل القوانين الاقتصادية وبمقتضى قانون التطور في المجتمع من غير تدخل إدارة متشرِّع أو مصلح »(1).
... وعليه فإن فلاسفة الاشْتِراكِيَّة الماركسية، كانوا يبتعدون عن المفاهيم التجريدية المطلقة معتبرين أن المفاهيم، تتغير تبعاً لتغير العلاقات الاقتصادية القائمة، هذا فضلاً عن كونهم لا يؤمنون بالتدخل والتوجيه والترشيد من قبل الدَّوْلَةولا يؤمنون بالترقيات الإصلاحية وقد ورد ما يؤيد هذا في الموسوعة السوفيتية:
« فالحقيقة أن هذين المفهومين العَدالَة والظلم يتغيران من عهد لآخر تبعاً للتغيرات التي تطرأ على العلاقات الاجْتِمَاعِيَّة.. وقد أوضحت الماركسية مفهوم العدل وقاسته في علاقته بالحاجات الحيوية للتطور الاجتماعي الطبيعي، وتربط الأخلاق الماركسية بين مفهوم العدل وفكرة تحرير المجتمع من الاستغلال، والاشْتِراكِيَّة وحدها هي التي تخلق علاقات عادلة أصيلة من المساواة، ويبلغ العدل ذروته في المجتمع الشيوعي الذي تختفي فيه كل آثار الفروق الاجْتِمَاعِيَّة الاقتصادية »(2).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : النِّظَام الاقتصادي في الإسلام، ص(45).
(2) د. يودين: الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، لجنة من العلماء السوفييت إشراف روزنتال، ص(293).(1/164)
... فالماركسية كنتيجة لمنطلقها المادي الصرف تحصر مدى العدل في تنفيذ مطالب الإنسان المادية فحسب وتغفل، بل تقف – حرصاً منها على تنفيذ وحماية سمتها الطبقيّة ونزعتها الجماعية – بمواجهة سائر المطالب الأخرى روحية ونفسية وفكرية ووجدانية واجتماعية...، كما أنها تجعل الطبيعة بحركتها الداينامية الأبدية القائمة على تجاوز النقيضين، هي السَيِّد المطلق وليس الإنسان سوى (منفذ) غير حر ولا مريد لمشيئة هذا السَيِّد، وأنه أيا كانت المرحلة الاجْتِمَاعِيَّة التي يمارس فيها علاقاته، المرحلة المشاعية أم مرحلة الرق، أم الإقطاع أم الرَّأْسُماليَّة، أم الاشْتِراكِيَّة، فإنه يفعل ذلك بأمر من الطبيعة، لا محيص له عنها أبداً. وهذا الموقف يمثل ولا ريب، نزعة من أقسى النزعات الجبرية التي شهدها التاريخ، تقف ومسألة العدل على طرفي نقيض، وإن كانت التحليلات التبريرية الجدلية هي التي تدفع الماركسية إلى مزيد من الإيمان بفكرة التقدم والعمل الثَّوْري الدائم للإسراع بالجدل الطبقي المحتوم إلى غايته.
... ومن خلال ذلك نجد الماركسية تنظر إلى العَدالَة نظرة نسبية تقتصر على المساواة في ملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة من خلال إلغاء المِلْكِيَّة الفردية والطبقية في المجتمع، ويصور هذا الدكتور عبد المنعم النمر أدق تصوير في قوله: « إذن الماركسية تصورت العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، لا تتحقق إلا في المجتمع الاشتراكي وذلك بإلغاء المِلْكِيَّة الفردية وتطبيق نظام الأجور على قاعدة (من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته) (1)، ,إلغاء الطبقية والمناداة بالمساواة »(2).
__________
(1) هذه القاعدة تطبق في المجتمع الشيوعي كمرحلة قادمة في الفِكْر الماركسي أما في المرحلة الاشْتِراكِيَّة الآنية فالقاعدة « من كل حسب قدرته وكل حسب عمله ».
(2) النمر، د. عبد المنعم: إسلام لا شيوعية ، ص(78-87).(1/165)
... وقريب من هذا ما ذكره الدكتور عبد الرحمن يسري « أما الماركسية أو العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الشيوعية في الاشْتِراكِيَّة، فتتلخص في العمل على تحقيق المساواة التامة بين العاملين في الدولة، فهم في مجموعهم يمتلكون وسائل الإنتاج ويستحقون الدخل الذي يتحقق من وراء النشاط الإنتاجي بلا تفرقة » هذه هي العَدالَة المثلى « العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في رأي الاشْتِراكِيَّة الماركسية »(1).
فأي عدالة هذه التي تقيس الأمور بمقياس طبقي محدود إذا جاز لنا أن نسمي ذلك عدلاً، وتضع في غمار هذه النسبية المتغيرة والطبقية الضيقة، صيحات المظلومين ومقتضى الحقوق من كل جنس وفئة ولون؟ وأي عدالة هذه التي تلتزم المبدأ الماكيافللي « الغاية تبرر الواسطة » وتعتمد أشد الأساليب اللاأخلاقية للوصول إلى أهدافها ويشهد لهذا مذابحهم ومجازرهم في صراعهم اللاأخلاقي الماضي؟
... وأي عدالة هذه التي ترغم الفرد على أن يتشكل وفق القَالب الاجتماعي وأن يحجر على طاقاته وامكاناته لكي لا تتفجر إلا على طريق الطبقة الحاكمة، وأن ينقلب في كثير من الأحيان على سمته الذاتية، وتكوينه النفسي وبصمات أصابعه، وأشواقه ومطامحه؟
__________
(1) أحمد، د. عبد الرحمن يسري: التنمية الاقتصادية في الإسلام، ص(49).(1/166)
... ومن كل ما سبق من المباحث نلحظ أن كلمة «العَدالَة» موطن بحث عند الفلاسفة والمفكرين، وتعني على حد قول هنري برجسون المساواة والنسبة والتعويض « العَدالَة في كل الأزمنة تثير في الذهن أفكار المساواة والنسبة والتعويض»(1)، ولم تخرج عن هذه الدلالات مع اختلاف نسبي غير أن التغييرات الاجْتِمَاعِيَّة والسِّيَاسِيَّة التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر أدت إلى ظهور ما عرف بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ومن ذلك الحين أصبحت كلمة من المفاهيم والمصطلحات الرَّأْسُماليَّة الحديثة التي دخلت إلى الحقل المعجمي عند بعض المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين. وهو ما سنتطرق إليه في الفصل الثاني.
__________
(1) برجسون، هنري: منبع الأخلاق، تعريب الدوربي ، ص(71-72).(1/167)
مفهوم العدالة الاجتماعية
عند بعض المفكرين المعاصرين
الدكتور محمد عبد الغني
2004/1424
??? الفصل الثاني : مفهوم العدالة في اللغة و الفكر الإنساني ... 130
المبحث الأول : واقع العالم الإسلامي في العصر الحديث ... 131
المطلب الأول : ... واقع العالم الإسلامي من الناحية السياسية ... 132
المطلب الثاني: ... واقع العالم الإسلامي من الناحية الفكريّة ... 138
المطلب الثالث: ... واقع العالم الإسلامي من الناحية الاجتماعيّة ... 149
المطلب الرابع: ... واقع العالم الإسلامي من الناحية الاقتصاديّة ... 153
المبحث الثاني : مفهوم العدالة الاجتماعيّة عند بعض المفكرين المعاصرين ... 161
المطلب الأول: ... مفهوم العدالة الاجتماعيّة عند المودودي ... 162
المسألة الأولى : ... معنى العدالة الاجتماعية عند المودودي ... 163
المسألة الثانية: ... كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية عند المودودي ... 165
المسألة الثالثة: ... منهج المودودي في التوفيق بين العدالة الاجتماعيّة والفكر الإسلامي ... 168
المطلب الثاني: ... مفهوم العدالة الاجتماعيّة عند الإمام سيد قطب ... 172
المسألة الأولى : ... معنى العدالة الاجتماعية عند الإمام سيد قطب ... 173
المسألة الثانية: ... كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية عند سيد قطب ... 176
المسألة الثالثة: ... منهج سيد قطب في التوفيق بين العدالة الاجتماعيّة والفكر الإسلامي ... 185
المطلب الثالث: ... مفهوم العدالة الاجتماعيّة عند الشيخ محمد الغزالي ... 193
المسألة الأولى : ... معنى العدالة الاجتماعية عند الغزالي ... 194
المسألة الثانية: ... كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية عند الغزالي ... 197
المسألة الثالثة: ... منهج الغزالي في التوفيق بين العدالة الاجتماعيّة والفكر الإسلامي ... 199
الموضوع ... الصفحة
المبحث الثالث : البحث عن صيغة للتوفيق بين المفاهيم الإسلاميّة والغربية ... 202
المطلب الأول : ... حقيقة الحضارة الإسلاميّة والغربيّة ... 207
المطلب الثاني: ... مفهوم العدالة الاجتماعية من المنظور الشرعي ... 223
المسألة الأولى : ... فقه واقع العدالة الاجتماعية ... 225(2/1)
المسألة الثانية: ... فهم الواجب في العدالة الاجتماعية ... 228
المسألة الثالثة: ... محاذير في فهم واقع العدالة الاجتماعيّة ... 237
ويشمل على ثلاثة مباحث :
1- المبحث الأول ... : واقع العالم الإسلامي في العصر الحديث.
2- المبحث الثاني ... : مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند بعض المُفَكِّرين
المعاصرين.
3- المبحث الثالث ... : البحث عن صيغة للتوفيق بين المفاهيم
الإسْلاميَّة والغَرْبيّة.
ويشمل على أربعة مطالب :
1- المطلب الأول ... : واقع العالم الإسلامي من الناحية السِّيَاسِيَّة.
2- المطلب الثاني ... : واقع العالم الإسلامي من الناحية الفِكْرية.
3- المطلب الثالث ... : واقع العالم الإسلامي من الناحية الاجْتِمَاعِيَّة.
4- المطلب الرابع ... : واقع العالم الإسلامي من الناحية الاقتصادية.
... لقد كان المسلمون تحت رياسة تامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا متضمنها : حفظ الحوزة(1)، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف وكف الجنفِ والحيْفِ(2) والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين، دون فصل للدنيا عن الدين أو السِّياسَة عن الدين أو الدَّوْلَةعن الدين.
... وبقي المسلمون على هذا الحال حتى تداعت الأمم عليهم من كل صوب وحدب فوجدت مرتعاً لزرعها تغرس فيه في جسم الأمة في وقت وقع فيه الفصام النكد بين أولي الأمر ومصادر التشريع لهذه الأمة والناس حيارى تتقاذفهم الأهواء وعلماء الأمة في شغل عنهم كل بما يشغله ويرى أنه الأسلم، والعقيدة خاوية، وإيمان الكثيرين مزعزع واليقين لم يعد يقيناً، والسلوك منحرف، والاستقامة معدومة، والفِكْر جامد، والاجتهاد معطل، والفقه مفقود، والبدع قائمة والسنّة نائمة، والوعي غائب حتى لكأن الأمة ليست هي.
__________
(1) الحوزة: الناحية، والمراد هنا ديار المسلمين.
(2) الجنف: الميل. والحيف: الجور والظلم . والمعنى: منع الانحراف والظلم.(2/2)
... وحالة كهذه أغرت الذين يتربصون بالأمة، ويحاولون الانقضاض على حافظة الحوزة وراعية الرعية بعدما رأوا ضعفها بما أوغروا في كيانها من سموم بأساليب متنوعة، حتى اهتبل الغَرْبيّون هذه الفرصة واحتلوا البلاد وامتلكوا أزمة العباد، وقضوا على البقية الباقية من مقومات شخصية الأمة حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه اليوم من هوان واستكانة، وغدت مقَاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، فنلتمس عندهم الحل لمشكلات أوجدناها بأنفسنا وشكلناها بأيدينا.
... نعم، لقد كان الإسلام طيلة القرون الخالية أعمق في النفوس من أن يستبدل به أي منهج آخر، وكانت الجَاهِليَّة أحقر من أن تطاله أو تطمع في أبنائه والسبب ما للخلافة من حفظ ورعاية للأمة.
... روى الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لينقضَّ الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها وأولهنّ نقضاً الحكم وآخرهن نقضاً الصلاة »(1).
... وقد أدرك الغَرْبيّون أهميّة الحكم في الإسلام فعملوا على إبعاد أحكامه واقتطاع أمصاره(2)
__________
(1) صَحِيْح ابن حِبِّان (15/111) ومُسْنَد احمد (5/251).والمستدرك للحاكم (4/104). دار الكتب العلمية، و موارد الظمآن (1/87)، وشُعب الإيمان (6/69)، عن أبي أمامة الباهلي.
(2) نجد هذه الحقيقة واضحة في كتاب حاضر العالم الإسلامي للوثروب ستووارد كما نجدها في مقَالَ الوزير الفرنسي المشهور هانوتو الذي ردّ عليه محمد عبده في مطلع القرن العشرين ونجدها في كتاب إلى أين يتجه الإسلام؟ الذي أشرف على جمعه ونشره المستشرق الإنكليزي «جب» سنة 1932.
وانظر حول ذلك : ... المصري، د. جميل عبد الله محمد: حاضر العالم الإسلامي (1/21-23).
... ... حسين، د. محمد محمد : الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/347) وما بعدها.(2/3)
فاحتل الهولنديون أندونيسيا، والإنكليز الهند والروس أواسط آسيا والفرنسيون شمالي أفريقيا، «وحصرت أفغانستان تحت الضغط الإنكليزي والروسي كما حصرت إيران واشتدت حملة الغَرْبيّين في كل مكان على العالم الإسلامي، حتى شعر جميعه بتعرضه للسقوط نهائياً تحت نير الغَرْب، وشعر أن الحملة الصليبيّة تجددت وأخذت تحرز الانتصار تلو الانتصار، وصار يتشبت بأعمال لوقف هذا الزحف الغَرْبيّ عنده حدّه أو للتخفيف من ثقل كابوسه. فحدثت حركات من المقاومة للغربيين في أكثر من مكان فشّبت ثورة في الجزائر، وهبّ المسلمون في الهند، وقام المهديون(1) في السودان، واشتعلت الثورة السنوسية(2)،
__________
(1) المهديّة حركة إسلاميّة إصلاحيّة ظهرت في السودان. مؤسسها محمد أحمد المهدي بن عبد الله (1260- 1303 هـ) من أهم أفكاره : 1- ضرورة العودة إلى الكتاب والسنة. 2- وقف العمل بالمذاهب الفقهية . 3- تحريم الاشتغال بعلم الكلام. 4- فتح باب الاجتهاد في الدين. 5- إلغاء الطرق الصوفيّة وأورادها. 6- الدعوة إلى الطريقة المهديّة ووردها. 7- الادعاء بأنه المهدي المنتظر وخليفة رسول الله. 8- نسب إلى نفسه العصمة. وبذلك يظهر أن الحركة شابتها بعض الانحرافات العقدية رغم دعوتها إلى عقيدة السلف في التوحيد والاجتهاد بسبب تأثره بالشيعة في فكرة ادعائه المهديّة. انظر:الجهني : الموسوعة الميسرة ، (1/316-319).
(2) السنوسيّة دعوة إسلاميّة إصلاحيّة تجديدية روحيّة على أساس الكتاب والسنّة. ظهرت في ليبيا وعمّت بعض البلاد الإسْلاميَّة ، من أبرز شخصياتها مؤسسها الشيخ محمد بن علي السنوسي (1202هـ-1276هـ) وابنه المهدي والشيخ عمر المختار (1275هـ-1350هـ) من أهم أفكارها تأثرها بالإمام أحمد بن حنبل، وابن تَيْمِيَّة ، ومحمد بن عبد الوهاب وبحركته السلفيّة في مجال العقيدة وتأثرها بالتصوّف الخالي من البدع ودعوتها إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد والجهاد الدائم ضدّ المستعمرين..انظر: الجهني: د. مانع بن حمّاد : الموسوعة الميسرة (1/294).(2/4)
فكان لكل ذلك دليلاً على الحيوية الكامنة في العالم الإسلامي رغم ركوده وضعفه»(1) ولم يقتصر الغَرْب على اقتطاع الأمصار الإسْلاميَّة، بل أخذ يعمل للقضاء على الدَّوْلَةالعثمانية من خلال الحركات القومية التي أقامتها في كيانها « فأخذت الدول الأجنبية تحرض شعوب البلقان على الثورة منذ سنة 1804م ... وتتابعت سائر بلاد البلقان حتى تقلص ظل الدَّوْلَةالعثمانية »(2) كما شجعوا الحركات القومية العربية(3) والتركية، كحزب تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي وكحزب الاستقلال العربي وحزب العهد، مما جعل كيان الدَّوْلَةداخلياً في اضطراب واهتزاز، فأخذ يميد تحت الأحداث الداخلية مع الغزوات الخارجية.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الدَّوْلَةالإسْلاميَّة ،ص(208) وانظر حسين، د. محمد محمد: الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(12).
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الدَّوْلَة الإسْلاميَّة ،ص(209) .
(3) ظهرت بدايات الفِكْر القومي العربي كصدى للفكر القومي في أوروبا في أوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سريّة تألفت من أجلها الجمعيات والخلايا في عاصمة الخلافة العثمانية ، ثمّ في حركة علنيّة في جمعيات أدبيّة تتخذ من دمشق وبيروت مقراً لها ، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس سنة 1912م وظلّت الدعوة محصورة في عددٍ محدود حتى تبنى الدعوة إليها جمال عبد الناصر. ويمكن القول إنّ الفِكْرة تعيش في فترة انحصار وجمود وتراجع، وقد وصفها الشيخ ابن باز بقوله : « دعوة باطلة وخطأ عظيم ، ومكرٌ ظاهر ، وجاهليّة نكراء ، وكيدٌ سافر للإسلام وأهله » . انظر: الجهني: الموسوعة الميسرة ، (1/450).(2/5)
وما أن أطلّت الحرب العالمية الأولى حتى اهتبل الغَرْبيّون الفرصة الذَّهَبِيّة لتوجيه الحملة على البقية الباقية من أمصار المسلمين، وما أن انجلت الحرب العالمية الأولى عن انتصار الحلفاء حتى تقاسم الغَرْبيّون جميع العالم الإسلامي ولم يبق من الأمصار إلا بلاد الترك التي صار يطلق عليها اسم تركيا.
... « وهكذا تناثرت حبّات العقد الخلافي ونثرت درره في أيدي الاستعمار الغَرْبيّ، وأضحى الوضع السياسي منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين رازخاً تحت الغَرْب الاستعماري يركّز نفسه في البلاد التي بسط نفوذه عليها، وذلك بطمس معالم الحَضَارَة الإسْلاميَّة، وإحلال الحَضَارَة الغَرْبيّة محلها، في الواقع الإسلامي الذي أخضع للنفوذ الاستعمار الغَرْبيّ بعد الحرب العالمية الأولى »(1)
... يقول مستر بلنت في كتابه «مستقبل الإسلام» بعد أن أبان أغراض حكومته الإنكليزية وأمانيها في مستقبل الإسلام في فاتحة كتابه:
... لا تقنطوا فالدر ينثر عقده ... ليعود أحسن في النِّظَام وأجملا
« أي إنّ هدم السلطنة العثمانية لا يضر بالمسلمين، بل إنّ هذا العقد العثماني ينثر ليعود عقداً أحسن وأجمل »(2).
والقضية لا تدور بين الحسن والقُبح وإنما تتمثل في أهميّة هذه المنطقة. يقول سير هالفورد جون ماكندر : « إن الذي يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم، ومن يسيطر على جزيرة العرب يسيطر على العالم أجمع»(3).
__________
(1) زقزوق، د. محمود حمدي: الاستشراق والخلفية الفِكْرية للصراع الحضاري، ص(50).
(2) حسين، د. محمد محمد، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/25).
(3) حافظ، صلاح الدين : صراع القوى العظمى حول القرن الأفريقي، ص(6).(2/6)
هذا إلى جانب نظرة الغَرْب إلى العقيدة الإسْلاميَّة نظرةً أدرك فيها أنها سرُّ قوة هذه الأمّة، وإن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي وإنّه القوة القادرة على الزحف كما يقول غاردنر: « إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا »(1) ويقول في هذا المعنى لورنس بروان: « إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنّه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغَرْبيّ ... » (2) .
ثم بين أن خطر المسلمين هو الخطر العالمي الوحيد في هذا العصر الذي يجب أن تجتمع له القوى، وتجيش له الجيوش، وتلتفت إليه الأنظار فيقول: « لقد كنّا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر (الصين واليابان) وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخويف كلّه لم يتحقق كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفراء فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتها... ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام(3).
__________
(1) انظر: ... - جلال العالم، قادة الغَرْب يقولون، دمروا الإسلام أبيدوا أهله، ص(50).
... - الخالدي، د. مصطفى، فروخ د. عمر، التبشير والاستعمار، ص(36). ...
(2) الخالدي، د. مصطفى، فروخ د. عمر: التبشير والاستعمار، ص(184).
(3) الخالدي، د. مصطفى، فروخ د. عمر: التبشير والاستعمار، ص(184).(2/7)
والإسلام مصدره الوحي، لذلك يقول وليم غيفورد بلغراف(1) الإنكليزي، المسمى بالحرباء: « متى توارى القرآن ومدينة ومكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحَضَارَة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه »(2).
لذا سعى الغَرْب قبيل الحرب العالمية الأولى إلى إضعاف تأثير الإسلام على المسلمين، من خلال الاستشراق والتبشير وبثّ الأفكار العَلْمانية والقومية بغية تأييد الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين والعمل لتحطيم المقاومة الإسْلاميَّة بتأويل الجهاد وصرف أنظار المسلمين إلى الدعة والقعود عن الجهاد في سبيل الله ومدافعة الغزاة بالاشتغال بالعبادة والزهد وتسميتها بالجهاد الأكبر، وعزل الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة عن التطبيق وإحلال الأنظمة القانونية والاقتصادية والسِّيَاسِيَّة لتحل محل الإسلام بالقوة.
يقول زويمر رئيس الجمعيات التبشيرية: «إن مهمة التبشير التي ندبتكم إليها دول المسيحية للقيام بها في هذه البلاد المحمدية، أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونوا بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسْلاميَّة»(3).
__________
(1) مُبشر بروتستانتي إنكليزي. دعته أطماعه الخاصة أن ينقلب راهباً يسوعياً ويجادل قومه لذا سُمي بالحرباء. التبشير والاستعمار ، ص(35).
(2) الخالدي، د. مصطفى، فروخ د. عمر: التبشير والاستعمار، ص(35).
(3) التل، عبد الله: جذور البلاء، ص(275).(2/8)
وحاصل القول إن العالم الإسلامي في هذه المرحلة صار كجسد مثخن بالجراح مقطع الأوصال مستعمر الأمصار، إلا أن الغَرْب يعلمون أن صحوة الإسلام تتم بسرعة وهو ما صرح به «جب» فخشى الغَرْب هذه الصحوة، أضف لذلك أن الموقف الدولي شهد انحسار بعض الدول الاستعمارية عن الحلبة السِّيَاسِيَّة الدولية، فضعف تأثيرها على الساحة الدولية وظهور دول جديدة كالولايات المتحدة الأمريكية مما تبع هذا التغير العالمي تحول طفيف في الأوضاع السِّيَاسِيَّة في مناطق النفوذ الاستعماري وبذلك خضع العالم إلى سياسية جديدة عرفت باسم سياسة الوفاق الدولي وتحكم العملاقين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا « في منتصف القرن العشرين، في الخمسينات على وجه التحديد قررت الولايات المتحدة الأمريكية أن ترث النفوذين البريطاني والفرنسي في المنطقة لتحقق الأهداف نفسها التي كان يحققها هذان النفوذان »(1).
لكن إن اتفقت الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا في الاستراتيجية والأهداف فلقد اختلفت معها في (التكتيك) والأسلوب وممارسة الولايات المتحدة في مهارة ما يسمى بلعبة الأمم تحقيقاً لأهدافها... وكان أهم أساليبها في ذلك الانقلابات العسكرية التي تصنع عن طريقها البطل الذي تتعلق به آمال الأمة فيمتص بذلك ما يمور في باطنها، وشاعت الروح التحررية وظهر ما يسمى بالجلاء الاستعماري، وتعالت الأصوات من السياسيين والمُفَكِّرين تنادي باللحوق بالركب الحضاري المتطور وحلّت القروض والمساعدات الأمريكية محل الجيوش الاستعمارية وتناثرت المؤسسات والهيئات العالمية كهيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي لتسير الأمور لغرض تحقيق المصلحة لأمريكا.
__________
(1) انظر حول هذه المسالة:
1- ... مايلز كويلاند – لعبة الأمم، ص(6).
2- ... كوتشكوفسكي: الاستعمار الاقتصادي الجديد، ص(20-21).(2/9)
فالوضع السياسي الذي يسود الأمصار الإسْلاميَّة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا هو محاولة ربط البلاد الإسْلاميَّة بعجلة الغَرْب بشكل غير ظاهر للعيان، ومن خلال الأقليات العرقية أو الدينية الطائفية أو الأحزاب السِّيَاسِيَّة وزاد الطين بِلّة، قيام العنكبوت اليهودي بنسج خيوطه الدقيقة وحبك مؤامراته الرهيبة بإخراج إسرائيل الغدّة السرطانية الخبيثة وبوضع هذا المولود اللقيط الذي يعرف بدولة إسرائيل لتكون جسراً للدول الغَرْبيّة عامة والولايات المتحدة خاصة.
وفي إطار هذه الجو السياسي عاش المفكرون المسلمون.
... الفِكْر ركيزة مهمة في حياة الأمم ودليل على حيويتها وتقدمها أو على جمودها وتخلفها في جميع المجالات الثقافية والاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية والسِّيَاسِيَّة(1).
والأمة القوية هي التي يجتمع أبناؤها على عقيدة واحدة ومبادئ واحدة فتكون لها وجهة نظر واحدة أي تتمتع بوحدة الفِكْر.
وتعتبر وحدة الفِكْر من أَبرز سمات الأمة الإسْلاميَّة، فقد اتسمت في قاعدة فكرية واحدة انبثقت منها المفاهيم والقيم والثَّقافَة.
ولعل أبرز ما يتمثل في الفِكْر الإسلامي والحَضَارَة الإسْلاميَّة هو: الأصالة، فقد قام الفِكْر الإسلامي على التوحيد والنبوة والمساواة والعدل. وهي أسس جديدة خاصة بالحَضَارَة الإسْلاميَّة لا صلة لها بالحضارات المادية السابقة للإسلام كالسريانية والفارسية والرومانية واليونانيَّة والهندية.
__________
(1) السحمراني، د. أسعد: مالك بن نبي «مفكراً إصلاحياً»، ص(132).(2/10)
ولقد أدرك الأوروبيون وفي وقت مبكر ما للفكر من أهميّة في صراعهم الحضاري مع المسلمين ولمسوه يقيناً بما يترتب على نتائج الحروب الصليبية حيث لم يبقِ لهم انتصارهم وجوداً في الأمة الإسْلاميَّة بعد أن دحرهم صلاح الدين ومَنْ بعده؛ ولذلك اتجهوا إلى أفكار الإسلام فانكبوا على الفِكْر الإسلامي فترجموه وقاموا بدراسته وتلخيصه فكانت أولى أعمالهم ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية وبعدها فتح باب الدراسات الإسْلاميَّة والعربية عندهم على مصراعيه(1)، فكانت حركة الاستشراق التي مهدت لهم طريق الاستعمار فيما بعد، ثم عملت أوروبا على كشف الفِكْر الإسلامي مرة أخرى لهدف سياسي لتضع خططها الرامية للسيطرة على بلاد الإسلام مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسْلاميَّة من ناحية ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السِّياسَة في البلاد الإسْلاميَّة لتسيطر على الشعوب الخاصة فيها لسلطانها(2). ومن هنا بدا يظهر الأثر السلبي للإنتاج الاستشراقي الفِكْري في دور التحذير ليبقى العالم الإسلامي مفتوحاً لتلقي ما يصدِّرونه من أفكار تحكم سيطرة المستعمرين على البلاد.
__________
(1) السحمراني: د. أسعد: مالك بن نبي «مفكراً إصلاحياً»،، ص(132).
(2) المصري، د. جميل عبد الله محمد، حاضر العالم الإسلامي (1/128).(2/11)
هذا الأسلوب هو ما نسميه: الغزو الفِكْري، الذي يحمل سلاح الفِكْرة، والرَأْي والحيلة والنظريات والشبهات وخلابة المنطق، وبراعة العرض، وشدّة اللدد، ولداوة الخصومة وتحريف الكلم عن مواضعه وغير ذلك، فهو حرب دائبة لا يحصرها ميدان تتسم بالشمول والامتداد وتسبق حروب السلاح وتواكبها حتى تستمر بعدها لتكسب ما عجز السلاح عن تحقيقه، فتشل إرادة المهزوم وعزيمته حتى يلين ويستكين وينقض تماسكه النفسي حتى يذوب كيانه فيقبل التلاشي والفناء في بوتقة أعدائه أو يصبح امتداداً ذليلاً لهم(1).
ومما ساعد على هذا الغزو الفِكْري التقدم العلمي المذهل للغرب، الذي دفع بأوروبا إلى التقدم في كافة الميادين مما بهر العقول وفتن الألباب وجعل العقول تتعلق به، بل تفتتن وتسبح به، وتهلل لبراعته وأحكامه، في حين أن الدَّوْلَةالعثمانية والممالك التابعة لها راحت تتراجع أمام سيطرة الدول الغَرْبيّة التي أخذت في احتلال سلطانها وتقسيمه إلى جزر مقطعة الأوصال تسيطر عليها أفكار ومفاهيم غربية جديدة.
« وكان لا بدّ أن ينظر الناس إلى هذه المذاهب والفلسفات والنّظم نظرة تقدير واحترام، لأنها نتاج تلك الشعوب المتقدمة، وحصاد تلك الأمم المتطورة... كل هذا مع دعاية ساحرة، وأساليب منمقة وإلحاح قوي وإصرار عجيب ونيّة مبيتة، وخطة محكمة، لغزو هذه الشعوب المشدوهة وفتنة هذه الأمم الساذجة عن نفسها وواقعها»(2).
__________
(1) فتح الله، د. عبد الستار فتح الله سعيد: الغزو الفِكْري والتيارات المعادية للإسلام، ص(7).
(2) الواعي، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(686).(2/12)
... ولهذا كان الضغط على الأمة الإسْلاميَّة هائلاً مادياً وفكرياً في زمن فقدت فيه روادها وفرسانها وثقافتها، فلما هبّت تريد أن تتعلم وأن تنهض لم تجد إلا أن تولي وجهها نحو الغَرْب صاحب تلك الحَضَارَة، ولكن منهم من اتجه ومثله كالصخرة الشامخة أخذ العلم وترك الغثاء وقد أدرك أنه لا صلة بين التقدم العلمي وأفكار المذاهب والفلسفات، إذ إنّ التقدم العلمي كان نتيجة الاستفادة من آلاء الله ومخلوقاته وسُنَن كونه، ولكن هؤلاء كانوا قلّة في وسط أمواج متلاطمة ومنهم من اتجه اتجاه المندهش والمنبهر، فنهل من علومهم وتأثر بثقافتهم ونادى بأفكارهم .
وحاصل القول إنّ مبعث هذا التأثر دهشتهم وانبهارهم بالتقدم العلمي في الغَرْب وحال المسلمين المتسم بالضعف وعدم استيعابهم للثقافة الإسْلاميَّة استيعاباً كاملاً وحبّ التقليد والمحاكاة بغير تفكير أو تدبير.
... ومن خلال هذا الغزو الفِكْري « أطلّت رؤوس الأفكار المنحرفة بدون حاجز وبحرية كاملة تدعمهم السلطات الحاكمة في البلاد الإسْلاميَّة وتزودهم بكل ما يريدون من وسائل نشر ودعاية وإعلان ووظائف عليا وحراسة، فدخل الفِكْر القومي والوطني والعَلْماني والمادي والاشتراكي والوجودي إلى صفوف المسلمين باسم العمل وحرية البحث والنهضة والإصلاح والثورة على كل قديم»(1) وبرزت دعوات فكرية هدّامة نذكر منها:
__________
(1) محمد المصري، د. جميل عبد الله: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة ، (2/132).(2/13)
1. الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغَرْب، وأخذ حضارته دون وعي ولا تمييز، وقد ترجم هذا الاتجاه كثير من هجناء الفِكْر بعد زوال الخلافة العثمانية مثل طه حسين(1) وسلامة موسى وقاسم أمين وأحمد لطفي السَيِّد(2).
فسلامة موسى في كتابه «اليوم والغد» 1345هـ (1926م) يرى أنّ مصر جزء من أوروبا وليست جزءاً من آسيا (أي من الإسلام) »(3) ويقول: « فَلْنولِّ وجهنا شطر أوروبا»(4) وطه حسين في كتابه مستقبل الثَّقافَة في مصر ( ظهر سنة 1357هـ/1938م) يقول: « إن سبيل النهضة واضحة بيِّنة مستقيمة ليس فيها عوج ولا إلتواء وهي أن نسير سيرة الأوروبين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحَضَارَة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يُحمد وما يُعاب»(5)وهذا شبيه بقول آغا أوغلي أحمد أحد غلاة الكماليين من الترك في أحد كتبه:
«
__________
(1) طه حسين، (1889-1973م) ناقد روائي ، تعلم في الأزهر وانتقل إلى الجامعة المصرية ونال منها الدكتوراة الأولى، ثمّ نال دكتوراة دولة من جامعة السوربون بباريس. عُيّن عميداً لكلية الآداب في جامعة القاهرة. من مؤلفاته (الأيام)، و (دعاء الكروان).
(2) أحمد لطفي السيّد، (1288-1382هـ) (1870-1963م) . وُلد في قرية برقين بمصر ، رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة. تخرج بمدرسة الحقوق في القاهرة وعمل في المحاماة، وشارك في حزب الأمّة، فكان أمينه . من آثاره (تأملات في الفلسفة والأدب والسياسية والاجتماع).
(3) حسين، د. محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/222).
(4) حسين، د. محمد محمد ، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/227).
(5) قطب، سَيِّد: مستقبل الثَّقافَة في مصر (نقد)، ص(14).(2/14)
إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغَرْبيّين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم والنجاسات التي في أمعائهم »(1).
وقاسم أمين يقول في كتابه «المرأة الجديدة» بعد أن تحدث عن أوضاع المرأة المسلمة في مصر: « هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يتعرفوا شؤون المَدَنيَّة الغَرْبيّة ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها وإذا أتى ذلك الحين- ونرجو ألا يكون بعيداً- انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغَرْبيّ وتيقناً أنّ من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية»(2).
وممن يُلحق بركب هذه الثلّة من هجناء الفِكْر ثلّة أخرى اختلفت فيهم الآراء وتشعبت ومهما كان الأمر فالتأثر بالثَّقافَة الغَرْبيّة عندهم لا يحتاج إلى إنكار فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار عند أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي.
__________
(1) صبري، مصطفى: موقف العقل والعلم والعالِم، (1/369).
(2) أمين، قاسم : المرأة الجديدة، ص(192-193).(2/15)
فقد ذهب رفاعة الطهطاوي(1) إلى فرنسا فاطلع على الأفكار والآراء الغَرْبيّة والنظريات السِّيَاسِيَّة والاقتصادية(2) فأعجب بمظاهر الحرِّيَّة والمساواة وأعجب بدستور فرنسا وقوانينها(3) وتحدث عن ذلك مادحاً ما تنص عليه من تساوٍ بين المواطنين وأنَّها تكفل حرية الفرد وحرية المِلْكِيَّة الفردية وحرية العبادة(4) ولم يخفِ إعجابه بالنساء الفرنسيات وبمسلكهن وتبريره لخلاعتهن، مؤكداً أن خلاعة بعضهن لا تشين السفور ولا تمت له بصلة، وإنما تنشأ من حسن التربية أو رداءتها ثم تمادى في ذلك مبرراً الرقص الفرنسي للمرأة والرَّجُل فقَالَ : « فرقص المرأة الفرنسية بين ذراعي الرَّجُل لا يشم منه رائحة العهر أبداً، بخلاف الرقص في أرض مصر، فإنه من خصوصيات النساء لأنه لتهييج الشهوات»(5) ومن هنا كان الانبهار الذي دعاه إلى مدح المعالم الحضارية في باريس وممّن سار على نهج الطهطاوي:
__________
(1) هو رفاعة بدوي رافع الطهطاوي (1801-1873) ولد بطهطا من قرى صعيد مصر، تعلّم بالأزهر ثمّ أوفد إلى باريس سنة 1826 مرافقاً لبعثة علمية ليكون مرشدها الروحين فدرس الفرنسية، وتثقف هناك، وعاد إلى مصر فتولى رئاسة الترجمة في المدرسة الطبية وتدرج في غيرها من المناصب. له من الكتب: «تخليص الإبريز» و «المرشد الأمين» وغيرها. انظر: الواعي ، د. توفيق يوسف، الحَضَارَة الإسْلاميَّة ، مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(687).
(2) الطهطاوي، رفاعة بدوي رافع: تخليص الإبريز ، ص( 149، 150 ).
(3) الطهطاوي: رفاعة بدوي رافع: تخليص الإبريز، ص(162-167).
(4) الطهطاوي: رفاعة بدوي رافع: تخليص الإبريز، ص(67).
(5) الطهطاوي: رفاعة بدوي رافع: تخليص الإبريز، ص(90).(2/16)
خير الدين التونسي(1)، إذ عبّر في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» عن رأيه في الحَضَارَة الغَرْبيّة و عادتها، ثم تكلم عن الوطن والوطنية وأخذ فكرة الغَرْبيّين في الروابط بين الرعية، فاضطر إلى الاعتراف بأن الدين قد لا يكون الرابط الوحيد بين أفراد الرعية إذ لا بدّ من رابطة الجنس أيضاً(2)، هذا وقد دعا إلى الاجتهاد في الشَّرِيعَة من غير التمسك بالمذاهب الفقهية ومن غير اعتماد النصوص، إذ لم تسعفه ما دامت غاية المجتهد أن يخدم الصالح العام، وهذا ما جعله يفسر الشَّرِيعَة تفسيراً يستقيه كما يقول - من فقهاء الحنبليين والحنفيين المتأخرين، فينكر أن تكون الشَّرِيعَة قانوناً محدداً يأمر الفرد والحكومة بما يوجب القيام به، وينهى عن كل ما لم يؤمر به، بل يعرفها- نقلاً عن الشيخ الحنفي سَيِّد محمد بيرم (ت 825) بأنها: « ما يكون الناس منه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به الوحي»(3)
__________
(1) خير الدين التونسي، قدم تونس صغيراً فاتصل بصاحبها الباى أحمد وتعلم العلوم الأجنبية، والتحق بوظائف الحكومة، حتى اختير وزيراً للحربية في تونس ثم ولاه السلطان عبد الحميد الصدارة العظمى من مؤلفاته : «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» توفي سنة 1890م في القسطنطينية. انظر الواعي ، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(690).
(2) انظر: التونسي، خير الدين: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ص(49 ، 50 ، 73 ، 86 ، 186).
وانظر الواعي ، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(690).
(3) التونسي، خير الدين، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ، ص(42).(2/17)
والمقرر في أصولنا أن إطلاق القول في الشَّرِيعَة على عواهنه، وفتح الباب على مصراعيه دعوة خطرة، يراد بها التشريع بغير ما أنزل الله، والتذرع بمصالح الناس يوحي بأن الشَّرِيعَة ناقصة، أو جاءت بغير مصالح الناس أو مخالفة لسعادتهم. وهذه فكرة دخيلة وأسلوب من أساليب الغزو الفِكْري الذي يبث في أوساط المسلمين يشير إلى التأثر بإيحاءات المستشرقين وضغط الحَضَارَة على أفهام الكثير من المُفَكِّرين وهذا هو ما عناه المستشرق ولفرد كانتويل سميث(1) في كتابه «الإسلام في العصر الحديث» حيث كان من أهدافه قطع التفكير والتشريع الإسلامي عن الوحي وتفكيك الوحدة الإسْلاميَّة وتشكيل مجتمعات إسلامية تتطور بعوامل محلية يسيطر عليها الاستعمار الغَرْبيّ(2).
2. احتقار الماضي الإسلامي والإشادة بالحضارات القديمة:
__________
(1) ولفرد كانتويل سميث، مدير الدراسات الإسْلاميَّة ، وأستاذ الدين المقارن في جامعة ماكسجيل بكندا حصل على د.اه في جامعة برينستون سنة 1948، تحت إشراف المستشرق المعروف «جب» وكان موضوع بحثه في د.اه هو مجلة الأزهر، عرض ونقد بين عهدين، عهد حسين وعهد محمد فريد. وانظر الواعي ، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(690).
(2) انظر: حسين، د. محمد محمد: الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(161-162).(2/18)
لا شكّ أن الإيحاء العام للثقافة الغَرْبيّة قد أثر بدرجة متفاوتة في كثير من الدارسين في ذلك الوقت وأخذ هذا الإيحاء يخرج على شكل آراء ووجهات نظر وإعجاب، سواء كان هذا الإعجاب بالغَرْب، أم بشيء يلفت إليه الغَرْب، وكمثال على ذلك الفرعونية في مصر: التي أطلت برأسها فشط دعاتها لغزو الأقطار بها وملأوا أبصار قارئي الصحف وأسماع شاهدي الندوات بالدعاية لها، « وأصبحت دعوة انفصالية تنزع نحو الأنانية والانطواء على النفس وتعارض الجامعة الإسْلاميَّة والجامعة العربية »(1)(2) ورأت في العرب غزاة دخلاء كاليونان والرومان سواء بسواء. ومن دعاة هذا الاتجاه محمد حسنين هيكل في شطر كبير من حياته إلى أن عدل عن اتجاهه إلى الاتجاه الإسلامي(3).
__________
(1) حسين، د. محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/146).
(2) لا بدّ من الإشارة إلى أن فكرة الجامعة بين الدول في العالم الإسلامي المعاصر، جاءت كبديل عن فكرة الدَّوْلَةالإسْلاميَّة الواحدة، بمعنى القول بتعدد الدول الإسْلاميَّة تبعاً لتعدد الأئمة باعتبار أن الوحدة الكاملة بين البلاد الإسْلاميَّة في صورة دولة واحدة فكرة غير ممكنة يسبب تباعد الأقطار الإسْلاميَّة بعضها عن بعض واختلاف العادات والتقَاليد بين الأقطار الإسْلاميَّة وعدم وجود عاصمة تصلح أن تؤلف مع العالم الإسلامي شكلاً هندسياً متناسقاً ويكفي لنقض هذه الفِكْرة من أساسها معارضتها للنصوص الشَّرْعية الناهية لتجزئة الإمارة، أضف إليه أن دولة الخلافة بقيت قوية من فترات هذا التاريخ الطويل.
(3) حسين، محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/149).(2/19)
ورفاعة الطهطاوي الذي تلفّت إلى حضارة القدماء المصريين وحث على التأسي بها والاقتداء بخطواتها فأشاد بتقدم الفراعنة وامتيازهم في المعارف والعلوم والقوانين والفضائل الخُلقيّة والاجْتِمَاعِيَّة في كتابه «تخليص الإبريز»(1) حتى علق محمد محمد حسين عليه قائلاً: «ومن الواضح أن هذه الأمثال الكثيرة التي يتخذ فيها الطهطاوي القدوة والأسوة من تاريخ الفراعنة شيء جديد على الفِكْر الإسلامي، جاء في تصوره الجديد للوطنية الذي بدأ يأخذ اعتباره إلى جانب الإسْلاميَّة من ناحية ومما شاهده من اهتمام علماء الآثار في فرنسا بتاريخ مصر القديم من ناحية أخرى(2).
كما أثيرت الفينيقية في لبنان والآشورية في العراق والبربرية في المغرب لعزل هذه الأجزاء عن بعضها والتفريق بينها تفريقاً يحول دون التقائها في وحدة واحدة قوية وكأن ذلك كان مبرراً للدعوة العبرية في فلسطين(3).
وقد عرضت المناهج -مناهج الدين والتاريخ الإسلامي بالذات- عرضاً منفراً مغرضاً يجعلها على هامش المنهج الدراسي مما يغرس في نفوس الأطفال والناشئة عامة عدم الاهتمام بهما وبطبعهم على الاعتقاد بعدم جدواهما دراسياً لما يرسب في نفوسهم وبالتالي الاستخفاف بالدين من حيث هو سلوك وعبادات وبالتاريخ الإسلامي من حيث هو سجل لأمجاد الأمة الإسْلاميَّة(4).
3. الدعوة إلى تطوير البرامج التعليمية على الأساس الغَرْبيّ:
__________
(1) الطهطاوي: تخليص الإبريز، ص(170، 177، 178، 179).
(2) انظر، حسين، د. محمد محمد: الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(177).
وانظر: الواعي، د. توفيق يوسف : الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة مع الحَضَارَة الغَرْبيّ، ص(692،693).
(3) محمد المصري، د. جميل عبد الله: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة ، (1/136).
(4) حسين، د. محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/149).(2/20)
يقول اللورد كرومر « إن التعليم عندما قدم الإنكليز إلى مصر كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة القديمة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي، فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله لكانت خطوة جليلة الخطر. ولكن إذا بدا أن مثل هذا الأمل غير متيسر تحقيقه فحينئذ يصبح الأمل محصوراً في إصلاح التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح وعندئذ فسوف يجد الأزهر نفسه أمام أحد أمرين: إما أن يتطور... وإما أن يموت ويختفي(1). هذه الكلمات تكملها كلمات للمستشرق جب « وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة لأبعد من ذلك بإنماء التعليم العَلْماني تحت إشراف الإنكليز في مصر والهند »(2)
... وكذلك تكملها كلمات زعيم المبشرين النصارى «زويمر» يقول على جبل الزيتون في القدس إبّان الاحتلال الإنكليزي لفلسطين سنة 1354هـ/1935م « لقد قبضنا أيها الأخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسْلاميَّة، وإنكم أعددتم نشئاً في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها وأخرجتم المسلم في الإسلام طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل»(3).
__________
(1) حسين، د. محمد محمد: الاتجاهات الوطنية (1/275). وانظر تقرير كرومر لسنة 1906م الفقرة 3 ص(5).
جريشة، د. علي أساليب الغزو الفِكْري للعالم الإسلامي، ص(62-63).
(2) جب وزملاؤه، وجهة الإسلام، ترجمة محمد بعد الهادي أبو ريدة / مصر.
وانظر جريشة، د. علي محمد : أساليب الغزو الفِكْري للعالم الإسلامي، ص(63).
(3) جريشة، د. علي محمد : أساليب الغزو الفِكْري للعالم الإسلامي، ص(63).(2/21)
من أجل ذلك كله تعرض الأزهر لمقت أعداء الإسلام وصب اللعنات من قبل دعاة التغريب واللادينية حتى جعلوه رأس المشكلات الثقافية في مصر والعقبة الكؤود في سبيل النهضة، فقامت في الأزهر حركة تدعو إلى إصلاحه في سنة 1343هـ/1924م «وهذه المؤامرة تستهدف عزل الأزهر عن الحياة وإخضاع برامجه لرقابة تضمن إفناء شخصيته وفرنجته، بحيث يصبح الدين تبعاً للحياة وذيلاً لها يتبعها ويتشكل بها بدل أن يقودها ويقومها. وسار الشيخ محمد عبده في هذا المجال شوطاً عن حسن نيّة وربما عن شعور بالنقص، وربما كان هذا من أهم أسباب التقدير والتمجيد اللذين حظى بهما الشيخ من المستشرقين والمبشرين ومن كرومر عميد الاحتلال في مصر »(1). وصدرت قوانين تطويع الأزهر باسم تطويره تباعاً من عام 1936م / 1355هـ إلى عام 1976م/1396هـ. وتمّ التطويع في عهد الاستقلال(2).
وكان من أثر الانتصار في تطوير الأزهر أن تمّ تطوير البقية الباقية في معاهد الثَّقافَة الإسْلاميَّة خارج مصر بسرعة، إما بدوافع ذاتية وإما بقوانين إجبارية كجامع الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب والمعاهد الدينية في الهند(3) إلى غير ذلك من المدارس والجامعات في العالم الإسلامي التي تأثرت بالبرامج التعليمية ولا نعني ببرامج التعليم البرامج العلمية والصناعية، فإن هذه عالمية لا تختص بها أمّة من الأمم بل هي عالمية لجميع الناس.
«
__________
(1) حسين، د. محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/271).
(2) الحوالي، د. سفر بن عبد الرحمن: العَلْمانية، ص(601).
(3) محمد المصري، د. جميل عبد الله: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، ص(1/139).(2/22)
وإنما نعني البرامج الثقافية التي تؤثر في وجهة النظر في الحياة،فهذه هي التي جعلت برامج التعليم تقف صعوبة أمام استئناف الحياة الإسْلاميَّة، وهذه المعارف تشمل التاريخ والأدب والفلسفة والتشريع وذلك لأن التاريخ هو التفسير الواقعي للحياة، والأدب هو التصوير الشعوري لها والفلسفة هي الفِكْر الأصلي الذي تبنى عليه وجهة النظر في الحياة والتشريع هو المعالجات العملية لمشكلات الحياة والأداة التي يقوم عليها تنظيم علاقات الأفراد والجماعات، وهذه كلها قد كون بها الكافر المستعمر عقلية أبناء المسلمين تكويناً خاصاً جعل بعضهم لا يشعر بضرورة وجود الإسلام في حياته وحياة أمّته، وجعل بعضاً منهم أيضاً يحمل عداء للإسلام منكراً عليه صلاحيته لمعالجة مشكلات الحياة»(1).
ويصور ذلك المَوْدودِي بقوله: « وكذلك تلقى أكثرهم بالقبول ما جاء به الغَرْب من فلسفة للحياة وأسس فلسفية للحضارة الغَرْبيّة وما كان ذلك إلا من لوازم الثَّقافَة التي نشأوا عليها منذ المدارس الابتدائية إلى المراتب النهائية في مدارسهم وكلياتهم ولا غرو فإن الطراز الذي انتهجوه في دروسهم للتاريخ والفلسفة والاقتصاد والسِّيَاسِيَّة والقانون وما إليها، ما كان لينشئ فيهم إلا الفِكْرة نفسها والعقلية التي كان عليها أساتذتهم الغَرْبيّون وكان من المستحيل أن تكون وجهة نظرهم إلى الدنيا وحياتها، إلا التي كانت عند أهل الغَرْب(2).
وهكذا أدى تطوير البرامج التعليمية إلى اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية في الغَرْب وإدخالها بصورتها الغَرْبيّة المعادية للدين.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الدَّوْلَة الإسْلاميَّة ، ص(238-239).
(2) المَوْدودِي، أبو الأعلى: واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم ، ترجمة محمد عاصم حداد، ص(163-164).(2/23)
فالفرويدية(1) المدرسة التي أسسها فرويد(2) تجدها مقررة في أقسام علم النفس في الجامعات قاطبة على أساس أنها نظرية علمية، والدارونية، تدرسها مناهج العالم الإسلامي على أنها حقيقة علمية في مواد كثيرة كالأحياء والتاريخ الطبيعي وعلم الأرض سواء ذكر دارون(3)
__________
(1) الفرويديّة نسبة إلى فرويد، مدرسةٌ في التحليل النفسيّ، تُفسر السلوك الإنسان تفسيراً جنسياً وتجعل الجنس هو الدافع وراء كلِّ شيء، كما أنّها تعتبر القيم والعقائد حواجزٌ وعوائق تقف أمام الإشباع الجنسي ممّا يُورث الإنسان عُقداً وأمراضاً نفسياً. انظر: الجهني الموسوعة المُيسرة، (2/832).
(2) هو سيجموند فرويد، عاش ما بين (1856-1939م) يهودي من أبوين يهوديين، نمساوي، هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي، تظاهر بالإلحاد ليُعطي لتفكيره روحاً عَلمانيّة ولكنّه كان غارقاً في اليهوديّة . انضمّ إلى جمعيّة بناي يرث أي أبناء العهد، وعَرف هرتزل وسعى معه لتحقيق أفكارٍ واحدة لخدمة الصهيونيّة التي ينتميان إليها نحو فكرة معاداة الساميّة التي نشرها هرتزل سياسياً وحلّلها فرويد نفسياً له مؤلفات منها: تفسير الأحلام وثلاث رسائل في نظرية الجنس، ما فوق مبدأ اللذة، الذات والغرائز، القلق وغيرها. انظر الميداني، عبد الرحمن حسن: كواشف زيوف في المذاهب المعاصرة.
(3) هو تشارلس داروين بريطاني، عاش ما بين عام (1808 و1882م) بدأ دراسة الطب ثم لم يكمل مسيرته وانتقل إلى دراسة اللاهوت، وكان شغفه بالرحلات العلمية الاستكشافية وراء البحار وتعلق بالبحث في عالم الأحياء ودوّن ملاحظاته التي توصل إليها طوال ربع قرن من البحث، وتجلّت له فكرة تطور الأحياء بعضها من بعض من ظاهرة التشابه في التكوين الجسمي بينها ومن بعض ظواهر أخرى، وكتب في ذلك كتابه «أصل الأنواع» فأحدث ضجة في الغَرْب ثمّ كتب كتاباً آخر سماه «أصل الإنسان» ونشره سنة 1874م وقد خصصه لموضوع التطور الإنساني..وسُميت فكرته بالدارونيية.
... انظر: الميداني، عبد الرحمن حسن: كواشف زيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(317).(2/24)
أم لم يذكر وفي اقسام الاجتماعيات تدرس نظرية دوركايم(1) بل يدرس علم الاجتماع بكامله على المنهج الغَرْبيّ المبني على أساس لا ديني. وفي أقسام الكيمياء والفيزياء والفلك والطب تدرس مناهج محشوة بإيحاءات فلسفية أو وثنية، في العبارات المسمومة مثل المادة لا تفنى ولا تستحدث، خلقت الطبيعة وهيأت...
... ونجد في كتب التاريخ إحياء الثغرات الإقليمية الجَاهِليَّة وعرضها من زواياها البراقة التي تغري باعتناقها والاعتزاز بها والاهتمام بمعرفته كما حدث بالنسبة لتاريخ الفراعنة والآشوريين والسومريين وغيرهم، وأخطر من هذا فإنّ المناهج تقوم بنصب مُثُلٍ عليا جديدة أمام أجيال المتعلمين المسلمين فتعرض لهم تاريخ أوروبا وحياة أبطالها وعلمائها ومذاهبها الفلسفية والاجْتِمَاعِيَّة ونظرياتها العلمية بطريقة لامعة جذابة ليتم استقطاب المسلمين عن دينهم بإحدى الطريقتين(2):
أ- طريق الاعتزاز بما قبل الإسلام وفي هذا فرقتهم وتباعدهم.
__________
(1) هو إميل دوركايم، يهودي فرنسي عاش ما بين (1858-1917م) تخصص في علم الاجتماع، قَالوا وقد صار رائد علم الاجتماع بعد كونت الفيلسوف الفرنسي (1798-1857م) كان أستاذاً بالسوربون وتأثر اتجاهه في علم الاجتماع بفلسفة كونت الوضعية التي ترفض الميتافيزيقيا وتعتمد على نتاج العلوم الحديثة، وقد كان له أولاً تابعاً ثم صار له ناقداً. من مؤلفاته : تقسيم العمل في المجتمع عام 1893م وقواعد المنهاج الاجتماعي عام 1895م والانتحار عام 1897م والتربية والاجتماع وغيرها. انظر: الميداني، عبد الرحمن حسن، كواشف زيوف في المذاهب الفِكْرية المعاصرة، ص(335).
(2) فتح الله، د. عبد الستار فتح الله سعيد: الغزو الفِكْري والتيارات المعادية للإسلام، ص(71).(2/25)
ب- طريق الفناء في الحَضَارَة الغازية، وفي هذا محوهم وردتهم وحتى مادة المطالعة فكأنما هي ملخص موجز للغزو الثقافي الغَرْبيّ، إذ تحوي موضوعات منوعة يجمعها الإعجاب بالغَرْب وتمجيد حضارته ورجالها والإقليمية والطبقية وتخلو من التصورات الإسْلاميَّة والقيم الإيمانية إلا قليلاً.
وهكذا تميزت هذه المرحلة بالتوجيه الثقافي المخطط إلى النواحي الأدبية والتربوية والفلسفية الغَرْبيّة الخالصة وحتى الدراسات الإسْلاميَّة في هذه المجالات، وجهت على النحو الذي يريده المبشرّون والمستشرقون من خلال إخراج ثقافة جديدة مؤداها « تطوير الثَّقافَة الإسْلاميَّة تطويراً يلائم الثَّقافَة الغَرْبيّة » وتعزيزاً لهذه الثَّقافَة الدخيلة ولهذه الأفكار الغَرْبيّة، ظهرت أقلام تنادي بعناوين عريضة منها الإسلام دين الاشْتِراكِيَّة، الإسلام دين الديمقراطية، الإسلام دين الحرِّيَّة، الإسلام دين العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.
... لذلك كان واقع العالم الإسلامي من الناحية الفِكْرية في هذه الفترة الزمنية أخطر المراحل الثقافية التي مرّ بها، إذ أن بدء الغزو الفِكْري لم ينل في مرحلته الأولى إلا من المبعوثين وبعض التلاميذ الذين فتنوا بالغَرْب ليتحول الأمر إلى غلبة روح التقليد من قبل غالبية الأمة، وفي ظل هذه الأعراض الفِكْرية التي غلبت على واقع المسلمين عاش مفكرو الأمة الإسْلاميَّة ما بين منتفع ومتأثر بالحَضَارَة الغَرْبيّة ومخطئ ومصيب في موقفه منها، وتائب راجع إلى الحق في أمور وأصيل يشق طريقه في أوساط الأمة بأصالة الفِكْر الإسلامي.(2/26)
... يقوم المجتمع الإسلامي على أسس ثلاث: الأفكار والمشاعر والنظام، والعلاقة بين هذه المقومات في داخل الأفراد علاقة متلاحمة، فالمجتمع الذي يدرك أفراده أن حكم الصلاة فرض، تثور لديهم مشاعر السخط تجاه من يتهاون في هذا الحكم، وتثور لديهم مشاعر الرضى إنْ تَرامى الأذان لمسمعهم، لأن أفكارهم عن الصلاة أصبحت مفاهيم، وصارت ميولهم ناجمة عن هذه المفاهيم، وبذلك يطلبون أن يوقع الحاكم العقاب الرادع على تارك الصلاة.
... وأما المجتمع الذي يطبق على أفراده أنظمة غير أفكارهم ومفاهيمهم وتكون مخالفة لمشاعرهم، فإنهم لا يهتمون بتطبيق هذه الأنظمة، بل يتذمرون منها ويسعون لتغييرها من أجل أن تتفق ومفاهيمهم وتنسجم مع مشاعرهم.
وقد يلقن المجتمع أفكاراً لا تنبع من عقيدته، فتكون هذه الأفكار لدى البعض مجرد معلومات لا ترقى لأن تكون عندهم مفاهيم، وفي هذه الحالة يحصل الانفصام في شخصية هذا المجتمع فيحب أفراده أموراً، ويميلون إلى أمور ولكنهم يفعلون أموراً تخالف ميولهم، فالفرد في هذا لمجتمع يرتكب الحرام كالرِّبَا والزِّنَا والخمر وفي الوقت نفسه يصرح بأن ما يفعله حرام ويحاول أن يجد المبررات لارتكابه هذه الأفعال.(2/27)
هذا الانفصام في شخصية المجتمع سعى الغَرْب إلى إيجاده في العالم الإسلامي من خلال تغيير العناصر المكونة للمجتمع وهي الأفراد والأفكار والمشاعر والأنظمة، وهذا أشبه بكأس شفافة مملوءة بسائل، الأفراد يشبهون الكأس الزجاجية والأفكار والمشاعر والأنظمة تشبه السائل، ويتلون الكأس بلون السائل الموجود فيها، فإن كان المجتمع إسلامياً أدى هذا التغيير إلى إخلال أو إتلاف العناصر الأَسَاسيَّة من مقومات المجتمع، وهذا ما حصل في العصر الحديث حيث :« أصبح المجتمع يعيش حياة غير إسلامية، ويعيش وفق طراز من العيش يتناقض مع الإسلام وذلك لأن جهاز الدَّوْلَةونظام الحكم الذي يقوم عليه الجهاز والمجتمع وقواعد الحياة التي يقوم عليها هذا المجتمع بكل مقوماتها، والاتجاه النفسي الذي يتجهه المسلمون، والتكوين العقلي الذي يقوم عليه تفكيرهم كل ذلك يقوم على أساس مفاهيم عن الحياة تناقض المفاهيم الإسْلاميَّة»(1).
« والذي أدى إلى هذا عاملان: الأول مخلفات العهد الهابط، والثاني هو زوال الدَّوْلَةالإسْلاميَّة وهيمنة دول الغَرْب على عالمنا الإسلامي برمته وحكمه حكماً مباشراً أو غير مباشر»(2).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الدَّوْلَة الإسْلاميَّة ، ص(242).
(2) صالح، حافظ: النهضة، ص(114).(2/28)
وبسبب هذين العاملين ظهرت مشاعر الوطنية والإقليمية والقومية، وتمكن الغَرْب من إبعاد الإسلام عن واقع الحياة، وجُعل الغَرْب كعبة المثقفين ومحط أنظارهم فضبعوا بثقافته وتبنوا عقيدته أو كادوا، إلا من رحم ربي، « وقد كانت الإشارة إلى تلك الأهداف تحت اصطلاحات أكثر تهذيباً، مثل التغريب أو التغيير الاجتماعي»(1) ، « وقد يسمونه المَدَنيَّة أو التطور أو التقدم »(2) ، « والتغيير الاجتماعي يعني تغيير الأمة ومثلها وتغيير ثقافتها وأخلاقها وعقيدتها وبعبارة واضحة إبعاد المسلمين عن دينهم »(3).
وهكذا شرع المستعمرون في بلاد المسلمين في تنفيذ خطّة التغيير الاجتماعي التي كانت ترمي إلى أمرين أساسيين(4):
أولهما: إنشاء جيل مجانس لهم في ثقافتهم ليسهل عليهم الاتصال به والتفاهم معه(5).
الثاني: وهو أخطر الأمرين جميعاً أن تخلو الأجيال المقبلة من الدين ومن الثَّقافَة الإسْلاميَّة.
... وكان لا بد لبلوغ هذه الأهداف من إحداث انقلاب جذري في حياة المسلمين يصادم المنهاج الإسلامي في جملته الأَسَاسيَّة بحراسة الجيوش المستعمرة وعلى يد من ربتهم على منهاجها من أهل البلاد.
__________
(1) جريشة، د. علي: أساليب الغزو الفِكْري للعالم الإسلامي، ص(55).
(2) جريشة، د. علي: أساليب الغزو الفِكْري للعالم الإسلامي، ص(56).
(3) جريشة، د. علي: أساليب الغزو الفِكْري للعالم الإسلامي، ص(55).
(4) فتح الله، د. عبد الستار فتح الله سعيد: الغزو الفِكْري والتيارات المعادية، ص(61).
(5) انظر حول المسألة:
1- ... الجندي، أنور : العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي، ص(338) حيث ذكر قول اللورد لويد في حفل فكتوريا بالإسكندرية.
2- ... حسين، محمد محمد: الاتجاهات الوطنية (2/203-205)، حيث ذكر رأي جب.(2/29)
... بدأ احتكاك المجتمع الإسلامي المنحرف عن الإسلام بالمجتمع الغَرْبيّ الشارد عن الدين في القرن التاسع عشر الميلادي، ومنذ اللحظة الأولى أحسّ الغَرْب- المغرور بتقدمه المادي- بتفوقه الاجتماعي على العالم الإسلامي الذي لا شك أنه كان لديه من الفضائل ما يفتقده الغَرْب، لكنَّ نظرة الغالب إلى المغلوب لا تسمح بالرؤية الصَحِيْحة عادة لا سيما والروح الصليبية الحاقدة كانت من ورائها. وبالمقابل أحسّ المجتمع الإسلامي بالانبهار القاتل واستشعر النقص المرير ولم يتردد الغَرْبيّون في القول بأن سبب تخلف المسلمين هو الإسلام(1)، وهكذا كان الطريق مفتوحاً لمهاجمة القيم الإسْلاميَّة وتدمير مقومات المجتمع من خلال مهاجمة ذلك الواقع المتخلف الذي لا يمثل الإسلام، وكان النموذج الغَرْبيّ المشاهد الذي فصل الأخلاق عن الدين يزيد الأمر قوة ووضوحاً.
... وقد جهد الاحتلال الأجنبي بشتى الطرق حتى تمكن من تحطيم مظلة الأعراف الأخلاقية في المجتمعات الإسْلاميَّة، فانطلقت تسري في أوصالها كل موبقات الحَضَارَة الأوروبية حتى وصلت في ظلّ الاحتلال إلى مرحلة الشيوع، ثم إلى مرتبة الاستقرار والاستحسان ثم إلى درجة الشَّرْعية التي تحملها القوانين الوافدة. ودخل في روع المغلوبين أنّ الانحلال والفساد هي من ضرورات التحضر والمَدَنيَّة في جوانبها الصَحِيْحة(2).
__________
(1) انظر: ... رأي كرومر في الإسلام في كتاب الاتجاهات الوطنية، ص(259-262) ومن آرائه : « إن الإسلام ناجح
كعقيدة ودين، ولكنه فاشل كنظام اجتماعي، فقد وضعت قوانينه لتناسب الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي- ولكنه مع ذلك أبدي لا يسمح بالمرونة الكافية لمواجهة تطور المجتمع الإنساني ».
(2) فتح الله، د. عبد الستار فتح الله سعيد: الغزو الفِكْري والتيارات المعادية، ص(63).(2/30)
... وقد ظهر هذا الانحلال في البداية في السلوك الفردي، فانحرف الناس عن نهج الدين واستهوتهم مظاهر الحياة الغَرْبيّة، فأقبل كثير منهم على الخمور والفجور والقمار والرِّبَا ونحو ذلك، ثمّ دبّ دبيب التهاون في الدين فتناول العبادات والعقائد وغيرها من أنواع الانحلال، فتكاسل الناس عن أداء العبادات وانتشرت في الجو ضروب من الفلسفة والمذاهب الضالة، واستمالت الشباب وغير الشباب وصارت العلاقة الجنسية والنزعة الإباحية الشغل الشاغل للسينما(1) وكثير من المجلات والصحف ابتغاء وفرة الربح والدخل، فانحرف الشباب وفسدت روابط الأسرة، ثم عمّ السيل وطمّ، فانهارت الفضائل الاقتصادية والاجْتِمَاعِيَّة(2)، فشهد العالم الإسلامي موجة في التغيير الاجتماعي دعيت: التغريب، وهو تغيير قيم الأمة ومثلها أي تغيير عقيدتها وثقافتها وأخلاقها، وبعبارة أوضح إبعاد المسلمين عن دينهم باسم المَدَنيَّة أو التطور أو التقدم.
__________
(1) افتتحت السينما الأولى بالقاهرة سنة 1896م ثمّ انتشرت في العالم الإسلامي، ومن الجدير بالذكر أن يهود هيمنوا على الأوساط الفنية في مصر منذ زمن بعيد، فعائلة موصيري هي التي أسست شركة السينما عام 1915م.
... انظر : ... 1- حمودة، معالي عبد الحميد، الإسلام والحركات الهدّامة، ص(39).
... ... 2- محمد المصري، حاضر العالم الإسلامي، ص(176).
(2) فتح الله، الغزو الفِكْري والتيارات المعادية، ص(64) عن د. إبراهيم اللبان-رسالة التربية الدينية التي يحتاج إليها العالم الإسلامي- نشرتها مجلة الأزهر.(2/31)
... وقد بدأ التغريب في العالم الإسلامي على يد المستعمرين ومؤسساتهم التبشيرية والاستشراقية أي بالإرساليات، ولكنه وفق الأسلوب الجديد أصبح يتم على أيدي المسلمين أنفسهم من تلاميذ المستشرقين والمبتعثين يساندهم في تنفيذ هذا المخطط بعض الحكام من المسلمين تحت قناع التطور والمَدَنيَّة والتقدم ومسايرة روح العصر مستخدماً وسائل الإعلام المختلفة المسندة إلى غير المتمسكين بالدين.
... وهكذا عمل الاستعمار على إضعاف معنويات المسلمين وأفكارهم وتجهيلهم وتحطيم كيانهم الاجتماعي بأن:
1- شجع الاستعمار قيام نظام طبقي أساسه وجود فئة من الإقطاعيين والاحتكاريين يستأثرون بالثروة، بمعنى أنه أوجد التفاوت الطبقي الذي لم يعرفه المسلمون في تاريخهم. ووجد أدوات من الطبقتين –الغنية والفقيرة، الغنية المتسلقة والفقيرة، المحتاجة فأصبحت علاقات المجتمع عدائية بدل الحب والتعاون والتكافل في المجتمع الإسلامي(1).
__________
(1) انظر حول المسألة:
1- ... محمد المصري، د. جميل عبد الله: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، (2/166).
2- ... فضل الله،د. مهدي: مع سَيِّد قطب في فكره السياسي والديني، ص(33).(2/32)
2- اتخذ الاستعمار لتحقيق أهدافهم رسولاً منا من أنفسهم وأن يقطع الشجرة أحد أعضائها، الأمر الذي يجري في التغيير السياسي سواء عن طريق الانقلاب العسكري أو الاغتيال السياسي، حتى وجد في العالم الإسلامي أحرص الناس على حياة المستعمر وحفاظاً على أفكاره ومفاهيمه ويتمتعون بجرأة في إذلال الأمة وإخضاعها للنفوذ الاستعماري ، وفي هذا يقول الأستاذ جمعة: « الحكم في العالم العربي أداة تسلط لا أداة خدمة، وشهوة الحاكمين لا يرويها إلا إذلال المواطنين... وذلك هو مفهوم حكم الشعب في معظم البلاد العربية والإسْلاميَّة التي تتغنى بالحرِّيَّة والديمقراطية، والوحدة، والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، والحياة الأفضل... لطبقة الحاكمين ومن لفّ لفهم من الجهلة واللصوص، والمهرجين... أما باقي الناس فحياتهم هي الحياة الأحط والأسفل، ولا يرون خبز يومهم إلا معجوناً بالدموع»(1).
__________
(1) حسين، محمد محمد ، الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(11-12).(2/33)
3- إشاعة روح التقليد والمحاكاة لكل ما هو غربي، فقد انحدر المسلمون إلى تقليد الأمم الغَرْبيّة في حياتها ومبادئها وعاداتها، وشمل هذا التقليد الفرد والأسرة والمجتمع، وقد تسبب في ذلك قنوط المسلمين أمام قوى الغَرْب المادية، فوازنوا بينها وبين الحالة المؤسفة في بيئتهم الخاصة، وساعد على الإيغال فيها ضيق التفكير والاستنتاج السطحي الخالص من أن النِّظَام الإسلامي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لا يتفق مع مقتضيات التقدم، فيجب أن يحور حسب الأسس الغَرْبيّة أو أن يستبدل بما أنتجته تلك العقول الغَرْبيّة المبدعة التي استطاعت أن تؤسس تلك الحَضَارَة، وهؤلاء السطحيون لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مدى التبعية التي يتحملها الإسلام، على أنه عقيدة في تأخر المسلمين. وإن تلك المبادئ هي التي لا توافق التقدم أو التحضر، وهل العيب يكمن في الإنسان الذي لا ينفذ، وفي المريض الذي لم يتناول الدواء، أم في المبادئ والدواء؟ إنهم وكما يظهر فقراء حتى في تقليدهم، عجزة حتى فيما هو تحت أيديهم ولم تتفق أذهانهم إلا على الارتماء في أحضان المَدَنيَّة الغَرْبيّة التي ظنوها عيداً ومنجياً، فما زادتهم إلا خبالاً وما وعدتهم إلا غرورا(1).
__________
(1) انظر : الواعي، توفيق يوسف : الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة مع الحَضَارَة الغَرْبيّة ، ص(802).(2/34)
4- تبديل المفاهيم والأفكار الإسْلاميَّة في الحياة الاجْتِمَاعِيَّة من خلال فكرة تحرير المرأة، وكان أهم ما ظهر في هذا الموضوع كتابين لقاسم أمين هما: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، وقد تناول أربع مسائل وهي: الحجاب واشتغال المرأة بالشؤون العامة وتعدد الزوجات والطلاق، وذهب في كل مسألة منها ما يطابق مذهب الغَرْبيّين زاعماً أنه مذهب الإسلام وتلاه خالد محمد خالد في كتابه الدِّيمُقْراطِيَّة أبداً، وكان حظ المرأة من ديمقراطيته شيئين : الأول حق المرأة في وقف تعدد الزوجات، والثاني تأميم الطلاق على حدّ تعبيره« وتناثرت المطالب من قبل المستغربين نحو إلغاء بيت الطاعة، وتسهيل قوانين الانحراف، وإلغاء عقوبة الزِّنَا وأن عدم زواج المسلمة من غير مسلم فكرة عنصرية، قائمة على التّمييز وهضم الحقوق والغرور والدعوة للاختلاط والرقص والغناء وتحديد النسل، وتصوير أن الرسالة المحمدية جاءت لحاجة ملحة تطلبها المجتمع العربي في ذلك الوقت، وأن الرسول يدعو إلى الحرِّيَّة والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة إلى غير ذلك من الأفكار التي انخدعت بها أقلام المفكرين»(1).
فباسم الحرِّيَّة والمساواة أُخرجت المرأة من البيت لتزاحم الرَّجُل في مجالات حياته، وخُلع منها الحجاب وغمسوها بأسفل دركات الخلاعة والمجون، ورفعوا حواجز منع الاختلاط والخلوة، وتمّ القضاء على رسالتها الحياتيّة، أُماً وزوجة ومربيّة أجيال وسكناً لراحة الأزواج إلى جعلها سلعة رخيصة مهينة مبتذلة في كفِّ كلِّ لاقطٍ من خائن وفاجر.
وكلُّ ذلك نتيجة دعوات الأشقياء المستغربين التي بدأت في أرض الكنانة وامتدت إلى العالم الإسلامي.
__________
(1) الواعي، توفيق يوسف، الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة مع الحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(720) بتصرف.(2/35)
... قام الإسلام في حلّ جميع مسائل الحياة على الفطرة، فلم يهمل جانباً من جوانبها ولا تجاهل حقيقة من حقائقها، فأقر في المسائل الاقتصادية للحياة الإنسانية جميع الأصول الفطرية التي قام عليها صرح اقتصادي إنساني ثابت لا تحتاج إلى تعديل، فضمن حماية حياة الإنسان كل إنسان بنظام من التآخي يمقت الطفيلية والنهب في إطار من الأفكار والثَّقافَة المستوحاة من صميم العقيدة الإسْلاميَّة التي تعدّ العمل الاقتصادي حفظاً للحياة، وللنوع الإنساني.
... وفي عهد جمود المسلمين تخلف النِّظَام الاقتصادي كتخلفهم في المجالات الأخرى، فكان الفقر والمرض والأميّة والجهل متفشياً، وفي ظلّ هذا الجمود تمكن الاستعمار الغَرْبيّ أن يبسط سلطانه على بلاد الإسلام ففرض نظامه الاقتصادي مع فلسفته ونظرياته الاقتصادية ومن أهم الآثار الاقتصادية التي خلفها الاستعمار في العالم الإسلامي في النواحي الاقتصادية وتركت بصماتها على الواقع الاقتصادي المعاصر:
1- وجه الاستعمار موارد البلاد الإسْلاميَّة إلى مصالحه الخاصة، فشجع رؤوس الأموال الأجنبية على غزو البلاد واستثمار خيراتها، وأصبحت معظم الشركات الأجنبية تدار لمصالح استعمارية، فقد أقام المؤسسات الاقتصادية والمصارف لتوظيف ذهب أوروبا الذي طفحت به خزائن (مصارفها) في أواخر القرن التاسع عشر، وفتح الأسواق لمصنوعاتها ومنتجاتها وخاصة الاستهلاكية والترفيهية والكمالية، ثم عمد الاستعمار إلى إقراض الأمراء والحكومات للسيطرة عليها وتكبيلها بالنفوذ الغَرْبيّ وإيقاع ذوي اليسار في الديون للاستيلاء على أملاكهم وتحويل مختلف الأراضي والتجارات والأموال إلى المصارف الأجنبية.(2/36)
2- احتكر الاستعمار التجارة الخارجية للبلاد الإسْلاميَّة ومعظم التجارة الداخلية وعمد إلى توطين الأوربيين في البلاد الإسْلاميَّة عن طريق التجارة كما فعل في الجزائر والهند وأندونيسيا وأفريقيا وتركستان، وأوفد إلى البلاد العربية خاصة مئات الألوف من الأوروبيين ومعظمهم من اليهود فاستوطنوا فيها وتحكموا في اقتصادها وخاصة في أقطار المغرب العربي.
3- اتجه الاستعمار إلى محاربة الصناعة الوطنية في العالم الإسلامي ليضمن استمرار تبعية البلاد الإسْلاميَّة له اقتصادياً كما تتبعه عسكرياً أو سياسياً، وليضمن تصريف منتجات مصانعه فيها. واكتفى بتوجيه المسلمين إلى الاشتغال بالزراعة، زاعماً أن الصناعة تتطلب قدرة فنية لم يصلوا إلى درجتها بعد، وفي الزراعة شجع حاصلات معينة واحتكر تجارتها مثل القطن في مصر والسودان والتمر في العراق وزيت الزيتون في تونس والمغرب، والمطاط في أندونيسيا وماليزيا، وزيت النخيل في نيجيريا، والعنب في الجزائر ، وعمل على إقراض الفلاح بالرِّبَا الفاحش وجند المرابين والصيارفة وأصحاب الخمارات في مختلف القرى لسلب الأهالي، وهذا أيضاًَ أدى إلى اعتماد البلاد الإسْلاميَّة على نمط وسلع وخدمات السوق الأوروبي والأمريكي وعدم القدرة إلى التحول إلى غيرها.(2/37)
4- احتكر ثروات العالم الإسلامي المعدنية وبخاصة البترول(1) من البلاد العربية ونيجيريا وأندونيسيا وأذربيجان وإيران، والقصدير من ماليزيا و أندونيسيا ونيجيريا، والحديد في الجزائر وموريتانيا، والنحاس في بلاد القازاق، وقد ذهب المستعمر ولكن بقي استخراج معظم المعادن بيد الشركات الاستعمارية وفائدة ذلك تعود للمستعمر.
5- شجع الاستعمار نظام القطاع الزراعي والطبقية، وحرم السواد الأعظم من المسلمين أن يعيش في مستوى لائق، لذا شاع الفقر والبؤس والتخلف والمرض في عالم الخيرات الوفيرة والموارد الكثيرة فأفقر دول العالم مسلمة حالياً. وإليك بعض الأرقام المذهلة من كتاب (الحرمان والتخلف في ديار المسلمين) للدكتور صبحي الطويل(2):
البلد ... نسبة الفقر من السكان
نيجيريا ... 51 %
الصومال ... 70 %
تنزانيا ... 65 %
أندونيسيا ... 80 %
بنغلادش(3)
إيران ... 38 %
ماليزيا ... 55 %
غانا ... 50 %
...
هذا ما عدا البلاد المعدومة في منطقة حزام الجفاف الشديد من الرأس الأخضر غرباً
__________
(1) وتمتد هذه الشركات كالإخطبوط في جسد العالم الإسلامي، فقد أعلنت شركة ستاندارد أويل رابع الشركات البترولية الأمريكية أنها حققت أرباحاً قياسية تقدر بـ 2,18 مليار دولار عام 1984م مقابل 1,86 مليار دولار عام 1983م. جريدة الشرق الأوسط، ص(5) الأربعاء 23/1/1985م.
(2) الطويل، د. نبيل صبحي، الحرمان والتخلف في ديار المسلمين، ص(30).
(3) يقول د. نبيل الطويل ،ص(27): ... 74 %
أن أكثر من نصف سكان بتغلادش البالغ عددهم 92 مليوناً من البشر يعيشون دون مستوى الكفاف وتنقل وكالة رويتر للأنباء أن عشرة بالمائة من سكان العاصمة داكا والبالغ عددهم 2,5 مليون نسمة هم من الشحاذين الذين يسهمون بنصيب في الجريمة والدعارة، وتمثل النساء 34% منهم وتتراوح 12% منهن بين 12-17 سنة.(2/38)
إلى الصومال شرقاً ومنها السودان والحبشة وتشاد وكلها دول مسلمة معدمة(1).
وبالطبع فإن المرض يلازم الفقر، لذلك عمدت الجمعيات الأجنبية إلى استغلال هذا البؤس، فتبنى الخواجا أندريه سابيه البلجيكي (30903) من أطفال المسلمين الصوماليين(2) وكل ذلك نتيجة لغياب النِّظَام الاقتصادي الإسلامي. ...
6- ربط الاستعمار عملات العالم الإسلامي بعملته. وهذا الارتباط تبعاً للنفوذ المسيطر على البلاد الإسْلاميَّة كما يربط كثير من العملات الإسْلاميَّة بالدولار الأمريكي حالياً.
وأطلق الاستعمار على دول العالم الثالث في أفريقيا وآسيا نفاقاً وخداعاً «الدول النامية» والخبث في هذا التعبير أنه يوحي بالحركة القائمة، مع أن واقع هذه الدول هو العكس تماماً أو كلما اشتد الارتباط وزاد الاستيراد زادت التبعية.
... ونرى الغَرْب يملأ الأسماع عن المعونات الخارجية للدول النامية، ومع ذلك فإنها لا تنمو، بل تزداد فقراً على فقر، فهو يستهدف الابتزاز والكسب غير المشروع تحت ستار المساعدات التي تذهب معظمها إلى جيوب العملاء ولقد عبّر رئيس إحدى الشركات الأمريكية في خطبة له عن سياسة الاحتكارات اليهودية الأمريكية والاستعمار الجديد بقوله:
__________
(1) تتلقى هذه الدول مساعدات من هيئة الامم المتحدةن وفي حين أنه في عام 1979م صرف على القطط والكلاب
الأمريكية 3,2 مليار دولار كانت ميزانية الأمم المتحدة التي تساعد هذه الأقطار 683 مليون دولار فقط. ومن الجدير بالذكر أن أمريكيا تقدم 0,22 % من ناتجها القومي كمساعدات وتكون مهينة وبها الكثير من الإذلال.
(2) الشرق الأوسط العدد، 2481، ص(4) الجمعة 28 ذو الحجة 1405هـ. 13/9/1985م.(2/39)
... ... « لقد حصلنا مقابل كل دولار أنفقناه في السنوات الخمس الماضية على مختلف الأغراض خارج الولايات المتحدة على 4،67 دولار أي أن كل دولار ربح 3،67 دولاراً، أي أن نسبة الربح بلغت 367 % وهي سرقة وابتزاز وليست عمليات اقتصادية سليمة»(1).
... ... ولعل أطرف الأمثلة عما تفعله المعونات الخارجية في الدراسة التي أجراها الدكتور رمزي زكي الخبير الأول في معهد التخطيط القومي المصري إذ إن الصندوق دخل مصر عام 1978م وهي مدينة بـ 8000 مليون دولار ... وخرج الصندوق منها عام 1981م وهي مدينة بأكثر من 18000 مليون دولار، أي أن كل مواطن مصري كان مديوناً بـ 422 دولاراً للعالم، والغريب أن دخل الفرد الواحد كان لا يتعدى 460 دولاراً في السنة(2).
وممّا يؤيد هذا النزيف الاقتصادي ما نشرته مجلة العربي الكويتيّة من جدول يُبيّن الديون الخارجيّة وأعبائها في عام 1984م.
(3)
الدولة ... إجمالي الديون الخارجية بالدولار ... مدفوعات الفوائد
باكستان ... ،665 مليار ... مليون
الأردن ... ,196
الجزائر ... ,811 ... ,291
السودان ... ,661
سوريا ... ,075
الصومال ... ,384
عُمان ... ,525
أندونيسيا ... ,048 ... ,900
ماليزيا ... ,46
تركيا ... ,267 ... ,092
مصر ... ,206
المغرب ... ,169
موريتانيا ... ,283
اليمن ... ,294
بنغلادش ... ,644
الكاميرون ... ,628
غينيا ... ,34
__________
(1) السعدني، مصطفى الفِكْر الصهيوني والسِّياسَة اليهودية، ص(56). وانظر: روبرت ولتزر، المعونات الأمريكية والسوفياتية، تعريب د. صبحي الطويل، ص(8).
(2) الشرق الأوسط العدد، 21، نوفمبر تشرين الثاني 1982م ص(7).
(3) هذا الجدول إعداد أحمد سعيد ، نقلاً عن مجلة العربي الكويتية ، ومجلة الوعي تحت عنوان : النزيف الاقتصادي في العالم الإسلامي، ص(17)، عدد /1.(2/40)
... هذا الواقع الاقتصادي المحزن للعالم الإسلامي، وهذا التخلف الذي يعاني منه عالم الإسلام، لا يتحمل الإسلام وزره، بل هو في الحقيقة عقوبة مستحقة من الله على المسلمين لتخليهم عن نظام الإسلام لا لتمسكهم به كما يزعم الزاعمون.
... وهكذا فقد العالم الإسلامي مكانته وتلاشت قوته وانهارت دعائمه وسقطت مكانته الأولى ومشت سكة الأجنبي في حقله باستمرار الاستعمار الفِكْري والثقافي الأجنبي بعد الاستقلال السياسي إلى اليوم بمختلف التيارات والعقائد والنظريات الاقتصادية والاجْتِمَاعِيَّة والأخلاقية، فكانت تأثيراً متصلاً بالتأثير السابق أيام الاستعمار في القادة والساسة وأصحاب الرَأْي والمشرعين إذ ظلوا على ولائهم للعلمانية وتلمسوا في تشريعاتهم القضائية والإدارية مراجع القانون الفرنسي والإنكليزي والأمريكي.
... وفي ظلّ هذا الواقع عاش مفكرونا، وفي ظلّ هذا الهوان تقنّع الاستعمار الغَرْبيّ وتترّس برجال من أبناء الأمة الذين صنعهم بإحكام وصبغهم بحضارته فما جعلهم يحرصون على المصالح الرَّأْسُماليَّة الغَرْبيّة أكثر من الغَرْبيّين أنفسهم.
... يقول المَوْدودِي: « إن الاستعمار الغَرْبيّ عند مغادرته البلاد الإسْلاميَّة، قد جعل الحكم فيها بيد جيل أرضعَه بلبان حضارته وغذَّاه بثقافته وعنى بتربيته ليكون جزءاً من أمتنا باعتبار جسده وخلفاً للإنكليز والفرنسيين باعتبار ثقافته وفكره وأخلاقه وعاداته»(1).
ويقول سَيِّد قطب: « لقد ذهب الإنكليز البيض من الدواوين ليحل محلهم الإنكليز السمر»(2)
ويشمل على ثلاثة مطالب :
1- المطلب الأول ... : مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الإمام المَوْدودِي.
2- المطلب الثاني ... : مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الإمام سَيِّد قطب.
__________
(1) المَوْدودِي، الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، تعريب خليل أحمد الحامدي، ص(243).
(2) قطب، سَيِّد: معركة الإسلام والرَّأْسُماليَّة، ص(98).(2/41)
3- المطلب الثالث ... : مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الشيخ الغَزَالي.
ويشمل على ثلاث مسائل :
1- المسألة الأولى ... : معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الإمام المَوْدودِي.
2- المسألة الثانية ... : كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي.
3- المطلب الثالث ... : منهج المَوْدودِي في التوفيق بين العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
والفِكْر الإسلامي.
??المسألة الأولى :
معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي
... إن المتتبع لكتابات الأستاذ أبو الأعلى المَوْدودِي(1)
__________
(1) أبو الأعلى ابن أحمد حسن المَوْدودِي، ولد بمدينة أورنك أباد بولاية حيدر أباد الهندية عام 1321هـ الموافق 1903م، لم يكمل دراسته الثانوية بسبب وفاة والده المحامي أحمد حسن. عمل في الصحافة عام 1920م حتى أصبح رئيس تحرير كبرى جرائد الهند كجريدة تاج وجريدة مسلم وجريدة الجمعية بدلهي ومجلة ترجمان القرآن التي نشر فيها أفكاره ومفاهيمه ومعالجاته للمشكلات السِّيَاسِيَّة والتربوية والاقتصادية من وجهة نظر الإسلام. كما عالج مزالق العلماء الشَّرْعيين وكشف النقاب عن عورات الزِّنَادقة والملحدين الذين افتتنوا ببريق الحَضَارَة الغَرْبيّة، ومن خلال تلك الكتابات استقطب جماعات من الناس أطلق عليهم اسم الجماعة الإسْلاميَّة التي أعلن تأسيسها في مدينة لاهور سنة 1941م وانتخب المَوْدودِي أميراً لها إلى أن توفي عام 1979م. انظر: إدريس، أحمد: أبو الأعلى المَوْدودِي: صفحات من حياته وجهاده، ص(18-22).
وانظر ضناوي، محمد علي، الطريق إلى حكم إسلامي، ص(238-242).
وانظر يكن، د. فتحي: الموسوعة الحركية (2/225-229).(2/42)
يجد أنه لم يلتزم معنى محدداً واضح المعالم لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، فقد استعمله في الفِكْر الإسلامي بدلالة تتباين عن دلالته الغَرْبيّة حيث إن العدل والعَدالَة لا يتعلقان بالثروة وتوزيعها كما أنه لا يقيم وزناً للمساواة بين الناس في توزيعها، ولا يرى أي علاقة بين العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وهذه الأمور الاقتصادية، وإنما العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة هي تطبيق أنظمة الإسلام في المجتمع وفي ذلك يقول: « إن الإسلام لا يقول بالمساواة في قسمة الثروة، وإنما يريد أن يقيم العدل... لا المساواة في توزيع الثروة، وقد رسم _الإسلام- خطة واضحة كاملة لهذا العدل في قوانينه وفي تعاليمه الخلقية وفي تنظيم مجتمعه... فإذا أردنا العَدالَة فما علينا إلا أن نفهم فهماً صَحِيْحاً كاملاً ما قد وضعه الإسلام من صورة العدل والنصفة ثمّ نسعى إلى إفراغه في قَالب العمل والتنفيذ في نظامنا الاقتصادي والاجتماعي»(1).
... كما أن المَوْدودِي يرى أن التفاوت والتباين بين الناس في الرزق هو أمر طبيعي، ينسجم مع السُنَن الفطرية وفي هذا يقول: « فالفطرة التي فطر الله الناس عليها تقتضي أن يكون التفاوت والتباين في رزق العباد كشأنه في مواهبها الأخرى، فكل مشروع يختار لإيجاد المساواة الاقتصادية المدعاة بين العباد باطل من أساسه حسب ما يراه الإسلام، لأن الإسلام لا يقول بالمساواة في الرزق نفسه»(2).
__________
(1) المَوْدودِي، أبو الأعلى ابن أحمد حسن، مسألة ملكية الأرض في الإسلام، نقله للعربية محمد عاصم الحداد، ص(92-93).
(2) المَوْدودِي، نظام الحياة في الإسلام، ص(59).(2/43)
... وبهذا رفض المَوْدودِي العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الغَرْبيّة وألبسها لبوس الإسلام بمعنى أنه استعمل اللفظ بدلالة جديدة تنسجم مع معنى العدل والعَدالَة اللذين هما مقصد الدين وفي ذلك يقول: « إن بعض الناس بقولون في الإسلام عدالة اجتماعية، فهذا القول فيه نقص كبير أما الصَحِيْح فهو أن الإسلام هو العدل بعينه والعدل ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، إنما الإسلام هو العدل : تطبيق الإسلام وإقامة العدل شيء واحد...» (1).
... وبناء على هذا التصوير فقد حاول أن يحدد معنى لهذه العَدالَة التي أطلق عليها مصطلح العَدالَة الحقيقة أو العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الحقة فقَالَ في سبيل تحديد معناها « فالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في حقيقة أمرها : هي عبارة عن كون كل فرد من الأفراد وكل أسرة من الأسر وكل قبيلة من القبائل وكل أمّة من الأمم على حظ مناسب من الحرِّيَّة وكون كل مجتمع من المجتمعات العديدة على قدر معيّن من السيادة بعضها على بعض، سداً لباب الظلم والعدوان، واستخداماً لمختلف الأفراد والمجتمعات فيما تقتضيه المصالح الاجْتِمَاعِيَّة »(2) .
... وفي موضع آخر قَالَ : « إن العَدالَة في حقيقتها تعني: منح الأفراد والأسر والعشائر... قدراً مناسباً من الحرِّيَّة ولمنع الظلم تحصل الأشكال الاجْتِمَاعِيَّة على سلطة فوق الأفراد، كما يحصل كل شكل منها على سلطة فوق الآخر من أجل تحقيق الاستقرار والسعادة للمجتمع بأسره»(3)
__________
(1) المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدَّوْلَةنقله للعربية أحمد حامدي ، ص(130-131).
(2) المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة،ص(133).
(3) المَوْدودِي، الحكومة الإسْلاميَّة تعريب أحمد إدريس، ص(190).(2/44)
... واستناداً لهذا التحديد لمعنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ذكر أن العَدالَة لا توجد إلا في الإسلام حيث يقول: « فلعمر الحق إنّ من يزعم أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تتحقق عن طريق النِّظَام الرأسمالي، إنما يقول كذباً وافتراءً وبهتاناً، وفي موطن آخر يقول: وكذلك النِّظَام الاشتراكي الحاضر المستمد من نظريات كارك ماركس وانجلز يناقض العدل مثل النِّظَام السابق بل أكثر...» (1)
... ومن هنا كان انطلاق المَوْدودِي في الهجوم على الرَّأْسُماليَّة والاشْتِراكِيَّة الشيوعية معاً ووصفها بالظلم ومناقضة العدل، فظلم الرَّأْسُماليَّة عنده مرده إلى أنها تسلب الأفراد والقبائل والأسر والشعوب والأمم حرياتها وتعطي للدولة الصلاحيات المطلقة لاستخدام الفرد لتحقيق المصالح الاجْتِمَاعِيَّة فيتحول الفرد في ظلها من إنسان ذي روح إلى جزء من الآلة التي لا روح فيها، وفي ذلك يقول المَوْدودِي: « فالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في حقيقة أمرها هي عبارة عن كون كل فرد من الأفراد وكل أسرة من الأسر وكل قبيلة من القبائل وكل أمّة من الأمم على حظ مناسب من الحرِّيَّة وكون كل مجتمع من المجتمعات العديدة على قدر معيّن من السيادة بعضها على بعض سداً لباب الظلم والعدوان واستخداماً لمختلف الأفراد والمجتمعات فيما تقتضيه المصالح الاجْتِمَاعِيَّة»(2).
... وبناءً على وجهة النظر هذه فلا مكان للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة عنده في أيٍّ من النظم الوضعية، وإنما تكمن في وضع الدستور الإسلامي المتضمن في الكتاب والسنة موضع التطبيق، لأن هذا الدستور وحده هو الذي روعيت فيه حقوق الفرد وواجباته تجاه الجماعة وحقوق الجماعة وواجباتها تجاه الأفراد. وفي هذا يقول:
__________
(1) المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(134).
(2) المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(133).(2/45)
... « فالدستور المستقل الخالد... لو جاز بالتطبيق في أية بقعة من بقاع الأرض لرأى الناس فيها العدل الاجتماعي... ما لا يرضون بعده بهذا أو ذاك من النظم الوضعية، وما دام هذا الدستور منصوصاً في الكتاب والسنة ليس في وسع واحد أن يخدع المسلمين ويقدم لهم الاشْتِراكِيَّة المستوردة بإلباسها ثوب الإسلام ومن مزايا هذا الدستور أنه قد روعي فيه الاعتدال الكامل بين مطالب الفرد ومقتضيات المجتمع، فلا الفرد أوتي من الحرِّيَّة ما يطغى على مصالح المجتمع ولا المجتمع قد أحيل إليه من الصلاحيات ما يسلب الفرد حريته التي لا غنى لإكمال شخصيته وتنميتها على الطريقة المستقيمة الفطرية»(1).
??المسألة الثانية :
كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي
... وبناء على الدلالة العامة والشاملة للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي القائمة على العَدالَة الإلهية التي تتمثل في الدستور الإسلامي المتضمن في الكتاب والسنة، حدد المَوْدودِي الكيفية التي يجري على أساسها إيجاد هذه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الحقيقية أو الحقة على حدّ تعبيره في الواقع العملي، وذلك من خلال النِّظَام الاقتصادي الإسلامي المرتبط بالنظم الإسْلاميَّة الأخرى السِّيَاسِيَّة والقانونية والمَدَنيَّة مع ارتكازها على أساس الإيمان الكامل بالعقيدة الإسْلاميَّة وفي هذا يقول:
«
__________
(1) المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(137).(2/46)
ولعمر الحق إن أي إنسان إذا نظر إلى نظام الإسلام الاقتصادي بعين الإنصاف والعدل... فإنه لم يجد بداً من الاعتراف بأن هذا النِّظَام أحسن وأصح نظام للاقتصاد عرفه الإنسان غير أنه لا يصح الظن بهذا الصدد بأنه من الممكن تسيير نظام الإسلام الاقتصادي هذا بنجاح مع تجريده عن مجموعة نظم الإسلام للاعتقاد و الأخلاق والمَدَنيَّة والاجتماع... إنكم لم تقبلوا عقيدة الإسلام وضابطه للأخلاق، ومنهاجه للحياة كما هي، فإن مجرد نظامه للاقتصاد لا يمكن أن يسير بروحه الصَحِيْحة ولا ليوم واحد، ولا يمكن أن تستفيدوا منه إلا قليلاً »(1).
... وكما أن المَوْدودِي يذهب إلى اعتبار العَدالَة غير المساواة في التوزيع أو عدمها، وإنما تحقيق العَدالَة عنده يكون من خلال مراعاة القواعد الإسْلاميَّة في التصرف بالثروة وفي ذلك يقول:
« والذي يقرأ القرآن يتضح له أن هذا الكون الشاسع لا أثر فيه للتوزيع المتساوي في أية ناحية من نواحيه... إذا لم توجد المساواة في جميع هذه النواحي التي أشرنا إليها فما معنى المساواة في وسائل الإنتاج أو في توزيع الثروة؟ هذا أمر لا يستحيل من جهة الواقع فحسب، بل لو فرض على المجتمع بطرق مفتعلة ينال الغش المحتوم ولذلك فإن الإسلام لا يقول بوجوب توزيع أدوات الإنتاج والمنتوجات على قدم المساواة، بل هو يقول بوجوب التوزيع على أساس العدل ولتحقيق التوزيع العادل يضع طائفة من القواعد والالتزامات»(2).
... وبذلك يقرر المَوْدودِي أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الإسْلاميَّة لا تتحقق إلا من خلال التوازن بين حاجات الفرد وصيانتها وحاجات الجماعية بحيث لا يطغى طرف على طرف، ولا يتجاوز أي طرف حدوده الشَّرْعية التي رسمها الإسلام. وفي ذلك يقول:
«
__________
(1) المَوْدودِي، أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، نقله للعربية محمد عاصم حداد، ص(188-189).
(2) المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(112).(2/47)
لا يكتفي الإسلام بأن تكون الهيئة الاجْتِمَاعِيَّة عادلة مفتوحاً بابها لكل واحد من أفراد البشر، بل يقتضي مع ذلك أن يكون المتسابقون في هذه الحلبة متراحمين متواسين متعاونين... يرسخ في أذهان الناس بتعاليمه الخلقية فكرة التعاون والتكافل وبجانب آخر يقتضي بأن لا يخلو المجتمع أبداً من مؤسسة ثانية تضمن إعانة العجزة والمستضعفين الذين لا يهتدون لاكتساب المعاش سبيلاً... ويريد الإسلام أن يقيم الفرد بحيث يُبقي حقوق الفرد وحريته مصونة من حيث هو فرد لا تضر بالمجتمع، بل تكون نافعة لمصالحه قطعاً»(1).
... والذي يراه المَوْدودِي هو: أن هذا التوازن الاجتماعي الذي يحقق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، إنما يتحقق بجعل الفرد محور النِّظَام الاجتماعي، فالنِّظَام الذي يساعد أفراد الجماعة على تنمية شخصياتهم وترقية مواهبهم ولا يقيد حريتهم في المِلْكِيَّة والتصرف، هو النِّظَام الفطري الذي تتحقق العَدالَة في ظله وهو النِّظَام الإسلامي على حد قول المَوْدودِي.
??المسألة الثالثة :
منهج المَوْدودِي في التوفيق بين مفهوم
العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي
... إن المتتبع لما سطره المَوْدودِي في كتبه ومقَالاته المتنوعة يلحظ أنه عمل جاهداً على إخفاء طابع إسلامي على مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، وهذا يتضح من خلال موقفه من هذا المفهوم حيث ذهب في بعض أقواله إلى رفضه باعتباره من مكائد الشيطان اللعين وأنه من المفاهيم الغَرْبيّة والقائل به إنما هو واقع تحت تأثير الغزو الفِكْري الغَرْبيّ وجاهل بأمور الإسلام وفي ذلك يقول:
__________
(1) المَوْدودِي، أبو الأعلى: نظام الحياة في الإسلام، ص(66-70).(2/48)
... « غير أنهم –المسلمون- يجهلون أمر دينهم ويخضعون تحت تيار الغزو الاستعماري الفِكْري والحضاري... ولهذا فكل صيحة ترتفع في معسكر الشعوب القاهرة، يعلو صداها من ديارنا المغلوبة المقهورة ... وما هي إلا سنوات حتى شرع المنادون بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الظهور بين ظهرانينا... جماعة قامت بيننا تريد الإسلام أن يغير قبلته... وها هم الآن يحاولون إثبات أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة بالمفهوم الاشتراكي من صميم الإسلام... فعلى هذا الأساس حصلت المحاولات فيما مضى من قبل هذه الفئة في صدد جعل التصورات الغَرْبيّة حول حرية الفرد والتسامح، والرَّأْسُماليَّة والدِّيمُقْراطِيَّة تصورات إسلامية خالصة وتبذل الجهود اليوم في جعل الإسلام مؤيداً لتلك العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة التي تنشدها هذه الفئة وتقيم عليها الدنيا وتقعدها »(1).
... وفي موطن آخر يقول: « أتى على الدنيا حين من الدهر شعر الإنسان فيه أنّ هذا النِّظَام الشيطاني -نظام الرأسمالي الديمقراطي الغَرْبيّ- قد ملأ الأرض جوراً وفساداً وطغياناً... فلم يبقَ بعد ذلك للشيطان الرجيم أي مجال لإبقاء البشر في حبال خديعته... فجاء إلى الإنسان بمكيدة أخرى سمّاها العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة أو الاشْتِراكِيَّة...» (2).
... وإذا كان موقف المَوْدودِي من مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة يتسم بالحدّة والصرامة لأنه مصطلح من المصطلحات الغَرْبيّة، فهذا يعني أن موقفه من الحَضَارَة الغَرْبيّة موقف الرّفض البات الذي لا يسمح للتوفيق بأي حال من الأحوال بينها وبين الإسلام وفي ذلك يقول:
__________
(1) المَوْدودِي: الحكومة الإسْلاميَّة ، ص(190).
(2) المَوْدودِي: الحكومة الإسْلاميَّة ، ص(190). وانظر: مفاهيم إنسانية حول الدين والدولة، ص(128).(2/49)
... « الحَضَارَة الغَرْبيّة... حضارة مادية تماماً يخلو نظامها من كل ما تقوم عليه حضارة الإسلام... ونظريتها على نقيض من نظرية الإسلام وطريقها واسع في الجهة المعاكسة لطريق الإسلام، فكل ما يبنى عليه الإسلام نظام الأخلاق الإنسانية والتمدن تكاد هذه الحَضَارَة تأتي عليه من القواعد، كما أن الأسس التي ترفع هذه الحَضَارَة عليها قواعد السلوك الفردي والنِّظَام الاجتماعي لا يمكن أن يقوم عليها بنيان الإسلام ولو ساعة من الدهر فكأن الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة سفينتان تجريان في جهتين متعاكستين، فمن ركب إحداهما هجر الأخرى ولا بدّ، ومن أبى إلا أن يركبها في الوقت الواحد فاتتاه معاً وانشق بينهما نصفين(1).
... وهذا النص يدل دلالة واضحة على موقفه الرافض للحضارة الغَرْبيّة والرافض للتوفيق بينها وبين الإسلام أيضاً.
... بل ذهب المَوْدودِي إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر الفِكْر الغَرْبيّ جهالة وضلالاً وظلماً وهلاكاً ووصفه بالشجرة الخبيثة التي لا تثمر للبشرية إلا السُّم الزعاف.
... وعليه فإنه دعا في الكثير من كتاباته إلى إنقاذ البشرية وشفائها من العلل التي أوجدتها هذه الحَضَارَة الشيطانية، إنما يقع على عاتق علماء المسلمين الواعين الذين يهدمون بقوة فكرهم –المستمد من الإسلام الخالص- حضارة الغَرْب ويستبدلونها بحضارة الإسلام الحقة، القائمة على النظرية الإلهيّة على حد قوله:
__________
(1) المَوْدودِي: نحن والحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(21-22).(2/50)
... « وهذه الشجرة الخبيثة قد أخذ يتأفف منها الآن أهل الغَرْب... لأنها خلفت مشكلات وعقداً تنتهي كل محاولة لحلها إلى عقد كثيرة أُخر... وموجز القول أن هناك سلسلة من المفاسد لا تنتهي... تخرج من شجرة الحَضَارَة هذه، جعلت الحياة الغَرْبيّة جرحاً دامياً من المصائب والآلام... وهذا هو الأوان الذي يجب أن يعرض على أمم الغَرْب كتاب الله وسنة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ... وهذا هو العصير الشافي... وهذه هي الشجرة الطيبة»(1).
... مما سبق بيانه يتبين أن المَوْدودِي لا يرضى بعملية التوفيق بين مفاهيم الحَضَارَة الغَرْبيّة والإسلام بأي حال من الأحوال حيث أن النهضة الإسْلاميَّة، لا بد أن تعتمد على الإسلام الخالص ولذلك كان يوضح في كتاباته ومقَالاته ذلك على نحو تفصيلي يفرق فيها بين ما يؤخذ وما يترك من أمور التمدن والحَضَارَة الغَرْبيّة وفي ذلك يقول:
... « لا بدّ أن نميز ما حازه الغَرْب من الرقي الحقيقي في المَدَنيَّة والعلوم عن ضلالاته في فلسفة الحياة ووجهة الفِكْر والنظر والاختلاف والاجتماع ثم نأخذ الأول ونستفيد به ونضرب الصفح عن الثاني ونطهر من أدناسه شؤون حياتنا كلها... إنّه لا يمكن أن يتحمله من قد جعلوا دينهم التفرنج الخالص أو طبعة من طبعات الإسلام الفرنجية(2).
__________
(1) المَوْدودِي: نحن والحَضَارَة العربية، ص(41-42).
(2) المَوْدودِي: واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم نقله إلى العربية محمد عاصم حداد، ص(63-64). تحت عنوان: ماذا نريد؟(2/51)
... وأمام هذا الموقف الصارم والرَأْي الحاد تجاه مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والحَضَارَة الغَرْبيّة، فإن المَوْدودِي قد أوقع نفسه في تناقض حاد ومفارقة عجيبة حين تبنى مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة مع محاولة منه حمل هذا المفهوم على بعض الأسس والقواعد الشَّرْعيّة وبعبارة أخرى فإنه قد عمل على تسويغ هذه المفهوم الشيطاني على حد قوله تسويغاً شرعياً عن طريق وضع الأطر الشَّرْعية اللازمة لهذا الغرض.
... وقد التزم المَوْدودِي لتأصيل هذا المفهوم في الفِكْر الإسلامي منهجاً خاصاً يقوم على اعتماد المصلحة كدليل لاستنباط الأحكام، وفي هذا الصدد يقول:
... « إن الكتاب والسنة لا يشمل تفاصيل اقتصادية... بل نرجع في ذلك إلى النافع من أقوال فقهاء المسلمين في مختلف العصور إلى جانب استخراج أحكام جديدة للحاجات المستحدثة ضمن الأسس التي أتى بها الإسلام... وهي الحرِّيَّة الاقتصادية، تنمية المكارم الخلقية، محاربة الصراع الطبقي، إقرار المِلْكِيَّة الفردية، توزيع الثروة على مبدأ العدل... بهذه الإسلام كان وسطاً(1).
__________
(1) المَوْدودِي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(108-120).(2/52)
... ومن ناحية أخرى فإن أقواله قد اكتنفت التعارض والتناقض، ففي الوقت الذي يعتبر العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة مكيدة شيطانية فإنه يقول «إنّ العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لا توجد إلا في الإسلام»(1) ويقول أن الإسلام والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة شيء واحد لا يمكن الفصل بينهما(2) ويقول: « إن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تمنح الأفراد والأسر... قدراً مناسباً من الحرِّيَّة»(3) فهذا التناقض حسب ما أرى مردّه إلى أن المَوْدودِي يعالج أفكاره الفلسفية بأسلوب أدبي إنشائي، وهذا أمر يفقد أحياناً أفكاره الدقة والوضوح إلى جانب أن كتاباته في معظمها مقَالات وخطابات ولقاءات ومحاضرات وردود على تساؤلات وتحديات كانت تنشر في الصحف والمجلات التي أشرف بنفسه على تحريرها وهذا يؤدي إلى طرح الرَأْي ونقيضه عبر السنين والأعوام.
ويشمل على ثلاث مسائل :
1- المسألة الأولى ... : معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الإمام سَيِّد قطب.
2- المسألة الثانية ... : كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند سَيِّد قطب.
3- المسألة الثالثة ... : منهج سَيِّد قطب في التوفيق بين العَدالَة
الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي.
??المسألة الأولى :
__________
(1) المَوْدودِي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(128).
(2) المَوْدودِي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(130).
(3) المَوْدودِي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(133).(2/53)
معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند سَيِّد قطب(1)
...
إن المتتبع لكتابات سَيِّد قطب يجد أنه يحمل تصوراً خاصاً لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، يختلف عن تصور العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر السياسي الغَرْبيّ الحديث إذ تعدت نظرته العامة إلى هذا المفهوم مدلوله الاقتصادي إلى جميع القيم ضمن الحدود الشَّرْعية والأهداف التي جاء بها الإسلام، فهي قبل كل شيء عدالة إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية ومقوماتها وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة، فهي عدالة تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها.
__________
(1) هو سَيِّد حسين شاذلي، ولد في قرية موشى في محافظة أسيوط من صعيد مصر عام 1906م. اختار لنفسه منهجاً خاصاً في الفِكْر والسِّياسَة قائماً على نقد الحَضَارَة الغَرْبيّة المعاصرة. حين نشر كتابه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام وبثّ فيه أفكاره عن الحاكمية وتتابعت كتبه : «في ظلال القرآن» و«التصوير الفني في القرآن» و«المستقبل لهذا الدين» و«الإسلام ومشكلات الحَضَارَة» و«نحو مجتمع إسلامي» و« معركة الإسلام والرَّأْسُماليَّة » و« معالم في الطريق ». وهي تعالج موضوعات تتعلق بالألوهية والحاكيمة والتشريع والنظم وتعالج في مجال الدعوة الإسْلاميَّة الجانب الحركي العملي بأسلوب دعائي أدبي وتهدف في مجموعها إلى تأجيج المشاعر لدفع المسلمين إلى العمل الإسلامي الجاد الذي يطيح بالطواغيت ويرجع البشر إلى الارتباط بالله تعالى حتى تحقق الحاكمية لله في حياة الناس انسجاماً مع التناسق في الوجود. لذا كان لأفكاره دوراً في دخوله السجن وسبباً مباشراً عجل في إصدار حكم الإعدام عليه فمات شهيداً عام 1966م.
... انظر: الخالدي، صلاح عبد الفتاح: سَيِّد قطب الشهيد الحي، ص(46-51).
وانظر: ضناوي، محمد علي: الطريق إلى حكم إسلامي، ص(223).(2/54)
ويقارن سَيِّد قطب بين النظرة العامة للإسلام عن العَدالَة وبين الرَّأْسُماليَّة والاشْتِراكِيَّة العلمية فيقول: « وانفساح المجال في نظر الإسلام إلى الحياة، وتجاوزه القيم الاقتصادية البحتة إلى سائر القيم التي تقوم الحياة عليها يجعله أقدر على إيجاد توازن وتعادل في المجتمع وعلى تحقيق العَدالَة في الدائرة الإنسانية كلها، ويعفيه من التفسير الضيق للعدالة كما تفهمها الشيوعية، فالعَدالَة في نظر الشيوعية مساواة في الأجور تمنع التفاوت الاقتصادي-والعَدالَة في نظر الإسلام مساواة إنسانية ينظر فيها إلى تعادل جميع القيم، بما فيها القيمة الاقتصادية البحتة وهي على وجه الدقة تكافؤ في الفرص وترك المواهب بعد ذلك تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة »(1).
وبهذا التصور العام والشامل لمعنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة المتمايز في دلالته عما هو متعارف عليه في الفِكْر الغَرْبيّ، أطلق سَيِّد قطب لنفسه حق التصرف في استخدام هذا المصطلح في كتاباته، فقد استعمله في الحديث عن نظام الحكم في الإسلام، وسياسة المال والالتزام بالأحكام الشَّرْعية والعقوبات وفي الربط بين العقيدة والمفاهيم المنبثقة عنها.
ومن خلال التحليل الكمي القائم على إحصاء العبارات التي تعد مهمة في تحديد معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة فيما كتبه سَيِّد قطب في كتابه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وبعض الكتب الأخرى نحو في ظلال القرآن ومشكلات الحَضَارَة، ومعركة الإسلام والرَّأْسُماليَّة نلحظ أنه استخدم هذا المفهوم في خمسة معانٍ:
1. المساواة، وفي ذلك يقول: « والعَدالَة في نظر الإسلام مساواة إنسانية ينظر فيها إلى تعادل جميع القيم »(2).
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(34035).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(35). وانظر كتابه الإسلام ومشكلات الحَضَارَة ، ص(89).(2/55)
2. الوسط بين طرفين، وفي ذلك يقول: « كما وقع التخبط والتطرف والهزات العنيفة، والتأرجح بين الطرفين الجامحين دائماً وعدم اعتدال الميزان في الوسط العادل المتناسق»(1).
3. التوازن والتعادل، وفي ذلك يقول: « وانفساح المجال في نظر الإسلام... يجعله أقدر على إيجاد توازن وتعادل في المجتمع»(2) ويقول « إن التوازن الاجتماعي هو القاعدة الكبرى التي يقم عليها الإسلام بناء العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وكل ما مضى من تأمينات وضمانات لم يكن إلا مقدمات وأسباب لتحقيق ذلك التوازن»(3) يقول « ولا يعتدل الميزان مرة واحدة... في تناسق واعتدال ... إلا في منهج الله»(4).
4. المقابلة بين الجهد والجزاء وفي ذلك يقول: « وتقرير حق المِلْكِيَّة الفردية يحقق العَدالَة بين الجهد والجزاء... والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لا تكون دائماً على حساب الفرد، فهي للفرد كما هي للجماعة(5).
5. الاستقامة والالتزام بالشَّرِيعَة الإسْلاميَّة وفي ذلك يقول « ولا يعتدل الميزان مرة واحدة... في تناسق واعتدال...إلا في منهج الله...»(6) ويقول :« على هذا الضمير الذي رباه الإسلام وعلى التشريع الذي جاءت به شريعته اعتمد في إرساء قواعد العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة »(7).
__________
(1) قطب، سَيِّد: الإسلام ومشكلات الحَضَارَة ، ص(89).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(34).
(3) قطب، سَيِّد: السلام العالمي في الإسلام، ص(143).
(4) قطب، سَيِّد: الإسلام ومشكلات الحَضَارَة، ص(89-95).
(5) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(116).
(6) قطب، سَيِّد: الإسلام ومشكلات الحَضَارَة، ص(89-95).
(7) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(84).(2/56)
من خلال ذلك نستطيع القول بأن سَيِّد قطب لم يكن واضحاً في تحديد معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة حيث إنه استعمله في مجالات مختلفة على أساس المعنى اللغوي لكلمة العدل متأثراً بما ورد من معنى العَدالَة في الوضع الشَّرْعي والوضع الاصطلاحي عند المُفَكِّرين المسلمين السابقين حيث لا يوجد للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة إلا في منهج الله ذلك أن للإسلام تصوراً أساسياً عن الألوهية والكون والإنسان والحياة وأنّه يتولى تنظيم الحياة الإنسانية جميعاً بناء على هذا التصور الذي ترد إليه كافة الفروع والتفصيلات وباعتبار أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة منبثقة حسب رأيه من ذلك التصور الأساسي وداخلة في إطاره العام بنى مفهومه عن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة بناء على هذه النظرة الشاملة، فوضع لها أسساً وبيّن كيفية تحقيقها في الواقع العملي في حياة الناس.
??المسألة الثانية :
كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند سَيِّد قطب
... وبناء على الدلالة العامة والشاملة للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة عند سَيِّد قطب القائمة على « العَدالَة المطلقة التي لا يميل ميزانها»(1) والتي تتغلغل في كل جنبات الحياة البشرية ضمن العبودية لله سبحانه وتعالى، حدد سَيِّد قطب الكيفية التي يجري على أساسها إيجاد هذا النمط من العَدالَة في واقع عملي حيث يقول: « وعلى تلك الأسس الثلاثة –التحرر الوجداني المطلق والمساواة الإنسانية الكاملة، والتكافل الاجتماعي الوثيق تقوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وتتحقق العَدالَة الإنسانية»(2).
... وسنلقي الضوء على كل عنصر من هذه العناصر:
1- التحرر الوجداني:
__________
(1) قطب، سَيِّد: في ظلال القرآن، (6/667).
وانظر: جدعان، د. فهمي: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ص(517-520).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(80).(2/57)
لتحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند سَيِّد قطب، لا بدّ من وجود قناعة نفسية ووجدانية بتلك العَدالَة، وبحاجة الفرد والمجتمع إليها، وهذه القناعة لا تتولد إلا بحرية نفسية ومذاق سليم، خالٍ من المؤثرات والضغوط والإيحاءات المهيجة أو المتلفة لحاسة النضج في الفطرة. ولهذا كان لا بدّ من قواعد لتحرر وجداني سليم، لتحقيق تلك العَدالَة . وهذا ما قرره الإسلام عنده فيما يأتي:
أ- تحرير الوجدان من عبادة غير الله: « لقد بدأ الإسلام بتحرير الوجدان البشري من عبادة أحد غير الله، فما لأحد عليه غير الله من سلطان وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله»(1) حيث يقول الله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (2) ويقول تعالى:
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } (3) ويقول تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (4) ويقول تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا } (5) .
وهذا التحرر الوجداني من عبادة غير الله له نتائج وثمار معينة منها(6):
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(41-42).
(2) البينة / 5.
(3) آل عمران / 144.
(4) آل عمران / 128.
(5) الجن / 20-21.
(6) انظر تفصيل ذلك: الواعي، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة ، ص(536-540).(2/58)
1. التحرر من سلطان البشر وتسلط الجبابرة: « فما لأحد عليه غير الله من سلطان... وما من أحد يملك له ضراً ولا نفعاً »(1) « ولا حاكمية لغيره كي لا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله »(2). قَالَ تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (3).
2. التحرر من الخوف على الحياة أو على الرزق: « فالحياة بيد الله وليس لمخلوق قدرة على أن ينقص هذه الحياة ساعة أو بعض ساعة »(4) . قَالَ تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا } (5) وقَالَ تعالى : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا } (6) وقَالَ تعالى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } (7) وفي الرزق يقول تعالى { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } (8) وقَالَ تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاً يُطْعَمُ } (9).
__________
(1) قطب، سَيِّد : العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(42).
(2) قطب، سَيِّد : العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(42).
(3) آل عمران/64.
(4) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(45).
(5) آل عمران/145.
(6) التوبة/51.
(7) يونس/49.
(8) العنكبوت/60.
(9) الأنعام/14.(2/59)
ب- التحرر من عبودية الأعراف والمصطلحات الفاسدة: فقد حرر الإسلام الإنسان من عبودية الأعراف الخاطئة، والقيم الاجْتِمَاعِيَّة الجائرة، قيم المال والجاه والحسب والنسب، ومصطلحات الأجداد، وموروثاتهم الجَاهِليَّة، حتى لا يستشعر انقياداً وانصياعاً لأي مصطلح من هذه المصطلحات. قَالَ تعالى : { وَقَالوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ } (1).
«
__________
(1) سبأ / 35-37.(2/60)
ويضرب القرآن للقيم المادية والقيم المعنوية مثلاً في نفسيْ رجلين، لا يدع مجالاً للشك في إيثار إحداهما على الأخرى، في الوقت الذي يرسم صورة واضحة قوية للنفس المؤمنة، وحقيقة القيم فيها »(1). قَالَ تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } (2) حيث يبرز اعتزاز المسلم بإيمانه واستهانته بتلك القيم الفاسدة، وبعده عنها، كما يوضح ذلك قصة قارون، حيث يقول المؤمنون العاملون له كما قَالَ تعالى: { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ - وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (3).
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(48).
(2) الكهف / 32.
(3) القصص / 77.(2/61)
ج- التحرر من الشهوات والأهواء: فالإسلام ليس دعوة إلى الزهد وترك الطيبات، ولبس المرقع من الثياب والبعد عن الزينة والمتاع قَالَ تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (1) وإنما هو دعوة إلى التحرر، والانطلاق من ضعف الشهوات والغرائز، ودعوة إلى إصلاح الناس، ورحمتهم بالنعيم، لا إلى الفساد واستعبادهم، قَالَ تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ - قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (2).
... وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ والمطامح والرغائب ونقط الضعف في نفس الإنسان، ليضعها في كفه، ويضع في الكفة الأخرى حب الله ورسوله وما يجلبه من جنات ونهر ورضوان من الله ليقوى الضعف البشري لحب العاجلة والفتنة بها والخداع بزهرتها « فكثيراً ما يؤتى المرء من ناحية حرصه على ماله أو بنيه، فيقبل ما لم يكن ليقبل، ويخضع لما لم يكن ليخضع، ويرتكب ما لم ليرتكب»(3).
__________
(1) الأعراف / 32.
(2) آل عمران / 14-15.
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(53).(2/62)
... فالتحرر الوجداني كما يراد به عند سَيِّد قطب اعتناق العقيدة الإسْلاميَّة اعتناقاً يبعث في نفوس مصدقيها استعلاءً على متطلبات الجسد من الرغبات والشهوات لأن الإيمان يجعل المرء يعتنق تصوراً خاصاً عن الكون والإنسان والحياة مؤداه التخلص من عبادة أحد غير الله ومن الخضوع لأحد غير الله من أجل تقوية الصلة بالله وإشعار الفرد أنه يملك الاستعانة بالله دون أن يتأثر بشعور القيم الاجْتِمَاعِيَّة من المال أو الجاه أو الحب والنسب أو يستذل للذات والشهوات والمطامع والأهواء.
... وهكذا يكون التحرر الوجداني عند سَيِّد قطب: « تحرراً مطلقاً لا يقوم على المعنويات وحدها ولا على الاقتصاديات وحدها ولكن يقوم عليهما جميعاً فيعرف للحياة واقعها وللنفس طاقتها ويستثير في الطبيعة البشرية غاية أشواقها وأعلى طاقتها ويدفع بها إلى التحرر الوجداني كاملاً صريحاً وبغير التحرر الكامل لن تقوى على عوامل الضعف والخضوع والعبودية ولن تتطلب نصيبها من العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ولن تصبر على تكاليف العَدالَة حين تعطاها»(1).
... ولهذا أولى سَيِّد قطب التحرر الوجداني أهمية قصوى في مجال تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام فجعله الركن الأول الذي تقوم عليه الأركان والأساس الذي ترتكز عليه الأسس كلها.
2- المساواة الإنسانية:
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(54).(2/63)
... « إذا استشعر الضمير كل هذا التحرر الوجداني، فخلص من كل ظل للعبودية إلا لله وأمن الموت والأذى والفقر والذّل إلا بإذن الله، وانفلت من ضغط القيم الاجْتِمَاعِيَّة والمالية، ونجا من ذل الحاجة والمسألة، وتسامى على شهواته ومطامعه وتوجه إلى الخالق الواحد بلا استثناء ولا استعلاء، ووجد بعد ذلك كله كفايته من ضرورات الحياة مكفولة له بحكم التشريع والنظام... فلن يكون في حاجة لمن يهتف له بالمساواة لفظاً، وقد استشعرها في أعماقه معنى ووجودها في حياته واقعاً »(1).
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(55).(2/64)
... وحسب هذا الفهم تنبني المساواة الإنسانية على التحرر الوجداني، « فبعد أن أقرّ الإسلام-حسب تصوره رحمه الله- التحرر الوجداني، أسس للمساواة باللفظ والنّص والقانون، ليكون كل شيء واضحاً مقرراً منطوقاً، فمنع بذلك خرافة التعالي الكاذب، حيث كان بعضهم يدعى أنه من نسل الآلهة، وبعضهم يروج بأن الدماء التي تجري في عروقه ليست من نوع دماء العامة، وإنما هو الدم الملوكي العالي النَّبِيّل، وقد ولغت في ذلك بعض الملل والنِحل، حيث كان منهم من فرق الشعوب إلى طبقات، خُلق بعضها من رأس الآلهة فهي طبقة مقدسة، لا يرقى أحد إليها، وخلق بعضها من قدميه، فهي منبوذة، ومنهم من خصّ نفسه بالبُنوة دون سائر الناس، فقَالَ : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } (1) فجاء الإسلام قمة عالية ووثبة مرتفعة، لم يعرف لها التاريخ شبيهاً أو نظيراً، جاء ليقرر وحدة الجنس البشري من المنشأ والمصير : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } (2) في المحيا والممات في الحقوق والواجبات، أمام القانون وأمام الله، في الدنيا والآخرة، لا تفاضل إلا بجهد وعمل صالح، ولا كرامة إلا بقلوب وقر فيها التقوى»(3).
... وعلى هذا نستطيع أن نقرر معالم المساواة الإسْلاميَّة وأسسها كما تصورها سَيِّد قطب في النقاط التالية التي اجتهدنا في تصنيفها:
... أ - المنشأ والمصير.
... ب- في الشعور والكرامة.
... ج- في القانون: الحقوق والواجبات.
... د- بين الذكر والأنثى.
وعلى هذا تتحقق المساواة وتسود العَدالَة وينعم الناس بالاستقرار. ونبيّن ذلك فيما يلي:
أ- المنشأ والمصير:
__________
(1) المائدة/18.
(2) طه/55.
(3) الواعي، د. توفيق يوسف، الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(540).(2/65)
هدم الإسلام فكرة النسب المقدس، والدم الملوكي ونسب الناس كلهم إلى أصل واحد، فتبرأ بذلك من العصبية القبلية والعنصرية كما ردّ عصبية النسب والأسرة، فقَالَ سبحانه: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } (1) وقَالَ تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } (2).
« ويمضي القرآن يكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، ليقر في خلد الإنسان وحدة أصله ونشأته: الجنس كله من تراب، والفرد-كل فرد- من ماء مهين ويكرر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في أحاديثه: « أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، كيما يزيد استقراراً في المشاعر والأخلاد»(3). وقد أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام تلك المساواة الجامعة على رؤوس الأشهاد في خطبة الوداع، حيث قَالَ : « إنّ الله قد اذهب عنكم عصبية الجَاهِليَّة وتفاخرها بالآباء والأجداد. الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى»(4).
ب- المساواة في الشعور والكرامة:
__________
(1) طه/55.
(2) المؤمنون/12-16.
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(57). والحديث: ورد في مجمع الزوائد (3/66).
(4) مجمع الزوائد ، (3/66).(2/66)
... ... وإن للجنس البشري كلّه كرامته التي لا يجوز أن تستذل، قَالَ تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } (1) فالكلّ متساوٍ في تلك الحرمة، لا يقِلُّ فيها أحد عن أحد، فهم فيها سواء، وهكذا يتبع الإسلام كل ناحية من حياة الناس: الوجدانية، والاجْتِمَاعِيَّة والنفسية ليؤكد فيها معنى المساواة والكرامة لأنه يريد حياة إنسانية كاملة، لا عقد ولا أمراض للنفس ولا نجاسة فيها. ويضرب سَيِّد قطب الأمثلة من القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: { لاً يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ } (2)، ويقول: { لاً تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } (3)، وقوله: { وَلاً يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } (4).
ج- المساواة بين الذكر والأنثى:
... ... وتظهر هذا المساواة عنده في النقاط التالية :
1) المساواة في القانون والحقوق:
... « فقد كفل الإسلام للمرأة مساواة تامة مع الرَّجُل من حيث الجنس والحقوق الإنسانية، ولم يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات المتعلقة بالاستعداد أو الدربة أو التبعة، مما لا يؤثر على حقيقة الوضع الإنساني للجنسين»(5).
2) التساوي في الناحية الدينية:
... « ففي الناحية الدينية والروحية يتساويان عند الله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } (6).
3) التساوي في الأهلية:
__________
(1) الإسراء/70.
(2) الحجرات/11.
(3) النور/27.
(4) الحجرات/12.
(5) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(59).
(6) النساء/124.(2/67)
... « وفي ناحية الأهلية للملك والتصرف الاقتصادي يتساويان عند الله تعالى: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } (1) و: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } (2) . «أما إيثار الرَّجُل بضعف نصيب المرأة في الميراث فمرده إلى التبعة التي يضطلع بها الرَّجُل في الحياة... وأما الرَّجُل قوّام عليها: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } (3) فوجه التفضيل هو الاستعداد والدربة والمرانة فيما يختص بالقوامة»(4).
__________
(1) النساء/7.
(2) النساء/32.
(3) النساء/34.
(4) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(60).(2/68)
... وبهذا يرى سَيِّد قطب أن الرَّجُل بقوته العضلية، وقيامه بالأعمال، والدربة فيها، وإنفاقه، وضربه في الأرض، أكثر خبرة في هذه الأمور، ولذلك يتولى تبعتها في حدود الفضيلة والمعروف، وأما تفضيل الرَّجُل في الشَّهادَة على المرأة فأمور تتعلق بمعرفة الرَّجُل ، وطبيعة عمله ودربته، وأمور تتعلق بالمرأة، وهو عاطفتها، وشغلها، وعدم إطلاعها على كثير من الأمور، وتحققها من ذلك، على أن هناك أموراً تختص المرأة فيها بالشَّهادَة دون الرَّجُل ، فيما تكون فيه أكثر إطلاعاً ومعرفة مثل الشَّهادَة في أمور النساء، ولا يطلع عليه الرجال، فهذه الأمور كما يقول أمور ميدانية ليس لها علاقة بالتفضيل أو النقص، إنما لها علاقة بإظهار الحق وإقامة الحقوق بين الناس، والوصول إلى الدليل والصواب، وقد يفضل شهادة أهل الحرف فيما يطلعون عليه، ولا يعد هذا نقصاً عند الآخرين وقد يؤخذ بشهادة أهل الخبرة، وتُرَدُّ شهادة من عداهم، وهذا كله سبيله الوصول إلى خير الإنسان نفسه ومصلحته وحفظه، وسعادته ذكراً كان أو أنثى.
3- التكافل الاجتماعي:
... ... « والإسلام يمنح الحرِّيَّة الفردية في أجمل صورها، والمساواة الإنسانية في أدق معانيها، ولكنه لا يتركها فوضى، فللجميع حسابه، وللإنسانية اعتبارها، وللأهداف العليا قيمتها، لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية، في مقابل الحرِّيَّة الفردية، ويقر إلى جانبها التبعة الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها. وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي»(1).
ويشمل التكافل الاجتماعي حسب تصوره الأمور الآتية(2):
1. التكافل بين الفرد ذاته.
2. التكافل بين الفرد والأسرة.
3. التكافل بين الفرد والجماعة.
4. التكافل بين الأمة والأمة.
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(67).
(2) انظر تفصيل ذلك:
... - الواعي، د. توفيق يوسف، الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(546-549).(2/69)
5. التكافل بين الجيل والأجيال المتعاقبة.
فأما تكافل الفرد مع ذاته « فهو مكلف أن ينهى نفسه عن شهواتها وأن يزكيها ويطهرها وأن يسلك بها طريق الصلاح والنجاة، وألا يُلقي بها إلى التهلكة»(1).
« وبذلك كله يقف الإنسان من نفسه موقف الرقيب، يهديها إن أضلّت، ويمنحها حقوقها المشروعة ويحاسبها إن أخطأت ويحتمل تبعة إهماله لها وبذلك يقيم الإسلام من كل فرد شخصيتين تتراقبان وتتلاحظان، وتتكافلان فيما بينهما في الخير والشر في مقابل منح هذا التحرر الوجداني الكامل، والمساواة الإنسانية التامة فالحرِّيَّة والتبعة تتكافآن وتتكافلان»(2).
وأما التكافل مع الأسرة فيرى أن قيمة هذا التكافل أنه المادة التي تمسكها والسياج الذي يحميها وهي « تقوم على الميول الثابتة في الفطرة الإنسانية وعلى عواطف الرحمة والمودة ومقتضيات الضرورة والمصلحة... ومن مظاهر التكافل العائلي في الإسلام ذلك التوارث المادي للثروة»(3).
وأما التكافل بين الفرد والجماعة، فيرى أن كل فرد مكلف أولاً أن يحسن عمله الخاص وإحسان العمل عبادة الله وعلى كل فرد أن يرعى مصالح الجماعة كأنه حارس لها موكل بها، كما أن واجب الجماعة المؤمنة التناصح والتكاتف والطهر والتعاهد عليه ورعايته ونشره بين الناس كما أنها مكلفة برعاية المحتاج وإعطاء المحروم وكفالة اليتيم.
وأما التكافل بين الأمة والأجيال المتعاقبة، فيرى أن مهمة الأجيال الناهضة أن تبنى للأجيال اللاحقة كما يدخر الرَّجُل لكبره، ولهذا كان الإنسان مسؤولاً عن عمله في زمنه وعن رجع صداه بعد زواله من الوجود.
«
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(67).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(68).
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(71-72).(2/70)
وعلى تلك الأسس الثلاثة: التحرر الوجداني المطلق والمساواة الإنسانية الكاملة، والتكافل الاجتماعي الوثيق تقوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وتتحقق العَدالَة الإنسانية»(1).
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن سَيِّد قطب قد استخدم مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة بدلالة جديدة تتعدى النظرة المتعارف عليها والتي تقع ضمن دائرة السِّياسَة الاقتصادية من حيث توزيع الثروة وكيفية حيازتها إلى نظرة أعم وأشمل وضمن دائرة العبودية لله بالمعنى الشامل للعبادة.
لذلك يقرر أن « العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام شيء أكبر من سياسة المال»(2). وبناء على هذه القاعدة يحدد سَيِّد قطب الكيفية التي تجري على أساسها إيجاد هذا النمط من العَدالَة في واقع عملي يحقق من خلاله عدالة الإسلام الاجْتِمَاعِيَّة من خلال إيجاد المساواة الإنسانية والتعادل بين القيم في الممارسة العملية وهذا بدوره يقرب التفاوت الطبقي ويحقق التكافل الاجتماعي.
وبناء على هذا التصور، فإن سَيِّد قطب يرى أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تتحقق بالتربية الإيمانية لأبناء المجتمع الإسلامي بغية إيجاد الرقابة لله التي تدفع المؤمن إلى تركيز القيم الإسْلاميَّة في النفوس وأنه لا بدّ أن يكون للقانون إشرافاً على تنفيذها بهدف المحافظة على سيادة هذه القيم في المجتمع الإسلامي.
وبهذا يقول سَيِّد قطب: « فجعلها عدالة إنسانية شاملة وأقامها على ركنين قويين الضمير داخل النفس والتكليف القانوني»(3).
??المسألة الثالثة :
منهج سَيِّد قطب في التوفيق بين مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(80).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(113).
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(81).(2/71)
... ما أن بزغ كتاب العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام عام 1948م لسَيِّد قطب حتى تحولت الأنظار واشرأبت الأعناق إلى مفكر إسلامي متفقه في دينه متمسك بآدابه، مقاوم لرواسب الثَّقافَة الغَرْبيّة في نفسه فكرياً وسلوكياً بل شعورياً، وأصبح يجسد التيار الثقافي الأصيل في كتاباته عند كثير من المشتغلين بالدراسات الإسْلاميَّة حتى شبهه البعض بابن تَيْمِيَّة.
... إن المتبصر في كتابات سَيِّد قطب يلحظ سمة عامة في منهجه تكاد تطغى على أقواله مفادها أن الفِكْر الغَرْبيّ مرفوض برمته لأنه نتاج العقل البشري، وبالتالي فهو فكر جاهلي مناقض للفكر الإسلامي، وأنّى أن يوفق بين الفِكْر الوضعي والفِكْر الإسلامي. أو بين منهج الله ومناهج الناس؟
وفي ذلك يقول سَيِّد قطب: « وهذه الجَاهِليَّة خبثت قديماً وخبثت حديثاً... إنه هوى البشر المغرضين... حتى تجيء شريعة الله، فتنسخ هذا كله، وتشرع للناس تشريعاً لا يشوبه جهل البشر ولا يلوثه هواهم... هذا هو الفارق بين منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد، ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك... »(1).
... بل لا يجوز أن يلصق بالإسلام أي فكر من الأفكار الوضعية كما لا يجوز أن يعرض الإسلام للناس في قَالب غير قَالبه الذي أوحي به « فالإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجْتِمَاعِيَّة الوضعية، إنما هو الإسلام»(2).
« وإن النِّظَام الإسلامي... ليس هو الرَّأْسُماليَّة، ولا الاشْتِراكِيَّة.. إن النِّظَام الإسلامي هو فقط النِّظَام الإسلامي »(3).
__________
(1) قطب، سَيِّد: معالم في الطريق ، ص(204).
(2) قطب، سَيِّد: معالم في الطريق، ص(205-206). وانظر: قطب، سَيِّد: نحو مجتمع إسلامي، ص(90).
(3) قطب، سَيِّد: معالم في الطريق، ص(90).(2/72)
وبهذا فقد حصر سَيِّد قطب الأمر في منهجين اثنين، هما: الكفر والإسلام، وبناءً على هذا الأصل الأصيل في اعتبار أن منهج الله تعالى هو المنهج المتمثل في الإسلام وأن منهج الكفر هو كل ما ينتجه العقل الإنساني، بدأ سَيِّد قطب في بيان موقفه من الفِكْر الغَرْبيّ ومصطلحاته من خلال كتب أربعة بارزة هي:
«نحو مجتمع إسلامي» و «العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام» و « في ظلال القرآن » و «معالم في الطريق».
1- رفض سَيِّد قطب استعمال المصطلحات الغَرْبيّة.
... فقد منع إدخال كل المعارف التي تتعلق بالأمور الإنسانية على الفِكْر الإنساني خاصة المتعلقة منها بالمسائل الفلسفية والسِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة والقانونية والاقتصادية. بل ومنع أخذ هذه المعارف عن غير الوحي، وحتى المعارف العملية التي لم تتأثر بالعقائد والفلسفات الجَاهِليَّة إلا بتحفظ بسبب العداء المستحكم بين الفِكْر الإسلامي والفِكْر الغَرْبيّ .
يقول سَيِّد قطب «كيف يتسنى لنا أن نكوّن عقيدة إسلامية ثقافية ووسائل تربية وطرق تفكير، هي في صميمها غربية، وهي في صميمها معادية للفكرة الإسْلاميَّة
أولاً لأنها: تقوم على أساس معادي مناهض لفكرة الإسلام عن الحياة،
وثانياً لأن: محاربة الإسلام جزء أصيل في تكوينها سواء ظهر هذا القصد واضحاً أو توارى في الثنايا والشعاب؟ »(1).
... ويقول : « والأوضاع الاجْتِمَاعِيَّة بجملتها، والأوضاع السِّيَاسِيَّة، بجملتها والأوضاع الاقتصادية بجملتها... هي فروع عن التصور الاعتقادي، وتطبيق واقعي للقيم المنبثقة من هذا التصور... ومن ثم فالتلقي فيها كلها لا يجوز أن يكون له مصدر آخر غير مصدر التصور الإسلامي أو غير مصدر الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة بمدلولها الحقيقي، التلقي فيها عن المصدر الرباني وحده»(2).
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(269-270).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(272-273).(2/73)
... ويصف هذه الاتجاهات والتصورات بقوله: « إن اتجاهات الفلسفة بجملتها واتجاهات تفسير التاريخ الإنساني بجملتها... هذه الاتجاهات في الفِكْر الجاهلي قديماً وحديثاً متأثرة مباشرة بتصورات جاهلية... تتضمن في أصولها المنهجية ظاهراً للتصور الديني جملة وللتصور الإسلامي على وجه الخصوص»(1).
... وفي ناحية أخرى يعلل سَيِّد قطب هذا الرفض وعدم تلقي المسلم معارفه وثقافته ونظم حياته عن غير الله من خلال وظيفة العقل البشري، إذ ليس للعقل البشري أن يشرع وإنما أن يتلقى عن الله تعالى الذي له الحاكمية وحده إذ يقول:
« وللإسلام نظرته الأَسَاسيَّة وتصوره الخاص أنه يقوم على أساس أن الحاكمية لله تعالى وحده فهو الذي يشرع وحده... وسائر الأنظمة تقوم على أساس أن الحاكمية للإنسان.. فهو الذي يشرع لنفسه وهما قاعدتان لا تلتقيان»(2).
... وعليه فقد رفض سَيِّد قطب استخدام المصطلحات والتعابير المأخوذة من الفِكْر الغَرْبيّ والتصورات الجَاهِليَّة.
2- إنكاره على المُفَكِّرين المسلمين استخدام المصطلحات الغَرْبيّة.
... وبناء على رفض سَيِّد قطب في منع استخدام التعابير الاصطلاحية المأخوذة عن التصورات الجَاهِليَّة، أنكر على المُفَكِّرين المسلمين الذين يستخدمون المصطلحات الأجنبية في الفِكْر الإسلامي، أو يدخلوها عليه، أو يحاولون خدمة الإسلام بها لمجرد وجود تشابه في بعض الجوانب بينها كما هو الحال في قولهم اشتراكية الإسلام أو الاشْتِراكِيَّة في الإسلام أو ديمقراطية الإسلام وما إلى ذلك، فقَالَ: « لم أستسغ حديث من يتحدثون عن اشتراكية الإسلام وديمقراطية الإسلام وما إلى ذلك من الخلط بين نظام من صُنع الله سبحانه، وأنظمة من صنع البشر»(3).
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(275).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(96-99).
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(101).(2/74)
ويقول: « ولعل التقاء الإسلام مع الاشْتِراكِيَّة في اتخاذ التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي قاعدتين أساسيتين للتكافل الاجتماعي، هو الذي يوجد تلك الشبهة عند الدعاة الإسلاميين أنفسهم فيتحدثون عن الإسلام الاشتراكي وعن اشتراكية الإسلام... وما إليها... ولكن الواقع إن أسبقية الإسلام تمنع من إعطائه وصفاً لاحقاً، هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية الموضوع الإسلامي، ليس هو الرَّأْسُماليَّة، وليس هو الاشْتِراكِيَّة، وليس هو الشيوعية.. إنه النِّظَام الإسلامي فقط»(1).
وعليه فقط حكم على كل محاولة تسعى لترقيع الإسلام بالتصورات الغَرْبيّة أو تسعى إلى عرضه في قوالب غربية معاصرة، أو حتى تسعى إلى إيجاد المشابهة بين الإسلام وغيره، بأنها محاولة سطحية وجهالة وهزيمة وإفساد للإسلام حيث يقول:
« وحين ندرك حقيقة الإسلام... سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام في ثقة وقوة... سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة... هذه الجَاهِليَّة التي أنتم فيها نجس، والله يريد أن يطهركم... الإسلام سيغيّر تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم ... هذه الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها.. فاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض بها.. لأن هذه طريقته... ولم يقل لهم أنه لم يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم إلا بتعديلات طفيفة، أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها... » (2).
__________
(1) قطب، سَيِّد: نحو مجتمع إسلامي، ص(86-90).
(2) قطب، سَيِّد: معالم في الطريق، ص(206-208).(2/75)
... كما يقول: « يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام... مرة تحت عنوان «ديمقراطية الإسلام» ومرّة تحت عنوان «اشتراكية الإسلام» ومرّة بأن الأوضاع السِّيَاسِيَّة والاقتصادية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة، كلا إنّ الأمر مختلف جداً... وصورة الحياة الإسْلاميَّة مغايرة تماماً لصور الحياة الجَاهِليَّة قديماً وحديثاً...» (1).
ثمّ يؤكد وجهة نظره بقوله: « فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة وفي بعض الأفكار القائمة، فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغَرْب سواء... إننا نرفضها كلها لأنها منحطة... المسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، هذا ما ينبغي أن يكون واضحاً»(2).
« فالإسلام له نظرته الأَسَاسيَّة وتصوره الخاص...ومن ثم فالنِّظَام الإسلامي لا يلتَقِيّمع أي نظام ولا يجوز وصفه بغير صفة الإسلام...وليست وظيفة الباحث الإسلامي أن يلتمس له المشابهات والموافقات مع أي نظام آخر قديم أو حديث، فهده المشابهة...فضلاً عن أنها سطحية وجزئية...هو إحساس بالهزيمة...لا يقدم عليه باحث مسلم يعرف هذا الدين حق معرفته»(3).
... وهذا الرَأْي الذي يؤكده سَيِّد في مواطن كثيرة من كتاباته إنّه ليس رأياً قد توصّل إليه، وإنما هو حكم الله تعالى فلا يخضع للمناقشة والبحث، وفي ذلك يقول:
«
__________
(1) قطب، سَيِّد: معالم في الطريق، ص(206-208).
(2) قطب، سَيِّد: معالم في الطريق، ص(212-213)و نحو مجتمع إسلامي، ص(62-91) و في ظلال القرآن، (3/367).
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(98-99)، وفي ظلال القرآن (8/687-690).(2/76)
فليس الذي سبق في هذه الفقرة رأياً أبديته، فالأمر أكبر من أن يُفتى فيه بالرَأْي ... إنما هو قول الله تعالى وقول نبيّه - صلى الله عليه وسلم - يتحدد من قوله سبحانه : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } (1) المصدر الوحيد الذي يجب على المسلم الرجوع إليه... فليس وراء هدى الله إلا الضلال.. ولا سبيل إلى الشّك في مدلول هذا النّص ولا تأويله»(2).
3- تسويغ سَيِّد قطب لمصطلح العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة:
__________
(1) البقرة/120، و الأنعام/71.
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ص(278-280).(2/77)
... من خلال ما سبق يظهر لنا أن سَيِّد قطب لا يسمح بإلصاق شيء من أفكاره الجَاهِليَّة بالإسلام ولا حتى المقارنة أو المشابهة بين الإسلام وبينها، كما يمنع أي محاولة يراد بها التوفيق بين الإسلام وغيره من المفاهيم والمصطلحات الغَرْبيّة، وينكر على المُفَكِّرين المسلمين المعاصرين الذين قَالوا بأن الإسلام اشتراكي أو ديمقراطي أو غير ذلك واعتبرها عفونة لا يجوز الحديث عنها في أجواء الإسلام فضلاً عن إلصاقها به، ومن الطبيعي أن يشمل هذا الرَأْي مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لاعتباره مفهوماً غربياً وكلمة اصطلاحية وضعت من قبل فلاسفة الفِكْر الرأسمالي للدلالة على تدخل الدَّوْلَة عن طريق التشريعات والنظم لتخفيف المفاسد والمظالم التي نتجت عن الحرِّيَّة الفردية، فهي أحكام ظاهرها الترقيع لصرف الناس عن الأفكار الاشْتِراكِيَّة وللإبقاء على النِّظَام الرأسمالي، وهذا ما أشار إليه سَيِّد قطب في قوله: «لقد عجز النِّظَام الرأسمالي عن مجاراة التطور الاجتماعي في أوروبا... عندئذ ولهذه الأسباب اتجهت إنكلترا بصفة خاصة إلى الاشْتِراكِيَّة...كما اتجهت روسيا إلى الماركسية...» (1) وهذا القول يكشف لنا عن حقيقة مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وأنه من المفاهيم الغَرْبيّة على حدّ قوله، وهو ما عناه في موطن آخر بقوله: « أما العفن الذي يسمونه العَدالَة في أمم الجَاهِليَّة الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء في مثل هذا الجو النظيف الكريم...» (2).
__________
(1) قطب، سَيِّد: نحو مجتمع إسلامي ، ص(85-86).
(2) قطب، سَيِّد: في ظلال القرآن، (2/515).(2/78)
... ومع هذه الصرامة والجدية في موقفه، نجد أنه أباح لنفسه أن يعرض الإسلام في ثوب العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في كتابه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ومعنى هذا أنه قَبِل لنفسه أن يضيف للإسلام أمراً غريباً عنه وهو الذي يقول: « إن هذا النِّظَام دقيق في تكوينه، ومتكامل... تتغير طبيعته بدخول أي عنصر غريب... هو نظام غير قابل للترقيع»(1) وقوله: « لا بدّ من اتخاذ طريقة تفكير إسلامية ذاتية، لنضمن أن يجيء الناتج غير هجين»(2) وقوله : « يجب أن يكون لنا أدب نابع من التصور الإسلامي »(3).
... وهذا ممّا يدل على عدم الانسجام الفِكْري في فكر سَيِّد قطب وإن حاول تبرير ذلك عن طريق نفي وجود عدالة اجتماعية في الأفكار الفلسفية عامة، والفِكْر الرأسمالي والاشتراكي خاصة، وحصر وجودها في منهج الله الخالص، فهو قد استعار لفظة العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة من الفِكْر الغَرْبيّ دون الالتفات إلى دلالتها الاصطلاحية الغَرْبيّ ة وحاول أن يضع لها معنى خاصاً على ضوء مفاهيم الإسلام ومعالجاته الشاملة وإطاره العام محاولاً أن يوهم القارئ بكتابه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام هي العَدالَة الصَحِيْحة، أو الحقة، أو المطلقة أو الشاملة أو التناسق أو التعادل بين جميع القيم وهي بالتالي ليست العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة العفنة كما مرّ وصفه إياها قبل قليل، فهي عدالة خاصة استلهمها من المنهج الرباني.
__________
(1) قطب، سَيِّد: نحو مجتمع إسلامي، ص(138-139).
(2) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(267-270).
(3) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(270-282).(2/79)
... وبهذا يكون سَيِّد قطب قد منع استخدام العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي، لأنها من مفاهيم الكفر على حدّ قوله، ومن المفاهيم الجَاهِليَّة الناتجة عن العقل البشري إلاّ أنه برَّر إدخال هذا المفهوم من وجه أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الغَرْب ليست هي العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، لأن عدالة الإسلام تتسم بالشمولية بينما ينحصر موضوعها في الغَرْب في الأوضاع الاقتصادية، ومن ثمّ فإنه قد ذهب إلى جواز إدخال مستجدات فكرية على الفِكْر الإسلامي عن طريق التسويغ لها بالمصالح المرسلة أو مبدأ سد الذرائع خاصة في مجال الانتفاع بوسائل تنفيذ المبادئ الإسْلاميَّة وتحقيقها واقعياً، وفيما يتعلق بتحديد الحاجات الاجْتِمَاعِيَّة وفي هذا يقول سَيِّد قطب:
... « فلا حرج في الانتفاع بتجارب البشر في تحديد الحاجات البشرية المتجددة، بل في تنفيذ المبادئ الإسْلاميَّة، على أن لا نصطدم بمبدأ ثابت في الإسلام... هذا كلّه متروك للإصلاح من تجارب البشرية، وللآراء المتجددة حسب الظروف المتجددة»(1).
... كما يقول: « والشَّرِيعَة الإسْلاميَّة قادرة على تلبية الحياة العصرية... مع الانتفاع بتجاربنا نحن وبتجارب الإنسانية كلها فيما يتفق مع فكرة الإسلام الكليّة... لست أزعم أن الفقه الإسلامي الحاضر، قادر للحظة على الإحاطة بكل مطالب الحياة العصرية الجزئية..» (2)
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(278-282).
(2) قطب، سَيِّد: معركة الإسلام والرَّأْسُماليَّة، ص(270-282).(2/80)
ويقول: « إن الإسلام لا يقف مكتوف اليدين، بل يمنح الإمام-الذي ينفذ شريعة الإسلام- سلطات واسعة للتوظيف في رؤوس الأموال في الحدود اللازمة للإصلاح... ودائرة المصالح المرسلة» و«سد الذرائع» دائرة واسعة تشمل تحقيق كافة المصالح للجماعة، وتضمن دفع جميع الأضرار... مبدأ المصالح المرسلة ومبدأ سد الذرائع عند تطبيقها في محيط أوسع سيمنحان الإمام سلطة واسعة لتدارك كل المضار الاجْتِمَاعِيَّة... وتحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة»(1).
... وعلى هذا مآخذ:
1. كأنَّ سَيِّداً يرى أنّ الإسلام غير كامل ولا وافٍ بمتطلبات الأمّة الإسْلاميَّة.
2. يمكن لأي دولة تنتمي للإسلام أن تأخذ كل ما تهواه من القوانين الوضعية بحجة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وبحجة أنّها لا تتنافى مع أصول الإسلام ولو كانت مصادمة لأصوله ونصوصه.
3. يرى سَيِّد أخذ كل ما أتمته البشرية من تشريعات ونظم اجتماعية إذا لم تخالف أصول تلك التشريعات الإسْلاميَّة ولا تصطدم بفكرته عن الحياة، أي: لا تحرم التشريعات والنظم الكافرة على المسلمين إلا في حالة مصادمة أصول الإسلام، فإذا خالفت أصول التشريعات الكافرة نصوص الإسلام فلا حرج فيها ولا تحريم، بل يجب الأخذ والحال هذه بتلك التشريعات والتنظيمات الكافرة. وبهذا التأصيل والتقعيد الذي يضعه سَيِّد قطب تنفتح أبواب التلاعب بدين الله تحت ستار هذه التأصيلات(2).
ويشمل على ثلاث مسائل :
1- المسألة الأولى ... : معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الغَزَالي.
2- المسألة الثانية ... :كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الغَزَالي.
3- المسألة الثالثة ... : منهج الغَزَالي في التوفيق بين العَدالَة
الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي.
??المسألة الأولى :
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(157-165).
(2) المدخلي، ربيع بن هادي عمير: أضواء إسلامية على عقيدة سَيِّد قطب وفكره، ص(208).(2/81)
معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الشيخ محمد الغَزَالي
... إنّ المتتبع لكتابات الشيخ محمد الغَزَالي(1) يجد أنه لم يعن كثيراً بوضع معنى خاص لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، وذلك لأنه لا يرى أي غضاضة في نقل المفاهيم والمصطلحات الغَرْبيّة إلى الفِكْر الإسلامي ودمجها فيه.
__________
(1) محمد الغَزَالي، ولد في البحيرة بمصر عام 1917م، بدأ تعلمه على أيدي الكتاب ثم انتقل بعدها إلى المعاهد الأزهرية حتى التحق بجامعة الأزهر. انتسب منذ كان شاباً يافعاً إلى جماعة الإخوان المسلمين التي كان لها بالغ الأثر في تكوين عقليته وبناء شخصيته، وفتحت مجالات الدعوة أمامه في الإطار الرسمي، فقد تلقى عدّة مناصب حكومية دينية في وزارة الأوقاف المصرية وفي المعاهد والكليات الأزهرية، ناهيك عن الوعظ والإرشاد في المساجد، بل في إدارة شؤونها من خلال وظيفته كوكيل وزارة الأوقاف الإسْلاميَّة وفي إطار التدريس، عمل مدرساً في الأقسام الشَّرْعية في عدّة جامعات عربية كجامعة أم القرى والملك عبد العزيز بالسعودية هذا إلى جانب مشاركته في العديد من المؤتمرات الإسْلاميَّة العالمية بوصفه أحد روّاد الدعوة الإسْلاميَّة المعاصرين، له مؤلفات تزيد عن ستة وثلاثين كتاباً يعالج بعضها مواضيع السيرة النبوية وأخرى تبحث في الفِكْر السياسي ، وأخرى تعالج معالم الدعوة الإسْلاميَّة وتذب عنها الشبهات. انظر: الغَزَالي، محمد : كيف نفهم الإسلام، ص(256) وقذائف الحق، ص(69)، ومن معالم الحق، ص(257).(2/82)
فالدعوة إلى الإسلام حسب رأيه تستوجب عرض الإسلام من خلال ما هو مألوف لدى الناس من المفاهيم والمصطلحات الغَرْبيّة المعاصرة، بغية شد المثقفين والمعجبين بهذه المفاهيم للعقيدة الإسْلاميَّة لا أن يصبغ الإسلام بصبغة اشتراكية أو رأسمالية، وإنما هو إشعار الجيل الحاضر بنفاسة ما في الإسلام كي يؤثر الإسلام ويرتضيه، ويترك الافتتان بالمبادئ الجديدة، لأن الإسلام من وجهة نظره يتضمن ما في هذه المبادئ من خير، ويخلو من الشر الذي فيها.
... ويدل على ذلك قوله: « وأعترف بأني تجوَّزت في التعبير أحياناً، وقبلت بعض العناوين الشائعة كالدِّيمُقْراطِيَّة في ميدان الحكم، ولكن لأجعل منها جسراً، يعبر عليه الكثيرون إلى الإسلام نفسه... وقد جاء من بعدي الأستاذان « سَيِّد قطب ومصطفى السباعي» عليهما رحمة الله، فألّف الأول العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، وألّف الأخير «اشتراكية الإسلام» وهما يقصدان ما قصدت إليه من ردِّ المفتونين بالمبادئ الجديدة إلى مواريث أسمى وأغنى، وربما كان ما كتباه أفضل مما كتبت أنا وأكثر تنظيماً، وعذري أني كنت رائداً، تدمى أظافري في الاكتشاف والتدوين، فإذا جاء من بعدي، ووجد حقائق ممهدة، كان تنسيقها أقدر وعلى صوغها أدق»(1).
... وبناء على هذا الفهم كان الغَزَالي من أوائل الذين عالجوا هذا المفهوم من زاوية إسلامية وعمل على تأصيله في الفِكْر الإسلامي. مؤكداً أن الاشْتِراكِيَّة في إنكلترا « العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الإنكليزية » تذكر بالحكام الأوائل أيام الحَضَارَة الإسْلاميَّة الزاهرة. وأن الدين الإسلامي يحتاج إلى مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وغيره من المفاهيم السِّيَاسِيَّة الغَرْبيّة كحاجة الإنسان للماء والهواء ليبقى.
__________
(1) قطب، سَيِّد: العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، ص(157-165).(2/83)
... لذلك عمد الغَزَالي إلى النُّصُوص الشَّرْعية يؤولها ويفسرها على نحو يلائم دلالة العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الغَرْبيّ المعاصر، بمعنى أنه عمل على صبّ النُّصُوص الشَّرْعية والأحكام الفقهية في قوالب غربية، وعنون لتلك الدلالة تارة بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام وتارة أخرى بالاشْتِراكِيَّة في الإسلام أو بالاشْتِراكِيَّة الإسْلاميَّة، دون أن يضع لهذا المفهوم دلالة شرعية خاصة، أو يضيف إليه إضافة جديدة سوى لفظة الإسلام.
ومن هذا المنطلق، فقد كان للعدالة في فكر الغَزَالي أكثر من معنى من أبرزها:
1. أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة هي إقامة التوازن بين الناس، ودلل على ذلك بقوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (1) وفي ذلك يقول: «فهدف الديانات والرسالات الأولى قيام التوازن بين الناس، بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم... »(2)وهذا يعني أنه جعل العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة هي إقامة التوازن بين الناس.
2. إن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة هي مراعاة وجه الحق في توزيع الثروة وانفاقها وفي ذلك يقول: «... وتوزيع الأموال... ينبغي أن نراعي فيه وجه الحق... غاية ما هنالك أنه يفرض تحري الحق وإصابة الواقع حتى تأخذ العَدالَة مجراها الصَحِيْح (3).
__________
(1) الحديد/25.
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص(168).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والمناهج الاشْتِراكِيَّة، ص(123-135).(2/84)
3. إنّ العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة هي المساواة في الحقوق والواجبات، المساواة الطبيعية المحكومة بقانون الفطرة القاضي بوجود تفاوت في القدرات والملكات، والحاجات يصحبه تفاوت في القدرات والملكات، والحاجات، يصحبه تفاوت في الملكية، فالمساواة في الحقوق والواجبات عنده عدالة، والمساواة المطلقة ظلم، لأنها تتعارض مع قانون الفطرة التي فطر الله الكائنات عليها.
يقول الغَزَالي: « إن المساواة المطلقة خرافة، والتفاوت المفتعل لغير سبب معقول، مرفوض من أساسه... الناس سواء في الحقوق العامة... ويمكن إحصاء الحقوق العامة، وإقامة الشرائع المحترمة لحمايتها، لكن هناك حقوقاً خاصة لا بدّ من تقريرها ويستحيل قبول المساواة فيها، وهذه الحقوق تتبع التفاوت الطبيعي الموجود في الأشخاص والأشياء ...» (1).
وإلى جانب هذه المعاني التي وضعها الغَزَالي للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة بغية إضفاء الروح الإسْلاميَّة عليها، إلا أننا نجده يكثر من التركيز على نقل هذا المفهوم مع دلالته عن الدساتير الغَرْبيّة الحديثة دونما تغيير أو تبديل بحجة المصلحة المرسلة، وفي ذلك يقول: « أما الذي نراه ممكناً بل واجباً فهو التوفيق مثلاً... بين مبادئ العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، وبين الأجهزة الإدارية والمالية الرائعة التي تفتقت عنها الاشْتِراكِيَّة الحديثة »(2) ويقول: « فمن الذي يصدنا عن اجتلاب هذه القوانين لنعيد العَدالَة الإسْلاميَّة إلى صحراء الجزيرة... »(3).
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص(27-28).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام، ص(213-214).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام، ص(207).(2/85)
... وبهذا يكون الغَزَالي قد استعمل هذا المفهوم بدلالتين: الأولى هي الدلالة الغَرْبيّة الرَّأْسُماليَّة، والثانية هي الدلالة الناتجة عن محاولة التوفيق بين المفاهيم الإسْلاميَّة والمفاهيم الغَرْبيّة، وأعتقد أن سبب ذلك تأثره بالدعاية العريضة التي راجت بعيد الحرب العالمية الثانية في مصر وغيرها من البلاد الإسْلاميَّة التي كانت خاضعة للنفوذ الغَرْبيّ ولافتتان جمهرة من المثقفين بها حتى تعالت الأصوات من كثيرين بالترويح للاشتراكية والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.
??المسألة الثانية :
كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الشيخ محمد الغَزَالي
... مما سبق يظهر لنا أن الشيخ الغَزَالي نحا المنحى الرأسمالي الغَرْبيّ في تحقيق مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الواقع العملي، بمعنى أنه رسم خطة عملية لتحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الإسْلاميَّة على ضوء البرامج السِّيَاسِيَّة الاجْتِمَاعِيَّة الرَّأْسُماليَّة الحديثة، وأضفى عليها الطابع الإسلامي بالمسوغ المصلحي انطلاقاً من قاعدة رفع الضرر، ومنع الفساد، وقاعدة المصالح المرسلة.
... ويدل على ذلك المقترحات التي وضعها الغَزَالي في العديد من مؤلفاته لحل المشكلات السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة على شكل خطة ينشد بها إصلاح الأوضاع السِّيَاسِيَّة والاقتصادية في البلاد الإسْلاميَّة، وذلك في قوله:
«(2/86)
وأمامنا صورة حيّة وبرامج مدروسة وأنظمة مطبقة في كثير من أقطار الأرض يجب أن نقتبس منها ما نقوّم به العوج ونحسم به الداء، ونقترح... الحلول الآتية لإنهاء بعض مشكلاتنا السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة والأخلاقية...: تأميم المرافق العامة... تحديد الملكيات الزراعية الكبرى... فرض ضرائب على رؤوس الأموال الكبرى، أي الملكيات غير الزراعية... استرداد الأملاك التي أخذها الأجانب... ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التي يعملون فيها... فرض ضريبة تصاعدية على التركات... هذه خطوط صغيرة نمهد بها لجعل الأمة طبقات متوازنة... ونختم بها المآسي المريرة التي تمخض عنها نظام الطبقات المعروف بمظالمه ومخازيه»(1).
... وبناء على قوله هذا، فإنه يكون قد ذهب مذهب المدارس الرَّأْسُماليَّة المحدثة المسماة بالمدرسة الاقتصادية «النيوكلاسيكية» التي ظهرت في دول أوروبا الغَرْبيّة عند ازدياد مد الحركات العمالية فيها.
... كما يولي الشيخ الغَزَالي الدَّوْلَة أهمية خاصة في تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عملياً في حياة الناس لأنه يرى أن « الإسلام دين يواجه الناس بالأقضية التي تقيم العدل وتثبت المصلحة، فهو ليس دراسة فنيّة للقانون ومبادئه وأغراضه ولكنه تطبيق عملي... »(2).
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص(206-207).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: هذا ديننا، ص(183).(2/87)
... وفي معرض بيانه للقواعد التي تبيّن سياسية الإسلام الاقتصادية يقول: « وللدولة أن تقيم الأوضاع على هدى المبادئ والأفكار التالية... والإسلام طلب فضائل معينة وحظر رذائل معينة، فكل ما يعين على إحراز هذه الفضائل، وترك هذه الرذائل من وسائل مادية، فيجب على الدَّوْلَة أن تمهد، والجماعة مسؤولة وجوباً عن تيسيره... وللإسلام رسالة عالمية.. وأداؤها يتطلب أن تشرف الدَّوْلَة على الأداة الاقتصادية العامة...» (1).
ويقول: «وتدخل الدَّوْلَة هنا لا محيص عنه وروح الدين بل نصوصه تملي به... لأن السكوت عن تقصير الفرائض الموكلة إليهم، هدم للدين، وتجاهل لوظيفته... وبذلك تعتبر الدَّوْلَة مسؤولة مسؤولية مطلقة عن إطعام كل جائع، ومداواة كل مريض ومساعدة كل عاجز، ولها تبعاً لذلك جباية ما تريد من أموال مختلفة المصادر كثرت أو قلّت»(2).
... ومع أن الغَزَالي يركز على دور الدَّوْلَة في تحقيق قدر كبير من الضمانات والتأمينات الاجْتِمَاعِيَّة، إلا أنه يولي أيضاً الضمير الإنساني أهمية خاصة في إيجاد التكافل الاجتماعي وتحقيق التعاون بين أفراد المجتمع على إزالة الخلل الاجتماعي، وذلك عن طريق إشاعة روح الأخوة والتكافل في الحقوق، أي أنه يرى أن التربية الإيمانية التي تبني في الإنسان الوازع الذاتي الذي يملأ النفس بالمثل العليا، والقيم الرَّفيعة، فتبعث في الإنسان الشعور بالأخوة والرحمة والرّفق الذي يكون له دورٌ هام في تحقيق التكافل والتضامن الاجتماعي وفي ذلك قوله:
«
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: هذا ديننا، ص(54-56).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والمناهج الاشْتِراكِيَّة، ص(49-51).(2/88)
وردت في الإسلام نصوص كثيرة مفصلة ومجملة تدعو إلى التعاون على البر والتقوى وتحض على القيام بأنواع من الخدمة الاجْتِمَاعِيَّة، التي يحتاجها كثير من الناس، فالشيوخ والعجزة والمتعبون يجب أن تبذل لهم المساعدات وعلى الأقوياء أن يقوموا بهذا العبء في كل زمان ومكان... ثمّ أن الترويح عن القلوب... ورد المضايقات عن نفوسهم، أمر ارتفع به الإسلام، حتى عده أقرب إلى رضوان الله من الانقطاع إلى الصلاة والصيام، وفي ذلك يقول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين »(1) والإسلام يعتمد على الضمير الإنساني أولاً في غرس هذه المبادئ... فإذا لم يتكون في الفرد هذا الضمير الاجتماعي الذي يشعره بواجباته نحو أمته، وبحقوق سائر أفراد الأمة عليه، فهو شخص ساقط لا إيمان له وإن زعم أنه مؤمن»(2).
... ويضيف الشيخ الغَزَالي على ضرورة التربية الإيمانية عنصراً آخر لا بدّ منه، هو الرحمة وبث مشاعر الحنان والحب في أرجاء البلاد وإقامة الصلة بين الإنسان والإنسان والطائفة والطائفة وفي ذلك يقول: « ومهما اجتهدنا في تعميم العَدالَة ... وتوزيع الخيرات فسيبقى من يستحقون الرحمة والعطف ممّن يحيف عليهم الخطأ والنسيان، أو ممّن تبطئ بهم قدراتهم، فيتعرضون للعجز والعطل... ثمّ أنه لن تعم الناس حالة يستغنون فيها لحظة عن رقابة الدين ويقظة الضمير»(3).
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك على الصَحِيْحين ، (4/300). وانظر : الترغيب والترهيب، (3/263)
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والمناهج الاشْتِراكِيَّة، ص(46-48).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص(39).(2/89)
... وبهذا يكون الشيخ الغَزَالي قد أضفى ميزة على مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة ونأى بها عن الشيوعية والرَّأْسُماليَّة معاً وأصبح حسب تصوره من المفاهيم الإسْلاميَّة الخالصة، تنتفع به الأمة الإسْلاميَّة وتشق طريقها في الحياة، وكيف لا يكون ذلك عنده وقد جعل أساسه قائماً على الإيمان بالله تعالى، وجعل هذه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الإسْلاميَّة تستند إلى التوجيهات الإسْلاميَّة العامة، وتستمد وجودها من قيم الإسلام الأخلاقية ومثله العليا المستمدة من العقيدة الإسْلاميَّة .
??المسألة الثالثة :
منهج الشيخ الغَزَالي في التوفيق
بين مفهوم
العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي
... يمتاز الشيخ الغَزَالي بمنهج فكري خاص، سواء في فهمه للإسلام أم في كيفية معالجته للقضايا المعاصرة من وجهة نظر إسلامية.
... ومن خلال ما كتبه وعلى وجه الخصوص في كتابه « كيف نفهم الإسلام » نستطيع أن نحدد الإطار العام لمنهجه من خلال موجهين اثنين:(2/90)
الأول: الوحي الممثل في نصوص الكتاب والسنة، حيث يجعل القرآن المصدر الأول للتشريع ويسترشد بما يرد في السنّة من بيان وتفصيل وقد صرّح بأن هذه طريقته في فهم الإسلام بقوله: « وعلى نصوص هذا القرآن أعتمد في الاستدلال والاستنتاج، مسترشداً بما قد يرد في السنّة من شرح وتفصيل... وطريقتنا تقوم على احترام النُّصُوص والتمشي مع قواعد الدين العامة »(1) ويقول: « فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع ومن تدبره يعرف الإطار العام للهدايات الإسْلاميَّة»(2)، ويؤكد ذلك بقوله: « إن ديننا نزل من السماء، ولم يخرج من الأرض، لا واجب إلاّ ما أوجبه الله، ولا حرام إلاّ ما حرّمه، ولا يقع إيجاب ولا تحريم إلاّ بنصٍّ قاطع »(3). ولذلك كانت دعوته إلى الإسلام كما قَالَ : « ندعو إلى الكتاب والسنّة »(4).
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ص(18).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: مستقبل الإسلام خارج أرضه ، ص(81-82).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: مستقبل الإسلام خارج أرضه ، ص(74).
(4) الغَزَالي، الشيخ محمد: مستقبل الإسلام خارج أرضه ، ص(148-149).(2/91)
الثاني: الاجتهاد المبني على القياس العقلي وعلى العرف والمصلحة وغيرها من القواعد الاجتهادية، حيث يعتبر ذلك من قبيل الأدلة الشَّرْعية في فهم الإسلام واستخراج الأحكام الشَّرْعية ويؤيد هذا قوله: « إننا لسنا من المتعصبين للفقه الظاهري، بل على العكس نحن مع الجمهور على أن القياس من أدلة الشَّرِيعَة ومع أغلب الفقهاء في رعاية المصلحة المرسلة، واحترام جملة القواعد التي تحكم الفِكْر التشريعي عندنا...» (1)، وقوله : « ومعلوم أن الفقه يستمد أحكامه من الكتاب العزيز، ثمّ من ألوف السُنَن التي نقلت عن صاحب الرسالة خلال ربع قرن. ثم في القياس والاستصلاح والاستحسان والاستصحاب والقواعد المستفادة من أصول الإسلام الأولى »(2) وقوله كذلك: « ولا يجرؤ مسلم على تحريم تصرف لم يجئ في تحريمه نص من الكتاب والسنّة أو القياس الجلي، أو الفوائد المحرمة، بل الذي يقَال هنا إذا وجدت المصلحة فثمَّ شرع الله »(3).
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: مائة سؤال عن الإسلام ، (1/260).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: مائة سؤال عن الإسلام ، (1/304).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: مائة سؤال عن الإسلام ، (2/42).(2/92)
... وعلى ضوء هذين الموجهين وضع الغَزَالي معالم أخرى في كيفية فهم الإسلام منها التفريق بين النُّصُوص الشَّرْعية، والتي جعلها تنقسم إلى قسمين: قسم ثابت في ذاته وفي الواقع الذي يعالجه، مثل نصوص العقائد والعبادات، إذ ليس هناك ما يدعو لتجددها وتطورها، ولذلك ألزم نفسه بظواهر النُّصُوص ومنع من مخالفتها أو الخروج عليها وأوجب مراعاتها لأن أمور العقيدة والعبادات دينية محضة. وقسم آخر غير ثابت ولا محدد، بل ورد على نحو إطار عام فقط مثل الأمور المتعلقة بالمعاملات والنظم والتي لا ضرورة لمراعاة النُّصُوص فيها، إذ أنها متطورة ومتغيرة تبعاً لتغير الظروف والإعصار وتبعاً لتبدل مصالح الناس ولأنها دنيوية والناس أعلم بأمورها، وأن الله تعالى أدارها مع مصالح الناس وأعرافهم.
وفي ذلك يقول: « إن الصراط المستقيم الذي ضمن الله للسائرين فيه أن لا يضلوا ولا يشقوا، تتضح معالمه من موجهين متمايزين: أولهما إرشاد الوحي الأعلى وهو ما انفردنا به نحن المسلمين بنصوصه في الكتاب الكريم والسنّة المطهرة... إنّ هذا الإرشاد السماوي كما أسلفنا إذا كان عنى بالدقيق والجليل في شؤون العبادات فهو في شؤون المعاملات يهتم بالأصول وينيط أمور الناس-بعد- بالمصلحة العامة »(1).
ويقول: « فإذا وجدنا معاملة من المعاملات، أو عقد من العقود... ليس للشرع حكم فيه بالنهي والتحريم نصّاً، وليس في قواعد الشَّرِيعَة المحكمة تعرض له، فإننا نحكم بصحته اعتماداً على أنه مما عفا الله عنه بالسكوت... وهذا الشأن غير شأن العبادات»(2).
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام ، (207-208).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام ، (208-209).(2/93)
ويقول: « إنّ النّص لا مكان معه لحرية الأخذ والرّد... أما مضمار الاستصلاح ونشدان النفع المطلق في الميادين السِّيَاسِيَّة والاقتصادية وأنواع المعاملات الأخرى، فإن العقل الإنساني قد أسهم ولا يزال يسهم فيه بحظ وافر، وعلينا نحن المسلمين أن نحصد مع الحاصدين، أينع ما أنتجه الاجتهاد الحر في هذه الحقول كلّها »(1).
وبهذا تتمثل دعوة الشيخ الغَزَالي إلى ما يسميه الاجتهاد الحر فيما هو خارج عن نطاق العبادات والعقائد.
وعليه، فإن المصلحة هي المصدر الذي يستنبط به الأحكام الشَّرْعية للقضايا المعاصرة وعلى ضوئها يتعامل مع التراث الفِكْري الإسلامي، بل جعلها المقياس لكل اجتهاد فقهي، بل تجاوز ذلك إلى القول بأن المصالح مقدمة على النُّصُوص الشَّرْعية الظنيّة وفي ذلك قوله: « إن مصالح الناس المرسلة لو وقف دون تحقيقها نصّ أُوِّلَ هذا النّص وأُمضيت المصالح التي لا بدّ منها »(2) ويقول: « أنه لا فرق بين مقتضيات الفطرة السليمة وتعاليم الدين... أنني أحياناً أصحح بعض الأفكار الدينية المائلة على ضوء سلامة الفطرة »(3) ويقول: « إن المصلحة العامة لها دخل كبير في قبول اجتهاد أو رفضه »(4).
ومن هذا المنطلق منطلق « أينما تكون المصلحة فثمَّ شرع الله »(5)، اعتمد الغَزَالي في التوفيق بين الإسلام والأفكار الغَرْبيّة وعلى ضوئها كان تسويغ الغَزَالي لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي.
وفي ذلك يقول:
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام ، (212).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية ، (169).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: مائة سؤال عن الإسلام ، (2/23).
(4) الغَزَالي، الشيخ محمد: مستقبل الإسلام خارج أرضه ، (127-128).
(5) الغَزَالي، الشيخ محمد: مائة سؤال عن الإسلام ، (2/24).(2/94)
- « فلما أتى الوحي كانت وظيفته الأولى أن ينقي هذه المعاملات من الأدران التي لصقت بها، وأن يدخل في جوهرها ما يجعلها تتفق مع مبادئه ومثله ولذلك أدارها الإسلام على رعاية المصلحة وتحقيق العَدالَة»(1).
- « ولنا أن ننظر إلى حاجات شعبنا ومطالب عصرنا... ونضع لأنفسنا ما نشاء من النظم الاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية التي نراها كفيلة بتحقيق أهدافنا الكبرى في ميادين الإصلاح العام...» (2).
- « لم هذا الغض من قيمة الثمار التي وصل إليها غيرنا في أفق المصالح المرسلة؟ وما معنى الركون إلى أبنائنا وحدهم إذا كانوا قد قصروا في ناحية فاقهم فيها غيرهم؟ فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها »(3).
- « فمن الذي يصدنا عن اجتلاب هذه القوانين... إن الإسلام استهدف العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والسِّيَاسِيَّة يقيناً وترك وسائل تحقيق هذه العَدالَة وفق أطوار الزمان ومصالح الناس(4).
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: هذا ديننا ، (182-183).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية ، ص(205).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام ، (210-211).
(4) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام ، (207).(2/95)
وعليه فإن الشيخ الغَزَالي كان أكثر هؤلاء المُفَكِّرين المعاصرين انفتاحاً على الثقافات الغَرْبيّة وأكثرهم مرونة وتساهلاً مع المفاهيم الغَرْبيّة وأكثرهم وضوحاً وجرأة وصراحة في الدعوة إلى التوفيق بين الإسلام والمفاهيم الغَرْبيّة، وكيف لا يكون كذلك وهو القائل: « أما الذي نراه ممكناً، بل واجباً فهو التوفيق مثلاً... بين مبادئ العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وبين الأجهزة الإدارية والمالية الرائعة التي تفتقت عنها الاشْتِراكِيَّة الحديثة(1) ، وقوله: «إن العقل الأوروبي من أقرب العقول إلى الإسلام »(2) ، وقوله: « أحياناً أنظر إلى حضارة الغَرْب فأجدها-على ما بها- أقرب إلى فطرة الله من ضروب التكلف والتزوير التي نمارسها بالليل والنهار»(3).
ويشمتل على مطلبين اثنين :
1- المطلب الأول ... : حقيقة الحَضَارَة الإسْلاميَّة والغَرْبيّة.
2- المطلب الثاني ... : مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة من المنظور الشَّرْعي.
... ... ...
ويشتمل المطلب الثاني على ثلاث مسائل:
1- المسالة الأولى ... : فقه واقع العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.
2- المسألة الثانية ... : فهم الواجب في العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.
3- المسالة الثالثة ... : محاذير في فهم واقع العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.
...
... لم يكن اختياري لهذا العنوان، عن قناعة بمضمونه، ولكنه مسايرة على طريق المناقشة والمحاورة للتطلعات الهائجة، والنظرات المائجة لدى كثير من الباحثين والمُفَكِّرين الإسلاميين في الأحقاب المعاصرة.
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: كيف نفهم الإسلام ، (213-215).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: مستقبل الإسلام خارج أرضه ، (147).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: مشكلات في طريق الحياة الإسْلاميَّة ، ص (51).(2/96)
... أولئك الذين ما فتئوا يرددون القول بأن أساس كل تخلف تعانيه هذه الأمة، إنما يتمثل في إقامة السُتر والحجب التي لا داعي لها بين الحَضَارَة العصرية الوافدة، والمبادئ الإسْلاميَّة الأصيلة التي جمدها الفقهاء بجمودهم الفِكْري وفصلوها عن شرايين الحياة الإنسانية المتطورة.
ولقد قام من هؤلاء من يقول:
« أريد من أمتنا أن تقتبس من حضارة الغَرْب ما يوافق أو يتوائم مع فطرة الله في مواريثنا »(1).
« وإن العقل الأوروبي من أقرب العقول إلى الإسلام »(2) و « يجب أن نستفيد من الدساتير الحديثة... وحاجة الدين إلى هذه المعاني-ليبقى كحاجة الإنسان إلى الهواء ليحيا »(3).
... وظهر أيضاً من ينادي باكتشاف الإسلام، وتفجير طاقاته الخلابة وربطه بحياة العصر حتى لا يشعر المسلم بالغرْبة في الحياة المعاصرة.
... وقام فيهم من يدعو صراحة إلى اعتماد منهج جديد لفهم النُّصُوص القرآنية، ولو استدعى ذلك تجاوز الكثير من قواعد النحو العربية، من أجل تيسير عملية التوفيق بين الإسلام وبين سلطان الحَضَارَة الحديثة عَبر مداخل متنوعة منها ما يُسمى بـ (الإسقاط المصطلحي)وهي عملية ذات شقين:
__________
(1) الغَزَالي، الشيخ محمد: مائة سؤال عن الإسلام ، (2/383).
و انظر مجلة الأمة القطرية مقَالَ : «كيف نقتبس من هذه الحَضَارَة» للشيخ الغَزَالي. عدد 37 السنة الرابعة، المحرم 1404هـ/ تشرين أول 1983م ص، (15).
(2) الغَزَالي، الشيخ محمد: مستقبل الإسلام خارج أرضه ، ص (147).
(3) الغَزَالي، الشيخ محمد: الإسلام والأوضاع الاقتصادية ، ص (34و 129).(2/97)
أولها: طرح مصطلحات جديدة مستحدثة مع إعطائها مضمونا عاماً غير منضبط، ممّا قد توافقهم عليه من الوجهة المبدئية كلفظ التقدمية والمعاصرة ونحو ذلك ، فإذا ما استقر المصطلح بذهن القارئ على أنه حقيقة ثابتة يبدؤون بطرح المصطلح بمضمون محدد وأفكار منضبطة تؤدي إلى هدفهم المنشود في غرس الفِكْرة الغَرْبيّة في الفِكْر الإسلامي .
ثانيها: الموافقة على المصطلحات الإسْلاميَّة كالشورى والعَدالَة والحاكميّة ثمّ تقديم مضمون آخر لهذا المصطلح، بعيد عن مضمونه الأصلي الثابت في نظر الفِكْر الذي وُلِد فيه(1).
ومن أمثلة ذلك: يُقر الأستاذ خالد محمد خالد أنّ « أعظم مزايا الإسلام احترامه المعاصرة»(2). ثمّ يطرح لنا معنى المعاصرة بمفاهيم عامّة وغير منضبطة، فيقول: « ومعنى المعاصرة قدرته-أي الإسلام-بمبادئه وبتجربته على التفاعل الذكيّ مع التطور المستمر لأشكال الحياة واحتياجات الناس والذين يُجردون الإسلام من مزية المعاصرة، إنما يسلبونه حقّه في أن يكون ديناً عاماً وخالداً(3).
__________
(1) سلطان ، جمال: غزو من الداخل ، ص(22). و انظر: للمؤلف نفسه تحت عنوان : (الإسقاط المصطلحي... مداخله ومخاطره ) مجلة الأمّة القطرية عدد رمضان 1406 هـ.
(2) خالد، محمد خالد: قد سألت وإليك الجواب، الأهرام القاهريّة ، في 24/6/1984م .
(3) خالد، محمد خالد: قد سألت وإليك الجواب، الأهرام القاهريّة ، في 24/6/1984م .(2/98)
وهذا كلامٌ عام غير منضبط لأنه يطبق على الفنّ والمسرح والسينما والموسيقى ونحوها وما يقبل منها وما يرد، ولذلك وجدناه يحدد الضابط للحكم عليها فيقول: « إنه الذوق العام للمجتمع في ظلّ القيم الخالدة التي يدور في فلكها الجنس البشري كلّه وليس المسلمون وحدهم »(1). إذاً فالمعاصرة عنده تعني إقصاء النُّصُوص الشَّرْعية عن مكان الحاكمية لله وإعطاء هذه الحاكمية والتشريع للبشر « الذوق العام للمجتمع » حتى المجتمع غير المسلم.
... وباختصار، فإن كثيراً من المعاصرين يشترطون في نهضة المسلمين تطوير الإسلام على نحو يجعل منه وعاءً مقدساً لاستيعاب منجزات الحَضَارَة الغَرْبيّة والمحافظة عليه.
... ومن الواجب علينا أن نناقش هذه الدعوة من سائر أطرافها، مناقشة علمية هادئة لنصل في أعقاب هذه المناقشة إلى قناعة تامة بأن العنوان الجدير بالبحث هو « البحث عن سبيل لمجابهة المفاهيم الغَرْبيّة والتحصّن منها بأصول الحَضَارَة الإسْلاميَّة».
وللبدء في محاورة منهجية رشيدة مع أصحاب هذه الدعوة والهائجين في سبيلها، لا بدّ من بيان معنى كل من الحَضَارَة الإسْلاميَّة والحَضَارَة الغَرْبيّة، باعتباره نقطة مهمة كثيراً ما يغفلها الباحثون في دراساتهم مما تجعل أبحاثهم أشبه بسلسلة لا تنتهي ولا يعرف لها طرف أو هدف.
... لا بدّ للباحث عن صيغة للتوفيق بين الحضارتين الإسْلاميَّة والغَرْبيّة من الإجابة الصادقة الدقيقة عن سؤالين كشرط لا بدّ منه لإمكانية السعي في طريقه وهما:
__________
(1) خالد، محمد خالد: قد سألت وإليك الجواب، الأهرام القاهريّة ، في 24/6/1984م .(2/99)
السؤال الأول: ما هو التصور المستقر في أذهاننا عن الإسلام؟ أهو تشريع إلهي أوصى الله بتعاليمه إلى النَّبِيّ محمد عليه الصلاة والسلام، وكلّفه بتبليغه للناس كافة ودعوتهم إليه لما فيه صلاح معاشهم الدنيوي ومعادهم الأخروي، فتكون حضارته على ذلك هي مبادؤه ومفاهيمه في الحياة، أم أن الإسلام هو تراث فكري عربي اقتضته طبيعة هذه الأمة وحتمية التطور نحو الأفضل فيكون الإسلام على ذلك هو ثمرة الحَضَارَة العربية وواحد من أجل آثارها؟
وبتعبير أقصر وأخصر، هل الإسلام أصل أصيل والحَضَارَة الإسْلاميَّة فرع بسق منه ؟ أم الحَضَارَة العربية هي الأصل والإسلام هو المتفرع عنه؟
السؤال الثاني: ما هو المعنى المرتسم في أذهاننا والمتصور في عقولنا لكلمة الحَضَارَة الغَرْبيّة؟ هل المعني بها آثارها ونتائجها السائدة المنتشرة في المجتمعات الغَرْبيّة والوافدة إلينا بطبيعة الحال، والمتمثلة في كثير من مظاهر التحلل السلوكي، والمناهج التربوية وأنظمة الأسرة، وسياسية الاقتصاد وأصول الاجتماع، أم المراد بها منطلقات هذه المظاهر ومرتكزاتها الكبرى المتمثلة في تصور الغَرْبيّين لحقيقة كل من الكون والإنسان والحياة ثم الطاقة المادية والعلمية التي هي الأداة التنفيذية لسائر المنجزات؟
... هذان السؤالان يمثلان العمود الفقري في مضمون الدعوة التي يهيج في طرحها جمهرة من الباحثين المعاصرين، ومع ذلك فإن ثلّة قليلة واجهت هذين السؤالين بإجابة صريحة عنهما، وبقي الآخرون يؤثرون الصمت والضياع على اختلاف مناهجهم.
... وعندما يؤثر أصحاب هذه الدعوة الصمت فإن بوسعنا أن نتولى الإجابة عنهم وأن نصنف حقيقة الإسلام القائم في أذهانهم والحَضَارَة الغَرْبيّة التي تطمح إليها أبصارهم.(2/100)
... إن الإسلام الذي يتصورونه، إنما تكمن قيمته في أنه تراث عزيز لهذه الأمة جاء ثمرة فكر عربي خلاّق واقتضاه قانون التطور الإنساني وسعة الدأب نحو الأفضل في هذه الحياة، وهو يتصف بالاستمرار والبقاء والخلود والصلاحية إلى غير ذلك من الأوصاف.
... ولكن ما معنى أن يتصف الإسلام عندهم بهذه الأوصاف ونراه يفقد قيمته وأحكامه عند ربطه بحياة العصر؟
« إن معنى استمرار الإسلام في نظرهم ليس أكثر من معنى استمرار النهر في تدفقه وسيلانه، هو باقٍ ومستمر من حيث الحقيقة والنوع ولكنه متبدل ومتناسخ من حيث الماء الذي يجري بين ضفتيه، إذ تتلاحق منه أمواج ودفقات حديثة على إثر نظائرها الذاهبة المتبددة »
ويقول الدكتور البوطي(1): « وبوسع أحدهم أن يصف الإسلام الذي هذا هو المقصود به بالخلود، واستمرار الصلاحية والبقاء، ما طاب له ذلك، دون أن يكلفه هذا الوصف ارتباطاً بأي حكم من أحكامه أو مبدأ من مبادئه، فإن الذي يتصف منه بالخلود إنما هو روحه، وإنما روحه ذلك المسيل الاعتباري المستمر الذي تتناسخ في داخله القيم والأحكام، حسبما تقتضيه حياة العصر، ويستلزمه واقع الحضارات »(2).
... وأما الحَضَارَة التي يسعون إلى توفيق الإسلام معها، فإنما منجزاتها وآثارها الجزئية التي يصطبغ بها واقع المجتمعات الغَرْبيّة اليوم وتتمثل مجتمعة في حياة الترف واللهو وتحطيم الحواجز العائقة عن مزيد من التمتع بالدنيا ونعيمها أياً كانت هذه الحواجز ومها كانت قيمتها.
... ولكنْ هل الإسلام الذي تعتنقه أكثرية هذه الأمة، هو هذا الإسلام الذي يتصورون حتى يخضع لهذا الاحتواء والاستيعاب؟
__________
(1) د. محمد سعيد رمضان البوطي من علماء الشام المعاصرين، له مؤلفات كثيرة مطبوعة، وهو أستاذ محاضر في كليّة الشَّرِيعَة بجامعة دمشق.
(2) البوطي: د. محمد سعيد رمضان، مجلة الأمة القطرية العدد الحادي والثلاثون، السنة الثالثة ، ص(10).(2/101)
... إن الإسلام الذي تلقته هذه الأمة، فاعتنقته، عن طواعية ويقين، إنما هو جملة تعليمات إلهية تنزلت بيقين لا ريب فيه من لدن قيّوم السماوات والأرض على الصفوة المختارة من خلائقه تعرفهم بأنهم عباد مملوكون لله تعالى، ثم تدلهم على الطريق الأمثل للتعامل مع الكون والإنسان والحياة.
... والإنسان في ظلّ هذه العبودية يجزم بيقين أنه إنما يتقلب في سلطان الله تعالى وأنه أعجز عن أن يحكم نفسه بنفسه، أو أن يستقل في إقامة علاقته بالمكونات المنثورة من حوله، على النحو الذي يحقق له السعادة والخير. ثمّ إن هذه التعليمات لا يمكن أن تتمثل إلاّ في نصوص، ولا يمكن لهذه النُّصُوص أن تفهم إلاّ بمعيار القواعد التي تفهم بواسطتها النُّصُوص المشابهة الأخرى، في نطاق اللغة ذاتها، وهذه النُّصُوص تتمثل في الوحي والذي هو الكتاب والسنة، إذ أنهما مصدر تصور الإنسان للكون والحياة وللإنسان، ومنبع الفِكْر، ومنهج الحياة، تتشكل منهما المبادئ والشرائع والأنظمة التي تنظم المجتمع الإسلامي وتنبثق منهما المفاهيم عن الحياة والتي تشكل ما يسمى بالحَضَارَة الإسْلاميَّة، وهذه الحَضَارَة ما بسقت في ماضيها المشرق، إلاّ بعد أن أخضع أهل تلك الحَضَارَة أفكارهم وأنفسهم لضوابط الإسلام متمثلة في نصوصه وقواعده على أتم وجه.
... فكيف يمكن إذن أن نعمد اليوم فنستبدل بنصوص الإسلام ما يسمى بروحه، ثمّ نجعل منها روحاً طليقةً وصدراً واسعاً رحباً لاستيعاب كل ما قد يلذ لنفوسنا من مشتهيات وأهواء، في حين أن الإسلام ما جاء إلا ليبسط سلطانه عليها بالتنظيم والتقييد والمنع إذا اقتضى الأمر؟
... إن السبيل مختلفة جداً بيننا نحن الذين ما عرفنا الإسلام إلا انضباطاً بمعاني العبودية الكاملة لله تعالى والمنزلة وحيا من لدنه وأولئك الذي شاؤوا أن يفهموه تراثاً خلفه الآباء والأجداد، وثورة إصلاحية هبّت على أرض الجزيرة العربية يوماً من الأيام.(2/102)
... وإذا كان السبيل مختلفاً هكذا بدءاً من جذور المسألة وأصولها، فأنّى للحوار أن يثمر اتفاقاً على رأي؟ فلا يمكن لخطين متوازيين أن يلتقيا على نقطة واحدة !
... أما حقيقة الحَضَارَة، أي حضارة فما هي إلاّ « مجموع المفاهيم عن الحياة » من وجهة نظر معينة وبذلك تكون الحَضَارَة الإسْلاميَّة هي: « مجموعة المفاهيم عن الحياة من وجهة نظر الإسلام»(1) وهي طراز خاص ونمط معين لحياة المجتمع الإسلامي، ولسلوك أفراده وقد نتجت هذه الحَضَارَة عن تنظيم الإسلام لعلاقة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره تنظيماً شاملاً لكل شيء أو فعل بينما الحَضَارَة الغَرْبيّة هي: مجموعة المفاهيم عن الحياة من وجهة نظر المبدأ الرأسمالي الذي أساسه فصل الدين عن الحياة، وبهذا يكون الإنسان هو المشرع والراعي لشؤونه.
... فإذا ظهر لنا « أن الحَضَارَة في جوهرها وحقيقتها ثمرة التفاعل الذي يتم على نحو ما بين الإنسان والكون والحياة تصوراً أولاً، وسلوكاً ثانياً »(2).
فإنها تصلح أو تفسد بمقدار ما يكون ذلك التفاعل الثلاثي سديداً أو غير سديد.
فربّ حضارة كست أصحابها رداء الخير والسعادة من كل الوجوه، وربّ حضارة كانت وبالاً على أصحابها، ولو كان أي إقبال من الإنسان على الكون والإنسان والحياة، من شأنه أن يثمر حضارة رشيدة صالحة، لكان الإنسان في غنى عن أن يبصره القرآن بأفضل السبل إلى التعامل مع الكون والحياة، وعن أن يحذره القرآن من التنكب عن الطريق الأمثل، ويخوفه من عواقب ذلك.
ثمّ إن الناس حيال الأخذ بمظاهر الحَضَارَة أياً كانت فريقان:
فريق يبدع لنفسه أصولها، ثم يسعى في الطريق الذي ترسمه له تلك الأصول. وفريق آخر يتبع أو يقتبس أو ينتفع دون أن يتخذ لنفسه أي موقف من أصول تلك الفروع التي طاب له إتباعها افتتناناً وتقليداً.
__________
(1) عبد الله، محمد حسين: دراسات في الفِكْر الإسلامي، ، ص (74).
(2) البوطي: مجلة الأمة القطرية، العدد السابق،ص (11).(2/103)
والغَرْبيّون هم من الفريق الأول، فقد اختاروا لأنفسهم أصول حضارتهم التي يتمتعون بها منذ أن وطئت أقدامهم هذه الأرض إبان العصور الوسطى بقطع النظر عن تقويم هذه الأصول في ميزان الصلاح والفساد.
وقد يحلو لكثير من الكتاب والباحثين أن يقولوا في نشوة ومباهاة:
... إن الغَرْب أخذ أصول حضارته منا، ثمّ غرسها في أرضه ثم أتقن خدمة الغراس ورعايته، فأثمر الغرس كل هذا الذي يتمتع به الغَرْب اليوم غنى وقوة وعلماً. والحقّ أنهم مخطؤون في هذا التصور خطأ فادحاً مها كثر الذين يرددونه.
« لو صحّ أن الغَرْب إنما أخذ أصول حضارته من العالم الإسلامي أيام ازدهاره إذن لوجب أن تكون الحَضَارَة الغَرْبيّة اليوم إسلامية في فلسفتها واتجاهاتها ضرورة أن الفروع لا بدّ أن تتبع أصولها، فالغَرْب عندما اقتبس من عالمنا الإسلامي علومه وفلسفته وصنائعه، إنما تزود من ذلك كلّه بالضياء الذي يبصره بالنهج الملائم لعقيدته الخاصة به والمتفق مع الصورة المعتمدة لديه عن الكون والإنسان والحياة»(1).
لقد أخذ الغَرْبيّون عن الغَزَالي التحليل الفلسفي الذي اعتمده لمظهر الصلة القائمة بين العلة والمعلول، أو السبب والمسبب حيث أكدّ أنها ليست أكثر من صلة اقتران مجرد فارغة عن أي دلالة علمية على أي فاعلية ذاتية تكمن وراءها. وإنما كان منطلقه في ذلك إثبات أن الفاعلية الحقيقية إنما هي لله عزّ وجلّ غير أن الغَرْبيّين استلّوا هذا التحليل من مجموع النظرية الفلسفية التي نادى بها الغَزَالي ليدعموا بها مذهبهم الخاص بهم في الفلسفة الوضعية التي تقيم التجربة والمشاهدة، مقام أي برهان فكري وحكم تجريدي، وهكذا اتخذ الغَرْبيّون من اكتشاف الغَزَالي لهذه الحقيقة دعامة لنزعتهم المادية، بينما لم يقيمه الغَزَالي إلاّ برهاناً على وحدة الخالق ووحدة الفاعلية في الكون.
__________
(1) البوطي: مجلة الأمة القطرية، العدد السابق،ص (12).(2/104)
وأخذ الغَرْبيّون من ابن رشد حتى كثر القول في الفلسفة العربية اليوم حول هذا الاقتباس، ولكنه حقيقة الأمر لم يأخذ الغَرْب من ابن رشد إلاّ ما ورثه من أرسطو، أما سائر أفكاره التي جاءت ثمرة تصوره الإسلامي الأصيل فقد نبذه الغَرْبيّون وراءهم ظهرياً، أي أنهم لم يزيدوا على أنهم استعادوا الفلسفة اليونانيَّة من خلال ابن رشد.
وأخذ الغَرْبيّون أصول الجراحة من الجراح المسمى بـ « أبو القاسم الزهراوي»(1)، ولكن هل من شكّ في أن الجراحة العربية بحد ذاتها إنما كانت تنتمي إلى أصل يوناني؟ وهذا يعني أنهم استعادوا أصولهم اليونانيَّة من خلال أبي القاسم وأمثاله.
وأخذ الغَرْبيّون من منهج ابن سينا وقانونه في الطّب، ولكنهم وضعوها في ميزان رؤيتهم الذاتية للكون، فكان أن استبعدوا أهم أصوله الأَسَاسيَّة، ألا وهو إقامة قوانين الطب على فلسفة متكاملة متفرعة من وحدة كليّة جامعة بين الفرد والمجتمع والروح والعقل والجسد والبيئة، واتجهوا بقوانينهم الطبيّة في اتجاه جانب واحد منفصل عن سائر الجوانب الأخرى اعتماداً على رؤيتهم التي لا تقر بتمازج تلك الجوانب، وبديهي أنّ انطلاق أمثال الرَّازي وابن سينا من اليقين الجازم بوحدتها، إنما هو أثر للرؤيّة الإسْلاميَّة التي تحذر الإنسان من توهم أي انفصال بين هذه الأجزاء في نطاق الخلق والتكوين من جانب، وفي ساحة التفاعل من جانب آخر.
__________
(1) هو أبو القاسم خلف بن عَبَّاس الزهراوي، المولود في مدينة الزهراء بالأندلس عام (327هـ-926م) مارس مهنة الطب والجراحة في بلاط الخليفة عبد الرحمن الناصر. من مؤلفاته: التصريف لمن عجز عن التأليف، يبحث فيه تركيب الأدوية والتشريح والأمراض وأعراضها وعلاجها والمستحضرات واستعمالها والجراحة وأدواتها والجبائر وطرقها. توفي عام 1013م. انظر: مجلة الفِكْر الإسلامي، بيروت، العدد الخامس/ أيار 1982م.(2/105)
وفي مقابل ذلك فإن كثيراً من الباحثين يتوهمون أن أئمة المسلمين اقتبسوا حضارتهم من الفلسفية والمعارف اليونانيَّة ومن أصول الحضارات التي كانت سائدة من حولهم وهذا خطأ فادح !
إن صلة الحَضَارَة الإسْلاميَّة في بدء أمرها بهذه الحضارات كانت الثورة على مبادئها ومخلفاتها وأدرانها... وكشف هذه المعتقدات الباطلة والديانات المحرفة... وإذا أردنا أن نرى هل أخذت حضارة الإسلام من تلك الأمم شيئاً ننظر إلى تلك العناصر التي تتألف منها كل حضارة، ونقرر بعد ذلك عن علم ودراسة، هل أخذ الإسلام من هذه الأمم شيئاً؟ والعناصر هي تصور للحياة وغايتها وعقائد ومبادئ أساسية ومنهج تربوي ونظام اجتماعي... ولا شكّ أن عناصر الحَضَارَة الإسْلاميَّة ربانيّة في جذورها وأصولها وينابيعها(1).
يقول المؤرخ «كروبر» في كتابه طبيعة الثَّقافَة: « إن الإسلام لا يخضع للمقاييس التي يخضع لها غيره، من الظواهر الروحية والاجْتِمَاعِيَّة إذ لم تكن له طفولة أو شباب، بل انبعث ظاهرة متكاملة غاية التكامل»(2).
__________
(1) الواعي، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة،ص (365-366).
(2) الواعي، د. توفيق يوسف: الحَضَارَة الإسْلاميَّة مقارنة بالحَضَارَة الغَرْبيّة،ص (330).(2/106)
ويقول الأستاذ محمد أسد(1) (ليو بولد فايس ) : « واضح إذن أننا مهما أوغلنا في التنقيب والبحث فيما سلف من حضارات البشر فلن تجد توقيتاً معيناً نستطيع أن نحدده بدءاً لحضارة ما، أو تاريخاً لمولدها، ولا أن تعين حداً فاصلاً يميز بين حضارة ولّت وأخرى أشرق عليها النور وتبدت للوجود. ولكن هناك استثناء واحد لكل ما أسلفنا من قول، استثناء تكاد لغرابته تذهل العقول وتنعقد الألسنة فلم يذكر تاريخ البشر فيما عرفه الناس من حضارات سوى حضارة واحدة برزت للوجود في فترة محدودة من تاريخ البشر تلك ولا شكّ حضارة فذّة من نوع فريد وإنها لحضارة الإسلام فلئن قامت كل الحضارات الأخرى ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرَأْي وتيارات الفِكْر واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاص وكيانها المحدد آماداً طويلة من الزمن ، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار.
__________
(1) محمد أسد ، ليو فولدفايس ، كما كان اسمه قبل إسلامه ، ولد في مدينة ليغوب بالنمسا والتي أصبحت فيما بعد بولندا عام 1900م. ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره، قام بزيارة الشرق الأوسط وأصبح بعد ذلك مراسلاً خارجياً شهيراً لمجلة فرانكفورتر زايتونج ، شغل منصب ممثل الباكستان الدوري لدى الأمم المتحدة، له مؤلفات عديدة بالألمانية والإنكليزية والعربية . انظر العشي: رجال ونساء أسلموا، (2/54-55) بتصرف.(2/107)
وقد جمعت هذه الحَضَارَة من فجر نشأتها كلّ المقومات الأَسَاسيَّة لحضارة مكتملة شاملة، فقامت في مجتمع واضح المعالم له نظرته الخاصة إلى الحياة، وله نظامه التشريعي الكامل وله منهجه المحدد للعلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع، ولم يكن قيامها ثمرة تقَاليد زخر بها الماضي، ولا وليد تيارات فكرية متوارثة، ولكن هذه الحَضَارَة كانت وليدة حدث تاريخي فريد هو تنزيل القرآن الكريم(1).
فما فعله علماء المسلمين في إقبالهم على أصول الحضارات المجاورة كانت ترجمة ودراسة وهضماً ليس أكثر مما فعله الغَرْبيّون عندما اتصلوا بأصول الحَضَارَة الإسْلاميَّة في أعقاب حملاتهم الصليبية.
دعك من قلّة يسيرة أفرغوا بعض المذاهب الفلسفية الإغريقية في أوعية أذهانهم دون أي تفحص وتمحيص، ولكن ما أن تقع هذه الأفكار تحت مجهر الفِكْر الإسلامي الأصيل، تجد أنها تفككت وتحولت إلى ما يشبه الأنقاض المتهاوية في زوايا الإهمال.
__________
(1) أسد: الأستاذ محمد ( ليو بولد فايس ): الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة د. عمر فروخ، ص(60).
... وانظر الإسلام والتحدي الحضاري، بأقلام عشرة من علماء الإسلام، ص(19-20).(2/108)
أريد أن أصل من هذا إلى بيان أن الأمة التي تتمتع بأصالة حضارية (صالحة كانت أم فاسدة) لا يمكن أن تعمد إلى مزج منطلقاتها الحضارية بمنطلقات أخرى ولو جاء ذلك باسم التنسيق والتوفيق والانفتاح، إلاّ إذا قررت هذه الأمة بمحض اختيارها أن تخلع ثوبها الحضاري لترتدي غيره، وعندئذ لن ترتدي إلا مِزقاً ورقاعاً مما عند الآخرين. هذا فيما يتعلق في الأصول الحضارية، لا فيما يتعلق بالمَدَنيَّة التي تنتج عن العمل وتقدمه والصناعة ورقيها، فهو مما لا تختص به أمّة من الأمم بل تكون عالمية « فهناك فرق كبير بين عالمية الحقائق العلمية والمنافع الإنسانية التي لا يمكن أن تقوم أي حضارة في العالم، إلا على أساس التعامل معها استيراداً وتصديراً، وبين خصائص الذات التي تتمتع بها أي أمّة ذات ميراث أو منهج حضاري متميز، فضلاً عن واقع أمّة أذعنت يقيناً ووجداناً بأن هذا الكون صنعة مكونة، وأن الإنسان مكلف من قبل هذا المكون العظيم الذي لا ثاني له، بأن يمارس العبودية الحقيقية له، وبأن يعمر هذا الكوكب الأرضي طبق المنهج الذي رسمه له في قرآنه ومن ثمّ فهي لا تستطيع أن تختار لنفسها أي بديل »(1).
فإذا عرفنا هذا كلّه، فلنبحث عن الأرضية الحضارية التي نقف عليها في هذا العصر قبل أن نتأمل في أطروحة الدعوة إلى التوفيق بين الحضارتين الإسْلاميَّة والغَرْبيّة:
إننا بحق لم نعد نملك اليوم أي ذاتية تستبين من خلالها أي منطلقات فكرية أو ثقافية متميزة تحدد معالم وجودنا الحضاري، حتى يحق لنا أن نبحث في مشروع التوفيق أو التنسيق المزعوم مع حضارة الغَرْب وما ارتبط بها من مدنية معاصرة.
__________
(1) البوطي: مجلة الأمة القطرية، ص (13).(2/109)
لأننا لا نقدم الإسلام كنسق لا يقبل التفكيك أو ككيان عضوي متكامل كنظام الذرَّة والخلية ومعلوم أن الأنساق لا تفكك، وإذا فككت دمرت، وإن كثيراً من المُفَكِّرين الإسلاميين-وفي هذا القرن بالذات- ليقومون بدور تفكيك الإسلام ظنّاً منهم أن يعودوا إلى تركيبه بعد ذلك تركيباً عصرياً فيأخذون منه إفراد الله بالعبودية » ليروجوا لـ « الليبرالية » مع أنّ إفراد الله بالعبودية جزء من النسق الإسلامي العام و الليبرالية جزء من النسق العَلْماني العام فهيهات... ويأخذون منه رعاية الإسلام للفقراء ليروجوا للاشتراكية ورعاية الفقراء جزء من النسق الإسلامي، وإفقار الأغنياء جزء من النسق الشيوعي وقَالوا الحَضَارَة هي العلم والإسلام دين علم وتغافلوا عن وضعية العلم في البناء الإسلامي، وهي وضعية الأداة التنفيذية، لا الفيلسوف ولا المشرع ولا المنظر، ولا المقيِّم للأشياء، وقَالوا هي العقل والإسلام دين العقل، وتغافلوا عن وضعية العقل في الإسلام وهي وضعية المخلوق الساجد لأمر الله... صنعوا لنا ملامح القربى والتشابه مع الغَرْب ليمحوا تميز الإسلام وليسحقوا ذاتيته، ولتظلّ القبلة الحضارية هناك، صنعوا للحضارة الإسْلاميَّة ملامح القرب والتشابه وأعلنوها بغير خصوصية لتنزلق في مزالق التبعية.
فلمصلحة مَنْ إسقاط الخصوصية وإهدار الذاتية؟ أهو للمعاصرة كما يقولون؟! أم هو للتجديد كما يظنون؟ أولى بهم أن يسموا المعاصرة اعتصاراً والتجديد تبديداً، فإن فقدان الذاتيّة وتلاشي الخصوصية ليس بعثاً ولكنه احتضار.
يقول الشيخ محمد الغَزَالي: « بعد خمسين عاماً أو أكثر أمضيتها في الدعوة الإسْلاميَّة، أؤمن بالحريات ومن الضروري أن تأخذ الأمة حريتها مثل تلك الحريات الموجودة في إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية وكل بلاد العالم الحر»(1).
__________
(1) في مقابلة أجرتها جريدة «الحياة» مع الشيخ محمد الغَزَالي، نشرتها في (7،9،و 10 حزيران عام 1991م).
... وانظر: مجلة الوعي العدد رقم (51) ، تموز عام 1991م ، ص(7).(2/110)
وهذا القول يشابه قول طه حسين: « علينا أن نسير سير الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحَضَارَة: خيرها وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره ، وما يحمد منها وما يعاب »(1).
نعم لقد درج الفِكْر المعاصر على اصطياد جهات التشابه بين الإسلام وبين غيره من الأديان والمذاهب والأنظمة وجرى التركيز على ذلك حتى كدنا نرى كل دين أو مذهب أو نظام-قائماً بذاته هناك، يعلن تفرده وكينونته وشخصانيته وذاتيته ما عدا الإسلام.
فقلنا في الفلسفة اليونانيَّة : العقل، وفي الإسلام العقل ثم أخذنا بالفلسفة اليونانيَّة وقلنا في المسيحية المحبة، وفي الإسلام المحبة والرحمة ، وفتحنا الباب للتنصير، وقلنا في الإسلام الشورى وفتحنا الباب للديمقراطية، وفي الإسلام التعاون والتكافل وفتحنا الباب للاشتراكية وهكذا صار الإسلام مِزقاً وأشلاء ، إنّ الإبقاء على الذاتية لا يكون بإيجاد التشابه والمقارنة، بل بإبراز نقاط المفارقة والاختلاف، ففي الحَضَارَة الغَرْبيّة سيطرة الدنيوية، أما في الذاتية الإسْلاميَّة فسيطرة الأخروية، وفي الحَضَارَة الغَرْبيّة التسليم للإنسان، أمّا في الذاتية الإسْلاميَّة فالتسليم لله تعالى.
ذلكم جوهر الذاتية الذي في ضوئه يعاد النظر في كل ما يبدو من مظاهر التشابه بين الإسلام وبين الحَضَارَة الغَرْبيّة، فإذا لكل شيء من هذا التشابه معنى مختلف.
__________
(1) حسين، طه: مستقبل الثَّقافَة في مصر، ص(41).
وانظر: فرغل، د. يحيى هاشم حسن، الإسلام ومشكلة الحَضَارَة بين التعددية والصراع، ص(50).(2/111)
وفي مثال آخر يقول الأستاذ حامد أبو النصر المرشد العام للإخوان المسلمين: «نريدها ديمقراطية كاملة شاملة للجميع»(1) وذكرت مجلة لواء الإسلام مقَالة بعنوان : « الإخوان المسلمون والدِّيمُقْراطِيَّة» وفيها قَالَ عصام العريان: « لماذا نؤكد ونصر على أنّ الإسلاميين معادون للديمقراطية؟ إن هذا افتراء عظيم، فنحن أول من ينادي بالدِّيمُقْراطِيَّة ويطبقها ويذود عنها حتى الموت»(2).
وهذه مجلة «المجتمع» لسان حال الإخوان في الكويت تقول تحت عنوان عريض «الدِّيمُقْراطِيَّة في الكويت حق أم منحة»، يقول المقَال:
« لم تكن المشاركة الشَّعْبِية في الحكم في الكويت منحة أو هبة، بل كانت حقاً متفقاً عليه »(3) ومنذ ذلك الوقت والدِّيمُقْراطِيَّة الكويتية أصبحت حقاً دستورياً بعد أن كانت حقّاً عرفياً. وفي عدد آخر طالعتنا المجلة نفسها بافتتاحية قَالَت فيها: « حتى لا نقع في المحظور فنكون شركاء لله » ووصفت الدِّيمُقْراطِيَّة بوصفها الحالي: « تعتبر الدِّيمُقْراطِيَّة إشراكاً مع الله في التشريع»(4).
فكيف تكون الدِّيمُقْراطِيَّة حقاً لا يجوز التفريط فيه في عام وتكون شِركاً في عام آخر.
__________
(1) أبو النصر، حامد: مجلة «العالم»، عدد 21/6/1986م.
(2) العريان، عصام: مجلة «لواء الإسلام»، العدد 8 السنة 45 بتاريخ 20/10/1990م.
(3) مجلة «المجتمع» الكويت، في افتتاحية العدد 768 في 27/5/1986م.
(4) مجلة «المجتمع» الكويت، في العدد 516 في 17/12/1981م. وانظر: فرغل، د. يحيى هاشم حسن، الإسلام ومشكلة الحَضَارَة بين التعددية والصراع ، ص(47).(2/112)
وفي مثال آخر عندما خاض الدكتور مصطفى السباعي(1) معركة الدستور في سوريا عام 1950م، طالب بأن يكون دين الدَّوْلَة الرسمي هو الإسلام، فقامت القيامة عليه فردّ عليهم ردوداً ميّع فيها الإسلام تمييعاً لا مثيل له من خلال بيان أصدره قَالَ فيه:
« من واجبنا أن ندلي بحججنا وآرائنا ونطلع الرَأْي العام على حقيقة فكرنا وأن نناقش أدلة المخالفين ونفندها والأمر بعد ذلك كلّه للشعب، إذ هو مصدر كل سلطة، وسيادته هي السيادة الحاكمة التي تتمثل في مجلسه التأسيسي وحكومته الدستورية... وخلاصة القول إنّنا لا نريد انقلاباً في قوانيننا الحالية، وإنما نريد التقريب بينها في التشريعات المَدَنيَّة وبين نظريات الإسلام الموافقة لروح هذا العصر »(2).
وهكذا يتم التقريب بين الإسلام وقوانين مخالفة له، بل يجعلون القوانين الوضعية هي الأصل الذي يعرض عليها الإسلام فإن وافقها كان بها و إلاّ ضُرب به عرض الحائط.
__________
(1) د. مصطفى السباعي، ولد عام 1915م في مدينة حمص، تلقى العلوم الشَّرْعية على أبيه، ثمّ التحق بالمدرسة المسعودية الابتدائية ، ثم التحق بالثانوية الشَّرْعية ، نال درجة د.اه في التشريع الإسلامي عام 1948م، اشتغل بالتدريس وعيّن أستاذاً في كلية الحقوق بجامعة دمشق عام 1950م. شارك في حرب فلسطين عام 1948م ، نُفي إلى لبنان، تُوفي يوم السبت من تشرين الأول عام 1964م. من مصنفاته : أحكام الصيام وفلسفته، وأخلاقنا الاجْتِمَاعِيَّة.
انظر: يكن، فتحي: الموسوعة الحركية، (1/269-278) بتصرف.
(2) انظر هذا البيان في كتاب مصطفى السباعي : «رجل فكرة وقائد دعوة»، ص(93-98).
وكتاب: عثمان عبد السلام نوح «الطريق إلى الجماعة الأم»، ص(48-49).(2/113)
وهذا غيض من فيض، فأصولنا الثقافية التي كانت دعامة حضارتنا الإسْلاميَّة، ملقاة اليوم على رفوف الإهمال، بل مرمية في زوايا النسيان، وإنما نعكف اليوم على أصول ثقافية أخرى اقتطعناها كما هي من الغَرْب بما تحمله من تصورات وتسويغات للنزعة المادية التي تؤله الطبقية، وتجعل الإنسان سَيِّد نفسه، والمالك لمصيره.
يقول الدكتور البوطي: « ففنون التربية وعلوم النفس والاجتماع والأخلاق التي تدرس في مدارسنا وجامعتنا، ليست إلا مجموعة نظريات ومواضعات وُضعت تعبيراً عن النظرة الغَرْبيّة إلى الوجود ودعماً لأصول الفلسفة الاجْتِمَاعِيَّة التي ارتضاها الغَرْب لنفسه لا جرم أنها بطبيعة الحال تتناقض بشكل حاد مع مبادئنا ومسلماتنا الإسْلاميَّة الراسخة التي كانت إلى الأمس القريب مصدر تفوقنا وسياج حضارتنا».
والغريب أن علوم التربية والاجتماع في كل المجتمعات تعبير عن أصولها الفِكْرية وفلسفته الحضارية، إلا في مجتمعنا العربي فهي في الغَرْب المادي مرآة لواقع الحَضَارَة الغَرْبيّة، وتصوير للقيم من وجهة نظر الغَرْبيّين.
أما نحن المسلمين، فلا ندرس علم الاجتماع أو التربية والأخلاق إلا من وجهة نظر هذا الفريق أو ذاك، ولا نقبل عليه إلا مصبوغاً بصبغة مجتمعاتهم وتصوراتهم، ولا نريد فيه إلا نظرياتهم وقد كان أقل ما تستدعيه الكرامة الذاتية أن نصبغ هذه العلوم الثقافية بدورنا بصبغة ما ارتضيناه وأيقنا به من الحقائق والمسلمات الإسْلاميَّة التي لا نزال ندعي بألسنتنا على الأقل، إننا مذعنون لها أمناء عليها.
« إذن، فنحن اليوم لا نقف على أي أرض حضارية تعبر عن ذاتيتنا، وإنما نقف على عتبات الآخرين، بقطع النظر عن هذا الذي نستعيد ذكراه بين حين وآخر، بكثير من النشوة والاعتزاز من أمجاد حضارية لنا سادت طويلاً، لأسباب معروفة، ثم بادت لأسباب معروفة أيضاً»(1).
__________
(1) البوطي: مجلة الأمة القطرية، ص(13).(2/114)
فأي معنى بقي لطرح فكرة التنسيق والتوفيق بين الحضارتين الإسْلاميَّة والغَرْبيّة؟ وحال الخلف المعاصر أنهم مستسلمون لأمواج الثَّقافَة الغَرْبيّة استسلاماً منكراً مهيناً يجمِّلون أنفسهم بها ويصبغون حياتهم وأفكارهم بألوانها دون أن يستنهضوا عقولهم لأي تمحيص، ودون أن يملكوا إلا الانبهار بها والتقريظ لها، على الرغم مما هو محشو في تضاعيفها من باطل التصورات والأفكار.
وما هي حاجة استنهاض الفقهاء والمجتهدين إلى فتح الأقنية الاجتهادية بين الإسلام ومظاهر الحياة العصرية الوافدة من الغَرْب؟ وكأن هؤلاء المستنهضين لم ينجرفوا بعد في تيار هذه الحياة الغَرْبيّة على علاتها، ولم يفرقوا فيها من الأخمص إلى الرأس، وكأنهم ثابتون صامدون صابرون، لم يسمحوا لأنفسهم بمس شيء من مظاهر تلك الحياة، في انتظار أن تصدر لهم الفتاوى بذلك من علماء الإسلام ومجتهديهم !
إننا نقع اليوم في منطقة جاذبية الحَضَارَة الغَرْبيّة، تشهد على ذلك مرافقنا ومؤسساتنا الإعلامية وتنطق بذلك اتجاهاتنا الأدبية والفنية والثقافية، ومظاهر حياتنا الاجْتِمَاعِيَّة، وهو أمر يدل على أن لهذه الجاذبية تأثيراً بالغاً على نفوسنا وأفكارنا، فلا نحن نملك في هذه الحال الاعتصام بأصولنا ومنطلقاتنا الحضارية التي أرساها لنا كتاب الله عزّ وجلّ، لأننا منجذبون عنها إلى فلك هذه الحَضَارَة وبريقها، ولا نملك بإرادتنا لاختيار ما يفيدنا أخذه واطراح ما يتعين علينا تركه مما هو عند الغَرْب، لأن إرادتنا مشلولة تحت سلطان هذه الجاذبية وإذا كان الأمر كذلك فمن أين تنبعث فاعلية التريث والانتقاء؟
هذا شيء وثمة أشياء أخرى تجعل فكرة التوفيق بين الحضارتين أسلوباً من التلاعب الغث، يبكي ويضحك في آن واحد نلخص هذه الأشياء في النقاط التالية:(2/115)
أولاً: إن الانفتاح الكلي أو الجزئي على ثمار الحَضَارَة الغَرْبيّة ونتاجها، لا يمكن أن يعني سيراً في طريق نهضة « لأن نهضة الإنسان في حياته ومجتمعه ودولته إنما مردها إلى فكر مبدئي يقوم على عقيدة عقلية تعطي فكرة كليّة عن الكون والإنسان والحياة، تكون بمثابة قاعدة فكرية تنبني عليها الأفكار عن الحياة الدنيا وتنبثق عنها أنظمة للحياة والمجتمع والدولة»(1).
... كما أن الانفتاح الكلي أو الجزئي على ثمار الحَضَارَة الغَرْبيّة ونتاجها « لا يعني سوى كسر لذلك الطوق وفتح في أسوار قاموس المفاهيم الإسْلاميَّة وأحكام الإسلام ومصطلحات العلم... إدخالاً وإخراجاً أو تقبلاً أو رفضاً، أخذاً أم عطاءً»(2).
« كما لا يعني الانفتاح أن عالمنا الإسلامي قد أصبح شريكاً في بناء الحَضَارَة العالمية للإنسان، وإنما يعني ذلك بكل تأكيد أن العالم العربي والإسلامي جعل بذلك من نفسه مجرد جندي لحراسة الحَضَارَة الغَرْبيّة، بل مجرد سوق استهلاكية لها، بل حطباً يؤجج به ضرامها ابتغاء المزيد من إضاءة نارها »(3).
... وما استهدف الاستعمار يوماً ما في أي بقعة حلَّ بها إلا تحقيق مثل هذا الانفتاح ليجعل من تلك البقعة وأهلها سوقاً استهلاكية لإنتاجها الحضاري بعد أن ينجح في بترها من جذورها الحضارية والاعتقادية الأصيلة وذلك بكسر طوق الالتزام بالمبدأ من خلال إعطاء معتنقه مفاهيم مخالفة للعقيدة.
__________
(1) القصص، أحمد: أسس النهضة الحديثة، ص(118).
(2) الصافي، عثمان: رسالة موجزة بعنوان « الانفتاح» ، ص(7).
(3) البوطي: مجلة الأمة القطرية ، ص(7).(2/116)
ثانياً: إنّ التصدر للدفاع عن منهج التوفيق بحجة أن الحضارات المختلفة من شأنها أن تتلاقح وأن تسري فيما بينها عملية الإخصاب المتبادل لا يمكن أن ينطبق على العلاقة القائمة بين الحَضَارَة الأوروبية بمختلف فروعها من جهة، والحَضَارَة الإسْلاميَّة من جهة أخرى لاختلاف الأصول بينهما ولتناقضها في الأساس الذي تقوم عليه، وفي تصوير الحياة الدنيا وفي معنى السعادة للإنسان.
... فالحَضَارَة الغَرْبيّة، تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، وإنكار أن للدين أثراً في الحياة، فنتج عن ذلك فكرة فصل الدين عن الدولة، وعلى هذا الأساس قامت الحياة وقام نظام الحياة، أما تصوير الحياة فإنه المنفعة، لأنها هي مقياس الأعمال، ولذلك كانت السعادة عندهم إعطاء الإنسان أكبر قسط من المتعة الجسدية وتوفير أسبابها له، وأما الناحية الروحية فهي فريدة لا شأن للجماعة بها، ولذلك لا توجد في الحَضَارَة الغَرْبيّة قيم أخلاقية أو روحية أو إنسانية، وإنما توجد قيم مادية ونفعية فقط. وعلى هذا الأساس جعلت الأعمال الإنسانية تابعة لمنظمات منفصلة عن الدَّوْلَة وعزلت عن الحياة كل قيمة إلا القيمة المادية وهي الربح.(2/117)
... أما الحَضَارَة الإسْلاميَّة، فإنها تقوم على أساس هو النقيض من أساس الحَضَارَة الغَرْبيّة، فهي تقوم على أساس الإيمان بالله وأنّه جعل للكون والإنسان والحياة نظاماً يسير بموجبه، فكانت العقيدة هي الأساس لحضارة، أما الحياة فقد جعلت الأعمال ميسرة بأوامر الله ونواهيه وبناء على ذلك، كان المسير لأعمال المسلم هو أوامر الله ونواهيه والغاية من تسيير أعماله هي رضوان الله تعالى، وليس المنفعية مطلقاً. وكانت القيمة مختلفة باختلاف الأعمال، فقد تكون قيمة مادية كمن يتاجر بقصد الربح وقد تكون روحية كالصلاة، وقد تكون أخلاقية كالصدق وقد تكون إنسانية كإغاثة الملهوف، وأما السعادة فهي نيل رضوان الله وليس إشباع الإنسان، لأن الإشباع هو وسيلة لازمة للمحافظة على الذات.
... فكيف يمكن لنا أن نجعل الحضارتين في إطار التلاقح ونحن نعلم أصول الحَضَارَة الغَرْبية مناقضة كل المناقضة، ومخالفة كل المخالفة لأصولنا الإسْلاميَّة ولتاريخنا ووجودنا الحضاري، بل هي متجهة إلى معاداتنا واستعمارنا وإهلاكنا حضارياً أي: أنها تستهدف اعتصار كل قيمنا وخيراتنا وقوانا وصبّها في أقنية المصالح الغَرْبيّة، وإن اقتضى ذلك أن تستحيل هذه الأمة بكاملها إلى حثالة أو ركام!(2/118)
ثالثاً: إن الدعوة إلى الجمع بين الأصالة والحداثة هي تعبير آخر عن فكرة التوفيق، ولا تحمل أي مضمون فكري سليم من وراء بريق الكلمتين ومظهر التعايش الوهمي بينهما، ذلك لأن الحداثة لا تكون إلا فرعاً عن أصالة والأصالة لا تكون إلا مصدراً وأساساً لها، فالعلاقة بينهما كعلاقة الجذع الثابت بالأغصان المتجددة... وهذا يعني أن الأمة إنما يجب عليها أن تعني عناية مباشرة بترسيخ أصالتها، أي بتثبيت أصولها الحضارية المتمثلة أولاً وبالذات في القرار الاعتقادي الذي يجب أن تتخذه تجاه الإنسان والكون والحياة، ثم عليها بعد ذلك أن تترك لجذع أصالتها هذه فرصة اختيار الفروع والثمار المستحدثة، أي أن المطلوب منا ( في قانون العمل الحضاري) أن نعكف باهتمام وجد على تحقيق أصالتنا ثم نترك لدستور هذه الأصالة اعتماد المستحدثات الحضارية المناسبة، والتي لا بدّ أن تتفرع عنها بطبيعة الحال... أما الدعوة إلى أن نحافظ بيد على أصالتنا وأن نستجلب باليد الأخرى مستحدثات الحضارات الأخرى، فسعي عابث مضحك لا يشبه إلا عبث ذلك الذي علم أن حياة الرَّجُل لا تصلح بدون زوجة و أولاد فذهب إلى حيث انتقى لنفسه امرأة، وعثر على جملة من الصغار ثم انطلق بهم عائداً إلى داره، وقد اطمأن إلى أنه أصبح ذا زوجة وأولاد.
... وبهذا يكون موضوع الأصالة والمعاصرة من أهم ميادين الكرّ والفرّ في المواجهة الإسْلاميَّة المعاصرة تستعمل فيه كل أساليب المناورة والخداع والمكاشفة والمسايرة وتكشير الأنياب أو لبس أقنعة الأحباب حسب الظروف والأحوال.
«(2/119)
فمفهومنا للأصالة يجب أن يتمثل في كلمات بسيطة هي الاستقامة على فطرة الله، وأما المعاصرة فأن نعيش بأصالتنا مع عصرنا لأن العيش مع العصر ضرورة واقعة لأن المعاصرة واقع زمني يتصف به كل البشر، ولكن ما يجب التنبيه إليه أن نعيش بأصالتنا لعصرنا وهذا يعني أن نكون ملكاً له نفقد ذواتنا ونفرغ أنفسنا من محتواها لنحشوها بكل ما يأتي من جديد فنفقد الأصالة »(1).
وبناء على هذا فليست الأصالة مناورة لفظية أو مراوغة فكرية أو تخشعاً أمام قبور الفراعنة، وإنما الاستقامة على فطرة الله وكذلك فإن المعاصرة ليست هي تبادل الكؤوس ومخاصرة النساء في الحفلات، وإنما العيش مع العصر وفقاً لأصالتنا كما يقول تعالى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } .
وعليه فإن أي اقتراح يطرح بصدد التوفيق الحضاري أو الأصالة والتحديث ينبغي أن يكون خاضعاً لجوهر الإسلام الذي يذعن له ويدين به سواد هذه الأمة. وإلا فما معنى أننا مسلمون؟ إنّ المعنى الوحيد لإسلامنا هو أننا مستسلمون ومذعنون لواقع عبوديتنا لله عزّ وجلّ ومن ثمّ فلا بدّ أن نكون مستسلمين لسلطان ربوبيته علينا، هذا هو المعنى الذي أنبأنا به ذاك الذي أصدر إلينا أمره بأن نكون مسلمين.
... هناك طريقة ثابتة للتوصل إلى استنباط الأحكام الشَّرْعية، قد أملاها الإسلام وطبيعته، نتيجة ما تمليه العقيدة الإسْلاميَّة على معتنقها من تلقي الأحكام الشَّرْعية من الشَّرْع، والتقيد بما في النُّصُوص من دلالة.
... وهذه الطريقة تضبط منحى الاستنباط للأحكام، وتضبط فهم المجتهد بحيث يقتصر على الوحي كمصدر للتشريع.
__________
(1) فرغل، د. يحيى: الإسلام ومشكلة الحَضَارَة بين التعدديّة والصراع، ص(43-44).(2/120)
... والطريقة تقوم على فهم المشكلة الحادثة فهماً عميقاً ثم الإتيان بالأدلة الشَّرْعية اللازمة لمعالجتها، وفهمها، ودراستها، ليصار إلى استنباط الحكم الشَّرْعي.
... قَالَ ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة رحمه الله : « ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات، حتى يحيط به علماً. والثاني: فهم الواجب في الواقع: وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله »(1).
... وهذا مؤدى فقه الواقع: أن يعرف حكم الله تعالى في كتابه وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطبيق ذلك على الوقائع الحاضرة والمسائل المعاصرة.
... وعليه، فإن المصطلحات والأفكار المستحدثة التي تعالج مشكلات الإنسان أو تعالج ما يتعلق بوجهة النظر عن الحياة، لا بدّ أن تدرس بدقة من غير تحوير ولا تغرير، ومن غير بهرجة ولا تزييف، ومن غير إفراط ولا تفريط ومن غير تزيين ولا تحريف للتعرف على واقعها، فإن كانت مما لا تتعارض في الدلالة على الأحكام الشَّرْعية قبلت، أما إن كان للمصطلح دلالة خاصة تتعارض مع الأحكام الشَّرْعية أو تتناقض مع وجهة النظر الإسْلاميَّة ، فإنه يرفض هذا المصطلح أو الفِكْر، وكيف لا يبعد وقد اعتمده الغَرْب في الغزو الفِكْري لهدم الإسلام وبلبلة مفاهيم المسلمين وليبث عن طريقها مفاهيم الكفر تحت غطاء يراه مناسباً للزرع في عالمنا الإسلامي.
??المسألة الأولى :
فقه واقع العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
__________
(1) ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة: إعلام الموقعين من رب العالمين ، (1/87).(2/121)
... منذ منتصف القرن الرابع عشر الهجري والمنطقة العربية والإسْلاميَّة تعاني أشكالاً متعددة من الصراعات المحلية والعالمية، رغم أنها في معظمها قد حصلت على مظهر من مظاهر الاستقلال المتمثل في التخلص من الجيوش والقيادات الاستعمارية.
... ومع ذلك بقيت الأمة الإسْلاميَّة تعاني الكثير من الأوضاع الفِكْرية والسِّيَاسِيَّة والاقتصادية الشاذة والتي أهدرت من جرائها العديد من الحقوق الإنسانية سواء على الصعيد الحضاري أم السياسي أم الاجتماعي، وفي الوقت نفسه ترتفع أصوات المُفَكِّرين عالياً منادين بأن تعطى للإنسان حقوقه السِّيَاسِيَّة الاجْتِمَاعِيَّة وبرفع الظلم عنه. وكان من أبرز المفاهيم التي نادى بها المفكرون والفلاسفة وانتشرت على صعيد عالمي، وطلب من الدول تحقيقها، ونصّت عليها لوائح حقوق الإنسان في هيئة الأمم وغيرها، مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.(2/122)
... وقد ارتبط هذا المفهوم في الأذهان بحقوق الإنسان وجعله مقياساً تقاس به الدول في سياساتها وأفكار المُفَكِّرين السياسيين منها. ولما كانت البلاد الإسْلاميَّة واقعة تحت تأثير الدول التي كانت مستعمرة لها في كافة المجالات السِّيَاسِيَّة والاقتصادية والثقافية، بالإضافة إلى الظلم والحرمان المخيمين على سقوطها، فقد تأثر أبناء المسلمين ومفكروهم في كفاحهم للتخلص من الظلم والحرمان، وفي سعيهم لتوفير الحياة الكريمة لأنفسهم ولأمتهم وفي صراعهم من أجل إنهاض أمتهم والحفاظ على كيانها الخاص المميز، لقد تأثروا في ذلك كلّه بالأفكار التي كانت سائدة آنذاك، لا سيّما المتعلقة منها بحقوق الإنسان السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة، كالحرِّيَّة والعَدالَة ، وما إلى ذلك، واختلفت وجهات نظر المُفَكِّرين حول هذه المفاهيم التي كان من أبرزها مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، بسبب ما اجتاح البلاد الإسْلاميَّة من موجة عن التنظيم الاقتصادي والتخطيط الاقتصادي ناهيك عن دعاية واسعة لما يسمى بالاشْتِراكِيَّة « وصار المسؤولون وأهل الرَأْي يحاولون رسم سياسية اقتصادية للبلاد ووضع تخطيط اقتصادي لزيادة الدخل الأهلي وللأخذ بالاشْتِراكِيَّة والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة »(1).
«
__________
(1) المالكي، عبد الرحمن: السِّيَاسِيَّة الاقتصادية المثلى، ص(5).(2/123)
ولا شك أن المتتبعين للحوادث السِّيَاسِيَّة وسير العلاقات الدولية، يدركون أن هذه الموجة وتلك الدعاية ليست نتيجة إحساس طبيعي في البلد بالحاجة إلى التخطيط الاقتصادي والتنمية الاقتصادية أو شعور مثير بالظلم الاقتصادي في المجتمع، بقدر ما هي توجيه متعمد من الدول الرَّأْسُماليَّة الكبرى وخاصة أمريكا وذلك لتغيير أسلوب الاستعمار بعد أن انكشف عواره للإبقاء على النِّظَام الرأسمالي مطبقاً على تلك البلاد بعد أن برز فساده للناس أجمعين»(1).
... غير أنه ينبغي أن يعلم أن هذا بالنسبة لهذه الدعوة الاستعمارية وليس بالنسبة للعمل لزيادة ثروة البلاد، فإن وضع سياسة اقتصادية لتنمية ثروة البلاد وتوفير الحاجات لها أمر بديهي وضروري ولا يستغنى عنه.
« ولكن هذه السِّيَاسِيَّة لا تحتاج إلى دعوة تكتسح البلاد وهي أيضاً إنما تمليها حاجات البلاد ولا يصح أن تأتي بتوجيه من أعداء المسلمين »(2).
__________
(1) المالكي، عبد الرحمن: السِّيَاسِيَّة الاقتصادية المثلى، ص(5).
(2) المالكي، عبد الرحمن: السِّيَاسِيَّة الاقتصادية المثلى، ص(8).(2/124)
هذه هي الناحية الاستعمارية التي تكمن وراء ما يسمع من رأى عام للتخطيط الاقتصادي وللتنمية الاقتصادية، أمّا من ناحية الإبقاء على النِّظَام الرأسمالي بعد أن انكشف عواره فإن طريقة السير في الاقتصاد تدل عليه، فإنّ ما يشاهد من إجماع على جعل التنظيم الاقتصادي يبنى كله على زيادة الدخل الأهلي مع ترقيعه بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة أو تطعيمه بالاشْتِراكِيَّة، دليل واضح على ذلك. حتى البلدان التي نجحت أمريكا في إخضاعها لسيطرة رأس المال الأمريكي مثل مصر، فإنها رغم ما تتبجح به من الدعوة العريضة للاشتراكية فإنها قد جعلت أساس تنظيماتها الاقتصادية زيادة الدخل الأهلي، أي بنتها على أساس النِّظَام الرأسمالي، مما يدل على أن المسألة هي تطوير كيفية تطبيق النِّظَام الرأسمالي ليطبق بأسلوب جديد يخفيه تماماً كما حصل في تطوير الاستعمار.
غير أن هذا الأسلوب الجديد ليس جديداً في وجوده، وإنما هو أسلوب قديم استعملته أوروبا حين بان عوار النِّظَام الرأسمالي في القرن التاسع عشر وتعرض للانهيار فاستعملت هذا الأسلوب ونجحت في إبعاد الخطر عنه، وهكذا « استطاعت أوروبا بهاتين الفِكْرتين: اشتراكية الدولة، والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، حفظ النِّظَام في أوروبا ووقفت أمام النِّظَام الاشتراكي الماركسي في روسيا »(1).
وبهذا يظهر لنا أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة ليست نظاماً اقتصادياً كالاشْتِراكِيَّة، وإنما « هي أحكام معينة يراد بها التخفيف من الحيف الفظيع الذي توجده الرَّأْسُماليَّة في المجتمع وهي أحكام ظاهر فيها الترقيع »(2).
وبالرغم من أنّها رقعت النِّظَام الرأسمالي، فإنها في حقيقتها ظلم، وهي تطيل أمد الرَّأْسُماليَّة وتثبتها(3)،
__________
(1) المالكي، عبد الرحمن: المصدر السابق، ص(11).
(2) المالكي، عبد الرحمن: المصدر السابق، ص(34).
(3) انظر حول هذه المسألة:
1- ... المالكي، عبد الرحمن: السِّيَاسِيَّة الاقتصادية المثلى، ص(34).
2- ... النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الإسلام، ص(75-76).(2/125)
فمثلاً من العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة إعطاء التقاعد للموظفين والإكراميات للعمال، وتطبيب الفقراء مجاناً وتعليم أبناء الفقراء مجاناً، فمثل هذه الأمور ليست عدالة اجتماعية، وإنما هي ظلم في المجتمع، إذ لماذا يأخذ الموظف المصنف تقاعداً من الدَّوْلَة إذا كبر ولا يأخذ ذلك العامل وماسح الأحذية والبستاني وسائق السيارة، والحارس للبناء والموظف في التنظيفات وغيرهم من المحتاجين من أبناء البلاد؟ ولماذا يأخذ العامل إكرامية ولا يأخذ ذلك ماسح الأحذية وبائع الصحف والبائع المتجول على عربة ومن شاكلهم؟ ثم لماذا التطبيب والتعليم مجاناً للفقراء ولا يكون مجاناً لجميع الناس؟
إن هذا يدل بوضوح على أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة ظلم، لأن الدَّوْلَة مسؤولة عن ضمان إشباع جميع الحاجات الأَسَاسيَّة لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً، إشباعاً كليّاً وتمكينهم من إشباع حاجاتهم الكمالية.
وهذا عام لكل من عجز عن الوصول إلى هذا الإشباع الكلي، سواء أكان موظفاً أم ماسح أحذية، فإن حقه أن يأخذ ما يكفيه للإشباع الكلي لحاجاته الأَسَاسيَّة وليس أن يأخذ تقاعداً محدوداً أو إكرامية محدودة، ولهذا كان ما يسمى بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة ظلماً فوق كونه مخدراً لتخدير الناس عن مساوئ النِّظَام الرأسمالي لإطالة عمره وإدامة تطبيقه. فلا تجوز الدعوة لها ولا محاولة تطبيقها(1).
ونخلص إلى القول إن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في واقعها مقولة فلسفية مبتدعة ودعاية غربية مبتكرة تجتاح البلاد الإسْلاميَّة تحت غطاء الحاجة إلى التخطيط الاقتصادي والتنمية الاقتصادية وفي حقيقتها دعوة إلى إطالة عمر النِّظَام الرأسمالي والفِكْر الغَرْبيّ .
??المسألة الأولى :
فهم الواجب في العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
__________
(1) انظر حول هذه المسألة:
- المالكي، عبد الرحمن: السِّيَاسِيَّة الاقتصادية المثلى، ص(34-35)تحت عنوان فساد ما يسمى بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة.(2/126)
... بعد معرفة الواقع لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تأتي المعالجة الشَّرْعية لهذا الواقع، وهو فهم الواجب في الواقع، أي فهم حكم الله الذي حكم به كتابه أو على لسان رسوله أو ما أجمع عليه الصحابة أو جاء بطريق القياس الجلي الواضح الصَحِيْح في هذا الواقع.
... قَالَ ابن سُريج(1) « ليس شيء إلا ولله عزّ وجلّ فيه حكم لأنه تعالى يقول: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } وليس في الدنيا شيء يخلو من إطلاق أو حظر أو إيجاب لأن جميع ما على الأرض من مطعم أو مشرب أو ملبس أو منكح أو حكم بين متشاجرين أو غيره لا يخلو من حكم ويستحيل في العقول غير ذلك»(2).
... لذا، كان من شروط المفتي : « معرفة الناس، وإلا راح عليه المكر والخداع والاحتيال، وهذا هو معنى ما يُذكرُ عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه من قوله : « لست بالخَبِّ ولا الخبُّ يخدعني »(3).
فانطلاقاً من إعمال قول الله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } (4) وقوله تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } (5)، نذكر أصولاً ثلاثة:
1- الأصل الأول:
__________
(1) ابن سريج: هو أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، القاضي أبو العَبَّاس، الفقيه ، الأصوليّ، المتكلم، شيخ الشَّافِعِي ة في عصره، صاحب المؤلفات الحسان، توفيّ سنة (306) هجرية. انظر: ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات (2/251). طبقات الشَّافِعِي ة للسُبكي (3/21). وفيّات الأعيان (1/49). شَذَرات الذَّهَب (2/247).
(2) الزركشي، البحر المحيط، (1/165).
(3) الحجوي، الفِكْر السامي، (1/428).
(4) النساء/ 105.
(5) المائدة / 49.(2/127)
... الأصل في العبارات أنها لغوية المنشأ، بمعنى أنها وضعت في الأساس لتدل على معاني يتخاطب بها العرب قبل الإسلام، غير أنه بعد تدوين العلوم وظهور المبادئ والمذاهب الفلسفية فقد الكثير من تلك الألفاظ مدلولاتها اللغوية لتكتسب بديلاً عنها مدلولات اصطلاحية لتلك العلوم والمبادئ أو مدلولات عرفية، أو مدلولات شرعية ومما يتفرع عن هذا الأصل أن لكل مبدأ أو مذهب أو دين مصطلحات خاصة تخيرت لتدل على معاني تنفرد بها الجهة التي تخيرتها، فكان للإسلام مصطلحاته كما كان للمبادئ والمذاهب عامة مصطلحاتها.
... وعليه، فإن الألفاظ اللغوية في كلّ أمة إنما توضع للإبانة عن قصد المتكلم بها، وهذا يعني أن الألفاظ اللغوية مرتبطة بدلالتها ارتباط تلازم سواء أكان ذلك بالاصطلاح أم بالوضع بمعنى أن دلالات الألفاظ في كل لغة بمثابة حقائق ثابتة يقررها واضعوا تلك اللغة والمتكلمون بها، فعند إطلاق أي لفظ ينتقل ذهن السامع إلى مدلول اللفظ الذي هو المقصود، أو بتعبير آخر ينتقل الذهن إلى المعنى المقصود من اللفظ فيحصل بذلك التفاهم بين الناس وهذا يستلزم أن يكون للألفاظ دلالات معينة تتبع قصد المتكلم وإرادته.(2/128)
... وفي هذا الصدد يقول النَّبَهَانِيّ(1) : « إطلاق اللفظ دائر مع المعاني الذهنية... أي الغرض من الوضع جعل اللفظ بحيث يفيد النسب لغرض التعبير عما في الذهن»(2).
__________
(1) هو محمد تقيّ الدِّين بن إبراهيم بن مصطفى بن إسماعيل بن يوسف النَّبَهَانِيّ، نسبة إلى قبيلة بني نبهان من عرب البادية بفلسطين التي استوطنت قرية أجزم التابعة لحيفا في شمال فلسطين، حيث ولد سنة 1909م في بيت علم ودين. التحق بالثانوية الأزهرية عام 1928م وتخرج في كليّة دار العلوم سنة 1932م ورجع إلى فلسطين، فعمل في وزارة المعارف الفلسطينية مدرساً للعلوم الشَّرْعية، ثم عُين قاضياً للمحكمة الشَّرْعية في الرملة عام 1945م، ثمّ عُيّن قاضياً لمحكمة القدس الشَّرْعية عام 1948م، واختير عضواً في محكمة الاستئناف وبقي في هذا المنصب حتى سنة 1950م حيث قدم استقَالَته أثر ترشيح نفسه في المجلس النيابي . وفي عام 1951م قدم إلى عمّان فتفرغ للحزب الذي أنشأه ما بين 1949/1953م وتوفي عام 1977م ودفن في بيروت وقد خلف من الكتب المهمة ما يعد ثروة فكرية، إذ تتسم بأنها كتب تنظيرية تنظيمية أو كتب تهدف إلى استئناف الحياة الإسْلاميَّة وحمل الدعوة الإسْلاميَّة . من أبرز مؤلفاته: « النِّظَام الاقتصادي في الإسلام»، النِّظَام الاجتماعي في الإسلام»، « نظام الحكم في الإسلام»، « مفاهيم حزب التحرير »، «التفكير»، « الشخصية الإسْلاميَّة »، « الدَّوْلَةالإسْلاميَّة ». انظر: سعيد، د. همام عبد الرحيم: حزب التحرير دراسة ونقد، ص(12).
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (أصول الفقه) ، (3/116).(2/129)
... ويقول أيضاً: « اللغات هي الألفاظ الموضوعة للمعاني، فلما كانت دلالة الألفاظ على المعاني مستفادة من وضع الواضع كان لا بدّ من معرفة الوضع، ثمّ معرفة دلالة الألفاظ والوضع هو تخصيص لفظ بمعنى إذا أو متى أطلق الأول فهم الثاني»(1).
... فإذا علمنا أنّ الأصل في أي لغة أنّ الألفاظ فيها إنما توضع لمعانٍ ثابتة وأنّ طريق معرفة دلالة أي كلمة إنما يتوقف على اصطلاح واضعيها فقط دون سواهم، فإن ما يُفسر به أهل مبدأ أو فلسفة مفهوماً من المفاهيم يجري التعامل معه على أساس ما قدموه من معنى له.
... وهذا ينطبق على المصطلحات الشَّرْعية « فاللفظة حيث تكون منتمية إلى الإسلام، فإنها تكتسب المعنى الشَّرْعي وبانتمائها هذا يتوجب الحفاظ على ما اصطلح لاستعمالها له حتى أنه ليحظر مساسه ويجب الالتزام به اعتقاداً وعملاً »(2).
... لأن الاسم الشَّرْعي مستفاد من الوحي ولا يكون اللفظ اسماً شرعياً إلا إذا جرى استعماله في الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة، إذ لا اعتبار لألفاظ شرعية متداولة على ألسنة الفقهاء والمجتهدين، إلا ما انبثق من الوحي وهذه ميزة ينفرد بها الإسلام ذلك أنه منزل من عند الله، فتجب المحافظة عليه كما نزل وليس لأي مخلوق أن يزيد فيه أو ينقص منه، أو يجري تعديلات عليه.
... وبناء على ما تقدم في الألفاظ اللغوية والمصطلحات الشَّرْعية، فإن كلمة العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة قد نشأت في الوسط الرأسمالي الغَرْبيّ وقد وضعت في اصطلاحهم للدلالة على واقع معين وأصبحت هذه الكلمة عند الإطلاق ملازمة لمعناها الذي وضعت بإزائه من قبل واضعيها، فعند سماعها ينتقل الذهن إلى مدلولها الغَرْبيّ وعليه فليس لها معنى إسلامي.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : الشخصية الإسْلاميَّة ، (3/114).
(2) الصافي، عثمان: الانفتاح ، ( رسالة موجزة)، ص، (3).(2/130)
... وما ورد من محاولات البعض لإظهار التداخل بين العَدالَة في الإسلام ومفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لما وجد من التشابه في اللفظ فإنه وهم، إذ للعدالة في الإسلام دلالة خاصة تختلف عن عدالة الرَّأْسُماليَّة.
... فالعَدالَة الإسْلاميَّة تعني الاستقامة على أمر الله تعالى وحسن الالتزام بالإسلام، سواء من قبل الدَّوْلَة في معالجتها لمشكلاتالناس ورعايتها لشؤونهم أم من قبل الأفراد.
... أما العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الغَرْب، فهي عبارة عن مجموعة من النظم والتشريعات والأحكام القانونية التي رقّعَت النِّظَام الرأسمالي لصرف الناس عن مفاسدها وإشغالهم عن مظالمها وشتّان ما بين المعنيين.
... وفي ذلك يقول الصافي: « ويترتب على هذا حظر أي تداخل بين الألفاظ ذات المصطلحات الإسْلاميَّة من جهة، وكل المصطلحات غير الإسْلاميَّة من جهة أخرى... ويترتب على هذه الاستقلالية للإسلام وجوب الحيدة عن سواه وحرمة استعمال كل مصطلح له انتماء إلى عقيدة أو مذهب أو دين غير، أي غير الإسلام »(1).
... ويقول النَّبَهَانِيّ:« إن الألفاظ الأجنبية التي لها معانٍ اصطلاحية إن كان اصطلاحها يخالف اصطلاح المسلمين لا يجوز استعمالها مثل كلمة عدالة اجتماعية، فإنها تعنى نظاماً معيناً.هذا الاصطلاح يخالف اصطلاح المسلمين لأن العدل عند المسلمين هو ضدّ الظلم »(2).
... وهذا يقودنا إلى أصل ثانٍ في التعامل مع المصطلحات الأجنبية وهو إخضاع المصطلحات الغَرْبيّة على ضوء الحكم الشَّرْعي.
2- الأصل الثاني:
__________
(1) الصافي، عثمان: الانفتاح (رسالة موجزة) ، ص(3).
(2) النَّبَهَانِيّ، تقيّ الدِّين : نظام الإسلام ، ص(75-76).(2/131)
... لا يجوز إفراغ الكلام من معانيه ما دام الكلام مرتبطاً بقصد متكلمه وإرادته إذ لا بد من أخذ مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة مع دلالته التي وضعت له ثمّ دراسته من جميع جوانبه وإن كان منسجماً في معناه مع المفاهيم الإسْلاميَّة قبل بمعناه دون تغيير أو تبديل. بمعنى أنه لا بد من إخضاع مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة من زاوية شرعية وعلى ضوء الحكم الشَّرْعي فيه يتصرف في قبول المصطلح بمعناه على اعتبار أنه من المفاهيم الإسْلاميَّة أو رفضه لأن الإسلام يحرم تداوله في الفِكْر الإسلامي.
... يقول النَّبَهَانِيّ: « إن الألفاظ الأجنبية التي لها معانٍ اصطلاحية يُنظر إن كان اصطلاحاً يخالف اصطلاح المسلمين لا يجوز استعمالها نحو العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والاشْتِراكِيَّة والدِّيمُقْراطِيَّة والرَّأْسُماليَّة وككلمة ملك أو إمبراطور أو رئيس جمهورية »(1). فكل ذلك مما يحرم تداوله في الفِكْر الإسلامي استناداً إلى النُّصُوص الشَّرْعية التي فهم منها ذلك، ومنها:
أ) قَالَ الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2).
__________
(1) رواه مسلم في صَحِيْحه (4/1764)، وصَحِيْح ابن حِبِّان (13/144)، بلفظ « قولوا الحبلة أو العنب »، ومُسْنَد أبي عوانه، (5/108)، والمعجم الكبير(22/13)، والأدب المفرد (1/277).
(2) البقرة/ 105.(2/132)
... قَالَ الإمام الشَّوْكَاني: « وجه النهي عن ذلك ان هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً... فلمّا سمعوا المسلمين يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعناً طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي هو معنى هذا اللفظ في لغتهم، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة وقطعاً لمادة المفسدة والتطرق إليه ثمّ أمرهم الله بأن يخاطبوا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض، فقَالَ : « وقولوا انظرنا أي أقبل علينا وانظر إلينا »(1).
... قَالَ ابن جرير: « والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - راعنا لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه - صلى الله عليه وسلم - نظير الذي ذكر عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : « لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة، ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي » وما أشبه ذلك(2).
... فقد روى مسلم(3) في صَحِيْحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا تقولوا الكرم ولكن قولوا الحبلة » يعني العنب(4) .
__________
(1) الشَّوْكَاني، محمد بن علي بم محمد، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، (1/124).
(2) ابن جرير الطَّبَري: التفسير (1/471)، وانظر ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (1/150).
(3) مسلم بن الحجّاج هو الإمام الحافظ حجة الإسلام أبو الحسين القشيري، النيسابوري، صاحب الصَحِيْح والتصانيف. ولد سنة (204) ومات في رجب سنة (261هـ).
(4) ابن جرير الطَّبَري: التفسير (1/471)، وانظر ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (1/150).(2/133)
... ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « ثم لا يقل أحدكم أطعم ربك وضيء ربك واسق ربك وليقل سَيِّدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي ، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي »(1) وفي صَحِيْح مسلم عن أبي هريرة أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله ولكن ليقل فتاي ، ولا يقل العبد ربي ، ولكن ليقل سَيِّدي » (2).
... ومؤدى هذه القاعدة: أن كل كلمة لها معنى يدل على واقع معين خاص عند الكفار ويمكن أن تستخدم بمعنى آخر من حيث الدلالة اللفظية فتكون محتملة للمعنيين معاً عند الإطلاق تمنع هذه الكلمة من الاستعمال في الإسلام.
... كما وأن اللفظة إن كان لها معنى خاص اصطلاحي عند الكفار ولها معنى مغاير في اللغة العربية التي هي لغة النُّصُوص الشَّرْعية، فإنه كذلك يمنع تداول هذه اللفظة الاصطلاحية في الفِكْر الإسلامي وذلك لإبعاد المسلمين عن الوقوع في شرك الغَرْب ومحافظة على الذوق الإسلامي والنقاء الفِكْري ومنعاً من البلبلة الفِكْرية في الأوساط الإسْلاميَّة.
__________
(1) رواه البُخَارِيّ في صَحِيْحه (2/901)، ومسلم (4/1765)، وسُنَن البَيْهَقِيّ الكبرى (8/13).
(2) رواه مسلم في صَحِيْحه (4/1764)، واللفظ له، ومُسْنَد أحمد (2/444).(2/134)
... ويقول جمال سلطان : « إنَّ الذي نلح عليه هو التنبيه على خطورة التعامل على أساس هذه المصطلحات وضرورة رفضها كليّة بكل تحكماتها الفارغة، وعلينا عندما نزن الأمور الشَّرْعية وقضايا الإسلام أن نزنها ونضبطها بالمصطلح الشَّرْعي الرباني المنضبط في ذاته ومن خلال منظومته المتكاملة، ولقد علّمنا القرآن أهمية قضية المصطلحات وضرورة الالتزام بها في مثل قوله تعالى: { لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } (1)، وكذلك علّمتنا السنّة النبويّة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يقل أحدكم خبثتْ نفسي، وليقل لقست نفسي »(2) مع شدّة تقارب المعنى من كلا المصطلحين إلاّ أنّ الإيحاء يلعب دوره حتى في جرس الكلمة ورواسبها النفسية. وإنّ خطورة الإسقاط المصطلحي تكمن في جانب هام وماكر ، وهو أن الإسقاط هنا يكون تدميراً للوعاء التعبيري الذي تقدم من خلاله الفِكْرة مما يترتب عليه تدمير الفِكْرة ذاتها بمرور الوقت » (3).
... لذا، كان الواجب على المسلمين اليوم رد كل المصطلحات الأجنبية التي لها دلالات خاصة تتناقض مع مفاهيم الإسلام وتخالف الأحكام الشَّرْعية وما مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة إلاّ واحداً من هذه المفاهيم.
__________
(1) البقرة/ 104.
(2) رواه البُخَارِيّ، (5/2285)، باب لا يقل خبثت نفسي، ومسلم، (4/1765)، وسُنَن أبي داود، (4/295)، والسُنَن الكبرى، (6/260)، وصَحِيْح ابن حبّان، (13/31)، ومجمع الزوائد، (8/113)، وقَالَ : لقست بمعنى: اللقس، وهو الغثيان. وقَالَ: اسناده حسن.
(3) سلطان، جمال: غزو من الداخل، قراءة في الفِكْر الديني المستنير، دار الوطن، الرياض، ط1، سنة (1412هـ-1991م).
وانظر: عبد الحميد، د. محسن: المذهبية الإسْلاميَّة والتغيير الحضاري، فصل (المذهبية والمصطلح الفِكْري ).(2/135)
ب) ورد العديد من الأحاديث الصَحِيْحة التي تنهى تشبه المسلمين بالكافرين والسير على مناهجهم من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - عن أبي سعيد الخدري : « لتتبعن سُنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتوهم» قلت يا رسول الله: « آليهود والنصارى » قَالَ: « فمن ؟...» وفي رواية أخرى، فقيل يا رسول الله: كفارس والروم، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « ومَنْ مِنَ الناس إلا أولئك »(1).
... يعلق النَّبَهَانِيّ على هذا الحديث بقوله: « فهذه النُّصُوص صريحة في النهي عن الأخذ من غيرنا... وأخذ أحكام الدستور والقوانين من غير الإسلام يصدق عليه هذا النهي... لأنه اتباع لمن هم مثل الفرس والروم وهم الإنكليز والفرنسيون، بل هم من الروم ولذلك يحرم أخذها... »(2).
3- الأصل الثالث:
... الأصل في العلم أنه عالمي لجميع الأمم ولا تختص به أمّة دون أمة أخرى وأما الثقافية قد تكون خاصة تنسب للأمة التي نتجت عنها أو تكون من خصوصياتها ومميزاتها.
... لهذا يؤخذ العلم أخذاً عالمياً من أي أمّة من الأمم لأنه عالمي لا يختص بأمه وأما الثقافية فإن الأمة تبدأ بثقافتها حتى إذا درستها ووعتها وتمركزت في الأذهان تدرس الثقافية الأخرى.
... إلا أنه مما يجب التنبه إليه هو التفريق بين الدراسة التي تؤثر في الأمة وأفرادها والدراسة التي لا يكون لها مثل هذا التأثر.
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِيّ، (3/1274) وصَحِيْح مسلم باب إتباع سُنَن اليهود والنصارى (4/2054). وصَحِيْح ابن حِبِّان (15/95). ومجمع الزوائد (7/261). وزاد : « فمن إلاّ اليهود والنصارى »، ومصباح الزجاجة (4/180)، ومصنف أبي شيبة (7/479).
(2) زلّوم، عبد القديم : كيف هدمت الخلافة ، ص(48-50).(2/136)
... وبناء عليه فإن المعارف التي تتعلق بوجهة النظر عن الحياة، فلا يجوز للمسلمين أن يتأثروا في دراستهم الثقافية بأية ثقافة أخرى غير الثقافية الإسْلاميَّة لأن هذا من شأنه أن يحافظ على هوية الأمة الإسْلاميَّة، ولا يفقد الإسلام صفاءه وفاعليته، وبالتالي يحرم نقل أي ثقافة أجنبية إلى بلاد المسلمين إلا بقصد التعرف عليها لبيان زيفها وفسادها ولإبراز الفرق بينها وبين الثَّقافَة الإسْلاميَّة بغية الانتفاع من ذلك في تقوية العقيدة الإسْلاميَّة في النفوس ولإكبار الثَّقافَة الإسْلاميَّة، فالبضد تعرف الأشياء، وفي هذا الصدد يقول النَّبَهَانِيّ «...نعم إن الثَّقافَة الإسْلاميَّة انتفعت بالثقافات الأجنبية واستفادت منها وجعلت وسيلة لخصبها وتنميتها ولكن ذلك ليس تأثراً وإنما انتفاع والفرق بين التأثر والانتفاع، أنّ التأثر بالثَّقافَة هو دراستها وأخذ الأفكار التي تحويها وإضافتها إلى أفكار الثَّقافَة الأولى-المتأثرة- لمجرد وجود شبه بينهما أو لمجرد استحسان هذه الأفكار... ولو فعل المسلمون ذلك لاتجه الإسلام من أول خروجه من الجزيرة العربية اتجاهاً مضطرباً ولاختلطت أفكاره اختلاطاً أفقده كونه إسلاماً. هذا هو التأثر لو حصل، وأما الانتفاع فهو دراسة الثَّقافَة دراسة عميقة ومعرفة الفرق بين أفكارها وبين أفكار الثَّقافَة الإسْلاميَّة، دون أن يتطرق إلى أفكار الإسلام أي تناقض، ودون أن يؤخذ من أفكار الثَّقافَة الأجنبية عن الحياة وعن التشريع وعن العقيدة أي فكر والاقتصار على الانتفاع بالثَّقافَة دون التأثر بها »(1).
__________
(1) النَّبَهَانِيّ: الشخصية الإسْلاميَّة ، (1/276).(2/137)
... وبناء عليه فلا يجوز نقل لفظة العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة ولا غيرها من المفاهيم والمصطلحات الناتجة عن الثَّقافَة الغَرْبيّة أو قل عن غير الثَّقافَة غير الإسْلاميَّة إلى الفِكْر الإسلامي ولا يجوز الانتفاع بها في خدمة الإسلام لتناقض ذلك مع الإسلام فضلاً عن كون الترويج لها واستعمالها في الفِكْر الإسلامي وقوعاً في شرك الغزو الفِكْري الغَرْبيّ وهزيمة محققه للإسلام في وجه هذا الغزو.
... وفي هذا يصف النَّبَهَانِيّ المسلمين بعد منتصف القرن الثامن عشر الميلادي بقوله : « فالمسلمون منذ أوائل الفتح الإسلامي حتى العصر الهابط الذي حصل فيه الغزو الثقافي والتبشيري ... كانوا يجعلون العقيدة الإسْلاميَّة أساس ثقافتهم وكانوا يدّرسون الثقافات غير الإسْلاميَّة للانتفاع بما فيها من معانٍ عن الأشياء في الحياة، لاعتناق ما فيها من أفكار، ولذلك لم يتأثروا بها وإنما انتفعوا بخلاف المسلمين بعد الغزو الثقافي الغَرْبيّ لهم، فإنّهم درسوا الثَّقافَة الغَرْبيّة واستحسنوا أفكارها، فمنهم من اعتنقها وتخلّى عن الثَّقافَة الإسْلاميَّة... ومنهم من استحسنها وأضاف أفكارها للثقافة الإسْلاميَّة، باعتبارها منها وصارت بعض أفكارها من الأفكار الإسْلاميَّة، بالرغم من تناقضها مع الإسلام... فجعْلُ الإسلام ديمقراطياً أو اشتراكياً... استحساناً لتلك الأفكار هو تأثر بالثَّقافَة الأجنبية وليس انتفاعاً بها »(1).
... وبناءً عليه، فإن المُفَكِّرين الذين استخدموا مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي، قد أوقعوا أنفسهم في تناقضات كثيرة ومن هؤلاء سَيِّد قطب والمَوْدودِي والغَزَالي.
__________
(1) النَّبَهَانِيّ: الشخصية الإسْلاميَّة ، ص(1/277).(2/138)
... فالمَوْدودِي الذي اعتبر أن الإسلام والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة شيء واحد بمعنى أن الإسلام هو العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، وصف العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في ما ورد عنه من أقوال نحو: النِّظَام الشيطاني، النِّظَام الرأسمالي الديمقراطي الغَرْبيّ، مفهوم رأسمالي خالص، مكيدة من مكائد الشيطان، خدعة من خداع الرأسماليين لإبقاء البشر تحت نيرهم، النعرة المزورة، مكيدة سماها العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة نقص كبير.
... وسَيِّد قطب الذي لا يسمح بإلصاق شيء من أفكار الجَاهِليَّة بالإسلام ولا حتى المقارنة أو المشابهة بين الإسلام وبينها ويمنع أي محاولة يراد بها التوفيق بين الإسلام وغيره من المفاهيم والمصطلحات الغَرْبيّة وينكر على المُفَكِّرين الذين قَالوا بأن الإسلام اشتراكي أو ديمقراطي، فإنه مع هذه الصرامة والجدية نجد أنه أباح لنفسه عرض الإسلام بثوب العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وقد قَالَ فيها:
... « أما العفن الذي يسمونه العَدالَة في أمم الجَاهِليَّة الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء في مثل هذا الجو النظيف الكريم »(1).
... وأما الغَزَالي، فلا أجد تناقضاً في ثنايا كلامه حول مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لأنه من المسوغين لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي تسويغاً يدور مع المصلحة انطلاقاً من الأدلة الشَّرْعية التبعية التي اعتمدها، إلا أننا نلمس منه عدم الاقتناع من استخدامه لهذا المفهوم، لذلك أعترف صراحة بأن قبوله في الفِكْر الإسلامي إنما هو من باب التجوز فقط ويتضح ذلك في قوله:
«
__________
(1) قطب، سَيِّد: في ظلال القرآن، (2/515).(2/139)
إنكم تكرهون الاشْتِراكِيَّة عن نظر سليم وقد كرهناها نحن عن تجربة ومعاناة وأذكر أن صديقي الأستاذ السباعي ألّف كتاباً عن اشتراكية الإسلام... وقد ندم على العنوان الذي اختاره لكتابه وأنا أعلم سرّ ندمه لأنني خضت مثله هذه المحنة »(1).
??المسألة الثالثة :
محاذير في فهم واقع مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
... إن سوء الفهم للإسلام، والغلط في فهم الواقع يولد أخطاءً شنيعة وينشئ أخطاءً فظيعة تهدد تعاليمه الأصيلة، وتضيف ما ليس من تعاليمه إليه، ومن ذلك المصلحة.
والمصلحة: وهي جلب منفعة أو دفع مضرة وهي: إما أن يقررها الشَّرْع أو العقل فما قرره الشَّرْع كان معتبراً لما فيه من تحقيق المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وما نفاه الشَّرْع من مصالح فلا اعتبار لها، وما لم يشهد الشَّارِع لها بالبطلان أو الاعتبار والمسماة « المصلحة المرسلة » فلا بد أن تتلاءم مع المصالح المعتبرة وأن تكون ضرورية تعلم المسلمين وليس آحادهم وأفراداً دون آخرين، وأما ترك تقريرها للعقل لإدراك حقائق الأمور، فهذا أمر يدحضه الواقع لما تقرر من التغيير، والتبديل، والتعديل في قوانين الأنظمة الوضعية، نتيجة لمحدودية العقل.
... أما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة كالأخذ بمفهوم الدِّيمُقْراطِيَّة والاشْتِراكِيَّة والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تقرباً للحضارة الغَرْبيّة وتمشياً مع روح العصر أو غير ذلك مما يموه به مموهون من عبيد الفِكْر الغَرْبيّ، فهذا مما لا يجوز.
... فالقواعد التي على أساسها سوغ البعض دخول العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة إلى الفِكْر الإسلامي كالمصالح المرسلة والعقل والعرف والفطرة هي أدلّة عقليّة، والجدير بالذكر أن هذه الأدلة تثير الاختلاف عند الفقهاء المعتبرين حول صلاحيتها للاستدلال.
__________
(1) الغَزَالي، محمد : الدعوة الإسْلاميَّة تستقبل قرنها الخامس عشر الهجري، ص(119).(2/140)
... فقد وصفها حجة الإسلام الإمام الغَزَالي في كتابة «المستصفى» من علم الأصول والآمدى في كتابه «الأحكام في أصول الأحكام» بالأدلة الموهومة فضلاً عن أن المصالح المرسلة والاستحسان وجلب المنافع وغيرها من الأدلة العقلية، التي استندوا إليها في توفيقهم بين الإسلام وما هو غربي من الأفكار والمفاهيم والنظم من مثل مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، إنما تقوم على وهم فاسد وتصورات باطلة مؤداها:
أن النُّصُوص الشَّرْعية في الكتاب والسنّة محددة جاءت بأحكام محدودة أيضاً لوقائع كانت موجودة زمن نزولها، وهذا يعني أن الكثير من الأمور والوقائع المتجددة لا يوجد عليها دليل مباشر من الكتاب والسنّة وإنما أرشدت هذه النُّصُوص إلى طريقة إعطائها أحكاماً شرعية، وهذا الإرشاد كما يزعمون هو الاجتهاد العقلي المبني على ما أسموه مقاصد الشَّرِيعَة، وقَالوا إن الغرض من إرسال الرسل هو تحقيق مصالح العباد، أما كلمة مرسلة فمعناه وجود مصلحة لا يتعلق بها دليل شرعي من الكتاب والسنّة، وبناء على ذلك قَالوا: إن كل أمر يحقق مصلحة للعباد فهو من الإسلام، بل الإسلام يوجبه، وهذا ما وجدناه عند الكلام على منهج المُفَكِّرين الذين تعرضنا لذكرهم في هذا البحث، إذ أنهم جميعاً أدخلوا مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة على الفِكْر الإسلامي، واعتبروه هو والإسلام شيئاً واحداً. والحق إنّ كلامهم يجانب الصواب ولا سند عليه من شرع الله والاستدلال بهذه الأدلة الموهومة يؤدي إلى فساد الصبغة الإسْلاميَّة فضلاً عن كونه معول هدم للإسلام وإلباس الحق بالباطل وذلك من عدة وجوه:(2/141)
أولاً: ... إن الادعاء الوارد عن كل من المَوْدودِي وسَيِّد قطب والغَزَالي والذي يذهب إلى أن النُّصُوص الشَّرْعية المتمثلة بالكتاب والسنّة، جاءت بتفصيلات للعبادات والعقائد وتركت المعاملات والنظم لعقول البشر واجتهاداتهم، يجتهدون لها أحكاماً على ضوء المصلحة والعرف وما إلى ذلك، إنما يتضمن اتهاماً واضحاً للقرآن والسنّة بالنقص والتفريط وترك دائرة واسعة من الفراغ التشريعي، وهذا يتناقض مع قطعي القرآن الكريم في قوله تعالى:
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1)
وقوله سبحانه وتعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (2) وقوله سبحانه:
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (3)، وقد قَالَ ابن سريج: « ليس شيء إلا ولله عزّ وجلّ فيه حكم لأنه تعالى يقول: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } (4) و { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } (5) وليس في الدنيا شيء يخلو من إطلاق أو حظر أو إيجاب لأن جميع ما على الأرض من مطعم أو مشرب أو ملبس أو منكح أو حكم بين متشاجرين أو غيره لا يخلو من حكم، ويستحيل في العقول غير ذلك »(6) وقَالَ الشَّافِعِي : « فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها»(7).
__________
(1) المائدة / 3.
(2) الأنعام / 38.
(3) سبأ / 28.
(4) النساء / 86.
(5) النساء / 85.
(6) الزركشي، البحر المحيط (1/165).
(7) الشَّافِعِي : الرسالة ، تحقيق أحمد شاكر، ص(20).(2/142)
ثانياً: ... إنّ الله تعالى قد الزم عباده التحاكم إلى الكتاب والسنّة، فقَالَ : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } (1) وقَالَ: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } (2) من غير تحوير ولا تغرير، من غي بهرجة ولا تزييف، من غير إفراط ولا تفريط، من غير تزيين ولا تحريف، وعليه فلا يفقه الواقع من لم يعرف كتاب ربه سبحانه وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمقاصدها ملتزماً بأحكامها كما قَالَ تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (3) وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (4) وقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (5) وقوله : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } (6).
... فهذه النُّصُوص القرآنية القطعية الثبوت والدلالة واضح فيها حصر التحاكم لله ورسوله فقط، أي الرجوع إلى الكتاب والسنة في كل أمر يتعلق بالإنسان وسلوكه ونظام حياته، والتحاكم إلى المصالح المرسلة وإلى المنفعة وإلى العقل هو تحاكم لغير ما أنزل الله، وهو إتباع للعقل والهوى، وهذا مما يتناقض مع هذه النُّصُوص جميعها.
__________
(1) المائدة / 49.
(2) النساء / 105.
(3) النساء / 65.
(4) المائدة / 45.
(5) النساء / 59.
(6) يوسف / 40.(2/143)
ثالثاً: ... الزعم بأن التحاكم للمصالح هو تحاكم للكتاب والسنة، وذلك لأن مقاصد الشَّرِيعَة توجبه، هذا الزعم باطل، لأن مقاصد الشَّرِيعَة ليست نصاً يفهم حتى يعتبر ما يفهم منها دليلاً، وإنما هي الغاية من تشريع الحكم أي النتيجة التي يمكن أن توجد منه فعندما يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1) دلّ على أن الشَّرْعية وليس الباعث على تشريعها أي أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن حكمته من تشريع الشَّرِيعَة هو كونها رحمة، وليست الرحمة هي السبب الباعث على التشريع، فالنتيجة وهي الرحمة ليست علّة شرعية وإنما هي إخبار من الله تأخذ حكم القصص والأخبار والمواعظ والإرشادات ولا يصح أن تكون غير ذلك فلا تدخل في التشريع ولا في استنباط الأحكام ولا بوجه من الوجوه(2).
... وعليه، فإن الشَّارِع لم يعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام الشَّرْعية لأنه لم يجعلها علّة لتشريع الشَّرِيعَة ولا علّة للأحكام الشَّرْعية بجملتها فلا يكون للمصالح المرسلة أي اعتبار شرعاً.
__________
(1) الأنبياء / 107.
(2) انظر حول هذه المسألة:
... - النَّبَهَانِيّ: الشخصية الإسْلاميَّة ، أصول الفقه (3/359-366).(2/144)
ومن ثمّ فإن النُّصُوص الشَّرْعية التي دلّت على الأحكام الشَّرْعية سواء ما جاء منها معللاً بعلّة وما جاء غير معلل إنما دلّت على معانٍ معينة تبين حكم الله في فعل العبد ولم تأت لجلب المصالح ودرء المفاسد، فلا محل للمصلحة والمفسدة فيها لأن ذلك لم تدل عليه هذه النصوص، فلا يقَال إنّ تحريم البيع عند آذان الجمعة مصلحة وإن كون منابع النفط ملكية عامة مصلحة وإن القصاص مصلحة وكما لا يقَال أن تحريم الزِّنَا درء مفسدة، وإن تحريم الرِّبَا درء مفسدة لأن الله لم يقل ذلك ولا يوجد دليل عليه ولأن هذه الأحكام قد شرعها الله بالنُّصُوص الشَّرْعية، منها ما جاء معللاً بعلّة نصّ عليها الشَّرْع ومنها ما لم يكن معللاً، وما جاء منها معللاً لم يكن جلب المصلحة ودرء المفسدة علّة لأي حكم منها وإنما كانت العلّة في تحريم البيع عند آذان الجمعة لعلة هي الإلهاء عن الصلاة.
وعليه، فلا تعتبر المصلحة دليلاً شرعياً وما فعله بعض أفراد الصحابة كجمع أبي بكر للقرآن ليس دليلاً على اعتبار المصالح المرسلة دليلاً، وإنما هو استنباط للحكم من الدليل حسب سليقتهم السليمة في معرفة اللغة، وفهم الشَّرِيعَة وليس مراعاة للمصلحة، وإنما لأن الرسول أمر بإزالة الضرر. وعليه، فإن كل فكر بني على المصالح المرسلة وغيرها من الأدلة العقلية لا يعد فكراً إسلامياً.
... وعليه، فإني أخلص إلى القول بأن لا وجود للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة في الفِكْر الإسلامي وكل ما هو موجود في الإسلام مما دعت إليه النُّصُوص الشَّرْعية في الكتاب والسنّة في هذا الخصوص هو العدل الشامل بمعنى الاستقامة على منهج الله والاهتداء بهديه في كل قول أو عمل سواء أكان متعلقاً بالأمور الفردية الخاصة أم بالقضايا السِّيَاسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة العامة.(2/145)
... هذا هو ما ينسجم مع ما توصلت إليه في بيان المعنى الشَّرْعي لكلمة العَدالَة وما ورد على ألسنة مشاهير الفقهاء، أنه العدل الذي دلّ عليه الكتاب والسنّة في شموله كل أعمال الإنسان، سواء فيما يتعلق بإعطاء كل ذي حق حقه، أم بالاستقامة على نهج الإسلام في القول والعمل من خلال الالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه.
... وصفوة الكلام: إن العدل في الإسلام فريضة شرعية مستنبطة من النُّصُوص الشَّرْعية المتمثلة في الكتاب والسنّة، وليست حقّاً من حقوق الإنسان السِّيَاسِيَّة والمالية التي باستطاعة صاحبها التنازل عنها أو التفريط فيها، وهذا ما يجعل العدل في الإسلام مغايراً للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة التي هي من إفرازات التاريخ الأوروبي الحديث لترقيع مفاسد النِّظَام الرأسمالي الذي أهدرت فيه حقوق الإنسان من جرّاء الحرِّيَّة الفردية.
... هذه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة التي ظهرت في لوائح الوثيقة الخاصة المسماة بحقوق الإنسان التي أعلن عنها في الأمم المتحدة عام 1948 وبالتالي فهي تتناقض مع الإسلام في كونها جزئية لا تتعدى بعض الحقوق السِّيَاسِيَّة والاقتصادية وكذلك في كونها صادرة عن العقل البشري وليست مستنبطة من الكتاب والسنّة ومن ثمّ لا يجوز أن يقَال في الإسلام عدالة اجتماعية أو العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الإسلام، فعدل الإسلام عدل ثابت شامل وهو معيار شرعي، والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة حق من الحقوق الإنسانية الذي أملته ظروف اجتماعية خاصة.(2/146)