مُقَدّمَة
...
الْحَمد الله الْمُنعم المتفضل تفضل علينا بِنِعْمَة الْإِسْلَام والدعوة إِلَيْهِ وَصَلَاة الله وَسَلَامه وَبَرَكَاته على رَسُوله الْمُصْطَفى وَالنَّبِيّ المرتضى نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَئِمَّة الْهدى ودعاة الْحق وَالتَّابِعِينَ لَهُم على منهاجهم فِي الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى. وَبعد.
إِن معرفَة الدعاة، سنة الله مَعَ دعاة الْحق قَدِيما وحديثا وَكَيف امتحن الله الرُّسُل وأتباعهم أَن هَذِه الْمعرفَة لما يُخَفف على الدعاة وَطْأَة المشاكل والمحن إِذا مَا أوذوا فِي سَبِيل دعوتهم وَلَا بُد أَن يؤذوا.
وَمِمَّا قَالَه ورقة بن نَوْفَل لرَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عِنْدَمَا زَارَهُ فِي صُحْبَة خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ ليخبره مَا جرى لَهُ فِي جبل حراء مَعَ جِبْرِيل مِمَّا قَالَه ورقة: "مَا جَاءَ أحد بِمثل مَا جِئْت بِهِ إِلَّا أوذي"1.
تِلْكَ هِيَ سنة الله مَعَ دعاة الْحق. وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا. وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا. لَو ذَهَبْنَا لنرى كَيفَ عَاشَ أول رِسَالَة إِلَى أهل الأَرْض وَهِي رِسَالَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام رَأينَا الرَّسُول نوحًا يقاسي من قومه صنوفا من المشاكل من سخرية السُّفَهَاء وعناد المعاندين. وعَلى الرغم من ذَلِك نرَاهُ يجابه الْجَاهِلِيَّة ويصدع بِالْحَقِّ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 2 وثارت الْجَاهِلِيَّة وعاندت وكابرت وأخيرا أَخذ نوح يجأر إِلَى الله وَيَدْعُو عَلَيْهِم الدُّعَاء الْأَخير
__________
1 - أخرجه خَ بَدْء الْوَحْي وَغَيره من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَدِيث رقم 3 وأطراف هَذَا الحَدِيث فِي سِتَّة مَوَاضِع فِي الْجَامِع الصَّحِيح.
2 - سُورَة نوح الْآيَة 3.(1/5)
: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} 1 وَلَو تركنَا نوحًا وتمرد الْجَاهِلِيَّة وَدُعَاء نوح بِالْهَلَاكِ لترى تِلْكَ المحنة الَّتِي عاشها خَلِيل الرَّحْمَن إِبْرَاهِيم إِذْ جَاءَ إِبْرَاهِيم قومه بأسلوب لَا يتوقعونه إِذْ قَامَ من توه بأسلوب يهدم الْجَاهِلِيَّة ليبني على أنقاضها الْإِسْلَام, الْإِسْلَام الَّذِي لَا يقبل الله سواهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.
صَاح فيهم صَيْحَة الْحق قَائِلا: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3.
فهاجت الْجَاهِلِيَّة وجن جنونها وقررت أخيرا التَّخَلُّص من الرَّسُول ورسالته وأصدرت قراراها الْقَائِل {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} 4 بيد أَنه صدر من السَّمَاء قَرَار {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} 5 فَأبْطل هَذَا الْقَرار مفعول قَرَار الْجَاهِلِيَّة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة، هَكَذَا امتحن الرسولان الكريمان وَلَكِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين.
__________
1 - سُورَة نوح الْآيَة 27
2 - سُورَة آل عمرَان الْآيَة 85.
3 - سُورَة الْأَنْبِيَاء الْآيَة 67.
4 - سُورَة الْأَنْبِيَاء الْآيَة 68.
5 - سُورَة الْأَنْبِيَاء الْآيَة 70.(1/6)
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
أما مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فقد تنوعت المشاكل مَعَه ورافقته المحن والمخاوف وَهُوَ رَضِيع ثمَّ شبت مَعَه حَيْثُ أَخذ يحاول الطاغية فِرْعَوْن التَّخَلُّص مِنْهُ وَهُوَ رَضِيع ثمَّ بَدَأَ يُؤْذِيه سُفَهَاء قومه من جِهَة فتجلد حَتَّى بلغ رِسَالَة ربه فِي وسط تِلْكَ الأمواج المتلاطمة من المحن المتنوعة. فيخبر الْقُرْآن آخر قصَّة مُوسَى مَعَ فِرْعَوْن فَيَقُول: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} 1
__________
1 - سُورَة الْقَمَر الْآيَتَانِ 41 - 42(1/7)
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام
إِذا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قد رافقته المحن كَمَا قُلْنَا مُنْذُ أَن كَانَ فِي المهد صَبيا بِأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قد واجهته ألوان من الشكوك موجهة إِلَيْهِ وَإِلَى والدته فَور أَن وجد فِي هَذِه الدُّنْيَا فقاسى ضروبا من الْعَنَت إِذا اخْتلف فِيهِ الْقَوْم بَين قَائِل هُوَ ابْن الله أَو الله نَفسه وَبَين قَائِل هُوَ ولد بغي فَجعل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يعرف الْقَوْم نَفسه وَحَقِيقَته فِيمَا تخبرنا بِهِ سُورَة مَرْيَم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} 1 وعَلى الرغم من هَذِه الْحَقِيقَة الَّتِي شرحها الْقُرْآن لم يزل الْقَوْم يتمردون عَلَيْهِ ويؤذونه.
__________
1 - سُورَة مَرْيَم الْآيَتَانِ 30 - 34(1/7)
وَلكنه كَانَ يُقَابل ذَلِك بِالصبرِ الْجَمِيل والتحمل وَكَانَ محاطا بعناية الله تَعَالَى وَقد تَآمَرُوا على قَتله وصلبه وَلَكِن الله جعل فداءه ذَلِك الرجل الَّذِي كَانَ دَلِيلا لَهُم يدلهم على مخبئه فَقَتَلُوهُ ثمَّ صلبوه جَزَاء وفَاقا. فأشاعوا بِأَنَّهُم قتلوا عِيسَى وصلبوه فيوضح الْقُرْآن هَذِه الْحَقِيقَة ويخبر أَن تِلْكَ الإشاعة عَنهُ لَيْسَ لَهَا أصل من الصِّحَّة فَيَقُول الله تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1.
__________
1 - سُورَة النِّسَاء الْآيَتَانِ 157، 158.(1/8)
مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين آمنُوا بِهِ واتبعوه
مَضَت الْأَيَّام تلو الْأَيَّام والشهور تلو الشُّهُور والدهور تلو الدهور ليحين وَقت بزوغ فجر الْإِسْلَام من جَدِيد من وَاد غير ذِي زرع من عِنْد بَيت الله الْمحرم بِمَكَّة فولد مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَكَّة وترعرع فِيهَا فَعرف عِنْد قومه مُنْذُ صغره بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة، فَكَانَت لَهُ شخصية وَكسب شعبية بأخلاقه الْكَرِيمَة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1, فَلَمَّا كلفه ربه بتبليغ رسَالَته وَأَن يصدع بِالْحَقِّ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 2 فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام واستنكر الْقَوْم هَذِه الدعْوَة واستغربوا هَذَا الأسلوب الْجَدِيد الَّذِي لابد لَهُم بِهِ وَالرَّسُول يُنَادى فيهم: "قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا إِلَه تفلحو"4, فَأدْرك الْقَوْم معنى هَذِه.
__________
1 - سُورَة ن الْآيَة 4
2 - سُورَة الْحجر الْآيَة 94.
3 - أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 3/492 من حَدِيث ربيعَة بن عباد الدبلي وَكَانَ جاهليا واسلم 4/341 بِإِسْنَاد صَحِيح وَقد أخرجه أَيْضا 4/63 وَذَلِكَ من حَدِيث شيخ من بني مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(1/8)
الْكَلِمَة وَأَنَّهَا تعنى الْقَضَاء على آلِهَتهم وبالقضاء عَلَيْهَا يقْضِي على نفوذهم الْوَاسِع وسلطانه الجاهلي.
فَلَمَّا كَانَ لصَاحب الدعْوَة من المكانة فِي أنفسهم سَابِقًا لم يتجرؤوا فِي أول الْأَمر على قَتله وَقتل دَعوته فِي مهدها. بل اتبعُوا أساليب شَتَّى قبل قَرَار الْقَتْل الَّذِي سَوف نتحدث عَنهُ إِن شَاءَ الله فعرضوا عَلَيْهِ المَال أَو الجاه والرياسة وَلم ينجح الْعرض إِذْ رَأَوْا أَنه لَيْسَ لَدَيْهِ أدنى ميل إِلَى هَذِه الْأُمُور الَّتِي يرونها عَظِيمَة فعمدوا إِلَى أسلوب خسيس يُرِيدُونَ بِهِ تدمير أعصاب الرَّسُول لَو اسْتَطَاعُوا وَالْقَضَاء على الرّوح المعنوية الْعَالِيَة فَأخذُوا يقترحون اقتراحات ساخرة. يحدثنا الْقرَان عَن شَيْء من ذَلِك فَيَقُول:
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} 1 وَلما لم ينجح هَذَا النَّوْع من الأسلوب أَيْضا أخذُوا يفترون على من سموهُ من قبل أَنه الصَّادِق الْأمين2 ويلقبونه بألقاب مفتريات ويشيعون ضد الدعْوَة إشاعات هم يعلمُونَ عدم صِحَّتهَا قبل غبرهم وَلم يتْركُوا بَابا من الْمَكْر والمكيدة إِلَّا طرقوه وَهَا هُوَ الْقُرْآن يحدثنا عَن مَكْرهمْ:
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} 3
__________
1 - سُورَة الْإِسْرَاء الْآيَة 93
2 - أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 3/425 وَذَلِكَ من حَدِيث السَّائِب بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح.
3 - سُورَة إِبْرَاهِيم الْآيَة 46(1/9)
وَلما لم تنجح جَمِيع الْوَسَائِل الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا من عرض المَال والرياسة والسخرية والشائعات والافتراءات. وَهِي مَا يسمونه بِالْحَرْبِ النفسية لَجأ الْقَوْم إِلَى الْحَرْب الحسية ينالون بهَا من صَاحب الرسَالَة وَأَصْحَابه حَيْثُ تَفَجَّرَتْ أحقادهم. فعقدت جلْسَة خَاصَّة ومهمة لسادات قُرَيْش فِي الْحجر واسترضوا الْموقف ودرسوه وعددوا مَا فعل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمَا قَالَ فِي حَقهم وفى حق آلِهَتهم قَالُوا: "مَا رَأينَا مثل مَا صَبرنَا عَلَيْهِ من أَمر هَذَا الرجل قطّ: سفه أَحْلَامنَا وَفرق جماعتنا وَسَب آلِهَتنَا وَشتم آبَاءَنَا وَعَابَ ديننَا"1 إِلَى آخر مَا عددوه وَمن بَاب الْمُوَافقَة أَن يمر بهم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وهم يتحدثون فِي أمره. فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وثبة رجل وَاحِد وَأَحَاطُوا بِهِ من كل جَانب وصاحوا بِهِ قائلين: "أما الَّذِي تَقول كَذَا وَكَذَا؟ فَيُجِيبهُمْ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. بِكُل ثِقَة وثبات. نعم أَنا أَقُول كَذَا وَكَذَا وَأَرَادُوا قَتله فأدركهم أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فانبرى للدفاع عَنهُ فَأخذ يدْفع هَذَا ويجأ هَذَا فِي بَطْنه وَهُوَ يَقُول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّه} 2
وَلما أعجزتهم جَمِيع الْحِيَل عقدوا مؤتمرا خطيرا فِي زعمهم فِي الْأَيَّام الَّتِي أَخذ الْمُسلمُونَ يهاجرون فِيهَا إِلَى الْمَدِينَة وظنوا أَن الفرصة سانحة فَلَا تفوت، وَمن الاقتراحات المهمة الَّتِي طرحت على بِسَاط الْبَحْث والمناقشة للتخلص من النَّبِي ودعوته هِيَ الْآتِيَة:
__________
1 - أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده 2/218 بسياق طَوِيل عَن طَرِيق ابْن إِسْحَاق وَهُوَ يُصَرح بِالسَّمَاعِ عَن شَيْخه بن عُرْوَة وَإِسْنَاده حسن.
2 - سُورَة غَافِر الْآيَة 28(1/10)
ا - أَن يسجن سجنا مُؤَبَّدًا وَلَا يفك.
2 - أَن يقتل على أَيدي عدد من شباب قُرَيْش ينتخبون من عدَّة قبائل ليتفرق دَمه بَين الْقَبَائِل.
3 - أَن ينفى من الْبَلَد.
وَلما وضعُوا خطتهم وحزبوا أَمرهم كشف الله السَّمِيع الْقَرِيب أسرار مؤتمرهم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1 هَذَا وَكَانَت المحنة على ضراوتها وقسوتها لَا تزيد مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَصَحبه إِلَّا صلابة وتصميما. تصميما فِي الْمُضِيّ مهما كَانَت التضحيات.
وفى الْوَقْت الَّذِي كَانُوا يؤذونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هَذَا الْإِيذَاء كَانُوا يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ بِهِ ويعذبونهم بألوان الْعَذَاب. وَقد سجل التَّارِيخ مَا فعل أُميَّة بن خلف ببلال الحبشي فِي بطحاء مَكَّة ليكفر بِمُحَمد ويعبد اللات والعزى وَلَا يزِيد بِلَال على قَوْله أحد أحد2 وَهُوَ تَحت تِلْكَ الصَّخْرَة وَلَكِن إيمَانه كَانَ أعظم وَأثبت وَكَانَت هَذِه الْكَلِمَة من بِلَال تعنى الهتاف بِلَا إِلَه إِلَّا الله. وَقل هُوَ الله أحد وفى مَكَان آخر من مَكَّة أَيْضا نرى آل يَاسر يُعَذبُونَ ويفتنون ليكفروا بِالْإِسْلَامِ ويعبدوا اللات والعزى وَيَمُوت الْأَب وَهُوَ شيخ كَبِير تَحت التعذيب من توه كَمَا تَقول بعض رِوَايَات السِّيرَة.
أما الْأُم الشجَاعَة فقد أغلظت القَوْل على أَبى جهل فَطَعَنَهَا لشدَّة جَهله برمحه فَقَتلهَا فَهِيَ أول شهيدة فِي الْإِسْلَام. وَكَانَ النَّبِي
__________
1 - سُورَة الْأَنْفَال الْآيَة 30
2 - أخرجه ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة 1/317 - 318 بِإِسْنَاد حسن إِذْ قالك حَدثنِي عبد الله بن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا ثمَّ ذكر بعض الشَّيْء ثمَّ ذكر قصَّة بِلَال رَضِي الله عَنهُ وَنقل عَنهُ الْحَافِظ فِي الْإِصَابَة ص 1/165(1/11)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يمر بآل يَاسر وهم يُعَذبُونَ فَيَقُول لَهُم: "صبرا آل يَاسر فَإِن مَوْعدكُمْ الْجنَّة" 1
وَقد شهِدت أَيَّام النُّبُوَّة أبطالا خلد التَّارِيخ بطولته وشجاعتهم وثباتهم على عقيدتهم مهما كلفهم ذَلِك من الثّمن. وَلَو كَانَ الثّمن إزهاق أَرْوَاحهم الطاهرة فلنتخذ مِنْهُم خبيب بن عدي كمثال فَقَط لندرك أثر العقيدة فِي نُفُوسهم.
يَقُول عُلَمَاء السِّيرَة أَن خبيبا أحد الَّذين بَعثهمْ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى بعض الْقَبَائِل الَّتِي تسكن بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَهِي قَبيلَة عضل وَمَا جاورها من الْقَبَائِل فَبَيْنَمَا هُوَ فِي طَرِيقه اعتقل ثمَّ حمل إِلَى مَكَّة وَبَاعه المجرمون لبني الْحَارِث بن عَامر بَين نَوْفَل ليقتلوه بحارث بن عَامر الَّذِي قَتله خبيب يَوْم بدر وَفِي الْيَوْم المحدد لقَتله خَرجُوا بِهِ من الْحرم إِلَى التَّنْعِيم ليقتلوه فِي الْحل بعد أَن يصلبوه فَاسْتَأْذن مِنْهُم ليُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ2 يُنَاجِي فيهمَا ربه وَهُوَ ساجد فأذنوا لَهُ فصلى رَكْعَتَيْنِ حسنتين فَلَمَّا فرغ فَأقبل عَلَيْهِم فَقَالَ: "أما وَالله لَوْلَا أَن تظنوا إِنَّنِي جزع من الْمَوْت لاستكثرت أَو لأطلت فَرفع خبيب على الْخَشَبَة فَقيل ارْجع عَن الْإِسْلَام نخلى سَبِيلك. فَقَالَ: لَا وَالله مَا أحب أَن أرجع عَن الْإِسْلَام وَأَن لي مَا فِي الدُّنْيَا جَمِيعًا". وَله دَعْوَة مستجابة على الْكفَّار فِي هَذِه الْمُنَاسبَة مسجلة فِي كتب السّير وَكتب الحَدِيث وَلَا نطيل بذكرها.
__________
1 - أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 63/ 1 بِإِسْنَاد صَحِيح وَذَلِكَ من حَدِيث سَالم بن أبي الْجَعْد وَأوردهُ النَّوَوِيّ فِي تهذبب الْأَسْمَاء للنووي رقم التَّرْجَمَة 30 ص 37 الْجُزْء الثَّانِي من الْقسم الأول.
2 - أخرجه خَ الْجِهَاد "170" الْمَغَازِي "10" "28" وَذَلِكَ من حدبت أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ انْظُر الْفَتْح 308 - 309/ 7 حَدِيث رقم 3989.(1/12)
وَمِمَّا قَالَه خبيب وَهُوَ مُعَلّق مصلوب: "اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أرى إِلَّا وَجه الْعَدو اللَّهُمَّ إِنَّه لَيْسَ هَا هُنَا أحد يبلغ رَسُولك عني السَّلَام فَبَلغهُ عني أَنْت" فَبلغ جِبْرِيل سَلَامه إِلَى النَّبِي فَأخْبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه".
فَأخذُوا يمزقون جلده أشلاء برماحهم وَهُوَ يترنم بأبياته الْمَشْهُورَة الَّتِي مِنْهَا:
لقد أجمع الْأَحْزَاب حَولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
إِلَى الله أشكوا غربتي بعد كربتي ... وَمَا أرسل الْأَحْزَاب عِنْد مصرعي
وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ ... يُبَارك على أوصال شلو ممزع
وَلست أُبَالِي حِين أقتل مُسلما ... على أَي جنب كَانَ فِي الله مصرعي
وَفِي وسط هَذِه المحن والمشاكل المحزنة أظهر الله دينه وقويت شوكته وأعز الله أَتْبَاعه حَتَّى قَامَت لَهُ دولة فِي طيبَة فطابت لأتباعه وطاب مقامهم بهَا فَجعل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يسْتَقْبل الْوُفُود تلو الْوُفُود وهم يدْخلُونَ فِي الْإِسْلَام ويسألون عَن تعاليمه وَفِي الْوَقْت نَفسه يُرْسل جَيْشه إِلَى الْأَطْرَاف ليدعوا إِلَى الله بِالَّتِي هِيَ أحسن أَولا وللمعاند السَّيِّد هَكَذَا أظهر الله الْإِسْلَام وأعز أَهله وَلَو كره الْكَافِرُونَ.
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 1 {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 2.
__________
1 - سُورَة المُنَافِقُونَ الْآيَة 8
2 - سُورَة الصَّفّ الْآيَة 9(1/13)
ثمَّ سلم الرَّسُول الزِّمَام لرجال أُمَنَاء تسلموا الدعْوَة وَسَارُوا بهَا سيرتها الأولى لم يُغيرُوا وَلم يبدلوا فَأخذُوا يفتحون الْقُلُوب قبل أَن يفتحوا الْبِلَاد فَأقبل النَّاس على الْإِسْلَام محبَّة وتقديرا لحملته لما رَأَوْا فيهم الرَّحْمَة والإنصاف وَالْعدْل وَعدم التَّنَاقُض وَهِي الصِّفَات الَّتِي جعلت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا.
هَكَذَا مثل الْإِسْلَام أَصْحَاب رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وأتباعهم وحببته إِلَى النَّاس ثمَّ انْتَهَت تِلْكَ الْقُرُون الَّتِي هِيَ بِحَق خير هَذِه الْأمة "خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ" 1. ثمَّ خلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الدعْوَة وشوهوا الْإِسْلَام وأدخلوا فِيهِ مَا لشى مِنْهُ فاشتدت غربَة الدّين من جَدِيد فَوَقع الدعاة فِي مشاكل ومحن غير متوقعة إِذْ واجهت الدعْوَة صنوفا من الضغط والاضطهاد من أُولَئِكَ الَّذين يتظاهرون بِالْإِسْلَامِ بل فِي زعمهم أَنهم أَتبَاع صَاحب الرسَالَة والمحبين لَهُ.
وظلم ذَوي الْقُرْبَى أَشد مضاضة ... على الْمَرْء من وَاقع الحسام المهند
__________
1 - صَحِيح مضى تَخْرِيجه ص 25 وَقد أخرجه خَ وم وَغَيرهمَا وَذَلِكَ من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(1/14)
مشاكل الدعْوَة بَين الْمَاضِي والحاضر
وَقد استعرضنا عرضا سَرِيعا مشاكل الدعْوَة عبر التَّارِيخ الطَّوِيل للدعوة اعْتِبَارا من عهد نوح عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْعَصْر الحَدِيث محاولين الرَّبْط بَين ماضي الدعْوَة وحاضرها لنقارن بَين المشاكل والمحن المحدقة بالدعوة والدعاة فيهمَا وَتبين لنا من هَذَا الْعرض أَن المشاكل الَّتِي واجهتها الدعْوَة فِي الْمَاضِي الْبعيد والقريب كَانَ مصدرها.(1/14)
أَعدَاء الدعْوَة المكشوفة عداوته الَّذين يعادونها علنا مِمَّا جعل الدعاة يحذرونهم ويحتاطون لمكائدهم وَلَا يفاجئون بهَا إِذا نهرت بل يقابلونها بِكُل ثِقَة وثبات دون اضْطِرَاب أَو قلق.
أما فِي الْعَصْر الحَدِيث فتواجه الدعْوَة الإسلامية ودعاتها مشاكل ومحنا لَا قبل لَهُم بهَا من المنتسبين إِلَى الْإِسْلَام بل من المنتسبين إِلَى الدعْوَة نَفسهَا أَحْيَانًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك.(1/15)
نوعية الشاكل فِي الْمَاضِي
...
نوعية المشاكل فِي الْمَاضِي
أما نوعية المشاكل والمحن فِي الْمَاضِي قَرِيبا كَانَ أَو بَعيدا تنجلي فِيمَا يَلِي:
ا - إِيذَاء الدعاة فِي أنفسهم وَأَتْبَاعه وتعذيبهم لمحاولة إيقاف الدعْوَة.
2 - وَرُبمَا قدّموا لَهُم بعض المغريات كالأموال والمناصب والرياسة وَلَكِن دون جدوى.
3 - محاولة الْقَضَاء على الدعْوَة فِي مهدها بقتل صَاحب الدعْوَة أَو حَبسه أَو نَفْيه وإخراجه من أرضه وإبعاده فِي الْآفَاق كَمَا مر بِنَا تَفْصِيل ذَلِك.
هَكَذَا كَانَت نوعية المشاكل فِي العصور الغابرة وَكلهَا باءت بالفشل كَمَا رَأينَا إِذْ جعل الله الْعَاقِبَة للرسل وأتباعهم ونصرهم على أعدائهم {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 1.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2
__________
1 - سُورَة الْأَنْفَال الْآيَة 10
2 - سُورَة الصافات الْآيَات 171و172,173.(1/15)
نوعية المشاكل فِي الْعَصْر الحَدِيث
تعيش الدعْوَة الإسلامية فِي الْعَصْر الحَدِيث حَيَاة لَا تعرف لَهَا مثلا فِي العصور الغابرة وَقد تنوعت المشاكل وتعددت، مِمَّا جعل دعاة الْحق يحتارون فِي أَمر الدعْوَة ومشاكلها المتنوعة وَكَيْفِيَّة التغلب عَلَيْهَا حَتَّى صَار هَذَا التفكير شغلهمْ الشاغل. وفى الْإِمْكَان أَن نوجز أهم تِلْكَ المشاكل فِيمَا يَلِي:
"أ" الْجَهْل أَي عدم تصور الْإِسْلَام تصورا صَحِيحا.
"ب" التَّنَاقُض الَّذِي يُصِيب بعض الدعاة أَحْيَانًا.
"ج" النفرة وَعدم الانسجام بَين المنتسبين إِلَى الدعْوَة الإسلامية.
"د" وجود بعض الطوائف الضَّالة الَّتِي تعْمل فِي بعض الْبِلَاد باسم الْإِسْلَام "كالقاديانية".
"هـ" المناهج العقيمة المقررة فِي كثير من جامعاتنا.
"و" آثَار الاستعمار الْبَاقِيَة فِي كثير من الْبلدَانِ الإسلامية.
تَفْصِيل الْكَلَام على المشاكل السِّت:
الْجَهْل: حَقًا إِن الْجَهْل دَاء فعلى الداعية أَن يبْدَأ بتكوين نَفسه وعلاج دائه قبل أَن ينزل الميدان للدعوة وَذَلِكَ بالفهم الصَّحِيح. بِأَن يُوَجه اهتمامه إِلَى أَخذ الْعلم من مصدره الْأَصِيل الْكتاب وَالسّنة على أَنَّهُمَا هما المصدران للشريعة أُصُولهَا وفروعها وبدراستهما يحصل الْعلم النافع وَالْهدى والسيادة فِي الدُّنْيَا والسعادة فِي الْآخِرَة. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1 وَيَقُول الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
__________
1 - سُورَة الْإِسْرَاء الْآيَة 9(1/16)
"أُوتيت الْقرَان وَمثله مَعَه" 1 كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يدرس السِّيرَة العطرة وَلَا بَأْس أَن يطلع على مَا تزخر بِهِ المكتبة الإسلامية الحديثة من كتب قيمَة تستند إِلَى الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة المطهرة فِي بحوثها ومعالجتها للحوادث العلمية.
وَبِذَلِك يتكون لَدَى الدارس تصور صَحِيح لهَذَا الدّين فِي أَحْكَامه وتشريعاته وعقيدته وعبادته وأخلاقه.
وَبِذَلِك يحصل لَهُ الْفِقْه فِي الدّين. وَهُوَ التَّصَوُّر الصَّحِيح لِلْإِسْلَامِ - كَمَا قُلْنَا - يتَصَوَّر وَيفهم فهما دَقِيقًا معنى الألوهية وَمعنى الْعِبَادَة وَمعنى الْجَاهِلِيَّة، وَمَا أصدق كَلَام عمر بن الْخطاب إِذْ يَقُول: "إِنَّمَا تنقض عرى الْإِسْلَام عُرْوَة عُرْوَة إِذا نَشأ فِي الْإِسْلَام من لم يعرف الْجَاهِلِيَّة"2 هُوَ الْفِقْه الَّذِي يُريدهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قَوْله: "من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين" 3.
وَعدم هَذَا الْفِقْه هُوَ الَّذِي جعل أهل الْكَلَام يسمون فلسفتهم توحيدا وتعطيلهم تَنْزِيها وَإِثْبَات غَيرهم تَشْبِيها وألفوا فِي ذَلِك مؤلفات تدرس الْيَوْم فِي كثير من معاهدنا وجامعاتنا باسم التَّوْحِيد وَلَيْسَ فِيهَا طعم التَّوْحِيد وَلَا روحه، بل قد أبعدوا النجعة فهم كَمَا قَالَ الْقَائِل:
نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل هَاشم ... وَنزلت بالبطحاء أبعد منزل
وَهَؤُلَاء فِي وَاد والتوحيد والعقيدة فِي وَاد
__________
1 - أخرجه الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 130 - 131/ 4 من حَدِيث الْمِقْدَام بن معد يكرب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأخرجه الْآجُرِيّ فِي الشَّرِيعَة من هَذَا الْوَجْه وَأوردهُ السُّيُوطِيّ فِي مِفْتَاح الْجنَّة.
2 - مضى بَيَانه
3 - مضى تَخْرِيجه أخرجه خَ الْعلم (10) الْخمس (7) . م الْإِمَارَة (175) وَأحمد فِي مُسْنده 1/306 1 من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَغَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم.(1/17)
فكم حَالَتْ تِلْكَ المؤلفات بَين شبابنا وَبَين فهم العقيدة الإسلامية الَّتِي نطق بهَا الْكتاب وَالسّنة كنتيجة للتصور الخاطيء لِلْإِسْلَامِ وعقيدته وَلَقَد أحسن من قَالَ:
الْعلم قَالَ الله قَالَ رَسُوله ... قَالَ الصَّحَابَة لَيْسَ بالتمويه
مَا الْعلم نصبك للْخلاف سفاهة ... بَين الرَّسُول وَبَين رَأْي فَقِيه
وَلَا جحد الصِّفَات ونفيها ... حذرا من التَّمْثِيل والتشبيه
هَذَا وَإِن عدم الْفِقْه الدَّقِيق هُوَ الَّذِي حمل العبّاد أَو المنتسبين إِلَى التنسك والتعبّد على ابتداع طقوس بعيدَة عَن روح الْإِسْلَام وأطلقوا عَلَيْهَا أَسمَاء من عِنْد أنفسهم على حِسَاب الْإِسْلَام وَفرقُوا بهَا جمَاعَة الْمُسلمين ووزعوهم على تِلْكَ الْبدع وأعلنوا عَن أنفسهم أَنهم أهل الله وأحباؤه, وَلَهُم صَلَاحِية لَيست للأنبياء وَالرسل. إِذْ فِي إمكانهم أَن يَأْخُذُوا الدّين وشرائعه عَن الله مُبَاشرَة بِغَيْر وَاسِطَة جِبْرِيل وَدون الْحَاجة إِلَى الرَّسُول مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
هَكَذَا تَدْعُو جهلة الصُّوفِيَّة إِلَى الرِّدَّة من حَيْثُ لَا تشعر أَو من حَيْثُ تشعر بِالنِّسْبَةِ لأقطابهم. وَمن تلكم الطّرق المبتدعة الطّرق الْآتِيَة أَسمَاؤُهُم:
ا - الطَّرِيقَة التيجانية.
2 - الطَّرِيقَة القادرية.
3 - الطَّرِيقَة السنوسية.
4 - الطَّرِيقَة المرغنية.
إِلَى آخر تلكم الْأَسْمَاء الَّتِي وزعت الْمُسلمين طرائق قددا وسماها أُولَئِكَ الَّذين لَا فقه لَهُم فِي الدّين أَنَّهَا من طوائف الْمُسلمين بل زعم(1/18)
بعض هَؤُلَاءِ أَن أَصْحَاب هَذِه الطّرق من دعاة الْإِسْلَام وَأَنا هم الَّذين انْتَشَر الْإِسْلَام بدعوتهم فِي الْعَالم، يَا لَهَا من فِرْيَة مَا أفظعها وَيَا لَهَا من جهل مَا أقبحه.
إِن هِيَ إِلَّا بدع سميت بِغَيْر أسمائها لَو كَانُوا يفقهُونَ.
وَلَا يستكثر على مَشَايِخ الصُّوفِيَّة أَن يَأْتُوا كل بِدعَة وَأَن يَقُولُوا كل قَول بعيد عَن الصَّوَاب لأَنهم أوعية جهل لَو صَحَّ هَذَا التَّعْبِير ولعلي لَا أثقل عَلَيْكُم لَو نقلت لكم بَيْتا صوفيا يشْتَمل على الْوَعْظ والإرشاد فِي دين الصُّوفِيَّة وَهَذَا نَصه:
فَأكْثر مَا اسْتَطَعْت من الْخَطَايَا ... إِذا كَانَ الْقدوم على الْكَرِيم
"تيسير الْعَزِيز الحميد ص 67" وأتركه هَكَذَا دون تَعْلِيق لِتَأْخُذُوا حريتكم فِي التَّعْلِيق: وجهلهم مركب وَهُوَ من أقبح نوعا الْجَهْل كَمَا لَا يخفى وَلَكِن الَّذِي يخجل وَيحمل الْمَرْء على الاستغراب أَن يتبنى الدعْوَة إِلَى هَذِه الطّرق المبتدعة ويعد أَصْحَابهَا من دعاة الْمُسلمين عُلَمَاء أجلاء وَلَو فِي نظر الْعَامَّة ودكاترة محترمون، كَيفَ جهلوا بِأَن هَذِه الطّرق عقبَة من العقبات الَّتِي يشكو مِنْهَا دعاة الْحق فِي كل مَكَان وَلَيْسَ بَينهَا وَبَين الْإِسْلَام صلَة قرَابَة إِذْ تتنافى تعاليم الْإِسْلَام فِي أُصُوله وفروعه، وَدَعوى أَنَّهَا من الْبدع الْحَسَنَة دَعْوَى عَارِية عَن الدَّلِيل وَلَا يُوجد فِي الْإِسْلَام مَا يُسمى بالبدعة الْحَسَنَة. ورحم الله الإِمَام مَالِكًا إِمَام دَار الْهِجْرَة إِذْ يَقُول: "من ابتدع فِي الْإِسْلَام بِدعَة فرآها حَسَنَة فقد اتهمَ مُحَمَّدًا بالخيانة وَعدم التَّبْلِيغ" أَو كَمَا قَالَ الإِمَام رَحمَه الله.
حَقًا إِنَّه لَا يكون ديننَا الْيَوْم مَا لم يكن ديننَا أمس فِي عهد النُّبُوَّة. ولعمري لقد عظمت الْمُصِيبَة على الْأمة الإسلامية فِي الْعَصْر الحَدِيث بِهَاتَيْنِ البدعتين بِدعَة الْكَلَام وبدعة الطّرف الصُّوفِيَّة.(1/19)
أما بِدعَة الْكَلَام فقد صرفت شباب الجامعات وَكَثِيرًا من طلاب الْعلم فِي الْمَسَاجِد فِي كثير من الْبلدَانِ الإسلامية عَن دراسة العقيدة الإسلامية الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا سلف هَذِه الْأمة وَالَّتِي نطق بهَا الْكتاب وشرحتها السّنة فقد جهلها كثير، من شبابنا المخدوعين بذلك الْكَلَام المذموم الَّذِي ذمه أَئِمَّة الْمُسلمين وحذروا مِنْهُ
وَمن المغالطات الغريبة أَن يُطلق على عقيدة طَائِفَة من أهل الْكَلَام أَنَّهَا عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَهِي بعيدَة عَن السّنة وَعَما كَانَت عَلَيْهِ الْجَمَاعَة بعدهمْ عَنْهَا. وهم يدْخلُونَ فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} 1
وَقَوله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} 2
وَقد شغلت تلكم المغالطة وزخرف القَوْل فرَاغ قُلُوبهم واستولت على عُقُولهمْ وَلم يبْق مَكَان لقبُول الْحق إِلَّا من رحم رَبك وأدركه بِلُطْفِهِ.
يَقُول الْعَلامَة ابْن الْقيم رَحمَه الله فِي بعض كتبه:3: "قبُول الْمحل لما يوضع فِيهِ مَشْرُوط بتفريغه من ضِدّه. هَكَذَا كَمَا أَنه فِي الْأَعْيَان فَكَذَلِك هُوَ فِي الاعتقادات والإرادات. فَإِذا كَانَ االقلب ممتلأ بِالْبَاطِلِ اعتقادا ومحبة لم يبْق فِيهِ لاعتقاد الْحق ومحبته مَوضِع"
__________
1 - سُورَة الْحَج الْآيَة 8.
2 - سُورَة الْحَج الْآيَتَانِ 3و4.
3 - الْفَوَائِد.(1/20)
فلنسمع مَا قَالَه بعض أَئِمَّة الْهدى فِي ذمّ الْكَلَام وَأَهله:
أ - قَالَ الإِمَام أَبُو يُوسُف تلميذ الإِمَام أبي حنيفَة وَصَاحبه: "من طلب الدّين بالْكلَام تزندق وَمن طلب المَال بالكيمياء أفلس. وَمن طلب غَرِيب الحَدِيث كذب"1
" قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: "حكمي فِي أهل الْكَلَام: أَن يُطَاف بهم فِي الْقَبَائِل والعشائر ويضربوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَيُقَال هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأَقْبل على علم الْكَلَام وَقد اطَّلَعت من أهل الْكَلَام على شَيْء ماظننت مُسلما يَقُوله، وَلِأَن يبتلى العَبْد بِكُل مانهى عَنهُ مَا خلا الشّرك بِاللَّه خير لَهُ من أَن يبتلى بالْكلَام"2.
وَمَا أروع مَا قَالَ الإِمَام مَالك رَحمَه الله. "أَو كلما جَاءَنَا رجل أجدل من رجل تركنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لجدل هَؤُلَاءِ"
فكم كَانَ غَرِيبا ومثيرا أَن ينتسب هَؤُلَاءِ الكلاميون إِلَى الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين فِي الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة ثمَّ يخالفونهم فِي أصُول الدّين فِيمَا يَعْتَقِدُونَ نَحْو رَبهم.
فَهَل يعْتَقد هَؤُلَاءِ البلداء أَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من أَئِمَّة السّلف كَانُوا على ضلال فِي عقيدتهم وأصول دينهم بَيْنَمَا هم على حق فِي الْفُرُوع.
هَذَا مَا يستنتج من موقفهم رَضوا أم أَبَوا إِنَّهَا قَضِيَّة وَلَا أَبَا حسن لَهَا كَمَا يَقُولُونَ. وَأما بِدعَة طرق الصُّوفِيَّة فَهِيَ الْأُخْرَى قد حجبت كثيرا من المخدوعين لَهَا عَن فهم حَقِيقَة الْعِبَادَة فِي الْإِسْلَام
__________
1 - شرح الطحاوية ص 229.
2 - الْمصدر السَّابِق.(1/21)
حَتَّى ظن جُمْهُور المخدوعين أَن التبتل أَو التنسك مَعْنَاهُ التصوف وبالتالي غيرت الصُّوفِيَّة لديهم مَفْهُوم الذّكر فقد ظن أَكْثَرهم أَن ذكر الله عبارَة عَن اجْتِمَاع لفيف من النَّاس فِي مَكَان مَا وفى الْغَالِب يكون عِنْد ضريح من أضرحة الْمَشَايِخ والسادة ويعقدوا حلقات يُطلق عَلَيْهَا ظلما وعدوانا حلقات الذّكر ثمَّ يَأْخُذُونَ فِي التمايل يَمِينا ويسارا وهم يَقُولُونَ: الله الله وأخيرا هُوَ هُوَ وَإِذا حمى الْوَطِيس فَلَا تسمع إِلَّا حوه حوه أوح ح. وَقد يطفأ السراج إِن أُقِيمَت الحضرة لَيْلًا ليَأْخُذ الذاكرون حريتهم وَليصل الذّكر إِلَى حد الْكَمَال ويصل الواصلون ياللإسلام مَا أعظم مُصِيبَة أَتْبَاعه.
وَأما الْعِبَادَة عِنْد المتصوفة فَهِيَ عبارَة عَن إِقَامَة الحفلات الموسمية كالاحتفال باسم المولد النَّبَوِيّ والاحتفال باسم الْإِسْرَاء والمعراج وَعِيد أول السّنة الهجرية وَعِيد النّصْف من شعْبَان وصورت الصُّوفِيَّة لجمهور المخدوعين أَن هَذِه الاحتفالات والأعياد هِيَ الْإِسْلَام بل هِيَ من أعظم مَا يتَقرَّب بِهِ الْمُسلمُونَ إِلَى الله فطالما يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فهم بِخَير وَالْحَمْد لله شرقوا أَو غربوا أَو ألحدوا أَو وحدوا والعبارت المخدرة لَا تفارق ألسنتهم "أمة مُحَمَّد بِخَير".
وَلَا شكّ أَن الباحث الفهيم المهتم بشئون الدعْوَة الإسلامية يرى أَن أفظع فتْنَة فتنت بهَا هَذِه الْأمة فِي الْعَصْر الحَدِيث فتْنَة علم الْكَلَام وفتنة التصوف وَجَمِيع المشاكل الَّتِي سَوف نتحدث عَنْهَا إِن شَاءَ الله تتفرع معظمها عَن هَاتين البدعتين وَالله الْمُسْتَعَان.
التَّنَاقُض:
إِذا تحدثنا عَن حَاجَة الدعاة إِلَى التَّصَوُّر الصَّحِيح لِلْإِسْلَامِ وَأَن عدم تصورهم للمفهوم الصَّحِيح لِلْإِسْلَامِ هُوَ عقبَة من العقبات فِي سَبِيل الدعْوَة إِذا أثبتنا حَاجتهم تِلْكَ، فهم إِلَى التطبيق العملي والتفاعل مَعَ(1/22)
الْإِسْلَام أحْوج. بِحَيْثُ تكون حياتهم تَرْجَمَة وَاضِحَة لمنطوق الْإِسْلَام وَصُورَة كَرِيمَة تمثل الْإِسْلَام وتحببه إِلَى النَّاس فالأمة الإسلامية بحاجة ماسة إِلَى دعاة يتوسمون خطى الدعْوَة فِي أَقْوَالهم وأفعالهم. فِي حياتهم الْخَاصَّة فِي أنفسهم وَفِي بُيُوتهم وَفِي حياتهم الْعَامَّة ليصبحوا بذلك قدوة للمجتمع الَّذِي يعيشون فِيهِ، والداعية الناجح هُوَ الَّذِي يهذب النَّاس بسيرته قبل أَن يهذبهم بِلِسَانِهِ ويدعوهم إِلَى الله بخلقه وَحسن سلوكه قبل أَن يَقُول شَيْئا بِلِسَانِهِ.
فكم تَشْكُو الدعْوَة الإسلامية فِي الْعَصْر الحَدِيث من تنَاقض الدعاة تَشْكُو من دعاة يعظون وَلَا يتعظون، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ يأمرون وَلَا يأتمرون، ينهون وَلَا ينتهون، دعاة تكذب أفعالهم أَقْوَالهم فِي الْغَالِب، نسْمع خطبا منبرية قَوِيَّة. وتحمسات وانفعالات، وثرثرة وَلَا شَيْء غير ذَلِك "نسْمع جعجعة لَا نرى طحنا".
وَقد بلغ الْأَمر وَالْحَال بِبَعْض من ينتسب إِلَى الدعْوَة والإصلاح أَنه قد يتْرك الصَّلَاة أَو صَلَاة الْجُمُعَة وَإِذا سُئِلَ عَن ذَلِك يكون الْجَواب أَنه فِي أجازة.
ويعد هَذَا صنف من الدعاة إِلَى الْإِسْلَام فَمَا رَأْي المستمع الْكَرِيم؟!!
النفرة وَعدم الانسجام:
تُوجد فِي الْعَصْر الحَدِيث جماعات تَدْعُو إِلَى الله وَلكنهَا فِي الْغَالِب تتخبط على غير بَصِيرَة فَالْوَاجِب على دعاة الْحق أَن يَكُونُوا على بَصِيرَة فاهمين مَا يدعونَ إِلَيْهِ ومتصورين لَهُ ومؤمنين بِهِ.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1
__________
1 - سُورَة يُوسُف الْآيَة 108.(1/23)
هَاتَانِ صفتان لأتباع مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ا - الْقيام بِوَاجِب الدعْوَة.
2 - أَن يكسبوا البصيرة قبل أَن يشرعوا فِي الدعْوَة.
البصيرة هِيَ الْعلم الَّذِي مصدره الْوَحْي وَالْفِقْه الدَّقِيق الَّذِي يَسْتَفِيد مِنْهُ الداعية الْحِكْمَة وَحسن الأسلوب وَكسب الْقُلُوب والتحبب إِلَى النَّاس دون تملق وَلَا نفاق. والتحابب بَين الْمُسلمين عَامَّة وَبَين الدعاة خَاصَّة أَمر ضَرُورِيّ لحياة الدعْوَة بل سَبَب لرضى الرب تَعَالَى وَدخُول دَار الْكَرَامَة "لَا تدْخلُوا الْجنَّة حَتَّى تؤمنوا. وَلَا تؤمنوا حَتَّى تحَابوا، أَلا أدلكم على أَمر إِذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلَام بَيْنكُم"1
وَمِمَّا تشكوه الدعْوَة الإسلامية هَذَا الْيَوْم النفرة وَعدم الانسجام وَقلة التعاون بَين الْجَمَاعَات الَّتِي تتصدى كل وَاحِدَة مِنْهَا للدعوة إِلَى الله. وَفِي الْوَاقِع أَن أَكثر تلكم الْجَمَاعَات بحاجة ماسة إِلَى من يَدعُوهُم إِلَى الله ويبصرهم فِي دينه حَتَّى يَكُونُوا مؤهلين أَولا فِي أنفسهم للدعوة بِالْقضَاءِ على التنافر فِيمَا بَينهم وتنافر مناهجهم وبرامجهم فِي الْعَمَل.
وَهَذِه الْجَمَاعَات أشبههَا بالأحزاب السياسية المتنافسة لمصالحها الشخصية وأغراضها الذاتية وَهِي ذَاتهَا محنة من المحن ومشكلة من المشاكل للدعوة والدعاة مَعًا إِذا هِيَ بقيت على وَضعهَا وَلم تعد النّظر فِي سلوكها ومنهج عَملهَا وبرامجها وأساليب دعوتها وسياستها فخطرها على الدعْوَة يفوق كل خطر يهدد الدعْوَة من خَارِجهَا. فعلى هَذِه الْجَمَاعَات أَن تدرس تَارِيخ الدعاة الْأَوَّلين من الصَّحَابَة والتا بِعَين الَّذين
__________
1 - أخرجه م الْإِيمَان (93) ت الْأَطْعِمَة (5) ، الْقِيَامَة (56) جه الْمُقدمَة (90) وَأحمد فِي مُسْنده 391/ 2 وَذَلِكَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(1/24)
نطق بهم الْقُرْآن وَبِه نطقوا وَالَّذين انْتَشَر الْإِسْلَام بدعوتهم بل عَلَيْهِم أَن يفهموا الدّين كَمَا فهم أُولَئِكَ السَّادة ويسيروا سيرتهم وينسجوا على منوالهم مَعَ مُلَاحظَة الأساليب الْمُنَاسبَة فِي الْعَصْر الحَدِيث والملابسات والظروف وأحوال النَّاس.
وَإِن لم يسلكوا هَذَا المسلك فَسَوف لَا يكْتب لدَعْوَة أَي نجاح أَو أَي تقدم لِأَنَّهُ عمل لم يسْتَوْف الشُّرُوط وَهُوَ عمل غير صَالح وسوف يجدي مَا أُوتِيَ أَصْحَابهَا من الدهاء وسحر الْبَيَان والجدل والاستغفال.
أجل قد ينطلي هَذَا الأسلوب على بعض النَّاس فَتْرَة من الزَّمن ويحسبه صَادِقين فِي دعوتهم لِكَثْرَة لمعان الأسلوب وَلكنه لَا ينطلي على الله الَّذِي بِيَدِهِ النجاح والتوفيق فعلية أَن يراقبوا الله وَحده لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْأَمر كُله وَبِيَدِهِ الْخَيْر كُله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَلَا رب سواهُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَان.
المناهج التعليمية:
مِمَّا منيت بِهِ الدعْوَة الإسلامية فِي هَذَا الْعَصْر أَن كثيرا مِمَّن يتصدون للدعوة إِلَى الْإِسْلَام أُولَئِكَ الَّذين يتخرجون فِي الجامعات الَّتِي تدرس تلكم المناهج العقيمة البالية الَّتِي لَا تنْتج إِلَّا الْجَهْل بِحَقِيقَة الْإِسْلَام والجمود الفكري وبرودة الهمة.
فيتخرج الطَّالِب فَلَيْسَ أَمَامه أَي هدف إِلَّا الْبَحْث عَن وَسِيلَة الْعَيْش فَقَط فَيَأْخُذ يطْرق جَمِيع الْأَبْوَاب الَّتِي تؤمن لَهُ الْعَيْش فَإِذا لم يجد سَبِيلا إِلَى مَا يُرِيد أَن يوظف كداعية أَخذ شَهَادَته المزركشة فِي طولهَا وعرضها على الْجِهَة المسئولة عَن الدعْوَة رسميا فوظف تَحت عنوان.(1/25)
الداعية!!
فَينزل الداعية الْجَدِيد الميدان ليدعوا إِلَى الله وَلَيْسَ لَدَيْهِ أَي تصور للدعوة فِي أسلوبها وسياستها وآدابها ودراسة أَحْوَال المدعوين فيتخبط خبط عشواء يَمِينا ويسارا على حِسَاب الدعْوَة الإسلامية المظلومة الَّتِي أَصبَحت "تكية" يتعيش مِنْهَا كل مُحْتَاج إِلَى الْعَيْش هَل يقوم بِوَاجِب الدعْوَة أَولا يقوم؟ هَذَا السُّؤَال غير وَارِد ...
نوعية الْمنْهَج:
يحسن بِنَا أَن نَعْرِف شَيْئا عَن هَذَا الْمنْهَج الَّذِي تحدثنا عَنهُ ووصفناه بِأَنَّهُ مَنْهَج غير صَالح وَأَنه عقيم لِئَلَّا يكون كلامنا مُجَرّد دَعْوَى لَا بَيِّنَة لَهَا. فلنتخذ من مواد الْمنْهَج كُله ثَلَاث مواد رئيسية لتمثل الْمنْهَج كُله فِيمَا قُلْنَا عَنهُ:
أ - مَادَّة التَّوْحِيد.
3 - مَادَّة الْفِقْه.
3 - مَادَّة التَّارِيخ.
أَولا: أَن مَادَّة التَّوْحِيد لَيْسَ لَهَا قسم خَاص وَإِنَّمَا تدرس فِي قسم الفلسفة وَهَذَا يَعْنِي أَن التَّوْحِيد عِنْدهم مَادَّة من مواد الفلسفة, وَالْوَاقِع أَن الفلسفة شَيْء والتوحيد شَيْء آخر لَا صلَة لَهُ بهَا إِن كَانَ التَّوْحِيد هُوَ ذَلِك الَّذِي نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة وَلَا علاقَة لفلسفة أرسطو وأفلاطون بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي يُؤْخَذ من الْوَحْي: الثرى غير الثريا.(1/26)
بعض الْكتب المقررة فِي مَادَّة التَّوْحِيد:
من أُمَّهَات الْكتب الَّتِي تدرس هَذِه الْمَادَّة الخطيرة:
ا - أم الْبَرَاهِين.
2 - حَاشِيَة الباجوري على السنوسية.
3 - حَاشِيَة الباجوري على جَوْهَرَة التَّوْحِيد.
4 - حَاشِيَة الدسوقي.
5 - الهدهدي.
6 - الشرقاوي ... الخ.
الموضوعات الَّتِي تشْتَمل عَلَيْهَا هَذِه الْكتب:
تبحث هَذِه الْكتب. الموضوعات التالية:
مَبْحَث الاسْتوَاء والعلو.
مَبْحَث الْمحبَّة وَالرَّحْمَة.
مَبْحَث الْغَضَب.
مَبْحَث الْكَلَام وَغَيرهَا ولكننا نخص بالبحث هَذِه الصِّفَات الَّتِي اخترناها لأهميتها وَهَذِه الصِّفَات كلهَا يدرسها الطَّالِب لَا ليثبتها ويؤمن بهَا على مُرَاد الله وَمُرَاد رَسُوله كَمَا جَاءَت, وَلَكِن يدرسها ليتعلم كَيفَ يردهَا يعطلها وينفيها عق الله بِدَعْوَى أَنَّهَا لَا تلِيق بِاللَّه على الرغم بِأَن الله هُوَ الَّذِي أثبتتها لنَفسِهِ.
{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ أعلم مَا يَلِيق ثمَّ يسمون ذَلِك التعطيل وَالنَّفْي تَأْوِيلا وتنزيها، وَهل يُغير حكم، الْخمر تَسْمِيَتهَا مَاء زلالا أَو لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين؟؟!!(1/27)
فتجد الطَّالِب يدرس مَا لَا يقبل عقله الْحر لَو ترك على حُرِّيَّته وَلكنه مُضْطَر أَن يدرس وَأَن يقبل كل مَا يدرسه مِمَّا جَاءَ فِي تِلْكَ الْكتب: "مكره أَخَاك لَا بَطل" فَيَقُول الْمنْهَج مثلا لَا يجوز أَن يعْتَقد بِأَن الله فِي الْعُلُوّ وآيات الْكتاب الْكَرِيم وَالسّنة المطهرة وَالْعقل الصَّحِيح والفطرة السليمة كل أُولَئِكَ يثبتون علو الله على خلقه وَأَنه لَيْسَ فِي ذَاته شَيْء من خلقه وَلَا فِي خلقه شَيْء من ذَاته وَهُوَ فَوق سماواته بَائِن من خلقه بل كل وَاحِد يجد من نَفسه مَا يَدْفَعهُ إِلَى اعْتِقَاد الْعُلُوّ وَيرْفَع أكف الضراعة إِلَى الْعلي الْأَعْلَى قبل أَن يستشير عُلَمَاء الْكَلَام هَل ذَلِك لَائِق أم لَا؟ وَهُوَ أَمر فطري وَلم ينْقل خلاف ذَلِك إِلَّا عَن بشر المريسي أحد الْجَهْمِية مَعَ أَنه يَقُول سُبْحَانَ رَبِّي الْأَسْفَل. قبحه الله هُوَ وَأَتْبَاعه.
فيعيش الطَّالِب حَيَاته كلهَا فِي هَذِه الإضطرابات الفكرية حائرا مَا يدرى مَاذَا يفعل؟
هَل يصدق الْمنْهَج على علاّته فَيَقَع فِي الْإِلْحَاد فِي صِفَات الله وأسمائه؟ وَهل يتجرأ على مُخَالفَة الْمنْهَج ليتبع مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من ربه وَفِي ذَلِك صلحه ونجاحه؟. فلنسمع بعض النُّصُوص الَّتِي يرى الْمنْهَج وجوب تَأْوِيلهَا وَأَن ظَاهرهَا لَا يَلِيق بِاللَّه.
1 - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1. "إِن الله كتب كتابا وَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش إِن رَحْمَتي سبقت غَضَبي" 2.
__________
1 - سُورَة طه الْآيَة هـ.
2 - صَحِيح سبق تَخْرِيجه ص 37 أخرجه الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(1/28)
2 - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1.
3 - "ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء" 2
4 - {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3.
هَذِه النُّصُوص وأمثالها نزلت على الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعلمهَا أَصْحَابه وفهموها وآمنوا بهَا وَلم يرَوا وجوب تَأْوِيلهَا بل لم يتكلموا فِيهَا بِشَيْء وَهَكَذَا من بعدهمْ من التَّابِعين إِلَى عهد الْمَأْمُون العباسي فِي الْمِائَة الثَّانِيَة فدبت فتْنَة الْكَلَام إِلَى صُفُوف الْمُسلمين بِوَاسِطَة الْكتب اليونانية المترجمة إِلَى الْعَرَبيَّة فِي الفلسفة والمنطق. فسلطت الفلسفة على المطالب الإلهية فَأَعْرض النَّاس عَن النُّصُوص فِي هَذَا الْبَاب فصاح فيهم شَيْطَان الفلسفة وَعلم الْكَلَام بِأَن النُّصُوص لَا تفِيد الْيَقِين وَأَنَّهَا ظنية وَأَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة هِيَ اليقينية ودعوا عَنْكُم الظنية إِلَّا حِين توَافق اليقينية وَمن تَارِيخ هَذِه الصَّيْحَة الْمُنكرَة أصَاب مَنْهَج التَّوْحِيد انحراف خطير فشب على ذَلِك الْوَلِيد وشاب الْكَبِير فأنكروا اسْتِوَاء الله على عَرْشه على مَا يَلِيق بِهِ كَمَا أخبر عَن نَفسه كَمَا أَنْكَرُوا أَن يكون الْقُرْآن كَلَام الله وَأَنه يحب أولياءه وَيُحِبُّونَهُ وَأَنه يرحم عباده على مَا يَلِيق بِهِ وَيَجِيء لفصل الْقَضَاء يَوْم الْقِيَامَة كَمَا يَلِيق بِهِ سُبْحَانَهُ.
والطالب الَّذِي يدرس الْمنْهَج يتَعَلَّم فلسفة التعطيل والتحريف فيتخرج موحدا أَي معطلا ومنحرفا فَتُصْبِح كلمة التَّوْحِيد وَلَفْظَة الموحد من أَلْفَاظ الأضداد.
__________
1 - سُورَة التَّوْبَة الْآيَة 6.
2 - صَحِيح سبق تخربجه وَقد أخرجه الترمدي وَأَبُو دَاوُد أنظر ص114 وَأخرجه الْحَاكِم قَالَه الْعَلامَة المباركفوري فِي التُّحْفَة.
3 - سُورَة الْفجْر الْآيَة 22.(1/29)
الْفِقْه:
وَأما مَادَّة الْفِقْه فَهِيَ عبارَة عَن آراء بعيدَة وخالية عَن الْأَدِلَّة بل هِيَ مسَائِل فَرضِيَّة لَا صلَة لَهَا بالواقع أَو استحسانات شخصية لَا طعم لَهَا وَلَا لون، وكل طَالب يدرس آراء تنتمي إِلَى مَذْهَب معِين محاولا أَن يثبت أَن آراء وَقِيَاس مذْهبه أفضل من آراء وَقِيَاس مَذَاهِب الآخرين وَلَا يمرن الطَّالِب على استنباط الْأَحْكَام من الْكتاب وَالسّنة على أَنَّهُمَا مصدران للتشريع! الإسلامي وعَلى الرغم من ذَلِك يتَخَرَّج عَالما من عُلَمَاء الْمُسلمين وداعية إِلَى الله تَعَالَى.
وفى الْوَاقِع أَن انحراف الْمنْهَج التعليمي لَيْسَ وليد الْعَصْر الحَدِيث بل رَاجع إِلَى الْقُرُون الَّتِي خلت.
فلنسمع للعلامة ابْن الْقيم وَهُوَ يتحدث عَمَّا أصَاب الْمُسلمين كنتيجة لانحراف الْمنْهَج التعليمي والعلامة ابْن الْقيم من أَعْيَان الْقرن السَّابِع الهجري يتحدث عَمَّا أصَاب الْمُسلمين من الْإِعْرَاض عَن الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ يَقُول:
"لما أعرض النَّاس عَن تحكيم الْكتاب وَالسّنة والمحاكمة إِلَيْهِمَا واعتقدوا عدم الِاكْتِفَاء بهما وَعدلُوا إِلَى الآراء وَالْقِيَاس وَالِاسْتِحْسَان وأقوال الشُّيُوخ عرض لَهُم من ذَلِك فَسَاد فِي فطرهم وظلمة فِي قُلُوبهم وكدر فِي أفهامهم ومحق فِي عُقُولهمْ. إِلَى أَن قَالَ: قَامَت فيهم الْبدع مقَام السّنَن وَالنَّفس مقَام الْعقل والهوى مقَام الرشد. والضلال مقَام الْهدى وَالْمُنكر مقَام الْمَعْرُوف وَالْجهل مقَام الْعلم. ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: فَإِذا رَأَيْت فِي دولة هَذِه الْأُمُور أَقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت فبطن الأَرْض وَالله خير من ظهرهَا. وقلل الْجبَال خير من السهول. ومخالطة الْوَحْش خير من مُخَالطَة النَّاس. وَالله الْمُسْتَعَان "1.
__________
1 - الْفَوَائِد لِابْنِ الْقيم ص 43.(1/30)
مَادَّة التَّارِيخ:
فَأَما مَادَّة التَّارِيخ فَهِيَ عبارَة عَن سرد حوادث وَقعت فِي الْقُرُون الخالية وأماكن وُقُوعهَا وزمانها وَالْأَخْبَار بِأَن فلَانا ولد فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ فِي السّنة الْفُلَانِيَّة وَكَانَ وَفَاته فِي عَام كَذَا إِلَى آخر تلكم الحكايات وَلَا يتفقه الطَّالِب فِي فقه السِّيرَة وعِبر التَّارِيخ وَلَا يعلم شَيْئا عَن أَخْبَار أبطال الْمُسلمين وترجمة أَئِمَّة الْمُسلمين وعلمائهم.
وَهَكَذَا يتَخَرَّج من هَذَا الْمنْهَج الجدليون والقصاصون وَأَصْحَاب الآراء الَّذين يجيدون كَيفَ يفرضون الْمسَائِل الْفَرْضِيَّة الَّتِي لَا وجود لَهَا فِي دنيا النَّاس، وَلَقَد مَلأ هَذَا الصِّنْف معاهدنا وجامعاتنا ومراكز الدعْوَة دون جدوى مِنْهُم فِي مجَال الدعْوَة, بل صَارُوا عقبَة فِي سَبِيل الدعاة الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء العاملين وَالله الْمُسْتَعَان.
بعض الطوائف المنحرفة الَّتِي تعْمل باسم الْإِسْلَام:
وَمِمَّا منيت بِهِ الدعْوَة الإسلامية فِي الْعَصْر الحَدِيث وجود طوائف تعْمل فِي ميدان الدعْوَة باسم الْإِسْلَام وَمن تلكم الطوائف القاديانية الَّتِي نشأت بالقارة الْهِنْدِيَّة وباضت وفرخت قبل أَن يُحَرك عُلَمَاء الْمُسلمين المسئولين عَن الدعْوَة الإسلامية أَي سَاكن بل لم يفطنوا لَهَا ولانحرافها إِلَّا بعد أَن تمكنت فِي القارة فِي طولهَا وعرضها واستفحل أمرهَا فألفت الْكتب ووزعتها وأنشأت الْمدَارِس ونشرت مبادئها ثمَّ أخذت تَنْتَشِر فِي أَطْرَاف الدُّنْيَا. والمدهش من أَمر عُلَمَاء الْمُسلمين المهتمين بالدعوة الإسلامية فِي القارة الَّتِي ظَهرت فِيهَا القاديانية أول مَا ظَهرت وَفِي الْجِهَات الَّتِي ظهر فِيهَا نشاطها أخيرا والعجيب من أَمرهم أَنهم لم يحركوا بنت شفة فِي استنكار مبادئها وَبَيَان زيفها وتحذير النَّاس مِنْهَا إِلَّا فِي الآونة الْأَخِيرَة بعد أَن تمكنت فِي الأَرْض(1/31)
كَمَا قلت سَابِقًا وعَلى الرغم من الْقَرار الَّذِي اتخذته بعض الْجِهَات الإسلامية بِأَن القاديانية تعْتَبر أقلية إسلامية فِي أرْضهَا على الرغم من ذَلِك فَلَا تزَال الطَّائِفَة تزاول نشاطها فِي الْجِهَة نَفسهَا وفى الْجِهَات الْأُخْرَى الَّتِي انتشرت فِيهَا سَابِقًا. كبعض دوَل أفريقيا.
وَتعْتَبر الطَّائِفَة ونشاطها عقبَة أَمَام دعاة الْحق فِي تِلْكَ الْجِهَات وقلى استمالت قُلُوب الْعَوام بِتِلْكَ النَّفَقَات الباهظة الَّتِي تنفقها على الْمدَارِس وَالْمُؤمنِينَ بهَا بسخاء مُنْقَطع النظير.
فَالْوَاجِب على جَمِيع الْجِهَات المسئولة أَو المهتمة بالدعوة السَّعْي فِي إيقاف هَذَا النشاط الهدام كليا طالما ثَبت كفر هَذِه الطَّائِفَة وردتها بتكذيبها نُصُوص الْكتاب وَالسّنة الَّتِي تنص بِأَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خَاتم النَّبِيين وَلَا نَبِي بعده1
وَبِذَلِك نَكُون قد عَملنَا شَيْئا فِي تقليل المشكلات الْكَثِيرَة التيعرقلت سير الدعْوَة. فِي كثير من الْجِهَات وشفلت بَاب الدعاة، علما بِأَن الْقَضَاء على نشاطهم لَيْسَ بِالْأَمر السهل بل الْموقف يحْتَاج وقتا غير قصير مَعَ وجود الحزم والصدق لِأَن كثيرا من عوام الْمُسلمين الَّذين لَا يفرقون بَين الشَّحْم والورم قد اعتنقوا مباديء هَذِه الطَّائِفَة مُنْذُ أمد بعيد وافتتنوا بهَا فشغلت أذهانهم الخالية بأفكارهم المسمومة وخدعتهم أساليبهم المعسولة ولقنوهم الْكفْر والإلحاد باسم الْإِسْلَام. صَحِيح أَن نشاط هَذِه الطَّائِفَة بَدَأَ يضعف فِي بعض الْجِهَات الَّتِي كَانَت قد تمكنت فِيهَا وَذَلِكَ بنشاط أَهلِي محلي قد يقوم بِهِ سكان المنطقة كَمَا لاحظنا ذَلِك فِي نيجيريا فِي هَذِه الْأَيَّام الْقَرِيبَة فقد علمت فِي أثْنَاء زيارتي الْأَخِيرَة لنيجيريا فِي بعض المناسبات بِأَن نشاط القاديانية قد خف الْآن حَتَّى انحصر فِي الْمدَارِس الثانوية بل قد أَخذ القاديانيون
__________
1 - أخرجه خَ المناقب (18) م الْفَضَائِل (32) وَأحمد فِي مُسْنده 398/ 3 أنظر الْمسند 338/ 3.(1/32)
المحليون يراجعون الْإِسْلَام من جَدِيد بعد أَن كَانُوا دعاة مُخلصين للقاديانية. هَذَا خبر سَار وَلكنه لَا يجعلنا نَتَّكِل ونترك الْعَمَل فِي الْقَضَاء على هَذَا النشاط فِي جَمِيع مراحل مدارسنا ومؤسساتنا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَإِذا كُنَّا قد تساهلنا عِنْد. ظُهُورهَا كَمَا رَأينَا فَلَا يَنْبَغِي أَن نتساهل مرّة أُخْرَى وَهِي مُدبرَة إِذْ لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ1. وَالله الْمُسْتَعَان.
__________
1 - أخرجه خَ الْأَدَب "83" م الزّهْد "63" د. الْأَدَب "39" جه. الْفِتَن "13" الدَّارمِيّ فِي الرقَاق "65" الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 115/ 3 وَذَلِكَ من حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.(1/33)
الاستعمار الغربي
الحَدِيث عَن القاديانية يذكرنَا المشكلة الْأُم, أَلا وَهِي الاستعمار الغربي لِأَن القاديانية بل وَجَمِيع الطوائف المنحرفة الَّتِي تكيد لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين باسم الْإِسْلَام أغلبها من منتجات الاستعمار أَو أصدقاء الاستعمار بل إِن بعض الطوائف الصُّوفِيَّة كَانَ لَهَا علاقَة قَوِيَّة وودية مَعَ الاستعمار أَيَّام كَانَ الاستعمار يفْسد فِي هَذِه المناطق الإسلامية كالمرغنية وفروعها عرف النَّاس ذَلِك أم جهلوا إِلَّا الْخَواص. إِن الاستعمار الغربي الَّذِي سيطر على كثير من الْبلدَانِ الإسلامية لم يكن مخططه أَن يستغل خيرات الْبِلَاد ويستعبد سكانها فَحسب, كَمَا يظنّ الْبَعْض, بل كَانَ من أهم مخططاته محاربة الْإِسْلَام وتجهيل الْمُسلمين بدينهم على حَقِيقَته بِجَمِيعِ الْوَسَائِل الممكنة لَهُ الظَّاهِرَة والخفية.(1/33)
الْوَسَائِل الَّتِي استعملها الستعمار فِي محاربة الْمُسلمين
...
الْوَسَائِل الَّتِي استعملها الاستعمار فِي محاربة الْمُسلمين
أ - نشر الثقافة الغربية على نطاق وَاسع مَعَ السَّعْي فِي التَّخْفِيف من الثقافة الْعَرَبيَّة الإسلامية أَو الْقَضَاء عَلَيْهَا إِن أمكن وَلَو مَعَ طول الزَّمن.
2 - تشجيع مدارس التبشير المسيحي وَتَدْوِين مناهجها لكَي ينْصَرف أَبنَاء الْمُسلمين إِلَيْهَا تاركين مدارسهم الإسلامية وَقد نجح فِي ذَلِك كُله.
3 - تشجيع الطوائف المنحرفة الَّتِي تعْمل باسم الْإِسْلَام فِي ميدان الدعْوَة كالقاديانية وَبَعض الطوائف الصُّوفِيَّة ليتَمَكَّن من ضرب الْإِسْلَام ودعوته من الدَّاخِل بأيد تنتمي إِلَيْهِ تلهج بِذكرِهِ وَهَذَا أخطر سلَاح اسْتَعْملهُ الاستعمار ضد الْإِسْلَام ودعوته.
4 - اعْتِبَار اللُّغَة الإنجليزية لُغَة رسمية فِي كثير من الْبلدَانِ الْعَرَبيَّة والإسلامية مِمَّا جعل شبابنا يقبلُونَ تعلم هَذِه اللُّغَة فِي الْوَقْت الَّذِي يجهلون فِيهِ لغتهم الْأَصْلِيَّة بل اسْتَطَاعَ الاستعمار أَن يحمل شبابنا السذج على كَرَاهَة الْإِسْلَام وَأَهله بدعوة أَنه دين تعصب وَدين تَأَخّر وانطلى هَذَا الْكَلَام على شبابنا لجهلهم حَقِيقَته فضلوا, فَوقف الاستعمار والمؤمنون بِهِ حجر عَثْرَة فِي سَبِيل الدعْوَة الإسلامية وأخيرا غادر المستعمرون بِلَادنَا وديارنا بعد أَن تركُوا على تَركتهم وَرَثَة مُخلصين ليحافظوا على تَركتهم وَلِأَنَّهُم يتمكنوا من الْعَمَل فِي صَالحهمْ أَكثر مِمَّا يتمكنون هم أنفسهم.(1/34)
وَهَذَا يَعْنِي أَن الاستعمار لم يخرج حَتَّى الْآن من بعض الْبِلَاد الإسلامية. وَلَا أدل على مَا قلت من أَن اللُّغَة الإنجليزية لَا تزَال رسمية فِي بعض تِلْكَ الْبِلَاد وَالَّذين يستعملونها هم من "الْمُسلمين رسميا وَلَهُم لغتهم وثقافتهم وَمَا ذَاك إِلَّا لأَنهم وَرَثَة مخلصون يقدرُونَ لُغَة. الْمُورث كَمَا يقدرونه.
وَهَؤُلَاء الْوَرَثَة أَشد عَدَاوَة لدعاة الْإِسْلَام ودعوتهم.
وَالله الْمُسْتَعَان.(1/35)
الستعمار الشَّرْقِي
...
الاستعمار الشَّرْقِي
فَبَيْنَمَا يعاني الدعاة تِلْكَ المعاناة من الاستعمار الغربي وورثته المخلصين فَإِذا هم يفاجأون باستعمار من نوع آخر أَشد ضراوة وَأَشد حقدا على الدعْوَة الإسلامية وَأَهْلهَا. وَهُوَ الاستعمار الشَّرْقِي الملحد، وَكَانَ مَاكِرًا يظْهر للغوغائيين نوعا من الرَّحْمَة فِي أسلوب معسول يخدع السذج من النَّاس. فقد خدع الطَّبَقَة الفقيرة وَوَعدهمْ بثراء يَأْتِيهم بَين عَشِيَّة وَضُحَاهَا إِذا أمنُوا بِهِ وَأَخْلصُوا لَهُ ليثيرهم ضد الْأَغْنِيَاء وَأَصْحَاب الْأَمْوَال الطائلة وَكَانَ يضْحك على سذاجة الْفُقَرَاء، فَيَقُول لَهُم: "إِن هَؤُلَاءِ الإقطاعيين طالما ظلموكم وَنحن نُرِيد أَن نمن عَلَيْكُم وننقذكم مِمَّا أَنْتُم فِيهِ من الْفقر وَالْحَاجة ونرفعكم. إِلَى المستوى اللَّائِق بكم لنحقق بذلك الْعَدَالَة الاجتماعية حَتَّى تعيشوا مَعَ هَؤُلَاءِ الأثرياء الإقطاعيين جنبا إِلَى جنب. من هُنَا طَار الْفُقَرَاء فَرحا وصفقوا لَهُم حَتَّى كلت أَيّدهُم من التصفيق. وهتفوا لَهُم بِالْبَقَاءِ يعِيش يعِيش حَتَّى بحت حَنَاجِرهمْ فَجعل الْفُقَرَاء ينتظرون الثراء الْمَوْعُود بِهِ من السَّادة المستعمرين الشيوعيين فَلم يَجدوا شَيْئا بل الْحَالة تزداد سوءا. فَإِذا المستعمرين يهجمون على أَمْوَال الأثرياء فيصادرونها باسم الْفُقَرَاء وَلَكِن وَلم تنقل إِلَى خَزَائِن الْفُقَرَاء كَمَا كَانَ يتَوَقَّع الْفُقَرَاء بل نقلت إِلَى خزانَة الْخَاصَّة لتشترى بهَا الضمائر الرخيصة وَالْأَيْدِي الأثيمة لتسلط على دعاة الْإِسْلَام وعلماء الْمُسلمين بالتعذيب والتشريد والتقتيل لمحاولة الْقَضَاء على الدعْوَة وَأَهْلهَا ظنا مِنْهُم بِأَن الدعْوَة سَوف تَمُوت بِمَوْت الدعاة وَالْعُلَمَاء - خابوا وخسروا - صَحِيح أَن الدعْوَة فِي المنطقة أُصِيبَت بنكسة خطيرة بِمَوْت القادة المسئولين وَلكنهَا لم تمت وَلنْ تَمُوت بِإِذن الله بل سَوف تبقى مَا بقيت الغبراء تَحت الخضراء(1/36)
بل إِنَّهَا تواصل سَيرهَا إِلَى الإِمَام وَلَو كره المجرمون المستعمرون والمؤمنون بهم. إِن هَذَا الاستعمار الشَّرْقِي من مكائده أَنه دخل المنطقة وَهُوَ يُنَادي ويهتف مَعَ المواطنين يسْقط الاستعمار.. يسْقط الاستعمار.. الاستعمار عَدو الإنسانية إِلَى آخر الهتافات المضللة فاطمأن الغوغائيون وهتفوا بحياة الرفيق المخلص على درب الْحُرِّيَّة الرفيق.. الرفيق.. وَلكنه لم يرفق بهم وَلم يرحمهم جعل يظْهر فِي كل بلد بِوَجْه وبلقب جَدِيد ويتلون بِحَسب الظروف.
الشيوعيون، اليساريون، الاشتراكيون، الاشتراكية الْعَرَبيَّة، الاشتراكية الإسلامية الاشتراكية الْمَحَلِّيَّة..
وَهَكَذَا وَلَا يزَال يفْسد فِي الأَرْض ويسفك الدِّمَاء وَيهْلك الْحَرْث والنسل ويكسب الأصدقاء من أنَاس من بني جلدتنا ويتكلمون بلساننا وينتسبون إِلَى ديننَا وإسلامنا فِيمَا يَبْدُو للنَّاس وعَلى الرغم من ذَلِك كُله أَن هَذَا الاستعمار هُوَ صديق جُمْهُور الغوغائيين لأنة يمدنا بالأسلحة الَّتِي يحارب بهَا الاستعمار إِنَّهَا من عجائب الدَّهْر! وَهل هُنَاكَ استعمار أظلم من هَذَا الاستعمار الَّذِي لم يتْرك لنا دينا وَلَا دنيا, {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1 فَمَا قيمَة الأسلحة الَّتِي تدفع ثمنهَا ديننَا وعقيدتنا؟؟. أَفلا يعْقلُونَ.
1 - سُورَة الْحَج الْآيَة 6.(1/37)
دَعْوَة مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وصمودها للمشاكل
وَفِي الْقرن الْعشْرين كَانَ يعِيش مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب فِي قلب بِلَاد نجد فِي بَلْدَة "حُرَيْمِلَة" فَرَأى الْعَالم المصلح أَن ظَاهِرَة جَاهِلِيَّة أخذت تَنْتَشِر فِي طول الْبِلَاد وعرضها إِذْ رأى النَّاس يَتَرَدَّدُونَ إِلَى(1/37)
جُذُوع النّخل وقبور الْمَوْتَى فيطلبون من الْمَوْتَى والجمادات مَا لَا يطْلب وَلَا يملكهُ إِلَّا خَالق الأَرْض وَالسَّمَاوَات رأى النَّاس يطْلبُونَ الْمَغْفِرَة والشفاء مثلا، كَمَا لاحظ غَلَبَة الْخَوْف الزَّائِد والقلق من شياطين الْجِنّ والاستعاذة بهم إِذْ خَافُوا مِنْهُم. وَفِي الْوَقْت نَفسه يُلَاحظ الداعية أَن الْأمة الإسلامية الَّتِي يتَّصل بهَا عِنْدَمَا كَانَ يطوف أَكثر الْبِلَاد لطلب الْعلم رَآهُمْ أَنهم كلهم - إِلَّا مَا شَاءَ الله - أصيبوا بِنَفس الْجَاهِلِيَّة بل أقبح مِنْهَا وبجانب ذَلِك رأى كتاب الله لَا يرجع إِلَيْهِ لأخذ الْأَحْكَام مِنْهُ وَإِنَّمَا يحكم الْحُكَّام بِغَيْر مَا أنزل الله.
هَذِه الظَّوَاهِر الْجَاهِلِيَّة جعلت الشَّيْخ يفكر فِي إصْلَاح العقيدة وَإِصْلَاح الْأَحْكَام حَتَّى يكون الحكم لله وَالْعِبَادَة لَهُ وَحده والمتابعة لرَسُوله وَحده فهاجم الْجَاهِلِيَّة وصارح النَّاس بِأَن مَا هم عَلَيْهِ لَيْسَ من دين الْإِسْلَام فِي شَيْء فَدَعَاهُمْ إِلَى الرُّجُوع لِلْإِسْلَامِ الْحَقِيقِيّ: عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ وطاعته وَطَاعَة رَسُوله. وَأَن يعبد الله بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دون ابتداع فِي الدّين وَأَن تُؤْخَذ الْأَحْكَام من كتاب الله وَسنة رَسُوله رَأْسا دون لف أَو دوران فِي الآراء والاستحسانات أَو قوانين أَو عادات فَحمل الْمُصحف يَدْعُو إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِ والاكتفاء بِهِ وَالسّنة تشرحه وتفصل مجمله. من هُنَا ثارت الْجَاهِلِيَّة وهاجت وَصَايَا قائلة: إِن ابْن عبد الْوَهَّاب أَتَى بدين جَدِيد وبمذهب خَامِس والداعية مَاض فِي دَعوته وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا يُقَال ويشاع وَكَأَنِّي بِهِ يَقُول:
وَمَا لي إِلَّا آل أَحْمد شيعَة ... وَمَا لي إِلَّا مَذْهَب الْحق مَذْهَب(1/38)
نجاح دَعوته رَحمَه الله
وَلما أَرَادَ الله نجاح هَذِه الدعْوَة الْمُبَارَكَة قيض الله لَهَا مُلُوك آل سعود فحملوا السَّيْف بِجَانِب الْمُصحف. فالشيخ يَدْعُو ويجادل بِالَّتِي هِيَ أحسن ويسوق الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة محاولا إقناع المخدوعين ليرجعوا إِلَى الْحق. وَمن اقتنع وَرَضي بِاللَّه رَبًّا معبودا وَحده. وَمُحَمّد رَسُولا وإماما وقدوة وَحده وَبِالْإِسْلَامِ دينا لَا يقبل الله سواهُ وَاتبع سَبِيل الْمُسلمين وَكفر بِمَا يعبد من دون الله فَهُوَ الْأَخ الْمُسلم فَلهُ جَمِيع حُقُوق الْمُسلمين كَائِنا من كَانَ وَعَلِيهِ مَا على الْمُسلمين.
وَمن لم يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَتردد أَو توقف يبين لَهُ الْحق ويشرح لَهُ الْحَقَائِق حَتَّى يتبع الْحق، وَمن أعرض وعاند وحاول أَن يقف فِي سَبِيل سير الدعْوَة ليعرقلها فالسيف أولى بِهِ وَلَا شَيْء غير السَّيْف هَذَا لِأَن "آخر العلاج الكي1 "وَلِأَن الله يَزع بالسلطان مَا لَا يَزع بِالْقُرْآنِ"2 هَكَذَا تعاون حَملَة الْمُصحف وَحَملَة السَّيْف حَتَّى حقق الله لَهُم أمْنِيته الغالية ووصلوا إِلَى الهدف المنشود وَهُوَ:
"إِقَامَة دولة إسلامية تحكم بالشريعة وتقيم الْحُدُود وَتَدْعُو إِلَى تَجْرِيد الْعِبَادَة لله والمتابعة لرَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هَذَا هُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الَّذِي دعت إِلَيْهِ الرُّسُل وَنزلت من أَجله الْكتب.
وَبعد: فَلم تصل دَعْوَة ابْن عبد الْوَهَّاب إِلَى مَا وصلت إِلَيْهِ من النَّصْر وَعزة أَتْبَاعه وَالدُّنْيَا تبش فِي وَجههَا وتهش وتضحك لَهُ الْأَيَّام دون ردود فعل.
__________
1 - لم أَقف عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظ.
2 - لم أَقف عَلَيْهِ أَيْضا بِهَذَا اللَّفْظ فِي كتب السّنة الْمَعْرُوفَة.(1/39)
بل قَامَت الدُّنْيَا وَقَعَدت كَمَا أَشَرنَا سَابِقًا - غَضبا وحنقا على الدعْوَة وصاحبها وأبى الله إِلَّا أَن يظهرها كَمَا رَأينَا لِأَنَّهُ لَا راد لقضائه وَلَا معقب لحكمه.(1/40)
النواحي الَّتِي ركزت عَلَيْهَا دَعوته وحمه الله
...
النواحي الَّتِي ركزت عَلَيْهَا دَعوته رَحمَه الله
وَمن اطلع على الْأَسْبَاب الَّتِي حملت الشَّيْخ على الْقيام بدعوته ثمَّ درس الْكتب والرسائل الَّتِي كتبهَا الشَّيْخ أَو كتبهَا أَوْلَاده وأحفاده وتلاميذهم يقطع دون شكّ أَنما دَعْوَة الشَّيْخ ركزت على ناحيتين هامتين:
أ - دَعْوَة النَّاس إِلَى تَجْرِيد الْعِبَادَة الله وحد بِحَيْثُ لَا يعبد مَخْلُوق مخلوقا مثله من دون الله أَو مَعَ الله، وَتَجْرِيد الْمُتَابَعَة لرَسُول الله وَحده بِحَيْثُ لَا يقدم قَول أحد أَو رَأْي أحد على قَول رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ب - دَعْوَة النَّاس وخصوصا الْحُكَّام إِلَى تحكيم شَرِيعَة الله وَحدهَا بِحَيْثُ لَا يتَّخذ بعض النَّاس أَرْبَابًا من دون الله يحللون ويحرمون: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 1.
وَذَلِكَ يعْنى أَن دَعْوَة مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب كَانَت - وَلَا تزَال تحارب - جاهليتين خطيرتين منتشرتين فِي الْعَالم الإسلامي فِي الْعَصْر الحَدِيث:
أَولا: جَاهِلِيَّة عبَادَة الْمَخْلُوق مخلوقا مثله بِدَعْوَى حب الصَّالِحين أَو التوسل بهم أَو الاستشفاع بهم إِلَى غير ذَلِك من الْأَعْذَار الَّتِي تشبه قَول الْمُشْركين السَّابِقين الَّذِي حَكَاهُ الْقُرْآن: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
__________
1 - لسورة يُوسُف الْآيَة 40.(1/40)
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وَقد قاومت دَعْوَة الشَّيْخ هَذِه الْجَاهِلِيَّة وطاردتها وَلَا تزَال تطاردها فِي كل مَكَان وَللَّه الْحَمد والْمنَّة.
ثَانِيًا: جَاهِلِيَّة الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله وَبَين هَذِه الْجَاهِلِيَّة وَالَّتِي قبلهَا صلَة قرَابَة كَمَا لَا تخفى على من رزق الْفِقْه فِي الدّين لِأَن التحاكم إِلَى غير شَرِيعَة الله يَعْنِي اتِّخَاذ أَرْبَاب يشاركون الله فِي إصدار الْأَحْكَام والتشريع، لذا فَإِن دَعْوَة الشَّيْخ اعْتبرت هَذِه الْجَاهِلِيَّة قرينَة الَّتِي قبلهَا وَأَن حكمهَا وَاحِد فِي نظر الْإِسْلَام فحاربتها كَمَا حَارَبت الْجَاهِلِيَّة الَّتِي قبلهَا.
من هُنَا نعلم خطأ الَّذين يَزْعمُونَ بِأَن الدعْوَة دَعْوَة ابْن عبد الْوَهَّاب عَالَجت ظَاهِرَة عبَادَة غير الله فَقَط فِي الْوَقْت الَّذِي أهملت النَّاحِيَة الدستورية ثمَّ وَهَذَا الزَّعْم - فِي نَظَرِي - يصدر من أحد رجلَيْنِ:
أَحدهمَا: رجل مغالط ومتجاهل للحقائق. وَهَذَا لَا نرى أَن نطيل مَعَه الحَدِيث لِأَن الْبَحْث مُجَرّد جِدَال عقيم وَغير منتج فلنتركه هُوَ وجداله.
ثَانِيهمَا: رجل قَاصِر النّظر والفهم للأمور، فَهَذَا يجب أَن يبصر بِأَن نريه بِأَن هَذِه الدولة الإسلامية السعودية الَّتِي قَامَت فِي قلب الجزيرة الْعَرَبيَّة لتَحكم بالشريعة الإسلامية وتحارب جَاهِلِيَّة الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله وجاهلية عبَادَة غير الله حَتَّى أَصبَحت غَرِيبَة بَين دوَل الْعَالم وَلكنهَا من أَعَاجِيب الزَّمن حَيْثُ استطاعت ببركة تحكيم الشَّرِيعَة تَحْقِيق اسْتِقْرَار أَمن مُنْقَطع النظير فِي دنيا الْعَصْر الحَدِيث حَتَّى صَارَت تغبط لَدَى الدول الَّتِي يسمونها الدول الْكُبْرَى وتفردت هَذِه الدولة بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُصحف الشريف فِي أَحْكَامه.
__________
1 - سُورَة الزمر الْآيَة 3.(1/41)
بِهَذَا يتَبَيَّن لنا بِأَن قيام هَذِه الدولة أثر من آثَار هَذِه الدعْوَة الْمُبَارَكَة بِتَوْفِيق الله وَهل يصدق بعد هَذَا من يَقُول: إِن دَعْوَة ابْن عبد الْوَهَّاب أهملت النَّاحِيَة الدستورية فَالْجَوَاب لَا. إِلَّا إِن كَابر.(1/42)
أَعدَاء الدعْوَة
جندت الأقلام الرخيصة - كعادتها - لمحاربة الدعْوَة. وَأخذت تكْتب ضد الدعْوَة غير متحرية للصدق وَهَذِه الأقلام تنتمي فِي الْغَالِب إِلَى الطوائف الْآتِيَة:
أ - الطوائف الصُّوفِيَّة المحترفة باسم الدّين.
ب - الْفُقَهَاء الجامدون المقدسون للآراء.
ج - أهل الْكَلَام المتطرفون.
تواطأت هَذِه الأقلام على تَشْوِيه الدعْوَة وعرقلة سَيرهَا لَو استطاعت وَقَامَت بنشر مَا يشبه التَّعْمِيم العالمي - إِن صَحَّ التَّعْبِير - فشاع فِي الْعَالم وَعم الدُّنْيَا بِأَن دَعْوَة مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب تعادي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة جهلا من هَذِه الأقلام أَن ابْن عبد الْوَهَّاب نَفسه حنبلي الْمَذْهَب إِلَّا أَنه غير متعصب كَمَا نشرت الأقلام المجرمة بِأَن ابْن عبد الْوَهَّاب وَأَتْبَاعه يكْرهُونَ الرَّسُول وَلَا يصلونَ عَلَيْهِ ويعادون الْأَوْلِيَاء وَيُنْكِرُونَ كراماتهم والحكايات وَرِوَايَات النَّاس كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب وَلَا اسْتحْسنَ سردها بل أستبشع ذَلِك، لبعدها عَن الذَّوْق، وَقد كتبت تلكم الأقلام عَن الدعْوَة كل شَيْء إِلَّا حَقِيقَة الدعْوَة وأهدافها فَلم تتعرض لشَيْء من ذَلِك طبعا!!(1/42)
نجاح الدعْوَة على رغم كَثْرَة أعدائها
قَابل صَاحب الدعْوَة تلكم الدعايات الَّتِي بثتها أبواق الْأَعْدَاء وتسطرها أَقْلَام الأجراء قابلها بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا عملا بقوله تَعَالَى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 1 فمضت الدعْوَة تشق طريقها فِي الْآفَاق على رغم أنوف الْأَعْدَاء، وَلَا تدخل الدعْوَة بَلَدا فيتعرف عَلَيْهَا أَهله ويعرفونها على حَقِيقَتهَا إِلَّا اطمأنوا إِلَيْهَا وأحبوها وَأَقْبلُوا عَلَيْهَا غير متأثرين بِدِعَايَةِ الْأَعْدَاء إِذا تبين لَهُم الْحق.
وَلَا أشبه هَذِه الدعْوَة إِلَّا بالقادة الفاتحين الصَّالِحين الَّذين إِذا أَقبلُوا على الْبِلَاد الَّتِي يُرِيدُونَ فتحهَا خافهم أَهلهَا وأصابهم الذعر والقلق وَإِذا فتحوها فَدَخَلُوهَا وعرفهم النَّاس فعرفوا فيهم الرَّحْمَة والإنصاف وَالْعدْل أحبوهم وتفانوا فِي حبهم وتقديرهم وفدوهم بِالنَّفسِ والنفيس بل انضموا إِلَى معسكرهم وصاروا من أنصارهم.
هَذَا مثل دَعْوَة ابْن عبد الْوَهَّاب تَمامًا.
وَأَنا أعرف شخصيا بعض الْبِلَاد الإسلامية والعواصم الْعَرَبيَّة الَّتِي كَانَت تتَصَوَّر دَعْوَة ابْن عبد الْوَهَّاب قبل عشْرين سنة تَقْرِيبًا كَأَنَّهَا مِلَّة أُخْرَى غير إسلامية وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يُحَرك بنت شفة ليتحدث عَنْهَا ويذكرها بِخَير فضلا عَن أَن يدعوا إِلَيْهَا.
__________
1 - سُورَة الْأَعْرَاف الْآيَة 199.(1/43)
الْعَاقِبَة لِلْمُتقين
أما الْيَوْم فتوجد فِي بعض تِلْكَ العواصم الَّتِي وصفناها مراكز قَوِيَّة لهَذِهِ الدعْوَة تعْمل فِي تَصْحِيح العقائد والإصلاح الْعَام وتحذير النَّاس من الوثنية والجاهلية المنتشرة هُنَاكَ وتهاجمها بشجاعة وَقُوَّة.(1/43)
وَأَصْحَاب تِلْكَ المراكز لَيْسُوا من خريجي الجامعات السعودية - كَمَا يظنّ - وَلَكنهُمْ من سكان تِلْكَ الْبِلَاد وَالَّذين كسبتهم الدعْوَة وجنذتهم لكَونهَا مُوَافقَة للفطرة السليمة, {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 1 فسيطرت الدعْوَة على الْموقف فَأخذت تلاحق الْجَاهِلِيَّة، جَاهِلِيَّة دَعْوَة غير الله وتطاردها أَيْنَمَا كَانَت حَتَّى رَجَعَ النَّاس إِلَى الدّين الصَّحِيح.
وقصارى القَوْل أَن الدعْوَة تَعْنِي أَن يفهم النَّاس الْإِسْلَام من جَدِيد فِي الْعَصْر الحَدِيث كَمَا كَانَ يفهمهُ الْمُسلمُونَ الْأَولونَ، نابذين الْبدع والخرافات الَّتِي لَا أصل لَهَا فِي الدّين وَرَاءَهُمْ ظهريا. سعيا وَرَاء الْوحدَة الإسلامية الْكُبْرَى، الْوحدَة الَّتِي يكون حجر زاويتها تَحْقِيق التَّوْحِيد وهتافها بـ " لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله ".
وَتَحْقِيق التَّوْحِيد هُوَ الَّذِي من أَجله أرْسلت الرُّسُل وأنزلت الْكتب السماوية كلهَا وبتحقيق كلمة الْإِخْلَاص نستطيع تكوين أمة قَوِيَّة بِإِذن الله الْأمة الَّتِي لَهَا سيادتها ومناعتها تَأمر بِالْمَعْرُوفِ وتنهى عَن الْمُنكر وتؤمن بِاللَّه وَحده، تِلْكَ الْأمة الَّتِي تعنيها آيَة سُورَة الْحَج " {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2 {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 3 , وسعيا فِي دَعْوَة ابْن عبد الْوَهَّاب فِي تكوين مثل هَذِه الْأمة فقد نددت بالجاهليات فِي جَمِيع صورها نددت بهَا بِكُل شدَّة دون مجاملة أَو مداهنة وَكَانَت أَكثر صَرَاحَة فِي هَذَا الْبَاب من أَيَّة دَعْوَة أُخْرَى فِي الْعَصْر الحَدِيث، وَلذَلِك كثر أعداؤها
__________
1 - سُورَة الرّوم الْآيَة 30.
2 - سُورَة الْحَج الْآيَة 74.
3 - سُورَة الْحَج الْآيَة 41.(1/44)
مُنْذُ ظُهُورهَا وَلكنهَا على الرغم من ذَلِك بلغت حَيْثُ لم يتَوَقَّع أَنَّهَا تصل إِلَيْهِ بل قد انتشرت كتب الداعية ورسائله فِي أقطار الدُّنْيَا بعدة لُغَات.
والعجيب من أَمر هَذِه الْكتب أَنَّهَا تدخل أَحْيَانًا على بعض النَّاس وهم لَهَا كَارِهُون لما يبلغهم عَنْهَا بِوَاسِطَة الدعايات المغرضة، وَإِذا مَا درسوها وفهموها رَغِبُوا فِيهَا وأحبوها وطلبوا الْمَزِيد مِنْهَا.(1/45)
قصَّة قَصِيرَة
...
قصَّة مثيرة
حَدثنِي من أَثِق بِهِ أَنه كَانَ يُوجد فِي بعض مدن الْهِنْد عَالم يدرس فِي الْمَسَاجِد وَكَانَ من عَادَته إِذا انْتهى من الدَّرْس يَدْعُو الله كثيرا وَكَانَ فِي دُعَائِهِ أَنه يَدْعُو على الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب ويلعنه.
وَكَانَ مِمَّن يحضر درسه طَالب سعودي1 واع ولبق. فكر الطَّالِب السعودي كَيفَ ينقذ هَذَا الْمدرس الْمِسْكِين الَّذِي ضللته الدعاية المضللة حَتَّى وَقع فِي هَذِه الورطة، فهداه تفكيره بِإِذن الله إِلَى الْحِيلَة الْآتِيَة:
عمد إِلَى كتاب التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ حق الله على العبيد. فَنزع عَنهُ الغلاف والورقة الأولى الَّتِي تحمل اسْم الْمُؤلف ثمَّ تقدم إِلَى الْمدرس الْهِنْدِيّ فَطلب مِنْهُ أَن يقْرَأ هَذَا الْكتاب ثمَّ يُخبرهُ عَن ضمونه وَمَا رَأْيه فِيهِ.
فأخد الْمدرس الْكتاب فقرأه فأعجب بِهِ فَسَأَلَهُ الطَّالِب فِي غَد عَن الْكتاب فَأخذ الْمدرس يثني على الْكتاب ثَنَاء عَظِيما ويصفه بِأَنَّهُ
__________
1 - أغلب الظَّن أَنه الشَّيْخ عبد الله القرعاوي عِنْدَمَا كَانَ يطْلب الْعلم فِي الْهِنْد. وَالله أعلم.(1/45)
من أحسن الْكتب فِي بَابه فَقَالَ الطَّالِب السعودي إِن مؤلف هَذَا الْكتاب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الَّذِي تلعنه فَقدم لَهُ الغلاف والورقة المنزوعة الَّتِي فِيهَا اسْم الشَّيْخ فاندهش الْمدرس فتندم وَأخذ يَدْعُو للطَّالِب ثمَّ غيّر موقفه مَعَ الشَّيْخ بل غير أسلوب الدُّعَاء فَجعل يَدْعُو للشَّيْخ آخر كل درس بَدَلا من الدُّعَاء عَلَيْهِ فنسأل الله تَعَالَى أَن يعْفُو عَنهُ.
.هَكَذَا تضلل الدعاية النَّاس وتورطهم ثمَّ تنجح الدعْوَة إِلَى الله وبالحكمة كَمَا رَأينَا فِي صَنِيع الطَّالِب السعودي الْمُوفق رَحمَه الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1 صدق الله الْعَظِيم.
وَبعد فَهَذِهِ هِيَ دَعْوَة مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب مُنْذُ نشأتها إِلَى الْعَصْر الحَدِيث عرضتها. بإيجاز مَعَ بعض المشاكل الَّتِي واجهتها.
وَلَقَد لقِيت هَذِه الدعْوَة من أعدائها مشاكل ومحنا لم تلق مثلهَا أَيَّة دَعْوَة فِي الْعَصْر الحَدِيث فِي الْغَالِب وَلكنهَا نجحت نجاحا لم يكْتب لغَيْرهَا من الدَّعْوَات فِي الْغَالِب.
فجزا الله صَاحبهَا وَمن حملهَا من بعده خير مَا جازى بِهِ المصلحين. كَمَا نَسْأَلهُ تَعَالَى أَن يثبت مُلُوك آل سعود وأمراءهم الَّذين كَانُوا لهَذِهِ الدعْوَة خير عون وَالَّذين قَامُوا بنشرها والدفاع عَنْهَا وَنشر كتبهَا وَلَا يزالون كَذَلِك تقبل الله مِنْهُ عَمَلهم الإسلامي.
وَصلى الله وَسلم وَبَارك على خير خلقه مُحَمَّد وَآله وَصَحبه.
__________
1 - سُورَة النَّحْل الْآيَة 135.(1/46)