[المقدمة]
المملكة العربية السعودية وخدمتها
للإسلام والمسلمين في الغرب(/)
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، أما بعد:
فإن العصر الذي نعيش فيه، يتميز بظواهر عديدة، بعضها يمثل تقدما في مسار الحياة الإنسانية والرقي الحضاري، وبعضها الآخر يمثل الجانب السلبي في الحياة المعاصرة على المستوى العالمي والإنساني.
لقد زاد اتصال البشر فيما بينهم، وتيسرت سبل الاتصال والانتقال بين قارات العالم وبلاده، وتسارعت خطى التقدم العلمي والاستفادة من منجزاته على نحو لم تشهده البشرية من قبل، وأصبح العالم المعاصر في الانتقال بين أرجائه والاتصال بين شعوبه وكأنه قرية واحدة.(1/5)
ولا شك أن سهولة الانتقال والاتصال في الحياة المعاصرة، لها أثر كبير في زيادة المعرفة بين البشر، وفي التوجه نحو التعارف بين بني الإنسان على اختلاف الأجناس والألوان، وهو هدف يبدو واضحا في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] (سورة الحجرات آية رقم " 13 ") .
إن التعارف بين البشر ومختلف الشعوب - كما في الآية الكريمة - غاية لجعل الله لهم شعوبا وقبائل، وإن كانوا جميعا من نفس واحدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] (سورة النساء آية رقم " 1 ") .
كل شعوب الأرض على اختلاف الأجناس والألوان، خلقوا من نفس واحدة، بدءا من خلق آدم(1/6)
وحواء، وانتهاء بكل شعوب الأرض في التاريخ الإنساني كله.
إن الوحدة الإنسانية هذه، يجب أن تبرز في هذا العصر بكل وضوح، مع تقدم وسائل الانتقال والاتصال بين البشر، وهو بلا شك اتصال وانتقال لمفردات الحياة الإنسانية المادية والفكرية.
والمسلمون لا يمكن أن ينعزلوا عن العالم، لأن وحدة بني الإنسان في الخلق والأصل ثابتة وراسخة في العقل المسلم، وإدانة كل أشكال التمييز العنصري والقومي واللوني بين البشر، قاعدة أساسية من قواعد الشريعة الإسلامية، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى. . . . .» (1) .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: (5/ 411) .(1/7)
إن المسلمين مع إيمانهم العميق بأنهم حملة الهدي الإلهي إلى البشر أجمعين، من خلال الإيمان برسالة خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله موسى وعيسى - عليهما السلام - وكل الأنبياء والرسل السابقين، ومع إيمانهم المطلق بموقعهم الديني في عالمنا المعاصر، لا يدعون لأنفسهم تميزا عنصريا أو قوميا أو لونيا، فالكل يتمتع بالكرامة الإنسانية التي وهبها الله للآدميين جميعا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] (سورة الإسراء آية رقم " 70 ") .
ولا يدعو المسلمون إلى الانعزال، بدعوى التخوف أو إساءة الظن أو ازدراء الغير.
فالرسالة التي يحملها المسلمون دائما، وهي رسالة الإسلام عقيدة وشريعة، عامة للناس جميعا.
ومسؤولية إبلاغها وعرضها على الناس بالحكمة(1/8)
والموعظة الحسنة والحوار والجدال بالتي هي أحسن، كما ورد في كتاب الله الكريم وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تستوجب الاتصال بالناس، والاحتكاك بهم.
ولذلك لم يحدث في التاريخ القديم أو الحديث ومنذ ظهور الإسلام، أن دعا المسلمون إلى العزلة عن الغير.
وكان انتشار الإسلام في بلاد بعيدة عن مبعث الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - في أفريقيا وآسيا، راجعا إلى الاتصال والتواصل الحضاري.
لقد بدأ المسلمون منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التواصل مع الغير، من أجل نشر الدعوة، والقيام بمسؤولية الرسالة.
ويبدو هذا التواصل بالنسبة للمسلمين أمرا لازما لأداء رسالتهم الدينية، فقد بعث الرسول - صلوات الله(1/9)
عليه وسلامه - إلى الملوك والحكام في عصره، يدعوهم إلى الإيمان بالله وكتبه ورسله، واتباع الإسلام، وذلك قياما بواجب البلاغ، وأداء للأمانة ونشر الرسالة بين البشر، ولم يكن في كتبه إليهم طالبا لسلطان دنيوي تحت أيديهم على الأرض، أو البشر.
ومع قوة المسلمين الصاعدة في القرن الأول الهجري، الذي انتشر فيه الإسلام، وامتد إلى أقاليم شاسعة، وبعيدة عن أرض شبه الجزيرة، كان الدافع الأول والجوهري، في هذا الانتشار والامتداد، هو نشر الهدي الإلهي، وتحقيق كرامة الإنسان، وحقه في تلقي الهدي الإلهي، وإزالة ما يعوق التزام هذا الحق، من تسلط الجبابرة الأباطرة والأكاسرة.
إن جوانب سلبية كثيرة في العالم المعاصر، وأهمها انعدام الثقة، وسوء الظن والأحكام المسبقة، والتعصب العنصري، تقلل من أهمية الجانب الذي(1/10)
ذكرناه من قبل، وهو التقدم العلمي الهائل في وسائل الاتصال والانتقال، والذي يستطيع إذا أحسن استغلاله واستثماره، أن يفيد في وحدة بني البشر، الذين خلقهم الله - عز وجل - لكي يتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى، ويهتدوا بهدي الله، ويعملوا على تنمية الحياة الإنسانية ماديا وفكريا وروحيا.
وهي أهداف مستقرة في عقل المسلمين ووجدانهم، كما ذكرنا من قبل.
إن المسلمين، يرون أن التواصل الحضاري بين المسلمين والعالم كله، هو الأصل العام الإسلامي في التعامل بين البشر، ويمكنهم أن يتعاملوا مع غير المسلمين في الشرق والغرب في كثير من شؤون الحياة.
ولا نستطيع نحن المسلمين بحكم عقيدتنا، أن نحتكر التفوق العنصري أو القومي أو الحضاري المادي لأنفسنا.(1/11)
والثقافة الإسلامية طوال تاريخها، لم تهدف أبدا إلى تحقيق ذلك، ولم تكن ثقافة عنف، أو عداء للآخر، حتى في أوقات الصراع، لأسباب سياسية، كما حدث في العصر الحديث، حيث كانت الهجمة الاستعمارية الشرسة على بلاد العالم الإسلامي من الغرب، طلبا للتسلط وبسط النفوذ، والفوز بموارد تلك البلاد، مما اضطر المسلمين في كثير من البلاد، بحكم عقيدتهم وشريعتهم، وبحكم ما لاقوه من التسلط والظلم، إلى المقاومة، والسعي إلى الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي الفترة الأخيرة، وبسبب ظهور صحوة إسلامية في كثير من البلاد الإسلامية، تنامى سوء الظن وانعدام الثقة لدى مجتمعات غربية عديدة، واشتد الاتهام للإسلام، بأنه يهدف في النهاية إلى تدمير الحضارة الغربية ومكتسباتها المادية، وإذكاء الصراع بين(1/12)
الحضارات، وقد قاد هذا الاتجاه ونماه بعض وسائل الإعلام الغربية، ومن ثم اعتمد كثير من الغربيين على ما تحاول بعض وسائل الإعلام بثه في الأذهان ببساطة وبسرعة، ودون وجود طرف آخر.
إن المظالم التاريخية الحديثة، والتجارب الفاشلة التي أوقعها العالم الغربي بالبلاد الإسلامية، من الأسباب الدافعة لوقوع شيء من ذلك في بعض البلاد، دفعا لهذه المظالم ومحاولة للتخلص منها.
والصحوة الدينية، ليست قاصرة على البلاد الإسلامية وحدها، بل هي ظاهرة عالمية.
وقبل أن تنتشر كلمة الأصولية الإسلامية في الإعلام الغربي في السنوات الأخيرة، قبل ذلك بأكثر من سبعين عاما، نشأت بداية الأصولية اليهودية الحديثة على يد الحاخام إبراهام كوك، الذي كان يشغل منصب(1/13)
الحاخام الأعلى في فلسطين في فترة الانتداب البريطاني، وكان من تعاليم هذه الأصولية، أن الشعب اليهودي يعتبر شعبا فريدا مقدسا، منشؤه إلهي خالص، وأن هذا الشعب، هو الذي سوف يحقق المشيئة الإلهية في التاريخ البشري، وأن أرض إسرائيل، هي أرض مقدسة، والسيادة عليها واستيطانها يعد فريضة دينية! ! .
لم تتهم الصحوة الإسلامية حتى الآن بالتعصب القومي، أو التفوق العنصري، أو الرغبة في استيطان الأرض في العالم الغربي.
إن الصحوة الدينية تنتشر في العالم كله: ففي " المسح العالمي للقيم " الذي أجري في السنوات 1990 - 9931 الميلادية، قرر 82% من الأمريكيين أنهم متدينون. وفي المملكة المتحدة 55%. وفي فرنسا وألمانيا على التوالي 48%، 54%.(1/14)
وتشير التقارير إلى أن نسبة المتدينين في الولايات المتحدة الأمريكية، قد ارتفعت إلى 70% في السنوات الأخيرة، وكانت أقل من ذلك بكثير منذ الاستقلال الأمريكي.
وقد رأى بعض الباحثين في العلاقات السياسية بين أوربا والوطن العربي، أن الغرب لو وجه التفاتة إلى التواصل بالعالم العربي والإسلامي، على أساس المساواة والعدل، لكان ذلك أفضل للطرفين، بدلا من التمسك بعقدة التفوق الغربي.
وهو رأي سديد يتفق مع الفكر الإسلامي الذي يعد العدل بين البشر في التعامل معهم من مبادئه الأساسية.
ومع وجود الجوانب السلبية العديدة، التي أشرنا إليها بإيجاز فيما سبق، فإن المسلمين في العصر(1/15)
الحديث، لم يكفوا عن التواصل الحضاري مع الغرب، لا سيما في المجال العلمي والثقافي، فضلا عن الجانب السياسي الذي يعد أصلا مستقرا وواقعا لا سبيل إلى تحاشيه أو إهماله.
والمجال العلمي والثقافي بالذات، يعد من أهم مجالات التواصل مع الغرب، ويفرض ذلك أن ملايين من المسلمين يعيشون في الغرب في أوطانهم التاريخية، أو أوطانهم بحكم الهجرة والاستقرار منذ عشرات السنين، وهؤلاء يتمتعون بحسب القواعد الدولية، ومن أهمها مبادئ حقوق الإنسان، وبحسب نظم الحكم المتمدينة، بالحق في الحفاظ على هويتهم الإسلامية دينيا وثقافيا.
وتقوم المملكة العربية السعودية في إطار منهج متكامل للتواصل الحضاري، بخدمة ملايين المسلمين الذين يعيشون بعيدا عن مجتمعاتهم المسلمة، وهم(1/16)
يعتبرون في نفس الوقت من المسلمين الذين ينتشرون في قارات العالم، ويعيشون وسط شعوبه.
والمملكة العربية السعودية تقوم بذلك الواجب، خدمة للدعوة الإسلامية، وهي موجهة لكافة البشر، ومساعدة للمسلمين في الحفاظ على انتمائهم الديني والثقافي.
وهو واجب ديني يقع على عاتق المملكة العربية السعودية، وعلى جميع المسلمين.
وأداء هذا الواجب فضلا عن خدمة المسلمين في الغرب، يكفل استمرار التواصل الحضاري، وأداء واجب تبليغ الإسلام.
ومع زيادة الاتصال في العصر الحديث، واستقرار المجتمع الدولي على قواعد بشأن التعاون الدولي علميا وثقافيا، فإن مهمة المملكة لا تواجه في الغالب الأعم(1/17)
بمعارضة من المجتمع الدولي، ويرجع ذلك في الأساس إلى المنهج الذي تتبعه المملكة العربية السعودية، والذي تميزت به في خدمة الإسلام في غير ديار المسلمين.
وفي هذا الملتقى المبارك، أتناول الأسس العامة في جهود المملكة العربية السعودية هذه، ثم أذكر صورا من المساعدات التي تقدمها المملكة للمسلمين في الغرب، وأثر هذه المساعدات في التواصل الحضاري بين العالم الإسلامي، والعوالم الأخرى.(1/18)
[الأسس العامة في خدمة المملكة العربية السعودية للمسلمين في الغرب]
الأسس العامة
في خدمة المملكة العربية السعودية
للمسلمين في الغرب(1/19)
تتمتع المملكة العربية السعودية، بخصوصية فريدة بين بلاد العالم الإسلامي ودوله.
وهي خصوصية دينية، تجعل لها وضعا مميزا بين الدول الإسلامية، وتفرض عليها التزامات خاصة تجاه مسلمي العالم.
فعلى أرض المملكة، يوجد الحرمان الشريفان، الحرم المكي والحرم النبوي.
والبيت الحرام، هو أول بيت وضع للناس لعبادة الله - عز وجل -، رفع قواعده إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام -، كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] (سورة آل عمران آية " 96 ") .
وهو قبلة المسلمين جميعا في صلاتهم، ومكان حجهم.(1/21)
فالحرم المكي والحرم النبوي، في أرض المملكة، تشرف بهما، وتقوم على خدمتهما.
وهاتان المدينتان، مكة المكرمة والمدينة المنورة، أشهر مدن الإسلام، وأعزها في التاريخ الديني كله، حتى على المستوى العالمي، فلا توجد مدن تتمتع بهذا القدر من القداسة والاحترام، عند مئات الملايين من البشر ولقرون طويلة، مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وهذه الخصوصية الدينية الفريدة، تلقي على المملكة مسؤولية كبيرة تجاه المسلمين في العالم كله.
ولا بد من وجهة النظر الدينية، من التواصل معهم، وتقديم العون لهم، إذ يفرض الإسلام على المسلم، أن يحج إلى بيت الله الحرام مرة واحدة في حياته، متى كان قادرا على أداء هذه الفريضة، ويعني ذلك أن كل مسلم قادر على أداء الفريضة بدنيا وماليا، مكلف بأن يؤديها بما يقتضيه ذلك من السفر إلى المملكة العربية(1/22)
السعودية، والإقامة في مكة المكرمة، لأداء شعائر فريضة الحج في أيام معينة من العام، أو لزيارة البيت الحرام للعمرة والصلاة طوال العام، وكذا زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة.
من أجل ذلك فرضت تلك الخصوصية على المملكة، أن يكون لها تواصل مع مسلمي العالم كله. وهو تواصل ديني وثقافي في المقام الأول، ولكنه يرتب صلات اجتماعية.
ويستلزم هذا التواصل في العصر الحديث، أن تسنده علاقات سياسية متميزة بين المملكة العربية السعودية، وبين دول العالم التي يعيش فيها الآن عشرات الملايين من المسلمين في دول أوربا والأمريكتين، وغيرها في قارات العالم.
وهذا ما تفعله المملكة من جانبها، بقدر كبير من الاهتمام والرعاية لهذه الصلات في مختلف جوانبها،(1/23)
مما جعل المملكة تتمتع بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية متميزة، مع دول العالم والمنظمات الدولية عامة.
ويرجع الفضل في ذلك، إلى التزام المملكة بمنهج إسلامي، يكفل تحقيق مصلحة المسلمين في الغرب دينيا وثقافيا واجتماعيا، وهي تتمثل في الحفاظ على عقيدتهم وتلقي العون الثقافي من إخوانهم في المملكة العربية السعودية، ولا يختلف ذلك الهدف بالنسبة للمسلمين الذين يتمتعون بجنسية الدولة، أو المقيمين فيها للعمل أو الدراسة، أو لأي غرض آخر.
فالقصد من المعونة الدينية والثقافية، ليس استقطاب المسلمين المواطنين، أو المقيمين في بلاد الغرب، استقطابا سياسيا أو قوميا، ولكنه مساعدتهم في الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية، داخل المجتمعات التي يعيشون فيها.(1/24)
وقد بدت أهمية ذلك التواصل بين المملكة، وبين مسلمي الغرب في هذا القرن، نتيجة ظروف دولية عديدة.
فقد زاد اتصال العالم الإسلامي بالغرب زيادة كبيرة في الفترة الأخيرة، وانتقل عشرات الآلاف، بل ومئات الألوف من المسلمين من المنطقة العربية (شمال أفريقيا وغربها خاصة) إلى البلاد الأوروبية، كما انتقل إليها من بعض بلاد العالم الإسلامي، مثل تركيا، أعداد كبيرة من العمال المسلمين، ساعدوا في بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وكان لتلك العوامل، إلى جانب وجود أقليات إسلامية تاريخية في بعض البلاد الأوروبية، أثر كبير في ازدياد المعرفة بالإسلام في الغرب، وفي إقبال بعض الغربيين على اعتناق الإسلام، ولا سيما من المثقفين الذين تحدوهم الرغبة في الوصول إلى الحقيقة الدينية الصحيحة،(1/25)
والاطلاع على الإسلام عقيدة وحضارة من مصادره الحقيقة، وكذلك من رصد حياة المسلمين الذين يعيشون بينهم، في جوانبها العقائدية والاجتماعية.
إن العون الديني والثقافي، ينبغي أن يقدم لهؤلاء جميعا، وهو ما تهدف إليه المملكة العربية السعودية عبر وسائل عديدة ومتنوعة، كما أن بعض البلاد الأوروبية التي يعيش فيها مسلمون، ترغب في أن يكون التبادل الثقافي على المستوى الإسلامي، له أثره في تنمية المعرفة الدينية عامة، وفي نمو الروابط الاجتماعية بين المواطنين والمقيمين على أرضها.
ولهذا السبب، فإن المملكة حرصت في خدمتها للإسلام في الغرب، على اتباع منهج يحقق مصلحة المسلمين والمجتمعات التي يعيشون فيها، وهو منهج، إسلامي أصيل في التعاون.
وتقديم الدعم الديني والثقافي للمسلمين في(1/26)
الغرب، يحقق مصلحة المسلمين في العالم، ولا يتعارض مع قواعد التنظيم الدولي المعاصر والعلاقات بين الدول عامة.
إن أول ما يميز عمل المملكة العربية السعودية في خدمة المسلمين في الغرب، أن له طابعا دينيا وثقافيا، وأنها تستهدف التواصل الديني والثقافي مع المسلمين في الغرب، وهو أمر يتفق مع المسؤولية الدينية والثقافية التي تتحملها المملكة تجاه هؤلاء المسلمين، الذين تفرض عليهم عقيدتهم، أن يكون لهم صلة بالمملكة، فهم يتجهون في صلاتهم في كل مكان من العالم إلى قبلة المسلمين جميعا، البيت الحرام في مكة المكرمة.
كما أن علوم الإسلام وثقافته وقيمه الأساسية يجب أن تصل إلى عشرات الملايين من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، ويهتمون أشد الاهتمام بالحفاظ(1/27)
على هويتهم الدينية والثقافية، وينظرون إلى المملكة العربية السعودية باعتبارها السند الأول في تحقيق غايتهم.
ومن مميزات الطابع الديني والثقافي في خدمة المسلمين في الغرب، أنه يلقي استجابة في كثير من البلاد التي يعيش فيها المسلمون في الغرب، لأنه ليس طابعا سياسيا، أو عرقيا، أو يستند إلى عوامل تسبب الصراع الاجتماعي أو القومي في أي بلد من البلاد التي يعيش فيها المسلمون في الغرب.
ومن ناحية أخرى، فإن لدى المسلمون عامة، ولدى المملكة العربية السعودية خاصة، قناعة كاملة بأن الاستقرار الاجتماعي، والتبادل الثقافي، ونمو المعرفة من كل جانب، هو من أكبر العوامل في انتشار الإسلام بين غير المسلمين في الغرب، وهي تجربة تاريخية يؤكدها ما تم في العصر الحديث.(1/28)
ففي البلاد الأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية بالذات، لم يكن انتشار الإسلام بعد وصوله إلى تلك البلاد، نتيجة صراع سياسي أو قومي، لكنه كان بسبب ازدياد المعرفة والتبادل الثقافي، من خلال العلاقات الاجتماعية بين المسلمين في تلك البلاد وبين مواطنها، أو المقيمين معهم.
فالاقتناع الكامل، بأن انتشار الإسلام، يعتمد أساسا على الاستقرار في المجتمع، ونمو التبادل الثقافي، وتصحيح الصورة التي يقدمها المسلمون لحياتهم الفكرية والاجتماعية في الغرب، جعل الطابع الأساس لتجربة المملكة العربية السعودية، هو الطابع الثقافي، من خلال وسائله المتنوعة.
ثم إن خدمة المملكة للمسلمين في الغرب، تستند أيضا في منهجها إلى حقيقة موضعية، تؤكد أن الحضارات الإنسانية في تاريخها الطويل تتعامل مع بعضها، وأن التنافس بينها لا يستلزم الصراع.(1/29)
ففي بداية ظهور الإسلام، استطاعت حضارته بما تحمله من عوامل الرقي الإنساني، أن تتغلب على الحضارات السائدة في المنطقة العربية، وظلت الحضارة الإسلامية سائدة في العصر الوسيط في أوقات السلم، وحتى في أوقات الصراع السياسي، نتيجة تفوق قيمها الإنسانية، ونتيجة ازدهار حياتها الفكرية والمادية.
إن المسلمين على قناعة كاملة، بأن الحضارات الإنسانية، يمكن أن تتعامل، وأن تستفيد كل حضارة من الأخرى، في شؤون حياتها المادية وأسباب تقدمها.
وتأثر شعب من الشعوب بحضارة معينة، مرده إلى ما تحمله من حقيقة دينية، أو قيم إنسانية واجتماعية، تؤثر بسلامتها وقيمتها في حياة البشر.
إن التعامل مع الحضارات الإنسانية، راسخ في فكر المسلمين، مع اختلاف الأعراق واللغات والأعراف.(1/30)
ويستند هذا الفكر عند المسلمين، إلى نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (سورة الأنبياء آية " 107 ") .
ودعوة غير المسلم إلى المسلم، وبيان الرشد من الغي، والهدى من الضلال، يكون بحسب المنهج الإلهي وحده: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (سورة النحل الآية: " 125 ") .
فخدمة الإسلام والمسلمين في الغرب، في عمل المملكة، تقوم على مد يد العون الديني والثقافي للمسلمين، ومعاونتهم على الاحتفاظ بهويتهم الدينية والثقافية، دون تعد على أحد، أو إضرار بالآخرين، أو تنمية روح العداء، أو نوازع التعصب العنصري، في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها.(1/31)
فالمسلم مادام آمنا على حياته وعرضه وماله، قادرا على إظهار دينه، وإقامة شعائره، والعمل به، والدعوة إليه، يستطيع أن يعيش في أي مجتمع إنساني، ويسهم بجهده في تقدمه وتنميته، وكان ذلك ظاهرا في البلاد الأوروبية خلال عشرات السنين الماضية، التي زادت فيها أعداد المسلمين في الغرب، ووسعتهم المجتمعات الغربية، قبل أن تبدو نوازع التعصب القومي أو الديني في بعض بلاد الغرب منذ سنوات قليلة.
إن من الخصائص المميزة لدعوة الإسلام، أنها دعوة. عالمية للبشر جميعا على اختلاف الأعراق والألوان واللغات، وقد بعث الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة بشيرا ونذيرا. يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] (سورة سبأ الآية " 28 ") .
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت إلى كل أحمر وأسود» (1)
_________
(1) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه من كتاب المساجد - من رواية جابر - رضي الله عنه - المجلد الثاني الجزء الخامس ص 3. دار الرياض الطبعة الأولى 1407هـ.(1/32)
وقد كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعراق وأجناس وألوان شتى، جمعهم الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ووصف الرسول دعاوى التعصب العرقي واللوني بأنها من دعاوى الجاهلية التي يدينها الإسلام.
وفي القران الكريم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] (سورة الأعراف الآية " 158 ") .
والبشر كلهم أمته المخاطبون بالدعوة، ومن حقهم الاستماع إليها، ومن واجب المسلمين إبلاغ الدعوة في نواحي الأرض كلها، ومن قواعد الإسلام التي وردت في القران الكريم، أن الحساب والعقاب والثواب يكون بعد البلاغ والإعذار والإنذار، يقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] (سورة الإسراء الآية " 15 ") .
ومسؤولية البلاغ، تقع على الأمة الإسلامية كلها، وهي فرض على الجميع أفراد ودولا، تجاه غير(1/33)
المسلمين، إذا تعين فرد أو دولة للدعوة، بحسب القدرة وقوة التأثير، والإمكانات المتاحة للبلاغ ونشر الدعوة، وجب عليه ذلك شرعا، وحرم إهماله أو التقصير فيه.
والمملكة العربية السعودية، تنطلق في خدمتها للإسلام في الغرب من حقيقة عالمية الإسلام، وحق البشر جميعا في سماع دعوته، ومعرفة عقيدته، وقيمه الخلقية وأصوله التشريعية، معرفة صحيحة، ولا يتحقق ذلك إلا بنشر دعوته بين الناس بكل الوسائل المتاحة المشروعة في هذا العصر، مما يفرض التعامل على أسس واضحة وظاهرة مع غير المسلمين، وهي أسس وقواعد وضحتها الشريعة الإسلامية، وألزمت بها المسلم، رعاية لحقوقه، وحفظا لحقوق غيره.
إن حق الحياة، والكرامة الإنسانية، وحرمة العرض والمال، كلها حقوق مكفولة لأهل الكتاب في المجتمع(1/34)
الإسلامي، بل إن العدل والبر مطلوبان أيضا، يقول تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] (سورة الممتحنة آية " 8 ") .
ويذكر الله تعالى، أنه كتب على بني إسرائيل، أن قتل نفس واحدة بغير حق بمثابة القضاء على الجنس البشري كله، يقول تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (سورة المائدة آية " 32 ") .
وقد منح الله الكرامة الإنسانية للآدمي، ولا ينزعها بشر، يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] (سورة الإسراء آيه " 70 ") .
ولا بد من الإشارة إلى أن قواعد التعامل التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، التزم بها المسلمون منذ(1/35)
نزل القرآن الكريم، فهي قد تقررت منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وظهرت في وقت لم تعرف فيه المجتمعات غير الإسلامية فكرة الكرامة الإنسانية، ولم تكن تعترف بأي حق للمخالف في العرق أو اللون أو الدين، وظل ذلك فيها قرونا طويلة امتدت إلى بدايات العصر الحديث في أوروبا.
والمسلمون في الغرب من حقهم في هذا العصر، العيش في ظل هذه المبادئ الإسلامية والإنسانية والدولية.
إن المملكة العربية السعودية، في خدمتها للإسلام والمسلمين في الغرب، تعمل على نشر الإسلام، وعقيدته الصحيحة، وأصول شريعته، وقيمه الخلقية والحضارية. ويعد ذلك في الجملة، من حق المسلمين المقيمين في الغرب، الذي يجب التعامل مع دوله على أسس واضحة، إذ تربطنا بهذه الدول عهود ومواثيق(1/36)
في إقامة السلم، ومنع العدوان، والتعاون فيما يخدم البشرية، فهذه الدول، هي دار عهد في نظر الإسلام، الذي يوجب الوفاء بالعهود والاستقامة على أحكامها، وينهى عن الغدر ونقض المواثيق عن الدول.
كما أنه من واجب المسلمين في الغرب، نشر دعوة الإسلام، وإعطاء الصورة الحقيقية له في أداء العبادات، وفي سائر المعاملات، وعليهم أن يلتزموا بأحكام الشريعة الإسلامية، بعدم الإضرار بأحد، وبحفظ حقوق غيرهم، فإذا قصر البعض في ذلك عمدا أو خطأ، فلا ينسب ذلك إلى الإسلام، أو حتى إلى الأمة الإسلامية كلها، لأن الظلم أو العدوان على الناس، محرم في الإسلام، نهى الله عنه في عشرات الآيات والأحاديث، وحقوق المخالف في الدين من أهل الكتاب، معروفة في الشريعة(1/37)
الإسلامية، تضمن حرمة نفسه وعرضه وماله، والعدل في التعامل معه.
ومن ناحية أخرى، فإن المملكة العربية السعودية في رعايتها للإسلام والمسلمين في الغرب، وفي التعامل مع الغرب بصفة عامة، تضع في اعتبارها ما توجبه أحكام الشريعة الإسلامية، ولايقتصر ذلك على مجال ما تقدمه المملكة لمسلمي الغرب من رعاية دينية، بل يمتد إلى صور التعامل الأخرى التي تتم بين الدول، كالتعامل الثقافي والتجاري.
وأصول الشريعة الإسلامية في التعامل مع الغير، تضمن لكل طرف حقه، سواء أكان التعامل في المجال الديني، أم الثقافي، أم التجاري.
وينطلق ذلك من التزام المملكة بموجب نظام حكمها الأساسي، بالحفاظ على العقيدة، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية، في جوانب حياتها كلها داخليا(1/38)
وخارجيا، وهو أمر كان له أثره الكبير في استقرار سياسة المملكة، وعلاقاتها مع الدول الأخرى، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مصالح المسلمين في الغرب، ورعايتهم دينيا وثقافيا. إذ إن قواعد الشريعة الإسلامية في التعامل الدولي مع البلاد التي ترتبط بها أحكام الشريعة بعهود ومواثيق، تفتح الطريق أمام تحقيق المصالح والتعامل الدولي، دون إخلال بالعدل، أو بحقوق أحد الطرفين.
وثمة ملاحظة ينبغي ذكرها، وهي أن تطبيق أصول الشريعة الإسلامية، ومعاييرها العادلة في المجال الدولي، في العلاقات بين الدول الإسلامية وبين غيرها من الدول، من شأنه أن يضفي الثبات على تلك العلاقات، ويسهم إلى حد كبير في تحقيق العدل في التعامل الدولي، وهو من مقاصد الإسلام الكبرى في التعامل بين الناس، وربما يرجع تغير سياسات التعامل(1/39)
بين بعض الدول الإسلامية وبين دول الغرب، إلى التقصير في رعاية قواعد الشريعة الإسلامية، والثبات عليها في مجال العلاقات الدولية.(1/40)
[من صور خدمة المملكة العربية السعودية للإسلام في الغرب]
[أولا إقامة المساجد والمراكز الإسلامية](1/41)
من المسلم به لدى المسلمين جميعا، أن الإسلام يشمل العقيدة الدينية التي يؤمن بها المسلمون، وهي توحيد الله تعالى في ربوبيته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بأنبيائه ورسله، وملائكته، والكتب المنزلة، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
وكذلك يشمل القيم الخلقية التي ترتقي بحياة الإنسان، والشريعة التي تتضمن عبادات الإسلام وشعائره، وأصول العلاقات الاجتماعية بين الناس.
فالإسلام، عقيدة دينية، ومنظومة خلقية، ونظام اجتماعي للبشر، لا غنى للمسلم في حياته عن أي جانب منها.
فالدين عند المسلمين، له معنى شامل، وليس مجرد(1/43)
عقيدة دينية تخص صاحبها وحده، بمعزل عن الحياة الاجتماعية المحيطة به، كما تذهب بعض تعريفات " الدين " لدى غير المسلمين.
ولا بد في كل علاقة اجتماعية بين المسلمين وبعضهم، أو بينهم وبين غيرهم، من استلهام الدين مصدرا لحكم هذه العلاقة، في نصوصه التي وردت بها الشريعة، أو في قيمه الخلقية ومبادئه الكلية، ولذلك فإن مناشط الحياة كلها لدى المسلمين، ترتبط ارتباطا وثيقا بالدين، ولا يمكن عزلها عنه، أو حصر الدين في جانب معين من حياة المسلم، حتى ولو كان جانب العبادة، على الرغم من قدسيته وأهميته.
إن العمل في جوانب الحياة الإنسانية المختلفة، ومجالاتها التي لا تنتهي بحسب الأزمنة والأمكنة، يحتاج فيه المسلم إلى الدين في تحديد الغايات والمقاصد النبيلة، وفي اختيار الوسائل والطرق المشروعة.(1/44)
هذا التصور لأهمية الدين وأثره في حياة المسلمين، يقود منهج المملكة في خدمة الإسلام والمسلمين في الغرب.
ولذلك تتعدد الطرق والصور والوسائل التي تتبعها المملكة لتحقيق هذه الغاية، وتشمل نواحي عديدة وهامة في حياة المسلمين في الغرب، حتى تتكامل لديهم عناصر الاحتفاظ بهويتهم الدينية والثقافية، ولا تتعرض للاضمحلال أو الزوال، أو الذوبان في المجتمع الذي يعيشون فيه.
وسوف أذكر فيما يلي نماذج وصورا من المساعدة والعون الذي تقدمه المملكة للمسلمين في الغرب، وكل هذه الصور والوسائل، تعد في ذات الوقت خدمة للإسلام، وهي من أهم مقاصد المملكة، سواء في العمل الداخلي أم الخارجي:(1/45)
أولا: إقامة المساجد والمراكز الإسلامية يعتبر المسجد حجر الزاوية في أي مجتمع إسلامي، فهو بيت الله، ومكان العبادة والذكر، وتلقي العلم الديني بصفة عامة.
والمسجد يعتبر العلامة الظاهرة لوجود تجمع إسلامي، إذ تقتضي شعائر الدين وجوده، لأداء الصلاة فيه من جماعة المسلمين، صلاة الجمعة والجماعة وصلاة العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) ، حيث تعتبر الصلاة عمود الدين، والفارقة بين الإيمان والكفر. وقد كان المسجد أول بناء أقامه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة حين هاجر إليها، فهو حجر الزاوية في كل مجتمع إسلامي، ولذلك كانت إقامة المساجد، من أهم الوسائل لخدمة الإسلام والمسلمين في الغرب. والمساجد تقام لعبادة الله وحده،(1/46)
يقول تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] (سورة الجن آية "18 ") .
وفي المساجد، يؤدي المسلمون فريضة الصلاة، وهي كما قال الرسول - صلوات الله عليه وسلامه -: «عمود الدين» وهي العلامة الفارقة بين الإيمان والكفر، كما ورد في الحديث الشريف.
ولذلك كان اهتمام المملكة، بأن تتوفر المساجد والمراكز الإسلامية، في مجتمعات المسلمين في الغرب، والمسارعة إلى إقامة هذه المساجد والمراكز، على نفقة المملكة، بمجرد قيام الحاجة إليها في أي بلد أو مدينة.
وتبذل المملكة في ذلك كل جهد، سواء أكان نفقة أم معونة فنية، أم جهدا لدى السلطات المختصة في البلد الذي يقام فيه المسجد.(1/47)
وتلقى المملكة في غالب الأحيان، تيسيرا في هذا الشأن، لأن حق الاعتقاد والتدين وأداء شعائر العبادة، حق مقرر على المستوى الدولي.
والمراكز الإسلامية بجانب المساجد، تقوم بجهد ثقافي وتعليمي واجتماعي، له فائدته الكبرى في تقوية هوية المسلمين في الغرب، إلى جانب تنمية قدراتهم على خدمة المجتمع الذي يعيشون فيه.
ومن أهم المراكز والمساجد التي أقامتها المملكة في أوروبا: مسجد المركز الإسلامي في جنيف بسويسرا، وهو مسجد كبير تتكامل فيه خدمات العبادة، والثقافة، والقراءة، وتكلف إنشاؤه ستة عشر مليون ريال سعودي.
وكذلك المسجد الجامع في بروكسل عاصمة بلجيكا، ويتسع لأربعة آلاف مصل، وملحق به أقسام(1/48)
ثقافية ومطبعة وناد للشباب، وتكلف إنشاؤه نحو عشرين مليون ريال.
ويعد المسجد الجامع في مدريد عاصمة أسبانيا، من المراكز الإسلامية في الغرب، ويتسع لنحو ألف مصل رجالا ونساء، وملحق به أقسام متعددة، ثقافية، وتعليمية، وطبية، ورياضية.
وهناك مسجد لندن في المملكة المتحدة، تكلف إنشاؤه مع المركز الإسلامي الملحق به، نحو ثلاثة وأربعين مليون ريال، وله وقف يخصص ريعه للإنفاق عليه.
وقد تم إنشاء المسجد الكبير في روما بإيطاليا، وأسهمت المملكة في تكاليفه بنحو اثنين وعشرين، مليون ريال، ويتسع لألفي مصل، وبه كافة الخدمات الثقافية والرياضية والدراسية.(1/49)
إن جهد المملكة في الغرب يبدو واضحا في إقامة المساجد الكبرى، وما يلحق بها، من خدمات ثقافية وشبابية وتعليمية.
فهناك مساجد كبرى، أقامتها المملكة كليا، أو أسهمت بالقدر الأكبر من تمويلها، كما هو الواقع في مدينة زغرب في يوغسلافيا السابقة، وفي مدينة لشبونة بالبرتغال، وفي مدينة فيينا بالنمسا، وأدنبره في شمال المملكة المتحدة.
أما في أمريكا الشمالية، فهناك مساجد كبرى في نيويورك، وواشنطن، وكاليفورنيا وكلورادو، وميسوري.
وذلك ضمن مراكز إسلامية كبرى مولتها المملكة، ودعمت أعمالها في معظم الولايات الأمريكية، ولا يتسع المقام لذكر ما يوجد من مساجد ومراكز إسلامية(1/50)
في شيكاغو، وفي ولاية ميريلاند، وأوهايو، ميتشجان، وفرجينيا، وغيرها.
كما امتد إنشاء المساجد والمراكز الإسلامية الكبرى إلى كندا، في تورنتو، وولاية كوبك، وأوتاوا.
وفي أمريكا الجنوبية في البرازيل انتهى العمل في المركز الإسلامي والمسجد سنة 1990 م.
وثمة أيضا مراكز إسلامية ومساجد كبرى للمسلمين في أمريكا الجنوبية، أنشأتها المملكة أو دعمت إنشاءها في المدن الهامة الكبرى، وتبلغ نحو انثي عشر مسجدا كبيرا ومركزا إسلاميا جامعا للمناشط الدينية والاجتماعية.
وامتد جهد المملكة، إلى قارة استراليا، والجزر المحيطة بها، فقد دعمت المملكة الاتحاد الاسترالي للمجالس الإسلامية بأكثر من عشرة(1/51)
ملايين ريال، وأقيمت المساجد والمراكز الإسلامية في مدن القارة، وولاياتها، والجزر المحيطة بها، مثل جزر فيجي.
[ثانيا إنشاء المعاهد لدراسة العلوم الإسلامية والعربية]
ودعم أقسام الدراسات الشرقية يحتاج المسلمون في الغرب، لا سيما الأجيال الناشئة إلى الارتباط بثقافتهم الأم، الإسلامية والعربية، ولذلك اهتمت المملكة بإنشاء المعاهد التي تقوم بتدريس العلوم الإسلامية واللغة العربية، وتقوم بالبحث في العلوم الإسلامية وحضارة المسلمين وثقافتهم.
ومن أمثلة تلك المعاهد، معهد تاريخ العلوم الإسلامية والعربية في فرانكفورت بألمانيا، وقد أسهمت المملكة في إنشائه بمبلغ خمسة عشر مليون(1/52)
ريال، وألمانيا لها علاقة تاريخية بالحضارة الإسلامية، وخاصة في القرون الوسطى.
كما أسهمت المملكة بنحو ثمانية عشر مليون ريال في إنشاء معهد العالم العربي في باريس.
كما اهتمت المملكة بأقسام الدراسات الإسلامية والشرقية، ومراكزها في الجامعات الغربية، فقد قدمت منحة كبيرة لجامعة هارفارد الأمريكية، لإنشاء قسم الدراسات والبحوث القانونية الإسلامية، وإنشاء كرسي خاص بالدراسات الإسلامية.
ودعمت المملكة ماليا جامعة هوبكنز الأمريكية بمساعدة سنوية منذ عام 1396 هـ لدعم مركز دراسات الشرق الأوسط، الذي يعنى بدراسة الشريعة الإسلامية واللغة العربية.
كما دعمت المملكة جامعة ديوك في ولاية كارولينا(1/53)
الشمالية، وجامعة شو بولاية شمال كارولينا، وجامعة كولورادو، وجامعة هاوارد بالعاصمة واشنطن، والجامعة الأمريكية بواشنطن، وجامعة دي بول بإيطاليا، ومعهد سيراكوزا الذي يهتم بدراسة حماية حقوق الإنسان في النظم الجنائية للدول الإسلامية.
وتتحمل المملكة العربية السعودية في أحيان كثيرة، نفقات تشغيل هذه المعاهد والمراكز والأقسام، ودعمها بالأساتذة، أو المراجع الإسلامية، أو الأجهزة والوسائل العلمية.
أما الأكاديميات الإسلامية والعربية التي أنشأها خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -، وتتحمل المملكة كل نفقاتها، فهي منتشرة في عواصم الدول الغربية ومن أبرزها الأكاديمية الإسلامية السعودية في أمريكا، وأكاديمية الملك فهد في لندن، وبون، وموسكو، وغيرها.(1/54)
وقد حلت مشكلة كبرى في تعليم أبناء المسلمين في الغرب، وهي مفتوحة للجميع.
وقد أنشأت المملكة على نفقتها معهدا مستقلا للعلوم الإسلامية والعربية في أمريكا تابعا لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
[ثالثا المنح الدراسية]
ثالثا: المنح الدراسية يحتاج المسلمون في الغرب إلى أساتذة منهم، لكي يتواصل ارتباط أجيالهم بثقافتهم الأصيلة، الإسلامية والعربية، ولذلك تيسر المملكة للعديد من الراغبين في دراسة العلوم الإسلامية واللغة العربية، سبل الدراسة في جامعات المملكة ومعاهدها عن طريق المنح راسية لأبناء المسلمين في الغرب.
[رابعا المعونة الثقافية]
رابعا: المعونة الثقافية وتتمثل هذه المعونة في العنصر البشري، الذي يقوم(1/55)
بالتدريس في المعاهد الإسلامية، كما تتمثل في المراجع والكتب الثقافية الإسلامية، ووسائل البحث وأجهزته، وتوفير الدعاة والمعلمين السعوديين المؤهلين تأهيلا عاليا، لإلقاء المحاضرات، أو حضور الندوات والمؤتمرات في البلاد الأوروبية وأمريكا.
كما ترسل المملكة، مئات الآلاف من المصاحف الشريفة، وترجمات معاني القرآن إلى المراكز الإسلامية في الغرب، وكذلك مئات الآلاف من الكتب في الدراسات الإسلامية باللغات الأوروبية، وذلك لنشر حقائق الإسلام الدينية ومعتقداته الأساسية، وآدابه الخلقية والاجتماعية.
وثمة هيئات عديدة تدعمها المملكة سنويا، للإسهام في هذه المهمة في العالم، وهي على قدر كبير من الأهلية لأداء رسالتها العالمية، وتتمتع بقدر كبير من الاحترام والتقدير، داخل المملكة وخارجها، تعينها(1/56)
المملكة بميزانيات سنوية لتمكينها من نشر الدعوة الإسلامية في الغرب، وربط المسلمين بهويتهم الدينية والثقافية.
من أهم المؤسسات الكبرى العاملة في هذا المجال منذ سنوات طويلة، رابطة العالم الإسلامي، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وغيرهما.(1/57)
[الجهود الخاصة والشعبية](1/59)
هذه الجهود العظيمة التي أشرت إليها في خدمة الإسلام والمسلمين في الغرب، بذكر نماذج منها، هي ما تقوم به حكومة المملكة العربية السعودية على المستوى الرسمي.
أما على المستوى الخاص، فإن جهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وسمو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، لا تخفى على أحد ففي كل دولة من دول الغرب لهم أياد عظيمة، وجهود كبيرة، وإسهامات واسعة، في بناء المساجد والمراكز الإسلامية، وفي عون المسلمين، وجمعياتهم وهيئاتهم.(1/61)
إن قادة هذه البلاد وأمراءها، سخروا بفضل من الله إمكاناتهم المادية والمعنوية لخدمة الإسلام والمسلمين، وجعلوا ذلك في مقدمة اهتماماتهم وأعمالهم، فجزاهم الله خير ما يجازي به عباده الصالحين.
أما على المستوى الشعبي، فإن المملكة العربية السعودية بتوجيه من قادتها، تحث شعبها دائما، على التعاون مع إخوانهم المسلمين، أينما كانوا، ومد يد العون لهم، وتفسح المجال للقدرات والإمكانات الفردية والجماعية، لخدمة الإسلام والمسلمين في أي مكان، فتلتقي الجهود الشعبية بالجهود الحكومية، وتتآزر في أداء الواجب. وهو مظهر من تلاحم الشعب السعودي بقيادته، واستجابته لنداءاتها وتوجهاتها، فالشعب وولاة الأمر، والمسؤولون في الدولة كيان واحد، وقى الله فيه المملكة وشعبها من آفات التشرذم(1/62)
والخلاف، والأحزاب والهيئات المتضاربة والمتعارضة، والتي نخرت في كثير من البلاد الإسلامية، حتى بددت جهودها، وجعلت بأسها فيما بينها.
السبب في ذلك، اعتصام المملكة قادة وشعبا بكتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقيام الجميع بما يوجبه عليهم دينهم. خدمة لهدف واحد وغاية واحدة، هي استقامة مجتمع المملكة على الإسلام وشريعته، والقيام بواجب الدعوة إلى الله، والتضامن والتآزر والتناصر مع المسلمين.
وإذا تحدثنا عن الجهود الفردية والشعبية في المملكة العربية السعودية، لخدمة الإسلام والمسلمين في الغرب، فإنها لا تخرج عن المجالات التي تخدمها، وتسهم فيها الجهود الرسمية، وعلى وجه الخصوص، بناء المساجد والمراكز الإسلامية، وطباعة الكتب والغوث عند المحن والكوارث.(1/63)
وما قضية البوسنة والهرسك، وهي جغرافيا من الغرب، منا ببعيدة. لقد هب الشعب السعودي. أمراء، وعلماء، وأثرياء، وعامة، لنجدة إخوانهم المسلمين في البوسنة والهرسك، وعونهم ضد الظلم الفاضح من الصرب، في حين تقاعس العالم عن الوقوف بجانبهم، ودفع الظلم عنهم.
وكان لموقف المملكة - حكومة وشعبا - وخاصة من خلال الهيئة العليا لجمع التبرعات للبوسنة والهرسك، برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الأثر الفعال والكبير، في صمود شعب البوسنة والهرسك، والحفاظ على هويته الدينية.
والموقف نفسه، مع المسلمين في دول أوروبا الشرقية، حيث انهزمت فيها الشيوعية، والأنظمة الحامية لها.(1/64)
وهو كذلك، مع الجاليات والأقليات المسلمة في بلاد الغرب كلها.
وأشير إلى تجربة عشتها شخصيا، في مناسبات عدة، كنت ألتقي فيها بأبناء المملكة العربية السعودية، الذين يدرسون في أوربا وأمريكا، حيث وجدت في مقدمة اهتمام كثير منهم، إقامة المساجد والمراكز الإسلامية، والدعوة إلى الله، وتوزيع المصاحف والكتب الإسلامية، والاشتراك في الندوات واللقاءات التي تتم للمسلمين في تلك الديار.
ولا أبالغ إذا قلت: إن معظم المراكز والمساجد والمشروعات الإسلامية التي أقيمت، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وبريطانيا، وألمانيا، كانت بجهود سفارات خادم الحرمين الشريفين فيها ومنسوبيها، وللطلاب السعوديين الأثر الكبير والفعال في ذلك، من خلال مبادراتهم، وما(1/65)
يجمعونه من تبرعات منهم شخصيا، ومن ذويهم ومن أهل الخير في المملكة.
فكم رأيت مجموعات الطلاب السعوديين، وهم يقومون بذلك، دونما كلل أو ملل، حتى أصبحوا مضرب مثل للمسلمين الآخرين. ولا أقلل بهذا الكلام، من الجهود المباركة التي تحصل من أبناء الدول الإسلامية الأخرى، ولكني أتحدث عن واقع ملموس، من أبنائنا الطلاب هناك.
وشريحة أخرى لا ينسى جهدها في هذا المجال، وهم رجال الأعمال في المملكة، وما يقدمونه من جهد مباشر، أو غير مباشر في هذا الميدان.
إن المسؤولين عن المراكز الإسلامية، والجمعيات في بلاد الغرب، وإن الطلاب السعوديين، على صلة مستمرة بالأثرياء، وأهل الخير والإحسان في المملكة(1/66)
العربية السعودية - البلد المعطاء - يعرضون عليهم مشروعاتهم وبرامجهم، فيقدمون لهم الدعم والمؤازرة، بل إن بعضا من رجال الأعمال والأثرياء في المملكة، يقوم بنفسه بالإشراف على المشروعات التي ينشئها، أو يدعمها، في مجال خدمة الإسلام والمسلمين في الغرب.
وعند الحديث عن الجهود الشعبية، يقفز إلى الذهن ما تقوم به الهيئات الخيرية في المملكة من أعمال إسلامية في الغرب، مثل هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية وغيرها.
إذ أن ما تجمعه هذه الهيئات والمؤسسات من أموال ومساعدات نقدية أو عينية، للمسلمين ومشروعاتهم وبرامجهم في الغرب، تجمعه من الشعب العربي السعودي، وهي مشكورة، تتولى التعريف، والإنفاق، والمتابعة.(1/67)
[جهود المملكة في خدمة الإسلام والتواصل مع الغرب]
جهود المملكة في خدمة الإسلام
والتواصل مع الغرب(1/69)
وبعد أن ذكرنا بعض أوجه المساعدات، التي تقدمها المملكة العربية السعودية - حكومة وشعبا - في خدمة الإسلام والمسلمين في الغرب. لا بد أن نشير إلى أثر تلك المساعدات في تنمية التواصل الحضاري بين الأمة الإسلامية، وبين غيرها من دول العالم الغربي بالذات.
إن التواصل بين المسلمين في شتى أنحاء الأرض، يبدوا واجبا دينيا في المقام الأول، وهو يعني تحقيق رابطة الأخوة الإيمانية، ووحدة الأمة الإسلامية، وكلاهما راسخ في الفكر الإسلامي، ويعد من أساسيات العلاقات بين المسلمين في أقطار الأرض.
يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] (سورة الحجرات آية "10 ") .(1/71)
ويقول تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] (سورة المؤمنون آية " 52 ") فأخوة المسلمين، ووحدة الأمة الإسلامية، على اختلاف البلاد، والقارات، والأعراق، والألوان، من قواعد الشريعة الإسلامية، التي تلزم المسلم والدولة الإسلامية مراعاتها في علاقاتها مع المسلمين في العالم.
ويحتاج التواصل بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم إلى تجلية وتوضيح، لا سيما في ظل ما بدا في السنوات الأخيرة، في الغرب بالذات، من سوء الظن والتخوف مما سمي بالأصولية الإسلامية.
والواقع أن صور المساعدات التي ذكرناها في تجربة المملكة العربية السعودية، تنفي كل سبب يدعو لسوء الظن أو التخوف، وتضع العالم الغربي وغيره أمام منهج معتدل معلن، لا غموض فيه، ولا التواء، قائم على شريعة الإسلام العادلة، في تعاملها مع المسلمين(1/72)
وغير المسلمين، يرعى العهود والمواثيق ويحرم الاعتداء والظلم.
فالمسلم الذي يعيش في الغرب، سواء أكان من مواطني الدولة التي تعيش فيها، أو من المقيمين فيها إقامة مشروعة، يلتزم نحو هذه الدولة بعدة التزامات، بحكم الشرع الإسلامي.
وأحكام الشريعة الإسلامية، هي الأصل في التزام المسلم بها، وهي أكبر ضمان للوفاء بهذه الحقوق.
إن انتماء المسلم إلى دولة غير إسلامية، بحكم جنسه أو جنسيته، لا يحول بينه وبين الأخوة في الإسلام، فالأخوة قائمة بين المسلمين على اختلاف الأعراق والجنسيات، وهذا الانتماء الوطني يختلف عن الدين، الذي يعد جوهر حياة المسلم فكريا ونفسيا وسلوكيا.(1/73)
ولا يلزم المسلم الذي يعيش في الغرب، أن يعزل نفسه عن المجتمع الذي يعيش فيه، مادام لا يجبره هذا المجتمع واقعيا، أو بحكم القانون على الإتيان بما يخالف عقيدته، ولا يحول بينه وبين إظهار دينه والعمل به.
والقرآن الكريم لا يمنع المسلم من إقامة علاقاته مع غيره في المجتمع، على أساس العدل. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] (سورة النحل آية " 90 ") .
وعدم الاعتداء والظلم: {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] (سورة البقرة آية " 190 ") .
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140] (سورة آل عمران آية "140 ") .
وفي آيات عديدة من القران الكريم، النهي عن العدوان والظلم، وأن الله لا يحب الظالمين والمعتدين، وهي قاعدة عامة في شريعة الإسلام.(1/74)
ولذلك، فإن تجربة المملكة العربية السعودية في خدمة المسلمين في الغرب، تضع هذه القواعد الأصلية ضمن منهجها، وفي صور المساعدات التي تقدمها للإخوة المسلمين في الغرب.
فالأخوة الإسلامية التي تعمل المملكة على الوفاء بها، ليست عداء موجها إلى أحد، وقد يكون فيها نفع لغير المسلمين في إطار التعارف والتعامل بين البشر.
والمسلم الذي يعيش في الغرب، يؤمن بحكم عقيدته بالأنبياء، والرسالات السابقة، والتي كان الإسلام خاتمها، ومصدقا لها، ونزلت شريعته مهيمنة على الشرائع السابقة عليها، ولا يجوز له ازدراء اليهودية والنصرانية باعتبارهما شريعتين إلهيتين، وإنما يبين بحسب قدرته العلمية، ومقدرته على الإقناع، ما حدث من تحريف أتباعهما لهما، ومخالفتهم لما جاء(1/75)
فيهما قبل التحريف والتبديل، وهو ما يتناوله الباحثون الغربيون حتى من غير المسلمين بلا حرج.
إن المسلمين، يؤمنون بأن الدين في أصله واحد، أرسل الله به رسله وأنبياءه إلى الناس، وأن ختام النبوات والرسالات الإلهية، كان برسالة الإسلام ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] (سورة الأحزاب آية " 40 ") .
وما يقوم به الدعاة المسلمون في الغرب، هدفه الوحيد، هو بيان الحق أمام غير المسلمين، ودعوتهم إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا ولد ولا والد، وفق ما جاء في رسالة الإسلام الخاتمة. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] (سورة الإخلاص كاملة) .(1/76)
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (سورة آل عمران آية " 64 ") .
إن هذا الخطاب الذي ورد تعليما للمسلمين في دعوتهم لأهل الكتاب، هو الحقيقة الكبرى التي يدعو إليها المسلمون في كل مكان، بالطريقة التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يدعوا بها. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (سورة النحل " 125 ") .
وبهذا، لا يكون هناك مجال لسوء الظن بالمسلمين، ولا التخوف منهم في بلاد الغرب.
وبالوسائل المتعددة، والصور المتنوعة ثقافيا ودينيا، والتي تتبعها المملكة في خدمة الإسلام والمسلمين في(1/77)
الغرب، والتي أشرنا إليها من قبل، وهي في نطاق قواعد الإسلام وأصوله في العلاقة بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، تنفتح أبواب التواصل الإنساني بما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، بعيدا عن نوازع التعصب القومي أو اللوني بين البشر، وبعيدا عن كل صورة من صور العنف.
والتجربة التاريخية في انتشار الإسلام خارج بلاده، تؤكد امتداده في العصر الحديث بالذات، في ظل علاقات السلام والعدل والتعارف بين البشر.
وأخيرا: هذه هي تجربة المملكة العربية السعودية، في خدمة الإسلام والمسلمين في الغرب، تجربة ثرة، وعطاء مستمر، وجهود رسمية وشعبية، يصعب حصر مفرداتها، أو الحديث عن تفاصيلها، وعن الشخصيات المهمة فيها.(1/78)
نسأل الله أن يتقبل من الجميع أعمالهم، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، واقعة موقعها الذي ينبغي أن يكون، لسد حاجة المسلمين، والمحافظة على دينهم، ورفع مستواهم الاجتماعي.
كما نسأله أن يجزي قادة هذه البلاد وولاة الأمر فيها خيرا، ويثيبهم على تطبيق شرعه، والاحتكام إلى دينه، والجهاد في سبيله، وأن يوفق جميع المسلمين حكاما ومحكومين إلى العمل بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأن يجمع كلمتهم على الحق، ويبعدهم عن الفرقة والخلاف. وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، فإنه ولي ذلك، والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف
والدعوة والإرشاد(1/79)